البحر المحيط في أصول الفقه

الزركشي، بدر الدين

المقدمة

[المقدمة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ أَفْضَلُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَبُرْهَانُ الْمُحَقِّقِينَ، كَهْفُ الْأَئِمَّةِ وَالْفُضَلَاءِ، زُبْدَةُ نَحَارِيرِ الْعُلَمَاءِ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَعُمْدَةُ فُضَلَاءِ الزَّمَانِ، بَدْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَقِيرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَبْدُ اللَّهِ الزَّرْكَشِيُّ الشَّافِعِيُّ، سَقَى اللَّهُ ثَرَاهُ، وَفِي دَارِ الْخُلْدِ مَأْوَاهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَسَّسَ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ بِأُصُولِ أَسَاسِهِ، وَمَلَّكَ مَنْ شَاءَ قِيَادَ قِيَاسِهِ، وَوَهَبَ مَنْ اخْتَصَّهُ بِالسَّبْقِ إلَيْهِ عَلَى أَفْرَادِ أَفْرَاسِهِ، وَأَوْلَى عِنَانَ الْعِنَايَةِ مَنْ وَفَّقَهُ لِاقْتِبَاسِهِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً يَتَقَوَّمُ مِنْهَا الْحَدُّ بِفُصُولِهِ وَأَجْنَاسِهِ. وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي رَقَى إلَى السَّبْعِ الطِّبَاقِ بِبَدِيعِ جِنَاسِهِ، وَآنَسَ مِنْ الْعُلَا نُورًا هَدَى الْأُمَّةَ بِإِينَاسِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مَا قَامَتْ النُّصُوصُ بِنَفَائِسِ أَنْفَاسِهِ، وَاسْتُخْرِجَتْ الْمَعَانِي مِنْ مِشْكَاةِ نِبْرَاسِهِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَوْلَى مَا صُرِفَتْ الْهِمَمُ إلَى تَمْهِيدِهِ، وَأَحْرَى مَا عُنِيَتْ بِتَسْدِيدِ قَوَاعِدِهِ وَتَشْيِيدِهِ، الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ قِوَامُ الدِّينِ، وَالْمَرْقَى إلَى دَرَجَاتِ الْمُتَّقِينَ. وَكَانَ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ جَوَادَهُ الَّذِي لَا يُلْحَقُ، وَحَبْلَهُ الْمَتِينَ الَّذِي هُوَ أَقْوَى وَأَوْثَقُ، فَإِنَّهُ قَاعِدَةُ الشَّرْعِ، وَأَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ كُلُّ فَرْعٍ. وَقَدْ أَشَارَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَامِعِ كَلِمِهِ إلَيْهِ، وَنَبَّهَ أَرْبَابُ اللِّسَانِ عَلَيْهِ، فَصَدَرَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْهُ جُمْلَةٌ سَنِيَّةٌ، وَرُمُوزٌ خَفِيَّةٌ، حَتَّى جَاءَ الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاهْتَدَى بِمَنَارِهِ، وَمَشَى إلَى ضَوْءِ نَارِهِ، فَشَمَّرَ عَنْ سَاعِدِ الِاجْتِهَادِ، وَجَاهَدَ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْغَرَضِ السَّنِيِّ حَقَّ الْجِهَادِ، وَأَظْهَرَ دَفَائِنَهُ وَكُنُوزَهُ وَأَوْضَحَ إشَارَاتِهِ وَرُمُوزَهُ،

وَأَبْرَزَ مُخَبَّآتِهِ وَكَانَتْ مَسْتُورَةً، وَأَبْرَزَهَا فِي أَكْمَلِ مَعْنًى وَأَجْمَلِ صُورَةً، حَتَّى نَوَّرَ بِعِلْمِ الْأُصُولِ دُجَى الْآفَاقِ، وَأَعَادَ سُوقَهُ بَعْدَ الْكَسَادِ إلَى نَفَاقٍ. وَجَاءَ مَنْ بَعْدَهُ، فَبَيَّنُوا وَأَوْضَحُوا وَبَسَطُوا وَشَرَحُوا، حَتَّى جَاءَ الْقَاضِيَانِ: قَاضِي السُّنَّةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَقَاضِي الْمُعْتَزِلَةِ عَبْدُ الْجَبَّارِ، فَوَسَّعَا الْعِبَارَاتِ، وَفَكَّا الْإِشَارَاتِ، وَبَيَّنَا الْإِجْمَالَ، وَرَفَعَا الْإِشْكَالَ. وَاقْتَفَى النَّاسُ بِآثَارِهِمْ، وَسَارُوا عَلَى لَاحِبِ نَارِهِمْ، فَحَرَّرُوا وَقَرَّرُوا، وَصَوَّرُوا، فَجَزَاهُمْ اللَّهُ خَيْرَ الْجَزَاءِ، وَمَنَحَهُمْ بِكُلِّ مَسَرَّةٍ وَهَنَاءٍ. ثُمَّ جَاءَتْ أُخْرَى مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَحَجَرُوا مَا كَانَ وَاسِعًا، وَأَبْعَدُوا مَا كَانَ شَاسِعًا، وَاقْتَصَرُوا عَلَى بَعْضِ رُءُوسِ الْمَسَائِلِ، وَكَثَّرُوا مِنْ الشُّبَهِ وَالدَّلَائِلِ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى نَقْلِ مَذَاهِبِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ الْفِرَقِ، وَتَرَكُوا أَقْوَالَ

مَنْ لِهَذَا الْفَنِّ أَصَّلَ، وَإِلَى حَقِيقَتِهِ وَصَّلَ، فَكَادَ يَعُودُ أَمْرُهُ إلَى الْأَوَّلِ، وَتَذْهَبُ عَنْهُ بَهْجَةُ الْمُعَوَّلِ، فَيَقُولُونَ: خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ، أَوْ وِفَاقًا لِلْجُبَّائِيِّ، وَتَكُونُ لِلشَّافِعِيِّ مَنْصُوصَةً، وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالِاعْتِنَاءِ مَخْصُوصَةً، وَفَاتَهُمْ مِنْ كَلَامِ السَّابِقِينَ عِبَارَاتٌ رَائِقَةٌ، وَتَقْرِيرَاتٌ فَائِقَةٌ، وَنُقُولٌ غَرِيبَةٌ، وَمَبَاحِثُ عَجِيبَةٌ. [مَنْهَجُ الْمُؤَلِّفِ وَمَصَادِرُهُ] وَقَدْ اجْتَمَعَ عِنْدِي بِحَمْدِ اللَّهِ مِنْ مُصَنَّفَاتِ الْأَقْدَمِينَ فِي هَذَا الْفَنِّ مَا يَرْبُو عَلَى الْمِئِينَ، وَمَا بَرِحَتْ لِي هِمَّةٌ تَهُمُّ فِي جَمْعِ أَشْتَاتِ كَلِمَاتِهِمْ وَتَجُولُ، وَمِنْ دُونِهَا عَوَائِقُ الْحَالِ تَحُولُ، إلَى أَنْ مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِنَيْلِ الْمُرَادِ، وَأَمَدَّ بِلُطْفِهِ بِكَثِيرٍ مِنْ الْمَوَادِّ، فَمَخَضْتُ زُبْدَ كُتُبِ الْقُدَمَاءِ، وَوَرَدْتُ شَرَائِعَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَجَمَعْت مَا انْتَهَى إلَيَّ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَنَسَجْت عَلَى مِنْوَالِهِمْ، وَفَتَحْت مِنْهُ مَا كَانَ مُقْفَلًا، وَفَصَّلْت مَا كَانَ مُجْمَلًا، بِعِبَارَةٍ تُسْتَعْذَبُ، وَإِشَارَةٌ لَا تُسْتَصْعَبُ. وَزِدْت فِي هَذَا الْفَنِّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا يُنِيفُ عَلَى الْأُلُوفِ، وَوَلَّدْت مِنْ الْغَرَائِبِ غَيْرَ الْمَأْلُوفِ، وَرَدَدْت كُلَّ فَرْعٍ إلَى أَصْلِهِ وَشَكْلٍ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَكْلِهِ، وَأَتَيْت فِيهِ بِمَا لَمْ أُسْبَقْ إلَيْهِ، وَجَمَعْت شَوَارِدَهُ الْمُتَفَرِّقَاتِ عَلَيْهِ بِمَا يُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ، وَإِنَّ اللَّهَ يَهَبُ لِعِبَادِهِ مَا يَشَاءُ أَنْ يَهَبَ، وَأَنْظِمُ فِيهِ

بِحَمْدِ اللَّهِ مَا لَمْ يَنْتَظِمْ قَبْلَهُ فِي سِلْكٍ، وَلَا حَصَلَ لِمَالِكٍ فِي مِلْكٍ، وَكَانَ مِنْ الْمُهِمِّ تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَخِلَافِ أَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُخَالِفِينَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ. وَلَقَدْ رَأَيْت فِي كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْخَلَلَ فِي ذَلِكَ، وَالزَّلَلَ فِي كَثِيرٍ مِنْ التَّقْرِيرَاتِ وَالْمَسَالِكِ، فَأَتَيْت الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَشَافَهْت كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنْ كُتَّابِهَا، وَرُبَّمَا أَسُوقُهَا بِعِبَارَاتِهِمْ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى فَوَائِدَ، وَتَنْبِيهًا عَلَى خَلَلٍ نَاقِلٍ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَآخِذِ وَالْمَقَاصِدِ. فَمِنْ كُتُبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الرِّسَالَةُ "، واخْتِلَافُ الْحَدِيثِ " وَأَحْكَامُ الْقُرْآنِ "، وَمَوَاضِعُ مُتَفَرِّقَةٌ مِنْ الْأُمِّ "، وَشَرْحِ الرِّسَالَةِ " لِلصَّيْرَفِيِّ وَلِلْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَلِلْجُوَيْنِيِّ وَلِأَبِي الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيِّ وَكِتَابُ الْقِيَاسِ " لِلْمُزَنِيِّ.

وَكِتَابُ " الرَّدِّ عَلَى دَاوُد فِي إنْكَارِهِ الْقِيَاسَ " لِابْنِ سُرَيْجٍ، وَكِتَابُ " الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ " لَهُ أَيْضًا، وَكِتَابُ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ " لِلصَّيْرَفِيِّ، وَكِتَابُ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاضِي فِي " رِيَاضِ

الْمُتَعَلِّمِينَ " وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سُرَاقَةَ الْعَامِرِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ كَجٍّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ، وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَسُلَيْمٍ الرَّازِيَّ

فِي التَّقْرِيبِ فِي الْأُصُولِ " وَالتَّحْصِيلِ " لِلْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ، وَشَرْحُ الْكِفَايَةِ وَالْجَدَلِ " لِلْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَاللُّمَعُ وَشَرْحُهَا " لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالتَّبْصِرَةُ " وَالْمُلَخَّصُ "، وَالْمَعُونَةُ "، وَالْحُدُودُ " وَغَيْرُهَا مِنْ كُتُبِهِ، وَكِتَابُ الشَّيْخِ أَبِي نَصْرِ بْنِ الْقُشَيْرِيّ، وَكِتَابُ أَبِي الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَالْأَوْسَطُ "

لِابْنِ بَرْهَانٍ، وَالْوَجِيزُ " لَهُ، وَالْقَوَاطِعُ " لِأَبِي الْمُظَفَّرِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ وَهُوَ أَجَلُّ كِتَابٍ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ نَقَلَاتٍ وَحِجَاجًا، وَكِتَابُ التَّقْرِيبِ وَالْإِرْشَادِ " لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ أَجَلُّ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي هَذَا الْعِلْمِ مُطْلَقًا، وَالتَّلْخِيصُ " مِنْ هَذَا الْكِتَابِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَمْلَاهُ بِمَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ، وَالْبُرْهَانُ " لِلْإِمَامِ وَشُرُوحُهُ، وَقَدْ اعْتَنَى بِهِ الْمَالِكِيُّونَ. الْمَازِرِيُّ، وَالْإِبْيَارِيُّ، وَابْنُ الْعَلَّافِ، وَابْنُ الْمُنِيرِ، وَنَكَتَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمُقْتَرِحُ

جَدُّ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ لِأُمِّهِ، وَمُخْتَصَرُ النُّكَتِ " لِابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ الإسكندراني، " وَمُخْتَصَرُهُ لِابْنِ الْمُنِيرِ، وَالْمُسْتَصْفَى " لِلْغَزَالِيِّ، وَقَدْ اعْتَنَى بِهِ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، فَشَرَحَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْدَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمُسْتَوْفَى "، وَنَكَتَ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِّ الْإِشْبِيلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاخْتَصَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ

وَابْنُ شَاسٍ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ "، وَابْنُ رَشِيقٍ، وَالْمَحْصُولُ وَمُخْتَصَرَاتُهُ وَشُرُوحِهِ لِلْأَصْفَهَانِيِّ وَالْقَرَافِيِّ، وَالْأَحْكَامُ " لِلْآمِدِيِّ، وَمُخْتَصَرُ " ابْنِ الْحَاجِبِ، وَالنِّهَايَةُ " لِلصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ

، وَالْفَائِقُ " وَالرِّسَالَةُ السَّيْفِيَّةُ " لَهُ، وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْعُنْوَانِ "، وَشَرْحُ الْعُمْدَةِ " وَشَرْحُ الْإِلْمَامِ " وَبِهِ خَتَمَ التَّحْقِيقَ فِي هَذَا الْفَنِّ، وَفِي مَوْضِعٍ مِنْ شَرْحِ الْإِلْمَامِ " يَقُولُ: أُصُولُ الْفِقْهِ هُوَ الَّذِي يَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ. وَمِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ، وَاللُّبَابُ " لِأَبِي الْحَسَنِ الْبُسْتِيِّ الْجُرْجَانِيِّ، وَكِتَابُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ، وَتَقْوِيمُ الْأَدِلَّةِ " لِأَبِي زَيْدٍ، وَالْمِيزَانُ " لِلسَّمَرْقَنْدِيِّ وَالْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ " لِأَبِي الْفَضْلِ الْخُوَارِزْمِيَّ، وَكِتَابُ " الْعَالَمِيِّ " وَالْبَدِيعُ " لِابْنِ السَّاعَاتِي

وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَمِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ الْجَامِعُ " لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُجَاهِدِ بْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْمَالِكِيِّ الْبَصْرِيِّ، وَنَقَلْت عَنْهُ بِالْوَاسِطَةِ وَالْمُلَخَّصُ " لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَالْإِفَادَةُ " وَالْأَجْوِبَةُ الْفَاخِرَةُ " لَهُ، وَالْفُصُولُ " لِأَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ، وَالْمَحْصُولُ " لِابْنِ الْعَرَبِيِّ،

وَكِتَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيِّ شَارِحِ مُسْلِمٍ، وَالْقَوَاعِدُ " لِلْقَرَافِيِّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ التَّمْهِيدُ لِأَبِي الْخَطَّابِ، وَالْوَاضِحُ " لِابْنِ عَقِيلٍ، وَالرَّوْضَةُ " لِلْمَقْدِسِيِّ وَمُخْتَصَرُهَا لِلطُّوفِيِّ وَغَيْرُهُمْ. وَمِنْ كُتُبِ الظَّاهِرِيَّةِ كِتَابُ أُصُولِ الْفَتْوَى " لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الدَّاوُدِيِّ وَهُوَ عُمْدَةُ الظَّاهِرِيَّةِ فِيمَا صَحَّ عَنْ دَاوُد، وَكِتَابُ الْإِحْكَامِ " لِابْنِ حَزْمٍ.

وَمِنْ كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْعُمْدَةُ " لِأَبِي الْحُسَيْنِ وَالْمُعْتَمَدُ " لَهُ، وَالْوَاضِحُ " لِأَبِي يُوسُفَ عَبْدِ السَّلَامِ، وَالنُّكَتُ " لِابْنِ الْعَارِضِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. وَمِنْ كُتُبِ الشِّيعَةِ الذَّرِيعَةُ " لِلشَّرِيفِ الرَّضِيِّ، وَالْمَصَادِرُ " لِمَحْمُودِ بْنِ عَلِيٍّ الْحِمْصِيِّ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعِهِ. وَسَمَّيْته الْبَحْرَ الْمُحِيطِ " وَاَللَّهَ أَسْأَلَ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ مُقَرَّبًا لِلْفَوْزِ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ، بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ.

فصل أول من صنف في الأصول

[فَصْلٌ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الْأُصُولِ] الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ صَنَّفَ فِيهِ كِتَابَ الرِّسَالَةِ "، وَكِتَابَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "، وَاخْتِلَافِ الْحَدِيثِ "، وَإِبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ " وَكِتَابَ جِمَاعِ الْعِلْمِ " وَكِتَابَ " الْقِيَاسِ " الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ تَضْلِيلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَرُجُوعَهُ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ تَبِعَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي الْأُصُولِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ حَتَّى وَرَدَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": لَمْ يَسْبِقْ الشَّافِعِيَّ أَحَدٌ فِي تَصَانِيفِ الْأُصُولِ وَمَعْرِفَتِهَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَخْصِيصُ عُمُومٍ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يُقَلْ فِي الْأُصُولِ شَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ قَدَمٌ. فَإِنَّا رَأَيْنَا كُتُبَ السَّلَفِ مِنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ صَنَّفُوا فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُ، وَكَانَ مُتَقَدِّمًا فِي الْعِلْمِ،

وَكَانَ يَأْخُذُ بِرِكَابِهِ فَيَتْبَعُهُ، وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ. اهـ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ يَتْبَعُ الشَّافِعِيَّ فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ وَرُبَّمَا يُخَالِفُهُ فِي الْأُصُولِ، كَقَوْلِهِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَكَقَوْلِهِ: " لَا صِيغَةَ لِلْعُمُومِ ". قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ. وَنُقِلَ مُخَالَفَتُهُ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ وَنُصُوصَهُ وَرُبَّمَا يَنْسُبُ الْمُبْتَدَعُونَ إلَيْهِ مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ كَمَا نَسَبُوا إلَيْهِ أَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ، وَلَا فِي الْقُبُورِ نَبِيٌّ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ وَنَفْيُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ فِي الْأَزَلِ، وَتَكْفِيرُ الْعَوَامّ، وَإِيجَابُ عِلْمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تَصَفَّحْت مَا تَصَحَّفْت مِنْ كُتُبِهِ، وَتَأَمَّلْت نُصُوصَهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَوَجَدْتهَا كُلَّهَا خِلَافَ مَا نُسِبَ إلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِ شَرْحِ كِتَابِ الْمَقَالَاتِ " لِلْأَشْعَرِيِّ فِي مَسْأَلَةِ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ: اعْلَمْ أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ يَذْهَبُ فِي الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَنَصُّ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي بَابِ إيجَابِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ: خِلَافُ قَوْلِ

فصل في بيان شرف علم الأصول

أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ: خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَفِي إثْبَاتِ آيَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي كُلِّ سُورَةٍ آيَةً مِنْهَا قُرْآنًا مُنَزَّلًا فِيهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمُوَافَقَةِ أُصُولَهُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ شَرَفِ عِلْمِ الْأُصُولِ] ِ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلُومَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الْأَوَّلُ: عَقْلِيٌّ مَحْضٌ، كَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ. وَالثَّانِي: لُغَوِيٌّ، كَعِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْعَرُوضِ. وَالثَّالِثُ: الشَّرْعِيُّ وَهُوَ عِلْمُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَشْرَفُ

الْأَصْنَافِ، ثُمَّ أَشْرَفُ الْعُلُومِ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالتَّقْلِيدِ وَنَقْلُ الْفُرُوعِ الْمُجَرَّدَةِ يَسْتَفْرِغُ جَمَامَ الذِّهْنِ وَلَا يَنْشَرِحُ بِهَا الصَّدْرُ، لِعَدَمِ أَخْذِهِ بِالدَّلِيلِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ مَنْ يَأْتِي بِالْعِبَادَةِ تَقْلِيدًا لِإِمَامِهِ بِمَعْقُولِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَأْتِي بِهَا وَقَدْ ثَلَجَ صَدْرُهُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ، وَالنَّاسُ فِي حَضِيضٍ عَنْ ذَلِكَ، إلَّا مَنْ تَغَلْغَلَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ، وَكَرَعَ مِنْ مَنَاهِلِهِ الصَّافِيَةِ، وَأَدْرَعَ مَلَابِسَهُ الضَّافِيَةَ، وَسَبَحَ فِي بَحْرِهِ، وَرَبِحَ مِنْ مَكْنُونِ دُرِّهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِ الْمَدَارِكِ " وَهُوَ مِنْ أَنْفَسِ كُتُبِهِ: وَالْوَجْهُ لِكُلِّ مُتَصَدٍّ لِلْإِقْلَالِ بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِحَاطَةَ بِالْأُصُولِ شَوْقَهُ الْآكَدَ، وَيَنُصَّ مَسَائِلَ الْفِقْهِ عَلَيْهَا نَصَّ مَنْ يُحَاوِلُ بِإِيرَادِهَا تَهْذِيبَ الْأُصُولِ، وَلَا يَنْزِفُ جَمَامَ الذِّهْنِ فِي وَضْعِ الْوَقَائِعِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ مَعَ الذُّهُولِ عَنْ الْأُصُولِ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى ": خَيْرُ الْعِلْمِ مَا ازْدَوَجَ فِيهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَاصْطَحَبَ فِيهِ الرَّأْيُ وَالشَّرْعُ عِلْمُ الْفِقْهِ، وَأُصُولُ الْفِقْهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ صَفْوِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ سَوَاءَ السَّبِيلِ، فَلَا هُوَ تَصَرَّفَ بِمَحْضِ الْعُقُولِ بِحَيْثُ لَا يَتَلَقَّاهُ الشَّرْعُ بِالْقَبُولِ، وَلَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقْلِيدِ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ الْعَقْلُ بِالتَّأْيِيدِ وَالتَّسْدِيدِ، وَلِأَجْلِ شَرَفِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَرِفْعَتِهِ وَفَّرَ اللَّهُ دَوَاعِيَ الْخَلْقِ عَلَى طُلْبَتِهِ، وَكَانَ الْعُلَمَاءُ بِهِ أَرْفَعَ مَكَانًا، وَأَجَلَّهُمْ شَأْنًا، وَأَكْثَرَهُمْ أَتْبَاعًا وَأَعْوَانًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْأُصُولُ ": اعْلَمْ أَنَّ النَّصَّ عَلَى حُكْمِ كُلِّ حَادِثَةٍ عَيْنًا مَعْدُومٌ، وَأَنَّ لِلْأَحْكَامِ أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَأَنَّ الْفُرُوعَ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِأُصُولِهَا، وَأَنَّ النَّتَائِجَ لَا تُعْرَفُ حَقَائِقُهَا إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِمُقَدِّمَاتِهَا، فَحُقَّ أَنْ يُبْدَأَ بِالْإِبَانَةِ عَنْ الْأُصُولِ لِتَكُونَ سَبَبًا إلَى مَعْرِفَةِ الْفُرُوعِ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي نِسْبَةِ الْأُصُولِ إلَى الْفِقْهِ، فَقِيلَ: عِلْمُ الْأُصُولِ بِمُجَرَّدِهِ كَالْمَيْلَقِ الَّذِي يُخْتَبَرُ بِهِ جَيِّدُ الذَّهَبِ مِنْ رَدِيئِهِ، وَالْفِقْهُ كَالذَّهَبِ، فَالْفَقِيهُ الَّذِي لَا أُصُولَ عِنْدَهُ كَكَاسِبِ مَالٍ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ، وَلَا مَا يَدَّخِرُ مِنْهُ مِمَّا لَا يَدَّخِرُ، وَالْأُصُولِيُّ الَّذِي لَا فِقْهَ عِنْدَهُ كَصَاحِبِ الْمَيْلَقِ الَّذِي لَا ذَهَبَ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ مَا يَخْتَبِرُهُ عَلَى مَيْلَقِهِ. وَقِيلَ: الْأُصُولِيُّ كَالطَّبِيبِ الَّذِي لَا عَقَارَ عِنْدَهُ، وَالْفَقِيهُ كَالْعَطَّارِ الَّذِي عِنْدَهُ كُلُّ عَقَارٍ، وَلَكِنْ لَا يَعْرِفُ مَا يَضُرُّ وَلَا مَا يَنْفَعُ. وَقِيلَ: الْأُصُولِيُّ كَصَانِعِ السِّلَاحِ، وَهُوَ جَبَانٌ لَا يُحْسِنُ الْقِتَالَ بِهِ، وَالْفَقِيهُ كَصَاحِبِ سِلَاحٍ وَلَكِنْ لَا يُحْسِنُ إصْلَاحَهَا إذَا فَسَدَتْ، وَلَا جِمَاعَهَا إذَا صَدَعَتْ.

فَإِنْ قِيلَ: هَلْ أُصُولُ الْفِقْهِ إلَّا نُبَذٌ جُمِعَتْ مِنْ عُلُومٍ مُتَفَرِّقَةٍ؟ نُبْذَةٌ مِنْ النَّحْوِ كَالْكَلَامِ عَلَى مَعَانِي الْحُرُوفِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْفَقِيهُ إلَيْهَا، وَالْكَلَامِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَعَوْدِ الضَّمِيرِ لِلْبَعْضِ، وَعَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَنَحْوِهِ، وَنُبْذَةٌ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ كَالْكَلَامِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَكَوْنِ الْحُكْمِ قَدِيمًا، وَالْكَلَامِ عَلَى إثْبَاتِ النَّسْخِ، وَعَلَى الْأَفْعَالِ وَنَحْوِهِ، وَنُبْذَةٌ مِنْ اللُّغَةِ، كَالْكَلَامِ فِي مَوْضُوعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَصِيَغِ الْعُمُومِ، وَالْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ، وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَنُبْذَةٌ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ، فَالْعَارِفُ بِهَذِهِ الْعُلُومِ لَا يَحْتَاجُ إلَى أُصُولِ الْفِقْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَغَيْرُ الْعَارِفِ بِهَا لَا يُغْنِيهِ أُصُولُ الْفِقْهِ فِي الْإِحَاطَةِ بِهَا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا الْكَلَامُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ، وَالتَّعَارُضِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَبَعْضِ الْكَلَامِ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَيْضًا، وَبَعْضِ الْكَلَامِ فِي الْقِيَاسِ وَالتَّعَارُضِ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْفَقِيهُ، فَفَائِدَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِالذَّاتِ حِينَئِذٍ قَلِيلَةٌ. فَالْجَوَابُ مَنْعُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأُصُولِيِّينَ دَقَّقُوا النَّظَرَ فِي فَهْمِ أَشْيَاءَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ تَصِلْ إلَيْهَا النُّحَاةُ وَلَا اللُّغَوِيُّونَ، فَإِنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ مُتَّسِعٌ، وَالنَّظَرُ فِيهِ مُتَشَعِّبٌ، فَكُتُبُ اللُّغَةِ تَضْبِطُ الْأَلْفَاظَ وَمَعَانِيَهَا الظَّاهِرَةَ دُونَ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى نَظَرِ الْأُصُولِيِّ بِاسْتِقْرَاءٍ زَائِدٍ عَلَى اسْتِقْرَاءِ اللُّغَوِيِّ. مِثَالُهُ: دَلَالَةُ صِيغَةِ " افْعَلْ " عَلَى الْوُجُوبِ، وَ " لَا تَفْعَلْ " عَلَى التَّحْرِيمِ، وَكَوْنُ " كُلٍّ " وَأَخَوَاتِهَا لِلْعُمُومِ، وَنَحْوُهُ مِمَّا نَصَّ هَذَا السُّؤَالُ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ اللُّغَةِ لَوْ فَتَّشْت لَمْ تَجِدْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ غَالِبًا وَكَذَلِكَ فِي كُتُبِ النُّحَاةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَنَّ الْإِخْرَاجَ قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الدَّقَائِقِ الَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا الْأُصُولِيُّونَ وَأَخَذُوهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ بِاسْتِقْرَاءٍ خَاصٍّ، وَأَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ لَا تَقْتَضِيهَا صِنَاعَةُ النَّحْوِ، وَسَيَمُرُّ بِك مِنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْعَجَبُ الْعُجَابُ.

المقدمات

[الْمُقَدِّمَاتُ] تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ] أُصُولُ الْفِقْهِ: مُرَكَّبٌ تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مُفْرَدَاتِهِ مِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبُ لَا مِنْ حَيْثُ كُلُّ وَجْهٍ. [تَعْرِيفُ الْأَصْلِ] فَالْأُصُولُ: جَمْعُ أَصْلٍ، وَأَصْلُ الشَّيْءِ، مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، أَيْ: مَادَّتُهُ، كَالْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَالشَّجَرَةِ لِلْغُصْنِ. وَرَدَّهُ الْقَرَافِيُّ بِاشْتِرَاكِ " مِنْ " بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالتَّبْعِيضِ، وَبِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ هُنَا مَعْنًى مِنْ مَعَانِيهَا. وَأَجَابَ الْأَصْفَهَانِيُّ عَنْ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ لَازِمٌ لَكِنْ يُصَارُ إلَيْهِ فِي الْحُدُودِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ بِغَيْرِهِ، وَعَنْ الثَّانِي: بِأَنَّ " مِنْ " لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: مَا اسْتَنَدَ الشَّيْءُ فِي تَحْقِيقِهِ إلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: مَا يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: إنَّ الْوَلَدَ يُبْنَى عَلَى الْوَالِدِ، بَلْ يُقَالُ: فَرْعُهُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ احْتِيَاجُ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ لَزِمَ إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ أُرِيدَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ لَزِمَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ. وَقَدْ الْتَزَمَهُ فِي الْمَبَاحِثِ الْمَشْرِقِيَّةِ " فَقَالَ: لَا تَبْعُدُ تَسْمِيَةُ الشُّرُوطِ وَانْدِفَاعُ الْمَوَانِعِ أُصُولًا بِاعْتِبَارِ تَوَقُّفِ وُجُودِ الشَّيْءِ عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ": كُلُّ مَا أَثْمَرَ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ وَنَبَّهَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَصْلٌ لَهُ، فَعُلُومُ الْحِسِّ أَصْلٌ، لِأَنَّهَا تُثْمِرُ مَعْرِفَةَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا عَدَاهُ فَرْعٌ لَهُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: الْأَصْلُ: مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَالْفَرْعُ: مَا تَفَرَّعَ عَنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا أَسَدُّ الْحُدُودِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقَالُ فِي الْكِتَابِ: إنَّهُ فَرْعٌ أَصْلُهُ الْحِسُّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّاهُ وَجَعَلَهُ أَصْلًا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَصْلٌ، لِأَنَّ غَيْرَهُمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُمَا، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ فُرُوقًا تَنْشَأُ عَنْهُ، وَيَتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ جِهَتِهِ، كَالْكِتَابِ أَصْلٌ لِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ، وَكَالسُّنَّةِ أَصْلٌ لِمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَتِهَا، وَهُوَ فَرْعٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنَّمَا عُرِفَ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْكِتَابُ أَوْ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. قَالَ: وَقِيلَ: إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُقَالُ لَهُ: أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ، لِأَنَّهُ فِعْلُ الْقَائِسِ، وَلَا تُوصَفُ الْأَفْعَالُ بِالْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: الْأَصْلُ مَا عُرِفَ بِهِ حُكْمُ غَيْرِهِ، وَالْفَرْعُ مَا عُرِفَ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي ": قِيلَ: الْأَصْلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْفَرْعُ مَا دَلَّ عَلَى غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْكِتَابِ: إنَّهُ فَرْعٌ لِعِلْمِ الْحِسِّ، لِأَنَّهُ الدَّالُّ عَلَى صِحَّتِهِ. هَذَا الِاعْتِرَاضُ يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعِبَارَاتِ السَّالِفَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فَلْيُتَأَمَّلْ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": قِيلَ: الْأَصْلُ مَا انْبَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: مَا يَقَعُ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ مَا وَرَاءَهُ وَهُمَا مَدْخُولَانِ، لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ مَا هُوَ عَقِيمٌ لَا يَقْبَلُ الْفَرْعَ، وَلَا يَقَعُ بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى مَا وَرَاءَهُ بِحَالٍ، كَدِيَةِ الْجَنِينِ وَالْقَسَامَةِ، وَتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ، فَهَذِهِ أُصُولٌ لَيْسَتْ لَهَا فُرُوعٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ كُلُّ مَا ثَبَتَ دَلِيلًا فِي إيجَابِ حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لِيَتَنَاوَلَ مَا جَلَبَ فَرْعًا أَوْ لَمْ يَجْلِبْ. وَيُطْلَقُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: الصُّورَةُ الْمَقِيسُ عَلَيْهَا عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقِيَاسِ فِي تَفْسِيرِ الْأَصْلِ. الثَّانِي: الرُّجْحَانُ، كَقَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، أَيْ: الرَّاجِحُ عِنْدَ السَّامِعِ هُوَ الْحَقِيقَةُ لَا الْمَجَازُ. الثَّالِثُ: الدَّلِيلُ، كَقَوْلِهِمْ: أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْ: دَلِيلُهَا، وَمِنْهُ أُصُولُ الْفِقْهِ أَيْ: أَدِلَّتُهُ. الرَّابِعُ: الْقَاعِدَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ، كَقَوْلِهِمْ: إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ ذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الصُّورَةَ الْمَقِيسَ عَلَيْهَا

لَيْسَتْ مَعْنًى زَائِدًا، لِأَنَّ أَصْلَ الْقِيَاسِ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مَحَلُّ الْحُكْمِ أَوْ دَلِيلُهُ أَوْ حُكْمُهُ؟ وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَيْسَ مَعْنًى زَائِدًا، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَصْلُ الْقِيَاسِ دَلِيلَهُ فَهُوَ الْمَعْنَى السَّابِقُ، وَإِنْ كَانَ مَحَلَّهُ أَوْ حُكْمَهُ فَهُمَا يُسَمَّيَانِ أَيْضًا دَلِيلًا مَجَازًا، فَلَمْ يَخْرُجْ الْأَصْلُ عَنْ مَعْنَى الدَّلِيلِ. وَبَقِيَ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: التَّعَبُّدُ، كَقَوْلِهِمْ: إيجَابُ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ الْقِيَاسُ. الثَّانِي: الْغَالِبُ فِي الشَّرْعِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ الشَّرْعِ. الثَّالِثُ: اسْتِمْرَارُ الْحُكْمِ السَّابِقِ، كَقَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يُوجَدَ الْمُزِيلُ لَهُ. الرَّابِعُ: الْمَخْرَجُ، كَقَوْلِ الْفَرْضِيِّينَ: أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ كَذَا. [عَدَدُ الْأُصُولِ الَّتِي يُبْنَى الْفِقْهُ عَلَيْهَا] ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأُصُولِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ: وَقَدْ يُقْتَصَرُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ،

وَيُقَالُ: الْإِجْمَاعُ يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَالْقِيَاسُ الرَّدُّ إلَى أَحَدِهِمَا فَهُمَا أَصْلَانِ. قَالَ فِي الْمَطْلَبِ ": وَفِيهِ مُنَازَعَةٌ لِمَنْ جَوَّزَ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ لَا عَنْ أَمَارَةٍ، وَلَا عَنْ دَلَالَةٍ، وَجُوِّزَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَاخْتَصَرَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: أَصْلٌ وَمَعْقُولُ أَصْلٍ، فَالْأَصْلُ لِلْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَمَعْقُولُ الْأَصْلِ هُوَ الْقِيَاسُ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ جِمَاعَ الْأُصُولِ نَصٌّ وَمَعْنًى، فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ دَاخِلٌ تَحْتَ النَّصِّ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْقِيَاسُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْعَقْلَ فَجَعَلَهَا خَمْسَةً. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ: الْأُصُولُ سَبْعَةٌ: الْحِسُّ، وَالْعَقْلُ، وَالْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَاللُّغَةُ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ. وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ شَيْئًا أَوْ يَمْنَعُهُ، وَإِنَّمَا تُدْرَكُ بِهِ الْأُمُورُ فَحَسْبُ، إذْ هُوَ آلَةُ الْعَارِفِ، وَكَذَلِكَ الْحِسُّ لَا يَكُونُ دَلِيلًا بِحَالٍ، لِأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ دَرْكُ الْأَشْيَاءِ الْحَاضِرَةِ. وَأَمَّا اللُّغَةُ: فَهِيَ مُدْرَكَةُ اللِّسَانِ، وَمَطِيَّةٌ لِمَعَانِي الْكَلَامِ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ مَعْرِفَةُ سِمَاتِ الْأَشْيَاءِ وَلَا حَظَّ لَهُ فِي إيجَابِ شَيْءٍ. وَقَالَ الْجِيلِيُّ فِي الْإِعْجَازِ ": أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ،

وَالْقِيَاسُ، وَدَلِيلُ الْبَقَاءِ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَرَدَّهَا الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ إلَى وَاحِدٍ فَقَالَ: أَصْلُ السَّمْعِ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ فَمُضَافٌ إلَى بَيَانِ الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وَقَوْلُهُ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَقَالَ: مَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ؟ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَالَ: إنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ فَقَدْ وَجَدْتِيهِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» . فَأَضَافَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ قَوْلَ الرَّسُولِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا إضَافَةُ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَصًّا. قُلْت: وَوَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُحْرِمِ لِلزُّنْبُورِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمَأْخُوذَ مِنْ السُّنَّةِ، أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقِيَاسِ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِهِ سُبْحَانَهُ، لِدَلَالَةِ كِتَابِهِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ ذَلِكَ كُلِّهِ.

[تَعْرِيفُ الْفِقْهِ] وَالْفِقْهُ لُغَةً: اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ ": هُوَ الْعِلْمُ، وَجَرَى عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ "، وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ إلَّا أَنَّ حَمَلَةَ الشَّرْعِ خَصَّصُوهُ بِضَرْبٍ مِنْ الْعُلُومِ. وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ ابْنِ فَارِسٍ: أَنَّهُ إدْرَاكُ عِلْمِ الشَّيْءِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ الْفَهْمُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ التَّوَسُّلُ إلَى عِلْمٍ غَائِبٍ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْعِلْمِ. وَفِي الْمُحْكَمِ " لِابْنِ سِيدَهْ: الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ وَالْفَهْمُ لَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ

الْفَهْمُ، لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْفَهْمَ بِمَعْرِفَةِ الشَّيْءِ بِالْقَلْبِ، وَمَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِالْقَلْبِ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْأَزْهَرِيِّ: فَهِمْت الشَّيْءَ عَقَلْته وَعَرَفْته، وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ: فَهِمْت الشَّيْءَ فَهْمًا عَلِمْته. وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْفَهْمَ الْمُفَسَّرَ بِهِ الْفِقْهُ لَيْسَ فَهْمَ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ، وَلَا فَهْمَ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ. وَنُقِلَ الْفِقْهُ إلَى عِلْمِ الْفُرُوعِ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ سِيدَهْ حَيْثُ قَالَ: غَلَبَ عَلَى عِلْمِ الدِّينِ لِسِيَادَتِهِ وَشَرَفِهِ كَالنَّجْمِ عَلَى الثُّرَيَّا، وَالْعُودِ عَلَى الْمِنْدَلِ. قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: وَقِيلَ: حَدُّهُ فِي اللُّغَةِ الْعِبَارَةُ عَنْ كُلِّ مَعْلُومٍ تَيَقَّنَهُ الْعَالَمُ بِهِ عَنْ فِكْرٍ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ "، وَتَبِعَهُ فِي الْمَحْصُولِ ": فَهْمُ غَرَضُ الْمُتَكَلِّمِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُوصَفُ بِالْفَهْمِ حَيْثُ لَا كَلَامَ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ الْفِقْهِ عَنْهُمْ مَنْقَصَةٌ وَلَا تَعْيِيرٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ بِمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَصَاحِبُ اللُّبَابِ ". مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: فَهْمُ الْأَشْيَاءِ الدَّقِيقَةِ، فَلَا يُقَالُ: فَقِهْت أَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَنَا. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا أَوْلَى، وَلِهَذَا خَصَّصُوا اسْمَ الْفِقْهِ بِالْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، فَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فِي مَظِنَّةِ الْخَفَاءِ، فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: فَهِمْت أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُسَمَّ الْعَالِمُ بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَقِيهًا، فَإِنْ احْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91] وَقَوْلُهُ: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] . قُلْنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَهْمَ مِنْ الْخِطَابِ يُسَمَّى فِقْهًا، لَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى فِقْهًا إلَّا مَا مَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْفَهْمِ مِنْ الْخِطَابِ، بَلْ عَدَمُ الْفَهْمِ مُطْلَقًا مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَطُرُقُ الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْفَهْمِ: الْإِدْرَاكُ، لَا جُودَةُ الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ تَهْيِئَتِهِ لِاقْتِنَاصِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَطَالِبِ خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ. [الذِّهْنُ] وَالذِّهْنُ: عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِاكْتِسَابِهَا الْحُدُودَ الْوُسْطَى وَالْآرَاءَ. وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: الْفَهْمُ عِبَارَةٌ عَنْ إتْقَانِ الشَّيْءِ، وَالثِّقَةِ بِهِ

عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ بِهِ عَنْ نَظَرٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: نَظَرْت فَفَهِمْت، وَلَا يُقَالُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: فَهِمَ. يُقَالُ: فَقِهَ - بِالْكَسْرِ - فَهُوَ فَاقِهٌ إذَا فَهِمَ، وَفَقَهَ - بِالْفَتْحِ - فَهُوَ فَاقِهٌ أَيْضًا إذَا سَبَقَ غَيْرَهُ إلَى الْفَهْمِ، وَفَقُهَ - بِالضَّمِّ - فَهُوَ فَقِيهٌ إذَا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً، وَاسْتُعْمِلَ لِاسْمِ فَاعِلِهِ فَقِيهٌ، لِأَنَّ " فَعِيلًا " قِيَاسٌ فِي اسْمِ فَاعِلِ " فَعُلَ "، وَوَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ اُخْتِيرَ لَهُ " فَعِيلٌ "، لِأَنَّ " فَعِيلًا " لِلْمُبَالَغَةِ، فَاسْتِعْمَالُهَا فِيمَنْ صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً أَوْلَى. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ. أَعْنِي دَعْوَى أَنَّ " فَعِيلًا " هَاهُنَا لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُسْتَعْمَلَةَ لِلْمُبَالَغَةِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى صِيغَةٍ، فَحُوِّلَتْ عَنْهَا إلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ مَا حُوِّلَ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ " فَاعِلٍ "، [إلَى] " مِفْعَالٍ " أَوْ " فَعِيلٍ " أَوْ " فَعُولٍ "، أَوْ " فُعُلٍ "، وَأَمَّا فَقِيهٌ فَهُوَ قِيَاسٌ، لِأَنَّ " فَعِيلًا "، مَقِيسٌ فِي " فَعُلَ "، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا هُوَ قِيَاسُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلٍ، نَحْوُ " عَلِيمٌ " وَ " شَفِيعٌ "، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُحَوِّلُهُمَا عَنْ شَافِعٍ وَعَالِمٍ، لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، وَلَا مُخَلِّصَ عَنْ هَذَا إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّهُ خُولِفَ تَقْدِيرًا بِمَعْنَى أَنَّ الْوَاضِعَ، حَوَّلَهُ عَنْ " فَاعِلٍ " لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ. فَإِنْ قُلْت: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْفَقِيهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَجِيَّةٌ، وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَهَاءِ: إنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ حَصَّلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ قَلَّ، وَقَضِيَّةُ هَذَا حُصُولُهُ بِمُسَمَّى مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ. قُلْت: لَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَأَذْكُرُهُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْغَزَالِيِّ، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ مَنْ حَصَّلَ حَتَّى صَارَ لَهُ سَجِيَّةً وَإِنْ قُلْت.

الْفِقْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ] وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: فَالْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُكْتَسَبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ. فَالْعِلْمُ جِنْسٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ الصِّنَاعَةُ، كَمَا تَقُولُ: عِلْمُ النَّحْوِ أَيْ: صِنَاعَتُهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الظَّنُّ وَالْيَقِينُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَرِدُ سُؤَالُ الْفِقْهِ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ، وَمَنْ أَوْرَدَهُ فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِاخْتِصَاصِ الْعِلْمِ بِالْقَطْعِيِّ. وَخَرَجَ بِالْأَحْكَامِ: الْعِلْمُ بِالذَّوَاتِ، وَالصِّفَاتِ، وَالْأَفْعَالِ. وَبِالشَّرْعِيَّةِ: الْعَقْلِيَّةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى الشَّرْعِ. وَبِالْعَمَلِيَّةِ: عَنْ الْعِلْمِيَّةِ، كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً. قَالَهُ الْإِمَامُ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: خَرَجَ بِهِ أُصُولُ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلِيٍّ، أَيْ: لَيْسَ عِلْمًا بِكَيْفِيَّةِ عَمَلٍ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهَا الْعَمَلُ، فَكَيْفَ يَخْرُجُ بِالْعَمَلِيَّةِ؟ وَقَالَ الْبَاجِيُّ: هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ أُصُولِ الدِّينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أُصُولَ الدِّينِ مِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ وَحْدَهُ كَوُجُودِ الْبَارِي، وَمِنْهُ

مَا ثَبَتَ بِكُلٍّ مِنْ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ كَالْوَحْدَانِيَّةِ، وَهَذَانِ خَارِجَانِ بِقَوْلِهِ: الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالسَّمْعِ كَمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ، وَهَذَا مِنْ الْفِقْهِ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِهِ، وَعَدَلَ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ لَفْظِ " الْعَمَلِيَّةِ " إلَى الْفَرْعِيَّةِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَلَيْسَتْ عَمَلًا، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهَا عَمَلٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ " الْعَمَلِيَّةِ " أَشْمَلُ لِدُخُولِ وُجُوبِ اعْتِقَادِ مَسَائِلِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالسَّمْعِ، فَإِنَّهَا مِنْ الْفِقْهِ كَمَا سَبَقَ بِخِلَافِ الْفَرْعِيَّةِ. وَبِالْمُكْتَسَبِ: عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ بِلَا اكْتِسَابٍ. وَبِالْأَخِيرِ: عَنْ اعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ، فَإِنَّهُ مُكْتَسَبٌ مِنْ دَلِيلٍ إجْمَالِيٍّ: قَالَهُ الْإِمَامُ. وَقِيلَ: عِلْمُ الْمُقَلِّدِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحَدِّ بَلْ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: فَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ: الْفِقْهُ افْتِتَاحُ عِلْمِ الْحَوَادِثِ عَلَى الْإِنْسَانِ. أَوْ افْتِتَاحُ شُعَبِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى الْإِنْسَانِ حَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَنْهُ فِي تَعْلِيقِهِ ".

وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: حَدُّهُ فِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِقَادِ عِلْمِ الْفُرُوعِ فِي الشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَقِيهٌ. قَالَ: وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ عِنْدِي: الِاسْتِنْبَاطُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . وَاخْتِيَارُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " أَنَّهُ اسْتِنْبَاطُ حُكْمِ الْمُشْكِلِ مِنْ الْوَاضِحِ. قَالَ: وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ» أَيْ: غَيْرُ مُسْتَنْبِطٍ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَحْمِلُ الرِّوَايَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْتِدْلَالٌ وَاسْتِنْبَاطٌ فِيهَا. وَقَالَ فِي دِيبَاجَةِ كِتَابِهِ: وَمَا أُشَبِّهُ الْفَقِيهَ إلَّا بِغَوَّاصٍ فِي بَحْرِ دُرٍّ كُلَّمَا غَاصَ فِي بَحْرِ فِطْنَتِهِ اسْتَخْرَجَ دُرًّا، وَغَيْرُهُ مُسْتَخْرِجٌ آجُرًّا. وَمِنْ الْمَحَاسِنِ قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْفِقْهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا. قِيلَ: وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ " فِي بَيَانِ تَبْدِيلِ أَسَامِي الْعُلُومِ: إنَّ النَّاسَ تَصَرَّفُوا فِي اسْمِ الْفِقْهِ، فَخَصُّوهُ بِعِلْمِ الْفَتَاوَى وَالْوُقُوفِ عَلَى وَقَائِعِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ اسْمٌ لِمَعْرِفَةِ دَقَائِقِ آفَاتِ النُّفُوسِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْآخِرَةِ وَحَقَارَةِ الدُّنْيَا. قَالَ تَعَالَى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا} [التوبة: 122]

وَالْإِنْذَارُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعِلْمِ دُونَ تَفَارِيعِ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. لَا يَفْقَهُ الْعَبْدُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ يُقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا. وَسَأَلَ فَرْقَدُ السِّنْجِيَّ الْحَسَنَ عَنْ شَيْءٍ: فَقَالَ: إنَّ الْفُقَهَاءَ يُخَالِفُونَك، فَقَالَ الْحَسَنُ: ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ رَأَيْت فَقِيهًا بِعَيْنِك؟ إنَّمَا الْفَقِيهُ هُوَ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا. الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ. الْبَصِيرُ بِذَنْبِهِ. الْمُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ. الْوَرِعُ الْكَافُّ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَلِيمِيُّ فِي " الْمِنْهَاجِ ": إنَّ تَخْصِيصَ اسْمِ الْفِقْهِ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ حَادِثٌ. قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ اسْمَ الْفِقْهِ يَعُمُّ جَمِيعَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي مِنْ

جُمْلَتِهَا مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَوَحْدَانِيِّتِهِ، وَتَقْدِيسِهِ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ أَنْبِيَائِهِ، وَرُسُلِهِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَمِنْهَا عِلْمُ الْأَحْوَالِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالْآدَابِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. قُلْت: وَلِهَذَا صَنَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ كِتَابًا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَسَمَّاهُ " الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ ". تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِنْ تَعْرِيفِهِمْ الْفِقْهَ بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ: أَنَّ الْمَسَائِلَ الْمُدَوَّنَةَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ لَيْسَتْ بِفِقْهٍ اصْطِلَاحًا، وَأَنَّ حَافِظَهَا لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَبِهِ صَرَّحَ الْعَبْدَرِيُّ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ مِنْ شَرْحِ " الْمُسْتَصْفَى ". قَالَ: وَإِنَّمَا هِيَ نَتَائِجُ الْفِقْهِ، وَالْعَارِفُ بِهَا فُرُوعِيٌّ، وَإِنَّمَا الْفَقِيهُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي يُنْتِجُ تِلْكَ الْفُرُوعَ عَنْ أَدِلَّةٍ صَحِيحَةٍ، فَيَتَلَقَّاهَا مِنْهُ الْفُرُوعِيُّ تَقْلِيدًا وَيُدَوِّنُهَا وَيَحْفَظُهَا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: هُمْ نَقَلَةُ فِقْهٍ لَا فُقَهَاءُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ ": الْفَقِيهُ مَنْ لَهُ الْفِقْهُ، فَكُلُّ مَنْ لَهُ الْفِقْهُ فَقِيهٌ، وَمَنْ لَا فِقْهَ لَهُ فَلَيْسَ بِفَقِيهٍ. قَالَ: وَالْفَقِيهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْفَقِيهُ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَسْمَعْهَا كَكَلَامِهِ فِي مَسْأَلَةٍ سَمِعَهَا: فَلَيْسَ بِفَقِيهٍ: حَكَاه عَنْهُ ابْنُ الْهَمْدَانِيُّ فِي طَبَقَاتِ الْحَنَفِيَّةِ ".

وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: الْفَقِيهُ مَنْ حَصَلَ لَهُ الْفِقْهُ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ ": صِفَةَ الْمُفْتِي وَهُوَ الْفَقِيهُ فَذَكَرَ سَبْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً تَأْتِي فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أُصُولُ الْفِقْهِ لُغَةً: مَا اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْفِقْهُ، وَلَمْ يَتِمَّ إلَّا بِهِ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَجْمُوعُ طُرُقِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ، وَحَالَةُ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا. فَقَوْلُنَا: " مَجْمُوعُ " لِيَعُمَّهَا، فَإِذَنْ بَعْضُهَا بَعْضُ أُصُولِ الْفِقْهِ لَا كُلُّهَا. وَقَوْلُنَا: " طُرُقِ " لِيَعُمَّ الدَّلِيلَ وَالْأَمَارَةَ عَلَى اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ. وَخَرَجَ بِالْإِجْمَالِ: أَدِلَّةُ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ، فَلَا يُقَالُ لَهَا فِي عُرْفِ الْأُصُولِيِّينَ: أُصُولُ فِقْهٍ، وَإِنْ كَانَ التَّحْقِيقُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، إذْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ وَأَقَلُّ تَخْصِيصًا، وَلِأَنَّهُ يُوَافِقُ قَوْلَنَا: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ لِهَذَا الْحُكْمِ، وَلِهَذَا الْبَابِ، وَحِينَئِذٍ فَاِتِّخَاذُ الْأَدِلَّةِ فِي آحَادِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَيَكُونُ الْإِجْمَالُ شَرْطًا فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، لَا أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهَا، أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الدَّلَائِلِ، وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا، وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ وَالتَّتِمَّةِ، لَكِنْ لَمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِدْخَالِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَضْعًا أُدْخِلَ فِيهِ حَدًّا.

قُلْت: وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ "، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ "، وَقَالَ: أُصُولُ الْفِقْهِ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ. اهـ. بَلْ قَدْ يُقَالُ: الدَّلِيلُ هُوَ الْأَصْلُ بِالذَّاتِ، وَالْبَاقِي بِالتَّبَعِ لِضَرُورَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلِيلِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ ". وَالْمُرَادُ بِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ هَاهُنَا الشُّرُوطُ وَالْمُقَدِّمَاتُ وَتَرْتِيبُهَا مَعَهُ، لِيُسْتَدَلَّ بِالطُّرُقِ عَلَى الْفِقْهِ. هَذَا مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ، وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي تَنْدَرِجُ فِيهَا الْجُزْئِيَّاتُ، كَقَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ فِي كُلِّ حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ. وَقَوْلِهِمْ: يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَنْدَرِجُ فِيهَا الْفُرُوعُ الْمُنْتَشِرَةُ، وَعَلَيْهِ سَمَّى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ كِتَابَهُ " الْقَوَاعِدَ "، وَيُقَالُ: إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ اخْتَرَعَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ. وَيُوجَدُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ مُتَفَرِّقَاتٌ مِنْهَا. هَلْ الْأُصُولُ هَذِهِ الْحَقَائِقُ أَنْفُسُهَا أَوْ الْعِلْمُ بِهَا؟ طَرِيقَانِ. وَكَلَامُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَدِلَّةِ، وَعَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا، وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " وَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ بِأَنَّهُ نَفْسُ الْأَدِلَّةِ. وَوَجْهُ الْخِلَافِ أَنَّهُ كَمَا يَتَوَقَّفُ الْفِقْهُ عَلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ يَتَوَقَّفُ أَيْضًا عَلَى الْعِلْمِ بِهَا، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ إطْلَاقُ أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ أَنْفُسِهَا، وَعَلَى الْعِلْمِ بِهَا. وَالثَّانِي أَوْلَى لِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ الشَّخْصُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَجْعَلُونَ أُصُولَ الْفِقْهِ لِلْمَعْلُومِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا كِتَابُ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأُصُولَ فِي اللُّغَةِ الْأَدِلَّةُ فَجَعَلَهُ اصْطِلَاحًا نَفْسَ الْأَدِلَّةِ أَقْرَبُ إلَى الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْعِلْمِ كَمَا سَبَقَ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَوَارَدُوا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّقَبِيَّ، وَهُوَ كَوْنُهُ عِلْمًا عَلَى هَذَا الْفَنِّ حَدَّهُ بِالْعِلْمِ، وَمَنْ أَرَادَ الْإِضَافِيَّ حَدَّهُ بِنَفْسِ الْأَدِلَّةِ، وَلِهَذَا لَمَّا جَمَعَ ابْنُ الْحَاجِبِ بَيْنَهُمَا عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ بِالْعِلْمِ، وَالْإِضَافِيَّ بِالْأَدِلَّةِ. نَعَمْ: الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ بِالْأَدِلَّةِ، يَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى إرَادَةِ الْعِلْمِ بِهَا. ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْأَدِلَّةِ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَالِاسْتِدْلَالُ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: هِيَ ثَلَاثَةٌ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَمَنَعَا أَنْ تَكُونَ الْقَوَانِينُ الْكُلِّيَّةُ الظَّنِّيَّةُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ ": الَّذِي ارْتَضَاهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ مَا لَا يَنْبَغِي فِيهِ الْعِلْمُ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْمَقَايِيسِ لَا يُعَدُّ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَخْبَارُ الْآحَادِ وَالْمَقَايِيسُ لَا تُفْضِي إلَى الْعُلُومِ، وَهِيَ مِنْ

أَدِلَّةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُصُولِ تَثْبِيتُهَا أَدِلَّةً عَلَى وُجُوبِ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ الْمُتَلَقَّى مِنْهَا فَيَتَعَلَّقُ بِالْفِقْهِ دُونَ أُصُولِهِ. وَقَالَ فِي الْبُرْهَانِ ": فَإِنْ قِيلَ: مُعْظَمُ الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ ظُنُونٌ. قُلْنَا: لَيْسَتْ الظُّنُونُ فِقْهًا، وَإِنَّمَا الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ قِيَامِ الظُّنُونِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: أَخْبَارُ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةُ لَا تُوجِبُ الْعَمَلَ لِذَوَاتِهَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ الْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ رِوَايَةِ الْآحَادِ وَقِيَامِ الْأَقْيِسَةِ. قَالَ: وَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُوجَدَا إلَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَكِنْ حَظُّ الْأُصُولِيِّ إبَانَةُ الْقَاطِعِ فِي الْعَمَلِ بِهَا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا لِيُبْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ، وَيَرْتَبِطَ الدَّلِيلُ بِهِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَقَالَ: أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الدَّلِيلِ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسِ، وَهُوَ خِلَافٌ هَيِّنٌ. . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الْغَرَضُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ مَعْرِفَةُ أَدِلَّةِ أَحْكَامِ الْفِقْهِ، وَمَعْرِفَةُ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ، لِأَنَّ مَنْ اسْتَقْرَأَ أَبْوَابَهُ وَجَدَهَا إمَّا دَلِيلًا عَلَى حُكْمٍ أَوْ طَرِيقًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ كَمَعْرِفَةِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ، وَالْعِلَلِ، وَالرُّجْحَانِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعْرِفَةٌ مُحِيطَةٌ بِالْأَدِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ. وَمَعْرِفَةُ الْأَخْبَارِ وَطُرُقِهَا مَعْرِفَةٌ بِالطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الدَّلَائِلِ الْمَنْصُوصَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ. وَهَاهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ. كَأُصُولِ الْفِقْهِ،

وَالْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَالطِّبِّ. هَلْ هِيَ مَنْقُولَةٌ أَوْ لَا؟ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ، كَالْعَقَبَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الْعُرْفِيَّةِ. قَالَ: وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَرْجَحُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْغَلَبَةِ يَتَقَيَّدُ بِمَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَوْ الْإِضَافَةُ، وَأَسْمَاءُ هَذِهِ الْعُلُومِ تُطْلَقُ عُرْفًا مَعَ التَّنْكِيرِ وَالْقَطْعِ عَنْ الْإِضَافَةِ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَعْرِفُ فِقْهًا وَنَحْوًا. قُلْت: وَبِالْأَوَّلِ صَرَّحَ ابْنُ سِيدَهْ وَغَيْرُهُ كَمَا سَبَقَ، وَبِالثَّانِي صَرَّحَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَالطُّرْطُوشِيُّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِهِ، وَقَالَ: فَيَكُونُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْحَلِيمِيِّ، وَالْغَزَالِيِّ، وَمَا رَجَّحَ بِهِ الثَّانِي فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ مَعَ التَّنْكِيرِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْعِلْمِيَّةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ يُنْكِرُ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا. الثَّانِي: إذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَنْقُولَةٌ فَهِيَ أَسْمَاءُ أَجْنَاسٍ أَوْ أَعْلَامُ أَجْنَاسٍ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، لِقَبُولِهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ، وَالْعِلْمُ لَا يَقْبَلُهُ، وَلِاشْتِهَارِهَا فِي الْعُرْفِ، كَاشْتِهَارِ لَفْظِ الدَّابَّةِ لِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَلَمٍ هَذَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَعْرِفَةٍ. أَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ بِالْإِضَافَةِ. وَنُقِلَ إلَى هَذَا الْعَلَمِ الْخَاصُّ أَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَلَمُ جِنْسٍ، لِأَنَّهُ الْمُمَيِّزُ لِهَذَا الْجِنْسِ بِخُصُوصِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَجْنَاسِ. الثَّالِثُ: أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ يُطْلَقُ مُضَافًا وَمُضَافًا إلَيْهِ، وَيُطْلَقُ عَلَمًا عَلَى هَذَا الْعِلْمِ الْخَاصِّ.

فصل الغرض من علم الأصول وحقيقته ومادته وموضوعه ومسائله

وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَرَّفَ الْإِضَافِيَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. وَالصَّوَابُ: تَعْرِيفُ اللَّقَبِيِّ وَلَيْسَ ثَمَّ غَيْرُهُ. وَأَمَّا جَزَاؤُهُ حَالَةَ التَّرْكِيبِ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدْلُولٌ عَلَى حِدَتِهِ. إنَّمَا هُوَ كَغُلَامِ زَيْدٍ إذَا سَمَّيْت بِهِ لَمْ يَتَطَلَّبْ مَعْنَى الْغُلَامِ، وَلَا مَعْنَى زَيْدٍ، وَلَيْسَ لَنَا حَدَّانِ إضَافِيٌّ وَلَقَبِيٌّ وَإِنَّمَا هُوَ اللَّقَبِيُّ فَقَطْ. [فَصْلٌ الْغَرَضُ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ وَحَقِيقَتُهُ وَمَادَّتُهُ وَمَوْضُوعُهُ وَمَسَائِلُهُ] يَجِبُ عَلَى كُلِّ طَالِبِ عِلْمٍ أَنْ يَعْلَمَ مَا الْغَرَضُ مِنْهُ؟ وَمَا هُوَ؟ وَمِنْ أَيْنَ؟ وَفِيمَ؟ وَكَيْفَ يُحَصَّلُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ لَهُ الطَّلَبُ وَيَسْهُلَ؟ وَالْأَوَّلُ: فَائِدَتُهُ. وَالثَّانِي: حَقِيقَتُهُ وَمَبَادِئُهُ. وَالثَّالِثُ: مَادَّتُهُ الَّتِي مِنْهَا يَسْتَمِدُّ. وَالرَّابِعُ: مَوْضُوعُهُ، وَالْخَامِسُ: مَسَائِلُهُ. أَمَّا الْفَائِدَةُ: فَهِيَ الْغَايَةُ الْمُوَصِّلَةُ لِلْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَلِلسَّبَبِ الْغَائِيِّ اعْتِبَارَانِ: أَوَّلُ الْفِكْرِ، وَيُسَمَّى الْبَاعِثَ. وَمُنْتَهَاهُ وَهُوَ آخِرُ الْعَمَلِ، وَيُسَمَّى الْفَائِدَةَ.

وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ: وَهُوَ اقْتِنَاصُهُ بِحَدٍّ أَوْ رَسْمٍ أَوْ تَقْسِيمٍ. وَالْقَصْدُ بِهِ الْإِرْشَادُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَإِيضَاحُهُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي التَّعْلِيمِ لِلْغَيْرِ، وَأَمَّا الطَّالِبُ لِنَفْسِهِ إذَا لَاحَ لَهُ حَقِيقَةُ مَا يَطْلُبُ صَحَّ طَلَبُهُ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ عِبَارَةً عَنْهُ صَالِحَةً لِلْحَدِّ فَلَا يَكُونُ هَذَا شَرْطًا إلَّا فِي حَقِّ مَنْ أَرَادَ التَّعْلِيمَ لَا التَّعَلُّمَ. وَأَمَّا الْمَادَّةُ: فَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَتَابِعُوهُ: أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ مُسْتَمَدٌّ مِنْ ثَلَاثَةِ عُلُومٍ: الْكَلَامِ، وَالْفِقْهِ، وَالْعَرَبِيَّةِ. أَمَّا الْكَلَامُ: فَلِتَوَقُّفِ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْبَارِي تَعَالَى بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ مِنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَمَعْرِفَةِ صِدْقِ رَسُولِهِ، وَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى دَعْوَى الرِّسَالَةِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فَيُسَلَّمُ هُنَا. وَتَخُصُّ النَّظَرَ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ هُنَا بِعِلْمِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِمُخَاطَبٍ، وَقُدْرَةِ الْعَبْدِ كَسْبًا لَيُكَلَّفَ، وَتَعَلُّقِ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِيُوجَدَ الْحُكْمُ، وَرَفْعِ التَّعَلُّقِ فَيُنْسَخَ، وَصِدْقِ الْمُبَلِّغِ لِيُبَيِّنَّ. وَأَمَّا الْعَرَبِيَّةُ: فَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ جَاءَتْ بِلِسَانٍ الْعَرَبِ، وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُنُونٍ: عِلْمِ النَّحْوِ: وَهُوَ عِلْمُ مَجَارِي أَوَاخِرِ الْكَلِمِ رَفْعًا، وَنَصْبًا، وَجَرًّا، وَجَزْمًا. وَعِلْمُ اللُّغَةِ: وَهِيَ تَحْقِيقُ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَوَاتِهَا. وَعِلْمُ الْأَدَبِ: وَهُوَ عِلْمُ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَمَعْرِفَةُ مَرَاتِبِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْحَالِ.

وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا مَادَّةً لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْأُصُولِ، وَهُوَ الْخِطَابُ دُونَ مَسَائِلِ الْأَخْبَارِ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالنَّسْخُ، وَالْقِيَاسُ، وَهِيَ مُعْظَمُ الْأُصُولِ. ثُمَّ إنَّ الْمَادَّةَ فِيهِ لَيْسَتْ عَلَى نَظِيرِ الْمَادَّةِ مِنْ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِهَا مَادَّةٌ لِفَهْمِ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا الْفِقْهُ: فَلِأَنَّهُ مَدْلُولُ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأُصُولُ الْفِقْهِ أَدِلَّتُهُ، وَلَا يُعْلَمُ الدَّلِيلُ مُجَرَّدًا مِنْ مَدْلُولِهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي وَجْهِ اسْتِمْدَادِهِ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ: إنَّ عِلْمَ أُصُولِ الْفِقْهِ فِيهِ أَلْفَاظٌ لَا تُعْلَمُ مُسَمَّيَاتُهَا مِنْ غَيْرِ أُصُولِ الدِّينِ لَكِنَّهَا تُؤْخَذُ مُسَلَّمَةً فِيهِ. عَلَى أَنْ يُبَرْهِنَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ، أَوْ تَكُونَ مُسَلَّمَةً فِي نَفْسِهَا. وَهِيَ الْعِلْمُ، وَالظَّنُّ، وَالدَّلِيلُ، وَالْأَمَارَةُ، وَالنَّظَرُ، لِأَنَّ لَفْظَ الطُّرُقِ يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَالْحُكْمُ أَيْضًا، إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ خِطَابٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ فِي غَيْرِ أُصُولِ الدِّينِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْهُ غَيْرُ مَا عَدَّدْنَاهُ، فَهُوَ تَبَعٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا الْعِلْمِ، لِيَتَوَقَّفَ مِنْهُ إذَنْ عَلَى بَعْضِهِ لَا عَلَى كُلِّهِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ اسْتِمْدَادَ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّسُولِ الَّذِي دَلَّ التَّكَلُّمُ عَلَى صِدْقِهِ، فَيُنْظَرُ فِي وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ. إمَّا بِمَلْفُوظِهِ، أَوْ بِمَفْهُومِهِ، أَوْ بِمَعْقُولِ مَعْنَاهُ وَمُسْتَنْبَطِهِ، وَلَا يُجَاوِزُ نَظَرُ الْأُصُولِيِّ ذَلِكَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلَهُ. قَالَ: وَقَوْلُ الرَّسُولِ إنَّمَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ وَكَوْنُهُ حُجَّةً مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ. وَهَذَا لَيْسَ بِمَرَضِيٍّ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُوجَدُ فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ مَعْرِفَةَ الْعِلْمِ، وَالظَّنَّ، وَالدَّلِيلَ، وَالنَّظَرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا سَبَقَ. وَقَوْلُهُ بِأَنَّ نَظَرَ الْأُصُولِيِّ لَا يُجَاوِزُ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ مَمْنُوعٌ. فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فِي الِاسْتِصْحَابِ وَالْأَفْعَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِقَوْلِ الرَّسُولِ، وَلَا فِعْلَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَادَّةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: إسْنَادِيَّةٍ، مُقَوَّمَةٍ، فَالْمُقَوَّمَةُ دَاخِلَةٌ فِي أَجْزَاءِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ، وَهِيَ الْفِقْهُ، وَالْإِسْنَادِيَّة مَا اسْتَنَدَتْ إلَى الدَّلِيلِ، كَعِلْمِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أُصُولَ

الْفِقْهَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عِلْمَ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا عِلْمُ الْكَلَامِ دَلِيلُ الْمُعْجِزَةِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْأُصُولِ، فَاسْتَنَدَ إلَى الدَّلِيلِ. وَكَذَلِكَ مَادَّةُ الْعَرَبِيَّةِ. فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يُجْعَلُ الْفِقْهُ مَادَّةً لِلْأُصُولِ. وَهُوَ فَرْعُ الْأُصُولِ، وَمَادَّةُ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلُهُ، فَهَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ أَصْلًا وَالْأَصْلُ فَرْعًا؟ أَجَابَ الْمُقْتَرِحُ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْبُرْهَانِ " بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ الْفِقْهُ فِي الْأُصُولِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، فَيُذْكَرُ الْوَاجِبُ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ، وَالْمَنْدُوبُ بِمَا هُوَ مَنْدُوبٌ، لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُبَيِّنٌ حَقِيقَةَ الْأُصُولِ. وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ أَنْ يُذْكَرَ جُزْئِيَّاتُ الْمَسَائِلِ، فَإِنَّ ذِكْرَهَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ. [تَوَقُّفُ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى الْفِقْهِ] وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ أُصُولِ الْفِقْهِ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْفِقْهِ، إذْ يَسْتَحِيلُ الْعِلْمُ بِكَوْنِهَا أُصُولَ فِقْهٍ مَا لَمْ يُتَصَوَّرْ الْفِقْهُ، لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى مَعْرِفَةٍ إضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَعَرَّفَ بِهَا، وَلَا يُمْكِنُ التَّعْرِيفُ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ سَبْقِ مَعْرِفَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُرَكَّبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِمُفْرَدَاتِهِ ضَرُورَةً وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ: فَشَيْءٌ يَبْحَثُ عَنْ أَوْصَافِهِ وَأَحْوَالِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمَنْطِقِيِّينَ: مَوْضُوعُ كُلِّ عِلْمٍ مَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ. أَيْ مَا يَلْحَقُ الشَّيْءَ لِذَاتِهِ، كَالتَّعَجُّبِ اللَّاحِقِ لِلْإِنْسَانِ لِذَاتِهِ، لَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ. أَوْ لِجُزْئِهِ، كَالْمَشْيِ اللَّاحِقِ لَهُ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ حَيَوَانًا. أَوْ لِأَمْرٍ يُسَاوِيهِ، كَالضَّحِكِ اللَّاحِقِ لَهُ بِوَاسِطَةِ التَّعَجُّبِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَعْرَاضُهُ الذَّاتِيَّةُ. وَقَدْ يَكُونُ لِأَعَمَّ دَاخِلٍ فِيهِ. كَالْحَرَكَةِ لِلْإِنْسَانِ لَكِنَّهُ مَهْجُورٌ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِرُجُوعِ مَوْضُوعَاتِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ إلَيْهِ. فَمَوْضُوعُ الْفِقْهِ: أَفْعَالُ

الْمُكَلَّفِينَ، وَمَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ: الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةِ. وَمَوْضُوعُ الْهَنْدَسَةِ: الْمِقْدَارُ، وَمَوْضُوعُ الطِّبِّ: بَدَنُ الْإِنْسَانِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هِيَ مَجَالُ الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ يُبْحَثُ فِيهَا عَنْ أَعْرَاضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ اللَّاحِقَةِ بِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ شَبَّهُوا مَا يُبْحَثُ فِي كُلِّ عِلْمٍ عَنْ أَعْرَاضِهِ وَأَحْوَالِهِ بِمَادَّةٍ حِسِّيَّةٍ يَضَعُهَا إنْسَانٌ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُوقِعَ فِيهَا أَثَرًا مَا، كَالْخَشَبِ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِيهِ النَّجَّارُ حَتَّى يَصِيرَ سَرِيرًا، أَوْ بَابًا. وَكَالْفِضَّةِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الصَّائِغُ حَتَّى يَصِيرَ خَاتَمًا أَوْ سِوَارًا وَنَحْوَهُ. وَأَمَّا مَبَادِئُ كُلِّ عِلْمٍ فَهِيَ حُدُودُ مَوْضُوعِهِ وَأَجْزَائِهِ وَأَعْرَاضِهِ مَعَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تُؤَلَّفُ عَنْهَا قِيَاسَاتُهُ. وَذَلِكَ كَحَدِّ الْبَدَنِ وَأَعْضَائِهِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ صِحَّةٍ وَسَقَمٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ الطِّبِّ. وَحَدُّ الْفِعْلِ وَأَصْنَافُهُ وَأَشْخَاصُهُ وَمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ حِلٍّ وَحُرْمَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ الْفِقْهِ، وَحَدُّ اللَّفْظِ، وَمَا يَعْرِضُ مِنْ صَوَابٍ وَخَطَأٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّحْوِ. وَهُوَ جَمْعُ مَبْدَأٍ، وَمَبْدَأُ الشَّيْءِ هُوَ مَحَلُّ بِدَايَتِهِ. وَسُمِّيَتْ حُدُودُ مَوْضُوعِ الْعِلْمِ وَأَجْزَاؤُهُ وَمُقَدِّمَاتُهُ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ قِيَاسَاتِهِ مَبَادِئَ، لِأَنَّهُ عَنْهَا وَمِنْهَا يَنْشَأُ، وَيَبْدُو. وَأَمَّا مَسَائِلُ كُلِّ عِلْمٍ فَهِيَ مَطَالِبُهُ الْجُزْئِيَّةُ الَّتِي يُطْلَبُ إثْبَاتُهَا فِيهِ كَمَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا لِلْفِقْهِ، وَمَسَائِلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْعَامِّ، وَالْخَاصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ، وَغَيْرِهَا لِأُصُولِ الْفِقْهِ. وَالْمَوْضُوعُ: قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا، كَالْعَدَدِ لِلْحِسَابِ، وَقَدْ يَكُونُ كَثِيرًا، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَنَاسُبٌ، أَيْ: مُشَارَكَةٌ. إمَّا فِي ذَاتِيٍّ، كَمَا إذَا جُعِلَ الِاسْمُ، وَالْفِعْلُ، وَالْحَرْفُ، مَوْضُوعَاتِ النَّحْوِ، لِاشْتِرَاكِهَا فِي الْجِنْسِ، وَهُوَ الْكَلِمَةُ. وَإِمَّا فِي عَرَضِيٍّ كَمَا إذَا جُعِلَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ وَأَجْزَاؤُهُ وَالْأَدْوِيَةُ

وَالْأَغْذِيَةُ مَوْضُوعَاتِ الطِّبِّ، لِاشْتِرَاكِهَا فِي غَايَةٍ، وَهِيَ الصِّحَّةُ. وَمَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ قَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، فَإِنَّهُ إمَّا وَاحِدٌ، وَهُوَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ مِنْ جِهَةِ إنَّهُ مُوَصِّلٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَإِمَّا كَثِيرٌ، وَهُوَ أَقْسَامُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لِاشْتِرَاكِهَا إمَّا فِي جِنْسِهَا، وَهُوَ الدَّلِيلُ، أَوْ فِي غَايَتِهَا، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلْمِ أَكْثَرُ مِنْ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ، يَجُوزُ مُطْلَقًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي أَمْرٍ ذَاتِيٍّ، أَوْ عَرَضِيٍّ، كَالطِّبِّ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَعَنْ الْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا. وَقِيلَ: يَمْتَنِعُ مُطْلَقًا، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الِانْتِشَارِ. وَاخْتَارَ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلًا: وَهُوَ إنْ كَانَ الْمَبْحُوثُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ إضَافِيًّا جَازَ، كَمَا أَنَّهُ يُبْحَثُ فِي الْأُصُولِ عَنْ إثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْحُكْمِ، وَالْمَنْطِقُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ إيصَالِ تَصَوُّرٍ، أَوْ تَصْدِيقٍ إلَى تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْعَوَارِضِ الَّتِي لَهَا مَدْخَلٌ فِي الْمَبْحُوثِ عَنْهُ نَاشِئَةً عَنْ أَحَدِ الْمُتَضَايِفَيْنِ، وَبَعْضُهَا عَنْ الْآخَرِ، فَمَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ كِلَا الْمُتَضَايِفَيْنِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ إضَافِيٍّ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَوْضُوعِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعِلْمِ، ثُمَّ إنْ كَانَ إضَافِيًّا، فَقَدْ يَكُونُ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ مَوْضُوعَ ذَلِكَ الْعِلْمِ، كَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا، كَعِلْمِ الْمَنْطِقِ، فَإِنَّ مَوْضُوعَهُ الْقَوْلُ الشَّارِحُ، وَالدَّلِيلُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوَصِّلُ إلَى التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ

مفهوم الدليل

[مَفْهُوم الدَّلِيلُ] الدَّلِيلُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الرُّشْدُ لِلْمَطْلُوبِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ فَاعِلُ الدَّلَالَةِ، وَمُظْهِرُهَا، فَيَكُونُ مَعْنَى الدَّلِيلِ الدَّالَّ " فَعِيلٌ " بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، كَعَلِيمٍ وَقَدِيرٍ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلِ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُرْشِدُهُمْ إلَى مَقْصُودِهِمْ قَالَ الْقَاضِي: وَالدَّالُّ: نَاصِبُ الدَّلَالَةِ وَمُخْتَرِعُهَا، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمَنْ عَدَاهُ ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ. وَعِنْدَ الْبَاقِينَ الدَّالُّ ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ، وَاسْتُبْعِدَ، إذْ الْحَاكِي وَالْمُدَرِّسُ لَا يُسَمَّى دَالًّا، وَهُوَ ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الدَّالُّ ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى وَجْهِ التَّمَسُّكِ بِهَا. وَيُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى دَلِيلًا بِالْإِضَافَةِ. وَأَنْكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي كِتَابِ " الْحُدُودِ "، قَالَ: وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى: يَا دَلِيلَ الْمُتَحَيِّرِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْعَكَّاكِينَ. وَحَكَى غَيْرُهُ فِي جَوَازِ إطْلَاقِ الدَّلِيلِ عَلَى اللَّهِ وَجْهَيْنِ مُفَرَّعَيْنِ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ هَلْ تَثْبُتُ قِيَاسًا أَمْ لَا؟ لَكِنْ صَحَّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَدْعُوَ، فَيَقُولَ: يَا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ. الثَّانِي: مَا بِهِ الْإِرْشَادُ، أَيْ: الْعَلَامَةُ الْمَنْصُوبَةُ لِمَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الْعَالَمُ دَلِيلُ الصَّانِعِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: حَقِيقَةُ الدَّلِيلِ: الدَّالُّ، وَقِيلَ: بَلْ الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَدْلُولِ بِنَاءً عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي اللُّغَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلدَّالِ

حَقِيقَةً، وَصَارَ فِي الْعُرْفِ اسْمًا لِلِاسْتِعْمَالِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمُوَصِّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إلَى الْمَطْلُوبِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيُسَمَّى دَلَالَةً وَمُسْتَدَلًّا بِهِ، وَحُجَّةً، وَسُلْطَانًا، وَبُرْهَانًا وَبَيَانًا، وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي " تَقْوِيمِ الْأَدِلَّةِ " قَالَ: وَسَوَاءٌ أَوْجَبَ عِلْمَ الْيَقِينِ، أَوْ دُونَهُ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يُسَمَّى الدَّلِيلُ حُجَّةً وَبُرْهَانًا. وَقِيلَ: بَلْ هُمَا اسْمٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ صِحَّةُ الدَّعْوَى. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّلِيلَ مَا دَلَّ عَلَى مَطْلُوبِك، وَالْحُجَّةُ مَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَالثَّانِي: الدَّلِيلُ مَا دَلَّ عَلَى صَوَابِك. وَالْحُجَّةُ مَا دَفَعَ عَنْك قَوْلَ مُخَالِفِك. اهـ. وَخَصَّ الْمُتَكَلِّمُونَ اسْمَ الدَّلِيلِ مَا دَلَّ بِالْمَقْطُوعِ بِهِ مِنْ السَّمْعِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَيُسَمُّونَهُ أَمَارَةً. وَحَكَاهُ فِي التَّلْخِيصِ " عَنْ مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ.

وَزَعَمَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ اصْطِلَاحُ الْأُصُولِيِّينَ أَيْضًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يُطْلِقُونَ الدَّلِيلَ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ وَصَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنِ الصَّبَّاغِ. وَحَكَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَسُلَيْمٍ الرَّازِيّ، وَأَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَابْنِ عَقِيلٍ وَالزَّاغُونِيِّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَحَكَاهُ فِي " التَّلْخِيصِ " عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَحُكِيَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ. قِيلَ: وَلَعَلَّ مَنْشَأَهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّ الْأَدِلَّةَ الظَّنِّيَّةَ لَا تُحَصِّلُ صِفَاتٍ تَقْتَضِي الظَّنَّ كَمَا تَقْتَضِي الْأَدِلَّةُ الْيَقِينِيَّةُ الْعِلْمَ، وَإِنَّمَا يُحَصِّلُ الظَّنَّ اتِّفَاقًا عِنْدَهَا، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: إنَّ الظَّنِّيَّاتِ لَيْسَ فِيهَا تَرْتِيبٌ، وَتَقْدِيمٌ، وَتَأْخِيرٌ، وَلَيْسَ فِيهَا

خَطَأٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْمُصَوِّبَةُ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الدَّلِيلِ عَلَى الظَّنِّيِّ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْلُومِ وَالْمَظْنُونِ، فَأَمَّا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْجَمِيعَ يُسَمَّى دَلِيلًا وَضْعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْفُقَهَاءُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُتَكَلِّمُونَ، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ عِيَارِ النَّظَرِ ": قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ: مَعْنَى الدَّلِيلِ مُظْهِرُ الدَّلَالَةِ، وَمِنْهُ دَلِيلُ الْقَوْمِ، وَقَالَ: إنَّ تَسْمِيَةَ الدَّلَالَةِ دَلِيلًا مَجَازٌ، وَإِنْ كَانَ إذَا قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ الدَّلِيلُ مُظْهِرَ الدَّلَالَةِ، لَوَجَبَ عَلَى الْمَسْئُولِ عَنْ الدَّلَالَةِ إذَا قِيلَ لَهُ: مَا الدَّلِيلُ؟ أَنْ يَقُولَ: أَنَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُظْهِرُ لِلدَّلَالَةِ. أَجَابَ بِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: مَنْ الدَّلِيلُ؟ قَالَ: أَنَا وَإِذَا وَقَعَ السُّؤَالُ بِحَرْفِ " مَا " عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السُّؤَالُ عَنْ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ " مَا " إنَّمَا يُسْأَلُ بِهِ عَمَّا لَا يُوصَفُ بِالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الدَّلَالَةُ، وَهُوَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ، وَعَلَى هَذَا فَتَسْمِيَةُ الدَّالِّ عَلَى الطَّرِيقِ دَلِيلًا مَجَازٌ. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: الدَّلَالَةُ مَصْدَرُ قَوْلِك: دَلَّ يَدُلُّ دَلَالَةً وَيُسَمَّى دَلِيلًا مَجَازًا مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ. كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ صَوْمٌ

أقسام الدليل

وَأَمَّا الدَّالُّ: فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ الدَّلِيلُ، وَقِيلَ: هُوَ النَّاصِبُ لِلدَّلِيلِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي نَصَبَ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ لِلدَّلِيلِ تَحْصِيلٌ سِوَى تَجْرِيدِ الْفِكْرِ مِنْ ذِي فِكْرَةٍ صَحِيحَةٍ إلَى جِهَةٍ يَتَطَرَّقُ إلَى مِثْلِهَا تَصْدِيقٌ، أَوْ تَكْذِيبٌ. [أَقْسَامُ الدَّلِيلِ] [أَقْسَامُ الدَّلِيلِ] وَيَنْقَسِمُ الدَّلِيلُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: سَمْعِيٍّ وَعَقْلِيٍّ وَوَضْعِيٍّ. فَالسَّمْعِيُّ: هُوَ اللَّفْظِيُّ الْمَسْمُوعُ، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ. أَعْنِي الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ، وَالْإِجْمَاعَ، وَالِاسْتِدْلَالَ. وَأَمَّا عُرْفُ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَإِنَّهُمْ إذَا أَطْلَقُوا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ، فَلَا يُرِيدُونَ بِهِ غَيْرَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعَ قَالَهُ الْآمِدِيُّ " فِي " الْأَبْكَارِ ". الثَّانِي: الْعَقْلِيُّ: وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى وَضْعٍ، كَدَلَالَةِ الْحُدُوثِ عَلَى الْمُحْدِثِ، وَالْإِحْكَامِ عَلَى الْعَالِمِ. الثَّالِثُ: الْوَضْعِيُّ: وَهُوَ مَا دَلَّ بِقَضِيَّةِ اسْتِنَادِهِ، وَمِنْهُ الْعِبَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي فِي اللُّغَاتِ. قَالَ: وَأَلْحَقَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَقَالَ مَا دَلَّ عَقْلًا لَا يَتَبَدَّلُ، وَمَا دَلَّ وَضْعًا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَدَّلَ. لَكِنَّ الْإِمَامَ فِي الْإِرْشَادِ " اخْتَارَ أَنَّ دَلَالَتَهَا عَقْلِيَّةٌ

وَهُوَ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَسَيَأْتِي عَنْ ابْنِ الْقَطَّانِ أَيْضًا. وَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي " الْأَبْكَارِ ": الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ شَيْخُنَا وَالْقَاضِي وَالْمُحَقِّقُونَ: أَنَّ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ لَيْسَتْ دَلَالَةً عَقْلِيَّةً وَلَا سَمْعِيَّةً. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ مَا يَدُلُّ عَقْلًا يَدُلُّ بِنَفْسِهِ، وَيَرْتَبِطُ بِمَدْلُولِهِ لِذَاتِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَعُ الْخَوَارِقُ عِنْدَ تَصَرُّمِ الدُّنْيَا مَعَ عَدَمِ دَلَالَتِهَا عَلَى تَصْدِيقِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ لَا إرْسَالَ، وَلَا رَسُولَ إذْ ذَاكَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ السَّمْعِيَّةَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى صِدْقِهِ فَلَوْ تَوَقَّفَ صِدْقُ الرَّسُولِ عَلَيْهَا لَكَانَ دَوْرًا، بَلْ دَلَالَتُهَا عَلَى صِدْقِهِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ الدَّلَالَاتِ الْوَضْعِيَّةِ النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ التَّصْدِيقِ، فَكَانَتْ نَازِلَةً مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: صَدَقَ. ثُمَّ الْعَقْلِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ كَالْأَدِلَّةِ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَإِلَى مَا لَا يَقْتَضِيهِ، وَكَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ، وَإِلَى مَا لَا يَقْتَضِيهِ، كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْمُقَايِسِ السَّمْعِيَّةِ. فَكَمَا لَا يُوصَفُ بِاقْتِضَاءِ الْعِلْمِ لَا يُوصَفُ بِاقْتِضَاءِ غَلَبَةِ الظَّنِّ. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا يَزِلُّ فِيهِ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِحُصُولِ الظَّنِّ فِي أَثَرِهَا مِنْ غَيْرِ تَضَمُّنِهَا. وَيَتَنَوَّعُ الْعَقْلِيُّ إلَى اسْتِقْرَائِيٍّ، وَتَمْثِيلِيٍّ، وَاقْتِرَانِيٍّ، وَاسْتِثْنَائِيٍّ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ، وَيَتَأَلَّفُ الْمُتَّصِلُ مِنْ الْمُتَلَازِمَاتِ، وَالْمُنْفَصِلُ مِنْ الْمُتَضَادَّاتِ، وَنَوَّعَهَا الْأَصْحَابُ أَرْبَعَةً: بِنَاءُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ: وَإِنْتَاجُ الْمُقَدِّمَاتِ النَّتَائِجَ، وَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ.

وَنَازَعَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي الْأَوَّلِ. وَقَالَ: عِنْدَنَا لَا أَصْلَ لِبِنَاءِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ بَاطِلٌ، وَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ فِي الْغَائِبِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ الشَّاهِدِ، وَإِلَّا فَذِكْرُ الشَّاهِدِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَيْسَ فِي الْمَعْقُولَاتِ قِيَاسٌ. قَالَ: وَكَذَا قِيَاسُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيَاسَ فِي الْمَعْقُولَاتِ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّلِيلِ الْوُجُودُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمِيًّا، وَلِهَذَا يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ الْآيَاتِ عَلَى كَذِبِ الْمُتَنَبِّئِ، وَبِعَدَمِ الْأَدِلَّةِ وَالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ عَلَى انْحِصَارِ أَوْصَافِ الْأَجْنَاسِ فِيمَا أَدْرَكْنَاهُ. وَالدَّلِيلُ لَا يَقْتَضِي مَدْلُولَهُ، وَلَا يُوجِبُهُ إيجَابَ الْعِلَّةِ مَعْلُولَهَا بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَدْلُولِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، كَالْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْحُدُوثَ لَمَّا دَلَّ عَلَى الْمُحْدِثِ اسْتَحَالَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُوجِبُهُ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. وَالْقَصْدُ بِهَذَا التَّحَرُّزُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: الدَّلِيلُ يُوجِبُهُ كَذَا، وَالدَّلَالَةُ تَقْتَضِي مَدْلُولَهَا كَذَا. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ مُحْتَاجًا لِدَلِيلٍ؟ فِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. قَالَ: فَمَنَعَهُ قَوْمٌ وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ. وَقَالُوا: الْأَدِلَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ، وَإِلَى مَا هُوَ فِي ثَوَانِي الْعَقْلِ مُحْتَاجٌ إلَى دَلِيلٍ. وَاخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي مَسْأَلَةٍ وَهِيَ: أَنَّا إذَا أَقَمْنَا دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ مَثَلًا، فَهَلْ الْمَدْلُولُ حُدُوثُ الْعَالَمِ أَوْ الْعِلْمُ بِحُدُوثِهِ؟ وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ أَنَّ حُدُوثَ الْأَكْوَانِ دَالٌّ عَلَى حُدُوثِ الْجَوَاهِرِ سَوَاءٌ نَظَرَ النَّاظِرُ أَوْ لَا.

وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ هَلْ تُفِيدُ الْقَطْعَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: نَعَمْ. وَحَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ " عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُفِيدُ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّ أَنَّهَا تُفِيدُ الْقَطْعَ إنْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرَائِنُ مُشَاهَدَةٌ، أَوْ مَعْقُولَةٌ كَالتَّوَاتُرِ وَلَا يُفِيدُ الْيَقِينَ إلَّا بَعْدَ تَيَقُّنِ أُمُورٍ عَشَرَةٍ: عِصْمَةِ رُوَاةِ نَاقِلِيهَا، وَصِحَّةِ إعْرَابِهَا، وَتَصْرِيفِهَا، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ، وَالْمَجَازِ، وَالتَّخْصِيصِ بِالْأَشْخَاصِ، وَالْأَزْمَانِ، وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ اللَّفْظِيِّ، قِيلَ: وَلَمْ يَذْكُرْ النَّسْخَ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ عِنْدَهُ فِي التَّخْصِيصِ بِالْأَزْمَانِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي أُصُولِهِ: وَمَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي حُصُولِ الْيَقِينِ حُصُولُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُفَصَّلَةً فِي الذِّهْنِ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِتَرَبُّصِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، لَا أَقَلَّ مِنْهَا، وَلَا أَكْثَرَ. وَأَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَرِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ لَنَا تَفْصِيلُ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالْبَالِ. وَهَذَا كَمَا يَقُولُ فِي الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ: إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ الذِّهْنُ بِتَفْصِيلِ شُرُوطِهِ حَالَةَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ، فَإِنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ لَنَا الْيَقِينُ بِهِ قَبْلَ إحْضَارِ تِلْكَ الْأُمُورِ بِالْبَالِ. قَالَ: وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يَسْمَعَ الْقَاصِرُ كَلَامَ الْإِمَامِ هَذَا. فَيَظُنَّ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ حَتَّى يَخْطِرَ لَهُ تِلْكَ الْأُمُورُ بِبَالِهِ، وَيَعْتَبِرَهَا وَاحِدًا وَاحِدًا فَتَشُكَّ نَفْسُهُ مِمَّا حَصَلَ

لَهُ مِنْ الْيَقِينِ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَنَّ تِلْكَ الْأُمُورِ، أَوْ بَعْضِهَا بِالدَّلِيلِ ظَنٌّ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ قَرَائِنُ عَقْلِيَّةٌ، أَوْ حَالِيَّةٌ، فَيَحْصُلُ الْيَقِينُ مِنْهَا. انْتَهَى. وَرَدَّهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ بَعْضَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَالشِّعْرِ قَدْ بَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ كَرَفْعِ الْفَاعِلِ، وَنَصْبِ الْمَفْعُولِ، وَنَحْنُ لَا نَدَّعِي قَطْعِيَّةَ جَمِيعِ النَّقْلِيَّاتِ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ التَّرَاكِيبِ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِمَدْلُولِهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ جَمِيعَ التَّوَاتُرَاتِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ إذَا أَدَّى إلَى إثْبَاتِ أَمْرٍ، وَقَامَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُعَارِضٌ لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ كَمَا يُتَصَوَّرُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْعَقْلِيِّ وَالنَّقْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ.

مسألة أدلة العقول

[مَسْأَلَةٌ أَدِلَّةُ الْعُقُولِ] ِ] قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: أَنْكَرَ دَاوُد وَأَصْحَابُهُ أَدِلَّةَ الْعُقُولِ. وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ إلَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحْوِجْنَا إلَيْهَا؛ لِأَنَّ أَوَّلَ مَحْجُوجٍ بِالسَّمْعِ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَيْثُ قِيلَ لَهُ: " لَا تَأْكُلْ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ قَدْ كُفِينَا الْأَمْرَ فِيهَا وَاسْتَقْلَلْنَا بِالسَّمْعِ. قَالَ: وَعِنْدَنَا أَنَّ دَلَائِلَ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ بِهَا نَدْرِي الْأَشْيَاءَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعْجِزَةِ إنَّمَا دَلَّ عَلَيْهَا الْعَقْلُ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف: 26] وَلَمْ يُرِدْ سُبْحَانَهُ بِالْأَفْئِدَةِ قِطْعَةَ اللَّحْمِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّمْيِيزَ، وَبِهَذِهِ الْآيَةِ اُحْتُجَّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ الْفُؤَادُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْإِسْلَامِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الْعُقُولَ طُرُقُ الْمَعْلُومَاتِ. قَالَ: وَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا يُعْرَفُ شَيْءٌ إلَّا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ. فَرْعٌ [قَضَايَا الْعُقُولِ] وَقَضَايَا الْعُقُولِ ضَرْبَانِ: مَا عُلِمَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ كَالتَّوْحِيدِ، فَيُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وَإِنْ كَانَ عَنْ اسْتِدْلَالٍ لِلْوُصُولِ إلَيْهِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. وَمَا عُلِمَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَهُوَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ كَآحَادِ الْأَنْبِيَاءِ إذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ،

فَيُوجِبُ عِلْمَ الِاسْتِدْلَالِ، وَلَا يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ؛ لِحُدُوثِهِ عَنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ لَا عَنْ ضَرُورَتِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي أُصُولِ النُّبُوَّاتِ عَلَى الْعُمُومِ هَلْ تُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوْ بِدَلِيلِهِ؟ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّعَبُّدِ بِالشَّرَائِعِ. هَلْ اقْتَرَنَ بِالْعَقْلِ أَوْ يَعْقُبُهُ؟ فَذَهَبَ مَنْ جَعَلَهُ مُقْتَرِنًا بِالْعَقْلِ إلَى إثْبَاتِ عُمُومِ النُّبُوَّاتِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَذَهَبَ مَنْ جَعَلَهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَقْلِ إلَى إثْبَاتِهَا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ. ضَابِطٌ [الْبَاحِثُ عَنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ] . الْبَاحِثُ عَنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إمَّا فِي إثْبَاتِهِ أَوْ فِي نَفْيِهِ، فَفِي الْأَوَّلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ مُثْبِتٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي، وَفِي الثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ دَلِيلٍ، فَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّرْعُ بَاقٍ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ عَلَى مَا تَقَرَّرَ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ الْغَزَالِيُّ: دَلِيلًا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِوُجُودِ دَلِيلٍ بَاقٍ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ إمَّا أَنْ لَا يَسْتَلْزِمَ النَّفْيَ لِمَعْقُولِيَّتِهِ، أَوْ يَسْتَلْزِمَ، وَالْأَوَّلُ: نُصُوصُ الْأَدِلَّةِ، وَالثَّانِي: هُوَ الْمَانِعُ وَفُقْدَانُ الشَّرْطِ. فَائِدَةٌ [أَدِلَّةُ النَّفْيِ أَوْسَعُ مِنْ أَدِلَّةِ الْإِثْبَاتِ] أَدِلَّةُ النَّفْيِ أَوْسَعُ مِنْ أَدِلَّةِ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ. وَقَدْ يَدُلُّ الشَّيْءُ عَلَى النَّفْيِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ أَصْلًا كَالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: لَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي.

مفهوم النظر

[مَفْهُوم النَّظَرُ] النَّظَرُ لُغَةً الِانْتِظَارُ، وَتَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ، وَالرَّحْمَةُ، وَالتَّأَمُّلُ. وَيَتَمَيَّزُ بِالْمُعَدِّي مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْفِكْرُ الْمُؤَدِّي إلَى عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ ": الْفِكْرُ هُوَ انْتِقَالُ النَّفْسِ مِنْ الْمَعَانِي انْتِقَالًا بِالْقَصْدِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِطَلَبِ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ، فَيُسَمَّى نَظَرًا. وَقَدْ لَا يَكُونُ كَأَكْثَرِ حَدِيثِ النَّفْسِ، فَلَا يُسَمَّى نَظَرًا بَلْ تَخَيُّلًا وَفِكْرًا. وَالْفِكْرُ أَعَمُّ مِنْ النَّظَرِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَصْدَ النَّاظِرِ الِانْتِقَالُ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَدِّ، وَقَالَ فِي الْبُرْهَانِ ": حَقِيقَةُ النَّظَرِ تُرَدَّدُ فِي أَنْحَاءِ الضَّرُورِيَّاتِ وَمَرَاتِبِهَا، وَقَالَ فِيمَا بَعْدُ: عِنْدَنَا مُبَاحَثَةٌ فِي أَنْحَاءِ الضَّرُورِيَّاتِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَسَالِيبِهَا، وَقَدْ اعْتَرَفَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ تَنْقَسِمُ إلَى هَاجِمٍ عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى ضَرُورِيًّا. وَإِلَى مَا يَحْتَاجُ إلَى فِكْرٍ، فَيُسَمَّى نَظَرِيًّا. قِيلَ: وَهَذَا نَقْضٌ لِقَوْلِهِ: إنَّ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ. وَأَمَّا حَصْرُ النَّظَرِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ فَلَا يَسْتَقِيمُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ ضَرُورَةً، ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِالشَّكِّ

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: النَّظَرُ هُوَ الْفِكْرُ الَّذِي يَطْلُبُ بِهِ مَنْ قَامَ بِهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي الْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ. وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: " بِهِ " مِنْ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُطْلَبُ بِهَا بَلْ عِنْدَهَا، فَيَكُونُ شَرْطًا لِلطَّلَبِ. كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الْآمِدِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ، وَأَجَابَ عَمَّا اعْتَرَضَ بِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَارَ خِلَافَهُ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ حَدَّانِ مُخْتَلِفَانِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هُوَ الْفِكْرُ فِي الشَّيْءِ الْمَنْظُورِ فِيهِ طَلَبًا، لِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَقَدْ يُفْضِي إلَى الصَّوَابِ إذَا رُتِّبَ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً إذَا خُولِفَ تَرْتِيبُهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الِاقْتِصَادِ ": إذَا أَرَدْت إدْرَاكَ الْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ فَعَلَيْك وَظِيفَتَانِ: إحْدَاهُمَا، إحْضَارُ الْأَصْلَيْنِ أَيْ: الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِي ذِهْنِك. وَهَذَا يُسَمَّى فِكْرًا. وَالْآخَرُ يَسُوقُك إلَى التَّفَطُّنِ. لِوُجْهَةِ لُزُومِ الْمَطْلُوبِ مِنْ ازْدِوَاجِ الْأَصْلَيْنِ، وَهَذَا يُسَمَّى طَلَبًا. قَالَ: فَلِذَلِكَ مَنْ جَرَّدَ الْتِفَاتَهُ إلَى الْوَظِيفَةِ الْأُولَى جَدَّ النَّظَرَ بِأَنَّهُ الْفِكْرُ، وَمَنْ جَرَّدَ الْتِفَاتَهُ إلَى الثَّانِيَةِ قَالَ: إنَّهُ طَلَبُ عِلْمٍ أَوْ غَلَبَةُ ظَنٍّ. قَالَ: وَمَنْ الْتَفَتَ إلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا قَالَ: إنَّهُ الْفِكْرُ الَّذِي يَطْلُبُ بِهِ مَنْ قَامَ بِهِ عِلْمًا أَوْ غَلَبَةَ ظَنٍّ. قَالُوا: وَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ

أقسام النظر

لَهُ صُورَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ (تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ) . وَقَالَ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ: الْفِكْرُ مَقْلُوبُ الْفَرْكِ غَيْرَ أَنَّ الْفِكْرَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْمَعَانِي. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِهِ الْمُعْتَمَدِ الْكَبِيرِ ": النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ مَعْنًى غَيْرُ الْفِكْرِ وَالرَّوِيَّةِ، بَلْ يُوجَدُ عَقِبَهُ. خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُفَكِّرُ أَوَّلًا فِي الْجِسْمِ. هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ حَادِثٌ؟ وَمَا دَامَ مُفَكِّرًا فَهُوَ شَاكٌّ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الدَّلِيلِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ وَالْفِكْرُ مُتَغَايِرَيْنِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجِدَالِ وَالنَّظَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّظَرَ: طَلَبُ الصَّوَابِ، وَالْجِدَالَ: نُصْرَةُ الْقَوْلِ. وَالثَّانِي: النَّظَرُ: الْفِكْرُ بِالْقَلْبِ وَالْعَقْلِ، وَالْجِدَالُ: الِاحْتِجَاجُ بِاللِّسَانِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [أَقْسَامُ النَّظَرِ] مَسْأَلَةٌ [أَقْسَامُ النَّظَرِ] وَأَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ: لِأَنَّهُ إمَّا جَازِمٌ أَوْ لَا. وَكُلُّ وَاحِدٍ إمَّا مُطَابِقٌ أَوْ لَا، وَإِنْ شِئْت قُلْت: إمَّا صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ: وَكُلُّ وَاحِدٍ إمَّا جَازِمٌ أَوْ غَيْرُ جَازِمٍ، فَالنَّظَرُ الصَّحِيحُ: هُوَ النَّظَرُ الْمُطَابِقُ. وَالْفَاسِدُ. هُوَ الَّذِي لَمْ يُفِدْ الْمَطْلُوبَ

إمَّا لِلْخَطَأِ فِي التَّرْتِيبِ، أَوْ أَنَّهُ قُصِدَ بِهِ شَيْءٌ فَأَفَادَ غَيْرَهُ، أَوْ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَقَسَّمَهُ الْآمِدِيُّ إلَى صَحِيحٍ: وَهُوَ مَا قَدْ وَقَفَ النَّاظِرُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ، وَنَاقَضَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إنَّ الصَّحِيحَ مِنْهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَى الظَّنَّ عِلْمًا بَلْ ضِدًّا لِلْعِلْمِ، وَهُوَ أَحَدُ طُرُقِ الْعِلْمِ خِلَافًا لِلسُّوفِسْطَائِيَّةِ النَّافِينَ لِلْحَقَائِقِ، وَالسُّمَنِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ، وَشَرْطُهُ: الْعَقْلُ، وَانْتِفَاءُ مَا فِيهِ كَالْغَفْلَةِ، وَهَلْ السَّهْوُ عَنْ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالنِّسْيَانُ لَهُ ضِدٌّ لَهُ أَمْ لَا؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَعِنْدَهُ لَا يَكُونُ غَيْرُ الْعِلْمِ ضِدًّا لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ الظَّنَّ لَيْسَ عِلْمًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ جَاهِلًا بِالْمَطْلُوبِ، وَلَا عَالِمًا بِهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَلَا مِنْ وَجْهٍ تَطْلُبُهُ، لِاسْتِحَالَةِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ: إنَّهُ يُنَافِي الْعِلْمَ بِمَا يَنْظُرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ طَلَبٌ، وَطَلَبُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ وَيُنَافِي الْجَهْلَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ يَعْتَقِدُ كَوْنَهُ عَالِمًا، وَهُوَ يَصْرِفُهُ عَنْ الطَّلَبِ. قِيلَ: لَكِنْ هَذَا فِي الْمُرَكَّبِ، وَهُوَ يُنَافِي الْبَسِيطَ أَيْضًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ، وَأَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي شُبْهَةٍ. بِمَعْنَى أَنْ يَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى الدَّلِيلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخْطَأَ الدَّلِيلَ لَمْ يَصِحَّ نَظَرُهُ وَلِهَذَا، أَخْطَأَ مَنْ أَخْطَأَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ فِي نَظَرِهِ لِإِصَابَةِ الدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى شُبْهَةٍ أَدْرَكَ الدَّلِيلَ غَيْرُهُ، وَأَنْ يَسْتَوْفِيَ شُرُوطَ الدَّلِيلِ، وَتَرْتِيبُهُ عَلَى حَقِيقَةٍ بِتَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ، وَتَأْخِيرِ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ وَأَنْ يَعْلَمَ الْوُجُوهَ الَّتِي تَدُلُّ مِنْهَا الْأَدِلَّةُ، وَلَا يَكْفِيهِ الْعِلْمُ بِذَاتِ الدَّلَالَةِ مَعَ الذُّهُولِ عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي مِنْهُ تَدُلُّ الدَّلَالَةُ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ عِلْمَ الِاكْتِسَابِ لَا عِلْمَ الضَّرُورَةِ

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَنْصُورِ: يَجِبُ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا عَنْ الْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، أَوْ الْبَدَاهَةِ لَا مَدْخَلَ لِلنَّظَرِ فِيهِ. ثُمَّ يَعْلَمُ الضَّرُورِيَّاتِ الْحِسِّيَّةَ وَالْبَدِيهِيَّةَ، وَإِلَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ رَدِّ الْغَائِبِ إلَى مَحْسُوسٍ أَوْ مَعْلُومٍ بِالْبَدَاهَةِ، ثُمَّ يَعْلَمُ وُجُودَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَعْلَمُ وَجْهَ تَعَلُّقِ الدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ مَنْ لَا يَعْرِفُ وُجُودَ الْقُرْآنِ فِي الْعَالَمِ. وَلَا مَنْ عَرَفَ وُجُودَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ. وَلَا مَنْ عَرَفَ ظُهُورَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ تَحَدَّى بِهِ الْعَرَبَ فَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ. قَالَ: وَمِنْ شَرْطِهِ إذَا كَانَ دَلِيلُهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ أَنْ يُجْرِيَهُ فِيهِمَا، فَأَمَّا أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ فِي أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ وَيَمْنَعَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فِي الْآخَرِ، فَإِنَّهُ مُفْسِدٌ لِلدَّلِيلِ عَلَى غَيْرِ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُحْكَمَاتِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى كَوْنِ فَاعِلِهَا عَالِمًا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ لَهُ عِلْمًا. فَإِذَا لَمْ يُجْرُوا هَذِهِ الدَّلَالَةَ فِي عِلْمِ الْبَارِي لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُهُ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا. قُلْت: وَمِنْهُ اسْتِدْلَالُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ، وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لَهُ الْإِقْبَاضُ. وَالْحَدِيثُ كَمَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِقْبَاضِ. فَإِذَا لَمْ يَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَى عَدَمِ امْتِنَاعِ الْإِقْبَاضِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ. وَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ كَانَ النَّظَرُ مُثْمِرًا لِلْعِلْمِ وَمُنْتِجًا لَهُ، وَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا كَانَ فَاسِدًا، وَلَمْ

مسألة النظر مكتسب

يَقَعْ بَعْدَهُ عِلْمٌ قَالَ أَبُو يَعْلَى فِي الْمُعْتَمَدِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ النَّظَرِ الصَّحِيحِ يَتَضَمَّنُ جُزْءًا مِنْ الْعِلْمِ خِلَافًا لِابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ النَّظَرِ لَا يَتَضَمَّنُ جُزْءًا مِنْ الْعِلْمِ، بَلْ لَا يُثْمِرُ إلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى النَّظَرَ حَصَلَ بَعْدَهُ الْعِلْمُ، وَهَذَا كَالنَّظَرِ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ، فَإِنَّنَا نَنْظُرُ أَوَّلًا فِي إثْبَاتِ الْأَعْرَاضِ فَإِذَا نَظَرْنَا فِيهِ حَصَلَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْعَرَضِ فَقَطْ، ثُمَّ نَنْظُرُ ثَانِيًا فِي حُدُوثِهِ فَنَعْلَمُ حُدُوثَهُ، وَرُبَّمَا تَكُونُ الْأَدِلَّةُ عَلَى وُجُودِ الْأَعْرَاضِ أَوْ حُدُوثِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ يَجِبُ النَّظَرُ فِيهَا، فَيَحْصُلُ لَنَا الْعِلْمُ بِكُلٍّ مِنْ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ عِلْمًا، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ فِي سَائِرِ الْأَدِلَّةِ. قُلْت: وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ عِلْمٌ مَا فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ أَبُو يَعْلَى، وَإِنْ أُرِيدَ الْمَقْصُودُ بِالنَّظَرِ، فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْآخَرُونَ، وَنَظِيرُهُ الْخِلَافُ الْفِقْهِيُّ أَنَّ الْحَدَثَ هَلْ يَرْتَفِعُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ بِمُجَرَّدِ غَسْلِهِ أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَامِ الْأَعْضَاءِ؟ . [مَسْأَلَةٌ النَّظَرُ مُكْتَسَبٌ] " النَّظَرُ مُكْتَسَبٌ " النَّظَرُ مُكْتَسَبٌ بِالِاتِّفَاقِ وَإِذَا وُجِدَ بِشُرُوطِهِ أَفَادَ الْعِلْمَ. وَقَالَتْ الْحُكَمَاءُ: النَّظَرُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ فِي الْهَنْدَسِيَّاتِ وَالْحِسَابَاتِ، وَيَقَعُ الْعِلْمُ عَقِبَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: مَعَ آخِرِ

جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ. حَكَاهُ عَبْدُ الْجَلِيلِ فِي " شَرْحِ اللَّامِعِ ". وَعَلَى الْأَوَّلِ فَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ حُصُولِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَبِهِ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ إنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ عَادَةً بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَحُصُولِ الشِّبَعِ عَقِبَ الْأَكْلِ، وَالرَّيِّ عَقِبَ الشُّرْبِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ خَرْقُهُ جَائِزًا وَعَدَمُهُ مُمْكِنًا. وَهَاهُنَا حُصُولُ الْعِلْمِ وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَحْصُلَ عَقِبَ كَمَالِ النَّظَرِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالتَّوَلُّدِ، وَهُوَ الْحَاصِلُ عَنْ الْمَقْدُورِ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ كَحَرَكَةِ السَّهْمِ عَنْ الرَّمْيِ، وَيَجِبُ وُقُوعُهُ بَعْدَ النَّظَرِ كَوُقُوعِ الْمَعْلُولِ بَعْدَ الْعِلَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ عَقْلًا بِإِيجَابٍ ذَاتِيٍّ، أَيْ: ذَاتُهُ مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ ". وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِتَضَمُّنِ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُنْتِجَةِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، لَا يَكُونُ النَّظَرُ عِلَّةً، وَلَا مُوَلَّدًا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ

مسألة العلم الحاصل عقب النظر

وَقَالَ الْآمِدِيُّ: إنَّهُ الْحَقُّ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ فُرُوعِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ النَّظَرَ غَيْرُ مُوَلِّدٍ لِلْعِلْمِ. بِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ قُدْرَةَ الْإِنْسَانِ لَا تُوجَدُ قَبْلَ مَقْدُورِهَا. وَإِذَا ثَبَتَ لَنَا هَذَا الْأَصْلُ بِدَلِيلٍ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الْوَاقِعُ عَقِبَ النَّظَرِ مِنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ، لَوَجَبَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَيْهِ بِقُدْرَةٍ تُقَارِنُهُ، أَوْ تُقَارِنُ الْقُدْرَةَ عَلَى سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ النَّظَرُ. وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَقَدُّمَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَقْدُورِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِبَ النَّظَرِ] [الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِبَ النَّظَرِ] اُخْتُلِفَ فِي الْعِلْمِ الْحَاصِلِ عَقِبَ النَّظَرِ، فَمَنْ قَالَ فِي الْأُولَى بِالتَّضَمُّنِ، أَوْ الْإِيجَابِ الذَّاتِيِّ قَالَ: إنَّهُ ضَرُورِيٌّ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَإِلْكِيَا، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ بِالْعَادَةِ فَلَيْسَ بِضَرُورِيٍّ لِجَوَازِ خَرْقِهَا، فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ عَنْ كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا، إذْ الضَّرُورِيُّ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ النَّفْسَ لُزُومًا لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الِانْفِكَاكُ عَقْلًا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَحَيْثُ قُلْنَا: إنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ يَتَضَمَّنُ تَرْتِيبَ الْعِلْمِ بَعْدَهُ، فَالنَّظَرُ الْفَاسِدُ، وَفِي الشُّبْهَةِ لَا يَقْتَضِي الْجَهْلَ، وَلَا الشَّكَّ، وَلَا شَيْئًا مِنْ أَضْدَادِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَتَعَلَّقُ بِمَدْلُولِهِ، وَالشُّبْهَةُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِأَضْدَادِ الْعُلُومِ

مسألة النظر واجب شرعا

[مَسْأَلَةٌ النَّظَرُ وَاجِبٌ شَرْعًا] النَّظَرُ وَاجِبٌ شَرْعًا. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَامَ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْأَصَحُّ: أَنَّ النَّظَرَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ إلَّا أَنْ يَكُونُوا شَاكِّينَ فِيمَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فَيَلْزَمُهُمْ الْبَحْثُ عَنْهُ، وَالنَّظَرُ فِيهِ إلَى أَنْ يَعْتَقِدُوهُ، أَوْ يَعْرِفُوهُ. قَالَ: وَمَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَاصَّةِ، وَهُمْ قَائِمُونَ بِهِ عَنْ الْعَامَّةِ لَا فِي تَعْرِيفِ ذَلِكَ لَهُمْ وَمِنْ الْمَشَقَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنَّمَا هُمْ مُكَلَّفُونَ بِاعْتِقَادِهِ، وَقَالَ بَعْضُ نُبَلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مِنْ وُجُوبِ النَّظَرِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ ابْتِدَاءً غَيْرُ عَارِفٍ بِاَللَّهِ حَتَّى يَنْظُرَ، وَيَسْتَدِلَّ، فَيَكُونُ النَّظَرُ أَوَّلَ الطَّاعَاتِ وَهَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ قَطُّ إنْسَانٌ إلَّا وَهُوَ يَعْرِفُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ حَالٌ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُقِرًّا حَتَّى يَنْظُرَ وَيَسْتَدِلَّ. اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ عَرَضَ لَهُ مَا أَفْسَدَ فِطْرَتَهُ ابْتِدَاءً، فَيَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى النَّظَرِ. نَعَمْ النَّظَرُ الصَّحِيحُ يُقَوِّي الْمَعْرِفَةَ، وَيُثَبِّتُهَا فَإِنَّ الْمَعَارِفَ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ عَلَى الْأَصَحِّ. قُلْتُ: وَهَذَا جُمُوحٌ إلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ ضَرُورِيَّةٌ لَا نَظَرِيَّةٌ، وَالصَّحِيحُ:

الْأَوَّلُ، إذْ لَوْ كَانَتْ ضَرُورِيَّةً لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِهَا مُحَالًا، وَنَحْنُ مُكَلَّفُونَ بِمَعْرِفَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] . وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ تَفْرِيقًا عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا. أَحَدُهَا: أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ النَّظَرُ الْمُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ، وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَالثَّالِثُ: الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ فِي الْإِرْشَادِ ". وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُؤَدَّيَانِ إلَى ذَلِكَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَالْخَامِسُ: قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ الشَّكُّ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ فُورَكٍ؛ لِامْتِنَاعِ النَّظَرِ مِنْ الْعَالِمِ، فَإِنَّ الْحَاصِلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ طَلَبٌ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الشَّاكِّ. وَزَيَّفَهُ الْقَاضِي بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ الْهُجُومُ عَلَى النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَرَدُّدٍ. وَالسَّادِسُ: الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالسَّابِعُ: النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَالثَّامِنُ: قَبُولُ الْإِسْلَامِ وَالْعَزْمُ عَلَى الْعَمَلِ، ثُمَّ النَّظَرُ بَعْدَ الْقَبُولِ.

وَالتَّاسِعُ: اعْتِقَادُ وُجُوبِ التَّقْلِيدِ، وَالْعَاشِرُ: التَّقْلِيدُ. وَالْحَادِيَ عَشَرَ: النَّظَرُ وَلَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ الشَّكِّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، فَيَلْزَمُ الْبَحْثُ عَنْهُ حَتَّى يَعْتَقِدَهُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ رُبَّمَا تَتَدَاخَلُ وَتَخْتَلِفُ فِي الْعِبَارَةِ. وَقَالَ الرَّازِيَّ فِي التَّحْصِيلِ " الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْوَاجِبِ الْوَاجِبُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا مَقْدُورَةً وَالنَّظَرُ عِنْدَ مَنْ لَا يَجْعَلُهَا مَقْدُورَةً. وَإِنْ أُرِيدَ مِنْ الْوَاجِبِ كَيْفَ كَانَ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْقَصْدُ. قُلْت: بَلْ مَعْنَوِيٌّ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي التَّعْصِيَةِ بِتَرْكِ النَّظَرِ عَلَى مَنْ أَوْجَبَهُ دُونَ مَنْ لَا يُوجِبُهُ وَقَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ " إنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ النَّظَرُ فَمَنْ أَمْكَنَهُ زَمَانٌ يَسَعُ النَّظَرَ التَّامَّ، وَلَمْ يَنْظُرْ فَهُوَ عَاصٍ، وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَصْلًا، فَهُوَ كَالصَّبِيِّ. وَمَنْ أَمْكَنَهُ مَا يَسَعُ لِبَعْضِ النَّظَرِ دُونَ تَمَامِهِ فَفِيهِ احْتِمَالٌ، وَالْأَظْهَرُ: عِصْيَانُهُ كَالْمَرْأَةِ تُصْبِحُ طَاهِرَةً فَتُفْطِرُ، ثُمَّ تَحِيضُ. فَإِنَّهَا عَاصِيَةٌ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا لَمْ يُمْكِنْهَا إتْمَامُ الصَّوْمِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: بِسَبَبِ هَذَا الْخِلَافِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ أَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ أَوْ كَسْبِيَّةٌ؟ فَمَنْ قَالَ: ضَرُورِيَّةٌ قَالَ: أَوَّلُ فَرْضٍ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ، وَمَنْ قَالَ: كَسْبِيَّةٌ قَالَ: أَوَّلُ فَرْضٍ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُؤَدَّيَانِ إلَى الْمَعْرِفَةِ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى الْقِيَاسِ: أَنْكَرَ

مسألة النظر الفاسد لا يستلزم الجهل

أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ قَوْلَ أَهْلِ الْكَلَامِ: إنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ النَّظَرُ، وَقَالُوا: إنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ. وَلَوْ قَالَ الْكَافِرُ: أَمْهِلُونِي؛ لِأَنْظُرَ فَأَبْحَثَ فَإِنَّهُ لَا يُمْهَلُ، وَلَا يُنْظَرُ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ: أَسْلِمْ فِي الْحَالِ، وَإِلَّا فَأَنْتَ مَعْرُوضٌ عَلَى السَّيْفِ. قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ سُرَيْجٍ: انْتَهَى، وَهُوَ عَجِيبٌ، فَقَدْ حَكَوْا فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ وَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا تَعَيَّنَ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ، فَقَالَ: عَرَضَتْ لِي شُبْهَةٌ فَأَزِيلُوهَا؛ لِأَعُودَ إلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ. هَلْ يُنَاظَرُ لِإِزَالَتِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَقَالَ: الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْمُعْتَمَدِ ": إذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ أَوَّلَ النَّظَرِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَيْهِ، وَعَلَى تَرْكِ مَا بَعْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ الْأَوَّلِ عِقَابًا أَعْظَمَ مِنْ عِقَابِ تَرْكِ النَّظَرِ الثَّانِي: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ فِعْلِ الْأَوَّلِ غَيْرَ أَنَّ عِقَابَهُ عَظِيمٌ يَجْرِي مَجْرَى الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ كُلِّ النَّظَرِ. [مَسْأَلَةٌ النَّظَرُ الْفَاسِدُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ] َ] قَدْ سَبَقَ أَنَّ النَّظَرَ الْفَاسِدَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَقِيلَ: يَسْتَلْزِمُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَسَادَ إنْ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الْمَادَّةِ اسْتَلْزَمَ الْجَهْلَ؛ لِأَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ قَدِيمٍ غَنِيٌّ عَنْ الْغَيْرِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ غَنِيٌّ عَنْ الْمُؤَثِّرِ، وَهُوَ جَهْلٌ مُحَالٌ. وَإِنْ

كَانَ الْفَسَادُ مَقْصُورًا عَلَى الصُّورَةِ أَوْ يَشْمَلُ الصُّورَةَ وَالْمَادَّةَ لَا يَسْتَلْزِمُ، كَقَوْلِنَا: لَا شَيْءَ مِنْ الْإِنْسَانِ بِحَجَرٍ، وَكُلُّ حَجَرٍ جَمَادٌ يَلْزَمُ لَا شَيْءَ مِنْ الْإِنْسَانِ بِجَمَادٍ عِلْمًا. وَإِنْ كَانَتْ صُورَةُ الْقِيَاسِ غَيْرَ صَحِيحَةٍ؛ لِعَدَمِ إيجَابِ الصُّغْرَى. ضَابِطٌ: [الْإِدْرَاكُ] الْإِدْرَاكُ بِلَا حُكْمٍ تَصَوُّرٌ، وَمَعَ الْحُكْمِ تَصْدِيقٌ، لَكِنْ مَجْمُوعُهُمَا أَوْ الْحُكْمُ وَحْدَهُ فِيهِ خِلَافٌ، فَذَهَبَ الْقُدَمَاءُ إلَى أَنَّهُ الْحُكْمُ. وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ. وَمَالَ إلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ "، وَهُوَ جَهْلٌ، إنْ كَانَ جَازِمًا غَيْرَ مُطَابِقٍ، وَتَقْلِيدٌ إنْ طَابَقَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمُوجِبٍ، وَعِلْمٌ إنْ كَانَ لِمُوجِبٍ عَقْلِيٍّ أَوْ حِسِّيٍّ، أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الْمُتَوَاتِرَات، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازِمًا فَإِنْ تَسَاوَى طَرَفَاهُ، فَهُوَ الشَّكُّ، وَإِلَّا فَالرَّاجِحُ ظَنٌّ صَادِقٌ إنْ طَابَقَ، أَوْ كَاذِبٌ إنْ لَمْ يُطَابِقْ، وَالْمَرْجُوحُ وَهْمٌ. وَلَا يَرِدُ قَوْلُ الْقَائِلِ: اعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ حَادِثٌ. وَكُلُّ حَادِثٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، فَكَيْفَ يَقُولُونَ فِي الِاعْتِقَادِ لَهُ بِالْمُوجِبِ؟ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِالْمُوجِبِ مَا ذَكَرْنَا، وَاعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ لَيْسَ عَنْ بُرْهَانٍ حِسِّيٍّ، أَوْ عَقْلِيٍّ، أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا. وَأُورِدَ بِأَنَّ الشَّكَّ تَرَدُّدٌ لَا حُكْمَ فِيهِ، فَكَيْفَ يُورَدُ فِي قِسْمِ الْحُكْمِ؟ وَأَيْضًا فَالْوَهْمُ يُنَافِي الْحُكْمَ بِالشَّيْءِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّاكَّ لَهُ حُكْمَانِ مُتَسَاوِيَانِ بِمَعْنَى أَنَّهُ حَاكِمٌ بِجَوَازِ وُقُوعِ

هَذَا النَّقِيضِ بَدَلًا عَنْ النَّقِيضِ الْآخَرِ، وَبِالْعَكْسِ. وَالظَّانُّ حَاكِمٌ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ الْوَهْمِ، وَحُكْمُهُ بِالطَّرَفِ الْآخَرِ يَكُونُ مَرْجُوحًا، فَظَهَرَ أَنَّ الشَّاكَّ حَاكِمٌ، وَكَذَلِكَ الْوَاهِمُ. نَعَمْ جَعْلُهُمْ التَّقْلِيدَ الْجَازِمَ الْمُطَابِقَ لَا لِمُوجِبٍ لَا يَعُمُّ أَنْوَاعَ التَّقْلِيدِ، بَلْ يَخُصُّ الصَّحِيحَ مِنْهُ، وَجَعْلُهُمْ الْجَهْلَ هُوَ الْحُكْمَ الْجَازِمَ مِنْ غَيْرِ مُطَابَقَةٍ لَا يَعُمُّ أَنْوَاعَ الْجَهْلِ بَلْ يَخُصُّ الْمُرَكَّبَ، وَيَخْرُجُ عَنْهُ الْجَهْلُ الْبَسِيطُ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ، وَسَمَّى الدَّارِمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْوَهْمَ تَجْوِيزًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الشَّكُّ وَالظَّنُّ مُتَرَادِفَانِ. . قُلْت: وَهَذَا إنَّمَا قَالُوهُ فِي الْأَحْدَاثِ لَا مُطْلَقًا. أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ؟ . يُرِيدُونَ التَّسَاوِيَ أَوْ الْمَرْجُوحَ، وَإِلَّا فَهُوَ يَقَعُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَمَنْ قَالَ بِهَذَا يُسَمِّي الرَّاجِحَ غَالِبَ الظَّنِّ، ثُمَّ رُجِّحَ أَنَّ مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ هُوَ الشَّكُّ، وَالرَّاجِحُ ظَنٌّ، وَالزَّائِدُ فِي الرُّجْحَانِ غَالِبُ الظَّنِّ.

مسألة في العلم

[مَسْأَلَةٌ فِي الْعِلْمِ] ِ] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ سُمِّيَ عِلْمًا؛ لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ يَهْتَدِي بِهَا الْعَالِمُ إلَى مَا قَدْ جَهِلَهُ النَّاسُ، وَهُوَ كَالْعَلَمِ الْمَنْصُوبِ بِالطَّرِيقِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلْمِ الْمُنْقَسِمِ إلَى تَصَوُّرٍ خَاصٍّ أَوْ تَصْدِيقٍ خَاصٍّ، وَهُمَا اللَّذَانِ يُوجِبَانِ لِمَنْ قَامَ بِهِ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ. هَلْ يُحَدُّ أَمْ لَا يُحَدُّ؟ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ وَمِنْهُمْ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ اخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِهِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَنْطِقِيِّينَ اشْتَرَطُوا فِي الْحَدِّ الْجِنْسَ الْأَقْرَبَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ، وَاشْتَرَطُوا ذِكْرَ جَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ كَمَا يُقَالُ: عَرَضِيُّ لَوْنِ سَوَادٍ، وَالْأَوَّلُ جِنْسٌ أَقْرَبُ، وَفِي الْعِلْمِ لَا يُقَالُ: عَرَضِيُّ عِلْمٍ، فَلِهَذَا لَا يُحَدُّ، وَقَالَ الْأُصُولِيُّونَ: لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ عِبَارَةٌ دَالَّةٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ فَلَا يُحَدُّ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ اللَّبَّانِ:؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ فَلَا مَعْنَى لِحَدِّهِ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ "، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ مُجَاهِدٍ الطَّائِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ إطْلَاقَ الْحَدِّ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا

يُقَالُ: حَقِيقَةُ الْعِلْمِ كَذَا؛ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا يَخْتَلِفُ الْقَدِيمُ وَالْحَادِثُ بِخِلَافِ الْعِلْمِ. قَالَ: وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا إنَّمَا هُوَ مَجَازٌ، فَأَجْرَوْا الْحَدَّ مُجْرَى الِاسْمِ تَوَسُّعًا، وَقَالَ الرَّازِيَّ: ضَرُورِيٌّ إذْ بِهِ تُعَرَّفُ الْأَشْيَاءُ فَلَوْ عُرِّفَ الْعِلْمُ لَوَجَبَ أَنْ يُعَرَّفَ بِغَيْرِهِ لِاسْتِحَالَةِ تَعْرِيفِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَالْغَرَضُ أَنَّ غَيْرَهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ، ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هُوَ حُكْمُ الذِّهْنِ الْجَازِمِ الْمُطَابِقِ لِمُوجِبٍ كَمَا سَبَقَ فِي الضَّابِطِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ بِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ وَيُحَدُّ وَهَذَا تَنَاقُضٌ. فَإِنْ قِيلَ: الذِّهْنِيُّ تَعْرِيفُهُ تَصْدِيقِيٌّ، وَالْمُدَّعَى مَعْرِفَتُهُ تَصَوُّرِيٌّ فَلَا تَنَاقُضَ. قُلْنَا: إنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنْ التَّعْرِيفُ لِلنِّسْبَةِ فِي التَّصْدِيقِ تَعْرِيفٌ لِتَصَوُّرٍ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ لَيْسَتْ تَصْدِيقًا بَلْ مُقَرَّرَةٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: ضَرُورِيٌّ وَلَا يُحَدُّ. وَهُوَ قَضِيَّةُ نَقْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ عَنْهُ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْمَحْصُولِ " مَا ذَكَرْته أَوَّلًا، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْقُشَيْرِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ: يَعْسُرُ تَعْرِيفُهُ بِالْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ. وَإِنَّمَا يُعَرَّفُ بِالتَّقْسِيمِ وَالْمِثَالِ، ثُمَّ يَعْرِضُ فِي رَوْمِ التَّوَصُّلِ إلَيْهِ إلَى انْتِفَاءِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَضْدَادِهِ

وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ الْآمِدِيُّ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ الْمَذْكُورَةَ إنْ لَمْ تَكُنْ مُمَيِّزَةً لَهُ عَمَّا سِوَاهُ فَلَيْسَتْ مُعَرِّفَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً فَذَلِكَ رَسْمٌ. وَهَذَا إنَّمَا يَرِدُ لَوْ أَحَالَا الرَّسْمَ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ يُعَرَّفُ بِالْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ كَغَيْرِهِ، فَقَالَ الْقُدَمَاءُ: هُوَ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. . وَأُورِدَ بِأَنَّهُ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَبِمَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعِلْمِ، وَرُتْبَةُ الْمُشْتَقِّ فِي الْمَعْرِفَةِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ رُتْبَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ، وَقَدْ أُخِذَ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ فَيَلْزَمُ مَا ذَكَرْنَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ تَجَوَّزُوا فِي الْمَعْلُومِ، وَقِيلَ: إنَّهُ مَنْقُوضٌ بِعِلْمِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى مَعْرِفَةً إجْمَاعًا كَمَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ، وَبِمَعْرِفَةِ الْمُقَلِّدِ إذْ لَيْسَتْ عِلْمًا، وَبِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً وَهُوَ قَوْلُهُ: عَلَى مَا هُوَ بِهِ: إذْ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الْعِلْمُ، وَالْعِلْمُ إنَّمَا يَكُونُ مُطَابِقًا وَاحِدًا، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: مَعْرِفَةً، لَكَفَى. وَقِيلَ: ذُكِرَتْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهَا مِنْ الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ، وَلِلْإِشَارَةِ إلَى نَفْيِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِوُجُودِ عِلْمٍ وَلَا مَعْلُومَ، وَهُمْ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ عَقِيلٍ قَوْلَ بَعْضِهِمْ: إنَّهُ وُجْدَانُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْأُمُورَ بِحَقَائِقِهَا، وَهَذَا تَعْرِيفُ الْمَجْهُولِ بِمِثْلِهِ، أَوْ دُونِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ أَظْهَرُ مِنْ وُجْدَانِ النَّفْسِ أَوْ مِثْلِهِ. ثُمَّ هُوَ غَيْرُ جَامِعٍ لِخُرُوجِ عِلْمِ اللَّهِ، وَغَيْرُ مَانِعٍ لِوُجْدَانِ الْمُقَلِّدِ، وَلَيْسَ بِعِلْمٍ

وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: إثْبَاتُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْأَحْسَنُ أَنَّهُ إدْرَاكُ الْعُلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. وَالْأَوْلَى كَمَا قَالَهُ فِي التَّلْخِيصِ ": إنَّهُ مَعْرِفَةُ الْعُلُومِ فَيَشْمَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، وَلَا نَظَرَ إلَى الِاشْتِقَاقِ حَتَّى يَلْزَمَ الدَّوْرُ. قَالَ: وَلَوْ قُلْت: مَا يُعْلَمُ بِهِ الْعُلُومُ لَكَانَ أَسَدَّ وَقَدْ أَوْمَأَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ إلَى أَنَّهُ مَا أَوْجَبَ لِمَحَلِّهِ الِاتِّصَافَ بِكَوْنِهِ عَالِمًا، وَقِيلَ: تَبَيُّنُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَعْرِفَةُ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِعِلْمِ اللَّهِ: مَعْرِفَةٌ. وَلَا يُقَالُ لَهُ: عَارِفٌ، وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ " شَرْحِ تَرْتِيبِ الْمُذْهَبِ " إجْمَاعَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُسَمَّى عَارِفًا، وَدُفِعَ الِاسْتِدْلَال بِحَدِيثِ: «تَعَرَّفْ إلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْك فِي الشِّدَّةِ» بِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِهِ. وَنَقَلَ الْمُقْتَرِحُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ " عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ سُمِّيَ عِلْمُ اللَّهِ مَعْرِفَةً لِهَذَا الْحَدِيثِ، ثُمَّ ضَعَّفَهُ بِأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يُسَقْ لِبَيَانِ الْعِلْمِ، وَلَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْمَعْرِفَةِ هَاهُنَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ ثَمَرَةَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْإِقْبَالُ فِي الْإِلْطَافِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى الْبَارِي عَارِفًا. انْتَهَى. وَقِيلَ الْمُرَادُ: الْمُجَازَاةُ. وَخُرِّجَ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ الْفَارِضِ: قَلْبِي يُحَدِّثُنِي بِأَنَّك مُتْلِفِي ... رُوحِي فِدَاك عَرَفْت أَمْ لَمْ تَعْرِفْ.

مسألة تفاوت العلوم

[مَسْأَلَةٌ تَفَاوُتُ الْعُلُومِ] هَلْ تَتَفَاوَتُ الْعُلُومُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْبُرْهَانِ ": وَأَئِمَّتُنَا عَلَى التَّفَاوُتِ، وَقَرَّرَهُ الْمَازِرِيُّ. وَقَالَ الْأُرْمَوِيُّ فِي التَّحْصِيلِ ": إنَّهُ الْحَقُّ، وَقَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيُّ، الْمُحَقِّقُونَ عَلَى عَدَمِ تَفَاوُتِهَا، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بِحَسَبِ الْمُتَعَلِّقَاتِ، وَاخْتَارَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي كِتَابِ التَّرْجِيحِ "، وَالْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ "، وَالْأَنْبَارِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَنَقَلَ فِي الْبُرْهَانِ " فِي التَّرْجِيحِ عَنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْمَعْقُولَاتِ لَا تَرْجِيحَ فِيهَا. قُلْت: بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعَارُضُهَا بِخِلَافِ تَفَاوُتِهَا فِي رُتْبَتِهَا فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ عَدَمَ التَّفَاوُتِ فِي نَفْسِ الْعِلْمِ، بَلْ فِي طَرِيقِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَثْرَةِ الْمُقَدِّمَاتِ وَقِلَّتِهَا وَوُضُوحِهَا وَخَفَائِهَا

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ وَالْأَفْضَلِ الْخُونَجِيِّ. وَاخْتَارَ الشَّيْخُ عَدَمَ التَّفَاوُتِ، وَعَكَسَ الْخُونَجِيُّ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلِأَجْلِ التَّفَاوُتِ قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: رُؤْيَةُ اللَّهِ يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ عِلْمٍ بِهِ هُوَ أَجْلَى مِنْ مُطْلَقِ الْعِلْمِ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ إدْرَاكِ الْحِسِّ إلَى الْمُحَسِّ بِهِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ سَمَاعُ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ. قَالَ: وَهَذِهِ عَقَائِدُ لَا تَتَأَتَّى إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّفَاوُتِ. اهـ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ لَا تَتَفَاوَتُ. قَالَ: وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ الدَّلَائِلِ أَوْضَحُ مِنْ بَعْضٍ كَالْبَصَرِ الْمُدْرِكِ لِمَا قَرُبَ إلَيْهِ إدْرَاكًا بِخِلَافِ مَا بَعُدَ مِنْهُ عَنْ الْمَسَافَةِ، وَإِنْ كَانَ الْإِدْرَاكُ مِنْ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ، فَمِنْهُ مَا يَقَعُ جَلِيًّا، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ مَعَ التَّحْدِيقِ وَالتَّأَمُّلِ، وَكَذَلِكَ مَنْزِلَةُ الْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ تَفَاوُتُهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: امْتَحَنَ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ وُجُوهِ الْعِلْمِ، فَجَعَلَ مِنْهُ الْخَفِيَّ وَمِنْهُ الْجَلِيَّ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا جَلِيَّةً لَارْتَفَعَ التَّنَازُعُ وَزَالَ الِاخْتِلَافُ، وَمَا اُحْتِيجَ إلَى تَدَبُّرٍ وَفِكْرٍ، وَلَبَطَلَ الِابْتِلَاءُ، وَلَمْ يَقَعْ الِامْتِحَانُ، وَلَا وُجِدَ شَكٌّ وَلَا ظَنٌّ وَلَا جَهْلٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ حِينَئِذٍ يَكُونُ طَبَقًا. وَلَوْ كَانَتْ كُلُّهَا خَفِيَّةً لَمْ يُتَوَصَّلْ إلَى مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْهَا، إذْ الْخَفِيُّ لَا يُعْلَمُ بِنَفْسِهِ، وَإِلَّا لَكَانَ جَلِيًّا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَفِيٍّ وَلَا جَلِيٍّ ثَبَتَ أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ جَلِيٌّ، وَمِنْهُ مَا هُوَ خَفِيٌّ. اهـ

فَحَصَلَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا: التَّفَاوُتُ، وَعَلَى هَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَحَقِّ الْيَقِينِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ إنَّ مُوسَى لَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ لَمَّا سَمِعَ عَنْ قَوْمِهِ وَأَلْقَاهَا حِينَ رَآهُمْ» . وَقَالَ أَئِمَّةُ الْحَقِيقَةِ: الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إنْ كَانَ بِالْأَدِلَّةِ فَهُوَ عِلْمُ الْيَقِينِ، فَإِذَا قَوِيَ فَهُوَ عَيْنُ الْيَقِينِ، فَإِذَا فَنِيَ فِيهِ فَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ. وَيُقَالُ: عِلْمُ الْيَقِينِ كَالنَّاظِرِ إلَى الْبَحْرِ، وَعَيْنُ الْيَقِينِ كَرَاكِبِ الْبَحْرِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ كَمَنْ غَرِقَ فِي الْبَحْرِ. اهـ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ التَّفَاوُتِ أَنَّهُ يَكُونُ عِلْمُ الْأُمَمِ مُمَاثِلًا لِعُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عِلْمَهُمْ مُفَاوِتٌ لِعِلْمِنَا وَكَذَلِكَ رُجْحَانُ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَعْضِهِمْ فِي الْمَعَارِفِ. وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اطَّلَعَ عَلَى صِفَةٍ لِلْبَارِي تَعَالَى لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ بِمَعْلُومٍ آخَرَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَفَاوُتًا فِي الْعِلْمِ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ رَبُّهُ بِوُجُوهِ أَدِلَّةٍ لَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَى جَمِيعِهَا، فَيَرْجِعُ التَّفَاوُتُ إلَى أَعْدَادِ الْمَعْلُومِ، لَا إلَى نَفْسِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا رُجْحَانُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعَارِفِ وَتَوَالِيهَا إذَا حَصَلَتْ بِلَا فَتْرَةٍ، وَلَا غَفْلَةٍ

ثُمَّ إذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَفَاوَتَ الْعَارِفُونَ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الْغَفْلَةِ وَكَثْرَتِهَا، وَقِلَّةِ الْمَعَارِفِ وَكَثْرَتِهَا، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى كَثْرَةِ الْمَعْلُومَاتِ لَا إلَى التَّفَاوُتِ فِي الْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِالْمَعْلُومِ الْوَاحِدِ. وَلَوْ كَانَتْ الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا لَقَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ كَمَا أَعْلَمُ فَهَذِهِ عِبَارَةُ التَّفَاوُتِ فِي نَفْسِ الْعِلْمِ، وَقَالَ أَيْضًا فِي التَّفَاوُتِ بِاعْتِبَارِ اعْتِرَاضِ الْغَفَلَاتِ قِلَّةً وَكَثْرَةً: «لَوْ تَكُونُونَ كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ» مُشِيرًا إلَى أَنَّ الْغَفْلَةَ تَخْتَلِسُهُمْ فِي غَيْبَتِهِمْ عَنْهُ وَتَتَحَامَاهُمْ بِحَضْرَتِهِ تِلْكَ الْحَضْرَةُ الْمُقَدَّسَةُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَى صَاحِبِهَا وَسَلَامُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا تَعَذَّرَ التَّفَاوُتُ فِي ذَوَاتِ الْعُلُومِ، فَلِمَ لَا أُضِيفَ التَّفَاوُتُ إلَى طُرُقِهَا؟ فَمِنْهَا الْبَدِيهِيُّ، وَمِنْهَا النَّظَرِيُّ. قُلْنَا: إذَا حُقِّقَتْ الْحَقَائِقُ فَكُلُّ عِلْمٍ نَظَرِيٍّ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمٍ بِمُقَدِّمَتَيْنِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. فَإِنْ قُلْت: فَنَرَى بَعْضَ الْمَعَارِفِ يَصْعُبُ وَبَعْضُهَا يَسْهُلُ. قُلْت: ذَلِكَ التَّفَاوُتُ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ نَشَأَ عَنْ كَثْرَةِ الْمُقَدِّمَاتِ لِلْعِلْمِ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْلُومَاتٌ تَرَتَّبَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلِكُلِّ مَعْلُومٍ مُقَدِّمَتَانِ، فَمَا جَاءَ التَّفَاوُتُ إلَّا مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْمُحَصَّلِ مِنْ الْمَعَارِفِ، وَقِلَّتِهِ لَا مِنْ بُعْدِ الطَّرِيقِ وَقُرْبِهَا، وَالْمَعْلُومُ وَاحِدٌ.

مسألة العلم إما قديم وإما حادث

[مَسْأَلَةٌ الْعِلْمُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ] ٌ] . الْعِلْمُ إمَّا قَدِيمٌ فَلَا يُوصَفُ بِنَظَرٍ وَلَا ضَرُورَةٍ لِتَعَالِي اللَّهِ عَنْ الضَّرُورَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إلَى النَّظَرِ، وَهُوَ وَاحِدٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْلُومَاتِ عَلَى حَقَائِقِهَا تَعَلُّقًا سَابِقًا لَهُ حُكْمُ الْإِحَاطَةِ بِمَعْلُومَاتِهِ، لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا، إذْ لَيْسَ يَتَوَقَّفُ عَلَى ارْتِسَامِ صُوَرِهَا وَلَا يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِهَا وَلَا يُوصَفُ بِالْكَسْبِ وَلَا بِالضَّرُورَةِ، بَلْ عِلْمٌ حُضُورِيٌّ وَوَاجِبِيٌّ ذَاتِيٌّ. قَالَ صَاحِبُ التَّلْوِيحَاتِ " كُنْت مُتَفَكِّرًا فِي الْعِلْمِ الْقَدِيمِ، وَكَيْفَ صُورَةُ تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ؟ . فَأَخَذَتْنِي سِنَةٌ مِنْ نَوْمٍ، فَخَطَرَ لِي شَيْخٌ لَهُ أُبَّهَةٌ جَمِيلَةٌ، فَعَرَضْت عَلَيْهِ مَا أَنَا فِيهِ مُفَكِّرًا. فَقَالَ لِي: أَتَعْقِلُ ذَاتَك؟ فَقُلْت لَهُ نَعَمْ، فَقَالَ: تَعَقُّلُك بِاكْتِسَابِ صُورَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ ذَاتِك؟ فَقُلْت لَهُ: لَا، فَقَالَ هَذَا حَلُّ مَا أَنْتَ فِيهِ مُفَكِّرٌ، ثُمَّ قَالَ لِي: هَذَا التَّعَقُّلُ الْوَاجِبِيُّ الْحُضُورِيُّ الذَّاتِيُّ، ثُمَّ تَرَكَنِي وَانْصَرَفَ. فَيَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى تِلْكَ السِّنَةِ. [" الْعِلْمُ الْحَادِثُ "] وَإِمَّا حَادِثٌ، وَيَنْقَسِمُ إلَى ضَرُورِيٍّ وَإِلَى نَظَرِيٍّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَفَى مُجَرَّدُ تَصَوُّرِ طَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ فِي الْجَزْمِ بِهِ فَضَرُورِيٌّ، وَإِلَّا فَنَظَرِيٌّ، وَلَا خِلَافَ كَمَا قَالَهُ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ " فِي انْقِسَامِ التَّصْدِيقِ إلَيْهِمَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي التَّصَوُّرِ،

فَقِيلَ: لَيْسَ مِنْهُ كَسْبِيٌّ، بَلْ جَمِيعُ التَّصَوُّرَاتِ لَا تُكْتَسَبُ بِالنَّظَرِ. وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فِي الْمُحَصَّلِ "، فَقَالَ: إنَّ التَّصَوُّرَاتِ كُلَّهَا بَدِيهِيَّةٌ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ يَنْقَسِمُ إلَى الْكَسْبِيِّ وَالْبَدِيهِيِّ. قِيلَ: وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ بُطْلَانُهُ؛ لِأَنَّهُ يَكَادُ يَكُونُ مِنْ قِسْمَيْ الضَّرُورِيِّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَدِيهِيَّةً لَمَا وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا طَالِبَةً لِتَصَوُّرِ الْمَلَكِ وَالْجِنِّ، وَلَمَا طَلَبَتْ أَيْضًا حُدُوثَ الْعَالَمِ، أَوْ إمْكَانَهُ، وَلَمَا اخْتَلَفَتْ الْعُقَلَاءُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ، لَا جَرَمَ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَافَقَ الْجُمْهُورَ. فَالتَّصَوُّرُ الْبَدِيهِيُّ كَمَعْرِفَةِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَالنَّظَرِيُّ كَمَعْرِفَةِ الْمَلَكِ وَالرُّوحِ، وَالتَّصْدِيقُ الْبَدِيهِيُّ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَالنَّظَرِيُّ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ ": قِيلَ: الضَّرُورِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَكٌّ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ الَّذِي لَا يَقَعُ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَقْلِيِّ مِنْهُ أَمَّا الْحِسِّيُّ فَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمَحْسُوسَاتِ. وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ الْحِسِّيُّ سَمْعًا فَهُوَ الْمُتَوَاتِرَاتُ. وَإِلَّا فَالتَّجْرِيبَاتُ وَالْحَدْسِيَّاتُ. وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالتَّجْرِبَةُ مَرَّاتٍ. وَصَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ إلَى أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ جَلِيَّةٌ، وَأَنَّ النَّظَرَ هُوَ التَّرَدُّدُ فِي أَنْحَاءِ الضَّرُورِيَّاتِ غَيْرَ أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ

لَمَّا انْقَسَمَتْ إلَى مَهْجُومٍ عَلَيْهِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، وَإِلَى مَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى فِكْرٍ سَمَّى أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ ضَرُورِيًّا وَالْآخَرَ نَظَرِيًّا. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ ثُمَّ الضَّرُورِيُّ يَقَعُ مَقْدُورًا لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقًا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ، وَأَمَّا النَّظَرِيُّ فَعِنْدَ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ مَقْدُورٌ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ. وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أَنَّهَا مَقْدُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اكْتِسَابٌ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي كُنَّا سَمِعْنَاهُ قَدِيمًا مِنْ مَذْهَبِ الْكَرَّامِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَمَّمَ نَظَرَهُ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ شَاءَ أَوْ أَبَى، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ مُكْتَسَبًا لَهُ لَتَوَقَّفَ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ ": ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ، وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْعُلُومَ الْحَادِثَةَ بِأَسْرِهَا ضَرُورِيَّةٌ. وَإِنَّمَا الْمَقْدُورُ طَلَبُهَا بِالنَّظَرِ الْمُفْضِي إلَيْهَا، فَإِذَا تَمَّ النَّظَرُ وَانْدَفَعَ عَنْ مَرَاسِمِهِ أَضْدَادُ الْعِلْمِ بِالْمَنْظُورِ فِيهِ حَصَلَ الْعِلْمُ لَا مَحَالَةَ مِنْ غَيْرِ إيثَارٍ، وَدَرْكُ اقْتِدَارِهِ، وَهُوَ بِالْقُدْرَةِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعُلُومَ الَّتِي تَعْقُبُ النَّظَرَ تَقَعُ وُقُوعَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَمَا عَدَاهَا مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَقْدُورَةِ، فَقَدْ ظَنَّ أَمْرًا بَعِيدًا. ثُمَّ إنَّ الْأُسْتَاذَ انْفَرَدَ بِقَوْلٍ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَجُوزُ فَرْضُ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ نَظَرٍ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْعِلْمُ فِي حَقِّ مَنْ اقْتَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْظُرْ كَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُوجِبِ إيثَارِ الْمُتَّصِفِ بِهَا، وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ سَدِيدٍ. وَتَحَصَّلَ لَنَا مَذَاهِبُ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ تَصَوُّرُهَا وَتَصْدِيقُهَا، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا بِإِنْكَارِ النَّظَرِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ النَّظَرَ إذَا تَمَّ وَقَعَ الْعِلْمُ عَقِبَهُ ضَرُورَةً لَا مَقْدُورًا. الثَّانِي: كُلُّهَا كَسْبِيَّةٌ. الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، بَعْضُهَا ضَرُورِيٌّ، وَبَعْضُهَا كَسْبِيٌّ. الرَّابِعُ: الْمُتَعَلِّقُ بِذَاتِ اللَّهِ وَبِالِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ ضَرُورِيٌّ، وَغَيْرُهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَسْبِيًّا، وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ مُثَابٌ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَفِعْلِهِ. الْخَامِسُ: التَّصَوُّرَاتُ ضَرُورِيَّةٌ، وَالتَّصْدِيقَاتُ مُنْقَسِمَةٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ فِي الْمُحَصَّلِ "، وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا أُورِدَ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَعَلَّهُ يَقُولُ: إنَّ الْمَعْرِفَةَ ضَرُورِيَّةٌ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَاتَّفَقَتْ الْأَشَاعِرَةُ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ نَظَرِيًّا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ ضَرُورِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا خَلْقُ الْمَقْدُورِ بِدُونِ الْقُدْرَةِ، وَلَا امْتِنَاعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ عِنْدَنَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مِنْ طَرِيقِ الْإِمْكَانِ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْوُجُودِ فَقَدْ أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا الْيَوْمَ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا مُكْتَسَبَةٌ لَا تَقَعُ إلَّا عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَإِنَّمَا تَقَعُ فِي الْآخِرَةِ ضَرُورِيَّةً

وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَقَعُ مَقْدُورًا مُكْتَسَبًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ؟ . فَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الضَّرُورِيُّ نَظَرِيًّا؟ . فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ وَالْمَنْعُ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ لَا يَتِمُّ الْعَقْلُ إلَّا بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ نَظَرِيًّا، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ يَجُوزُ. وَطُرُقُ الْعِلْمِ عَلَى الْمَشْهُورِ مُنْحَصِرَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ: عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَحِسٍّ، وَعَنَوْا بِالْحِسِّ عُلُومَ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَاضْطَرَبُوا فِي عُلُومِ الْإِلْهَامِ وَالتَّوَسُّمِ وَالْمُحَادَثَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَعَلَّهُمْ عَنَوْا بِالْإِلْهَامِ أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: يَنْحَصِرُ فِي الْحِسِّ وَالِاسْتِدْلَالِ. قَالَ: وَالسَّمْعُ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ عُلُومِ الْحِسِّ؛ لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ مَحْسُوسٌ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ صَوَابِهِ وَخَطَئِهِ تُدْرَكُ بِالِاسْتِدْلَالِ. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَوَائِلِ حَصْرُهَا فِي الْحِسِّ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهُوَ غَلَطٌ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ بَلْ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْمَعْلُومَ مَا يَتَشَكَّلُ فِي الْحَوَاسِّ، وَمَا لَا يَتَشَكَّلُ، وَيُفْضِي إلَيْهِ نَظَرُ الْعَقْلِ، فَهُوَ مَعْقُولٌ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَعْلُومِ وَالْمَعْقُولِ، فَتَوَهَّمَ مَنْ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ: لَا مَعْلُومَ إلَّا الْمَحْسُوسُ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ إلَّا بِالْحِسِّ، وَتُوُهِّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ النَّظَرِيَّاتِ مَعْقُولَاتٌ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ إلَّا بِالنَّظَرِ

وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ فِي إدْرَاكِ الْحَوَاسِّ هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْعُلُومِ؟ وَآخِرُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَأَطْلَقُوا الْخِلَافَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هُنَاكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: إدْرَاكُ الْحِسِّ الْمَحْسُوسِ. وَالثَّانِي: الْعِلْمُ بِالْمَحْسُوسِ. وَالثَّالِثُ: الْعِلْمُ بِعُلُومٍ أُخْرَى تَنْشَأُ عَنْ الْمَحْسُوسِ. وَالرَّابِعُ: لَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ عِلْمٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَوَّلِ قَطْعًا. وَهَلْ الثَّانِي يُخَالِفُ الْأَوَّلَ أَوْ هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ؟ هَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْخِلَافِ، فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمُ الْإِسْكَافُ إنَّهُ لَفْظِيٌّ، وَإِنَّ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُدْرَكَ وَالْمَعْلُومَ وَاحِدٌ، وَالْإِدْرَاكُ وَالْعِلْمُ بِالْمُدْرَكِ مُخْتَلِفَانِ. وَقَالَ تِلْمِيذُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ مَعْنَوِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَحْوَالِ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ وَالْحَادِثَ يَجْمَعُهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مَعَ الْقَطْعِ بِاخْتِلَافِهِمَا، وَحَكَى الْقَرَافِيُّ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْإِدْرَاكَ لِلْحَوَاسِّ أَوْ لِلنَّفْسِ بِوَاسِطَةِ الْحَوَاسِّ؟ . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ: الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ وَنَرْتَضِيهِ أَنَّ جُمْلَةَ الطُّرُقِ الَّتِي يُدْرَكُ بِهَا الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ وَالِاسْتِدْلَالِيَّة تَنْحَصِرُ فِي أَدِلَّةٍ خَمْسَةٍ: الْعُقُولِ، وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ،

الرؤيا الصالحة

وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ. قَالَ: وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يَطْلُبُهُ الْمُنَجِّمُونَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ بِذَهَابِ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَنَجْمِ كَذَا. [الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ] [الرُّؤْيَا] . وَأَمَّا الرُّؤْيَا، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» ، وَهَذِهِ السِّتَّةُ وَالْأَرْبَعُونَ كُلُّهَا طُرُقُ عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ لَهُمْ طُرُقًا فِي الْعُلُومِ لَا نَصِلُ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا بِالْخَبَرِ. قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ كَلَامِ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ وَالْوَحْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالرُّؤْيَا مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ. قَالَ: وَقَدْ اجْتَهَدْت فِي تَحْصِيلِ السِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ مَا هِيَ؟ فَبَلَغْت مِنْهَا إلَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَقَدْ ذَكَرْتهَا فِي كِتَابِ الْوَصْفِ وَالصِّفَةِ " وَأَنَا فِي طَلَبِ الْبَاقِي. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالرُّؤْيَا شَيْءٌ حَتَّى لَوْ رَأَى وَاحِدٌ فِي مَنَامِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِحُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ. انْتَهَى. قُلْت: وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ " أَدَبِ الْجَدَلِ " فِي ذَلِكَ وَجْهًا وَالْأَصَحُّ: الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَثْبُتُ بِالْمَنَامِ إلَّا فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بِتَقْرِيرِهِمْ، وَعَنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ إنْ كَانَ أَمَرَهُ بِأَمْرٍ ثَبَتَ عَنْهُ

فصل في مراتب العلوم

فِي الْيَقِظَةِ خِلَافُهُ كَالْأَمْرِ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ لَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِي الْيَقِظَةِ خِلَافُهُ اُسْتُحِبَّ الْعَمَلُ بِهِ. قُلْت: وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً بِأَنَّهَا وُطِئَتْ فِي النَّوْمِ، وَلَا عَلَيْهِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى فِي النَّوْمِ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ ": أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلٍ إنَّهُ وَطِئَ أُمَّهُ فِي النَّوْمِ، فَحَمَلَهُ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: أَقِمْهُ فِي الشَّمْسِ، وَاضْرِبْ ظِلَّهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ. [فَصْلٌ فِي مَرَاتِبِ الْعُلُومِ] قَالَ أَئِمَّتُنَا: مَرَاتِبُ الْعُلُومِ عَشَرَةٌ: الْأُولَى: عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ، وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ، وَلِذَاتِهِ. الثَّانِيَةُ: الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَانْحَطَّتْ هَذِهِ عَنْ الْأُولَى لِلْحَاجَةِ فِيهَا إلَى الْفِكْرِ فِي ذَوَاتِ الْمُتَضَادَّاتِ وَتَضَادِّهَا. الثَّالِثَةُ: الْعِلْمُ بِالْمُحَسَّاتِ وَانْحَطَّتْ عَنْ الثَّانِيَةِ، لِتَطَرُّقِ الْآفَاتِ إلَى الْحَوَاسِّ. الرَّابِعَةُ: الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِبَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَانْحَطَّتْ عَمَّا قَبْلَهَا

لِإِمْكَانِ. التَّوَاطُؤِ عَلَى الْمُخْبِرِينَ، وَأَيْضًا لَا بُدَّ مِنْ فِكْرٍ. وَلِهَذَا قَالَ الْكَعْبِيُّ: إنَّ الْعِلْمَ عَقِبَهُ نَظَرِيٌّ. الْخَامِسَةُ: الْعِلْمُ بِالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ، وَانْحَطَّتْ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمُعَانَاةِ وَالْمَقَاسَاتِ وَتَوَقُّعِ الْغَلَطَاتِ. السَّادِسَةُ: الْعِلْمُ الْمُسْتَنِدُ إلَى قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، كَخَجَلِ الْخَجِلِ، وَكَوَجَلِ الْوَجِلِ، وَغَضَبِ الْغَضْبَانِ، وَانْحَطَّتْ لِتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَحَالِّ الْأَحْوَالِ. السَّابِعَةُ: الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَانْحَطَّتْ؛ لِأَنَّ النَّظَرِيَّ مُنْحَطٌّ عَنْ الضَّرُورِيِّ. الثَّامِنَةُ: الْعِلْمُ بِجَوَازِ النُّبُوَّاتِ، وَجَوَازِ وُرُودِ الشَّرَائِعِ. التَّاسِعَةُ: الْعِلْمُ بِالْمُعْجِزَاتِ إذَا وَقَعَتْ. الْعَاشِرَةُ: الْعِلْمُ بِوُقُوعِ السَّمْعِيَّاتِ وَمُسْتَنَدُهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ يَنْضَبِطُ بِالضَّابِطِ سَبَبُهُ الذِّهْنُ قَبْلَهُ، وَالْعِلْمُ الْعَادِيُّ يُخَلِّي الْعَكْسَ لَا يَنْضَبِطُ سَبَبُهُ حَتَّى يَحْصُلَ هُوَ فَإِذَا حَصَلَ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَهُ قَدْ كَمُلَ، وَلَوْ رُوجِعْنَا فِي أَوَّلِ زَمَنِ كَمَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَنَا شُعُورٌ بِهِ حَالَةَ الْعِلْمِ بِالْمُتَوَاتِرَاتِ، فَإِنَّ السَّامِعَ لَا يَزَالُ يَتَرَقَّى فِي الظُّنُونِ تَرَقِّيًا خَفِيًّا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى عَدَدٍ حَصَلَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَيُّ عَدَدٍ حَصَلَ

لَك عِنْدَهُ الْعِلْمُ؟ لَمْ يَفْطِنْ لِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ الْعَادِيَّةُ بِجُمْلَتِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْعُلُومِ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ وَلَا تَشْعُرُ النَّفْسُ بِهِ أَوَّلَ قِيَامِهِ، وَهُوَ مِنْ الْعَجَبِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ تَتَفَاوَتُ كَمَا بَيَّنَّا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَدِيهِيَّاتِ وَالْحِسِّيَّاتِ رَاجِحَةٌ عَلَى النَّظَرِيَّاتِ، وَأَمَّا أَنَّ الْبَدِيهِيَّاتِ تَتَرَجَّحُ عَلَى الْحِسِّيَّاتِ أَوْ الْعَكْسُ، فَمَحَلُّ نَظَرٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَرَجَّحَ بَعْضُ الْبَدِيهِيَّاتِ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَا الضَّرُورِيَّاتُ وَالنَّظَرِيَّاتُ، فَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُقَدِّمَاتُهُ أَجْلَى وَأَقَلَّ كَانَ رَاجِحًا عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ تَفْرِقَةً بَيْنَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَأَنَّ الْكُلَّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ، وَبَيْنَ عِلْمِهِ بِثُبُوتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَالْخَلَاءِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَسَائِلِ النَّظَرِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقِينِيًّا عَلَى اعْتِقَادِهِ. لَا يُقَالُ: إنَّهُ وَإِنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ نَظَرِيٍّ، فَلَمْ يَحْصُلْ الْجَزْمُ بِشَيْءٍ مِنْهَا. الثَّالِثُ: قَالَ الْإِمَامُ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ مِنْ الْبُرْهَانِ ": الْعُلُومُ الْحَاصِلَةُ عَنْ حُكْمِ الْعَادَاتِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَلَا تَنْضَبِطُ انْضِبَاطَ الْمَحْدُودَاتِ، وَهَذَا كَالْعِلْمِ بِخَجَلِ الْخَجِلِ، وَوَجِلِ الْوَجِلِ، وَغَضَبِ الْغَضْبَانِ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْقَرَائِنُ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا عُلُومٌ بَدِيهِيَّةٌ لَا يَأْبَاهَا إلَّا جَاحِدٌ، وَلَوْ رَامَ وَاجِدُهَا ضَبْطَهَا لَمْ يَقْدِرْ

مسألة الاختلاف في المحسات

وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ شَاهَدَ رَضِيعًا قَدْ الْتَقَمَ ثَدْيَ امْرَأَةٍ، وَرَأَى مِنْهُ آثَارَ الِامْتِصَاصِ، وَحَرَكَةَ الْغَلْصَمَةِ لَمْ يَسْتَرِبْ فِي وُصُولِ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ، وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ شَهَادَةً تَامَّةً بِالرَّضَاعِ. وَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ بِالرَّضَاعِ، وَلَكِنْ شَهِدَ بِالْقَرَائِنِ الْحَامِلَةِ لَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَمْ يَثْبُتْ الرَّضَاعُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَسْمَعُهُ الْقَاضِي وَصْفًا لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْعِيَانِ، وَاَلَّذِي يُفْضِي بِالْعَايِنِ إلَى دَرْكِ الْيَقِينِ يَدِقُّ مُدْرَكُهُ عَنْ عِبَارَةِ الْوَصَّافِينَ، وَلَوْ قِيلَ لِأَذْكَى خَلْقِ اللَّهِ قَرِيحَةً وَأَحَدِّهِمْ ذِهْنًا: افْصِلْ بَيْنَ حُمْرَةِ وَجْنَةِ الْغَضْبَانِ وَبَيْنَ حُمْرَةِ الْمَوْعُوكِ لَمْ تُسَاعِدْهُ عِبَارَةٌ، فَإِنَّ الْقَرَائِنَ لَا يَبْلُغُهَا غَايَاتُ الْعِبَارَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَتَوَقَّفْ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ عَلَى عَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَلَكِنْ إذَا ثَبَتَ قَرَائِنُ الصِّدْقِ ثَبَتَ الْعِلْمُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُحِسَّاتِ] ِ] . اخْتَلَفُوا فِي الْمُحِسَّاتِ، فَقِيلَ: كُلُّهَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مُقَدَّمَانِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الْبَصَرَ عَلَى السَّمْعِ، لِتَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ السَّمْعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْأَشِعَّةِ الْمُتَعَرِّضَةِ لِلتَّعْرِيجَاتِ وَالْحَرَكَاتِ؛ وَلِأَنَّ السَّمْعَ لَا يَخْتَصُّ دَرْكُهُ بِجِهَةٍ بِخِلَافِ الْبَصَرِ، وَاخْتَارَ ابْنُ قُتَيْبَةَ هَذَا، وَقَالَ: قَدَّمَ اللَّهُ السَّمْعَ عَلَى الْبَصَرِ، فَقَالَ:

مسألة تعلق العلم بأكثر من معلوم واحد

{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} [يونس: 42] ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ أَصَمَّ، وَمِنْ الْأَنْبِيَاءِ عُمْيَانًا. وَقَالَ أَئِمَّتُنَا: وَهَذَا فُضُولٌ مِنْهُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فَقَدَّمَ أَبُو الْحَسَنِ مَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ عَلَى مَا يُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعَقْلِ، وَقَدَّمَ الْقَلَانِسِيُّ مَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ عَلَى مَا يُعْلَمُ بِالْمُحِسَّاتِ؛ لِأَنَّ تَعَرُّضَ الْحَوَاسِّ لِلْآفَاتِ أَكْثَرُ مِنْ تَعَرُّضِ الْعَقْلِ لَهَا. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَكُلُّ هَذَا تَكْثِيرُ الْجَوْزِ بِالْعَفِنِ. وَقَدْ اخْتَرْنَا أَنَّ الْعُلُومَ ضَرُورِيَّةٌ لَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ. نَعَمْ قَدْ يَطُولُ الطَّرِيقُ وَيَقْصُرُ فَيَتَرَتَّبُ الْأَمْرُ لِذَلِكَ، وَأَمَّا الْعُلُومُ فِي أَنْفُسِهَا فَلَا تَرَتُّبَ فِيهَا. [مَسْأَلَةٌ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَعْلُومٍ وَاحِدٍ] مَنَعَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَعْلُومٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ قَيَّدَهُ بِمَا لَا يَتَلَازَمُ، وَأَجَازَ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ الْحَادِثِ بِمَعْلُومَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ. فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُعْلَمَ أَحَدُهُمَا وَيُجْهَلَ الْآخَرُ، وَهِيَ مَعْلُومَاتُ النَّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ، كَالْعِلْمِ " بِفَوْقٍ "، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْلَمَ " فَوْقَ " مَنْ يَجْهَلُ " تَحْتَ " بِخِلَافِ مَا لَا يَتَلَازَمُ، كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَلِأَنَّهُ مِنْ اتِّحَادِ الْعُلُومِ، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُ أَنْ يُعْلَمَ

مسألة هل يقارن العلم بالجملة الجهل بالتفصيل

ضِدَّانِ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ، وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى جَمْعِ النَّقِيضَيْنِ، وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ الْبَاهِلِيُّ أُسْتَاذُ الْقَاضِي فَإِنَّهُ اخْتَارَ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِمَعْلُومَاتٍ، وَمَنَعَهُ فِي النَّظَرِيَّاتِ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يُقَارِنُ الْعِلْمُ بِالْجُمْلَةِ الْجَهْلَ بِالتَّفْصِيلِ] يَجُوزُ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ يُقَارِنُ الْعِلْمُ بِالْجُمْلَةِ الْجَهْلَ بِالتَّفْصِيلِ؟ فَرَآهُ الْقَاضِي مُقَارِنًا لَهُ، وَلَمْ يَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ كَوْنَ هَذَا الْعَرْضِ عَرْضًا، وَنَجْهَلُ كَوْنَهُ سَوَادًا. وَتَارَةً يُعْلَمُ كَوْنُهُ عَرَضًا وَنَعْلَمُ كَوْنَهُ سَوَادًا، فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْعِلْمِ بِالْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ الْجَهْلُ بِالْوَصْفِ الْحَاضِرِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ مَا أَطْلَقَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَسْتَرْسِلُ عِلْمُهُ عَلَى مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ بِتَفَاصِيلِ آحَادِهِ. قَالَ: وَدِدْت لَوْ مَحَوْته بِدَمِي، وَفِي نُسْخَةٍ: بِمَاءِ عَيْنِي، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ. وَظَنُّوا أَنَّ الْإِمَامَ يُوَافِقُ الْفَلَاسِفَةَ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَهَذَا سُوءُ فَهْمٍ عَنْ الرَّجُلِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ وَيَتَحَاشَى عَنْهُ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْعِلْمَ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يَتَنَاهَى تَعَلُّقًا إجْمَالِيًّا أَوْ تَفْصِيلِيًّا؟ . فَهُوَ يَقُولُ: كَمَا أَنَّ مَا لَا يَتَنَاهَى لَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ، كَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي الْعِلْمِ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَبْقَى مِنْ الْمَعْلُومَاتِ شَيْءٌ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فَقَدْ تَنَاهَى، وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ. وَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَمَا

حَصَلَتْ الْإِحَاطَةُ. وَهَذَا الَّذِي أَرَادَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَهُوَ شَنَّعَ عَلَيْهِ فِيهِ أَيْضًا لَكِنَّهُ دُونَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ مُنْكِرَ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ يَقُولُ: لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْهَا أَصْلًا لَا مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ وَلَا مَا لَمْ يَدْخُلْ، وَأَمَّا هَذَا الَّذِي أَرَادَهُ الْإِمَامُ فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ؛ لِعَدَمِ تَنَاهِيهِ. أَمَّا مَا دَخَلَ الْوُجُودَ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ جَهْمٍ وَهِشَامٍ غَيْرَ أَنَّهُمَا يَقُولَانِ بِعُلُومٍ حَادِثَةٍ، وَالْإِمَامُ يَقُولُ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ قَدِيمٍ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْبُرْهَانِ " أَيْضًا بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَقِّ، فَقَالَ فِي النَّسْخِ فِي الْكَلَامِ مَعَ الْيَهُودِ: وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ النَّسْخَ يَمْتَنِعُ مِنْ جِهَةِ إفْضَائِهِ إلَى الْبَدَاءِ، وَالْقَدِيمُ مُتَعَالٍ عَنْهُ فَلَا حَقِيقَةَ لِهَذَا، فَإِنَّ الْبَدَاءَ إذَا أُرِيدَ بِهِ تَبْيِينُ مَا لَمْ يَكُنْ مُبَيَّنًا فِي عِلْمِهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَرْطِ النَّسْخِ، فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا فِي أَزَلِهِ بِتَفَاصِيلِ مَا لَمْ يَقَعْ فِيمَا لَا يَزَالُ. انْتَهَى. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ أَخْذٌ بِيَدِهِ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الَّذِي قَالَهُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَحَكَى الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَنْ وَالِدِهِ الْإِمَامِ ضِيَاءِ الدِّينِ عَنْ

مسألة هل يوجد علم لا معلوم له

أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لِلَّهِ تَعَالَى مَعْلُومَاتٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَلَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ مَعْلُومَاتٌ أُخْرَى لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا أَوْضَحْت ذَلِكَ لِبَيَانِ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا مُتَعَلَّقَ فِيهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ جَلِيلِ مَا يُسْتَفَادُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يُوجَدُ عِلْمٌ لَا مَعْلُومَ لَهُ] ُ؟ . لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إلَّا أَبُو هَاشِمٍ فَإِنَّهُ قَالَ: الْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ عِلْمٌ بِلَا مَعْلُومٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ. [مَسْأَلَةٌ طُرُقُ مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ] ِ] قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: يُعْرَفُ الشَّيْءُ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: بِآثَارِهِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَصْنُوعِ عَلَى الصَّانِعِ، وَبِالْمَبْنِيِّ عَلَى الْبَانِي. الثَّانِي: بِحَسَبِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ

الثَّالِثُ: بِالْمُشَاهَدَةِ، وَيُعْرَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِآثَارِهِ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53] . وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُعْرَفُ بِحَسَبِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ؟ . فَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ يُعْرَفُ، وَنُسِبَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَيُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَالثَّالِثُ أَقْوَى مِنْ الثَّانِي، وَالثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُسَلِّمُ قُوَّةَ مَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ مُطْلَقًا بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ فِي حَقِّ عَارِفٍ لِلذَّاتِ أَقْوَى مِنْهَا فِي مَعْرِفَتِهَا بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الذَّاتَ. قِيلَ: وَهَذَا لَا مَحِيصَ عَنْهُ، فَإِنَّ مَنْ وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ مِنْ بلخش وَبِنَفْشِ وَزُجَاجٍ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَهَا لَا تُفِيدُهُ الْمُشَاهَدَةُ فِي مَعْرِفَةِ الذَّاتِ شَيْئًا. وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّا نُمَيِّزُ الْإِنْسَانَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَقَدْ حَارَتْ الْأَلْبَابُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّ اكْتِفَاءَ الْأَصْحَابِ بِالرُّؤْيَةِ كَالصِّفَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي حَقِّ الْعَالِمِ بِالْمَوْصُوفِ؛ لِتُزِيلَ الرُّؤْيَةُ الضَّرَرَ عَنْهُ. أَمَّا فِي حَقِّ مَنْ لَا تُفِيدُهُ الرُّؤْيَةُ فَلَا يُتَّجَهُ الِاكْتِفَاءُ بِهَا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُشَاهِدُهُ فِي الْعُقَلَاءِ مِنْ مُعَانَدَتِهِمْ عَلَى مَا لَا يَعْرِفُونَ، لَا يَكْتَفُونَ بِرُؤْيَتِهِمْ بَلْ يَسْتَصْحِبُونَ الْخَبِيرِينَ بِذَلِكَ. وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ التَّصْرِيَةِ وَجْهًا: أَنَّ الْعِيَانَ لَا يَكْفِي فِي حَقِّ

مَنْ لَا يُفِيدُهُ الْعِيَانُ مَعْرِفَةً، وَأَنَّهُ يُخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ وَلَا أَثَرَ لِعِيَانِهِ، قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ فِيمَا لَوْ اشْتَرَى زُجَاجَةً ظَنَّهَا جَوْهَرَةً، وَاسْتَشْهَدَ بِمَسْأَلَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ. إحْدَاهُمَا: لَوْ رَأَى الْعَيْبَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَيْبُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إذَا كَانَ يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ. الثَّانِيَةُ: لَوْ رَأَى الْعَيْبَ وَعَلِمَ أَنَّهُ عَيْبٌ وَلَكِنَّهُ ظَنَّ غَيْرَ الْعَيْبِ الَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَرَضِيَ بِمَا ظَنَّهُ لَا بِمَا هُوَ عَيْبٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ إذَا كَانَ الَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَشَدَّ ضَرَرًا، وَفِيمَا قَالَهُ هَذَا الْفَاضِلُ نَظَرٌ. فَقَدْ أَطْبَقَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ بِالْمُشَاهَدَةِ هُوَ أَتَمُّ النَّظَرِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ يُنْعِمُ اللَّهُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِرُؤْيَتِهِ. وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّ هَذَا الْمَرْئِيَّ هُوَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِحَاطَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّكْيِيفِ مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لِتَصِحَّ الرُّؤْيَةُ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ، وَتَمْثِيلُهُ بِالْجَوَاهِرِ الثَّلَاثَةِ ضَعِيفٌ، إذْ مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَا يَبْقَى مِثَالٌ، بَلْ قَدْ قَالَ الْأَئِمَّةُ: مَعَارِفُ الْآخِرَةِ كُلُّهَا ضَرُورِيَّةٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ نَقُولَ: الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي يَخْلُقُهُ اللَّهُ لَهُمْ كَافٍ فِي مَعْرِفَةِ الذَّاتِ، ثُمَّ تَنْضَمُّ إلَيْهِ الْمُشَاهَدَةُ فَيَكُونُ أَتَمَّ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ. ثُمَّ مَا رَأَيْته مِنْ أَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الرُّؤْيَةُ لَا يُتَّجَهُ الِاكْتِفَاءُ بِهَا فِي حَقِّهِ، وَأَنَّ الضَّرَرَ لَا يَزُولُ عَنْهُ بِذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى قَاعِدَةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الْغَبْنَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ إذَا كَانَ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ فَصَاعِدًا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ،

مسألة الجهل

وَعَنْ أَحْمَدَ كَمَالِكٍ وَعَنْهُ يُثْبِتُ إذَا كَانَ بِمِقْدَارِ السُّدُسِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ قَضِيَّةُ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ» وَشَرَعَ لَهُ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَوْ كَانَتْ الْخَدِيعَةُ تُثْبِتُ الْخِيَارَ لَمَا احْتَاجَ إلَى قَوْلِهِ: (لَا خِلَابَةَ) ، وَلَا إلَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ، بَلْ كَانَ خِيَارُ الْغَبْنِ كَافِيًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ. وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ بِالصِّفَةِ لَا تُفِيدُ إلَّا فِي حَقِّ الْعَالِمِ بِالْمَوْصُوفِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ السَّلَامَةُ عَنْ الْعُيُوبِ، فَلَا يُغْتَفَرُ فِيهَا مَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا. [مَسْأَلَةٌ الْجَهْلُ] ُ] الْجَهْلُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ. وَيُسَمَّى بَسِيطًا. وَقِيلَ: لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ جَهْلٌ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَقِيلَ: إنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ غَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ الظَّنِّ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَاهُ عِلْمًا، وَالشَّكُّ وَالْغَفْلَةُ، وَإِصْلَاحُهُ عَدَمُ كُلِّ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ أَوْ شَكٍّ أَوْ وَقْفٍ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ مَظْنُونًا أَوْ مَشْكُوكًا أَوْ مَوْقُوفًا فِيهِ مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ

وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الْبَاطِلُ، وَيُسَمَّى مُرَكَّبًا. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: اعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَنُقِضَ بِالنَّظَرِ الْمُطَابِقِ عَكْسًا، فَإِنَّ النَّاظِرَ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا أَوْ ظَانًّا فَهُوَ جَاهِلٌ؛ لِكَوْنِهِ ضِدًّا لَهُمَا عِنْدَهُ فَيَكُونُ النَّاظِرُ إذَنْ جَاهِلًا مَعَ أَنَّ اعْتِقَادَهُ مُطَابِقٌ. وَهُوَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ عَدَمِيٌّ يُقَابِلُ الْعِلْمَ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ. وَبِالثَّانِي وُجُودِيٌّ يُقَابِلُ الْعِلْمَ تَقَابُلَ الضِّدَّيْنِ، وَالثَّانِي يُقَالُ فِيهِ: أَخْطَأَ وَغَلِطَ، وَمُخَاطَبَتُهُ مُخَاطَبَةُ عِنَادٍ وَمُخَاطَبَةُ الْأَوَّلِ مُخَاطَبَةُ تَعْلِيمٍ. قَالَ الرَّازِيَّ: وَاَلَّذِي يُمْكِنُهُ طَلَبُ الْعِلْمِ هُوَ صَاحِبُ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ فَإِنَّهُ لَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَعْلَمُ، فَصَارَ صَارِفًا لَهُ عَنْ طَلَبِهِ، وَهَلْ الْمُنَافَاةُ بَيْنَهُمَا ذَاتِيَّةٌ أَوْ لِلصَّارِفِ؟ . فِيهِ احْتِمَالَانِ. وَقَالَ السَّمْعَانِيُّ فِي الْكِفَايَةِ " اُخْتُلِفَ فِي الْجَهْلِ، فَقِيلَ: هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقِيلَ: تَصَوُّرُ الْمَعْلُومِ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ. وَقِيلَ: اعْتِقَادُ الْمَعْلُومِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": الْجَهْلُ اعْتِقَادُ الْمَعْلُومِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، وَلَا بَأْسَ بِالِاعْتِقَادِ فِي حَدِّ الْجَهْلِ. اهـ. وَهَذَا تَعْرِيفٌ لِلْمُرَكَّبِ فَقَطْ، إذْ الْبَسِيطُ لَا اعْتِقَادَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، فَكَأَنَّهُ

لَيْسَ بِجَهْلٍ عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ فِعْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَحَكَوْا خِلَافًا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْجَهْلَ هَلْ هُوَ مِثْلُ الْعِلْمِ؟ فَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّهُ مِثْلٌ لَهُ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ كَوْنَ زَيْدٍ فِي الدَّارِ مَثَلًا، وَلَيْسَ هُوَ فِيهَا فَإِنَّ اعْتِقَادَهُ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مِنْ جِنْسِ الثَّانِي الَّذِي عَلِمَهُ. وَمَا بِهِ الِافْتِرَاقُ مِنْ كَوْنِ زَيْدٍ فِي الدَّارِ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ، وَعَدَمُهُ فِي الْأُخْرَى أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مُوجِبِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الِاعْتِقَادَيْنِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اعْتِقَادَ الْمُقَلِّدِ لِلشَّيْءِ عَلَى وَفْقِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِثْلُ الْعِلْمِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ لَسْنَا نُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ. أَمَّا الْبَسِيطُ إنْ قِيلَ: إنَّهُ جَهْلٌ، فَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ لَيْسَ مِثْلًا لِلْعِلْمِ، فَإِنَّ عَدَمَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مِثْلًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ. [تَنْبِيهٌ] مَنْ تَصَوَّرَ فِي الذَّاتِ أَوْصَافًا لَمْ تَكُنْ، فَهَلْ هُوَ جَاهِلٌ بِالذَّاتِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا ذَاتٌ أَوْ بِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَ؟ وَقَدْ يُقَالُ: الْجَهْلُ بِالصِّفَةِ هَلْ هُوَ جَهْلٌ بِالْمَوْصُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؟ الظَّاهِرُ: الثَّانِي، وَمِنْ ثَمَّ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا نَكَحَ امْرَأَتَيْنِ وَشَرَطَ فِيهِمَا الْإِسْلَامَ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا النَّسَبَ أَوْ الْحُرِّيَّةَ، فَاخْتُلِفَ هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ؟ وَالْقَوْلُ بِالصِّحَّةِ هُوَ الْجَدِيدُ الصَّحِيحُ. مَأْخَذُهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مُعَيَّنٌ لَا يَتَبَدَّلُ بِالْخَلَفِ فِي الصِّفَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْفَسَادِ مَأْخَذُهُ أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَةِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ

مسألة الظن

وَأَخَذَ ابْنُ الرِّفْعَةِ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ تَكْفِيرَ مُنْكِرِي صِفَاتِ اللَّهِ. وَالْأَصَحُّ: عَدَمُ التَّكْفِيرِ، كَمَا أَنَّ الْأَصَحَّ هُنَا صِحَّةُ النِّكَاحِ، لَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْبَيْعِ إذَا قَالَ: بِعْتُك هَذَا الْفَرَسَ، فَكَانَ بَغْلًا أَنَّ الْأَصَحَّ: عَدَمُ الصِّحَّةِ. [مَسْأَلَةٌ الظَّنُّ] الظَّنُّ هُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مِنْ اعْتِقَادَيْ الطَّرَفَيْنِ، وَكَذَا رُجْحَانُ الِاعْتِقَادِ لَا اعْتِقَادُ الرَّاجِحِ أَوْ الرُّجْحَانِ، فَاعْتِقَادُ الرُّجْحَانِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إمَّا مُحَقَّقٌ عَنْ بُرْهَانٍ، وَهُوَ الْعِلْمُ، أَوْ لَا، وَهُوَ التَّقْلِيدُ وَالْجَهْلُ. فَهُوَ مُتَعَلَّقُ نَفْسِ الرُّجْحَانِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ ثَابِتٌ لَا رُجْحَانَ فِيهِ، وَأَمَّا رُجْحَانُ الِاعْتِقَادِ بِأَنْ يَكُونَ فِي النَّفْسِ احْتِمَالَانِ مُتَعَارِضَانِ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَرْجَحُ فِي نَظَرِهِ، فَالْأَوَّلُ قَدْ يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الذِّهْنِ، وَقِيلَ: تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ. وَنُقِضَ بِالْجَزْمِ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ وَلَيْسَ بِظَنٍّ. وَقِيلَ: تَغْلِيبُ أَحَدِ الْمُجَوَّزَيْنِ وَفِيهِ إجْمَالٌ؛ لِأَنَّ التَّغْلِيبَ إمَّا فِي نَفْسِ الْمُجَوَّزِ، وَإِمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَدْ يَكُونُ جَزْمًا وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَالثَّانِي قَرِيبٌ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ أَخِيرًا: إنَّهُ تَرَجُّحُ أَحَدِ مُمْكِنَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ فِي النَّفْسِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَتَارَةً: إنَّهُ تَرَجُّحُ وُقُوعِ أَحَدِ مُمْكِنَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ.

مسألة الظن طريق الحكم

وَقَوْلُهُ: " مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ ": يَعْنِي عِنْدَ ذِكْرِ الِاحْتِمَالِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِالتَّرْجِيحِ. وَحِينَئِذٍ فَهُوَ تَرَدُّدٌ بَيْنَ إرَادَةِ رُجْحَانِ الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَبَيْنَ رُجْحَانِ الْمُعْتَقَدِ، أَوْ اعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ وَلَيْسَ ذَلِكَ ظَنًّا. [مَسْأَلَةٌ الظَّنُّ طَرِيقُ الْحُكْمِ] ِ] وَهُوَ طَرِيقٌ لِلْحُكْمِ إذَا كَانَ عَنْ أَمَارَةٍ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَبِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَخَبَرِ الْمُقَوِّمِينَ وَالْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ مَظْنُونَةً. وَشَرَطَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعِدَّةِ " لِلْعَمَلِ بِالظَّنِّ وُجُودَ أَمَارَةٍ صَحِيحَةٍ، وَعَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا يُعْمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ. وَالْأَوَّلُ: يُوَافِقُ تَصْحِيحَ الْفُقَهَاءِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْأَوَانِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، وَالثَّانِي: يُخَالِفُ تَجْوِيزَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَوَانِي مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَقِينِ. قَالَ: وَالظَّنُّ يَقَعُ عِنْدَ الْأَمَارَةِ كَمَا يَقَعُ الْعِلْمُ عِنْدَ الدَّلِيلِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ ": لَا يَقَعُ عَنْ الْأَمَارَةِ. وَإِنَّمَا يَقَعُ بِاخْتِيَارِ النَّاظِرِ فِي الْأَمَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ يَنْظُرُونَ فِي الْأَمَارَةِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي الظَّنِّ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ذُكِرَ لَعُمِلَ بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ.

مسألة تفاوت الظنون

[مَسْأَلَةٌ تَفَاوُتُ الظُّنُونِ] ِ] وَفِي تَفَاوُتِ الظُّنُونِ قَوْلَانِ نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي تَفَاوُتِ الْعُلُومِ. فَقِيلَ: لَا تَتَفَاوَتُ كَمَا لَا تَتَفَاوَتُ الْعُلُومُ، وَإِنَّمَا تَتَفَاوَتُ الْأَدِلَّةُ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ. بَلْ الظَّنُّ يَقْبَلُ الْأَشَدِّيَّةَ وَالْأَضْعَفِيَّةَ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَرُبَّ شَكٍّ فِي أَصْلِ الشَّيْءِ، وَشَكٍّ فِي وَصْفِهِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْأَصْلِ. فَالشَّكُّ فِي الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ يُقَابِلُهُ احْتِمَالَانِ، وَالشَّكُّ فِي الْوَصْفِ خَاصَّةً يُقَابِلُهُ احْتِمَالٌ وَاحِدٌ. وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا؟ فَشَكُّهُ وَسْوَسَةٌ فَيَسْتَصْحِبُ الْحِلَّ. وَلَوْ حَلَفَ يَقِينًا، ثُمَّ شَكَّ هَلْ حَنِثَ أَمْ لَا؟ فَشَكُّهُ هَاهُنَا مُعْتَبَرٌ يُوجِبُ الِانْكِفَافَ وَالْحَظْرَ، وَهَلْ هُوَ وُجُوبُ قَضَاءٍ أَوْ وُجُوبُ إرْشَادٍ لَا إلْزَامٌ مِنْ الْقَاضِي؟ فِيهِ خِلَافٌ لِلْمَالِكِيَّةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فَإِنْ قُلْت: هَلْ يَقِفُ أَحَدٌ إذَا ظَنَّ شَيْئًا مَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ الظَّنِّ كَمَا يَقِفُ عَلَى أَصْلِ الظَّنِّ؟ . قُلْت: لَا يَقِفُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ إلَّا تَقْرِيبًا إنَّمَا الَّذِي يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ يَقِينًا هُوَ الْعِلْمُ، وَمِثَالُهُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ: أَنَّ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ مَوْجُودٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَيُثْبِتُهُ الْعَقْلُ، وَلَكِنْ لَا يُثْبِتُهُ الْحِسُّ، وَإِنْ أَثْبَتَ تَفَاوُتًا بَيْنَ الْأَجْرَامِ صِغَرًا وَكِبَرًا لَكِنَّهُ إثْبَاتٌ بِالتَّقْرِيبِ، لَا بِتَحْقِيقِ أَعْدَادِ الْجَوَاهِرِ بِأَعْدَادِ الْجَوَاهِرِ كَإِنْكَارِ الظُّنُونِ، وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأَجْوَدِ، لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ

مسألة أقسام الظن

تَحْقِيقًا، إذْ مَا مِنْ أَجْوَدَ مَفْرُوضٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَجْوَدُ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ تَنْزِيلًا لِلَّفْظِ عَلَى الْقَرِيبِ. وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا الظَّنُّ أَعْلَى الظُّنُونِ: يَعْنُونَ مِنْ أَعْلَى الظُّنُونِ الْوَاضِحَةِ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ أَقْسَامُ الظَّنِّ] ِّ] وَأَقْسَامُهُ خَمْسَةٌ: أَوَّلُهَا: الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ أُمُورٍ مُسَلَّمَةٍ، وَهُوَ الْعِلْمُ الظَّنِّيُّ الَّذِي مُسْتَنَدُهُ قَضِيَّةٌ أَوْ قَضَايَا مُسَلَّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا. ثَانِيهَا: الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ أُمُورٍ مَشْهُورَةٍ، وَهُوَ ظَنٌّ مُطَابِقٌ مُسْتَنِدٌ إلَى أُمُورٍ مَشْهُورَةٍ بِالتَّصْدِيقِ عِنْدَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ. وَثَالِثُهَا: الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ أُمُورٍ مَقْبُولَةٍ فِي الْعَقْلِ بِسَبَبِ حُسْنِ الظَّنِّ بِمَنْ أُخِذَتْ عَنْهُ. رَابِعُهَا: الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ ظَنٌّ مُطَابِقٌ مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ أَحْوَالٍ ظَاهِرَةٍ. خَامِسُهَا: مَا كَانَ عَنْ وَهْمٍ فِي غَيْرِ مَحْسُوسٍ، وَهُوَ مَا أَوْجَبَ التَّصْدِيقَ بِهِ قُوَّةُ الْوَهْمِ، وَجَعَلَهُ مِنْ الْعِلْمِ الظَّنِّيِّ، وَلَيْسَ بِهِ تَجَوُّزٌ.

مسألة الشك

[مَسْأَلَةٌ الشَّكُّ] ُّ] الشَّكُّ: قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَكَكْت الشَّيْءَ إذَا جَمَعْته بِشَيْءٍ يَدْخُلُ فِيهِ، وَالشَّكُّ: هُوَ اجْتِمَاعُ شَيْئَيْنِ فِي الضَّمِيرِ، وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: اعْتِقَادَانِ يَتَعَاقَبَانِ لَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَأَفْسَدُوهُ بِمَا إذَا زَالَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِاعْتِقَادٍ آخَرَ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ: عَدَمُ الْعِلْمِ: وَهُوَ فَاسِدٌ لِحُصُولِهِ مِنْ الْجَمَادِ وَالنَّائِمِ، وَلَا يُوصَفُ بِالشَّكِّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: اسْتِوَاءُ مُعْتَقَدَيْنِ فِي نَفْسِ الْمُسْتَرِيبِ مَعَ قَطْعِهِ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: " اسْتِوَاءُ " وَقَوْلُهُ: " الْمُسْتَرِيبِ " فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يُغْنِي عَنْ الْآخَرِ، إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِرَابَةٌ مَعَ ظُهُورِ أَحَدِهِمَا، وَلَا اسْتِوَاءٌ مَعَ عَدَمِ اسْتِرَابَةٍ، وَأَيْضًا فَغَيْرُ جَامِعٍ؛ لِمَا إذَا ظُنَّ عَدَمُ الِاجْتِمَاعِ. فَإِنَّهُ خَرَجَ بِقَوْلِهِ: مَعَ قَطْعِهِ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: وَصْفُ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ بِكَوْنِهِ مُعْتَقَدًا، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَلُّقُ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ بِهِ، وَذَلِكَ مَعَ الِاسْتِوَاءِ مُحَالٌ، وَقَدْ يَمْنَعُ الِاسْتِحَالَةَ، إذْ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْجَازِمِ.

وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ الِاسْتِرَابَةُ فِي مُعْتَقَدَيْنِ. وَأَفْسَدَهُ الْآمِدِيُّ بِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الِاسْتِرَابَةِ وَالِاعْتِقَادِ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا الْإِفْسَادُ فَاسِدٌ؛ لِعَدَمِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرَابَةَ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالِاعْتِقَادَ لِصَلَاحِيَةِ إرَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرَادُفًا. نَعَمْ هُوَ غَيْرُ جَامِعٍ لِمَا إذَا كَانَتْ الِاسْتِرَابَةُ فِي غَيْرِ نَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ مِنْ وَقْفٍ وَشَكٍّ وَغَيْرِهِ، وَغَيْرُ مَانِعٍ؛ لِدُخُولِ الِاسْتِرَابَةِ فِي مُعْتَقَدَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَكٍّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ وُقُوعًا. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْأَقْرَبُ أَنَّ الشَّكَّ التَّرَدُّدُ فِي أَمْرَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ لَا تَرْجِيحَ لِوُقُوعِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي النَّفْسِ. انْتَهَى. وَيَرِدُ عَلَى الْجَمِيعِ التَّقَيُّدُ بِالْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الشَّكَّ قَدْ يَكُونُ بَيْنَ أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ زَيْدٌ قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ أَوْ نَائِمٌ؟ وَذَكَرَ الْهِنْدِيُّ أَنَّ الشَّكَّ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّرَدُّدُ فِي ثُبُوتِ الشَّيْءِ وَنَفْيِهِ تَرَدُّدًا عَلَى السَّوَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَرَدَّدَ بَلْ يَحْكُمُ بِأَحَدِهِمَا مَعَ تَجْوِيزِ نَقِيضِهِ تَجْوِيزَ اسْتِوَاءٍ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ لِدَلِيلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ يُعْتَبَرُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِالتَّشَهِّي

قَالَ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ شَكٌّ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ عَنْ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ وَنَفْيِهِ يُقَالُ: إنَّهُ شَاكٌّ فِي وُجُودِهِ وَنَفْيِهِ. انْتَهَى. وَنَبَّهَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى فَائِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الشَّكَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. وَقَالَ: هُوَ اعْتِقَادُ أَنْ يَتَقَاوَمَ سَبَبُهُمَا. ذَكَرَهُ فِي " النِّهَايَةِ " فِي أَبْوَابِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ التَّرَدُّدِ فِي الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لَا يُسَمَّى شَكًّا، وَكَذَلِكَ مَنْ غَفَلَ عَنْ شَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ. فَيَسْأَلُ عَنْهُ لَا يُسَمَّى شَاكًّا. وَكَلَامُ الرَّاغِبِ يُوَافِقُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ اعْتِدَالُ النَّقِيضَيْنِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَتَسَاوِيهِمَا، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِوُجُودِ أَمَارَتَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ عِنْدَهُ فِي النَّقِيضِ أَوْ لِعَدَمِ الْأَمَارَةِ فِيهِمَا. وَالشَّكُّ رُبَّمَا كَانَ فِي الشَّيْءِ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ أَوْ لَا؟ وَرُبَّمَا كَانَ فِي جِنْسِهِ أَيْ: أَيُّ جِنْسٍ هُوَ؟ وَرُبَّمَا كَانَ فِي بَعْضِ صِفَاتِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْغَرَضِ الَّذِي لِأَجْلِهِ وُجِدَ. وَالشَّكُّ ضَرْبٌ مِنْ الْجَهْلِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ قَدْ يَكُونُ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالنَّقِيضِ أَصْلًا، فَكُلُّ شَكٍّ جَهْلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ جَهْلٍ شَكًّا. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110] وَأَصْلُهُ: إمَّا مِنْ شَكَكْت الشَّيْءَ أَيْ خَرَقْته، فَكَانَ الشَّكُّ الْخَرْقَ فِي الشَّيْءِ وَكَوْنَهُ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ الرَّائِي مُسْتَقَرًّا يَثْبُتُ فِيهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا مِنْ الشَّكِّ، وَهُوَ لُصُوقُ الْعَضُدِ بِالْجَنْبِ وَذَلِكَ أَنْ يَتَلَاصَقَ النَّقِيضَانِ. فَلَا يَدْخُلُ الْفَهْمُ وَالرَّأْيُ لِتَخَلُّلِهِ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا يَقُولَانِ: الْتَبَسَ الْأَمْرُ وَاخْتَلَطَ وَأَشْكَلَ وَنَحْوَهُ مِنْ الِاسْتِعَارَاتِ

مسألة الشك لا يبنى عليه حكم

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: فِي الْإِحْيَاءِ فِي الْبَابِ الثَّانِي فِي مَرَاتِبِ الشُّبُهَاتِ: الشَّكُّ عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِقَادَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ نَشَآ عَنْ سَبَبَيْنِ، وَقَالَ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ فِي الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ: إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِقَادَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ لَهُمَا سَبَبَانِ مُتَقَابِلَانِ. وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَدْرُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا لَا يُدْرَى وَبَيْنَ مَا لَا يُشَكُّ فِيهِ. وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: إذَا دَخَلْت بَلَدًا غَرِيبًا، وَدَخَلْت سُوقًا، وَوَجَدْت قَصَّابًا أَوْ خَبَّازًا أَوْ غَيْرَهُ وَلَا عَلَامَةَ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُرِيبًا أَوْ خَائِنًا، وَلَا مَا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ، فَهَذَا مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى حَالُهُ، وَلَا نَقُولُ: إنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَقَالَ فِي الْبَابِ الثَّانِي: لَوْ سُئِلَ الْإِنْسَانُ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ الَّتِي أَدَّاهَا قَبْلَ هَذَا بِعِدَّةِ سِنِينَ كَانَتْ أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا؟ لَمْ يَتَحَقَّقْ قَطْعًا أَنَّهَا أَرْبَعُ، وَإِذَا لَمْ يَقْطَعْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ ثَلَاثًا، وَهَذَا التَّجْوِيزُ لَا يَكُونُ شَكًّا إذَا لَمْ يَحْضُرْهُ سَبَبٌ أَوْجَبَ اعْتِقَادَ كَوْنِهِ ثَلَاثًا، فَلْيُفْهَمْ حَقِيقَةُ الشَّكِّ حَتَّى لَا يَشْتَبِهُ بِالْوَهْمِ وَالتَّجْوِيزِ بِغَيْرِ سَبَبٍ. [مَسْأَلَةٌ الشَّكُّ لَا يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمٌ] ٌ] وَالشَّكُّ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ إذَا كَانَ هُنَاكَ أَصْلٌ اُسْتُصْحِبَ عَلَى خِلَافِهِ.

مسألة الوهم

وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَاصِّ فِي " التَّلْخِيصِ " مِنْ ذَلِكَ إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً وَقَدْ خُولِفَ فِيهَا. . [مَسْأَلَةٌ الْوَهْمُ] ُ] الْوَهْمُ: هُوَ الطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ. قَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ: وَهُوَ كَنُفُورِ النَّفْسِ مِنْ الْمَيِّتِ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ بَطْشِهِ، وَنُفُورِهَا مِنْ شُرْبِ الْجَلَّابِ فِي قَارُورَةِ الْحَجَّامِ، وَلَوْ غُسِلَتْ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ إلَّا فِي قَلِيلٍ، كَوَهْمِ وُجُودِ الْمَاءِ بَعْدَ تَحَقُّقِ عَدَمِهِ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ عِنْدَنَا. وَنِيَّةُ الْجُمُعَةِ لِمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا فَيَأْتِي بِهِ وَنَحْوُهُ. [مَسْأَلَةٌ السَّهْوُ وَالْخَطَأُ] ُ] السَّهْوُ: مَا تَنَبَّهَ صَاحِبُهُ بِأَدْنَى تَنْبِيهٍ. وَالْخَطَأُ مَا لَا يَتَنَبَّهُ صَاحِبُهُ، أَوْ يَتَنَبَّهُ بَعْدَ إتْعَابٍ. قَالَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي " الْمِفْتَاحِ ".

خاتمة

وَقِيلَ: السَّهْوُ: الذُّهُولُ عَنْ الْمَعْلُومِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ تَرَادُفُهُ مَعَ النِّسْيَانِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " النِّهَايَةِ ": السَّهْوُ فِي الشَّيْءِ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ. وَالسَّهْوُ عَنْهُ تَرْكُهُ مَعَ الْعِلْمِ. [خَاتِمَةٌ] [خَاتِمَةٌ] لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْعِلْمَ وَجَمِيعَ أَضْدَادِهِ مَا خَلَا الشَّكَّ فِيهَا حُكْمٌ، وَأَمَّا الشَّكُّ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الشَّاكَّ حَاكِمٌ بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ بَدَلَ الْآخَرِ، وَالْمَشْهُورُ خِلَافُهُ. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ، فَالْمَحْكُومُ بِهِ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالظَّنِّ هُوَ الْمَعْلُومُ وَالْمُعْتَقَدُ وَالْمَظْنُونُ، وَالْمَحْكُومُ بِهِ فِي الشَّكِّ - إنْ قُلْنَا: إنَّهُ حُكْمٌ - الْأَمْرُ أَنَّ الْمَشْكُوكَ فِيهِمَا، أَوْ نَفْيَ غَيْرِهِمَا. وَأَمَّا الْوَهْمُ فَهَلْ الْمَحْكُومُ بِهِ الْمَوْهُومُ أَوْ الْمَظْنُونُ؟ فِيهِ بَحْثٌ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا إشْكَالٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ قِيلَ: الْمَوْهُومُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الظَّانُّ لَيْسَ حَاكِمًا لِمَا يُقَابِلُ ظَنَّهُ، فَيَكُونُ حَاكِمًا بِالضِّدَّيْنِ مَعًا يَحْكُمُ بِالْقِيَامِ مَثَلًا رَاجِحًا، وَبِعَدَمِ الْقِيَامِ مَرْجُوحًا، وَكَيْفَ يَحْكُمُ الذِّهْنُ بِمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ خِلَافُهُ؟ . وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَهْمُ مَعْدُودًا فِي الْقِسْمَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِهِمْ.

وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالطَّرَفِ الرَّاجِحِ، وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الشَّكَّ لَا حُكْمَ فِيهِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُكْمِ مَعَ الْمُسَاوَاةِ فَلَأَنْ يَقُولُوا بِامْتِنَاعِ الْحُكْمِ بِالْمَرْجُوحِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى. [خَاتِمَةٌ] أُخْرَى الْجَهْلُ وَالظَّنُّ وَالشَّكُّ أَضْدَادُ الْعِلْمِ عِنْدَنَا، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّ الْجَهْلَ مُمَاثِلٌ لِلْعِلْمِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اعْتِقَادَ الْمُقَلِّدِ لِلشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِثْلُ الْعِلْمِ. [خَاتِمَةٌ] أُخْرَى يُطْلَقُ الْعِلْمُ عَلَى الظَّنِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] إذْ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ فِي ذَلِكَ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَقَوْلِهِ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] سَمَّوْا غَيْرَ الْمُطَابِقِ عِلْمًا، فَكَيْفَ الظَّنُّ الْمُطَابِقُ؟ وَأُقِرُّوا عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ: الْحَقِيقَةُ. وَقَوْلِهِ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقْفُوَ مَا يَظُنُّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: يَقْضِي الْقَاضِي بِعِلْمِهِ. وَيُطْلَقُ الظَّنُّ عَلَى الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] أَيْ يَعْلَمُونَ، إذْ الظَّنُّ فِي ذَلِكَ غَيْرُ كَافٍ، وَيُطْلَقُ الظَّنُّ عَلَى غَيْرِ الْمُطَابِقِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح: 12] وَيُطْلَقُ الشَّكُّ عَلَى الظَّنِّ وَعَلَيْهِ غَالِبُ إطْلَاقِ الْفُقَهَاءِ.

مسألة استعمال الظن بمعنى العلم

وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى» لِأَنَّ الشَّكَّ وَالظَّنَّ فِيهِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الظَّنُّ، وَأَنْ يُرَادَ الشَّكُّ، وَالظَّنُّ مَقِيسٌ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُرَادَ الْأَعَمُّ. [مَسْأَلَةٌ اسْتِعْمَالُ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ] ِ الْيَقِينِيِّ مَجَازٌ] الْمَشْهُورُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ مَجَازٌ. وَيَتَلَخَّصُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الشَّكِّ مَجَازٌ فِي الْيَقِينِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَنْشَأُ خِلَافٌ فِيمَا إذَا قُلْت: ظَنَنْت ظَنًّا. هَلْ يَتَعَيَّنُ لِلْيَقِينِ بِالتَّأْكِيدِ أَوْ الِاحْتِمَالُ بَاقٍ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا لَا حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ؟ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الشَّكِّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْعَبْدَرِيِّ وَقَالَ: وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى حِكَايَةِ مَنْ حَكَى " ظَنَّ ": بِمَعْنَى " تَيَقَّنَ " بَلْ الظَّنُّ وَالْيَقِينُ مُتَنَافِيَانِ.

فصل العقل

[فَصْلٌ الْعَقْلُ] ُ] الْعَقْلُ لُغَةً: الْمَنْعُ، وَلِهَذَا يَمْنَعُ النَّفْسَ مِنْ فِعْلِ مَا تَهْوَاهُ. مَأْخُوذٌ مِنْ عِقَالِ النَّاقَةِ الْمَانِعِ لَهَا مِنْ السَّيْرِ حَيْثُ شَاءَتْ، وَهُوَ أَصْلٌ لِكُلِّ عِلْمٍ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَكَانَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ يُسَمِّيهِ أُمَّ الْعِلْمِ. وَكَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ حَتَّى قِيلَ: إنَّ فِيهِ أَلْفَ قَوْلٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:

سَلْ النَّاسَ إنْ كَانُوا لَدَيْك أَفَاضِلًا ... عَنْ الْعَقْلِ وَانْظُرْ هَلْ جَوَابٌ يُحَصَّلُ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَصْنَافُ الْخَلْقِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ كُلُّ وَاحِدٍ مَا يَلِيقُ بِصِنَاعَتِهِ. فَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَشَأْنُهُمْ الْكَلَامُ فِي الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا، وَمَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهَا. وَالْعَقْلُ مَوْجُودٌ. وَالْأَطِبَّاءُ شَأْنُهُمْ الْخَوْضُ فِيمَا يُصْلِحُ الْأَبْدَانَ، وَالْعَقْلُ سُلْطَانُ الْبَدَنِ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ هُمْ أَهْلُ النَّظَرِ، وَالنَّظَرُ أَبَدًا يَتَقَدَّمُ الْعَقْلَ. وَالْفُقَهَاءُ تَكَلَّمُوا فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: آلَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ يُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَأَضْدَادِهَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَالْعُقُولُ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ فِيهِمْ لِيَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى الْعَلَامَاتِ الَّتِي نَصَبَهَا لَهُمْ عَلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا مَنًّا مِنْهُ وَنِعْمَةً، قَالَهُ ابْنُ سُرَاقَةَ، وَهَذَا النَّصُّ مَوْجُودٌ فِي " الرِّسَالَةِ ". قَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِهَا: بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْعَقْلَ مَعْنًى رَكَّبَهُ اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ أَيْ خَلَقَهُ فِيهِ لَا أَنَّهُ فِعْلُ الْإِنْسَانِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ آلَةُ التَّمْيِيزِ. قُلْت: وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي " الرِّسَالَةِ " حَيْثُ قَالَ: دَلَّهُمْ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ بِالْعُقُولِ الَّتِي رُكِّبَتْ فِيهِمْ، الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَأَضْدَادِهَا إلَخْ. وَقِيلَ: قُوَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ يُفْصَلُ بِهَا بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقِيلَ: جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: الْعَقْلُ هُوَ الْعِلْمُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ غَيْرَ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ عِلْمٌ عَلَى صِفَةٍ فَجَمِيعُ الْمَعْلُومَاتِ بِحِسٍّ وَغَيْرِهِ إلَيْهِ مَرْجِعُهَا، وَهُوَ يُمَيِّزُهَا وَيَقْضِي عَلَيْهَا، وَحُجَّتُهُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ ذَلِكَ فِي الْإِنْسَانِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": الْعَقْلُ هُوَ الْعِلْمُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلْمًا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْإِسْلَامِيِّينَ، وَبِهِ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، فَقَالُوا: الْعَقْلُ جَوْهَرٌ مَخْلُوقٌ فِي الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مَرْكَزُ الْعُلُومِ، وَلَا يُسْتَفَادُ الْعَقْلُ إنَّمَا تُسْتَفَادُ الْعُلُومُ. اهـ. وَكَذَلِكَ نَقَلَ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ عَنْ أَهْلِ الْحَقِّ تَرَادُفَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ. قَالَ: فَقَالُوا: وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي الْعُقُولِ لِكَثْرَةِ الْعُلُومِ وَقِلَّتِهَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الطَّبَرِيُّ: نُورٌ وَبَصِيرَةٌ فِي الْقَلْبِ مَنْزِلَتُهُ الْبَصَرُ مِنْ الْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُمْتَنَعُ بِهِ مِنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ، وَذَهَبَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ إلَى أَنَّهُ غَرِيزَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمَعْرِفَةِ، وَمَثَّلَهُ بِالْبَصَرِ، وَمَثَّلَ الْعِلْمَ بِالسِّرَاجِ، فَمَنْ لَا بَصَرَ لَهُ " لَا يَنْتَفِعُ بِالسِّرَاجِ " وَمَنْ

لَهُ بَصَرٌ بِلَا سِرَاجٍ لَا يَرَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. فَصَرَّحَ بِمُخَالَفَةِ الْعَقْلِ الْعِلْمَ، وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ: الْعَقْلُ غَرِيزَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَلَيْسَ اكْتِسَابًا. قَالَ الْأُقْلِيشِيُّ: وَهَذِهِ الْغَرِيزَةُ لَيْسَتْ حَاصِلَةً لِلْبَهِيمَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ. وَاسْتَحْسَنَهُ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ " وَاعْتَقَدَهُ رَأْيًا. إذْ أَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ فِي السَّجِيَّةِ، وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وَهِيَ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ الَّتِي مَنْشَؤُهَا مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ. لَكِنَّهُ فِي " الشَّامِلِ " حَكَاهُ، ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ لَا يَرْضَاهُ وَإِنَّهُ يَتَّهِمُ النَّقَلَةَ عَنْهُ فِيهِ، وَأَطَالَ فِي رَدِّهِ. وَصَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو الطَّيِّبِ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، فَخَرَجَتْ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ عَاقِلًا مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: بَعْضُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُهَا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْعِلْمِ بِالْمُدْرِكَاتِ، لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا غَيْرَ عَاقِلٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وَذَلِكَ نَحْوُ الْعِلْمِ بِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ، وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَعْلُومَ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَخْلُو عَنْ الِاتِّصَافِ بِالْقِدَمِ أَوْ بِالْحُدُوثِ، وَالْعِلْمِ بِمَجَارِي الْعَادَاتِ الْمُدْرَكَاتِ بِالضَّرُورَةِ، كَمُوجِبِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ

الصَّادِرَةِ عَنْ الْمُشَاهَدَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي يُخَصُّ بِهَا الْعُقَلَاءُ. وَحَاصِلُهُ: الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ، وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ، وَقِيلَ: إنَّهُ عُلُومٌ بَدِيهِيَّةٌ كُلُّهُ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: فَقُلْت لَهُ: أَفَتَخُصُّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الضَّرُورَةِ بِوَصْفٍ؟ قَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَا صَحَّ مَعَ الِاسْتِنْبَاطِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْعَقْلَ الْغَرِيزِيَّ لَيْسَ بِالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، إذْ الْإِنْسَانُ يُوصَفُ بِالْعَقْلِ مَعَ ذُهُولِهِ عَنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بَعْدَ إبْطَالِهِ قَوْلَ الْقَاضِي فِي الْعَقْلِ: وَعِنْدَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعَقْلَ غَرِيزَةٌ تَلْزَمُهَا هَذِهِ الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ مَعَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْعِبَارَةُ الْوَجِيزَةُ فِيهِ: عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ بِاسْتِحَالَةِ مُسْتَحِيلَاتٍ وَجَوَازِ جَائِزَاتٍ. أَوْ نُورٌ يُقْبِلُ مِنْ النُّورِ الْأَعْلَى بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ بِالْمَجْنُونِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ لَكِنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَبُولِ حَائِلٌ كَمَا فِي نُورِ الشَّمْسِ مَعَ السَّحَابِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ غَرِيزِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَهُمَا نَظَرِيٌّ وَتَجْرِيبِيٌّ، وَالْعِلْمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَهُمَا مُكْتَسَبَانِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُمْتَنَعُ بِهِ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ: أَنَّهُ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي لَا خُلُوَّ لِنَفْسِ الْإِنْسَانِ عَنْهَا بَعْدَ كَمَالِ آلَةِ الْإِدْرَاكِ وَعَدَمِ أَضْدَادِهَا، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ. وَحَكَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَوْلَانِ

ثُمَّ هُوَ غَيْرُ جَامِعٍ لِلْعَقْلِ الثَّابِتِ لِلصِّبْيَانِ، فَإِنَّهُمْ عُقَلَاءُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ فِي كِتَابِ " الْعُدَّةِ " مَعَ انْتِفَاءِ مَا ذَكَرَهُ؛ لِامْتِنَاعِ صِحَّةِ نَفْيِ الْعَقْلِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا، وَإِلَّا لَزِمَ جَوَازُ وَصْفِهِمْ بِضِدِّهِ، وَهُوَ الْجُنُونُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَغَيْرُ مَانِعٍ لِعُلُومِ الْمَجَانِينِ الَّتِي لَا خُلُوَّ؛ لِأَنْفُسِهِمْ عَنْهَا، كَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ وَنَحْوَهُ مَعَ أَنَّهُمْ غَيْرُ عُقَلَاءَ، وَقَالَ الْجِيلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ " الْإِعْجَازِ ": فَرْقٌ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَيَظْهَرُ شَرَفُ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَنْبَعُ الْعِلْمِ وَأَسَاسُهُ، وَالْعِلْمُ يَجْرِي مِنْهُ مَجْرَى الثَّمَرَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ. قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ، وَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ مِنْك، بِك آخُذُ، وَبِك أُعْطِي، وَبِك أُعَاقِبُ» . فَإِنْ قُلْت: إنْ كَانَ الْعَقْلُ عَرَضًا فَكَيْفَ يُخْلَقُ قَبْلَ الْأَجْسَامِ، وَإِنْ كَانَ جَوْهَرًا فَكَيْفَ يَكُونُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا بِمُتَحَيِّزٍ؟ . قُلْنَا: هَذَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْمُكَاشَفَةِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جَدَّ الْمَلَائِكَةُ وَاجْتَهَدُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ بِالْعَقْلِ، وَجَدَّ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» .

العقل ضربان

عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ قَالَ: إنَّ الْجَوْهَرَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ قَوْلِنَا: إنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: إنَّهُ خُلِقَ قَبْلَ الْأَشْيَاءِ. انْتَهَى. [الْعَقْلُ ضَرْبَانِ] [الْعَقْلُ ضَرْبَانِ] ثُمَّ هُوَ ضَرْبَانِ غَرِيزِيٌّ وَهُوَ أَصْلٌ، وَمُكْتَسَبٌ وَهُوَ فَرْعٌ. فَأَمَّا الْغَرِيزِيُّ: فَهُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَأَمَّا الْمُكْتَسَبُ: فَهُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إلَى صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ وَقُوَّةِ النَّظَرِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَجَرَّدَ الْمُكْتَسَبُ عَنْ الْغَرِيزِيِّ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَجَرَّدَ الْغَرِيزِيُّ عَنْ الْمُكْتَسَبِ؛ لِأَنَّ الْغَرِيزِيَّ أَصْلٌ يَصِحُّ قِيَامُهُ بِذَاتِهِ، وَالْمُكْتَسَبَ فَرْعٌ لَا يَصِحُّ قِيَامُهُ إلَّا بِأَصْلِهِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمُكْتَسَبِ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَتَائِجِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالنِّزَاعِ فِي التَّسْمِيَةِ إذَا كَانَ الْمَعْنَى مُسَلَّمًا. وَاخْتُلِفَ فِيهِ فِي أُمُورٍ: [تَفَاوُتُ الْعُقُولِ] أَحَدُهَا: هَلْ يَتَفَاوَتُ؟ وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ " وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ، فَلَا يَتَحَقَّقُ شَخْصٌ أَعْقَلُ مِنْ شَخْصٍ، وَإِنْ أُطْلِقَ ذَلِكَ كَانَ تَجَوُّزًا، أَوْ صَرْفًا إلَى كَثْرَةِ التَّجَارِبِ، قَالَ

فَإِنَّا بَعْدَ أَنْ قُلْنَا: إنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ فِيهَا، وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَتَفَاوَتُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ» . وَقِيَاسُ مَنْ فَسَّرَ الْعَقْلَ بِالْعِلْمِ أَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي تَفَاوُتِ الْعُلُومِ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْغَرِيزِيُّ فَلَا يَتَفَاوَتُ، أَوْ التَّجْرِيبِيُّ فَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِهِ، وَإِلَيْهِ يَمِيلُ كَلَامُ ابْنُ سُرَاقَةَ حَيْثُ قَالَ: هُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مِنْهُ مَخْلُوقٌ فِي الْإِنْسَانِ، وَمِنْهُ يَزْدَادُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِاعْتِبَارِ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، كَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالشَّهْوَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ وَافِرُ الْعَقْلِ وَفُلَانٌ نَاقِصُ الْعَقْلِ. الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّهِ: فَقِيلَ لَا يُعْرَفُ مَحَلُّهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ الْقَلْبُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِسَائِرِ الْعُلُومِ، وَقَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: الدِّمَاغُ، وَالْأَوَّلُ: مَنْقُولٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَالثَّانِي: مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ حَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنْهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ شَاهِينِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَيْضًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرَّأْسِ وَالْقَلْبِ.

وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: لَك حَاسَّةٌ مِنْهُ نَصِيبٌ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا رَابِعًا، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ " فِي بَابِ أَسْنَانِ إبِلِ الْخَطَأِ: أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلشَّافِعِيِّ مَحَلُّهُ: وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا خَامِسًا. وَقِيلَ: الصَّدْرُ، وَلَعَلَّ قَائِلَهُ أَرَادَ الْقَلْبَ، وَقِيلَ: هُوَ مَعْنًى يُضِيءُ فِي الْقَلْبِ، وَسُلْطَانُهُ فِي الدِّمَاغِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْحَوَاسِّ فِي الرَّأْسِ. وَلِهَذَا قَدْ يَذْهَبُ بِالضَّرْبِ عَلَى الدِّمَاغِ. حَكَاهُ ابْنُ سُرَاقَةَ. قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ قُوَّةٌ وَبَصِيرَةٌ فِي الْقَلْبِ مَنْزِلَتُهُ مِنْهُ مَنْزِلَةُ الْبَصَرِ مِنْ الْعَيْنِ، وَنَبَّهَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " أَدَبِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا " عَلَى فَائِدَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْغَرِيزِيِّ. أَمَّا التَّجْرِيبِيُّ فَمَحَلُّهُ الْقَلْبُ قَطْعًا. الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَنَّ مَنْ نَفَى كَوْنَهُ جَوْهَرًا أَثْبَتَ أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ، وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ": الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْعَقْلَ مَحَلُّهُ مَاذَا؟ مِمَّا يَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرٍ. فَإِنَّهُمْ إنْ عَنَوْا بِهِ الْقُوَّةَ النَّاطِقَةَ عَلَى مَا يَظْهَرُ

مِنْ كَلَامِهِمْ فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ لَهَا آلَةٌ وَلَا هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ، وَإِنَّمَا الَّذِي، يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ. هَلْ هِيَ الْقُوَّةُ الْمُفَكِّرَةُ الَّتِي تُنْسَبُ إلَى الدِّمَاغِ؟ وَهِيَ مُلْتَبِسَةٌ بِالْقُوَّةِ النَّاطِقَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: كَوْنُهَا مُخْتَصَّةً بِالْإِنْسَانِ، وَكَوْنُهَا مُمَيِّزَةً، وَلِهَذَا الِالْتِبَاسِ ظَنُّوا أَنَّهَا الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ، وَحَكَوْا فِيهَا الْخِلَافَ. وَاَلَّذِي غَلَّطَهُمْ فِي ذَلِكَ عَكْسُ الْقَضِيَّةِ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ مِثْلَ نَفْسِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ مُمَيِّزَةً مُخْتَصَّةً بِالْإِنْسَانِ عَكَسُوا الْقَضِيَّةَ، فَقَالُوا: كُلُّ قُوَّةٍ مُمَيِّزَةٍ خَاصَّةٍ بِالْإِنْسَانِ فَهِيَ قُوَّةٌ نَاطِقَةٌ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ فِي الْإِنْسَانِ قُوَّةٌ أُخْرَى مُمَيِّزَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ، وَلَيْسَتْ النَّاطِقَةَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ هَذِهِ مَوْجُودَةٌ فِي الْإِنْسَانِ لَهَا آلَةٌ جُسْمَانِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ قُوَى النَّفْسِ فَهَذِهِ إذَنْ يَجِبُ النَّظَرُ فِي آلَتِهَا الدِّمَاغِ أَوْ الْقَلْبِ، فَأَمَّا الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ الَّتِي سَمَّوْهَا عَقْلًا، فَلَيْسَتْ قُوَّةً فِي جِسْمٍ أَصْلًا، وَلَا هِيَ جِسْمٌ، وَلَا لَهَا آلَةٌ جُسْمَانِيَّةٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَمْيِيزَيْهِمَا: أَنَّ تَمْيِيزَ الْمُفَكِّرَةِ شَخْصِيٌّ؛ لِأَنَّهَا تُمَيِّزُ مَعْنَى الشَّيْءِ الْمُخَيَّلِ الْمُشَخَّصِ تَمْيِيزًا شَخْصِيًّا، فَهِيَ تَالِيَةٌ لِلْقُوَّةِ الْمُتَخَيِّلَةِ، كَمَا أَنَّ الْمُتَخَيِّلَةَ تَالِيَةٌ لِلْقُوَّةِ الْحِسِّيَّةِ، فَهِيَ إذَنْ أَكْثَرُ رُوحَانِيَّةً مِنْ التَّخَيُّلِيَّةِ، وَلِهَذَا اخْتَصَّتْ بِالْإِنْسَانِ، وَتَمْيِيزُ النَّاطِقَةِ كُلِّيٌّ وَهِيَ عَرِيَّةٌ مِنْ مُخَالَطَةِ الْجِسْمِ، وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقُوَى الْحَادِثَةِ الشَّخْصِيَّةِ فَافْتَرَقَا، وَلَيْسَتْ رُوحَانِيَّتُهَا كَذَلِكَ، فَلِذَلِكَ شَارَكَ فِيهَا الْإِنْسَانُ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ. وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ مَحَلَّهُ مَاذَا؟ مَا لَوْ أُوضِحَ رَجُلٌ، فَذَهَبَ عَقْلُهُ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ يَلْزَمُهُ دِيَةُ الْعَقْلِ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةً لَيْسَتْ فِي عُضْوِ الشَّجَّةِ تَبَعًا لَهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّمَا

عَلَيْهِ الْعَقْلُ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شَجَّ رَأْسَهُ. وَأَتْلَفَ عَلَيْهِ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ مَنْفَعَةٌ فِي الْعُضْوِ الْمَشْجُوجِ، وَدَخَلَ أَرْشُ الشَّجَّةِ فِي الدِّيَةِ.

الحد النظر في حقيقته وأقسامه وشروط صحته

[الْحَدُّ النَّظَرُ فِي حَقِيقَتِهِ وَأَقْسَامِهِ وَشُرُوطِ صِحَّتِهِ] ِ [حَقِيقَةُ الْحَدِّ] أَمَّا حَقِيقَتُهُ: فَالْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ. وَقِيلَ: خَاصِّيَّةُ الشَّيْءِ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِ مَا هُوَ الْغَرَضُ بِالْحَدِّ؟ . هَلْ حَصْرُ الذَّاتِيَّاتِ أَوْ مُجَرَّدُ التَّمْيِيزِ كَيْفَ اتَّفَقَ؟ أَوْ الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ لِوَصْفٍ خَاصٍّ؟ وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى وَصْفِ الْمَحْدُودِ دُونَ قَوْلِ الْوَاصِفِ الْحَادِّ عِنْدَ مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ " وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَقَالَ: إنَّهُ قَوْلُ مُعْظَمِ أَئِمَّتِنَا. وَقَالَ الْقَاضِي: يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْوَاصِفِ، وَهُوَ عِنْدَهُ الْقَوْلُ الْمُفَسِّرُ لِاسْمِ الْمَحْدُودِ وَصِفَتِهِ عَلَى وَجْهٍ يَخُصُّهُ وَيَحْصُرُهُ. فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الْحَدُّ وَالْحَقِيقَةُ عِنْدَنَا بِمَعْنًى؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ مَانِعَةٌ لَهُ مِنْ الِالْتِبَاسِ بِغَيْرِهِ نَاطِقَةٌ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي حُكْمِهِ، وَقَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ: هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ فِي سُؤَالٍ مَا هُوَ؟ إذَا أَحَاطَ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ قَدْ يُذْكَرُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سُؤَالٍ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا: أَنَّ حَدَّ الشَّيْءِ: مَعْنَاهُ الَّذِي لِأَجْلِهِ اسْتَحَقَّ الْوَصْفَ الْمَقْصُودَ بِالذِّكْرِ، وَتَسْمِيَةُ الْعِبَارَةِ عَنْ الْحَدِّ مَجَازٌ، وَمَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْحَدِّ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْحَقِيقَةِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَالْجِسْمِ وَالْعَرَضِ، وَلَفْظَ الْحَدِّ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحُجَّةِ. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ هَلْ يَجُوزُ حُصُولُهُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِحَدِّهِ وَحَقِيقَتِهِ؟ . أَجَازَهُ قَوْمٌ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عِلْمًا وَقَدْرًا وَحَيَاةً لَمْ يَعْلَمْهُ عَالِمًا قَادِرًا حَيًّا، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْعَالِمِ عَالِمًا عِلْمٌ بِعِلْمِهِ، وَالنَّافِي لِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَيَاتِهِ غَيْرُ عَالِمٍ بِكَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا حَيًّا. وَهَذَا قَوْلٌ يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِنَا فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ، وَفَرَّقَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا الْقُدَمَاءِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ. قَالَ: الْحَدُّ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي الشَّيْءِ نَفْسِهِ، وَالْحَقِيقَةُ مَا جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الشَّيْءِ وَضِدِّهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: الشَّيْءُ لَهُ فِي الْوُجُودِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: الْأُولَى: حَقِيقَتُهُ فِي نَفْسِهِ، وَالثَّانِيَةُ: ثُبُوتُ مِثَالِ حَقِيقَتِهِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الذِّهْنِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِلْمِ.

مذاهب اقتناص الحد

وَالثَّالِثَةُ: تَأْلِيفُ صَوْتٍ بِحُرُوفٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي فِي النَّفْسِ، وَالرَّابِعَةُ: تَأْلِيفُ رُقُومٍ تُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ تَدُلُّ عَلَى اللَّفْظِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ. قَالَ: وَالْعَادَةُ لَمْ تَجْرِ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْحَدِّ عَلَى الْعِلْمِ، وَلَا عَلَى الْكِتَابَةِ، بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَاللَّفْظِ. وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَمَا أَخَذُوهُ مِنْ حَدِّ الْحَدِّ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي فِي النَّفْسِ خَاصَّةً أَمْ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ؟ فَالْجَوَابُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَعْنَى الَّذِي فِي النَّفْسِ خَاصَّةً، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا، لَا عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، بَلْ عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي فِي النَّفْسِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى، وَيُقَالُ عَلَى اللَّفْظِ بِحُكْمِ التَّبَعِ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ. [مَذَاهِبُ اقْتِنَاصِ الْحَدِّ] [مَذَاهِبُ اقْتِنَاصِ الْحَدِّ] وَفِي اقْتِنَاصِ الْحَدِّ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ حَكَاهَا الْعَبْدَرِيُّ فِي " الْمُسْتَوْفَى فِي شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ". أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَفْلَاطُونَ أَنَّهُ يُقْتَنَصُ بِالتَّقْسِيمِ بِأَنْ تَأْخُذَ جِنْسًا مِنْ أَجْنَاسِ الْمَحْدُودِ، وَتَقْسِمَهُ بِفُصُولِهِ الذَّاتِيَّةِ لَهُ، ثُمَّ تَنْظُرَ الْمَحْدُودَ

تَحْتَ أَيِّ فَصْلٍ هُوَ مِنْ تِلْكَ الْفُصُولِ؟ فَإِذَا وَجَدْته ضَمَمْتَ ذَلِكَ الْفَصْلَ إلَى الْجِنْسِ الَّذِي كُنْت أَخَذْته. ثُمَّ تَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْمَحْدُودِ فَقَدْ وُجِدَ جِنْسُ الْحَدِّ وَفَصْلُهُ، وَكَمَلَ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا لَهُ عَلِمْت أَنَّ ذَلِكَ الْجِنْسَ وَالْفَصْلَ إنَّمَا هُوَ حَدٌّ لِجِنْسِ الْمَحْدُودِ لَا لِلْمَحْدُودِ، فَتَأْخُذَ اسْمَ ذَلِكَ الْجِنْسِ بَدَلَ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، وَتَقْسِمَهُ أَيْضًا إلَى فُصُولِهِ الذَّاتِيَّةِ، ثُمَّ تَنْظُرَ الْمَحْدُودَ تَحْتَ أَيِّ فَصْلٍ؟ فَتَأْخُذَهُ، وَتَقْسِمَهُ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ، ثُمَّ تَنْظُرَ هَلْ هُوَ مُسَاوٍ لَفْظًا وَحْدَهُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ سَاوَاهُ فَقَدْ تَمَّ الْحَدُّ، وَإِلَّا فَعَلْت كَمَا تَقَدَّمَ هَكَذَا. وَالثَّانِي: فِي مَذْهَبِ الْحَكِيمِ أَنَّهُ يُقْتَنَصُ بِطَرِيقِ التَّرْكِيبِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ أَقْرَبُ مِنْ طَرِيقِ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ أَنْ تُجْمَعَ الْأَوْصَافُ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الشَّيْءِ الْمَحْدُودِ كُلُّهَا، ثُمَّ تَنْظُرَ مَا فِيهَا ذَاتِيٌّ وَمَا فِيهَا عَرَضِيٌّ، فَتَطْرَحَ الْعَرَضِيَّ، ثُمَّ تَرْجِعَ إلَى الذَّاتِيِّ فَتَأْخُذَ مِنْهَا الْمَقُولَ فِي جَوَابِ مَا هُوَ؟ فَتَجْمَعَهَا كُلَّهَا، ثُمَّ تَطْرَحَ الْأَعَمَّ فَالْأَعَمَّ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى الْجِنْسِ الْأَقْرَبِ، ثُمَّ تَرْجِعَ إلَى الْفُصُولِ فَتَجْمَعَهَا أَيْضًا كُلَّهَا، ثُمَّ تَطْرَحَ الْأَبْعَدَ فَالْأَبْعَدَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى الْفَصْلِ الْقَرِيبِ جِدًّا، وَحِينَئِذٍ فَيَكْمُلُ. وَالثَّالِثُ: مَذْهَبُ بُقْرَاطِيسَ أَنَّهُ يُقْتَنَصُ بِالْبُرْهَانِ وَقَدْ أَبْطَلُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

مسألة صعوبة الحد

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا سُلِكَ فِي اقْتِنَاصِهِ الْقِسْمَةُ أَوْ التَّرْكِيبُ، وَكَانَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ تَصَفُّحِ جَمِيعِ ذَاتِيَّاتِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ وَحْدَهُ كَانَ الْحَدُّ الْمُقْتَنَصُ بِهَذَا الطَّرِيقِ مَعْلُومًا، فَأَوَّلُ الْعَقْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ، فَإِذَنْ اقْتِنَاصُ الْحَدِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي طَلَبِ الْبُرْهَانِ مِنْ وَسَطٍ يُحْمَلُ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ لَهُ لَا عَلَى أَنَّهُ جِنْسٌ لَهُ وَلَا فَصْلٌ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ لَهُ أَيْضًا. مِثَالُهُ: أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ حَدَّ الْعِلْمِ الْمَعْرِفَةُ، فَيُقَالَ لَنَا: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ طَلَبِ وَسَطٍ يُحْمَلُ عَلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ لَهُ، وَتُحْمَلُ الْمَعْرِفَةُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهَا حَدٌّ لَهُ أَيْضًا وَلْيَكُنْ ذَلِكَ الْحَدُّ الِاعْتِقَادَ. فَنَقُولُ: لِكُلِّ عِلْمٍ بِالِاعْتِقَادِ يُؤْخَذُ لَهُ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ، وَكُلُّ اعْتِقَادٍ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ لَهُ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ، فَالْمَعْرِفَةُ تُؤْخَذُ لَهُ عَلَى أَنَّهَا حَدٌّ. فَإِذَنْ كُلُّ عِلْمٍ فَالْمَعْرِفَةُ تُؤْخَذُ لَهُ عَلَى أَنَّهَا حَدٌّ، فَيُنَازَعُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُقَدِّمَتَيْ هَذَا الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّهَا حَدٌّ، وَيُطْلَبُ الْبُرْهَانُ كَمَا طُلِبَ عَلَى الْحَدِّ الْأَوَّلِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُبَيِّنَهَا بِدَلِيلَيْنِ. فَيُنَازَعُ أَيْضًا فِي كُلِّ مُقَدِّمَةٍ مِنْ مُقَدِّمَتَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِك الدَّلِيلَيْنِ. فَإِمَّا أَنْ يَتَسَلَّلَ الْأَمْرُ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ عِنْدَ أَمْرٍ بَيِّنٍ بِنَفْسِهِ. [مَسْأَلَةٌ صُعُوبَةُ الْحَدِّ] ِّ] ادَّعَى ابْنُ سِينَا أَنَّ الْحُدُودَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى

مَعْرِفَةِ الْمَاهِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ تَفْصِيلًا حَتَّى يُعْلَمَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَاهِيَّةِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي بِهِ يَنْفَصِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَنْ الْأُخْرَى، وَلَا شَكَّ فِي صُعُوبَةِ مَعْرِفَتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَبِهِ يَضْعُفُ تَرْكِيبُ الْحُدُودِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ الْمُطَابِقَةِ لَهَا. وَنَاقَضَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمُعْتَبَرِ " فَقَالَ: الْحُدُودُ فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ هِيَ حُدُودُ الْأَسْمَاءِ، وَالْأَسْمَاءُ أَسْمَاءُ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ، وَكُلُّ أَمْرٍ مَعْقُولٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُعْقَلَ أَنَّ كَمَالَ الْمُشْتَرَكِ أَيْشٍ هُوَ؟ وَكَمَالُ جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ أَيْشٍ هُوَ؟ فَكَانَ الْحَدُّ سَهْلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَلِجُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي الْمَضَايِقِ، وَيَمْنَعُ كَوْنَ الْحَدِّ هُوَ الدَّالُّ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، بَلْ هُوَ تَفْصِيلُ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ إجْمَالًا، وَقَالَ فِي " الْمُلَخَّصِ ": الْإِنْصَافُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَفْصِيلَ مَدْلُولِ الِاسْمِ كَانَ سَهْلًا، وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مَعْرِفَةَ الْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ كَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحُدُودَ الْكَاشِفَةَ لِلْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ تَفْصِيلِ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ إجْمَالًا، بَلْ الْحَدُّ: هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ. وَصَنَّفَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ رِسَالَةً بَيَّنَ فِيهَا صُعُوبَةَ الْحَدِّ.

وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ": الْعِلَّةُ فِي عُسْرِ حَدِّ بَعْضِ الْمُدْرَكَاتِ هُوَ أَنَّ أَصْلَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ كُلِّهَا الْحَوَاسُّ، فَإِذَا قَوِيَ الْحِسُّ عَلَى إدْرَاكِ أَمْرٍ مِمَّا اتَّضَحَتْ فُصُولُهُ الذَّاتِيَّةُ عِنْدَ الْعَقْلِ فَأَدْرَكَ حَقِيقَةَ مَاهِيَّتِهِ سَاغَ لَهُ حَدُّهُ، وَإِذَا ضَعُفَ الْحِسُّ عَنْ إدْرَاكِ شَيْءٍ مِمَّا خَفِيَتْ فُصُولُهُ الذَّاتِيَّةُ عَنْ الْعَقْلِ، فَلَمْ يُدْرِكْ حَقِيقَتَهُ وَمَاهِيَّتَهُ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى حَدِّهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الرَّوَائِحُ وَالطُّعُومُ لَمَّا ضَعُفَ الْحِسُّ عَنْ إدْرَاكِهَا عَسِرَ حَدُّهَا، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: عُسْرُ الْحَدِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِّ تَصَوُّرُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَصْلُ غَلَطِهِمْ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا فِي الْأَذْهَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَائِمَةٌ بِصُورَةِ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ طَابَقَ أَمْ لَا، وَلَيْسَ هُوَ تَابِعًا لِلْحَقَائِقِ فِي نَفْسِهَا. تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ [الْقَصْدُ مِنْ الْحَدِّ] بَانَ مِمَّا سَبَقَ عَنْ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْحَدِّ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْإِرْشَادِ ": قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْقَصْدُ مِنْ

التَّحْدِيدِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْفَرْقُ بِخَاصَّةِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. اهـ. وَلِهَذَا كَانَ الِاضْطِرَادُ وَالِانْعِكَاسُ لَا يَتِمُّ الْحَدُّ إلَّا بِهِمَا. وَأَمَّا الْمَنَاطِقَةُ فَقَالُوا: إنَّ فَائِدَةَ الْحَدِّ التَّصْوِيرُ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أُمُورًا سَتَأْتِي. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمِيعُ الطَّوَائِفِ أَنَّ فَائِدَتَهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُجَوِّزُ الْحَدَّ إلَّا بِمَا يُمَيِّزُ الْمَحْدُودَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إلَى مَا صَارَ إلَيْهِ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ شَرِيفٌ يَنْبَغِي الْإِحَاطَةُ بِهِ فَإِنَّ بِسَبَبِ إهْمَالِهِ دَخَلَ الْفَسَادُ فِي الْمَعْقُولِ وَالْأَدْيَانِ عَلَى كَثِيرٍ، إذْ خَلَطُوا مَا ذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ فِي الْحُدُودِ بِالْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ، وَصَارُوا يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الْحُدُودِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُفِيدُ تَصْوِيرَ الْحَقَائِقِ، وَطُولُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ مِمَّا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ. قُلْت: وَبَنَى الْمَنْطِقِيُّونَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَوَاعِدَ: إحْدَاهَا: قَالُوا: الْحَدُّ لَا يُكْتَسَبُ بِالْبُرْهَانِ أَيْ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِبُرْهَانٍ وَعَقَدُوا الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الْبُرْهَانَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَضَايَا الَّتِي فِيهَا حُكْمٌ، وَالْحَدُّ لَا حُكْمَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَوُّرٌ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَقُّ أَنَّا إذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ مَثَلًا حَيَوَانٌ نَاطِقٌ فَلَهُ أَرْبَعُ اعْتِبَارَاتٍ: أَحَدُهَا: تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ، وَهُوَ تَصَوُّرٌ لَا حُكْمَ فِيهِ فَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ. ثَانِيهَا: دَعْوَى الْحَدِّيَّةِ، وَهَذَا يُمْنَعُ وَيُسْتَدَلُّ بِبَيَانِ صَلَاحِيَةِ هَذَا الْحَدِّ

لِلتَّعْرِيفِ مِنْ اطِّرَادِهِ وَانْعِكَاسِهِ، وَصَرَاحَةِ أَلْفَاظِهِ. ثَالِثَهَا: دَعْوَى الْمَدْلُولِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْمَعْنَى لُغَةً أَوْ شَرْعًا فَهَذَا يُمْنَعُ وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ " نِهَايَةِ الْعُقُولِ "، وَكَذَلِكَ قَيَّدَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ إطْلَاقَهُمْ مَنْعَ اكْتِسَابِهِ بِالْبُرْهَانِ. قَالَ: أَمَّا لَوْ أُرِيدَ بِالْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ مَدْلُولُهُ لُغَةً أَوْ شَرْعًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ النَّقْلِ. رَابِعَهَا: أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ ذَاتَ الْإِنْسَانِ مَحْكُومٌ عَلَيْهَا بِالْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ وَالْمُطَالَبَةُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حَدًّا بَلْ دَعْوًى. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَيْضًا. وَقَالَ فِي " الْمُلَخَّصِ ": هَذَا بِحَسَبِ الِاسْمِ، أَمَّا إذَا كَانَ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ أَنْ يُشِيرَ إلَى مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ، وَيَزْعُمَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَذَا وَكَذَا، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْحُجَّةِ، وَاَلَّذِي أَطْلَقَهُ هُنَا ابْنُ سِينَا فِي كُتُبِهِ امْتِنَاعُ الِاكْتِسَابِ لِلْحَدِّ بِطَرِيقِ الْبُرْهَانِ مُطْلَقًا. وَذُكِرَ عَنْ " أَفْلَاطُونَ " أَنَّهُ يُكْتَسَبُ بِالْقِسْمَةِ، وَزَيَّفَهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ النَّقْضُ وَالْمُعَارَضَةُ عَلَى الْحَدِّ، وَقَدْ اتَّفَقَ النُّظَّارُ عَلَى تَوَجُّهِهِمَا. ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَنَا: أَنَّ الْحَدَّ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّعَاوَى، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ النَّقْضُ، وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ النَّقْضُ عَلَى تَسْلِيمِ بُعْدِ الْحَدِّ. مِثَالُهُ: إذَا قِيلَ: الْعِلْمُ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ مِنْ الْمَوْصُوفِ بِهِ أَحْكَامُ الْفِعْلِ،

فَإِذَا قِيلَ هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْعِلْمِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَالَاتِ، فَإِنَّهُ عِلْمٌ وَلَا يُفِيدُ أَحْكَامًا، فَهَذَا النَّقْضُ إنَّمَا يَسْلَمُ بَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُودِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُحَالَاتِ. فَلَوْ لَمْ تَسْلَمْ هَذِهِ الدَّعْوَى لَمْ يُمْكِنْ تَوَجُّهُ النَّقْضِ إلَيْهِ. قَالَ: وَكَذَا الْمُعَارَضَةُ لَا يُمْكِنُ الْقَدَحُ بِهَا فِي الْحَدِّ إلَّا عِنْدَ تَسْلِيمِ الدَّعْوَى، وَإِلَّا فَالْحَقَائِقُ غَيْرُ مُتَعَانِدَةٍ فِي مَاهِيَّاتِهَا، فَإِنَّ مَنْ عَارَضَ هَذَا الْحَدَّ بِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْمُقْتَضِي سُلُوكَ النَّفْسِ فَلَيْسَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ تَعَانُدٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ مُنَافَاةٌ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُعَارَضَةُ فِي الْحُدُودِ. الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يُمْنَعُ، فَإِنَّ الْمَنْعَ يُشْعِرُ بِطَلَبِ الدَّلِيلِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يُبَرْهَنُ عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ، وَبَيَانُ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَنَّهُ فِي إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ يَفْتَقِرُ إلَى إثْبَاتِ مُقَدِّمَتَيْنِ. ثُمَّ فِي إثْبَاتِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَفْتَقِرُ إلَى إثْبَاتِ مُقَدِّمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَهَكَذَا إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، فَيَلْزَمُ إمَّا الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ، وَهُمَا بَاطِلَانِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: يَجُوزُ مَنْعُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى فَجَازَ أَنْ يُصَادَمَ بِالْمَنْعِ كَغَيْرِهِ مِنْ الدَّعَاوَى. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَرْجِعَ الْمَنْعِ طَلَبُ الْبُرْهَانِ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ عَلَى مَا قَرَّرُوهُ، وَلَيْسَ كُلُّ دَعْوَى تُصَادَمُ بِالْمَنْعِ بِدَلِيلِ الْأَوَّلِيَّاتِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا، وَلَمْ يُسْمَعْ مَنْعُهَا. وَقَالَ الْجَاجَرْمِيُّ فِي رِسَالَتِهِ " إنَّ هَذَا يَنْشَأُ عَنْ حَدِّ الْحَدِّ مَا هُوَ؟ حَتَّى يُنْظَرَ فِيهِ أَنَّهُ هَلْ يُمْنَعُ أَمْ لَا؟ وَالْحَدُّ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا وَقَدْ يَكُونُ رَسْمِيًّا.

الحد الحقيقي والحد الرسمي

[الْحَدّ الْحَقِيقِيّ وَالْحَدُّ الرَّسْمِيُّ] ُّ] فَنَقُولُ: الْحَادُّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ، وَهُوَ قَوْلُنَا: إنْسَانٌ مَوْضُوعٌ لِلْحَيَوَانِ النَّاطِقِ أَوْ يَدَّعِيَ أَنَّ ذَاتَ الْإِنْسَانِ مَحْكُومٌ عَلَيْهَا بِالْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ، أَوْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْإِنْسَانِ إنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ الْإِشَارَةَ إلَى هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ الْمُتَصَوَّرَةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ عَلَيْهَا بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، فَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى فَلِمَاذَا لَا يُمْنَعُ؟ ، وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الدَّعَاوَى؟ ؛ لِأَنَّهُ فِي إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى كُلِّ مُقَدِّمَةٍ يَفْتَقِرُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَدُورُ وَلَا يَتَسَلْسَلُ، بَلْ يَنْتَهِي إلَى مُقَدِّمَةٍ أَوَّلِيَّةٍ، أَوْ قَطْعِيَّةٍ وَكَذَا هُنَا. قَالَ: وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا إجْمَاعُ النُّظَّارِ عَلَى النَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ عَلَى الْحَدِّ، وَمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ النَّقْضُ وَالْمُعَارَضَةُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَأَخِّرَانِ فِي الرُّتْبَةِ عَنْ الْمَنْعِ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ نَحْوَ الْخَبَرِ، وَلَا خَبَرَ هُنَاكَ. اهـ. وَهَذَا يَنْظُرُ لِمَا سَبَقَ فِي طَلَبِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ، وَنَقْلُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَوْجِيهِ الْمُعَارَضَةِ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ السَّابِقِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَقَدْ مَنَعَ بَعْضُهُمْ الْمُعَارَضَةَ فِيهِ. قَالَ: لِأَنَّهَا تُشْعِرُ بِصِحَّةِ الْمُعَارِضِ قَبْلَهُ، فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ حَدَّيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ لِمَحْدُودٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إنْ كَانَتْ فِي حَدٍّ رَسْمِيٍّ، فَلَا نُبْطِلُهُ. فَإِنَّهُ يَجُوزُ

فِيهِ التَّعَدُّدُ عَلَى مَا سَيَأْتِي لِتَعَدُّدِ اللَّوَازِمِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ، وَقُلْنَا لَيْسَ لِشَيْءٍ حَدَّانِ ذَاتِيَّانِ، فَالْمُعَارَضَةُ إبْطَالٌ. وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِهِ فَلَا إبْطَالَ فِيهَا. وَأَمَّا الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ فَلَا مَدْخَلَ لِلْمَنْعِ فِيهِ وَلَا لِلْمُعَارَضَةِ قَطْعًا. وَقَالَ الرَّشِيدُ الْحَوَارِيُّ. إنَّمَا تَدْخُلُهُ الْمُعَارَضَةُ بِحَدٍّ أَرْجَحَ مِنْهُ أَوْ النَّقْضُ، كَمَا لَوْ قِيلَ: حَدُّ الْغَصْبِ إثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ عَلَى مَالٍ لِلْغَيْرِ، وَقَالَ الْخَصْمُ: بَلْ إثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ مَعَ إزَالَةِ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ. فَيَقُولُ: هَذَا يَبْطُلُ بِالْغَاصِبِ مِنْ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ، وَالْغَصْبُ مُحَقَّقٌ. قَالَ: وَقَدْ يَتَكَايَسُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَيَقُولُ: الْحَدُّ لَا يُمْنَعُ بَعْدَمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حَدًّا، وَلَكِنْ لِمَ قُلْت: إنَّمَا ذَكَرْته حَدٌّ؟ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: الْحَدُّ لَا يُمْنَعُ أَيْ: مَا يُدَّعَى كَوْنُهُ حَدًّا لَا يُمْنَعُ، وَإِلَّا كُلُّ مَا صَحَّ كَوْنُهُ حَدًّا فَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ، ثُمَّ كُلُّ دَعْوَى ادَّعَاهَا الْإِنْسَانُ وَصَحَّ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُهُ، فَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ، فَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِالْحَدِّ. . [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي [حَدُّ الشَّيْءِ بِحَدَّيْنِ فَأَكْثَرَ] مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ حَدَّانِ فَأَكْثَرُ، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِهِ " الْإِفَادَةِ " فِيهِ خِلَافًا، وَاخْتَارَ الْجَوَازَ. قَالَ: وَلَا يَمْتَنِعُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ عِدَّةُ أَوْصَافٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْصُرُهُ، وَكَمَا قَالُوا فِي الْحَرَكَةِ: نَقْلَةٌ وَزَوَالٌ وَذَهَابٌ فِي جِهَةٍ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ التَّعَدُّدَ يُؤَدِّي إلَى الْمُنَاقَضَةِ، وَيَبْطُلُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ حَقًّا مَمْنُوعٌ. اهـ.

وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تُفِيدُ أَنَّ نِزَاعَهُمْ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ، وَعَلَى هَذَا احْتِجَاجُهُ بِمَا ذُكِرَ لَا يَقْوَى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّعَدُّدِ فِي اللَّفْظِيِّ وَالرَّسْمِيِّ، وَقَدْ نَبَّهَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى أَنَّ امْتِنَاعَ تَعَدُّدِ الْحَدَّيْنِ الذَّاتِيَّيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ الذَّاتِيِّ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ الذَّاتِيِّ قَبْلَ فَهْمِهِ. فَإِنَّ الْقَصْدَ بِهِ فَهْمُ ذَاتِيَّاتِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ حِينَ فُهِمَ جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِهَا؛ لِأَجْلِ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ. وَوُجُودُ اشْتِمَالِهِ عَلَى ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ التَّعَدُّدِ، وَسَكَتَ عَمَّا يَقْتَضِيهِ التَّعْرِيفَانِ الْأَخِيرَانِ لِلذَّاتِيِّ، بَلْ قَضِيَّتُهُ أَنَّهُمَا لَا يَقْتَضِيَانِ امْتِنَاعَ التَّعَدُّدِ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ خِلَافٌ فِي التَّعَدُّدِ فِي الْحَقِيقِيِّ، وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِجَوَازِ التَّعَدُّدِ فِي الرَّسْمِيِّ وَاللَّفْظِيِّ. أَمَّا اللَّفْظِيُّ فَلِأَنَّهُ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ الْأَسَامِي الْمَوْضُوعَةِ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا الرَّسْمِيُّ فَلِأَنَّ عَوَارِضَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَلَوَازِمَهُ قَدْ تَكْثُرُ بِخِلَافِ الْحَقِيقِيِّ، فَإِنَّ الذَّاتِيَّاتِ مَحْصُورَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا لَمْ يَكُنْ حَدًّا حَقِيقِيًّا. وَإِنْ ذَكَرَ مَعَهَا زِيَادَةً فَهِيَ حَشْوٌ، فَإِذَنْ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ لَا يَتَعَدَّدُ. [التَّنْبِيهُ] الثَّالِثُ [الْفَصْلُ هَلْ هُوَ عِلَّةٌ لِوُجُودِ الْجِنْسِ؟] اخْتَلَفُوا أَنَّ الْفَصْلَ هَلْ هُوَ عِلَّةٌ لِوُجُودِ الْجِنْسِ؟ فَقَالَ ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ. نَعَمْ، لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ جِنْسٍ مُجَرَّدٍ عَنْ الْفُصُولِ، كَالْحَيَوَانِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَخَالَفَهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ؛ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ مِنْ ذَاتٍ وَصِفَةٍ أَخَصُّ

مِنْهَا، كَالْحَيَوَانِ الْكَاتِبِ يَكُونُ الذَّاتُ جِنْسَهَا، وَالصِّفَةُ فَصْلَهَا مَعَ امْتِنَاعِ كَوْنِ الصِّفَةِ عِلَّةً لِلذَّاتِ لِتَأَخُّرِهَا عَنْهَا، وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ اعْتِبَارِيَّةٌ، وَالْكَلَامُ فِي الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْعِلَّةِ أَحْكَامٌ: مِنْهَا: أَنَّ الْفَصْلَ الْوَاحِدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّوْعِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ جِنْسًا لَهُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، كَمَا ظَنَّ جَمَاعَةٌ أَنَّ النَّاطِقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَصْلٌ لِلْإِنْسَانِ، وَإِلَى الْمَلَكِ جِنْسٌ لَهُ، وَالْحَيَوَانُ بِالْعَكْسِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ لَوْ كَانَ جِنْسًا، لَكَانَ مَعْلُولًا لِلْجِنْسِ الْمَعْلُولِ لَهُ، فَيَكُونُ الْمَعْلُولُ عِلَّةً لِعِلَّتِهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْفَصْلَ لَا يُقَارِنُ إلَّا جِنْسًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ لَوْ قَارَنَ جِنْسَيْنِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يَلْتَئِمَ مِنْ الْفَصْلِ وَأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ مَاهِيَّةٌ، وَمِنْهُ وَمِنْ الْآخَرِ أُخْرَى؛ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ لِمَاهِيَّةٍ وَاحِدَةٍ جِنْسَانِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ يَلْزَمُ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ ضَرُورَةَ وُجُودِ الْفَصْلِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَاهِيَّتَيْنِ، وَعَدَمِ جِنْسِ مَا لَزِمَهَا فِي الْأُخْرَى. وَمِنْهَا: أَنَّ الْفَصْلَ لَا يُقَوِّمُ إلَّا نَوْعًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ امْتِنَاعُ أَنْ يُقَارِنَهُ إلَّا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْفَصْلَ الْقَرِيبَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا، فَإِنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَ لَزِمَ تَوَارُدُ عِلَّتَيْنِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالذَّاتِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ تَكْثِيرَ الْفُصُولِ، وَالْحَقُّ: أَنَّ الْفَصْلَ لَا تَجُوزُ زِيَادَتُهُ عَلَى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ لِوُجُودِ حِصَّةِ النَّوْعِ مِنْ الْجِنْسِ، فَإِنْ كَفَى الْوَاحِدُ فِي التَّقْوِيمِ اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْآخَرِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فَصْلًا، وَحَيْثُ وُجِدَ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ تَعَدُّدُ الْفُصُولِ بِقَوْلِهِمْ: فَصْلٌ ثَانٍ

وَثَالِثٌ، فَلَا تَحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ. فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ فَصْلٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا جَعَلُوهُ فَصْلًا هُوَ جُزْءُ الْفَصْلِ، وَلَمَّا ذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى بُطْلَانِ قَاعِدَةِ الْعِلِّيَّةِ جَوَّزَ الْفُرُوعَ الثَّلَاثَةَ. الْأَوَّلُ: لِجَوَازِ تَرْكِيبِ الشَّيْءِ مِنْ أَمْرَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ كَالْحَيَوَانِ، وَالْأَبْيَضِ. فَالْمَاهِيَّةُ إذَنْ تَرَكَّبَتْ مِنْهُمَا، لِكَوْنِ الْحَيَوَانِ جِنْسًا وَالْأَبْيَضِ فَصْلًا لَهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَيَوَانِ الْأَسْوَدِ وَبِالْعَكْسِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمَادِ الْأَبْيَضِ. فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جِنْسًا وَفَصْلًا، وَهُوَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ. وَفَصْلًا يُقَارِنُ جِنْسَيْنِ لَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ. وَهُوَ الْحُكْمُ الثَّانِي الْمُسْتَلْزِمُ لِلثَّالِثِ. وَقَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: ذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّ الْفَصْلَ الْوَاحِدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ جِنْسًا لَهُ، وَيَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِجِنْسَيْنِ، فَيَكُونُ مُقَوِّمًا لِنَوْعَيْنِ، وَذَلِكَ فِي الْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ قَيْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ، كَالْحَيَوَانِ الْأَبْيَضِ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ يَصْدُقُ عَلَى الْأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ، وَالْأَبْيَضَ يَصْدُقُ عَلَى الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ جَعَلْت الْحَيَوَانَ جِنْسًا لِهَذِهِ الْمَاهِيَّةِ كَانَ الْأَبْيَضُ فَصْلًا لَهَا. وَإِنْ جَعَلْت الْأَبْيَضَ جِنْسًا لَهَا كَانَ الْحَيَوَانُ فَصْلًا. قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: وَاَلَّذِي نَقُولُهُ: إنَّا نَمْنَعُ أَنَّ مَاهِيَّتَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ تَتَأَلَّفُ عَنْ هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ وَإِنَّمَا يَتَأَلَّفُ عَنْهُمَا مَاهِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ. وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي الْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا يَتَرَكَّبُ مِمَّا هَذَا شَأْنُهُ.

أقسام الحد

[أَقْسَامُ الْحَدِّ] [أَقْسَامُ الْحَدِّ] وَأَمَّا أَقْسَامُهُ: فَحَقِيقِيٌّ وَرَسْمِيٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ثَلَاثَةٌ، وَيَزِيدُ اللَّفْظِيَّ، وَعَلَيْهِ جَرَى ابْنُ الْحَاجِبِ، وَمَا ذَكَرْنَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ نُطْقٌ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْمَنْطُوقِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ مِنْ اللَّفْظِيِّ، لِمَا سَنَذْكُرُهُ. فَالْحَقِيقِيُّ هُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مُقَوِّمَاتِ الشَّيْءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْخَاصَّةِ. وَالرَّسْمِيُّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى عَوَارِضِهِ وَخَوَاصِّهِ اللَّازِمَةِ. وَرُبَّمَا قِيلَ: إنَّهُ اللَّفْظُ الشَّارِحُ لِلشَّيْءِ بِحَيْثُ يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي أَكْثَرِ التَّعْرِيفَاتِ، فَإِنَّ الْحَدَّ الْحَقِيقِيَّ يَعِزُّ وُجُودُهُ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَكْثَرُ هُوَ الرَّسْمِيُّ. فَإِنَّ الْحَقِيقِيَّ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ وَغَيْرِهَا وَتَرْتِيبِهَا عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ بَعْضُ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ الْحَدُّ إلَّا وَاحِدًا، وَهُوَ الْحَقِيقِيُّ، وَأَمَّا التَّعْرِيفُ بِالرَّسْمِ وَاللَّفْظِ فَلَا يُسَمَّى حَدًّا. فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، وَعَلَى الْأَوَّلَيْنِ فَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الْحَدَّ يُطْلَقُ عَلَى مُسَمَّيَاتِهِ بِالِاشْتِرَاكِ، كَدَلَالَةِ الْعَيْنِ عَلَى الْبَاصِرَةِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِهِمَا.

وَالْحَقُّ: أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَيْهَا دَلَالَةُ التَّوَاطُؤِ، كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْحَيَوَانِ عَلَى مَا تَحْتَهُ مِنْ الْأَنْوَاعِ. ثُمَّ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ التَّعْرِيفَ إنْ كَانَ بِالْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَالْفَصْلِ فَهُوَ الْحَدُّ التَّامُّ، وَهُوَ تَعْرِيفٌ بِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ. وَإِنْ كَانَ بِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ مُسَاوٍ لِلْمَاهِيَّةِ فَهُوَ الْحَدُّ النَّاقِصُ، كَالتَّعْرِيفِ بِالْفَصْلِ فَقَطْ، كَالنَّاطِقِ أَوْ بِالْجِنْسِ بِالْبَعِيدِ مَعَهُ كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْرِيفُ بِجُزْءِ الْمَاهِيَّةِ مَعَ الْخَارِجِ عَنْهَا فَهُوَ الرَّسْمُ التَّامُّ، كَالْحَيَوَانِ الضَّاحِكِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجُزْءُ أَعَمَّ. أَمَّا لَوْ قُلْت: النَّاطِقُ الضَّاحِكُ فَالْحَدُّ هُوَ النَّاطِقُ، وَالضَّاحِكُ حِينَئِذٍ لَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ التَّعْرِيفَاتِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْرِيفُ بِالْخَارِجِ وَحْدَهُ فَهُوَ الرَّسْمُ النَّاقِصُ، كَالضَّاحِكِ، وَإِنْ كَانَ بِتَبْدِيلِ لَفْظٍ بِلَفْظٍ أَجْلَى مِنْهُ عِنْدَ السَّامِعِ فَهُوَ اللَّفْظِيُّ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى اللُّغَةِ، وَلَيْسَ مِنْ الْحُدُودِ فِي شَيْءٍ. وَمَنْ اشْتَرَطَ الْأَجْلَى يَعْلَمُ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ مِنْ تَعْرِيفِ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ بِالْآخَرِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الشُّهْرَةِ لَا يُسَمَّى حَدًّا لَفْظِيًّا اصْطِلَاحًا. [كَيْفِيَّةُ تَرْكِيبِ الْحَدِّ] وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تَرْكِيبِهِ فَمِنْ شَيْئَيْنِ، وَهُمَا مَادَّتُهُ وَصُورَتُهُ. وَالْمُرَادُ بِهِمَا جِنْسُهُ وَفَصْلُهُ، وَأَمَّا جِنْسُهُ: فَيَقُومُ مَقَامَ مَادَّتِهِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ، وَأَمَّا فَصْلُهُ: فَيَقُومُ مَقَامَ صُورَتِهِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ. كَذَا اقْتَصَرَ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ

شروط صحة الحد

تَبِعَهُ كَالْآمِدِيِّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ عَلَى ذِكْرِ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلْفَاعِلِيَّةِ وَالْغَائِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وُضِعَ لِيُبَيِّنَ صُورَةَ الشَّيْءِ، إذْ الصُّورَةُ إنَّمَا هِيَ كَمَالُ وُجُودِ الشَّيْءِ، وَهِيَ أَشْرَفُ مَا بِهِ قِوَامُهُ، فَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ تُوجَدَ أَجْزَاءُ الْحَدِّ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ لَا مِنْ جِهَةٍ غَيْرِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا أُوجِدَ الْحَدُّ بِجِنْسِهِ وَفَصْلِهِ صُوِّرَ الشَّيْءُ بِصُورَتِهِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ مِنْ مَادَّتِهِ، وَأَرَدْنَا كَمَالَ الْحَدِّ بِذِكْرِ بَاقِي أَسْبَابِ وُجُودِهِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تُذْكَرَ فِي الْحَدِّ عَلَى جِهَةِ التَّبَعِ، فَيَكُونُ الْحَدُّ حِينَئِذٍ كَامِلًا قَدْ كَمُلَتْ فِيهِ جَمِيعُ أَسْبَابِ الشَّيْءِ الدَّاخِلَةِ فِي ذَاتِهِ، وَهُمَا مَادَّتُهُ وَصُورَتُهُ، وَالْخَارِجَةُ عَنْ ذَاتِهِ وَهُمَا فَاعِلُهُ وَغَايَتُهُ. وَكَذَا قَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ". قَالَ: وَتَرْتِيبُهُ فِيهَا عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي السَّبَبِيَّةِ، فَتُؤْخَذُ الصُّورَةُ أَوَّلًا الَّتِي هِيَ أَقْوَى سَبَبَيْ الشَّيْءِ الدَّاخِلَيْنِ فِي ذَاتِهِ، ثُمَّ تُتْبَعُ بِالْمَادَّةِ، ثُمَّ بِالْخَارِجَيْنِ عَنْ ذَاتِهِ. فَيَكُونُ هَذَا الْحَدُّ أَكْمَلَ الْحُدُودِ، وَلَوْ اقْتَصَرْنَا عَلَى صُورَتِهِ لَكَفَى لَكِنَّ هَذَا أَكْمَلُ. انْتَهَى. [شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَدِّ] [شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَدِّ] وَأَمَّا شُرُوطُ صِحَّتِهِ: فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى. فَمِنْ الْمَعْنَوِيَّةِ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْمَحْدُودِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: الِاطِّرَادُ، وَمَانِعًا عَنْ دُخُولِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ فِي الْحَدِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: الِانْعِكَاسُ. قَالَهُ الْقَرَافِيُّ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ: الْمُطَّرِدُ هُوَ الْمَانِعُ وَالْمُنْعَكِسُ هُوَ الْجَامِعُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ أَوْفَقُ لِلِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ. فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِنَا: اطَّرَدَ كَذَا أَنَّهُ وُجِدَ وَاسْتَمَرَّ. فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الطَّرْدِ الْوُجُودَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، وَإِنَّمَا صَوَّبْنَا الثَّانِيَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى وَصْفِهِ بِالِاطِّرَادِ أَنَّ تَعْرِيفَهُ لِلْمَحْدُودِ. مُطَّرِدٌ، وَهَذَا الَّذِي تَحَقَّقَ وَصْفُهُ بِالْحَدِّ، فَالْمُرَادُ اطِّرَادُ التَّعْرِيفِ. تَنْبِيهٌ هَلْ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ شَرْطُ الصِّحَّةِ أَوْ دَلِيلُهَا؟ خِلَافٌ. حَكَاهُ الْأَنْبَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ "، فَإِنْ كَانَ شَرْطًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُجُودِهِ صِحَّةُ الْحَدِّ، وَيَلْزَمُ مِنْ الِانْتِفَاءِ الْفَسَادُ، وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الصِّحَّةِ لَزِمَ مِنْ الْوُجُودِ الصِّحَّةُ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ الِانْتِفَاءِ الْفَسَادُ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا دَلِيلٌ؛ لِأَنَّا نَجِدُ حُدُودًا مُطَّرِدَةً وَمُنْعَكِسَةً، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهَا مَقْصُودُ الْبَيَانِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالصِّحَّةِ، كَقَوْلِنَا: الْعِلْمُ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ عِلْمًا. فَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ: عُرِفَتْ صِحَّتُهُ بِاطِّرَادِهِ وَانْعِكَاسِهِ فَتَجَوُّزٌ. اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْحَدِّ الِاطِّرَادُ وَالِانْعِكَاسُ، وَمَا اطَّرَدَ وَلَمْ يَنْعَكِسْ جَرَى مَجْرَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَوْ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ أَخْفَى مِنْ الْمَحْدُودِ، وَلَا مُسَاوِيًا لَهُ فِي الْخَفَاءِ، وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ بِأَنْ تَكُونَ الْعِبَارَةُ أَوْضَحَ مِنْهُ وَأَسْبَقَ

الخفاء هل يعتبر الخفاء بالنسبة إلى الحاد أو إلى كل أحد

إلَى فَهْمِ السَّامِعِ، وَأَنْ يَكُونَ شَائِعًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَحْدُودِ، وَلَا يَجُوزُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يَكُونُ عِلَّتَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. [الْخَفَاءُ هَلْ يُعْتَبَرُ الْخَفَاءُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَادِّ أَوْ إلَى كُلِّ أَحَدٍ] تَنْبِيهٌ [الْخَفَاءُ] هَلْ يُعْتَبَرُ الْخَفَاءُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَادِّ أَوْ إلَى كُلِّ أَحَدٍ؟ مِثَالُهُ النَّفْسُ أَخْفَى مِنْ النَّارِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ شَخْصًا عَرَّفَ نَفْسَهُ أَجْلَى مِنْ النَّارِ، فَهَلْ تُحَدُّ لَهُ النَّارُ بِأَنَّهَا جِسْمٌ كَالنَّفْسِ؟ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ الْمَنْعُ، وَالظَّاهِرُ: الْجَوَازُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا عَلَى اخْتِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ، فَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ لَا بُدَّ فِي الْحَدِّ مِنْ التَّرْكِيبِ، وَمَنَعَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَنَقَلَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ: وَإِلَيْهِ يَمِيلُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ ": الصَّحِيحُ: جَوَازُهُ، وَمَنْ مَنَعَهُ اعْتَبَرَهُ بِالْعِلَّةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَرْكِيبِ الْحَدِّ مِنْ وَصْفَيْنِ فَأَكْثَرَ. فَمَنَعَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْجَمْعَ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ إذَا أَمْكَنَ إفْرَادُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ عَنْ الْآخَرِ، وَلِهَذَا اخْتَارَ فِي حَدِّ الْجِسْمِ أَنَّهُ الطَّوِيلُ الْعَرِيضُ الْعَمِيقُ، وَاخْتَارَ الْبَاقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا تَرْكِيبَ الْحَدِّ مِنْ وَصْفَيْنِ وَأَكْثَرَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا.

وَزَعَمَتْ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا مِنْ جِنْسٍ وَفَصْلٍ. وَزَعَمُوا أَنَّ مَا اطَّرَدَ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ وَانْعَكَسَ فَهُوَ رَسْمٌ لَا حَدٌّ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ قَوْلَنَا: الْإِنْسَانُ هُوَ الضَّاحِكُ رَسْمٌ، وَقَوْلُهُمْ: الْإِنْسَانُ حَيٌّ نَاطِقٌ مَائِتٌ حَدٌّ؛ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ جِنْسٍ وَفَصْلٍ. انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِمَنْعِ التَّرْكِيبِ تَكْلِيفَ الْمَسْئُولِ أَنْ يَأْتِيَ فِي حَدِّ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ، إذْ الْمَقْصُودُ اتِّحَادُ الْمَعْنَى بِدُونِ اللَّفْظِ، وَالْعِبَارَاتُ لَا تُقْصَدُ لِأَنْفُسِهَا، وَلَيْسَتْ هِيَ حُدُودًا بَلْ مُنْبِئَةٌ عَنْ الْحُدُودِ. {تَنْبِيهٌ} ظَاهِرُ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أَنَّ خِلَافَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمَنْطِقِيِّينَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: لَمْ يَتَوَارَدْ كَلَامُهُمَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ. بَلْ الْمُرَادَانِ مُتَغَايِرَانِ، فَمُرَادُ الْمَنْطِقِيِّينَ بِالتَّرْكِيبِ هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ جِنْسٍ وَفَصْلٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْحَدِّ، وَالتَّرْكِيبُ الَّذِي أَرَادَهُ الْأُصُولِيُّونَ هُوَ تَدَاخُلُ الْحَقَائِقِ، وَهُوَ مُبْطِلٌ لِلْمَحْدُودِ. مِثَالُهُ: إذَا حُدَّ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ مِنْ الْمُتَّصِفِ بِهِ إحْكَامُ الْفِعْلِ وَإِتْقَانُهُ، فَيُقَالُ: هَذَا فِيهِ تَرْكِيبٌ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ، فَتَكُونُ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ عِلْمًا؛ وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ دَاخِلَتَيْنِ فِي الْعِلْمِ لَزِمَ التَّرْكِيبُ الْمُفْسِدُ لِلْحَدِّ، وَإِنْ كَانَتَا خَارِجَتَيْنِ عَنْ الْعِلْمِ، فَالْعِلْمُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَصِحُّ بِهِ الْإِحْكَامُ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ الْعَاجِزَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِحْكَامُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ.

فرع التحديد بما يجري مجرى التقسيم

[فَرْعٌ التَّحْدِيدُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّقْسِيمِ] ِ] قَالَ الْأُسْتَاذُ: اخْتَلَفُوا فِي التَّحْدِيدِ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّقْسِيمِ، فَالْمَانِعُونَ مِنْ تَرْكِيبِ الْحَدِّ مَنَعُوهُ، وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ مَنْ أَجَازَ التَّرْكِيبَ. نَحْوَ: الْخَبَرُ مَا كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، وَحَقِيقَةُ الْوُجُودِ مَا كَانَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا، وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ فِي أَنَّ التَّقْسِيمَ فِي الْحَدِّ هَلْ يُفْسِدُهُ؟ أَحَدُهَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالتَّقْسِيمُ يَقْتَضِي التَّعَدُّدَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ " أَوْ " لِلتَّرَدُّدِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلتَّعْرِيفِ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا وَلَا تَرَدُّدَ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: وَصَحَّحَهُ، إنْ كَانَ التَّقْسِيمُ مِنْ نَفْسِ الْحَدِّ أَفْسَدَهُ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهُ لِمَقْصُودِ الْبَيَانِ لَمْ يُفْسِدْهُ. قَالَ: وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّقْسِيمُ مِنْ نَفْسِ الْحَدِّ إذَا كَانَ بِحَيْثُ إذَا أُسْقِطَ مِنْ الْحَدِّ وَرَدَ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ، وَمِنْهَا قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ تُصَدَّرَ الْحُدُودُ بِلَفْظَةِ " كُلٍّ " هَكَذَا أَطْلَقُوهُ. وَكَانَ مَقْصُودُهُمْ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ، أَيْ كُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ حِينَئِذٍ يَكُونُ لِكُلِّ فَرْدٍ، فَيَكُونُ حَدًّا وَاحِدًا لِأَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ صَادِقًا عَلَى كُلٍّ مِنْهَا. مِثَالُهُ: الْإِنْسَانُ كُلُّ حَيَوَانٍ نَاطِقٌ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ الْحَدُّ مَنْطِقِيًّا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ، فَيَكُونُ حَدًّا وَاحِدًا صَادِقًا عَلَى ذَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّك تَكُونُ حَكَمْت عَلَى زَيْدٍ مَثَلًا بِأَنَّهُ كُلُّ حَيَوَانٍ نَاطِقٌ، وَغَيْرُهُ يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ غَيْرَ مَانِعٍ، وَيَجِبُ تَنْزِيلُ إطْلَاقِهِمْ الْمَنْعَ عَلَى هَذَا

أَمَّا بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيِّ الْمَجْمُوعِيِّ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظِ " كُلٍّ " فِي الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ حِينَئِذٍ الْمَاهِيَّةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُرَادَةٍ بِلَفْظِ " كُلٍّ "، وَالْحَدُّ لِمَجْمُوعِهَا، إذْ لَا مَانِعَ أَنْ تُحِدَّ شَيْئًا وَاحِدًا مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ خَارِجِيَّةٍ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَذَلِكَ كَثِيرٌ. وَمِنْ هَاهُنَا يَظْهَرُ أَنَّ الْكُلِّيَّ لَا يَجُوزُ تَصْدِيرُ حَدِّهِ بِلَفْظَةِ " كُلٍّ "؛ لِأَنَّ الْحَدَّ فِيهِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ، وَ " كُلٌّ " مَوْضُوعُهَا كُلِّيَّةٌ. وَمِنْ اللَّفْظِيَّةِ تَوَقِّي الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ الْوَحْشِيَّةِ وَالِاشْتِرَاكِ [وَ] الْإِجْمَالِ وَالتَّكْرَارِ وَالْمَجَازِ غَيْرِ الشَّائِعِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ لِبُعْدِ الْبَيَانِ، فَإِنْ اقْتَرَنَتْ قَرِينَةُ مَعْرِفَةٍ فَفِيهِ خِلَافٌ. قَالَ الْأَنْبَارِيُّ: وَالصَّحِيحُ: الْقَبُولُ، وَالْأَحْسَنُ: التَّرْكُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنْ كَانَ اللَّفْظُ نَصًّا فَهُوَ أَحْسَنُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُدُودِ، وَكَذَا إنْ كَانَ ظَاهِرًا وَاحْتِمَالُهُ بَعِيدٌ. فَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ مُلْتَبِسًا فَلَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ مُجَرَّدًا عَنْ الْقَرِينَةِ بِحَالٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهِ مَعَ الْقَرِينَةِ الْمَقَالِيَّةِ كَقَوْلِنَا: الْعِلْمُ الثِّقَةُ بِالْمَعْلُومِ، فَإِنَّ الثِّقَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَمَانَةِ وَالْعِلْمِ: لَكِنَّ ذِكْرَ الْمَعْلُومِ يَقْطَعُ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكَ، وَيُبَيِّنُ مَقْصُودَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ. وَهَلْ يَكُونُ اقْتِرَانُ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ بَيْنَ الْمُتَخَاطِبِينَ يَقُومُ مَقَامَ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ؟ هَذَا أَيْضًا مُخْتَلَفٌ فِيهِ. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ ": اخْتَلَفُوا فِي التَّحْدِيدِ بِالْمَجَازِ، فَأَجَازَهُ قَوْمٌ، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَصْفِ اللَّازِمِ، وَالْمَجَازُ غَيْرُ لَازِمٍ. وَالصَّحِيحُ: جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّبْيِينُ، وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: اخْتَلَفُوا فِي أَلْفَاظِ الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ هَلْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحُدُودِ؟ فَقِيلَ: بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا لِمَا فِيهِ مِنْ اللَّبْسِ عِنْدَ السَّامِعِ، وَقِيلَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ.

مسألة الزيادة والنقصان في الحد

وَفَصَّلَ آخَرُونَ بَيْنَ الْمُسْتَعْمَلِ الْمَشْهُورِ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا اُسْتُعْمِلَ، وَهُوَ رَأْيُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " الشَّامِلِ "، وَالْغَزَالِيِّ فِي " الْمُسْتَصْفَى ". فَقَالَ: يَجِبُ طَلَبُ النَّهْيِ مَا أَمْكَنَ فَإِنْ أَعْوَزَك النَّصُّ وَافْتَقَرْت إلَى الِاسْتِعَارَةِ، فَاطْلُبْ مِنْ الِاسْتِعَارَاتِ مَا هُوَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْغَرَضِ. انْتَهَى. وَيَجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ بِالْأَعَمِّ ثُمَّ بِالْأَخَصِّ فِي الْحُدُودِ التَّامَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَعَمَّ مِنْهَا هُوَ الْجِنْسُ، فَلَا يُقَالُ: مُسْكِرٌ مُعْتَصَرٌ مِنْ الْعِنَبِ بَلْ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْأَخَصِّ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ الْأَعَمِّ. فَإِذَا ذُكِرَ الْأَخَصُّ أَوَّلًا تَعَذَّرَ الْفَهْمُ حَتَّى يُذْكَرَ الْأَعَمُّ. ثُمَّ يُفْهَمُ الْأَخَصُّ فَيَتَرَاخَى الْفَهْمُ عَنْ الذَّاكِرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا ذُكِرَ الْأَعَمُّ أَوَّلًا، وَلِأَنَّ بِتَقْدِيمِ الْأَخَصِّ يَخْتَلُّ الْجُزْءُ الصُّورِيُّ مِنْ الْحَدِّ، فَلَا يَكُونُ تَامًّا مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ، وَأَمَّا غَيْرُ التَّامِّ فَتَقْدِيمُ الْأَعْرَفِ أَوْلَى، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. [مَسْأَلَةٌ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي الْحَدِّ] ِّ] وَلَا خِلَافَ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ أَنَّ النُّقْصَانَ فِي الْحَدِّ زِيَادَةٌ فِي الْمَحْدُودِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الزِّيَادَةِ فِيهِ، فَقَالَتْ الْأَوَائِلُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ: إنَّهُ نُقْصَانٌ فِي الْمَحْدُودِ أَيْضًا، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنْ كَانَ جُزْءًا مِنْهُ فَكَذَلِكَ، كَحَدِّهِمْ الْجَوْهَرَ

فائدة إعراب الصفات في الحدود

بِالْمُتَلَوِّنِ بِالسَّوَادِ؛ لِأَنَّ السَّوَادَ جُزْءٌ مِنْ اللَّوْنِ، وَلَوْ طَرَحَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَقَالَ: الْجَوْهَرُ هُوَ الْمُتَلَوِّنُ، لَكَانَ حَدُّهُ أَعَمَّ وَأَوْضَحَ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: عِنْدِي أَنَّ الزِّيَادَةَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: نَقْصٌ مِنْ الْمَحْدُودِ كَقَوْلِنَا فِي الْحَرَكَةِ: إنَّهَا نَقْلَةٌ إلَى جِهَةِ الْيَمِينِ أَوْ الشِّمَالِ، وَهَذَا يُخْرِجُ كُلَّ نَقْلَةٍ لَا إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَةِ عَنْ أَنْ تَكُونَ حَرَكَةً. وَالثَّانِي: لَا يَنْقُصُ بَلْ يَكُونُ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءً كَقَوْلِنَا فِي الْحَرَكَةِ: إنَّهَا فِعْلُ نَقْلَةٍ أَوْ عَرْضُ نَقْلَةٍ. [فَائِدَةٌ إعْرَابُ الصِّفَاتِ فِي الْحُدُودِ] ِ] كَانَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يَقُولُ: إنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحُدُودِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْرَبَ أَخْبَارًا ثَوَانِيَ، بَلْ يَتَعَيَّنُ إعْرَابُهَا صِفَةً لِمَا يَلْزَمُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ اسْتِقْلَالِ كُلِّ خَبَرٍ بِالْحَدِّ، وَمِنْ هُنَا مَنَعَ جَمَاعَةٌ أَنْ يَكُونَ حُلْوٌ حَامِضٌ خَبَرَيْنِ. وَأَوْجَبَ الْأَخْفَشُ أَنْ يُعْرَبَ حَامِضٌ صِفَةً. وَالْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ: إنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَبَرٌ لَا يَلْزَمُهُمْ الْقَوْلُ بِمِثْلِهِ فِي نَحْوِ:

القسمة حدها وأنواعها وشروط صحتها

الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ؛ لِأَنَّ حُلْوٌ حَامِضٌ ضِدَّانِ. فَالْعَقْلُ يَصْرِفُ عَنْ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَا مَقْصُودَيْنِ بِالذَّاتِ وَأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قُصِدَ مَعْنَاهُ فَلَا تُوقِعُ فِي الْغَلَطِ. بِخِلَافِ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ، وَلَا فِي الْعَقْلِ إذَا كَانَا خَبَرَيْنِ مَا يَصْرِفُ كُلًّا مِنْهُمَا عَنْ الِاسْتِقْلَالِ، وَلِأَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ مِنْ حُلْوٍ حَامِضٍ كَالْخَبَرِ الثَّانِي لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ بِالْكُلِّيَّةِ. حَتَّى نُقِلَ عَنْ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ ضَمِيرًا، وَمَا شَأْنُهُ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَاطِقٍ مَثَلًا مَقْصُودٌ وَحْدَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: دَخَلَ بِالْجِنْسِ كَذَا، ثُمَّ خَرَجَ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَذَا، ثُمَّ بِالْفَصْلِ الثَّانِي كَذَا؟ فَقَدْ جَعَلْت لِكُلٍّ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَأْنُ حُلْوٍ حَامِضٍ. فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ فَيَفْسُدُ الْحَدُّ، أَوْ يَكُونُ الثَّانِي صِفَةً وَهُوَ الْمُدَّعَى، فَلْيُتَأَمَّلْ ذَلِكَ. [الْقِسْمَةُ حَدِّهَا وَأَنْوَاعِهَا وَشُرُوطِ صِحَّتِهَا] الْقِسْمَةُ وَعِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِالتَّقْسِيمِ إلَى دَرْكِ الْحَقِيقَةِ كَالْحَدِّ. وَسَبَقَ عَنْ الْأُسْتَاذِ حِكَايَةُ الْخِلَافِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي جَوَازِ التَّرْكِيبِ فِي الْحَدِّ، وَالنَّظَرِ فِي حَدِّهَا وَأَنْوَاعِهَا وَشُرُوطِ صِحَّتِهَا. أَمَّا حَدُّهَا فَتَكْثِيرُ الْوَاحِدِ تَقْدِيرًا، وَهِيَ نَوْعَانِ: قِسْمَةُ تَمْيِيزٍ وَقِسْمَةُ ثَوَابِتَ، وَالثَّوَابِتُ مَا عَادَ الْمُسْتَدْعَى مِنْهَا إلَى الِاشْتِرَاكِ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، وَالتَّمْيِيزُ بِعَكْسِهِ: وَقَدْ بَلَّغَهَا الْقُدَمَاءُ إلَى أَنْوَاعٍ ثَمَانِيَةٍ:

شروط صحة القسمة

الْأَوَّلُ: قِسْمَةُ الْجِنْسِ إلَى الْأَنْوَاعِ، كَقِسْمَةِ الْحَادِثِ إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَقِسْمَةِ الْعَرَضِ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ إلَى أَنْوَاعِهِ، وَكَتَقْسِيمِ الْكَلِمَةِ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ، وَتَقْسِيمِ الْفُرْقَةِ عَنْ النِّكَاحِ إلَى طَلَاقٍ وَفَسْخٍ، وَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ إلَى فَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ. الثَّانِي: قِسْمَةُ النَّوْعِ إلَى الْأَشْخَاصِ، كَقِسْمَةِ السَّوَادِ إلَى سَوَادِ الْقَارِ وَسَوَادِ الزِّنْجِيِّ. الثَّالِثُ: قِسْمَةُ الْكُلِّ إلَى الْأَجْزَاءِ كَقِسْمَةِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ إلَى الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ وَإِلَى الرَّأْسِ وَالْيَدِ. الرَّابِعُ: قِسْمَةُ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ إلَى مَعَانِيهِ الْمُخْتَلِفَةِ. الْخَامِسُ: قِسْمَةُ الْجَوْهَرِ إلَى الْأَعْرَاضِ، كَقَوْلِهِمْ: الْجِسْمُ مِنْهُ أَحْمَرُ وَأَسْوَدُ. السَّادِسُ: قِسْمَةُ الْعَرَضِ إلَى الْجَوَاهِرِ كَقَوْلِهِمْ: الْأَبْيَضُ إمَّا ثَلْجٌ أَوْ قُطْنٌ. السَّابِعُ: قِسْمَةُ الْعَرَضِ إلَى أَعْرَاضٍ كَقَوْلِهِمْ: الْخَلْقُ يَنْقَسِمُ إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ. قَالُوا: وَإِلَى هَذِهِ الْجِهَاتِ يَنْقَسِمُ كُلُّ مُنْقَسِمٍ، وَفِيمَا ذَكَرُوهُ ضَرْبٌ مِنْ التَّدَاخُلِ. الثَّامِنُ: قِسْمَةُ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ. [شُرُوطُ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ] [شُرُوطُ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ] وَأَمَّا شُرُوطُ صِحَّتِهَا فَعَدَمُ التَّدَاخُلِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَالتَّنَافُرِ. فَالتَّدَاخُلُ كَقَوْلِك: الْجَوْهَرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُومَ بِهِ لَوْنٌ أَوْ سَوَادٌ.

مسألة توقف المطلوب التصديقي على مقدمتين

وَالتَّنَافُرُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ كَالزِّيَادَةِ كَقَوْلِك: الْكَوْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَرَكَةً أَوْ سُكُونًا أَوْ سَوَادًا، فَإِنَّك أَدْخَلْت فِي جِنْسِ الْكَوْنِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ اللَّوْنِ فَتَنَافُرُ جِنْسِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ نَوْعًا لَهُ، وَيَرْجِعُ إلَى الزِّيَادَةِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ وَصِفَتِهِ كَقَوْلِك: لَا يَخْلُو اللَّوْنُ الْقَائِمُ بِالْجَوْهَرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ سُكُونًا أَوْ يَكُونَ الْجَوْهَرُ مُتَحَرِّكًا. [مَسْأَلَةٌ تَوَقُّفُ الْمَطْلُوبِ التَّصْدِيقِيِّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ] ِ] يَتَوَقَّفُ الْمَطْلُوبُ التَّصْدِيقِيِّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا وَلَا النُّقْصَانُ عَنْهُمَا، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ. قَالُوا: وَهُمَا كَالشَّاهِدَيْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ. قَالُوا: وَالْمُقَدِّمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُنْتِجُ كَمَا لَا يُنْتِجُ ذَكَرٌ دُونَ أُنْثَى، وَلَا. عَكْسُهُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ النَّتِيجَةُ بِازْدِوَاجِ مُقَدِّمَتَيْنِ. وَعَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّهُ يَصِحُّ إنْتَاجُ الْمُقَدِّمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَدْ اُسْتُنْكِرَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ إذَا كَانَتْ مَشْهُورَةً، وَيَكُونُ حَذْفُهَا إذْ ذَاكَ مِنْ الدَّلِيلِ اخْتِصَارًا لَا اقْتِصَارًا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَهَذَا كَمَا لَوْ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَإِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَحُذِفَتْ هَذِهِ اخْتِصَارًا، وَلِهَذَا يُسَمَّى بِالْمُضْمَرِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا تُحْذَفُ لِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إمَّا الِاخْتِصَارُ، وَإِمَّا أَنَّهُ لَوْ صُرِّحَ بِهَا لَمَنَعَهَا الْخَصْمُ، كَقَوْلِنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَهُوَ حَرَامٌ، فَلَوْ صُرِّحَ بِالْكُبْرَى وَهِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ لَمَنَعَهَا الْخَصْمُ. وَإِمَّا؛ لِأَنَّهَا كَاذِبَةٌ فَتُضْمَرُ لِئَلَّا يَظْهَرَ

مسألة الموضوع والمحمول

كَذِبُهَا فَيَكُونَ إخْفَاؤُهَا أَرْوَجَ لِلْمُغَالَطَةِ. هَذَا إذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ الْكُبْرَى. فَإِنْ حُذِفَتْ الصُّغْرَى سُمِّيَ قِيَاسَ الرَّمْيِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فَحُذِفَتْ الْمُقَدِّمَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ النَّاطِقَةُ بِرَفْعِ الثَّانِي، وَهِيَ " لَكِنَّهُمَا لَمْ تَفْسُدَا " {إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} [الإسراء: 42] فَحُذِفَ مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْتَغُوا. [مَسْأَلَةٌ الْمَوْضُوعُ وَالْمَحْمُولُ] ُ] وَكُلٌّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ يَنْقَسِمُ إلَى مَوْضُوعٍ وَمَحْمُولٍ. أَيْ: مَحْكُومٍ عَلَيْهِ وَمَحْكُومٍ بِهِ. قَالُوا: وَالنُّحَاةُ يُسَمُّونَهُمَا الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ. قَالَ الْمَنْطِقِيُّونَ: وَلَا بُدَّ مِنْ نِسْبَةِ تَوَسُّطٍ بَيْنَ الْمَحْمُولِ وَالْمَوْضُوعِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ قَضِيَّةٌ. وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ يُسَمَّى رَابِطَةً، فَإِنْ صُرِّحَ بِهَا كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ هُوَ كَاتِبٌ سُمِّيَتْ ثُلَاثِيَّةً، وَإِنْ أُسْقِطَتْ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى نَحْوَ زَيْدٌ كَاتِبٌ سُمِّيَتْ ثُنَائِيَّةً، وَهِيَ: الرَّابِطَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدَوَاتِ فِي غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ. أَمَّا لُغَةُ الْعَرَبِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا أَدَاةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا اسْمًا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ الْخِلَافِ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِي ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَقَدْ رَدَّ السُّهَيْلِيُّ فِي " نَتَائِجِ الْفِكْرِ " قَوْلَ الْمَنَاطِقَةِ فِي هَذَا بِإِجْمَاعِ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ إذَا كَانَ اسْمًا مُفْرَدًا جَامِدًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى رَابِطَةٍ تَرْبِطُهُ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مُسْنَدٌ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ،

مسألة النتيجة تتبع المقدمات

كَمَا زَعَمَ الْمَنْطِقِيُّونَ أَنَّ الرَّابِطَ بَيْنَهُمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا. قَالَ: وَكَيْفَ يَكُونُ مُضْمَرًا وَيَدُلُّ عَلَى ارْتِبَاطٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْمُخَاطَبُ لَا يَسْتَدِلُّ إلَّا بِلَفْظٍ يَسْمَعُهُ لَا بِشَيْءٍ يُضْمِرُهُ فِي نَفْسِهِ؟ وَلَوْ احْتَجْنَا إلَى " هُوَ " مُضْمَرَةً أَوْ مُظْهَرَةً، لَاحْتَجْنَا إلَى " هُوَ " أُخْرَى يُرْبَطُ الْخَبَرُ بِهَا، وَذَلِكَ يَتَسَلْسَلُ. [مَسْأَلَةٌ النَّتِيجَةُ تَتْبَعُ الْمُقَدِّمَاتِ] ِ] وَالْمُقَدِّمَاتُ إنْ كَانَتْ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً فَالنَّتِيجَةُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا قَطْعِيًّا وَبَعْضُهَا ظَنِّيًّا فَهِيَ ظَنِّيَّةٌ، وَالنَّتِيجَةُ أَبَدًا تَتْبَعُ أَخَسَّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِي الْكَمِّ وَالْكَيْفِ جَمِيعًا، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الزَّمَانَ لَتَابِعٌ لِلْأَنْذَلِ ... تَبَعَ النَّتِيجَةِ لِلْأَخَسِّ الْأَرْذَلِ.

الأحكام

[الْأَحْكَامُ] ُ فَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ. فَنَقُولُ: هُوَ لُغَةً الْمَنْعُ وَالصَّرْفُ، وَمِنْهُ الْحَكَمَةُ لِلْحَدِيدَةِ الَّتِي فِي اللِّجَامِ، وَبِمَعْنَى الْإِحْكَامِ، وَمِنْهُ الْحَكِيمُ فِي صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: خِطَابُ الشَّرْعِ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِالِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ. فَيَخْرُجُ الْمُتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْمُكَلَّفِ، نَحْوُ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تُقَابَلُ الْأَفْعَالُ بِالْأَقْوَالِ فِي الْإِطْلَاقِ الْعُرْفِيِّ. وَقَوْلُنَا: " بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ " فِيهِ تَجَوُّزٌ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِمَعْدُومٍ يُمْكِنُ حُدُوثُهُ، وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِفِعْلٍ حَقِيقَةً. وَلَوْ اُحْتُرِزَ عَنْهُ لَقِيلَ: الْمُتَعَلَّقُ بِمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا، وَأُشِيرَ بِالتَّعَلُّقِ إلَى أَنَّ حَاصِلَ الْحُكْمِ مُجَرَّدُ التَّعَلُّقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ

تَأْثِيرٌ فِي ذَاتِ الْحَاكِمِ أَوْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَوْ فِيهِ. وَنَعْنِي بِالِاقْتِضَاءِ مَا يُفْهَمُ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ مِنْ اسْتِدْعَاءِ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ، وَبِالتَّخْيِيرِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. وَالْمُرَادُ " بِأَوْ " أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ حُكْمًا وَإِلَّا فَلَا يَرِدُ سُؤَالُ التَّرْدِيدِ فِي الْحَدِّ. هَذَا إنْ قُلْنَا: إنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ التَّخْيِيرِ. أَمَّا تَعَلُّقُ الضَّمَانِ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ. فَالْمُرَادُ بِهِ تَكْلِيفُ الْوَلِيِّ بِأَدَائِهِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ لِيَدْخُلَ الصَّبِيُّ، وَهَذَا نَشَأَ مِنْ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الصَّبِيَّ مَأْمُورٌ بِأَمْرِ الْوَلِيِّ أَوْ بِأَمْرِ الشَّارِعِ؟ ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِّ التَّامِّ الْعَقْلَ لِيَخْتَصَّ بِالْمُمَيِّزِ. وَالْخِطَابُ يُمْكِنُ مَعَهُ لِفَهْمِهِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ فِي حَقِّهِ التَّكْلِيفُ، وَعَبَّرَ ابْنُ بَرْهَانٍ: بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ. وَانْفَصَلَ عَنْ سُؤَالِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِخِطَابِ الْوَضْعِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْإِنْسَانِ مِنْ الْبَهَائِمِ. قَالَ:؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى تَفْرِيطِ الْمَالِكِ فِي حِفْظِهَا حَتَّى لَوْ قَصَدَ التَّفْرِيطَ لَمْ يَكُنْ لِفِعْلِهَا حُكْمٌ. وَهَذَا لَا يُفِيدُهُ، بَلْ السُّؤَالُ بَاقٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا مُعْتَبَرٌ فِي التَّضْمِينِ إمَّا بِكَوْنِهِ شَرْطًا وَإِمَّا سَبَبًا، وَالشَّرْطِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَوْلَا فِعْلُهَا إمَّا مُضَافًا، وَإِمَّا مُسْتَقِلًّا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ. أَوْ نَقُولُ: هُوَ عِلَّةٌ بِدَلِيلِ دَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا

لَا يُقَالُ: الْخِطَابُ قَدِيمٌ فَكَيْفَ يُعْرَفُ الْحُكْمُ الْحَادِثُ؟ ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَ الْحُكْمِ حَادِثًا. وَقَوْلُ الرَّازِيَّ هُنَا: إنَّ الْحَادِثَ هُوَ التَّعَلُّقُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْمُنْتَسِبِينَ، فَيَلْزَمُ حُدُوثُ الْحُكْمِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَلَا يَلْزَمُ حُدُوثُهُ؛ وَلِأَنَّ النِّسْبَةَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا يُوصَفُ بِحُدُوثٍ وَلَا عَدَمٍ. وَصَرَّحَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ بِأَنَّ التَّعَلُّقَ قَدِيمٌ، وَبِهِ جَزَمَ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِ " الْقِيَاسِ " فِي " الْمَحْصُولِ "، فَحَصَلَ فِي الْمُتَعَلَّقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَدِيمٌ، حَادِثٌ، لَا يُوصَفُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لِلتَّعْلِيقِ اعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قِيَامُ الطَّلَبِ النَّفْسِيِّ بِالذَّاتِ وَهُوَ قَدِيمٌ. وَالثَّانِي: تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ، وَهُوَ الْحَادِثُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَبْقَى خِلَافٌ. وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ التَّعَلُّقِ يُلَائِمُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ آمِرًا فِي الْأَزَلِ، وَهُوَ الْقَلَانِسِيُّ. وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ يَأْبَاهُ. تَنْبِيهٌ [تَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ] عُلِمَ مِنْ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِالتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْمُجْمَلِ أَنَّ نَحْوَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]

أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ بِقَرِينَةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ. وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَقَدْ ذَهَبَ جَمْعٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ، وَمَعْنَى حُرْمَةِ الْعَيْنِ خُرُوجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ خُرُوجٌ مِنْ الْأَعْيَانِ شَرْعًا، وَذَكَرَ صَاحِبُ " الْمِيزَانِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ إذَا أُضِيفَا إلَى الْأَعْيَانِ فَهِيَ أَوْصَافٌ لَهَا كَمَا تَكُونُ أَوْصَافًا لِلْأَفْعَالِ فِي قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا، لِلْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ: وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إضَافَةَ التَّحْرِيمِ إلَى الْأَعْيَانِ لِئَلَّا يَلْزَمَهُمْ نِسْبَةُ خَلْقِ الْقَبِيحِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ مُحَرَّمٍ قَبِيحٌ. وَذَكَرَ صَاحِبُ " الْأَسْرَارِ " مِنْهُمْ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مَعًا إذَا كَانَ لِمَعْنًى فِي الْعَيْنِ أُضِيفَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ كَمَا يُقَالُ: جَرَى الْمِيزَابُ، وَقَالَ: حُرِّمَتْ الْمَيْتَةُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا لِمَعْنًى فِيهَا، وَلَا يُقَالُ: حَرُمَتْ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا احْتِرَامُ الْمَالِكِ فَحَصَلَ فِي تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْأَعْيَانِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، وَذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا مِنْ الْغَرَائِبِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُوصَفُ بِمَا يَعُودُ إلَى نَفْسِ الذَّاتِ أَوْ صِفَةٍ نَفْسِيَّةٍ، أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِالذَّاتِ، أَوْ صِفَةٍ تُعَلَّقُ لَا يَرْجِعُ مِنْهَا شَيْءٌ إلَى الذَّاتِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْأَحْكَامِ هَلْ يَكْتَسِبُ بِهَا الذَّوَاتُ صِفَةً أَمْ لَا؟ . الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ التَّعَلُّقِ فَإِذَا قِيلَ: هَذَا نَجِسٌ فَلَيْسَ النَّجَاسَةُ

وَلَا كَوْنُهُ نَجِسًا رَاجِعًا إلَى نَفْسِهِ، وَلَا إلَى صِفَةٍ نَفْسِيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ لِلذَّاتِ، بَلْ هِيَ حَالَ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ لَمْ يُفِدْ هَذَا الْحُكْمُ صِفَةً زَائِدَةً قَائِمَةً بِهَا لِأَجْلِ الْحُكْمِ، وَمَعْنَى النَّجَاسَةِ تَعَلُّقُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّهَا مُجْتَنَبَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَا قَوْلُنَا: شُرْبُ الْخَمْرِ حَرَامٌ لَيْسَ الْمُرَادُ تَجَرُّعَهَا وَحَرَكَاتُ الشَّارِبِ، وَإِنَّمَا التَّحْرِيمُ رَاجِعٌ إلَى تَعَلُّقِ قَوْلِ اللَّهِ فِي النَّهْيِ عَنْ شُرْبِهَا، وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّ صِفَاتِ التَّعَلُّقِ لَا تَقْتَضِي إفَادَةَ وَصْفٍ عَائِدٍ إلَى الذَّاتِ، وَهَذَا كَمَنْ عَلِمَ أَنَّ زَيْدًا قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنَّ عِلْمَهُ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِزَيْدٍ لَمْ يُغَيِّرْ مِنْ صِفَاتِ زَيْدٍ شَيْئًا، وَلَا حَدَثَتْ لِزَيْدٍ صِفَةٌ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى اسْتِفَادَةِ الذَّوَاتِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَائِدَةً، وَرَأَوْا أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالْوُجُوبَ يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ، وَقَدَّرُوهُ وَصْفًا ذَاتِيًّا. قَالَ الْقَاضِي: وَاعْتَلُّوا لِذَلِكَ بِضَرْبٍ مِنْ الْجَهْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تُوُهِّمَ عَدَمُ الْفِعْلِ لَعُدِمَتْ أَحْكَامُهُ بِأَسْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحْكَامُهُ هِيَ هُوَ. قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَأَحْكَامِهَا وَأَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا هِيَ هِيَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ عَدَمُ الْجِسْمِ لَعُدِمَتْ أَحْوَالُهُ وَأَلْوَانُهُ وَجَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنْ أَفْعَالِهِ وَلَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَنَسَبَ غَيْرُهُ هَذَا إلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَقَالَ: الْأَحْكَامُ تَرْجِعُ إلَى تَعَلُّقِ الْخِطَابِ وَهِيَ صِفَةٌ إضَافِيَّةٌ، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: إلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَهِيَ نَفْسِيَّةٌ

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَقَوْلُنَا: الْخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ تَجَوُّزٌ، فَإِنَّهُ جَمَادٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابٌ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ تَنَاوُلُهَا، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: الْحُكْمُ لَا يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ الْمَحْكُومِ وَلَا إلَى صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ لَهُ إنْ قُلْنَا: إنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، أَوْ صِفَةٌ عَرَضِيَّةٌ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّقُ أَمْرِ اللَّهِ بِالْمُخَاطَبِ، وَهَذَا التَّعَلُّقُ مَعْقُولٌ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ مُحْدَثٍ لِلْمُتَعَلَّقِ بِهِ كَالْعِلْمِ. يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ، وَإِذَا سَمِعْت الْفَقِيهَ يَقُولُ: حَقِّي يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ثَبَتَ لِمَعْنًى فِي الْعَيْنِ كَالْخَمْرِ حُرِّمَتْ لِمَعْنًى فِيهَا، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ تَابِعًا لِلْمَعْنَى، فَكَانَتْ عَلَى حَالِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَا حَقِيقَةً. قَالَ: وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الشَّرْعِ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ. وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ الْعَقْلَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. قُلْت: وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَنَحْوَهُ هَلْ هُوَ مُجْمَلٌ؟ فَمَنْ قَالَ بِإِضَافَةِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْأَعْيَانِ نَفَى الْإِجْمَالَ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَثْبَتَهُ. وَعُلِمَ مِنْ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ أَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ الْأَمْرُ فِيهِ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ الْخِطَابُ، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِيهِ، وَقَدْ جَمَعَ الْجَدَلِيُّونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ.

مسألة نفي الأحكام الشرعية

[مَسْأَلَةٌ نَفْيُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ] ِ] اُخْتُلِفَ فِي نَفْيِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُتَلَقًّى مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ. وَالثَّالِثُ: وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ إلَى تَقْسِيمِهِ إلَى نَفْيِ حُكْمٍ مَسْبُوقٍ بِالْإِثْبَاتِ مِنْ الشَّرْعِ، وَإِلَى تَقْرِيرٍ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَ الشَّرْعِ. فَالْأَوَّلُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَالْإِثْبَاتِ، وَالثَّانِي مَحْضُ تَقْرِيرٍ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ، فَهُوَ يُخْبِرُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخَاطِبْنَا فِيهِ، وَكَثِيرًا مَا يُخْبِرُ الشَّرْعُ عَنْ الْحَقَائِقِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَهُوَ تَعَلُّقُ الْخِطَابِ، وَقَدْ يُسَمَّى حُكْمًا لَا عَلَى أَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، كَقَوْلِ الشَّارِعِ: لَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَنَظَائِرِهِ. حَكَى هَذِهِ الْمَذَاهِبَ الْبَرَوِيُّ فِي " الْمُقْتَرِحِ " قَالَ: وَاَلَّذِي كَانَ يَنْصُرُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى تِلْمِيذُ الْغَزَالِيِّ أَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَنَفْيِ

الصَّلَاةِ السَّادِسَةِ، وَنَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْ عَبِيدِ الْخِدْمَةِ، سَوَاءٌ تَلَقَّيْنَاهُ مِنْ مَوَارِدِ النُّصُوصِ، أَوْ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ. وَاحْتُجَّ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَظَانِّ الْأَدِلَّةِ فَلَمْ يَظْفَرْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ فَهُوَ مُتَقَيِّدٌ بِالْقَطْعِ بِالنَّفْيِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلْإِجْمَاعِ الدَّالِّ عَلَى نَصٍّ بَلَغَهُمْ عَنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنَّكُمْ إذَا لَمْ تَجِدُوا دَلِيلَ الثُّبُوتِ فَاجْزِمُوا بِالنَّفْيِ. فَقَدْ تَعَلَّقَ بِنَا خِطَابُ الْجَزْمِ بِالنَّفْيِ فَتَوًى وَعَمَلًا، وَلَا مَعْنَى لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ غَيْرُ هَذَا. وَأَيْنَ هَذَا مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ قَبْلَ الشَّرْعِ؟ . قَالَ: وَهَذَا النَّفْيُ مُمْكِنٌ تَلَقِّيهِ مِنْ النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ. فَأَمَّا مِنْ الْقِيَاسِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ النَّفْيُ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي لَمْ يَجُزْ فِيهِ قِيَاسُ الْعِلَّةِ. وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ طَرَأَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ جَرَى فِيهِ جَمِيعُ الْأَقْيِسَةِ. وَقَالَ شَارِحُ " الْمُقْتَرَحِ " أَبُو الْعِزِّ الْمُخْتَارُ: عِنْدِي مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالنَّفْيُ لَيْسَ فِعْلًا، لِيَكُونَ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ حُكْمًا. فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خَبَرٌ عَنْ انْتِفَاءِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ. وَقَوْلُنَا: " انْتِفَاءُ الْحُكْمِ " إشَارَةٌ إلَى انْتِفَاءِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ، فَلَا يَكُونُ حُكْمًا، وَمَا احْتَجَّ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِوُجُوبِ الْفَتْوَى بِالنَّفْيِ، وَهُوَ حُكْمُ الْوُجُوبِ. وَلَيْسَ مِنْ نَفْيِ الْحُكْمِ سَبِيلٌ، فَإِنْ تَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ لَنَا بِالنَّفْيِ مَعَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ مِنْهُ لَا تَخْفَى

مسألة الحكم هل هو قطعي أم ظني

[مَسْأَلَةٌ الْحُكْمُ هَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَمْ ظَنِّيٌّ] ٌّ؟] أَطْلَقَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ هُنَا أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا قَطْعِيٌّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ عِنْدَهُ ظَنِّيٌّ، وَبَيَّنَ مُرَادَهُ بِهِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ، فَقَالَ: الْحُكْمُ قَطْعِيٌّ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا سَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ أَوْ الظَّنِّيِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَطْعِيٌّ ثَابِتٌ عِنْدَ الظَّنِّ لَا بِالظَّنِّ، وَالْقَطْعُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. انْتَهَى. يُرِيدُ أَنَّ الظَّنَّ فِي الشَّرْعِيَّاتِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ فِي الْقَطْعِيَّاتِ. وَالْحُكْمُ قَطْعِيٌّ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ غَلَبَاتِ الظُّنُونِ قَطْعِيٌّ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الظَّنُّ. وَمِثَالُهُ: حُكْمُ الْقَاضِي بِقَوْلِ الشُّهُودِ ظَنِّيٌّ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ وَاجِبٌ قَطْعِيٌّ، وَهُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْمَحْصُولِ فِي جَوَابِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ: الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ، وَمَا انْبَنَى عَلَى الْقَطْعِيِّ قَطْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُ يُبْنَى عَلَى حُصُولِ الظَّنِّ، وَحُصُولُهُ وِجْدَانِيٌّ، وَعَلَى أَنَّ مَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ فَحُكْمُ اللَّهِ فِيهِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ إجْمَاعِيَّةٌ، وَمَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ، وَاللَّازِمُ مِنْهُ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ. لَكِنَّ الْحَقَّ انْقِسَامُ الْحُكْمِ إلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ مِنْ الْأَقْدَمِينَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي كِتَابِ " الْحُدُودِ "، وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ".

قَالَ: وَإِنَّمَا قَالُوا: الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مَعَ أَنَّ فِيهِ ظَنِّيَّاتٍ كَثِيرَةً؛ لِأَنَّ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الظَّنِّيَّاتِ فَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعِلْمِيَّاتِ، وَقَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيُّ: إنَّهُ الْحَقُّ، وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَوُجُوبُ اعْتِقَادِ أَنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، أَوْ الْفَتْوَى بِهِ، أَوْ الْقَضَاءُ غَيْرُ نَفْسِ الْحُكْمِ بِأَنَّ هَذَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ، لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقَاتِ فِيهَا. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ حَصَلَ الْعِلْمُ بِمُقْتَضَاهَا، وَذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِنُصُوصٍ احْتَفَتْ بِقَرَائِنَ تَدْفَعُ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَعَارِضَةَ عَنْهَا بِانْحِصَارِ تَعْيِينِ الْمَدْلُولِ فِي وَاحِدٍ، وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ بِأَخْبَارِ آحَادٍ. أَوْ نُصُوصٍ لَمْ تَعْتَضِدْ بِمَا يَدْفَعُ الِاحْتِمَالَاتِ، فَتِلْكَ الْأَحْكَامُ مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَوْ كَانَتْ بِأَسْرِهَا مَعْلُومَةً لَمَا انْقَسَمَتْ الطُّرُقُ إلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَةِ، وَلَمَا انْتَظَمَ قَوْلُهُمْ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: إنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً فَالنَّتِيجَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً فَالنَّتِيجَةُ ظَنِّيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا عِلْمًا وَبَعْضُهَا ظَنِّيًّا فَالنَّتِيجَةُ ظَنِّيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إنَّ الْأَحْكَامَ تَنْقَسِمُ إلَى مُتَوَاتِرَاتٍ، وَهِيَ مَقْطُوعٌ بِهَا، وَإِلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهِيَ مَظْنُونَةٌ، وَبُرْهَانُهُ: أَنَّ الظَّنَّ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ أَيْ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَظْنُونٍ، وَمُتَعَلَّقُهُ الْحُكْمُ الْمُتَعَيِّنُ أَوْ الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ بَالِغَةٍ حَدَّ التَّوَاتُرِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَنُرَكِّبُ قِيَاسًا. فَنَقُولُ: هَذِهِ الْأَحْكَامُ، أَوْ هَذَا الْحُكْمُ الْمُعَيَّنُ مُتَعَلِّقُ

الظَّنِّ وَمَا هُوَ مُتَعَلِّقُ الظَّنِّ فَهُوَ مَظْنُونٌ، أَوْ هَذَا الْحُكْمُ مَظْنُونٌ. ثُمَّ نَقُولُ: هَذِهِ الْأَحْكَامُ مَظْنُونَةٌ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْمَظْنُونِ بِمَعْلُومٍ فَلَا شَيْءَ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِمَعْلُومٍ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّازِيَّ فَإِنَّمَا يُنْتِجُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ مَعْلُومٌ، وَهُوَ بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ قَطْعِيًّا مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّهُ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ الْأَحْكَامَ الْفِقْهِيَّةَ الَّتِي فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُقَامُ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ الْعِلْمِيَّةُ، وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّا نَبْنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَا نَخْتَارُهُ، وَهُوَ أَنَّ لِلَّهِ حُكْمًا مُعَيَّنًا فِي الْوَاقِعَةِ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمَنْصُوبٌ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ، فَمَنْ أَصَابَ ذَلِكَ الْحُكْمَ فَهُوَ مُصِيبٌ مُطْلَقًا، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلِلَّهِ عَلَيْهِ حُكْمٌ آخَرُ شَرْطُهُ عَدَمُ إدْرَاكِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْمَصِيرِ إلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَعْلُومٌ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ هَذَا مَعْلُومًا كَوْنُ الْأَوَّلِ مَعْلُومًا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْمُخْتَارُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا طَلَبَ الْعِبَادَ أَنْ يَقِفُوا عَلَيْهِ بِدَلَائِلِهِ الْمَنْصُوبَةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِالْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ. فَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْعُثُورُ عَلَيْهِ أَوْ ظُنَّ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُهُ نَشَأَ هَاهُنَا حُكْمٌ آخَرُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَلْيُسَمَّ هَذَا بِالْحُكْمِ الْفَرْعِيِّ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الرَّدُّ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ مَعْلُومَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ، وَمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ فَهُوَ مَعْلُومٌ، فَالْفِقْهُ مَعْلُومٌ، وَقُرِّرَ كَوْنُهَا مَبْنِيَّةً عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ بِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِيَامِ الظَّنِّ بِالْأَحْكَامِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَائِمٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ اتِّبَاعُ ظَنِّهِ فَيُرَتَّبُ

هَذَا الْحُكْمُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وِجْدَانِيَّةٍ وَمُقَدِّمَةٍ إجْمَاعِيَّةٍ وَكِلْتَاهُمَا قَطْعِيَّتَانِ. فَنَقُولُ: الَّذِي ثَبَتَ مِنْ هَذَا أَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ قَطْعِيٌّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هَكَذَا: الظَّنُّ بِهَذَا الْحُكْمِ حَاصِلٌ قَطْعًا، وَإِذَا حَصَلَ الظَّنُّ بِحُكْمٍ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ فِيهِ قَطْعًا، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ قَطْعًا. لَكِنَّ هَذِهِ النَّتِيجَةَ مَسْأَلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ مَعْلُومَةٌ قَطْعًا.

مفهوم الخطاب

[مَفْهُوم الْخِطَابُ] الْخِطَابُ عَرَّفَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ بِأَنَّهُ الْكَلَامُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إفْهَامُ مَنْ هُوَ مُتَهَيِّئٌ لِلْفَهْمِ. وَعَرَّفَهُ قَوْمٌ بِأَنَّهُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَصَدَ إفْهَامَهُ مُتَهَيِّئًا أَمْ لَا. قِيلَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ بِمَدْلُولِ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ هُوَ النَّفْسِيُّ، وَالنَّفْسِيُّ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْخِطَابِ مَعَ النَّفْسِ أَوْ الْعَيْنِ سَوَاءٌ، وَفِي وَصْفِ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ بِالْخِطَابِ خِلَافٌ. الصَّحِيحُ: وَبِهِ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: أَنَّهُ يُسَمَّى خِطَابًا عِنْدَ وُجُودِ الْمُخَاطَبِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَجَزَمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ إلَّا مِنْ مُخَاطِبٍ وَمُخَاطَبٍ. وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْحَادِثِ، وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " ثُمَّ قَالَ: وَهَلْ يُسَمَّى أَمْرًا؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُسَمَّى بِهِ، إذْ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ أَوْصَى أَوْلَادَهُ بِالتَّصَدُّقِ بِمَالِهِ: فُلَانٌ أَمَرَ أَوْلَادَهُ بِكَذَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُجْتَنًّا فِي الْبَطْنِ أَوْ مَعْدُومًا. وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: خَاطَبَهُمْ إلَّا إذَا حَضَرُوهُ وَسَمِعُوهُ. انْتَهَى.

خطاب التكليف وخطاب الوضع

وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِهِ. وَقَالَ فِي " الِاقْتِصَادِ ": وَالْحَقُّ: أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ آمِرٌ وَنَاهٍ، وَإِنْ كَانَ لَا مَأْمُورَ هُنَاكَ. كَمَا جُوِّزَ تَسْمِيَتُهُ قَادِرًا قَبْلَ وُجُودِ الْمَقْدُورِ. قَالَ: وَالْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ يَرْجِعُ إلَى اللُّغَةِ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَالِاقْتِضَاءُ الْقَدِيمُ مَعْقُولٌ، وَإِنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى وُجُودِ الْمَأْمُورِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَلَدِ. [خِطَابُ التَّكْلِيفِ وَخِطَابُ الْوَضْعِ] [خِطَابُ التَّكْلِيفِ وَخِطَابُ الْوَضْعِ] خِطَابُ الشَّرْعِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: خِطَابُ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ: وَمُتَعَلَّقُهُ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ: الْوُجُوبُ، وَالتَّحْرِيمُ وَالنَّدْبُ، وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّكْلِيفِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَإِطْلَاقُ التَّكْلِيفِ عَلَى الْكُلِّ مَجَازٌ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ لِلْوُجُوبِ، وَالتَّحْرِيمُ وَالنِّسْيَانُ يُؤَثِّرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَلِهَذَا لَا يَأْثَمُ النَّاسِي بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ، وَلَا بِفِعْلِ الْمَنْهِيِّ. الثَّانِي: خِطَابُ الْوَضْعِ: الَّذِي أَخْبَرَنَا أَنَّ اللَّهَ وَضَعَهُ، وَيُسَمَّى خِطَابَ الْإِخْبَارِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الظَّاهِرَ الْمُنْضَبِطَ الْمُتَضَمِّنَ حِكْمَةَ الَّذِي رُبِطَ بِهِ الْحُكْمُ إنْ نَاسَبَ الْحُكْمَ فَهُوَ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ وَالْمُقْتَضِي. وَإِنْ

نَافَاهُ فَالْمَانِعُ، وَتَالِيهِ الشَّرْطُ، ثُمَّ الصِّحَّةُ، ثُمَّ الْعَزِيمَةُ، وَتُقَابِلُهَا الرُّخْصَةُ. فَالْأَوَّلُ: أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ وَنِصَابُ الزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: كَالدَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ، وَالْقَتْلِ فِي الْمِيرَاثِ، وَالنَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَالثَّالِثُ: كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَالرَّابِعُ: الْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ بِالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ. وَالْخَامِسُ: كَحِلِّ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ. وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ فِي فَصْلِ خِطَابِ الْوَضْعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَزَادَ الْجِيلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ " الْإِعْجَازِ " وَالْقَرَافِيُّ: التَّقْدِيرَاتِ، وَهِيَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ وَبِالْعَكْسِ. فَالْأَوَّلُ: كَالنَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا تُقَدَّرُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومَةِ. وَالثَّانِي: كَالْمِلْكِ الْمَقْدُورِ فِي قَوْلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِكَذَا فَيُقَدِّرُ لَهُ الْمِلْكَ حَتَّى يَثْبُتَ وَلَاءُ الْعِتْقِ لَهُ، وَيُقَدَّرُ الْمِلْكُ فِي دِيَةِ الْمَقْتُولِ خَطَأً قَبْلَ مَوْتِهِ حَتَّى يَصِحَّ فِيهَا الْإِرْثُ، وَتَقْدِيرُ الْمِلْكِ قُبَيْلَ الشَّهَادَةِ. قَالَ الْجِيلِيُّ: ثُمَّ التَّقْدِيرُ يَنْقَسِمُ إلَى تَقْدِيرِ صِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ فِي الْمَحَلِّ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ كَتَقْدِيرِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ، وَإِلَى تَقْدِيرِ أَعْيَانٍ مَحْسُوسَةٍ هِيَ فِي نَفْسِهَا مَعْدُومَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ فِي الذِّمَّةِ. كَتَقْدِيرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْحَيَوَانَاتِ

وَالْحُكْمُ يُطْلَقُ عَلَى هَذِهِ الْجِهَاتِ كُلِّهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَهُمَا اتِّفَاقًا وَافْتِرَاقًا، وَمَا وَقَعَ بِهِ الِاتِّفَاقُ إنَّمَا هُوَ الْخِطَابُ فَقَطْ. [وُجُوهُ الِافْتِرَاقِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ] وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّكْلِيفِيَّ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، وَالْوَضْعِيَّ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ، فَلَوْ أَتْلَفَتْ الدَّابَّةُ أَوْ الصَّبِيُّ شَيْئًا ضَمِنَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَالْوَلِيُّ فِي مَالِ الصَّبِيِّ. الثَّانِي: أَنَّ التَّكْلِيفِيَّ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْكَسْبِ بِخِلَافِ الْوَضْعِيِّ، وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ خَطَأً وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَتْلُ مُكْتَسَبًا لَهُمْ. فَوُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ لِاسْتِحَالَةِ التَّكْلِيفِ بِفِعْلِ الْغَيْرِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ فِي ذِمَّتِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَضْعِيَّ خَاصٌّ بِمَا رُتِّبَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى وَصْفٍ، أَوْ حِكْمَةٍ، إنْ جَوَّزْنَا التَّعْلِيلَ بِهَا، فَلَا يَجْرِي فِي الْأَحْكَامِ الْمُرْسَلَةِ الْغَيْرِ الْمُضَافَةِ إلَى الْأَوْصَافِ، وَلَا فِي الْأَحْكَامِ التَّعَبُّدِيَّةِ الَّتِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا. وَلِهَذَا لَوْ أَحْرَمَ، ثُمَّ جُنَّ، ثُمَّ قَتَلَ صَيْدًا لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ فِي مَالِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَوَجَّهَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرَّافِعِيُّ بِأَنَّ الصَّيْدَ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ قَتْلِهِ تَعَبُّدًا، فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مُكَلَّفٍ. قُلْت: وَبِهِ يَظْهَرُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَقَالَ: الْأَرْجَحُ فِيهِ الضَّمَانُ

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": إنَّهُ الْأَقْيَسُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. الرَّابِعُ: أَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ هُوَ الْأَصْلُ، وَخِطَابَ الْوَضْعِ عَلَى خِلَافِهِ. فَالْأَصْلُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: أَوْجَبْت عَلَيْكُمْ، أَوْ حَرَّمْت، وَأَمَّا جَعْلُهُ الزِّنَى وَالسَّرِقَةَ عَلَمًا عَلَى الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ، فَبِخِلَافِ الْأَصْلِ. نَعَمْ خِطَابُ الْوَضْعِ يَسْتَلْزِمُ خِطَابَ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] الْآيَةَ. وَنَحْوِهِ مِنْ الْخِطَابَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ بِخِلَافِ خِطَابِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ خِطَابَ الْوَضْعِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا يُتَوَضَّأُ إلَّا مِنْ حَدَثٍ، فَإِنَّ هَذَا خِطَابٌ لَفْظِيٌّ يُعْقَلُ تَجَرُّدُهُ عَنْ سَبَبِ وَضْعٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَيُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ عَلَى الْوَضْعِيِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ الْوَضْعِيَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى فَهْمٍ وَتَمَكُّنٍ. حَكَاهُ الْآمِدِيُّ فِي بَابِ التَّرَاجِيحِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَضْعِيَّ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قُدْرَةُ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ، وَلَا عِلْمُهُ، فَيُورَثُ بِالسَّبَبِ، وَيُطْلَقُ بِالضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَالْمُطْلِقُ عَلَيْهِ غَيْرَ عَالِمَيْنِ وَلَوْ أَتْلَفَ النَّائِمُ شَيْئًا أَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ فِي مِلْكِهِ فَأَصَابَ إنْسَانًا ضَمِنَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا. وَتَحِلُّ الْمَرْأَةُ بِعَقْدِ وَلِيِّهَا عَلَيْهَا، وَتَحْرُمُ بِطَلَاقِ زَوْجِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْلَمُ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَسْبَابُ الْعُقُوبَاتِ كَالْقِصَاصِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُخْطِئِ فِي الْقَتْلِ،

لِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَحَدِّ الزِّنَى لَا يَجِبُ فِي الشُّبْهَةِ، لِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَلَا مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ. الثَّانِي: الْأَسْبَابُ النَّاقِلَةُ لِلْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ. فَلَوْ تَلَفَّظَ بِلَفْظٍ نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِمُقْتَضَاهُ لِكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا لَمْ يَلْزَمْهُ مُقْتَضَاهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] . [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي: اُسْتُشْكِلَ جَعْلُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ جِنْسًا لِلْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَلَى نَوْعَيْنِ خَارِجِيَّيْنِ، فَيَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي هُوَ الْجِنْسُ صَادِقًا عَلَى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ أَوْ سِتَّةٍ، وَالْأَنْوَاعُ مُخْتَلِفَةُ الْحَقَائِقِ جَزْمًا، فَيَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ التَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ مُخْتَلِفَاتِ الْحَقَائِقِ لِنَوْعِيَّتِهَا، وَهِيَ أَنْوَاعٌ: الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ، وَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَاحِدَةً بَلْ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ عَلَى أَصْلِ الْأَشَاعِرَةِ، وَإِنْ قِيلَ: لَا أَجْعَلُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ جِنْسًا لِلْخَمْسَةِ أَوْ السِّتَّةِ بَلْ أَجْعَلُهُ عَرَضًا عَامًّا فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ الْعَامَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَلَى نَوْعَيْنِ، وَإِلَّا لَكَانَ خَاصَّةً فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ.

فصل فيما يعلم به خطاب الله وخطاب رسوله

[فَصْلٌ فِيمَا يُعْلَمُ بِهِ خِطَابُ اللَّهِ وَخِطَابُ رَسُولِهِ] فِيمَا يُعْلَمُ بِهِ خِطَابُ اللَّهِ وَخِطَابُ رَسُولِهِ] ذَكَرَهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ فِيمَا يُعْلَمُ بِهِ خِطَابُ اللَّهِ وَخِطَابُ رَسُولِهِ. قَالَ الْقَاضِي: خِطَابُ اللَّهِ إذَا اتَّصَلَ بِالْخَلْقِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِلَا وَاسِطَةٍ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ يُحَمِّلُهُمْ اللَّهُ وَحْيَهُ، وَلَا طَرِيقَ إلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ إلَّا الِاضْطِرَارَ، فَإِذَا خَاطَبَ اللَّهُ عَبْدًا خَلَقَ لَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّ مُخَاطِبَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ اللَّهَ الَّذِي يُسْمِعُ كَلَامَ اللَّهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يُخَالِفُ الْأَجْنَاسَ فَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِمَعْرِفَةِ اللُّغَاتِ وَالْعِبَارَاتِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ. وَقَالَ الْقَلَانِسِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ سَلَفِنَا: إنَّ نَفْسَ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ يَعْقُبُ الْعِلْمَ بِهِ لَا مَحَالَةَ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مِمَّا لَا أَرْتَضِيهِ، وَأُجَوِّزُ سَمَاعَ اللَّهِ مَعَ الذُّهُولِ عَنْ كَوْنِهِ كَلَامًا لِلَّهِ. وَالثَّانِي: مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْمُخَاطَبِ بِوَاسِطَةٍ، فَهَذَا مُرَتَّبٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلًا، وَوُجُوبِ عِصْمَتِهِ عَنْ الْخَلْفِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالْمُعْجِزَةِ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ خِطَابِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى شِفَاهٍ

مسألة لا حاكم إلا الشرع

وَوِجَاهٍ، وَإِلَى مَا يُبَلَّغُ عَنْهُ. فَأَمَّا مَا خَاطَبَ مَنْ عَاصَرَهُ وِجَاهًا فَمِنْهُ نَصٌّ، وَمِنْهُ ظَاهِرٌ وَمُجْمَلٌ، وَكَذَا مَا يُبَلَّغُ عَنْهُ، وَالْمُجْمَلُ إنَّمَا يَتَّفِقُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ لَا فِي التَّكَالِيفِ أَعْنِي إذَا لَمْ يَتَّفِقْ الِاسْتِفْسَارُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَةٌ لَا حَاكِمَ إلَّا الشَّرْع] ُ] إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ خِطَابُ الشَّرْعِ فَلَا حَاكِمَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ إلَّا الشَّرْعُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. حَيْثُ حَكَّمُوا الْعَقْلَ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ عَنْ حِكَايَةِ مَذْهَبِهِمْ. [مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ] فَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْعَقْلُ يُوجِبُ، وَلَا يَعْنُونَ هَاهُنَا إيجَابَ الْعِلَّةِ مَعْلُولَهَا، أَوْ أَنَّ الْعَقْلَ يَأْمُرُ، فَإِنَّ الِاقْتِضَاءَ مِنْهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَهُوَ عَرَضٌ وَالْأَمْرُ يَسْتَدْعِي الرُّتْبَةَ فَإِذَنْ الْمَعْنِيُّ بِهِ: أَنَّ الْعَقْلَ يُعْلِمُ وُجُوبَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنِيُّ بِوُجُوبِهِ عِلْمُهُ بِاقْتِرَانِ ضَرَرٍ بِتَرْكِهِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ مَعْنَى الْوُجُوبِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ. وَهَذَا مِنْهُمْ ادِّعَاءُ الْعِلْمِ ضَرُورَةً عَلَى وَجْهٍ يَشْتَرِكُ الْعُقَلَاءُ فِيهِ

ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ مَالَ إلَى مَا ذَكَرُوهُ طَوَائِفُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ نِظَامُ الْمَعِيشَةِ وَعِمَارَةُ الدُّنْيَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الِاعْتِدَالِ، وَحُسْنِ النِّظَامِ مِنْ الَّذِي يَتَضَمَّنُ خَرَابَ الدُّنْيَا، وَهَذَا الْمَذْهَبُ لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ قَطْعًا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْعَقْلُ يَسْتَقِلُّ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الِاتِّبَاعَ تَمَحَّضَ نَفْعًا لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ الِاتِّبَاعِ مَحْضُ ضَرَرٍ. وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ عَلَى يَدِهِ لِيُصَدِّقَهُ. وَهَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَةُ الصِّدْقِ مِنْ جَائِزَاتِ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَاَلَّذِي يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ وَنَفْعٌ مَحْضٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: حُكْمٌ، وَمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ مِنْ عِلَّةٍ وَتَسَبُّبٍ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ أَطْلَقُوا أَقْوَالَهُمْ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ، فَإِنَّ الْعَقْلَ عِبَارَةٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وَالْعِلْمُ لَا يُوجِبُ الْمَعْلُومَ إيجَابَ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ، وَإِنَّمَا عَنَوْا بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ يَكْشِفُ عَنْ حُسْنِ الْحَسَنِ وَقُبْحِ الْقَبِيحِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ انْقَسَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْحَسَنَ حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَكَذَا الْقَبِيحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ إلَى أَنْ قَبَّحَ الصِّفَةَ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُنَا قَالُوا: إنَّ الْحَسَنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ، وَالْقَبِيحَ مَا قَبَّحَهُ، وَمَا عَنَوْا بِهِ الْإِيجَابَ، وَإِنَّمَا عَنَوْا بِهِ أَنَّ الْحَسَنَ هُوَ الْمَقُولُ فِيهِ: " لَا تَفْعَلْ ". وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: عِنْدَنَا لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ لَكِنْ نَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ فِي أَنْفُسِهَا دَالَّةٌ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا، وَمُقْتَضِيَةٌ أَحْكَامَهَا إلَّا

أَنَّا لَا نَعْتَقِدُ ذَلِكَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِلْعَقْلِ أَحْكَامًا. وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَقَالَ: النَّظَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: ذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْبَرَاهِمَةُ إلَى أَنَّ الْعُقُولَ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ وَالْوَاجِبِ، وَالْمَحْظُورِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ عَلَى الْعَقْلِ. فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ خَاطِرٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ يَدْعُوهُ إلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَشَرَعَ الرُّسُلُ مَا قَبُحَ فِي الْعَقْلِ كَذَبْحِ الْبَهَائِمِ وَتَسْخِيرِ الْحَيَوَانِ وَإِتْلَافِهِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا حَسُنَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهِ لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو هَاشِمٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَوْلَا وُرُودُ الشَّرْعِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا جَوَازُ حُسْنِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْخَاطِرِ، فَقَالَ النَّظَّامُ: هُوَ جِسْمٌ مَحْسُوسٌ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ خَاطِرًا لِطَاعَةٍ، وَخَاطِرًا لِمَعْصِيَةٍ فِي قَلْبِ الْعَاقِلِ فَيَدْعُوهُ بِأَحَدِ الْخَاطِرَيْنِ إلَى طَاعَتِهِ؛ لِيَفْعَلَهَا، وَيَدْعُوهُ بِالْآخَرِ لِيَتْرُكَهَا، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ فِي خَرْقِ أُذُنِ الْإِنْسَانِ إلَى مَوْضِعِ سِنِّهِ أَوْ قَلْبِهِ فَيَهْمِسُ وَيَتَكَلَّمُ بِمَا يَدْعُو إلَيْهِ. قَالَ: فَالْخَاطِرُ الَّذِي مِنْ قِبَلِ اللَّهِ كَالْعِلْمِ وَنَحْوِهِ

وَقَالَ ابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ: هُوَ قَوْلٌ خَفِيٌّ يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَذَلِكَ الْخَاطِرُ الَّذِي يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ الْعَاقِلِ، وَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ التُّرَّهَاتِ. قَالَ: وَذَهَبَ أَهْلُ الْحَقِّ إلَى أَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ النَّظَرِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ، السَّمْعُ دُونَ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ صِحَّةُ مَا يَصِحُّ كَوْنُهُ، وَوُجُوبُ وُجُودِ مَا يَجِبُ وُجُودُهُ، وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِ مَا يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ، وَصِحَّةُ مَا يَصِحُّ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهِ جَوَازًا بِكُلِّ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمَحْظُورٍ، وَمُبَاحٍ وَمَكْرُوهٍ وَمَسْنُونٍ. فَقَدْ كَانَ فِي الْعَقْلِ جَوَازُ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ، وَكَانَ فِيهِ أَيْضًا جَوَازُ وُرُودِ الشَّرْعِ بِتَحْرِيمِ مَا أَوْجَبَهُ وَإِيجَابِ مَا حَرَّمَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ فِعْلٍ، وَلَا عَلَى تَحْرِيمِهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَقَالُوا أَيْضًا: لَوْ تَوَهَّمْنَا خَلْقَ الْعَاقِلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ ذَلِكَ الْعَاقِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَوَصَلَ إلَيْهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِذَلِكَ ثَوَابًا، وَلَوْ جَحَدَهُ بِهِ وَكَوْنُهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ عِقَابًا، وَلَوْ عَذَّبَهُ اللَّهُ أَبَدًا فِي النَّارِ لَكَانَ عَدْلًا. وَإِنَّمَا كَانَ كَإِيلَامِ الطِّفْلِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعِقَابُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ خِطَابًا أَوْ بِوَاسِطَةِ الرِّسَالَةِ ثُمَّ عَصَاهُ. هَذَا قَوْلُ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ،

وَأَبِي ثَوْرٍ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَتَمَعْزَلْ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَالَ فِي كِتَابِ " التَّحْصِيلِ ": إنَّهُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ ": مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَامَّةً: إنَّهُ لَا تَجِبُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ قَبْلَ السَّمْعِ، وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ، وَقَبْلَ وُرُودِ الدَّعْوَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُرْتَدٌّ كَافِرٌ. وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مَنْ قَتَلَ مِمَّنْ تَبْلُغُهُ الدَّعْوَةُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا دِيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُشْرِكٌ مُرْتَدٌّ مُعَانِدٌ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " تَلْخِيصِ كِتَابِ الْقَاضِي ": بَحْثُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ يَرْجِعُ إلَى مَا يَحْسُنُ وَيَقْبُحُ فِي التَّكْلِيفِ، وَهُمَا رَاجِعَانِ إلَى حُكْمِ الرَّبِّ شَرْعًا لَا إلَى وَصْفِ الْعَقْلِ، وَصَارَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ قُبْحَ الْقَبِيحِ يَرْجِعُ

إلَى ذَاتِهِ، وَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ صَارُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْحُسْنِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ فَقَالُوا: لَا يُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ حُسْنٌ وَلَا قُبْحٌ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَعْظِيمِهِ، وَالْقَبِيحَ مَا وَرَدَ بِذَمِّهِ، فَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ عَلَى التَّحْقِيقِ هُوَ عَيْنُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الشَّرْعِيَّيْنِ، وَقَدْ أَطْبَقَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالشُّكْرِ، وَقُبْحَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، مِمَّا يُدْرَكُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَقَالَ عَبْدُ الْجَلِيلِ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ ": أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا يُعْلَمُ حُسْنُهُ بِالْعَقْلِ وَلَا مَجَالَ لِلسَّمْعِ فِيهِ، كَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْعِلْمِ، وَالثَّانِي: مَا يُعْلَمُ قُبْحُهُ بِالْعَقْلِ، وَهُوَ ضِدُّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَوْرِ وَكُفْرِ الْمُنْعِمِ وَالْجَهْلِ وَهَذَانِ الضَّرْبَانِ يُعْلَمَانِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ. وَالثَّالِثُ: مَا فِي مَعْلُومِ اللَّهِ أَنَّ فِعْلَهُ يُؤَدِّي إلَى فِعْلِ مَا هُوَ حَسَنٌ فِي الْعَقْلِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ حَسَنٌ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حُسْنَهُ إلَّا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ. وَالرَّابِعُ: مَا هُوَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ أَنَّهُ قَبِيحٌ وَلَا يُعْلَمُ حَتَّى يَرِدَ السَّمْعُ فَيَكُونَ تَرْكُهُ دَاعِيًا إلَى الْقُبْحِ فِي الْعَقْلِ كَالزِّنَى وَاللِّوَاطِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ. فَهَذَا لَا يُعْلَمُ قُبْحُهُ إلَّا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ. هَذَا مَذْهَبُهُمْ فِي تَقْسِيمِ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي " الْمُرْشِدِ ": الشَّيْءُ عِنْدَنَا لَا يَحْسُنُ وَلَا يَقْبُحُ لِنَفْسِهِ بَلْ إنَّمَا تَرْجِعُ الْأَحْكَامُ إلَى قَوْلِ الشَّارِعِ، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَتَوَقَّفُ إدْرَاكُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ عَلَى السَّمْعِ بَلْ يُدْرَكَانِ

بِالْعَقْلِ، ثُمَّ مِنْهَا مَا يُدْرَكُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ كَالْكُفْرِ، وَالضَّرَرِ الْمَحْضِ، وَمِنْهَا مَا يُدْرَكُ بِنَظَرِهِ كَوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ. قَالَ: وَمَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّتِنَا: لَا يُدْرَكُ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَهُوَ مُتَجَوِّزٌ؛ لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْحُسْنَ زَائِدٌ عَلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَسَنَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْسِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ وَكَذَا الْقَبِيحُ. وَقَالَ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: مَعْنَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّهُ يُقَبَّحُ كَذَا أَوْ يُحَسَّنُ كَذَا عَقْلًا أَنَّهُ يُدْرَكُ ذَلِكَ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ إخْبَارِ مُخْبِرٍ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّكْلِيفَ مُخْتَصٌّ بِالسَّمْعِ دُونَ الْعَقْلِ وَأَنَّ الْعَقْلَ بِذَاتِهِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى تَحْسِينِ شَيْءٍ وَلَا تَقْبِيحِهِ، وَلَا حَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ، وَلَا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَرِدَ السَّمْعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْعَقْلُ آلَةٌ تُدْرَكُ بِهَا الْأَشْيَاءُ، فَيُدْرَكُ بِهِ حُسْنٌ وَقُبْحٌ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسَّمْعِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَهُمْ الَّذِينَ امْتَازُوا عَنْ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ، وَذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ لِلْعَقْلِ مَدْخَلًا فِي التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ عُلِمَ بِالْعَقْلِ، وَضَرْبٌ عُلِمَ بِالسَّمْعِ. فَأَمَّا الْمَعْلُومُ حُسْنُهُ بِالْعَقْلِ فَهُوَ الْعَدْلُ، وَالْإِنْصَافُ، وَالصِّدْقُ وَشُكْرُ الْمُنْعِمِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمَعْلُومُ حُسْنُهُ بِالشَّرْعِ فَنَحْوُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا الْمَعْلُومُ قُبْحُهُ بِالشَّرْعِ فَكَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ. قَالُوا: وَسَبِيلُ السَّمْعِ إذَا وَرَدَ بِمُوجِبِ الْعَقْلِ يَكُونُ وُرُودُهُ مُؤَكِّدًا لِمَا فِي الْعَقْلِ إيجَابِهِ وَقَضِيَّتِهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ وَاجِبٌ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ بِهِ وَدُعَاءِ الشَّرْعِ إلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَسْرِهِمْ، وَذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ

وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَالْحَلِيمِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ خُصُوصًا الْعِرَاقِيِّينَ مِنْهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَبَّخَ الْكُفَّارَ عَلَى تَرْكِهِمْ الِاسْتِدْلَالَ بِعُقُولِهِمْ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِهِمْ. فَقَالَ: {لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] وَقَالَ: {لأُولِي النُّهَى} [طه: 54] وَقَالَ: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك: 10] . قَالَ: وَالصَّحِيحُ: هُوَ الْأَوَّلُ وَإِيَّاهُ نَخْتَارُ وَنَزْعُمُ أَنَّهُ شِعَارُ السُّنَّةِ. وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى نُرَكِّبَ عُقُولًا. وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ الْمَلَائِكَةِ فِي خِطَابَاتِهِمْ مَعَ أَهْلِ النَّارِ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا لَزِمَتْهُمْ بِالسَّمْعِ دُونَ الْعَقْلِ. وَقَالَ تَعَالَى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ بِحَالٍ، وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرُوهَا، فَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْعَقْلَ آلَةُ تَمْيِيزٍ وَبِهِ تُدْرَكُ آلَةُ الْأَشْيَاءِ وَيُتَوَصَّلُ إلَى الْحُجَجِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ بِذَاتِهِ هَلْ يَسْتَقِلُّ بِإِيجَابٍ شَيْءٍ آخَرَ أَوْ تَحْرِيمِهِ. قَالَ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَلَامِيَّةٌ وَإِنَّمَا اقْتَصَرْنَا فِيهَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ وَذَكَرْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فِي مَسَائِلَ مِنْ الْفِقْهِ. انْتَهَى. وَمَا نَقَلَهُ عَنْ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، وَالصَّيْرَفِيُّ رَأَيْته فِي كِتَابَيْهِمَا فِي الْأُصُولِ

أَمَّا الْقَفَّالُ، فَقَالَ: أَحْكَامُ الشَّرْعِ ضَرْبَانِ: عَقْلِيٌّ وَاجِبٌ، وَسَمْعِيٌّ مُمْكِنٌ. فَالْأَوَّلُ: مَا لَا يَجُوزُ تَغَيُّرُهُ وَلَا يُتَوَهَّمُ جَوَازُ اسْتِبَاحَةِ مَا يَحْظُرُ، وَلَا حَظْرُ مَا أُوجِبَ فِعْلُهُ كَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْعَدْلِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ يَرِدُ السَّمْعُ بِهَذَا النَّوْعِ فَيَكُونُ مُؤَكِّدًا لِمَا وَجَبَ بِالْعَقْلِ. وَالثَّانِي: كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى تَجْوِيزِ الْعَقْلِ وَقَبُولِهِ إيَّاهُ فِيمَا جَوَّزَهُ الْعَقْلُ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَا رَدَّهُ فَمَرْدُودٌ، وَمَتَى وَرَدَ السَّمْعُ بِإِيجَابِهِ صَارَ وَاجِبًا إلَى أَنْ يَلْحَقَهُ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ. هَذَا كَلَامُهُ، وَأَمَّا الصَّيْرَفِيُّ فَقَالَ: فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ": لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ أَوْ الْإِجْمَاعُ بِمَا يَدْفَعُهُ الْعَقْلُ، وَإِذَا اسْتَحَالَ ذَلِكَ فَكُلُّ عِبَادَةٍ جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَّةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُؤَكِّدٌ لِمَا فِي الْعَقْلِ إيجَابُهُ، أَوْ حَظْرُهُ، أَوْ إبَاحَتُهُ كَتَحْرِيمِ الشِّرْكِ، وَإِيجَابِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَالثَّانِي: مَا فِي الْعَقْلِ جَوَازُ مَجِيئُهُ وَمَجِيءِ خِلَافِهِ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ. فَالسَّمْعُ يُرَقِّيهَا مِنْ حَيِّزِ الْجَوَازِ إلَى الْوُجُوبِ. قَالَ: وَلَا يَأْتِي الْخَبَرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ حَاكِمٌ عَلَى مَا يَرِدُ بِهِ السَّمْعُ أَنَّهُ الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَجِمَاعُ نُكْتَةِ الْبَابِ أَنَّ الَّذِي يَرِدُ السَّمْعُ مِمَّا يُثْبِتُهُ الْعَقْلُ إنَّمَا يَأْتِي تَنْبِيهًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 164] {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] وَإِنَّمَا أَتَى بِالشَّيْءِ الَّذِي الْعَقْلُ عَامِلٌ فِيهِ. وَقَدْ يُفَكِّرُ الْإِنْسَانُ فِي خَلْقِ نَفْسِهِ وَخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَتَدَبُّرِ آثَارِ الصَّنْعَةِ، فَيَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا صَانِعًا حَكِيمًا،

فَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ تَنْبِيهَ السَّمْعِ بَيِّنٌ فِي الْعَقْلِ انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ عَدَّوْا هَذَا إلَى غَيْرِهِ، فَقَالُوا: يَجِبُ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، وَبِالْقِيَاسِ عَقْلًا وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْقَفَّالِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَكَرُوا فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ مُوَافَقَتِهِمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَأْرِيخِهِ ": كَانَ الْقَفَّالُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مَائِلًا عَنْ الِاعْتِدَالِ قَائِلًا بِالِاعْتِزَالِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ. الثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِهِ " التَّقْرِيبِ " وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَهُ فِي " شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ " نَحْوًا مِنْ هَذَا أَيْضًا، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا حَكَيْنَا هَذِهِ الْمَذَاهِبَ عُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا كَابْنِ سُرَيْجٍ كَانُوا قَدْ بَرَعُوا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَدَمٌ رَاسِخٌ فِي الْكَلَامِ، وَطَالَعُوا عَلَى الْكِبَرِ كُتُبَ الْمُعْتَزِلَةِ فَاسْتَحْسَنُوا عِبَارَاتِهِمْ غَيْرَ عَالِمِينَ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مَقَالَاتُهُمْ مِنْ قُبْحِ الْقَوْلِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَحْسَنُ تَنْزِيلُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمَنْقُولِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " ذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ الْعُقُولَ بِمُجَرَّدِهَا تُحَسِّنُ وَتُقَبِّحُ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحَسَنِ يُعْلَمُ حُسْنُهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَضَرُورَتِهِ دُونَ أَدِلَّتِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَبِيحُ مِثْلُ وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَقُبْحِ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا

اختلاف العلماء في حكم دلالات العقول

وَجَمِيعِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ أُصُولَ الْوَاجِبَاتِ وَالْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا مُدْرَكَةٌ بِالْعَقْلِ سَوَاءٌ وَرَدَ عَلَيْهَا حُكْمُ اللَّهِ بِالتَّقْرِيرِ أَوْ لَمْ يَرِدْ، وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ. [اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ دَلَالَاتِ الْعُقُولِ] [اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ دَلَالَاتِ الْعُقُولِ] وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ دَلَالَاتِ الْعُقُولِ عَلَى الْمَشْرُوعَاتِ الدِّينِيَّةِ لَوْلَا الشَّرِيعَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدْعُنَا وَالْعُقُولُ بِمُجَرَّدِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا حَسَنَةٌ بِالْعَقْلِ لَوْلَا الشَّرِيعَةُ، وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ. فَالْعِبَادَاتُ كَانَتْ تَجِبُ لَوْلَا الشَّرْعُ لَا زَاجِرَ عَنْهَا إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ، كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ لَا لِضَرُورَةٍ بِالشَّرْعِ تَيْسِيرًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ، وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْمُعَجَّلَةُ فَمَا وَجَبَتْ إلَّا شَرْعًا. الرَّابِعُ: قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ، وَاعْتِقَادَ وُجُوبِ الطَّاعَةِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، لَكِنَّهُ تَقِفُ نَفْسُهُ لِلْبِدَارِ إلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْدُمَ عَلَى شَيْءٍ بِالِاسْتِبَاحَةِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ، لَا لِقُبْحِ هَذِهِ الْمَشْرُوعَاتِ قَبْلَ الْأَمْرِ بَلْ يُمْنَعُ الْعَقْلُ مَعْرِفَةَ حُسْنِهَا. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا، وَلِهَذَا كَانَ بَعْثُ الرُّسُلِ عَلَى اللَّهِ حَقًّا وَاجِبًا لِيُمَكِّنَهُمْ الْإِقْدَامَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَالتَّوَقُّفُ لِلطَّاعَةِ ضَرْبُ عِنَادٍ فَإِنَّهَا تَمْثِيلُ الْعَقْلِ فَكَانَ يَلْزَمُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلْعِبَادَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَأَنَّهَا مُجْمَلَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: يَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مَأْمُورًا، وَأَمَّا الْإِقْدَامُ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَلَا يَأْتِي بِهِ إلَّا بَعْدَ الشَّرْعِ، وَيَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ

مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَيَنْصَبُّ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ بِخَالِقِهِ. وَقَوْلِهِ: لَوْ لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ رَسُولًا لَوَجَبَ عَلَى الْخَلْقِ مَعْرِفَتُهُ بِعُقُولِهِمْ. لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ فَسَّرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّابُونِيُّ وَهُوَ الْعُمْدَةُ عِنْدَهُمْ. قَالَ: لَيْسَ تَفْسِيرُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالْعَقْلِ أَنْ يُسْتَحَقَّ الْعِقَابُ بِالْعَقْلِ وَالثَّوَابُ بِالْعَقْلِ، إذْ هُمَا لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِالسَّمْعِ لَكِنَّ تَفْسِيرَهُ عِنْدَنَا نَوْعُ تَرْجِيحٍ. اهـ. وَالْأَحْسَنُ فِي مَعْنَاهُ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَنْزِيلٌ ثَالِثٌ فِي إيضَاحٍ آخَرَ، وَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْحَنَفِيَّةِ: عِنْدَنَا الْحَاكِمُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْفَرْقُ هُوَ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بَعْدَ الشَّرْعِ، وَعِنْدَنَا قَدْ يَعْرِفُهُمَا الْعَقْلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِهِمَا إمَّا بِلَا كَسْبٍ، كَحُسْنِ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقُبْحِ الْكَذِبِ الضَّارِّ، وَإِمَّا مَعَ كَسْبٍ، كَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَقَدْ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّ كَأَكْثَرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ

وَحَاصِلُهُ: أَنَّ حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَنَا مِنْ مَدْلُولَاتِ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ مُوجِبَاتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ ابْنِ بَرْهَانٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ قَالُوا: إنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ وَحَاكِمٌ، وَتَبِعَهُ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيَصِيرُ مَطْلَعُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الشَّرْعَ مُثْبِتٌ أَوْ مُقَرِّرٌ؟ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ فَسَلَكُوا طَرِيقًا لَخَصُّوا فِيهَا مَحَلَّ النِّزَاعِ، فَقَالُوا: الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ يُطْلَقَانِ بِمَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: مَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ وَيُنَافِرُهُ، كَالْحَلَاوَةِ، وَالْمَرَارَةِ، وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ النِّزَاعِ لِاخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ. الثَّانِي: كَوْنُ الشَّيْءِ صِفَةَ كَمَالٍ أَوْ نَقْصٍ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَهُمَا بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ عَقْلِيَّانِ. أَيْ: يُعْرَفَانِ بِالْعَقْلِ بِلَا خِلَافٍ. الثَّالِثُ: كَوْنُ الْفِعْلِ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ، فَعِنْدَنَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ وَعِنْدَهُمْ بِخِلَافِهِ، فَالنِّزَاعُ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مُتَعَلَّقَ الذَّمِّ عَاجِلًا وَالْعِقَابِ آجِلًا. وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُوجِبُهُ لِتَصْرِيحِهِ بِالتَّعَلُّقِ، وَنَازَعَهُ الْقَرَافِيُّ، فَقَالَ: النِّزَاعُ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مُتَعَلِّقًا لِلذَّمِّ أَوْ الْعِقَابِ يُشْعِرُ بِأَنَّ تَرَتُّبَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَلَى الْفِعْلِ يُنَازَعُ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَهُمْ، إذْ يَجُوزُ

أَنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَيُوجِبَ وَلَا يُعَجِّلُ ذَمًّا بَلْ يَحْصُلُ الْوَعِيدُ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَ وَلَا يُوجِدَ عِقَابًا بَلْ يُعَجِّلُهُ عَقِبَ الذَّنْبِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مُتَعَلَّقًا بِالْمُؤَاخَذَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَيْفَ كَانَتْ ذَمًّا أَوْ غَيْرَهُ عَاجِلَةً أَوْ آجِلَةٍ هَلْ يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ قُلْت: وَجَعَلَ الْمُقْتَرِحُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ " مِنْ صُوَرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مَا يُتَعَارَفُ قَبْلَ الشَّرْعِ مِنْ الْمَيْلِ إلَى الْفِعْلِ وَالنَّفْرَةِ عَنْهُ. قَالَ: فَالْمُعْتَزِلَةُ يَدَّعُونَ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِحْثَاثُ الْعَقْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ مِمَّا جُبِلَ عَلَيْهِ الْحَيَوَانُ مِنْ شَهْوَةِ مَا يَنْفَعُهُ وَكَرَاهَةِ مَا يَضُرُّهُ. اهـ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَقْلِ الْخِلَافِ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الْإِمَامُ مَحَلَّ وِفَاقٍ. ثُمَّ قَالَ: فَرَّعَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْعَقْلَ مِمَّا يَسْتَحِثُّ عَلَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ فِي نَفْسِهِ لِأَجْلِهَا يَحُثُّ عَلَى فِعْلِهِ، ثُمَّ اضْطَرَبُوا فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَالَ قُدَمَاؤُهُمْ: صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ وَقَالَ مُتَأَخِّرُوهُمْ: تَابِعَةٌ لِلْحُدُوثِ. ثُمَّ قَالُوا: إنَّمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ فِي نَفْسِهِ لِأَجْلِهَا يَقْبُحُ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى فَيَقْبُحُ فِي نَفْسِهِ. قَالَ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَخَذَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْعِلْمُ مَحْمُودٌ لِذَاتِهِ، وَالْجَهْلُ مَذْمُومٌ لِذَاتِهِ، وَسَائِرُ الْأَفْعَالِ لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ مَحْمُودَةً لِذَاتِهَا، وَلَا مَذْمُومَةً لِذَاتِهَا بَلْ لِعُرُوضِ عَرَضٍ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، فَأَخَذَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذَا الْمَذْهَبِ فِي الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَعَدُّوهُ إلَى سَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَعَبَّرَ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ مَذْهَبِ الْقَوْمِ بِأَنْ قَالَ: عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُدْرَكُ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ عَقْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَوَقَّفَ " عَلَى إخْبَارٍ عَلَى مُخْبِرٍ " وَلَيْسَ فِي هَذَا

العقل عند المعتزلة

إفْصَاحٌ عَنْ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَهُ إلَى صِفَةٍ نَفْسِيَّةٍ أَوْ صِفَةٍ تَابِعَةٍ لِلْحُدُوثِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ: إنَّهَا صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ: صِفَةُ النَّفْسِ مَا يَتْبَعُ النَّفْسَ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ إثْبَاتُ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ فِي الْقَدِيمِ. ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ عَلَى الْمَعْدُومِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. ثُمَّ قَسَّمُوا الْأَفْعَالَ إلَى قِسْمَيْنِ، وَقَالُوا: مِنْهَا مَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ فِيهِ حُسْنًا وَلَا قُبْحًا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ، وَذَلِكَ لِخَفَاءِ وَصْفِهِ عَنْ الْعُقُولِ، وَلَيْسَ هُوَ ثَابِتًا بِالْخِطَابِ وَإِنَّمَا الشَّرْعُ كَاشِفٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ لَمَّا قَصُرَ الْعَقْلُ عَنْهُ. قَالَ فِي " تَعْلِيقِهِ عَلَى الْبُرْهَانِ ": وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ سَيِّئَةٌ وَحَسَنَةٌ، فَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُمْ نَفَوْا الْحَسَنَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي حَقِّنَا، فَحَسَنَتُهُمْ كَوْنُهُمْ نَفَوْهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَسَيِّئَتُهُمْ كَوْنُهُمْ نَفَوْهُ فِي حَقِّنَا، وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ إثْبَاتُ الْحَسَنِ فِي حَقِّ اللَّهِ وَفِي حُقُوقِنَا، وَسَيِّئَتُهُمْ كَوْنُهُمْ أَثْبَتُوهُ فِي حَقِّ الْبَارِي، وَحَسَنَتُهُمْ كَوْنُهُمْ أَثْبَتُوهُ فِي حَقِّنَا. فَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَذْهَبًا بَيْنَ مَذْهَبَيْنِ وَهُوَ الْجَامِعُ لِمَحَاسِنِ الْمَذَاهِبِ، فَأَثْبَتَهُ فِي حَقِّنَا وَنَفَاهُ فِي حَقِّ الْبَارِي. انْتَهَى. [الْعَقْلُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ] تَنْبِيهٌ: [الْعَقْلُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ يُوجِبُ وَيُحَرِّمُ] ظَاهِرُ النَّقْلِ السَّابِقِ عَنْهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ وَيُحَرِّمُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْلَالِ وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] يَقْتَضِيهِ. يَقْتَضِيهِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْفِعْلَ إنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ

خَالِصَةٍ أَوْ رَاجِحَةٍ اقْتَضَى الْعَقْلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَلَبَهُ، وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ خَالِصَةٍ أَوْ رَاجِحَةٍ اقْتَضَى الْعَقْلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَلَبَ تَرْكَهُ، وَإِنْ تَكَافَأَتْ مَصْلَحَةُ الْفِعْلِ وَمَفْسَدَتُهُ أَوْ تَجَرَّدَ عَنْهُمَا أَصْلًا كَانَ مُبَاحًا وَلَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا عِنْدَهُمْ، لِثُبُوتِهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ أَدْرَكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجِبُ لَهُ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ أَنْ لَا يَدَعَ مَصْلَحَةً فِي وَقْتٍ مَا إلَّا أَوْجَبَهَا وَأَثَابَ عَلَيْهَا، وَلَا يَدَعَ مَفْسَدَةً فِي وَقْتٍ مَا إلَّا حَرَّمَهَا، وَعَاقَبَ عَلَيْهَا تَحْقِيقًا لِكَوْنِهِ حَكِيمًا، وَإِلَّا لَفَاتَتْ الْحِكْمَةُ فِي جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ. فَعِنْدَهُمْ إدْرَاكُ الْعَقْلِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قِبَلِ الْوَاجِبَاتِ لِلْعَقْلِ لَا مِنْ قِبَلِ الْجَائِزَاتِ كَمَا نَقُولُ. وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ الْأَوْصَافَ مُسْتَقِلَّةٌ بِالْأَحْكَامِ، وَلَا أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ وَيُحَرِّمُ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِهِمْ وَتَلْخِيصِ النِّزَاعِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الصَّيْرَفِيِّ السَّابِقِ وَحَاصِلُ كَلَامِ الْقَرَافِيِّ أَيْضًا. وَالْأُصُولِيُّونَ النَّاقِلُونَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ أَحَالُوا الْمَعْنَى، وَنَقَلُوا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَا لَا يَنْبَغِي لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَهُ. إيضَاحٌ آخَرُ: [الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ لَا يُعْلَمَانِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ] قَدْ تَقَرَّرَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إنَّمَا هُوَ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِمَعْنَى تَرَتُّبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. فَنَقُولُ: بَيْنَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَبَيْنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ تَلَازُمٌ مَا، وَاتَّفَقَ الْمُعْتَزِلِيُّ مَعَ السُّنِّيِّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحَهَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَافْتَرَقَا فِي أَنَّ الْمُعْتَزِلِيَّ يَرَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُلَازِمٌ لَهَا فَحَكَمَ بِثُبُوتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ قَبْلَ الشَّرْعِ، لِثُبُوتِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ قَبْلَهُ، فَإِذَا جَاءَ الشَّرْعُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُؤَكِّدًا لِحُكْمِ الْعَقْلِ، وَأَمَّا السُّنِّيُّ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَا يُعْلَمَانِ إلَّا مِنْ جِهَةِ

الشَّرْعِ. فَنَفَى الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ مَا بِهِ الِاتِّفَاقُ قَدْ يَكُونُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ، وَنَظِيرُهُ الْخِلَافُ فِي النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ. وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَخْرُجُ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحَهَا وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَيْهَا شَرْعِيَّانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالثَّانِي: عَقْلِيَّانِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حُسْنَهَا وَقُبْحَهَا ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ، فَنُسَمِّيهِ قَبْلَ الشَّرْعِ حَسَنًا وَقَبِيحًا، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إلَّا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَسْعَدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَحَكَوْهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا. وَهُوَ الْمَنْصُورُ، لِقُوَّتِهِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ وَآيَاتُ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَسَلَامَتُهُ مِنْ التَّنَاقُضِ وَإِلَيْهِ إشَارَاتُ مُحَقِّقِي مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ وَالْكَلَامِيِّينَ، فَلْيُتَفَطَّنْ لَهُ. فَهَاهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: إدْرَاكُ الْعَقْلِ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحَهَا، وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ شَرْعٌ، وَلَا

تَلَازُمٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِدَلِيلِ {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [الأنعام: 131] أَيْ بِقَبِيحِ فِعْلِهِمْ {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] أَيْ: لَمْ يَأْتِهِمْ الرُّسُلُ وَالشَّرَائِعُ، وَمِثْلُهَا {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [القصص: 47] أَيْ: مِنْ الْقَبَائِحِ {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} [القصص: 47] الْآيَةَ، وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ شَرْعِيٌّ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِقَوْلِهِ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] فَأَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقَالَ تَعَالَى {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فَلَوْ كَانَ لَهُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَمَا قَالَ: إنَّمَا أَبْعَثُ الرُّسُلَ لِأَقْطَعَ بِهَا حُجَّةَ الْمُحْتَجِّ. إذَا تَلَخَّصَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَلَهُ مَآخِذُ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُسْنَ عِنْدَهُمْ صِفَةٌ قَامَتْ بِهِ أَوْجَبَتْ كَوْنَهُ حَسَنًا، وَالْقُبْحَ صِفَةٌ قَامَتْ بِهِ أَوْجَبَتْ كَوْنَهُ قَبِيحًا حَمْلًا لِلْأَفْعَالِ عَلَى الْأَجْسَامِ. فَإِنَّ الْحُسْنَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهَا وَكَذَلِكَ الْقُبْحُ. وَعِنْدَنَا الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ نِسْبِيَّةٌ إضَافِيَّةٌ حَاصِلَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَاقْتِضَاءِ الشَّرْعِ إيجَادَهُ أَوْ الْكَفَّ عَنْهُ. فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ: صَلِّ. قُلْنَا: الصَّلَاةُ حَسَنَةٌ، وَإِذَا قَالَ: لَا تَزْنِ: قُلْنَا: الزِّنَى قَبِيحٌ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ صِفَتَانِ لِلْفِعْلِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَالْفِعْلَ عَرَضٌ وَالْعَرَضَ لَا يَقُومُ بِالْعَرَضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِالْجَوَاهِرِ. فَكَيْفَ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ؟ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ عِنْدَهُمْ مُقَرِّرًا لِحُكْمِ الْعَقْلِ وَمُؤَكِّدًا لَهُ. وَعِنْدَنَا وَرَدَ الشَّرْعُ كَاسْمِهِ شَارِعًا لِلْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً.

العقل مدرك للحكم لا حاكم

وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَقْلَ اُحْتِيجَ إلَيْهِ قَبْلَ الشَّرْعِ لِتَقْرِيرِ مُقَدِّمَاتِهِ فَالتَّوْحِيدُ، وَجَوَازُ الْبَعْثَةِ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُعْجِزَاتِ كَالثَّابِتِ لِلشَّرْعِ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا قَرَّرَهَا انْعَزَلَ وَصَارَ مَأْمُورًا بِامْتِثَالِ مَا يَصْدُرُ عَنْهَا، وَلِهَذَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ الصَّادِقَ إذَا أَخْبَرَ خَبَرًا لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، وَتِلْكَ خَصِيصَةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّتِي مَدَحَ اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمَّا قَلَّدُوا عُقُولَهُمْ أَنْكَرُوا عَذَابَ الْقَبْرِ، وَسُؤَالَ مُنْكِرٍ وَنَكِيرٍ، وَوَزْنَ الْأَعْمَالِ وَوَقَعُوا فِي عِقَالِ الضَّلَالِ حَيْثُ عَدَلُوا عَنْ قَوْلِ الْمَعْصُومِ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ التَّأْكِيدُ وَالتَّأْسِيسُ كَانَ التَّأْسِيسُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً. وَنَظِيرُهُ: إذَا تَعَارَضَ حَدِيثَانِ وَأَحَدُهُمَا مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ نَاقِلٌ عَنْ حُكْمِهِ، وَالْآخَرُ مُوَافِقٌ لَهُ مُقَرِّرٌ لِحُكْمِهِ. هَلْ يُقَدَّمُ الْمُقَرِّرُ؛ لِأَنَّهُمَا دَلِيلَانِ يَعْضُدُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ النَّاقِلُ؛ لِأَنَّهُ أَفَادَ فَائِدَةً زَائِدَةً؟ قَوْلَانِ. الثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ مُلَازِمٌ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَعِنْدَنَا لَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا. الرَّابِعُ: أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ عِنْدَنَا فَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ يَرْجِعَانِ إلَى كَوْنِ الْفِعْلِ مَأْمُورًا بِهِ وَمَنْهِيًّا عَنْهُ. [الْعَقْلُ مُدْرِكٌ لِلْحُكْمِ لَا حَاكِمٌ] تَنْبِيهٌ [الْعَقْلُ مُدْرِكٌ لِلْحُكْمِ لَا حَاكِمٌ] إدْرَاكُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْقِيَاسِ أَوْ دُخُولُ الْفَرْعِ الْخَاصِّ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَقْلِ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ مُدْرِكٌ لِلْحُكْمِ، لَا أَنَّهُ حَاكِمٌ، وَكَذَلِكَ تَرَتُّبُ النَّتِيجَةِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَدْرَكَهُ الْعَقْلُ، وَلَا يُقَالُ: أَوْجَبَهُ

وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْمُخْتَصَرِ " الْقَوْلَ بِتَعْصِيَةِ النَّاجِشِ، وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ فِي السِّلْعَةِ لَا لِغَرَضٍ بَلْ لِيَخْدَعَ غَيْرَهُ. وَشَرَطَ فِي تَعْصِيَةِ مَنْ بَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ الْعِلْمَ بِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ. فَقَالَ الشَّارِحُونَ: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّجْشَ خَدِيعَةٌ، وَتَحْرِيمُ الْخَدِيعَةِ وَاضِحٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ خَبَرٌ بِخُصُوصِهِ، وَالْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ الْأَخِ إنَّمَا عُرِفَ مِنْ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ فَلَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْخَبَرَ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخِدَاعِ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ شَرْعٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي " شَرْحِ الْوَجِيزِ ": وَهَذَا لَيْسَ مِنْ مُعْتَقَدِنَا. انْتَهَى. وَإِذَا فَهِمْته عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ تَحْرِيمَ الْخِدَاعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْلَالٍ فِي ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ اعْتِرَاضٌ، وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ عَدَمُ صِحَّةِ إسْلَامِ الصَّبِيِّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ فَرْعُ تَقَدُّمِ الْإِلْزَامِ بِهِ، وَلَا إلْزَامَ مَعَ الصَّبِيِّ شَرْعًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ. ثُمَّ الْمُعْتَمَدُ فِي إبْطَالِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ عَدَمُ وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بِأَنْ يُقَالَ: خَلْقُ الْعَالَمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ، فَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى فِعْلَ الْمَصَالِحِ دُهُورًا لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَانَ خَلْقُهُ عَرِيًّا عَنْ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ مَلْزُومًا لِلْمَصَالِحِ، أَوْ لَا تَكُونُ رِعَايَتُهَا وَاجِبَةً، وَإِذَا تَقَرَّرَ عَدَمُ وُجُوبِهَا فَلَا يَجِبُ فِي الْعَقْلِ أَنَّ اللَّهَ يَرْبِطُ أَحْكَامَهُ فِيهَا

المسألة الأولى شكر المنعم

بَلْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَيَقْتَضِيهِ، فَبَطَلَ قَاعِدَةُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ عَقْلًا هُوَ عَيْنُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَقَدْ فَرَّعَ الْأَصْحَابُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَيْنِ. [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى شُكْرُ الْمُنْعِمِ] [الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى [شُكْرُ الْمُنْعِمِ] شُكْرُ الْمُنْعِمِ: وَهُوَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِذِكْرِ آلَائِهِ وَإِحْسَانِهِ حَسَنٌ قَطْعًا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. وَأَمَّا وُجُوبُهُ فَإِنَّمَا يَكُونُ بِالشَّرْعِ وَلَا يَجِبُ عَقْلًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَقْلًا لَكِنَّهُ وُجُوبُ اسْتِدْلَالٍ لَا ضَرُورِيٍّ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْأَقْدَمِينَ مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ. فَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ: الْعِبَادَاتُ مِنْ قِبَلِ السَّمْعِ لَا تَرِدُ إلَّا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: ضَرْبٌ يَرِدُ بِإِيجَابِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَقْلِ وُجُوبُهُ، كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَالثَّانِي: يَرِدُ بِحَظْرِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَقْلِ وُجُوبُهُ كَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ. وَالثَّالِثُ: يَرِدُ لِمَا فِي الْعَقْلِ جَوَازُ مَجِيئِهِ، كَالصَّلَوَاتِ، وَالزَّكَوَاتِ وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ

وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ فِي كِتَابِ " أَدَبِ الْجَدَلِ ": الْأَشْيَاءُ فِي الْعَقْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: فَضَرْبٌ أَوْجَبَهُ الْعَقْلُ، وَضَرْبٌ نَفَاهُ، وَضَرْبٌ أَجَازَهُ وَأَجَازَ خِلَافَهُ، فَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْلُ فَهُوَ وَاجِبٌ كَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ. قَالَ: فَأَمَّا الضَّرْبَانِ الْأَوَّلَانِ فَحُجَّةُ اللَّهِ فِيهِمَا قَائِمَةٌ عَلَى كُلِّ ذِي لُبٍّ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ وَبَعْدَهُ، وَلَا يَجِيءُ سَمْعٌ إلَّا مُطَابِقًا. اهـ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ: لَا خِلَافَ أَنَّ مَا كَانَ لِلْعَقْلِ فِيهِ حُكْمٌ أَنَّهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَنَحْوِهِ. اهـ. وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي " مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ " فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: وَالْعُقُولُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ. وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ " عَنْ الْقَفَّالِ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَّا " قَالَ " وَكَانَ ذَلِكَ مَذْهَبَ الصَّيْرَفِيِّ وَرَجَعَ عَنْهُ. قَالَ: وَلَمْ يُخَالِفُوا أُصُولَنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَوَافَقُونَا فِي بَاقِي الْمَسَائِلِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ. وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْفُقَهَاءِ لَمَّا نَظَرُوا إلَى أَسْئِلَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِيجَابِ الشُّكْرِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ اعْتَقَدُوا أَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَمَعْرِفَةَ حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَأَنَّ لَهُ مُحْدِثًا، وَأَنَّ لَهُ مُنْعِمًا أَنْعَمَ عَلَيْهِ كُلَّهَا وَاجِبٌ بِالْعَقْلِ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ. قَالَ: وَأَبُو عَلِيٍّ السَّقَطِيُّ يَعْنِي الطَّبَرِيَّ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْقَطَّانِ كَانَ صَاحِبَ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَانَ يَدُقُّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ

قَالَ: وَحَكَى أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَعَ إلَى أَبِي الْحَسَنِ يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّ - وَأَبُو الْحَسَنِ كَلَّمَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَلَمْ يَنْجَعْ مِنْهُ. فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ لِأَبِي عَلِيٍّ أَنْتَ تَشْنَؤُنِي: أَيْ تَبْغُضُنِي. قَالَ: فَوَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ. قَالَ أَبُو سَهْلٍ: وَكُنَّا نَتَعَصَّبُ لِلشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ فَمَضَيْنَا وَقَعَدْنَا عَلَى رَأْسِ الْقَنْطَرَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى طَرِيقِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهِيَ قَنْطَرَةٌ بِبَغْدَادَ يُقَالُ لَهَا: الصَّرَاةُ وَكُنَّا نَنْتَظِرُهُ لِنَنْتَفِعَ بِهِ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، فَقَدْ وَقَعَ إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَلَحَّ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ: أَبِجَدٍّ تَقُولُ: إنَّ الْكَائِنَاتِ كُلَّهَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرَهَا وَشَرَّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي إيجَابِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْعِمُ الَّذِي خَلَقَهُ قَدْ أَرَادَ مِنْهُ الشُّكْرَ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مِنْهُ أَنْ لَا يَشْكُرَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ شُكْرِهِ. فَإِمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَأْمَنَ أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنْك تَرْكَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَإِذَا شَكَرْته عَاقَبَك فَلَا يَجِبُ عَلَيْك شُكْرُ الْمُنْعِمِ لِهَذَا الْجَوَازِ. فَتَرَكَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ هَذَا الْمَذْهَبَ وَرَجَعَ عَنْهُ، وَأَمَّا أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ الرُّجُوعُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. قُلْت: قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ فِي " الْعُمَدِ ": هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ قَاطِبَةً

إلَّا ثَلَاثَةَ رِجَالٍ تَلَعْثَمُوا فِي هَذَا الْأَصْلِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْهُ إلَى الْحَقِّ، وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ. ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ: كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَوَائِلُ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ مَعْلُومٌ بِالنَّظَرِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَصَارُوا كُلُّهُمْ فِي آخِرِهِمْ إلَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، وَإِلْزَامَاتٌ وَرَدَتْ عَلَيْهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَقَدْ تَضَمَّنَ فَوَائِدَ جَلِيلَةً. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قَصَدَ الْأَوَائِلُ مِنْ أَصْحَابِنَا بِقَوْلِهِمْ: إنَّا لَا نَعْرِفُ الْقُبْحَ وَالْعَدْلَ، وَالظُّلْمَ إلَّا بِالشَّرْعِ فَقَطْ مُخَالَفَةَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَا قَبَّحَهُ الْعُقُولُ لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِتَحْسِينِهِ، لَا أَنَّا لَا نَعْرِفُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَبْلَ الشَّرْعِ مِنْ اللُّغَةِ، بَلْ نَعْرِفُهَا قَبْلَ الشَّرْعِ وَنَعْلَمُ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى التَّقْبِيحِ وَالتَّحْسِينِ فِي أَشْيَاءَ نَعْرِفُهَا، وَاخْتِلَافَهُمْ فِي أَشْيَاءَ أُخْرَى، وَأَنَّ عُقَلَاءَهُمْ حَكَمُوا كَذَلِكَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَ: إنَّا لَا نَعْرِفُ مَقَاصِدَهُمْ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَبْلَ الشَّرِيعَةِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْكَلَامِ فِيهَا وَالْمُنَاظَرَةِ مَعَ الْخُصُومِ. فَإِنَّهُ مَتَى جَرَى فِي كَلَامِهِ أَنَّ الشَّرْعَ يُقَبِّحُهُ أَوْ يُحَسِّنُهُ مَنَعَهُ مِنْهُ. فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ تَعْنِي بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ؟ فَيَتَعَذَّرَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَأَوَّلُ مَا وَرَدَ أَبُو عَمْرٍو الْبِسْطَامِيُّ بِنَيْسَابُورَ حَضَرَ بَعْضَ مَجَالِسِ الْكَلَامِ لِبَعْضِ الْعَلَوِيَّةِ، فَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ قَبْلَ الشَّرِيعَةِ. فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَالَ فَالْتَبَكَ فِيهِ

وَتَخَبَّطَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ: يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَنَا فِي قَوْلِنَا: إنَّمَا نَعْرِفُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّا نَقُولُ مَا قَضَى الْعَقْلُ بِقُبْحِهِ جَازَ أَنْ تَرِدَ الشَّرِيعَةُ بِاسْتِحْسَانِهِ اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ " التَّحْصِيلِ ": وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولَانِ بِوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَوُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، ثُمَّ إنَّ الصَّيْرَفِيَّ نَاظَرَ الْأَشْعَرِيَّ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِالْعَقْلِ بِوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ مِمَّا يُخَافُ مِنْهُ الضَّرَرُ. قَالَ: فَإِذَا خَطَرَ بِبَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَانِعٌ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَرَادَ مِنْهُ الشُّكْرَ عَلَى نِعَمِهِ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ لَزِمَهُ الشُّكْرُ وَالْمَعْرِفَةُ. فَقَالَ لَهُ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا الِاسْتِدْلَال يُنَافِي أَصْلَك؛ لِأَنَّك اسْتَدْلَلْت عَلَى وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْعِمُ قَدْ أَرَادَ ذَلِكَ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَرَادَ حُدُوثَ كُلِّ مَا عَلِمَ حُدُوثَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ الْمَعَاصِي، وَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حُدُوثَهَا. فَعَلِمَ الصَّيْرَفِيُّ مُنَافَاةَ اسْتِدْلَالِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَرَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ قَبْلَ الشَّرْعِ. اهـ. زَادَ الطُّرْطُوشِيُّ أَنَّهُ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ " الِاسْتِدْرَاكَ " رَجَعَ فِيهِ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: إنَّهُ أَلْحَقَ بِحَاشِيَةِ الْكِتَابِ: نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ فَإِنَّمَا نَقُولُهُ عِنْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ

المسألة الثانية حكم أفعال العقلاء قبل ورود الشرع

قَالَ: وَكَذَا الْقَلَانِسِيُّ كَانَ يَقُولُ بِهِ، ثُمَّ لَمَّا تَحَقَّقَ لَهُ مَا فِيهِ مِنْ التَّهَافُتِ رَجَعَ عَنْهُ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ حُكْمُ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ [حُكْمُ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ] . إنَّ أَفْعَالَ الْعُقَلَاءِ لَا حُكْمَ لَهَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ هِيَ الشَّرَائِعُ وَعِنْدَهُمْ الْأَحْكَامُ هِيَ صِفَاتُ الْأَفْعَالِ، فَقَالُوا: الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ إمَّا حَسَنٌ بِالْعَقْلِ كَإِسْدَاءِ الْخَيْرَاتِ، أَوْ قَبِيحٌ بِالْعَقْلِ كَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ. وَهَذَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا عِنْدَهُمْ كَمَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا لَا يَقْضِي الْعَقْلُ فِيهِ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ كَفُضُولِ الْحَاجَاتِ وَالتَّنَعُّمَاتِ، وَالْأَوَّلُ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ. وَالثَّانِي حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ. وَالثَّالِثُ فِيهِ خِلَافٌ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ عَلَى الْوَقْفِ؟ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ. أَمَّا الْأَفْعَالُ الِاضْطِرَارِيَّةُ كَالتَّنَفُّسِ وَنَحْوِهِ فَحَسَنَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَهَكَذَا حَرَّرَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ مَحَلَّ الْوِفَاقِ مِنْ الْخِلَافِ.

وَأَمَّا الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فَإِنَّهُ عَمَّمَ الْخِلَافَ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ مُنَافٍ لِقَوَاعِدِ الِاعْتِزَالِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحَظْرِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ إنْقَاذِ الْغَرْقَى، وَإِطْعَامِ الْجَوْعَانِ، وَكِسْوَةِ الْعُرْيَانِ. وَالْقَوْلُ بِالْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْعَقْلِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَالْخِلَافُ ظَاهِرٌ فِيمَا لَمْ يَطَّلِعْ الْعَقْلُ عَلَى مَفْسَدَتِهِ وَلَا مَصْلَحَتِهِ. وَحِينَئِذٍ فَلَا تُنَافِي الْأُصُولُ قَوَاعِدَ الْقَوْمِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَكِنَّ طَرِيقَةَ الْإِمَامِ يُسَاعِدُهَا النَّقْلُ، فَإِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ فِي كِتَابِ الْمُعْتَمَدِ " حَكَى عَنْ شِيعَتِهِ الْمُعْتَزِلَةِ الْخِلَافَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ كَمَا حَكَى الْإِمَامُ، وَوَافَقَهُ الْقَرَافِيُّ أَخِيرًا لِهَذَا. قُلْت: لَكِنَّ ابْنَ بَرْهَانٍ وَابْنَ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّمَا حَكَوْا الْخِلَافَ عَنْهُمْ فِيمَا لَا يَقْضِي الْعَقْلُ فِيهِ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: قَالَ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ: الشُّكْرُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَاجِبٌ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَهُ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ؟ . وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ مِمَّنْ يُوَافِقُ الْمُعْتَزِلَةَ: لَا خِلَافَ أَنَّ مَا كَانَ لِلْعَقْلِ فِيهِ حُكْمٌ أَنَّهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ مِثْلُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَكُفْرِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُ ثُمَّ حَكَى الْخِلَافَ. وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ إنَّ التَّنَفُّسَ فِي الْهَوَاءِ وَالِانْتِقَالَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان آخَرَ لَيْسَ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ لَكِنَّ صَاحِبَ الْمَصَادِرِ " مِنْ الشِّيعَةِ حَكَى الْخِلَافَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ هَلْ هُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ أَوْ فِي الِاخْتِيَارِيَّةِ؟ قَوْلَانِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ أَيْضًا فِي ذَيْلِ الْمَسْأَلَةِ: ثُمَّ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ وَحَظْرِهِ كَالْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ أَمَّا مَا لَا يَجُوزُ عَنْهُ الْحَظْرُ

كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْإِبَاحَةُ كَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَنِسْبَةِ الظُّلْمِ إلَيْهِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ جَعَلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْخِلَافَ فِي مُجَوَّزَاتِ الْعُقُولِ. قَالَ: وَهِيَ كُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَرِدَ السَّمْعُ بِتَحْلِيلِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " مِنْ الشِّيعَةِ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُضِرَّةَ عَلَى الْحَظْرِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَا ضَرَرَ فَبِهَا مِمَّا لَا يُعْلَمُ وُجُوبُهُ وَلَا نَدْبُهُ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَذَكَرَهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: فُرُوعُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ حُكْمُ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ هُمْ يُثْبِتُونَهُ مُطْلَقًا فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ غَيْرَ أَنَّ فِيهَا مَا يُدْرَكُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. وَمِنْهَا مَا يُدْرَكُ بِنَظَرِهِ. وَمِنْهَا مَا لَا يُدْرَكُ بِهِمَا. فَتَجِيءُ الرُّسُلُ مُنَبِّهَةً عَلَيْهِ فِي الْأُولَيَيْنِ مُقَرِّرَةً، وَفِي الثَّالِثِ كَاشِفَةً، وَعِنْدَنَا لَا يُعْرَفُ وُجُوبٌ وَلَا تَحْرِيمٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ، وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ إنْشَاءً جَدِيدًا، وَقِيلَ: بِطَرِيقِ التَّبْيِينِ، وَكُنَّا قَبْلَهُ مُتَوَقِّفِينَ فِي الْجَمِيعِ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ، وَقَالَ صَاحِبُ رَوْضَةِ النَّاظِرِ وَجَنَّةِ الْمَنَاظِرِ " مِنْ الْحَنَابِلَةِ: الْأَفْعَالُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ هَلْ هِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوْ الْحَظْرِ؟ قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ قَوْلَانِ. يُومِئُ إلَيْهِمَا فِي كَلَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هُمَا رِوَايَتَانِ. قَالَ: وَهَذَا النَّقْلُ يُشْكِلُ مَعَ اسْتِقْرَارِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنْ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ.

حكم الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع

[حُكْمُ الْأَعْيَانِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ] إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْأَعْيَانِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَبِهِ قَالَ مُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ.، وَأَهْلُ الرَّأْيِ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي تَقْوِيمِ الْأَدِلَّةِ ": إنَّهُ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرُّوذِيّ وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَحَكَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ الْخَلَّالِ وَغَيْرُهُ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ. وَحَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ عَنْ أَبِي الْفَرَجِ الْمَالِكِيِّ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " اخْتَارَهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ الْجُبَّائِيَّانِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، وَنَصَرَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى الْحَظْرِ، وَبِهِ قَالَ مُعْتَزِلَةُ بَغْدَادَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ الْحَقُّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبَانَ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ. وَحَكَاهُ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: إلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوا التَّنَفُّسَ بِالْهَوَاءِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان فَقَالُوا: هُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَحُكِيَ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَفُهِمَ مِنْ مَذْهَبِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ "، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الطِّفْلِ هَلْ هُوَ حَلَالٌ؟ فَقَالَ: لَا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُحِلَّهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ": اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْحَظْرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كُلُّ مَا لَا يَقُومُ الْبَدَنُ إلَّا بِهِ وَلَا يَتِمُّ الْعَيْشُ إلَّا مَعَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَمَا عَدَاهُ عَلَى الْحَظْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْكُلِّ فِي الْحَظْرِ. انْتَهَى. وَهُوَ كَمَا قَالَ مِنْ وُجُودِ الْخِلَافِ. فَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": كَانَ أَوَائِلُ الْقَدَرِيَّةِ يُطْلَقُ أَنَّ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهَا عَلَى الْحَظْرِ، وَالْبَصْرِيِّينَ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَفَصَّلَهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَكَانَ مُوَفَّقًا فِي تَحْقِيقِ الْمَذَاهِبِ، فَقَالَ: الْأَشْيَاءُ قَبْلَ الشَّرْعِ عِنْدَ الْبَغْدَادِيِّينَ كَالْكَعْبِيِّ وَأَتْبَاعِهِ عَلَى الْحَظْرِ، فِي مَا عَدَا مَا لِلْإِنْسَانِ مِنْهُ فِكَاكٌ وَلَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ، فَأَمَّا مَا يَكُونُ مُضْطَرًّا كَالتَّنَفُّسِ وَالْكَوْنِ فَلَا.

قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَكَانَ الدَّقَّاقُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَذْهَبُ مَذْهَبَ الْكَعْبِيِّ وَيَقُولُ: إنَّهَا عَلَى الْحَظْرِ، وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَذْهَبُ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ وَيَقُولُ: إنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا بَيَّنَّا مَذْهَبَهُمَا عَلَى أُصُولِ الِاعْتِزَالِ، فَنَظَرَ إلَى أَقَاوِيلِهِمَا مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْأُصُولِ، فَظَنَّهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا لِانْتِسَابِهِمَا فِي الْفُرُوعِ إلَى الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ. [أَفْعَالُ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ الشَّرْعِ] قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ الشَّرْعِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا عَلَى الْحَظْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَلَى الْإِبَاحَةِ. اهـ. وَحَكَى الْبَاجِيُّ الْقَوْلَ بِالْحَظْرِ عَنْ الْأَبْهَرِيِّ، وَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْهُ الْوَقْفَ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا عَلَى الْوَقْفِ لَا نَقُولُ: إنَّهَا مُبَاحَةٌ وَلَا مَحْظُورَةٌ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْفَارِسِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ. وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ. وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ.

وَقَالَ: إنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ إلَّا أَنَّ طَرِيقَ الْوَقْفِ مُخْتَلِفٌ، فَعِنْدَنَا لِعَدَمِ دَلِيلِ الثُّبُوتِ وَهُوَ الْخَبَرُ عَنْ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِطَابِ فَحَيْثُ لَا خِطَابَ لَا حُكْمَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ هُنَاكَ حُكْمٌ أَصْلًا. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ حُكْمٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِخَفَائِهِ، فَيُوقَفُ فِي الْجَوَابِ إلَى الشَّرْعِ. [سَبَبُ الْوَقْفِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ] وَالْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِهِ: فَقَالَتْ الْأَشَاعِرَةُ: لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ أُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا شَرْعَ فَتَنْتَفِي هَذِهِ الْأَحْكَامُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَحَدِهَا مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ دَلِيلًا بِالْوَقْفِ لِأَجَلِ عَدَمِ الدَّلِيلِ. حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " وَقَوَّاهُ وَنَقَلَهُ عَنْ الْمُفِيدِ مِنْ الشِّيعَةِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ ابْنِ عَتَّابٍ. قَالَ: وَكَانَ يَحْكِيهِ عَنْ الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: مَعْنَى الْوَقْفِ عِنْدَنَا أَنَّا إذَا سَبَرْنَا أَدِلَّةَ الْعُقُولِ دَلَّتْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا وَاجِبَ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَ الشَّرْعِ فِي التَّرْكِ وَالْفِعْلِ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ أَصْحَابِ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَنْ اعْتَقَدَ فِيهِ نَوْعًا مِنْ الِاعْتِقَادِ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الذَّمُّ، وَالْقَائِلُونَ بِالْإِبَاحَةِ لَا يُجَوِّزُونَ اعْتِقَادَ الْحَظْرِ فِي الْإِبَاحَةِ، وَمَنْ قَالَهُ وَاعْتَقَدَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ وَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الذَّمُّ. انْتَهَى. فَظَنَّ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ اتِّحَادَ الْمَذْهَبَيْنِ. فَقَالَ: إنَّ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ قَالُوا: إنَّ مَنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا أَوْ فَعَلَ فِعْلًا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ أَثِمَ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلُ الشَّرْعِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ وَافَقُوا فِي الْحُكْمِ وَخَالَفُوا فِي الِاسْمِ. وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ذَهَبَ أَهْلُ الْحَقِّ إلَى أَنَّ فِي الْعَقْلِ بِمُجَرَّدِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنْ لَا وَاجِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَأَنَّ لِلَّهِ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْنَا مَا شَاءَ مِمَّا أَمْكَنَ بِرَسُولٍ بَعَثَهُ. قَالُوا: وَلَوْ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَى جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ بِمَا نَصَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَيَسْتَحِيلُ قَلْبُهَا عَمَّا هِيَ عَلَيْهَا. قَالَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ عَلَى الْوَقْفِ قَبْلَ الشَّرْعِ. وَتَفْسِيرُهُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا قَبْلَ وُرُودِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا يُقْطَعُ لَهُ بِثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ. قُلْت: وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَقْفِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لَا التَّرَدُّدُ فِي أَنَّ الْأَمْرَ مَا هُوَ؟ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَأَبُو الْفَتْحِ بْنُ بَرْهَانٍ. فَقَالَ: الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّ الْوَقْفَ حُكْمٌ ثَابِتٌ وَلَكِنْ عَنَوْا بِهِ عَدَمَ الْحُكْمِ.

وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": لَيْسَ مَعْنَى الْوَقْفِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ حُكْمُ نَقْلِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَالْمَانِعُ مِنْ الْقَوْلِ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ مَانِعٌ مِنْ الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْوَقْفِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لِلشَّيْءِ بِحَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ لَكِنْ يُتَوَقَّفُ فِي الْحُكْمِ لِشَيْءٍ مَا إلَى أَنْ يَرِدَ بِهِ الشَّرْعُ. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى الشَّرْعِ. فَنَقُولُ: الْمُبَاحُ مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، وَالْمَحْظُورُ مَا حَظَرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَبْقَ إلَّا الْوَقْفُ إلَى أَنْ يَرِدَ السَّمْعُ بِحُكْمٍ فِيهِ. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ": تَأْوِيلُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا الْوَقْفُ لَا يَرْجِعُ إلَى إثْبَاتِ صِفَةٍ هِيَ عَلَيْهَا فِي الْعَقْلِ وَلَكِنْ إلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهَا غَيْرُ مَحْكُومٍ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ مَحْظُورٌ خِلَافًا لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. فَعَبَّرْنَا عَنْ نَفْيِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُمَا عَلَى الْوَقْفِ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إذَا كَانَ هَذَا مِنْ حُكْمِهَا ثَابِتًا عِنْدَكُمْ فِي الْعَقْلِ فَقَدْ جَعَلْتُمْ لَهَا حُكْمًا ثَالِثًا فِي الْعَقْلِ، وَأَنَّ ذَلِكَ نَقْضٌ لِقَوْلِكُمْ: لَا حُكْمَ لَهَا فِي الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ غَرَضَنَا مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهَا بِحَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ وَهَذَا خِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ. انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ الْقَطَّانِ حَكَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ: الْإِبَاحَةَ وَالْحَظْرَ، وَالثَّالِثَ: الْوَقْفَ عَلَى الْأَدِلَّةِ، فَمَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَنَفَى النَّافِي عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهَا. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ مَحْظُورَةً وَلَا مُبَاحَةً. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَحْتَاجُ إلَى مُبِيحٍ وَالْحَظْرَ يَحْتَاجُ إلَى حَاظِرٍ فَيُشِيرُ بِمَا يُوجِبُ حُكْمَهُ فِيهِمَا. انْتَهَى. وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ الْوَقْفِ كَمَا سَبَقَ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ تَحْرِيكَ الْيَدِ وَنَحْوَهُ قَدْ حَصَلَ الْإِذْنُ فِيهِ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْجَوَارِحَ لَا تَنْفَكُّ مِنْ حَرَكَةٍ. ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ

أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى بُطْلَانِ الْعَقْلِ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إنَّمَا يَتَعَقَّلُ بِالشَّرْعِ. قَالَ: وَهَذَا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا نَقُولُ لَهُ: هَلْ لِلْعَقْلِ فِي هَذَا " لَوْ " انْفَرَدَ؟ وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يُصَارَ إلَيْهِ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا. قُلْنَا: لَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ. وَإِنْ أَرَادَ الْجَوَازَ أَقَمْنَا الْأَدِلَّةَ عَلَى أَنَّ لِلْعَقْلِ دَخْلًا فِي الْجَوَازِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الرَّاجِحُ عِنْدَنَا الْوَقْفُ. وَنَعْنِي بِهِ الْقَطْعَ عَلَى أَنْ لَا حُكْمَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي حَقِّنَا. قَالَ: وَأَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْقَائِلِ بِالْإِبَاحَةِ وَالْقَائِلِ بِالْوَقْفِ لَفْظِيٌّ وَظَنَّ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالْإِبَاحَةِ هَاهُنَا اسْتِوَاءَ الْفِعْلِ وَتَرْكَهُ فِي بَابِ الذَّمِّ وَغَيْرِهِ. لَكِنَّ غَيْرَهُ مِنْ أَئِمَّتِنَا النَّاقِلِينَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِالْحَظْرِ أَوْ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ مُوَافِقًا لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أُصُولِهِمْ بَلْ لِمُدْرِكٍ شَرْعِيٍّ. أَمَّا التَّحْرِيمُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ قَبْلَ الْحِلِّ التَّحْرِيمُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا عَلَى الْحَظْرِ. وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فَهَذِهِ مَدَارِكُ شَرْعِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْحَالِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَلَوْ لَمْ تَرِدْ هَذِهِ النُّصُوصُ لَقَالَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ: لَا عِلْمَ لَنَا بِتَحْرِيمٍ، وَلَا إبَاحَةٍ. بِخِلَافِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْمُدْرِكُ عِنْدَنَا الْعَقْلُ وَلَا يَضُرُّنَا عَدَمُ وُرُودِ الشَّرْعِ.

تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ [تَفْرِيعُ مَسْأَلَةِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ] إنَّ الْأَصْحَابَ جَعَلُوا مَسْأَلَةَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَالْأَفْعَالَ مُفَرَّعَةً عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الشُّكْرَ هُوَ اجْتِنَابُ الْقَبِيحِ وَارْتِكَابُ الْحَسَنِ، وَهُوَ عَيْنُ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ. فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهَا فَرْعُهَا؟ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " فَقَالَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَيْنُ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَلَا نَقُولُ: هِيَ فَرْعُهَا. إذْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُتَخَيَّلَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ نَوْعُ مُنَاسَبَةٍ، وَهِيَ هِيَ. بَيَانُهُ: أَنَّا نَقُولُ مُعَاشِرَ الْمُعْتَزِلَةِ: إنْ عَنَيْتُمْ بِالشُّكْرِ قَوْلَ الْقَائِلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالشُّكْرُ لِلَّهِ، فَقَدْ ارْتَكَبْتُمْ مُحَالًا، إذْ الْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي لِإِيجَابِ كَلِمَةٍ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ بِالشُّكْرِ مَعْرِفَةَ اللَّهِ فَبَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ مَعْرِفَةٍ، وَلِهَذَا قِيلَ: أَعْرَفُ اللَّهِ أَشْكَرُ. فَإِنْ قَالُوا: عَنَيْنَا بِوُجُوبِهِ عَقْلًا مَا عَنَيْتُمْ أَنْتُمْ بِوُجُوبِهِ سَمْعًا. قُلْنَا: نَحْنُ نَعْنِي بِوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ سَمْعًا امْتِثَالَ أَوَامِرِهِ، وَالِانْتِهَاءَ عَنْ نَوَاهِيهِ. قَالُوا: فَنَحْنُ أَيْضًا نُرِيدُ بِذَلِكَ الْإِتْيَانَ بِمُسْتَحْسَنَاتِ الْعُقُولِ وَالِامْتِنَاعَ عَنْ مُسْتَقْبَحَاتِهَا. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ عَيْنُ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ. فَبُطْلَانُ مَذْهَبِهِمْ هُنَا مَعْلُومٌ مِنْ تِلْكَ إلَّا أَنَّ

الْعُلَمَاءَ أَفْرَدُوا هَذِهِ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ؛ لِعِبَارَاتٍ رَشِيقَةٍ تَخْتَصُّ بِهَا وَمَعَانٍ مُوَفَّقَةٍ نَذْكُرُهَا يَظْهَرُ مِنْهَا سُقُوطُ كَلَامِهِمْ فِيهَا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ مَا لَا يَقْضِي الْعَقْلُ فِيهَا بِشَيْءٍ لَا يُتَّجَهُ تَفْرِيعُهُ عَلَى الْأَصْلِ السَّابِقِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ يَقْضِي الْعَقْلُ هَلْ يَتْبَعُ حُكْمَهُ؟ وَإِنَّمَا الْأَصْحَابُ قَالُوا: هَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ صَحِيحٌ فَلِمَ قَضَيْتُمْ حَيْثُ لَا قَضَاءَ لِلْعَقْلِ؟ وَلَيْسَ هَذَا تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي: [فَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ] قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَا مَعْنَى لِلْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَا خَلَا زَمَانٌ مِنْ سَمْعٍ، لَكِنْ لَا يُمْنَعُ الْكَلَامُ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ. حَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيّ، وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَنْ خُلِقَ فِي جَزِيرَةٍ، وَلَمْ يُبَلَّغْ أَهْلُهَا دَعْوَةَ الْمِلْكِ فَهَلْ يَعْلَمُ أَهْلُهَا إبَاحَةَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ حَاوَلَ مُحَاوِلٌ تَرْتِيبَ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَعْدَمْهَا. فَإِنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَانَ عَلَى حُكْمِ الْعُقُولِ مِنْ الْإِبَاحَةِ فِي رَأْيٍ أَوْ عَلَى الْحَظْرِ فِي رَأْيٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ خُلُوَّ وَاقِعَةٍ عَنْ حُكْمٍ لِلَّهِ مُتَلَقًّى مِنْ الشَّرْعِ كَالصَّيْرَفِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدَنَا.

فَعَلَى هَذَا الشَّافِعِيُّ يَبْنِي عَلَى الْإِبَاحَةِ تَلَقِّيًا مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَبْنِي عَلَى الْحَظْرِ تَلَقِّيًا مِنْ الشَّرْعِ، فَلَا مَخْرَجَ عَنْ الشَّرْعِ. اهـ. وَحَكَى ابْنُ فُورَكٍ عَنْ ابْنِ الصَّائِغِ: أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَخْلُ الْعَقْلُ قَطُّ مِنْ السَّمْعِ، وَلَا نَازِلَةٌ إلَّا وَفِيهَا سَمْعٌ أَوْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهِ. أَوْ لَهَا حَالٌ يُسْتَصْحَبُ. قَالَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى هَذَا، وَيُغْنِي عَنْ النَّظَر فِي حَظْرٍ، وَإِبَاحَةٍ، وَوَقْفٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ قَوْلِنَا إنَّهُ لَمْ يَخْلُ زَمَانُ الْعُقَلَاءِ عَنْ شَرْعٍ وَتَكْلِيفٍ مِنْ اللَّهِ يَظْهَرُ فِي حَادِثَةٍ تَقَعُ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ: فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا الْوَقْفَ مَعَ نَفْيِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ عَمَّنْ اعْتَقَدَ فِيهَا حَظْرًا أَوْ إبَاحَةً أَوْ وَقْفًا. وَيَكُونُ حُكْمُهَا الْحَظْرَ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ قَبْلَهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ ": فَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْفِقْهِ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا أَوْ أَبَاحَهُ، فَقَالَ: طَلَبْت دَلِيلَ الشَّرْعِ فَلَمْ أَجِدْهُ فَبَقِيتُ عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ مِنْ تَحْرِيمٍ أَوْ إبَاحَةٍ هَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هَذَا دَلِيلٌ يَلْزَمُ خَصْمُهُ أَمْ لَا؟ وَهَذَا أَمْرٌ يَحْتَاجُ الْفَقِيهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: سَمِعْت ابْنَ دَاوُد يَحْتَجُّ عَلَى إبَاحَةِ اسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي غَيْرِ الشُّرْبِ. فَقَالَ: الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ الشُّرْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى التَّحْلِيلِ.

فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِهَذَا الْمُحْتَجِّ: مَذْهَبُ دَاوُد أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَا يَرِدُ بِهِ الشَّرْعُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ إبَاحَتِهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَلَا تَكُونُ إبَاحَتُهَا بِعَدَمِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَوْلَى مِنْ حَظْرِهَا، وَبَطَلَ بِهَذَا حُجَّةُ الْمُحْتَجِّ. اهـ. وَمِمَّا يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ الْعَامِّيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا غَيْرِهَا وَاقِعَةً لَهُ، وَلَا نَاقِلَ حُكْمِهَا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ فَتْرَةِ الشَّرِيعَةِ وَحَمْلُهَا كَمَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. وَالصَّحِيحُ مِنْهُ: لَا تَكْلِيفَ حَكَاهُ عَنْهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَقَرَّهُ، وَخَرَّجَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " عَلَيْهِ النَّبَاتَ الْمَجْهُولَ سَمِيَّتَهُ، وَاللَّبَنَ الْمَجْهُولَ كَوْنُهُ لَبَنَ مَأْكُولٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَرَجَّحَ الْإِبَاحَةَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ قَدْ عُلِمَ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ، وَمَا يُبَاحُ مِنْهُ وَمَا يَحْرُمُ. فَالْمَوْجُودُ فِيهِ حُكْمٌ وَلَكِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ تَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ فَلَا يَحْسُنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَأَمَّا النَّبَاتُ فَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُ فِيهِ كَحَيَوَانٍ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْأَطْعِمَةِ: أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ خَرَّجَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَ عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ الشَّعْرَ الْمَشْكُوكَ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، وَالنَّهْرَ الْمَشْكُوكَ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا أَوْ مُبَاحًا: وَهُوَ تَخْرِيجٌ ضَعِيفٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِي اللَّبَنِ الْمَجْهُولِ. وَلَوْ وَقَعَ رَجُلٌ عَلَى طِفْلٍ مِنْ الْأَطْفَالِ إنْ أَقَامَ عَلَى أَحَدِهِمْ قَتَلَهُ، وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى آخَرَ مِنْ جِيرَانِهِ قَتَلَهُ. قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي قَوَاعِدِهِ ": قَدْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى الْأَصْلِ فِي انْتِفَاءِ الشَّرَائِعِ قَبْلَ نُزُولِهَا، وَلَمْ نَرَ لِلشَّرِيعَةِ التَّخْيِيرَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَفْسَدَتَيْنِ. فَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُسْلِمًا، وَبَعْضُهُمْ كَافِرًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ أَخَفُّ مَفْسَدَةً مِنْ قَتْلِ الطِّفْلِ الْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ؟

الْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا نُجَوِّزُ قَتْلَ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ عِنْدَ التَّتَرُّسِ بِهِمْ حَيْثُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَنَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْفِعْلِ مَصْلَحَةٌ مَا، وَلَا مَفْسَدَةٌ مَا كَتَحْرِيكِ الْأُصْبُعِ فِي الْهَوَاءِ لِغَيْرِ دَفْعٍ وَلَا نَفْعٍ. قَالَ: فَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مُقَرَّرٌ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، إذْ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ وَلَا مَطْلُوبُ التَّرْكِ وَلَا مَأْذُونٌ فِيهِ بَلْ يَكُونُ كَفِعْلِ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَبَنَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَيْضًا تَقْرِيرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَهُ عَلَى فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَكَوْنُ الْأَصْلِ هُوَ الْإِبَاحَةَ؟ فَإِنْ قُلْنَا: أَصْلُ الْأَشْيَاءِ عَلَى التَّحْرِيمِ دَلَّ التَّقْرِيرُ عَلَى الْجَوَازِ شَرْعًا، وَإِنْ قُلْنَا: أَصْلُهَا الْإِبَاحَةُ فَلَا. وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ السُّنَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ تَخْرِيجَ هَذِهِ الْفُرُوعِ كُلِّهَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ الْمُخَرَّجَ عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّنْزِيلِ لِبَيَانِ إبْطَالِ أَصْلِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ. فَإِنَّ الشَّرْعَ عِنْدَهُمْ كَاشِفٌ لَا يُمْكِنُ وُرُودُهُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ، وَمَنْ أَطْلَقَ مِنْ الْأَصْحَابِ الْخِلَافَ يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ الْهُجُومُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً أَمْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ إلَى الْبَحْثِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ؟ فَإِنْ لَمْ نَجِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَهُوَ حَلَالٌ بَعْدَ الشَّرْعِ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْحَلَالَ هَلْ هُوَ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَتِهِ؟

مسألة جواز فتور الشريعة

الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَهَذِهِ حَوَادِثُ بَعْدَ الشَّرْعِ، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ مَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ يُشْبِهُ الْحَادِثَةَ قَبْلَ الشَّرْعِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا قِيَامُ الدَّلِيلِ بَعْدَ الشَّرْعِ فِيمَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ أَنَّهُ عَلَى الْعَفْوِ. [التَّنْبِيهُ] الثَّالِثُ [تَصْحِيحُ الْوَقْفِ هَلْ يَسْتَقِيمُ؟] قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَصْحِيحُ الْوَقْفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ " مَا " سَيَأْتِي فِي الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ فِيهَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ هُوَ الْإِبَاحَةُ عَلَى الصَّحِيحِ. قُلْت: الْخِلَافُ هُنَا فِيمَا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَهُنَاكَ فِيمَا بَعْدَ الشَّرْعِ بِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ، وَلِهَذَا عَبَّرُوا ثُمَّ بِالْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ. [مَسْأَلَةٌ جَوَازُ فتور الشَّرِيعَة] أَجْمَعُوا كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ الْمَنْخُولِ " عَلَى جَوَازِ فُتُورِ الشَّرِيعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَبْلَنَا خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ بِالْمَصَالِحِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى شَرِيعَتِنَا فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ خَاتِمَةُ الشَّرَائِعِ، وَلَوْ فَتَرَتْ بَقِيَتْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهَا كَشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فِي ذَلِكَ، إذْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ «يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَخْتَلِفُ رَجُلَانِ فِي فَرِيضَةٍ فَلَا يَجِدَانِ مَنْ

مسألة تقدير خلو واقعة عن حكم الله

يَقْسِمُ بَيْنَهُمَا» وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فَيُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ بِالْقُرْآنِ دُونَ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ. أَمَّا الْوُقُوعُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ: وَهُوَ أَنَّ الْقِيَامَةَ إنْ قَامَتْ عَلَى قُرْبٍ فَلَا تَفْتُرُ الشَّرِيعَةُ، وَلَوْ امْتَدَّتْ إلَى خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ مَثَلًا؛ لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى نَقْلِهَا فِي الْحَالِ فَلَا تَضْعُفُ إلَّا عَلَى التَّدْرِيجِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَنُ فَالْغَالِبُ فُتُورُهُ، إذْ الْهِمَمُ مَصِيرُهَا إلَى التَّرَاجُعِ ثُمَّ إذَا فَتَرَتْ ارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ وَهِيَ الْأَحْكَامُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. وَزَعَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ يُكَلَّفُونَ الرُّجُوعَ إلَى مَحَاسِنِ الْعُقُولِ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِنَا فَإِنَّا لَا نَقُولُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ. اهـ. وَهَذِهِ تَرْجِعُ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي خُلُوِّ الْعَصْرِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ. [مَسْأَلَةٌ تَقْدِيرُ خُلُوِّ وَاقِعَةٍ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ] فِي تَقْدِيرِ خُلُوِّ وَاقِعَةٍ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ بَقَاءِ الشَّرِيعَةِ عَلَى نِظَامِهَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: قَدْ جَوَّزَهُ الْقَاضِي حَتَّى كَادَ يُوجِبُهُ. وَقَالَ: الْمَآخِذُ مَحْصُورَةٌ وَالْوَقَائِعُ لَا ضَبْطَ لَهَا فَلَا تَسْتَوْفِيهَا مَسَالِكُ مَحْصُورَةٌ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا: إحَالَةُ ذَلِكَ وُقُوعًا فِي الشَّرْعِ لَا جَوَازًا فِي

مسألة أحكام الشرع ثابتة إلى يوم القيامة

الْعَقْلِ؛ لِعِلْمِنَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ عَلَى طُولِ الْأَعْصَارِ مَا انْحَجَزُوا عَنْ وَاقِعَةٍ، وَمَا اعْتَقَدُوا خُلُوَّهَا عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ كَانُوا يَهْجُمُونَ عَلَيْهَا هُجُومَ مَنْ لَا يَرَى لَهَا حَصْرًا. وَرَأَيْت فِي كِتَابِ إثْبَاتِ الْقِيَاسِ " لِابْنِ سُرَيْجٍ لَيْسَ شَيْءٌ إلَّا وَلِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حُكْمٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86] {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يَخْلُو مِنْ إطْلَاقٍ أَوْ حَظْرٍ أَوْ إيجَابٍ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ مَطْعَمٍ أَوْ مَشْرَبٍ أَوْ مَلْبَسٍ أَوْ مَنْكَحٍ أَوْ حُكْمٍ بَيْنَ مُتَشَاجِرَيْنِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَخْلُو مِنْ حُكْمٍ وَيَسْتَحِيلُ فِي الْعُقُولِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَعْلَمُهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ كَيْفَ دَلَائِلُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ؟ . [مَسْأَلَةٌ أَحْكَامُ الشَّرْعِ ثَابِتَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] ِ] كُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ لَنَا بِقَوْلِ اللَّهِ أَوْ بِقَوْلِ رَسُولِهِ أَوْ بِإِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ فَهُوَ دَائِمٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ» فَقِيلَ: يَضَعُهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يَرْفَعَهَا، فَلَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ نَزَلَ مُقَرِّرًا لِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا وَمِنْ شَرِيعَتِهِ إقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ، وَقِيلَ: بَلْ مِنْ شَرِيعَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَدَمُ التَّقْرِيرِ، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ مَا أَتَى بِهَا وَهُوَ قَبْلَ شَرْعِ الْجِزْيَةِ، وَقَضِيَّتُهُ بَقَاؤُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِمَا سَلَفَ.

وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَرْوَزِيِّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ، وَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ مَنْ عَمِلَ بِعُشْرِ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا» وَهَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ

سُفْيَانَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَكَانَ يَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ يُنْكِرُونَهُ عَلَيَّ، وَإِنَّمَا كُنْت مَعَ سُفْيَانَ فَمَرَّ يَمْشِي فَأَنْكَرَهُ، ثُمَّ حَدَّثَنِي بِهِ، وَحَكَى الْعَبَّاسُ بْنُ مُصْعَبٍ أَنَّ نُعَيْمًا هَذَا نَاقَضَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ وَوَضَعَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ. وَخَرَجَ إلَى مِصْرَ وَأَقَامَ بِهَا نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ حُمِلَ إلَى الْعِرَاقِ مَعَ الْبُوَيْطِيِّ فِي امْتِحَانِ الْقُرْآنِ مُقَيَّدَيْنِ فَمَاتَ نُعَيْمٌ فِي الْحَبْسِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِئَتَيْنِ. وَنُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ قَالَ: يَحْدُثُ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يُنَاسِبُهُمْ ، وَقَدْ يَتَأَيَّدُ هَذَا بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَحْدَثَتْهُ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ

مِنْ الْمَسَاجِدِ، وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ عَلَى قَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ أَيْ يُجَدِّدُونَ أَسْبَابًا يَقْضِي الشَّرْعُ فِيهَا أُمُورًا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَجْلِ عَدَمِهِ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ، لَا لِأَنَّهَا شَرْعٌ مُجَدَّدٌ. فَلَا نَقُولُ: إنَّ الْأَحْكَامَ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ بَلْ بِاخْتِلَافِ الصُّورَةِ الْحَادِثَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْبَالِسِيُّ: وَكُنْت أَنْفِرُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَأُعَلِّلُ فَسَادَهُ بِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ شَرَعَ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِفَسَادِ الْأَمْرِ فِيهِمْ. ثُمَّ رَأَيْت فِي " النِّهَايَةِ " قَدْ قَرَّرَ مَا فِي نَفْسِي، فَقَالَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: لَوْ كَانَتْ قَضَايَا الشَّرْعِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَتَنَاسُخِ الْعُصُورِ لَانْحَلَّ رِبَاطُ الشَّرْعِ. قَالَ: وَلَمَّا ذَكَرَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ " مَقَالَاتِ الْأَصْحَابِ فِي التَّعْزِيرِ، رُوِيَ الْحَدِيثُ فِي نَفْيِ الزِّيَادَةِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ بَلَغَ الشَّافِعِيُّ لَقَالَ بِهِ. انْتَهَى.

مسألة مجرد السكوت لا يدل على ما عدا المذكور

وَقَدْ أَكْثَرَ الرُّويَانِيُّ فِي " الْحِلْيَةِ " مِنْ اخْتِيَارَاتِ خِلَافِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَيَقُولُ: فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ فِي فَتَاوِيهِ ": الصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ تُحْتَمَلُ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَأَفْتَى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بِالْقِيَامِ لِلنَّاسِ، وَقَالَ: لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ لَمَا كَانَ بَعِيدًا، وَكُلُّ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِنْبَاطٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ لَا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ. فَاعْلَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عَجِيبٌ. [مَسْأَلَةٌ مُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا عَدَا الْمَذْكُورِ] مُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا عَدَا الْمَذْكُورِ ذَكَرَهَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " ذَيَّلَ هَذِهِ، فَقَالَ: مُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى سُقُوطِ مَا عَدَا الْمَذْكُورِ كَمَا يَدُلُّ عِنْدَ مَنْ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْحَالِ وَقِيَامِ الدَّلِيلِ. وَذَلِكَ عَلَى ضُرُوبٍ. أَمَّا سُكُوتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشَّيْءِ يُفْعَلُ بِحَضْرَتِهِ وَلَا يُنْكِرُهُ فَدَلِيلُ الْجَوَازِ. وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا الشَّيْءُ إذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ السُّقُوطِ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ

اسْتِغْنَاءٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَيَانِ فِيهِ، وَلَيْسَ تَكْرِيرُ الْبَيَانِ وَاجِبًا فِي كُلِّ حَالٍ. وَمَرَاتِبُ الِاسْتِدْلَالِ بِالسُّكُوتِ تَخْتَلِفُ، فَأَقْوَى مَا يَكُونُ مِنْهُ إذَا كَانَ صَاحِبُ الْوَاقِعَةِ جَاهِلًا بِأَصْلِ الْحُكْمِ فِي الشَّيْءِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ «كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ الْجُبَّةُ فَقَالَ: انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك الصُّفْرَةَ وَسَكَتَ عَنْ الْكَفَّارَةِ» فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا عَنْ الْجَاهِلِ وَالسَّاهِي، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا، إذْ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ إهْمَالُ ذِكْرِهَا تَعْوِيلًا عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْحُكْمِ، وَدُونَ هَذَا فِي الْمَرْتَبَةِ خَبَرُ الْأَعْرَابِيِّ الْمُجَامِعِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَكَانَ قَوْلُهُ: (افْعَلْ كَذَا) دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُ وَعَنْ زَوْجَتِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَةِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ فِي هَذَا الْخَبَرِ قَدْ أَنْبَأَ عَنْ عِلَّتِهِ، فَإِنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً، لِقَوْلِهِ: «هَلَكْت وَأَهْلَكْت» ، وَإِذَا كَانَ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ كَانَ دَلِيلُ السُّكُوتِ فِيهِ أَوْهَى وَأَضْعَفَ.

وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا خَرَجَ عَنْ السَّبِيلَيْنِ: ذَكَرَ اللَّهُ الْأَحْدَاثَ فِي كِتَابِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] فَإِنَّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِنَا تَعَلَّقُوا بِهِ أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ إلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا وَجَّهَهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُتَطَهِّرَ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ إلَّا بِحَدَثٍ وَمَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَدَثِ فَأَصْلُ الطُّهْرِ كَافٍ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا» وَمَنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ» فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ. فَائِدَةٌ: ادَّعَى الشَّافِعِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ بِتَصْرِيحِهِمْ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي الْإِقْدَامِ إذْ ذَاكَ، إذْ لَا حُكْمَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْإِجْمَاعُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَقْدَمَ بِلَا سَبَبٍ، وَمَحَلُّ عَدَمِ الْحَرَجِ مَا إذَا أَقْدَمَ مُسْتَنِدًا إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَقِيلَ: بَلْ الْمَنْفِيُّ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ حَقٌّ، إذْ الْغَرَضُ أَنْ لَا حُكْمَ فَلَا جَوَازَ، لَكِنَّهُ إذَا أَقْدَمَ فَلَا يُعَاقَبُ إذْ لَا حُكْمَ.

مسألة تعريف الحسن والقبح

[مَسْأَلَةٌ تَعْرِيفُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ] ِ كَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تَذْكُرَ صَدْرَ الْأَصْلِ السَّابِقِ وَهُوَ تَعْرِيفُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ. قَدْ أَطْلَقَ الْأُصُولِيُّونَ الْقَوْلَ بِمُقَابَلَةِ الْحَسَنِ بِالْقَبِيحِ، وَإِنَّمَا يُقَابَلُ الْحَسَنُ بِالسَّيِّئِ وَالْقَبِيحُ بِالْجَمِيلِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وَقَالَ: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34] وَمِنْ حُكْمِ التَّقَابُلِ مُقَابَلَةُ الْأَعَمِّ بِالْأَعَمِّ وَالْأَخَصِّ بِالْأَخَصِّ، وَالْقَبِيحُ أَخَصُّ مِنْ السَّيِّئِ كَمَا أَنَّ الْجَمِيلَ أَخَصُّ مِنْ الْحَسَنِ، وَأَبْلَغُ مِنْ الْمَدْحِ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: حَسَنٌ جَمِيلٌ، وَلَا يُقَالُ: جَمِيلٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ مِنْ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُمَا فِي الِاصْطِلَاحِ فَيُؤَوَّلُ إلَى تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِالشَّيْءِ عَلَى صِفَةٍ، وَلَيْسَا رَاجِعِينَ إلَى الذَّوَاتِ كَمَا سَبَقَ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَالرَّوَافِضِ، حَيْثُ قَالُوا: إلَى نَفْسِ الذَّوَاتِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ نُفُوسِهَا. هَذَا قَوْلُ الْقُدَمَاءِ مِنْهُمْ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى اخْتِصَاصِ هَذَا الْمَعْنَى بِالْقَبِيحِ فَرَأَوْهُ رَاجِعًا إلَى الذَّاتِ بِخِلَافِ الْحَسَنِ. وَعَكَسَ بَعْضُهُمْ فَرَأَى الْحَسَنَ يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ بِخِلَافِ الْقَبِيحِ، وَأَنْكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ الثَّلَاثَةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُرِيدُونَ بِمَا أَطْلَقُوهُ مِنْ صَرْفِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ إلَى أَعْيُنِ الذَّاتِ أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَدْرَكُ فِيهَا بِالْعُقُولِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى بَعْثِ الرَّسُولِ. انْتَهَى.

وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ: الْعَقْلُ يَقْتَضِي لِذَاتِهِ صِفَةً وَتِلْكَ الصِّفَةُ تُوجِبُ الْحُسْنَ أَوْ الْقُبْحَ، كَالصَّوْمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كَسْرِ الشَّهْوَةِ الْمُقْتَضِي عَدَمَ الْمَفْسَدَةِ. وَكَالزِّنَى الْمُشْتَمِلِ عَلَى اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ الْمُقْتَضِي تَرْكَ تَعَهُّدِ الْأَوْلَادِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَأَتْبَاعُهُ بِوُجُوهٍ وَاعْتِبَارَاتٍ بِمَعْنَى أَنَّ لِكُلٍّ صِفَةً لَكِنْ هِيَ غَيْرُ حَقِيقِيَّةٍ. وَفِي كَلَامِ الْأَحْكَامِ " مَا يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ مَذْهَبَ الْجُبَّائِيُّ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَقَدْ اضْطَرَبَ أَصْحَابُنَا فِي الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، فَقِيلَ: الْحَسَنُ: مَا طَلَبَهُ الشَّرْعُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَيَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَالْقَبِيحُ: مَا طَلَبَ تَرْكَهُ وَذَمَّ فَاعِلَهُ فَيَتَنَاوَلُ الْحَرَامَ وَالْمَكْرُوهَ. قَالَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ". وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ أَصْحَابِنَا وَأَوْرَدَ الْمُبَاحَ، وَأُجِيبُ بِإِثْبَاتِ الْوَاسِطَةِ، وَأَنَّهُ لَا حَسَنَ وَلَا قَبِيحَ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَجَزَمَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " فِي الْبَابِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالْأَمْرِ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: بَلْ أَذِنَ الشَّارِعُ فِي إطْلَاقِ الثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْحَسَنِ. اهـ. وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عَلَى رَأْيِ الْكَعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: إنَّ فِي كُلِّ مُبَاحٍ تَرْكَ حَرَامٍ. وَلِهَذَا الْإِشْكَالِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: الْحَسَنُ هُوَ الْمَأْذُونُ فِيهِ شَرْعًا فَدَخَلَ الْمُبَاحُ، وَنُوقِشَ بِأَنَّ الْمُبَاحَ يَقْتَضِي وَصْفًا زَائِدًا عَلَى الْمَاهِيَّةِ، وَمُجَرَّدُ الْإِذْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي التَّلْخِيصِ ": الْحَسَنُ: كُلُّ فِعْلٍ لَنَا الثَّنَاءُ شَرْعًا عَلَى فَاعِلِهِ بِهِ، وَالْقَبِيحُ: كُلُّ فِعْلٍ لَنَا الذَّمُّ شَرْعًا لِفَاعِلِهِ بِهِ.

قَالَ: وَالْقَاضِي يَقُولُ: مَا أُمِرَ بِمَدْحِ فَاعِلِهِ وَفِيهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ وَلَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ، وَاَلَّذِي ارْتَضَيْنَاهُ أَسَدُّ، وَقَدْ سَبَقَ عَنْهُ التَّصْرِيحُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ التَّلْخِيصِ " أَنَّهُ لَا حَسَنَ وَلَا قَبِيحَ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ ": الْقَبِيحُ: مَا نُهِيَ عَنْهُ شَرْعًا، وَالْحَسَنُ: مَا لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ شَرْعًا، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، وَأَفْعَالُ السَّاهِي، وَالنَّائِمِ وَالْهَائِمِ. قَالَ: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْحَسَنُ: مَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا تَكُونَ أَفْعَالُ اللَّهِ حَسَنَةً. وَخَصَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ التَّقْسِيمَ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَالَ: أَمَّا مَا لَا صِفَةَ زَائِدَةً عَلَى وُجُودِهِ كَبَعْضِ أَفْعَالِ السَّاهِي، وَالنَّائِمِ فَلَا يُوصَفُ بِحَسَنٍ وَلَا قَبِيحٍ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَضَرَّةٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ، فَإِنْ كَانَ، فَقَدْ قِيلَ: يُوصَفُ بِهِمَا، وَقِيلَ: لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ يَتْبَعُ التَّكْلِيفَ، فَمَنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ لَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا. قَالَ: وَهَكَذَا كُلُّ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِمَّنْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ. قُلْت: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِ الْإِمَامِ وَالْبَيْضَاوِيِّ لَهُ مِنْ قِسْمِ

الْحَسَنِ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْآمِدِيُّ هَذَا خِلَافًا بَيْنَ الْأَصْحَابِ بَلْ إطْلَاقَاتُ الْأَصْحَابِ بِاعْتِبَارَاتٍ. فَقَالَ: فِي الْأَبْكَارِ ": مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ لَيْسَ وَصْفًا ذَاتِيًّا بَلْ لِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ عِنْدَهُمْ بِاعْتِبَارَاتٍ غَيْرِ حَقِيقِيَّةٍ بَلْ إضَافِيَّةٌ يُمْكِنُ تَغَيُّرُهَا وَتَبَدُّلُهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَفْعَالَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا وَافَقَ الْغَرَضَ فَيُسَمَّى حَسَنًا، وَإِلَى مَا خَالَفَ الْغَرَضَ فَيُسَمَّى قَبِيحًا، وَإِلَى مَا لَا يُوَافِقُ وَلَا يُخَالِفُ عَبَثًا. الثَّانِي: إطْلَاقُ الْحَسَنِ عَلَى مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَفِعْلُ اللَّهِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمُبَاحُ، وَلَوْ قِيلَ: مَا يَجُوزُ الثَّنَاءُ عَلَى فَاعِلِهِ لَدَخَلَ الْمُبَاحُ، وَإِطْلَاقُ الْقَبِيحِ عَلَى مَا أَمَرَ الشَّارِعُ بِذَمِّ فَاعِلِهِ وَيَدْخُلُ الْحَرَامُ، وَيَخْرُجُ الْمَكْرُوهُ، وَالْمُبَاحُ. لَكِنَّ الْمَكْرُوهَ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَلَيْسَ حَسَنًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْغَرَضِ. الثَّالِثُ: إطْلَاقُ الْحَسَنِ عَلَى مَا لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَعَ فِعْلِ اللَّهِ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ. قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ حَسَنٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِذَلِكَ أَبَدًا سَرْمَدًا وَافَقَ الْغَرَضَ أَوْ خَالَفَ. وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ بِنَفْسِهِ وَلَا إضَافَةٍ لَكِنْ إنْ كَانَ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَفِعْلُهُ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ

حَسَنًا بِالِاعْتِبَارَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ فَمَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ حَسَنًا بِالِاعْتِبَارِ الْأَخِيرِ فِيهِمَا. اهـ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَاخْتَلَفُوا أَيْضًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَبِيحُ، مَا لَيْسَ لِلْمُتَمَكِّنِ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَالْحَسَنُ مَا يُقَابِلُهُ، فَعَلَى هَذَا الْمُبَاحُ حَسَنٌ. وَنَازَعَ الْمَازِرِيُّ فِي دُخُولِ الْوَاجِبِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَا يُقَالُ: إنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَهُوَ قَرِيبٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ ": الْوَاقِعُ عَلَى صِفَةٍ تُوجِبُ الْمَدْحَ حَسَنٌ، وَعَلَى صِفَةٍ تُوجِبُ الذَّمَّ قَبِيحٌ، وَمَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَحَدِهِمَا كَالْمَكْرُوهِ، وَالْمُبَاحِ فَلَيْسَ بِحَسَنٍ وَلَا قَبِيحٍ، وَأَصْلُ هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَهُ التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ، وَالْمُرَادُ مِنْ الذَّمِّ كَمَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ الْإِخْبَارُ الْمُنْبِئُ عَنْ نَقْصِ حَالِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ مَعَ الْقَصْدِ لِذَلِكَ، وَلَوْلَا الْقَصْدُ لَمَا كَانَ ذَمًّا. قَالَ: وَقَدْ زِيدَ فِي الْقَبِيحِ مَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الذَّمَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَقَيَّدُوهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَصْلُهُمْ أَنَّ الصَّغَائِرَ قَبِيحَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ عَلَى فِعْلِهَا الذَّمَّ إذَا صَدَرَتْ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ. وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْهُمْ يَرْجِعُ إلَى تَفْسِيرِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ هَلْ يَخْتَصُّ بِصِفَةٍ مُوجِبَةٍ لِتَحْسِينِهِ وَتَقْبِيحِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُبَّائِيُّ، أَوْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ: يَخْتَصُّ، فَسَّرَهُ بِالْأَوَّلِ، وَمَنْ قَالَ: لَا يَخْتَصُّ فَسَّرَهُ بِالثَّانِي. اهـ.

أقسام الحسن

وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ حُسْنَ الشَّيْءِ شَرْعًا لَا يَرْجِعُ إلَى وَصْفٍ تَضَمَّنَهُ مِنْ الْحُسْنِ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ إذْنُ الشَّرْعِ فِيهِ وَدَفْعُ الْعِقَابِ عَنْهُ. [أَقْسَامُ الْحَسَنِ] [أَقْسَامُ الْحَسَنِ] وَقَسَّمَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ إلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ، كَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ، وَضِدُّهُ مِنْ الْقَبِيحِ الزِّنَى وَالْقَتْلُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ وَصْفِهِ بِتَقْدِيرٍ. الثَّانِي: مَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَالزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ لِمَالِ الْغَيْرِ، وَحُسْنُهَا مِنْ حَاجَةِ الْفَقِيرِ، وَكَذَا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ تَرْكُ الْأَكْلِ وَلَكِنْ حَسُنَ بِوَاسِطَةِ قَهْرِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَضِدُّهُ مِنْ الْقَبِيحِ كَلِمَةُ الرِّدَّةِ، فَإِنَّهَا قَبُحَتْ، لِدَلَالَتِهَا عَلَى سُوءِ الِاعْتِقَادِ، وَهَذَا النَّوْعُ قَدْ يُزَايِلُهُ وَصْفُ الْقُبْحِ بِالْإِكْرَاهِ، وَكَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ نَظَرًا إلَى التَّنَاوُلِ، وَقَدْ يَحِلُّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. الثَّالِثُ: مَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ مِنْ الْعَبْدِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ، وَالْوُضُوءِ عَلَى رَأْيٍ، فَلَا جُرْمَ انْحَطَّ عَنْ الْقِسْمَيْنِ لِلتَّوَسُّطِ حَتَّى اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ عِبَادَةً أَمْ لَا، وَيَأْتِي ضِدُّهُ فِي الْقَبِيحِ. فَائِدَةٌ [الْأَفْعَالُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ] تَلَخَّصَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْأَفْعَالَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: حَسَنٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَبَقَ نَقْلُ الْآمِدِيِّ فِيهِ الْإِجْمَاعَ

مسألة الأمر لا يقتضي حسن المأمور به

الثَّانِي: حَسَنٌ عَلَى الْأَصَحِّ وَهُوَ الْمُبَاحُ. الثَّالِثُ: قَبِيحٌ بِلَا خِلَافٍ وَهُوَ الْحَرَامُ. الرَّابِعُ: قَبِيحٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ إنْ فَسَّرْنَا الْقَبِيحَ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ شَرْعًا، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِمَا يُذَمُّ فَلَا يُوصَفُ بِهِ، وَكَذَا لَا يُوصَفُ بِالْحَسَنِ، إذْ لَا يُثْنَى عَلَى فَاعِلِهِ، وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَثْبَتَ بِهِ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقُبْحِ. الْخَامِسُ: مَا لَا يُوصَفُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ فِعْلُ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ وِفَاقًا لِابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَالْخِلَافُ فِيهِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا. حَكَاهُ الْآمِدِيُّ فِي الْأَبْكَارِ ". [مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ لَا يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ] الْأَمْرُ لَا يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ لَا يَرْجِعُ إلَى وَصْفِ الْفِعْلِ بَلْ إلَى الْأَمْرِ بِالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَحِكَايَتُهُ هَكَذَا غَلَطٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُرَادًا لِلْآمِرِ، ثُمَّ قَالُوا: لَمَّا تَعَلَّقَتْ إرَادَتُنَا بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ لَمْ يَدُلَّ تَعَلُّقُ أَمْرِنَا بِالْمَأْمُورِ عَلَى حُسْنِهِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يُرِيدُ إلَّا الْحَسَنَ، وَتَعَلُّقُ أَمْرِهِ بِالْمَأْمُورِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُرَادًا لَهُ، ثُمَّ حَيْثُ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْقَبِيحَ فَيُتَوَصَّلُ إلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبِيحًا، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَقُولُ: إنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي حُسْنَهُ، وَلَكِنْ إنْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ فَنَحْكُمُ بِحُسْنِهِ لِلْأَمْرِ الثَّانِي.

فصل خطاب التكليف

[فَصْلٌ خِطَابُ التَّكْلِيفِ] إذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَتَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا حَاكِمَ إلَّا الشَّرْعُ، فَلْنَشْرَعْ فِي تَبْيِينِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، ثُمَّ خِطَابِ الْوَضْعِ، فَنَقُولُ: الْخِطَابُ إنْ اقْتَضَى الْفِعْلَ اقْتِضَاءً جَازِمًا فَإِيجَابٌ، أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ فَنَدْبٌ. وَإِنْ اقْتَضَى التَّرْكَ جَازِمًا فَتَحْرِيمٌ أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ فَكَرَاهَةٌ، وَإِنْ اقْتَضَى التَّخْيِيرَ فَإِبَاحَةٌ، فَالْأَحْكَامُ إذَنْ خَمْسَةٌ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَرَأَيْت فِي تَعْلِيقِ " الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ: وَاجِبٌ وَمَحْظُورٌ وَمُبَاحٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْوَاجِبِ الطَّلَبَ بِالْمَحْظُورِ الْمَمْنُوعِ، وَقِيلَ: اثْنَانِ: حَرَامٌ وَمُبَاحٌ، وَفُسِّرَتْ الْإِبَاحَةُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفِعْلِ، فَيَنْدَرِجُ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ. وَبَقِيَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: خِلَافُ الْأَوْلَى، وَهُوَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْمَكْرُوهِ، لَكِنْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ وَخِلَافُ الْأَوْلَى بِخِلَافِهِ، فَتَرْكُ صَلَاةِ الضُّحَى خِلَافُ الْأَوْلَى، وَلَا يُقَالُ: مَكْرُوهٌ، وَالتَّقْبِيلُ لِلصَّائِمِ مَكْرُوهٌ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ صَوْمَ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ خِلَافُ الْأَوْلَى لَا مَكْرُوهٌ وَكَذَا الْحِجَامَةُ إنْ لَمْ نَقُلْ تُفْطِرُ، وَكَذَا تَفْصِيلُ أَعْضَاءِ الْعَقِيقَةِ.

قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ. الثَّانِي: أَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَا يُوصَفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ عَلَى أَصَحِّ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ لِلَّهِ فِيهَا حُكْمًا.

فصل في الواجب

[فَصْلٌ فِي الْوَاجِبِ] الْوُجُوبُ لُغَةً: اللُّزُومُ، وَمِنْهُ وَجَبَ الْبَيْعُ إذَا لَزِمَ، وَالسُّقُوطُ، وَمِنْهُ {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] وَالثُّبُوتُ وَمِنْهُ «اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك مُوجِبَاتِ رَحْمَتِك» . وَفِي الِاصْطِلَاحِ: لَنَا إيجَابٌ وَوُجُوبُ وَاجِبٍ. فَالْإِيجَابُ: الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وَلَيْسَ لِلْعَقْلِ مِنْهُ صِفَةٌ، فَإِنَّ الْقَوْلَ لَيْسَ لِمُتَعَلَّقِهِ مِنْهُ صِفَةٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَعْدُومِ. وَالْوُجُوبُ: تَعَلُّقُهُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ. فَالْوَاجِبُ: نَفْسُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا بِالتَّحْدِيدِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ حُدُودًا فَقَالَتْ الْقُدَمَاءُ: مَا يُعَاقَبُ تَارِكُهُ. وَاعْتُرِضَ بِجَوَازِ الْعَفْوِ، وَأُجِيبُ: إنَّمَا يَرِدُ لَوْ أُرِيدَ إيجَابُ الْعِقَابِ، وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ أَنَّهُ أَمَارَةٌ أَوْ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْعَفْوُ. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَذَرَ بِأَنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعِيدِ كَرَمٌ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ الْخُلْفُ فِيهِ لِذَاتِهِ.

وَأَجَابَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِحَمْلِ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ جِنْسِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْطُلُ بِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ إلَّا إذَا وَقَعَ الْعَفْوُ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ التَّارِكِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ الْأَفْرَادِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا يَصِحُّ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى عِقَابِ بَعْضِ الْعُصَاةِ. وَأَجَابَ الْعَبْدَرِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى " بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ تَوَعُّدٌ بِالْعِقَابِ مُطْلَقٌ بَلْ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتُوبَ الْمُكَلَّفُ وَلَا يُعْفَى عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا شَيْئًا لَوَجَبَ وَإِنْ لَمْ يَتَوَعَّدْ بِالْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ، فَالْوُجُوبُ إنَّمَا هُوَ بِإِيجَابِهِ لَا بِالتَّوَعُّدِ لَكِنَّ هَذَا مَرْدُودٌ، إذْ لَا يُعْقَلُ وُجُوبٌ بِدُونِ تَوَعُّدٍ، وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ عَرَّفُوهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ عَلَى تَرْكِهِ، وَحَكَى الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ تَعْلِيقِهِ " عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ حَدُّوا الْوَاجِبَ بِمَا يُخْشَى الْعِقَابُ عَلَى تَرْكِهِ. قَالَ: وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ إلَى بَدَلٍ. انْتَهَى. وَزَيَّفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِمَا يُظَنُّ وُجُوبُهُ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَإِنَّهُ يَخَافُ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ مَعَ انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ. وَقِيلَ: هُوَ الْمَطْلُوبُ جَزْمًا، ثُمَّ الْعِقَابُ، أَوْ اللَّوْمُ، أَوْ الذَّمُّ يَكُونُ مِنْ إشَارَةِ تَعْرِيفٍ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَلَا يَجُوزُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِآثَارِهِ، وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: أَنَّهُ الَّذِي يُذَمُّ

تَارِكُهُ شَرْعًا بِوَجْهٍ مَا. فَالْمُرَادُ بِالذَّمِّ مَا يُنَبِّئُ عَنْ اتِّضَاحِ حَالِ الْغَيْرِ، وَتَارِكُ الْوَاجِبِ، وَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ فَالذَّمُّ مِنْ الشَّارِعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَأَقَلُّهُ أَنَّهُ يُسَمِّيهِ عَاصِيًا، وَهُوَ ذَمٌّ قَطْعًا، وَلَا يُكْرِمُهُ مِثْلَ إكْرَامِ الْآتِي بِهِ، وَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ، إذْ يَسْلُبُهُ مَنْصِبَ الْعَدَالَةِ. وَقِيلَ: شَرْعًا لِيُوَافِقَ مَذْهَبَنَا، وَبِوَجْهٍ مَا لِيَدْخُلَ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ، وَالْمُخَيَّرُ، وَالْفَرْضُ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُذَمُّ تَارِكُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مَعَ اتِّصَافِهَا بِالْوُجُوبِ فِيهِ لَوْ وَقَعَتْ، لَكِنْ لَوْ تَرَكَهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ أَوْ فِي أَوَّلِهِ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى فِعْلِهِ فِيمَا بَعْدَهُ لَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ عَلَى رَأْيِ الْجَاعِلِ لِلْعَزْمِ بَدَلًا عَنْهُ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ كُلَّ الْخِصَالِ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ بَعْضِهَا وَفِعْلِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ الْبَعْضُ وَقَامَ بِهِ الْبَعْضُ لَا يُذَمُّ تَارِكُهُ. أَمَّا لَوْ تَرَكَهُ الْجَمِيعُ حَرَجُوا جَمِيعًا، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّائِمُ، وَالنَّاسِي، وَصَوْمُ الْمُسَافِرِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ إذْ لَا وُجُوبَ فِي حَقِّهِمْ عَلَى قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَالْقَاضِي مِنْهُمْ. أَمَّا عَلَى رَأْيِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ أُجِيبُ بِأَنَّهُمْ لَا يُذَمُّونَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّهُ لَوْ انْتَبَهَ أَوْ تَذَكَّرَ ذُمَّ. فَإِنْ قُلْت: الذَّامُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الشَّرْعِ أَوْ أَهْلُ الشَّرْعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ مَا نَصَّ عَلَى ذَمِّ كُلِّ تَارِكٍ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّرْعِ فَإِنَّمَا يَذُمُّونَ مَنْ عَلِمُوا أَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا، فَذَمُّهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِمْ بِالْوَاجِبِ، فَلَوْ عَرَفَ بِهِ لَدَارَ. وَالْجَوَابُ: مَا قَالَهُ السُّهْرَوَرْدِيّ: نَخْتَارُ أَنَّ الذَّامَّ هُوَ الشَّارِعُ بِصِيَغِ

الْعُمُومِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] وَلِأَنَّ التَّارِكَ عَاصٍ، وَكُلُّ عَاصٍ مَذْمُومُ الْعَامَّةِ. سَلَّمْنَا، وَلَا دَوْرَ؛ لِأَنَّ تَصَوُّرَ الْوَاجِبِ مَوْقُوفٌ عَلَى تَصَوُّرِ الذَّمِّ، وَتَصَوُّرُ الذَّمِّ مِنْ أَهْلِ الشَّرْعِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى تَصَوُّرِ الْوَاجِبِ، فَلَا دَوْرَ، وَأَوْرَدَ فِي الْمَحْصُولِ " السُّنَّةَ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: إنَّ أَهْلَ مَحَلَّةٍ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ سُنَّةِ الْفَجْرِ بِالْإِصْرَارِ فَإِنَّهُمْ يُحَارَبُونَ بِالسِّلَاحِ، وَهَذَا لَمْ يَقُولُوهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى سُنَّةِ الْفَجْرِ بَلْ بِالْآذَانِ وَالْجَمَاعَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالصَّحِيحُ: أَنَّا إذَا قُلْنَا بِسُنِّيَّتِهَا لَا يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهَا خِلَافًا لِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَإِنْ جَرَيْنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمُقَاتَلَةُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّرْكُ مِنْ الِاسْتِهَانَةِ بِالدِّينِ لَا عَلَى خُصُوصِيَّةِ تَرْكِ السُّنَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ. تَنْبِيهَانِ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ قَدْ يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْفَرْضَ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ دُونَ مَا يَلْحَقُ الْإِثْمُ بِتَرْكِهِ، كَقَوْلِهِمْ: وُضُوءُ الصَّبِيِّ فَرْضٌ. وَلِهَذَا حَكَمُوا عَلَى مَاءٍ يَتَوَضَّأُ بِهِ بِالِاسْتِعْمَالِ كَوُضُوءِ الْبَالِغِ لِلنَّفْلِ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى مَا قُصِدَ بِهِ مُشَاكَلَةُ الْفَرْضِ؛ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ لَمْ تَتَحَقَّقْ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ بِتَرْكِهِ كَالصَّلَاةِ

تنبيه أقسام الواجب

الْمُعَادَةِ. وَلِهَذَا يَنْوِي بِهَا الْفَرْضَ فِي الْأَصَحِّ. وَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْمَيِّتِ تَقَعُ فَرْضًا، وَإِنْ سَقَطَ الطَّلَبُ بِالْأُولَى وَغَيْرِ ذَلِكَ. [تَنْبِيه أَقْسَامُ الْوَاجِبِ] [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي [أَقْسَامُ الْوَاجِبِ] الْوُجُوبُ يُطْلَقُ تَارَةً بِمَعْنَى الثُّبُوتِ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ شَائِعٌ فِي إطْلَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَتَارَةً بِمَعْنَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُتَكَلِّمِينَ. فَالْوَاجِبُ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَيُطَالَبُ بِأَدَائِهِ كَالدَّيْنِ عَلَى الْمُوسِرِ وَنَحْوِهِ. وَثَانِيهَا: مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يُطَالَبُ بِأَدَائِهِ، كَالزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ. الثَّالِثُ: مَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَكِنْ يَجِبُ أَدَاؤُهُ كَقَوْلِ أَصْحَابِنَا: إنَّ الدَّعْوَى بِالدِّيَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْعَاقِلَةِ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ بَلْ عَلَى الْجَانِي نَفْسِهِ. ثُمَّ هُمْ يَدْفَعُونَهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ " فِي بَابِ صِفَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْبَتِّ، وَفِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَكَقَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي اللُّقَطَةِ: إذَا تَلِفَتْ لَا يَضْمَنُ حَتَّى يُطَالِبَ بِهَا الْمَالِكُ، وَقَدْ يَجِيءُ خِلَافُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، أَعْنِي هَلْ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ مَعَ عُسْرِ الْأَدَاءِ أَوْ يُشْتَرَطُ لَهُ إمْكَانُ الْأَدَاءِ؟ مِنْ الْخِلَافِ فِي زَكَاةِ الثَّمَرِ أَنَّهَا تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ مَعَ أَنَّ الْأَدَاءَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْجَفَافِ.

مسألة الفرق بين الوجوب ووجوب الأداء

وَحَكَى صَاحِبُ التَّقْرِيبِ " قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالْجَفَافِ، وَزَعَمَ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي وَقْتِ وُجُوبِ تَأْدِيَتِهَا، وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الرُّجُوبِ، وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ، فَإِنَّهُ لَا يُنْكَرُ بِثُبُوتِ الْوُجُوبِ مَعَ عُسْرِ الْأَدَاءِ، كَمَا فِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ. وَجَزَمَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ إمْكَانَ الْأَدَاءِ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَأَمَّا فِي الزَّكَاةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: كَذَلِكَ، وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ بَلْ الضَّمَانَ، قَالَ فِي الْبَسِيطِ ": وَوُجُوبُ الْحَقِّ فِي الذِّمَّةِ يَتَمَيَّزُ عَنْ أَدَائِهِ، وَإِخْرَاجِهِ، فَوُجُوبُ الْأَدَاءِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْإِمْكَانِ، أَمَّا ثُبُوتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ فَيَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ وَقَدْ جَرَى. [مَسْأَلَةٌ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ] لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الْوُجُوبِ، وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَلَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ بِدُونِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِعَادَةِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إلَى التَّفْرِقَةِ. وَقَالُوا: الْوُجُوبُ شَغْلُ الذِّمَّةِ بِالْمَلْزُومِ، وَأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ وَوُجُودِ السَّبَبِ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ لُزُومُ تَفْرِيغِ الذِّمَّةِ

عَنْ الْوَاجِبِ بِوَاسِطَةِ الْأَدَاءِ، وَأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ وَالسَّبَبِ وَالْخِطَابِ وَاسْتِطَاعَةِ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ مَعَ تَوَهُّمِ الِاسْتِطَاعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَأَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. تَنْبِيهٌ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَيْسَ كُلُّ وَاجِبٍ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا كُلُّ مُحَرَّمٍ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ فَكُلُّهَا وَاجِبَةٌ، وَإِذَا فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ غَافِلًا عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا وَقَعَتْ وَاجِبَةً مُجْزِئَةً، وَلَا يُثَابُ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ تُخْرِجُ الْإِنْسَانَ عَنْ عُهْدَتِهَا بِمُجَرَّدِ تَرْكِهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ فَضْلًا عَنْ الْقَصْدِ إلَيْهَا حَتَّى يَنْوِيَ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا فَلَا ثَوَابَ حِينَئِذٍ. نَعَمْ مَتَى اقْتَرَنَ قَصْدُ الِامْتِثَالِ فِي الْجَمِيعِ حَصَلَ الثَّوَابُ. انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ تَقْسِيمُ الْوَاجِبِ إلَى مَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَإِلَى مَا يَنْتَفِي عَنْهُ الثَّوَابُ، وَكَذَا الْحَرَامُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ جَزْمًا، وَشَرْطُ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ فِيهِ. فَتَرَتُّبُ الثَّوَابِ وَعَدَمُهُ فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ وَتَرْكِ الْحَرَامِ وَعَدَمِهِ رَاجِعٌ إلَى وُجُودِ الثَّوَابِ، وَعَدَمُهُ ذُهُولُ النِّيَّةِ، لَا أَنَّ الْوَاجِبَ وَالْحَرَامَ مُنْقَسِمَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا.

مسألة أسماء الواجب

[مَسْأَلَةٌ أَسْمَاءُ الْوَاجِبِ] مِنْ أَسْمَاءِ الْوَاجِبِ الْمَحْتُومُ وَالْمَكْتُوبُ وَالْفَرْضُ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي اللُّغَةِ. إذْ الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ. وَمِنْهُ فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ، وَالْوُجُوبُ لُغَةً قَدْ سَبَقَ، وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى تَرَادُفِهِمَا حَدِيثُ: «قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» فَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَاسِطَةً، بَلْ الْخَارِجُ عَنْ الْفَرْضِ دَاخِلٌ فِي التَّطَوُّعِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا عَنْ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْفَرْضَ، مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ تَشَوُّفًا مِنْهُمْ إلَى رِعَايَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَهُ عَلَيْنَا. وَالْوَاجِبُ: مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ؛ لِأَنَّهُ سَاقِطٌ عَلَيْنَا، وَلَا نُسَمِّيهِ بِالْفَرْضِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَهُ عَلَيْنَا كَالْوِتْرِ، وَزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَالْأُضْحِيَّةِ، وَخَصَّهُ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ بِالثَّابِتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قَالَ: وَهُوَ كَالْفَرْضِ فِي لُزُومِ الْعَمَلِ وَالنَّافِلَةِ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ حَتَّى لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ.

قَالَ: وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَالْمَكْتُوبَاتُ مَعْلُومَةٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ نَسْخِهَا عُلِمَ تَحْرِيمَاتُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلِذَلِكَ لَمْ تُجْعَلْ رُتْبَتُهَا فِي الْوُجُوبِ رُتْبَةَ الْفَرِيضَةِ حَتَّى لَا تَصِيرَ زِيَادَةً عَلَيْهَا. قُلْنَا: الْفَرْضُ الْمُقَدَّرُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، وَالْوَاجِبُ هُوَ السَّاقِطُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، فَتَخْصِيصُ كُلٍّ مِنْ اللَّفْظَيْنِ بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ تَحَكُّمٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَلَوْ عَكَسُوا الْقَوْلَ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوُجُوبِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الْفَرْضِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَنْدُوبِ. فَإِنْ أَرَادُوا إلْزَامَ غَيْرِهِمْ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ لِمُوَافَقَةِ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ فَمَمْنُوعٌ لِمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ قَصَدُوا اصْطِلَاحَهُمْ عَلَيْهِ فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَلَا يُنْكَرُ انْقِسَامُ الْوَاجِبِ إلَى مَقْطُوعٍ بِهِ وَمَظْنُونٍ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": إنْ كَانَ مَا قَالَهُ رَاجِعًا إلَى

مُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ فَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ فِي مِثْلِهِ التَّحَرُّزُ عَنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى عَنْ اخْتِلَاطِ الِاصْطِلَاحَيْنِ، فَإِنَّهُ يُوقِعُ غَلَطًا مَعْنَوِيًّا. وَأَيْضًا فَالْمُصْطَلَحُ عَلَى شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى أَمْرَيْنِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ اصْطِلَاحُهُ حَسَنًا. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُخَالِفَ الْوَضْعَ الْعَامَّ لُغَةً أَوْ عُرْفًا. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا فَرَّقَ بَيْنَ مُتَقَارِنَيْنِ يُبْدِي مُنَاسَبَةً لِلَفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنَاهُ، وَإِلَّا كَانَ تَخْصِيصُهُ لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِعَيْنِهِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي فَعَلَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ خَصُّوا الْفَرْضَ بِالْمَعْلُومِ قَطْعًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَاجِبَ هُوَ السَّاقِطُ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ ظَاهِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ لَفْظَةٍ مَعَ مَعْنَاهَا الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَلَوْ عَكَسُوا الْأَمْرَ لَمَا امْتَنَعَ. فَالِاصْطِلَاحُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِذَلِكَ الْحَسَنِ. اهـ. وَقَدْ نُقِضَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْقَعْدَةَ فِي الصَّلَاةِ فَرْضًا، وَمَسْحَ رُبْعِ الرَّأْسِ فَرْضًا. وَلَمْ يَثْبُتْ بِقَاطِعٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَجَعَلُوا الْوُضُوءَ مِنْ الْفَصْدِ فَرْضًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِقَطْعِيٍّ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ بَلَغَ فِي الْوَقْتِ بَعْدَمَا أَدَّى الصَّلَاةَ، وَالْعُشْرَ فِي الْأَقْوَاتِ، وَفِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. قَالَ إِلْكِيَا: وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ عِنْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا أَمَّا عِنْدَ اللَّهِ فَهُوَ سَوَاءٌ. ثُمَّ قِيلَ: الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ رَاجِعٌ إلَى التَّسْمِيَةِ. وَقِيلَ: بَلْ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي التَّكْفِيرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْجُحُودِ فَإِنَّ مَنْ جَحَدَ

قَطْعِيًّا كَفَرَ، أَوْ ظَنِّيًّا فَلَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْفَرْقِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: بَلْ هُوَ مَعْنَوِيٌّ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ عِنْدَنَا بِأَسْرِهَا قَطْعِيَّةٌ، وَعِنْدَهُمْ تَنْقَسِمُ إلَى مَا ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ وَإِلَى مَا ثَبَتَ بِظَنِّيٍّ وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْفَرْضَ مَا أُجْمِعَ عَلَى وُجُوبِهِ وَالْوَاجِبَ مَا كَانَ مُخْتَلِفًا فِي وُجُوبِهِ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَرْضَ مَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالْوَاجِبَ مَا ثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ مُصَرِّحٍ بِهِ. حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَأَلْزَمَهُمْ الْقَاضِي أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِالسُّنَّةِ، كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَدِيَةِ الْأَصَابِعِ، وَالْعَاقِلَةِ فَرْضًا، وَأَنْ يَكُونَ الْإِشْهَادُ عِنْدَ التَّبَايُعِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ الثَّابِتَةِ بِالْقُرْآنِ فَرْضًا. وَفَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ بِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ اللَّهِ وَالْإِيجَابَ يَكُونُ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ غَيْرِهِ. يُقَالُ: فَرَضَ اللَّهُ كَذَا وَأَوْجَبَ، وَلَا يُقَالُ: فَرَضَ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ، وَإِنَّمَا يُقَال: أَوْجَبَ، أَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهُ كَذَا، وَقَدْ فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَسَمَّوْا الْفَرْضَ رُكْنًا، وَالْوَاجِبَ شَرْطًا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَفِي بَابِ الْحَجِّ حَيْثُ قَالُوا: الْوَاجِبُ مَا يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِدَمٍ، وَالرُّكْنُ مَا لَا يُجْبَرُ، وَهَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ فَرْقًا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى تَخْتَلِفُ الذَّوَاتُ بِحَسَبِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَوْضَاعٌ نُصِبَتْ لِلْبَيَانِ،

مسألة بعض الواجبات أوجب من بعض

وَعِبَارَةُ التَّنْبِيهِ " تَقْتَضِي أَنَّ الْفَرْضَ أَعَمُّ مِنْ الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ فُرُوضِ الْحَجِّ: وَذِكْرُ أَرْكَانِ الْحَجِّ مِنْ وَاجِبَاتِهِ وَهِيَ مُؤَوَّلَةٌ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ الْعَبَّادِيِّ فِيمَنْ قَالَ: " الطَّلَاقُ وَاجِبٌ عَلَيَّ " تَطْلُقُ. أَوْ فَرْضٌ لَا تَطْلُقُ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُنَافٍ لِلتَّرَادُفِ، بَلْ لِأَنَّ الْعُرْفَ اقْتَضَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَفْهُومِ اللُّغَةِ الْمَهْجُورِ. وَقَدْ رَأَيْت الْمَسْأَلَةَ فِي الزِّيَادَاتِ " وَخَصَّهَا بِأَهْلِ الْعِرَاقِ لِلْعُرْفِ فِيهِمْ بِذَلِكَ. قَالَ: وَهَكَذَا جَوَابُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. [مَسْأَلَةٌ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ أَوْجَبُ مِنْ بَعْضٍ] قَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ أَوْجَبُ مِنْ بَعْضٍ كَالسُّنَنِ بَعْضُهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَنْصَرِفُ عِنْدَهُمْ إلَى صِفَةِ الذَّاتِ، وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَنَا فَمَا كَانَ اللَّوْمُ عَلَى تَرْكِهِ أَكْثَرَ كَانَ أَوْجَبَ فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ أَوْجَبُ مِنْ الْوُضُوءِ. [مَسْأَلَةٌ تَرَتُّبُ الذَّمِّ أَوْ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ يَتَحَقَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ] ُ] لَا يَتَحَقَّقُ وُجُوبٌ بِدُونِ تَرْجِيحٍ فِي فِعْلِهِ بِتَرَتُّبِ ذَمٍّ أَوْ عِقَابٍ عَلَى تَرْكِهِ.

وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا أَوْجَبَ اللَّهُ شَيْئًا وَجَبَ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَعَّدْ بِالْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ، إذْ الْوُجُوبُ بِإِيجَابِهِ لَا بِالْعِقَابِ، بَلْ يَكْفِي فِي الْوُجُوبِ الطَّلَبُ الْجَازِمُ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِقَابِ وَالتَّوَعُّدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرُّجْحَانَ لَيْسَ مُنْحَصِرًا فِيهَا، بَلْ قَدْ يَكُونُ بِأَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلذَّمِّ، وَفِعْلُهُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ فَهَذَا حَقٌّ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَأَنْ يَتَرَجَّحَ الْفِعْلُ عَلَى التَّرْكِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا، وَيَكُونُ مَقْصُودًا مِنْ نَفْيِ التَّوَعُّدِ نَفْيُ الْمُرَجِّحِ لَا نَفْيُ خُصُوصِهِ. إذْ قَوْلُهُ: إذْ الْوُجُوبُ بِإِيجَابِهِ مُشْعِرٌ بِهِ فَمَمْنُوعٌ لِمَا مَرَّ فِي تَعْرِيفِهِ الْوَاجِبَ. وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي الْمُسْتَوْفَى ": إنَّ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي إذَا حُقِّقَ هُوَ مَقَامُ الصِّدِّيقِينَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُهُ مَقَامُ الصَّالِحِينَ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ الرَّازِيَّ فِي الْمُنْتَخَبِ ": تَحَقُّقُ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا وَهْمٌ عَلَى الْغَزَالِيِّ، وَلَمْ يَقُلْ: إنَّ الْعِقَابَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَرْكِ كُلِّ الْوَاجِبِ بَلْ مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هَلْ يَكْفِي فِي تَصَوُّرِ مَاهِيَّةِ الْوُجُوبِ الطَّلَبُ الْجَازِمُ الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ الطَّالِبِ الْإِذْنَ بِالتَّرْكِ كَمَا فِي دُعَائِنَا لِلَّهِ تَعَالَى؟ أَوْ يُقَال: الْوُجُوبُ مُرَكَّبٌ مِنْ رُجْحَانِ الْفِعْلِ مَعَ قَيْدِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى التَّرْكِ إمَّا الذَّمَّ أَوْ غَيْرُهُ. هَذَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: هَذَا النَّقْلُ عَنْ الْغَزَالِيِّ سَهْوٌ مِنْ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْغَزَالِيَّ نَفَى الْوُجُوبَ عِنْدَ نَفْيِ التَّرْجِيحِ مُطْلَقًا لَا عِنْدَ نَفْيِ الْعِقَابِ.

فصل انقسام الواجب

[فَصْلٌ انْقِسَامُ الْوَاجِبِ] [مَسْأَلَة الواجب الْمُخَيَّرِ] انْقِسَامُ الْوَاجِبِ] الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ بِحَسَبِ فَاعِلِهِ إلَى: وَاجِبٍ عَلَى الْعَيْنِ، وَوَاجِبٍ عَلَى الْكِفَايَةِ: وَبِحَسَبِ ذَاتِهِ إلَى وَاجِبٍ مُعَيَّنٍ، وَوَاجِبٍ مُخَيَّرٍ، وَبِحَسَبِ وَقْتِهِ إلَى وَاجِبٍ مُضَيَّقٍ وَوَاجِبٍ مُوَسَّعٍ، وَيَجِبُ فِعْلُهُ فِي وَقْتِهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَدَاءً وَقَضَاءٍ. فَنَقُولُ: مَسْأَلَةُ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ إيجَابُ شَيْءٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَشْيَاءَ مَحْصُورَةٍ، كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى جَائِزٌ عَقْلًا. خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ ذَهَبَ إلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا زَاعِمًا لُزُومَ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ؛ لِتَنَاقُضِ الْوُجُوبِ وَالتَّخْيِيرِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمَا هُوَ مُخَيَّرٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ. وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِهِ فَهُوَ يَقْتَضِي وُجُوبَ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا بِعَيْنِهِ، وَأَيَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَعَلَ، سَقَطَ الْفَرْضُ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَاجِبِ، لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَا يُوصَفُ الْجَمِيعُ بِالْوُجُوبِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، كَمَا قَالَهُ

الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ عَنْ مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ إجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَنَعْنِي بِهَذَا أَنَّ مَا مِنْ وَاحِدٍ إلَّا وَيَتَعَلَّقُ بِهِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلَسْنَا نَعْنِي أَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ مُلْتَبِسٌ عَلَيْنَا، وَإِلَّا لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَيْضًا، وَالثَّانِي: وَبِهِ قَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: الْكُلُّ وَاجِبٌ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ، وَقَالَ: الْكُلُّ وَاجِبٌ عَلَى التَّخْيِيرِ وَالْبَدَلِ، وَإِذَا فُعِلَ بَعْضُهَا سَقَطَ بِهِ وُجُوبُ بَاقِيهَا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ الْجُبَّائِيُّ وَابْنِهِ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ": وَاخْتَارَهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَاخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مِنْ مَالِكِيَّةِ الْعِرَاقِ. قَالَ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ، لَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا فِعْلَ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَاخْتِيَارُهُ مُعَرِّفٌ، لَنَا أَنَّهُ الْوَاجِبُ فِي حَقِّهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَلَّفِينَ. حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ مَعَ جَلَالَتِهِ. وَقَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": إنَّ أَصْحَابَنَا يَنْسُبُونَهُ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَصْحَابِنَا، وَاتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى فَسَادِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ": لَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ

مُعَيَّنٍ عِنْدَنَا كَانَ خِلَافًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَجَرَى مَجْرَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. هَذَا مِمَّا لَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَحَدٌ. انْتَهَى، وَقَدْ عَلِمْتَ فَسَادَهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَخْتَلِفُ، فَإِنْ فَعَلَهُ الْمُكَلَّفُ فَذَاكَ، وَإِلَّا وَقَعَ نَفْلًا وَسَقَطَ الْوَاجِبُ بِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصْحَابِ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ أَوْ بِاخْتِيَارِهِ؟ وَجْهَانِ: وَالْأَوَّلُ: حَكَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ فِي تَمْهِيدِهِ " وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، وَأَغْرَبَ فَنَسَبَهُ إلَى الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إنَّهُ قَوْلُ مُعْظَمِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالثَّانِي: حَكَاهُ أَبُو يُوسُفَ فِي الْوَاضِحِ "، فَقَالَ: ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ وَاحِدٌ، وَيَتَعَيَّنُ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الْوَاجِبَ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ يَخْتَارُهُ. قِيلَ: وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَنْ لَا وُجُوبَ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَيَجِيءُ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ الْوَقْفُ، فَإِنْ فَعَلَ وَاحِدًا مِنْهَا فَهُوَ الْوَاجِبُ، كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إنَّ مَالِكَ النِّصَابِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ وَمِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا مِنْ عَيْنِ الْمَالِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوُجُوبَ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِهَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا لَمْ تَجِبْ فِي الْعَيْنِ. وَيَجِيءُ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ الْخِصَالِ أَدْوَنَ كَانَ هُوَ الْوَاجِبَ،

فَإِنْ فَعَلَ الْأَكْمَلَ سَقَطَ بِهِ، وَهَذَا كَمَا فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ، فَإِنَّ خَبَرَ مُعَاذٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ " وَالْأَصْحَابُ أَنَّ الْوَاجِبَ التَّبِيعُ، وَأَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ التَّبِيعَةَ كَانَ أَوْلَى، وَأَسْقَطَ الْوَاجِبَ، وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِالزِّيَادَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: سَبَبُ ذَلِكَ قِيَامُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الثَّلَاثِينَ تَبِيعٌ. إذَا عَلِمْت هَذَا فَالْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا: تَحْقِيقُ مَوْضِعِ الْخِلَافِ. الثَّانِي: هَلْ هُوَ مَعْنَوِيٌّ أَوْ لَفْظِيٌّ؟ . الثَّالِثُ: فِي كَيْفِيَّةِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ أَوْ الْبَعْضِ. الرَّابِعُ: فِي شُرُوطِ التَّخْيِيرِ. [تَحْقِيقُ مَوْضِعِ الْخِلَافِ] أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ تَحْقِيقُ مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَتَحْرِيرُ مَعْنَى الْإِبْهَامِ، فَأَمَّا عِنْدَنَا

فَالْوَاجِبُ أَحَدُ الْخِصَالِ، وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ، وَتَخْيِيرُ الْمُكَلَّفِ إنَّمَا هُوَ فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ لِلْوُجُودِ لَا لِلْوُجُوبِ، فَإِنَّ الْجِهَةَ الشَّخْصِيَّةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبٌ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْمِئَتَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْأَرْبَعِ حِقَاقٍ وَخَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَطَقَ بِالتَّخْيِيرِ، فَقَالَ: (فَإِذَا بَلَغَتْ مِئَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ. أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ) فَأَوْجَبَ أَحَدَهُمَا وَخَيَّرَ فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: مُتَعَلَّقُ الْوُجُوبِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْخِصَالِ، وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ، وَمُتَعَلَّقُ التَّخْيِيرِ خُصُوصِيَّاتُ الْخِصَالِ وَلَا وُجُوبَ فِيهَا. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ ": لَا نَقُولُ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ، بَلْ الْوَاجِبُ هُوَ حِصَّةٌ مِنْهُ يَصْدُقُ عَلَيْهَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ. وَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الْمُشْتَرَكِ، وَيَكُونُ مِنْ صُوَرِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّخْيِيرُ فِي الْوَاحِدِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: يَجِبُ الْجَمِيعُ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَظَاهِرُهُ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، إذْ مَعْنَى وُجُوبِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِفِعْلِهَا، وَمُقْتَضَى التَّخْيِيرِ أَنْ يَبْرَأَ بِفِعْلِ أَيُّهَا شَاءَ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِوُجُوبِ الْجَمِيعِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْجَمِيعِ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ فِعْلِ الْجَمِيعِ، أَوْ وُجُوبُ الْجَمِيعِ عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الْجَمْعِ بِمَعْنَى إنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا فَعَلَ هَذَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.

وَكَانَ الْغَلَطُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إمَّا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْوُجُوبَ مَعَ التَّخْيِيرِ لَا يَجْتَمِعَانِ، أَوْ مِنْ النَّاقِلِينَ عَنْهُمْ بِأَنْ وَافَقُوهُمْ عَلَى عِبَارَةٍ مُوهِمَةٍ، وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِ الْإِفَادَةِ " عَنْهُمْ: أَنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ عَلَى الْبَدَلِ. وَقَدْ حَرَّرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَلِكَ فَقَالَ: الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ يُقَالُ عَلَى الْمُتَوَاطِئِ، كَالرَّجُلِ وَلَا إبْهَامَ فِيهِ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ مَعْلُومَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْحَقَائِقِ وَيُقَالُ عَلَى الْمُبْهَمِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ، كَأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُقْصَدْ فِيهِ إلَّا الْحَقِيقَةُ الَّتِي هِيَ مُسَمَّى الرُّجُولِيَّةِ. وَالثَّانِي فِيهِ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنْ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى مُبْهَمًا؛ لِأَنَّهُ انْبَهَمَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ، وَالْأَوَّلُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِيَّاتِهِ كَالْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ، فَإِنَّ مُسَمَّى الْإِعْتَاقِ وَمُسَمَّى الرَّقَبَةِ مُتَوَاطِئٌ كَالرَّجُلِ. فَلَا تَعَلُّقَ لِلْأَمْرِ بِالْخُصُوصِيَّاتِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَلَا عَلَى التَّخْيِيرِ. فَلَا يُقَالُ فِيهِ: وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ، وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي الْمُخَيَّرِ، وَأَكْثَرُ أَوَامِرِ الشَّرِيعَةِ مِنْ ذَلِكَ. وَالثَّانِي مُتَعَلَّقُ الْخُصُوصِيَّاتِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ وَسُمِّيَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ. قَالَ: وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ تَزْوِيجَ أَحَدِ الْخَاطِبَيْنِ، وَإِعْتَاقَ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ الْحَاجِبِ، وَكَذَا نَصْبُ أَحَدِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِمَامَةِ إذَا شَغَرَ الْوَقْتُ عَنْ إمَامٍ. الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ فِيهِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْخُصُوصِيَّاتِ، وَإِنَّمَا مِثَالُهُ أَهْلُ الشُّورَى الَّذِينَ جَعَلَ عُمَرُ الْأَمْرَ فِيهِمْ؛ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِأَعْيَانِهِمْ.

وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي الْمُسْتَوْفَى ": الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا وَقَعَ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُخَيَّرَ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُخَيَّرَ فِي أَنْوَاعِهِ إنْ كَانَ ذَا أَنْوَاعٍ، وَفِي أَشْخَاصِهِ إنْ كَانَ ذَا أَشْخَاصٍ. فَيُقَالُ: لَا شَكَّ إنْ أَرَدْت الْمُخَيَّرَ فِيهِ فَالْعَيْنُ وَاحِدٌ لَا يَصِحُّ التَّخْيِيرُ فِيهَا، وَإِنْ أَرَدْت التَّخْيِيرَ فِي أَنْوَاعِهِ وَأَشْخَاصِهِ، فَأَنْوَاعُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِالْجِنْسِ وَأَشْخَاصِهِ يَصِحُّ التَّخْيِيرُ فِيهَا، وَبِهِ يَنْقَطِعُ النِّزَاعُ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ. قُلْت: وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُحَقَّقٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَاجِبَ كُلُّ خَصْلَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْأُخْرَى، وَبِهِ يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إعْتَاقِ رَقَبَةٍ مِنْ الْجِنْسِ، وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْوَاجِبَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْخِصَالِ، وَهَذَانِ مَعْنَيَانِ مُتَغَايِرَانِ يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قَائِلٌ. وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْلَى أَنْ يُسَمَّى إبْهَامًا، وَالْفُقَهَاءِ أَوْلَى أَنْ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ، وَالْمُعْتَزِلَةُ إنَّمَا قَصَدُوا الْفِرَارَ مِنْ قَوْلِنَا: أَحَدُهَا وَاجِبٌ لِعَدَمِ جَوَازِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ. وَأَصْحَابُنَا لَا يُرَاعُونَ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ، وَيُجَوِّزُونَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلُوا الْوَاجِبَ مُبْهَمًا. فَإِذَا نَظَرْنَا إلَى مُجَرَّدِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ فِي الْمَعْنَى. تَنْبِيهٌ: لَا يَخْفَى تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِمَا إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَطْلُوبًا. أَمَّا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدَهَا، وَلَمْ يُقْصَدْ بِالتَّخْيِيرِ ظَاهِرُهُ بَلْ التَّهْدِيدُ، فَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ وَاحِدٌ قَطْعًا. وَمِثَالُهُ: قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]

وَنَحْوُ هَذَا {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ. [هَلْ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ؟] وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ؟ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْقَاضِي وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ لَفْظِيٌّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ "، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ "، وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي الْمَحْصُولِ ". قَالُوا: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لِاتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ كَذَلِكَ، وَأَنَّهُ إذَا أُتِيَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا كَفَى ذَلِكَ فِي سُقُوطِ التَّكْلِيفِ. وَلَكِنَّ مُرَادَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ مَا مِنْ وَاحِدٍ يُفْعَلُ إلَّا يَقَعُ وَاجِبًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي الْعُمْدَةِ "، وَلِهَذَا لَمْ يُصَحِّحَ الْإِمَامُ النَّقْلَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، فَقَدْ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " وَهُوَ الْقُدْوَةُ عِنْدَهُمْ، وَأُصُولُهُ تَقْتَضِي مَا نُقِلَ عَنْهُ، وَأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ يَتْبَعُ الْحَسَنَ الْخَاصَّ. فَيَجِبُ عِنْدَ التَّخْيِيرِ اسْتِوَاءُ الْجَمِيعِ فِي الْحَسَنِ الْخَاصِّ، وَإِلَّا وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ ": قَدْ أَعْيَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْعُلَمَاءَ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ فَمَا أَحَدٌ تَصَوَّرَ الْخِلَافَ فِيهَا.

وَفِي الْجُمْلَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا كُلَّهَا، وَلَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا أَنَّهُ إذَا أَتَى بِشَيْءٍ مِنْهَا أَجْزَأَهُ، وَلَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ وَاجِبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ مُبَاحٍ أَوْ نَدْبٍ، وَحِينَئِذٍ فَلَا أَعْرِفُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ، وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ": قَدْ دَارَتْ رُءُوسُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَعْيَتْهُمْ، وَلَا فَائِدَةَ لَهَا مَعْنَوِيَّةً لِلِاتِّفَاقِ عَلَى مَا ذَكَرَ. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: بَلْ الْخِلَافُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّا نُخَطِّئُهُمْ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الْوُجُوبِ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكَفَّارَةِ أَحَدُ الْأُمُورِ، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَابْنِ فُورَكٍ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ وَابْنِ التِّلِمْسَانِيِّ، وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ قَالَ: الْأَمْرُ بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ يَقْتَضِي وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ هُوَ أَحَدُهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا: الْوَاجِبُ مِنْهَا وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ وَقَعَ غَيْرُهُ وَقَعَ نَفْلًا وَسَقَطَ بِهِ الْوَاجِبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْوَاجِبُ [أَحَدُهَا] وَلَكِنْ عَلَى الْبَدَلِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ تُرَادَ مَعَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الْخُصُوصِيَّاتُ أَوْ لَا، أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ: احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْخِصَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ وَاجِبَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَفْعَلَ غَيْرَهَا.

وَالْأَوْفَقُ لِقَوَاعِدِ الْمُعْتَزِلَةِ الْأَوَّلُ، وَهُوَ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا غَيْرُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْحَسَنِ. وَالْأَوْفَقُ لِقَوَاعِدِنَا أَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيمَا لَوْ فَعَلَ خَصْلَةً، فَعَلَى هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: الْوَاجِبُ تَأَدَّى بِهَا لَا أَنَّهَا هِيَ الْوَاجِبُ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ، وَيَظْهَرُ لَهُ فَوَائِدُ فِي الْخَارِجِ: إحْدَاهَا: أَنَّهُ إذَا فَعَلَ خَصْلَةً يُقَالُ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ: إنَّهَا الْوَاجِبُ، وَعَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ يَتَأَدَّى بِهَا الْوَاجِبُ. الثَّانِيَةُ: إذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ مَعًا يُثَابُ عَلَى الْجَمِيعِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ لَمْ يَسْبِقْهَا غَيْرُهَا، وَعَلَى رَأْيِهِمْ يُثَابُ عَلَى وَاحِدَةٍ فَقَطْ، كَذَا نَقَلَ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ " وَالْآمِدِيَّ عَنْهُمْ وَكَأَنَّهُمْ يَعْنُونَ ثَوَابَ الْوَاجِبِ. الثَّالِثَةُ: إذَا تَرَكَ الْجَمِيعَ، وَقُلْنَا: لِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَّارَاتِ أُجْبِرَ عَلَى فِعْلِ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ عَلَى رَأَيْنَا، كَمَا نَقُولُ: الْقَاضِي يُكْرِهُ الْمُولِيَ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفَيْئَةِ أَوْ الطَّلَاقِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي، وَلَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا.

الرَّابِعَةُ: مَاتَ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ الْمُخَيَّرَةُ وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا، وَعَدَلَ الْوَارِثُ عَنْ أَعْلَى الْأُمُورِ أَيْ الْعِتْقِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَا مُخَرَّجَيْنِ مِنْ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ إنْ قُلْنَا: إنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ فَلَهُ إسْقَاطُ الْوُجُوبِ بِإِخْرَاجِ وَاحِدٍ، وَإِنْ قُلْنَا: أَحَدُهَا لَا بِعَيْنِهِ لَمْ يُجْزِئْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْوُجُوبِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ يُقَالُ بِمِثْلِهِ عِنْدَ فِعْلِ أَدْنَاهَا إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ وَجْهُ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ عَدَمَ التَّعْيِينِ لَمْ يَخْتَصَّ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ الْعُدُولُ إلَى الْأَعْلَى مَعَ إمْكَانِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِالْأَدْنَى فَهَذَا مَأْخَذُ غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَأَيْضًا التَّصَرُّفُ عَنْ الْمَيِّتِ لَا ضَرُورَةَ بِهِ إلَى فِعْلِ مَا لَا إثْمَ فِي تَرْكِهِ، وَإِنْ وَصَفْنَاهُ بِالْوُجُوبِ. الْخَامِسَةُ: لَوْ أَوْصَى فِي الْكَفَّارَةِ الْمُخَيَّرَةِ بِخَصْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَكَانَتْ قِيمَتُهَا تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ الْخَصْلَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ تَأْدِيَةُ وَاجِبٍ، وَهَذَا هُوَ قِيَاسُ كَوْنِ الْوَاجِبِ أَحَدَهَا. وَأَصَحُّهُمَا: اعْتِبَارُهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ، وَتَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِدُونِهِ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْكُلُّ وَاجِبٌ فَالْجَمِيعُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ مُبْهَمٌ فَالزَّائِدُ مِنْ الثُّلُثِ وَيَطْرُقُهُ النَّظَرُ السَّابِقُ. السَّادِسَةُ: حَلَفَ لَا مَالَ لَهُ، وَقَدْ جَنَى جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ عَيْنًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ حَنِثَ، كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَتَوَقَّفَ فِيهِ.

السَّابِعَةُ: لَوْ جَنَى عَلَى الْمُفْلِسِ أَوْ عَلَى عَبْدِهِ، وَقُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّ فِي الْمُخَيَّرِ يَجِبُ الْجَمِيعُ، فَلَيْسَ لَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قُلْنَا: بِالْآخَرِ كَانَ لَهُ. الثَّامِنَةُ: إذَا طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ أَوْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ، إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ مُبْهَمٌ، فَالطَّلَاقُ وَقَعَ مُبْهَمًا، فَلَا يَقَعُ إلَّا عِنْدَ التَّعْيِينِ، وَإِنْ قُلْنَا: وَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ فَمِنْ حِينِ اللَّفْظِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. التَّاسِعَةُ: تَيَمَّمَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ لَا يُجْزِئُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، الْحَجَرِ أَوْ الْمَاءِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ وُجُوبِ الْمَاءِ الطَّلَبُ، فَيَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ، إذْ لَا تَيَمُّمَ مَعَ وُجُوبِ الطَّلَبِ. [كَيْفِيَّةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ] وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَقَالَ الْقَاضِي: مِنْ حُجَجِ أَصْحَابِنَا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَوْ أَقْدَمَ عَلَى الْخِصَالِ الثَّلَاثِ فِي الْكَفَّارَةِ مَعًا، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بِأَنْ يُنَصِّبَ فِي تَأْدِيَتِهَا وُكَلَاءَ، فَتَتَّفِقُ أَفْعَالُهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ قَالُوا: أُجْمِعَ أَنَّهَا إذَا وَقَعَتْ فَالْوَاجِبُ مِنْهَا وَاحِدٌ. وَانْفَصَلَ أَبُو هَاشِمٍ عَنْ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ بِأَنَّ مَا اتَّصَفَ بِالْوُجُودِ لَا يَتَّصِفُ بِالْوُجُوبِ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِالشَّيْءِ مَعَ حُدُوثِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَبْلَ حُدُوثِهِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ قُبَيْلَ الِاسْتِطَاعَةِ عِنْدَهُ.

وَرَدَّهُ الْقَاضِي بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِفْهَا بِالْوُجُوبِ عِنْدَ الْوُجُودِ فَنَقُولُ: فِي كُلِّ مَا وَجَبَ قَبْلَ حُدُوثِهِ إذَا حَدَثَ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا، وَإِذَا وُجِدَتْ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ فِي الْكَفَّارَةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: كُلُّهَا وَاجِبَةٌ حَتَّى يُثَابَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَوَابَ الْوَاجِبِ. وَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ أَصْحَابِنَا مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ إذَا أُتِيَ بِالْجَمِيعِ مُنْتَقَدٌ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ أُثِيبَ ثَوَابَ أَعْلَاهَا، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْكُلِّ أَثِمَ بِتَرْكِ أَدْنَاهَا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مُحَقِّقًا لِذَلِكَ: يَأْثَمُ بِمِقْدَارِ عِقَابِ أَدْنَاهَا، لَا أَنَّهُ نَفْسُ عِقَابِ أَدْنَاهَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " نَحْوَهُ، فَقَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ فَالْوَاجِبُ أَعْلَاهَا؛ لِأَنَّهُ يُثَاب عَلَى جَمِيعِهَا، وَثَوَابُ الْوَاجِبِ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ النَّدْبِ، فَانْصَرَفَ الْوَاجِبُ إلَى أَعْلَاهَا؛ لِيَكْثُرَ ثَوَابُهُ، وَإِنْ تَرَكَ الْجَمِيعَ عُوقِبَ عَلَى أَدْنَاهَا لِيَقِلَّ وَبَالُهُ وَوِزْرُهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ سَقَطَ بِفِعْلِ الْأَدْنَى. انْتَهَى. وَظَنَّ بَعْضُهُمْ تَفَرُّدَ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ بِذَلِكَ، وَقَالَ: إنَّمَا هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. قُلْت: وَقَدْ سَبَقَ مُوَافَقَةُ ابْنِ بَرْهَانٍ لَهُ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَقَالَهُ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ فِي شَرْحِ الْمَعَالِمِ ": فَقَالَ: إذَا أَتَى بِالْخِصَالِ مَعًا فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَكِنَّ ثَوَابَ الْوَاجِبِ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ التَّطَوُّعِ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا عَلَى وَاحِدٍ فَقَطْ، وَهُوَ أَعْلَاهَا إنْ تَفَاوَتَتْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَحَصَلَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِضَافَةُ غَيْرِهِ إلَيْهِ لَا تَنْقُصُهُ، وَإِنْ تَسَاوَتْ فَإِلَى أَحَدِهَا، وَإِنْ تَرَكَ الْجَمِيعَ عُوقِبَ عَلَى أَقَلِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَأَجْزَأَهُ.

قُلْت: وَهَذَا نَظِيرُ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ فِي الصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ أَنَّ الْفَرْضَ أَكْمَلُهَا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا، وَاَللَّهُ يَحْتَسِبُ مَا شَاءَ مِنْهُمَا نَظِيرَ الْقَوْلِ الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي أَوَّلًا عَنْ أَصْحَابِنَا، وَحَكَوْا هُنَاكَ وَجْهًا: أَنَّ كِلَيْهِمَا فَرْضٌ، وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ هُنَا، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَحَكَى الْقَاضِي قَوْلًا ثَالِثًا: أَنَّ الَّذِي يَقَعُ وَاجِبًا هُوَ الْعِتْقُ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ ثَوَابًا؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ وَأَشَقُّ عَلَى النُّفُوسِ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَجِيءُ فِيمَا سَبَقَ قَوْلٌ رَابِعٌ: أَنَّهُ لَا يُثَابُ وَيُعَاقَبُ إلَّا عَلَى أَحَدِهَا؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ لَا بِعَيْنِهِ. وَيَجِيءُ خَامِسٌ: أَنَّهُ يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى أَدْنَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ، وَعَلَى الثَّانِي ثَوَابُ التَّطَوُّعِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِيمَا نَقَلَهُ الْمُتَوَلِّي فِي كِتَابِ النَّذْرِ فِيمَا إذَا الْتَزَمَ فِي اللَّجَاجِ، فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَزَمُ مِنْ جِنْسِ مَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَدْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْكَفَّارَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ وَفَّى بِمَا قَالَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تَطَوُّعًا. نَصَّ عَلَيْهِ. اهـ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ ": قَالَ شُيُوخُنَا: يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عَلَى أَدْوَنِهَا عِقَابًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَمْ يُعَاقَبْ. قَالَ: لَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِأَجْمَعِهَا لَا بِوَاحِدٍ مِنْهَا. قَالُوا: وَإِذَا فَعَلَهَا اسْتَحَقَّ ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى أَعْظَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ

وَحْدَهُ لَكَانَ وَاجِبًا، وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الثَّوَابَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ": إذَا تَرَكَ الْكُلَّ اسْتَحَقَّ مِقْدَارًا وَاحِدًا مِنْ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ الْكُلِّ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَرَكَ ثَلَاثَ وَاجِبَاتٍ عَلَيْهِ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: يُعَاقَبُ عَلَى أَدْنَاهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْكُلَّ يُضَاعَفُ عَذَابُهُ، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَقَادِيرَ مِنْ الْعِقَابِ بَعْضُهَا أَعْلَى وَبَعْضُهَا أَدْنَى بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَتَضَاعَفُ الثَّوَابُ، فَيَسْتَحِقُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ثَوَابًا، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: يُثَابُ عَلَى أَعْلَاهَا، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ، فَاخْتُلِفَ فِي الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ مِنْهَا، فَقِيلَ: أَعْلَاهَا، وَهُوَ رَأْيُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَأَشَارَ عَبْدُ الْجَلِيلِ إلَى مُنَاقَشَةٍ فِي هَذَا، فَقَالَ الْقَاضِي: يَقُولُ: إنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّرْكِ يَنْطَلِقُ الْإِثْمُ بِأَدْنَاهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْفِعْلِ تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ أَيْضًا بِأَدْنَاهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِوَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ. انْتَهَى. وَمَا نَاقَضَ فِيهِ عَبْدُ الْجَلِيلِ مَرْدُودٌ، فَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ تَوْجِيهُ الْفَرْقِ.

شروط التخيير

تَنْبِيهَانِ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ قَالَ فِي الْمَحْصُولِ: إنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ. وَيَشْهَدُ لَهُ اسْتِحْبَابُ إعَادَةِ الصَّلَاةِ لِمَنْ صَلَّاهَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ. [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي: هَذَا كُلُّهُ إذَا فَعَلَ الْكُلّ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ أَتَى بِالْكَفَّارَةِ الْمُخَيَّرَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَقَالَ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْوَاجِبُ، وَقَدْ يُقَالُ: لَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: بِالْوُقُوعِ كَمَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ ثَانِيًا، وَقَدْ يُقَالُ بِاحْتِمَالٍ ثَالِثٍ: إنَّهَا إنْ اقْتَرَنَتْ بِمَعْنًى يَقْتَضِي الطَّلَبَ وَقَعَتْ عَنْ الْكَفَّارَةِ، ثُمَّ هَلْ تَكُونُ وَاجِبَةً؟ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ، وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. [شُرُوطُ التَّخْيِير] [شُرُوطُ التَّخْيِيرِ] وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ شُرُوطُ التَّخْيِيرِ، وَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ شُرُوطًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا يَصِحُّ اكْتِسَابُهُ.

الثَّانِي: أَنْ تَتَسَاوَى الْأَشْيَاءُ فِي الرُّتْبَةِ مِنْ جِهَةِ التَّخْيِيرِ فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُتَضَادَّةً أَوْ مُخْتَلِفَةً، فَلَا يَجُوزُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ قَبِيحٍ وَمُبَاحٍ، وَلَا بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ، وَإِلَّا لَانْقَلَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَلَا بَيْنَ حَرَامٍ وَوَاجِبٍ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَنَقِيضِهِ يَرْفَعُ التَّحْرِيمَ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَتَرْكِهِ يَرْفَعُ الْوُجُوبَ. وَلِهَذَا إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ تَسَاقَطَا وَامْتَنَعَ التَّخْيِيرُ. وَلِهَذَا أَيْضًا رَدُّوا عَلَى دَاوُد اسْتِدْلَالَهُ عَلَى وُجُوبِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] تَخْيِيرٌ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ مِلْكِ الْيَمِينِ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ إجْمَاعًا، فَلِذَلِكَ مَا خُيِّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ عَلَى ذَلِكَ قَضِيَّةُ تَخْيِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بَيْنَ الْخَمْرِ وَاللَّبَنِ، فَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ فِي تَحْرِيمِ مَا يَحْرُمُ، وَتَحْلِيلُ مَا يَحِلُّ إلَى اجْتِهَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَدَادِ نَظَرِهِ الْمَعْصُومِ، فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَتَحْلِيلِ اللَّبَنِ، فَوَافَقَ الصَّوَابَ. قُلْتُ: وَأَصْلُ السُّؤَالِ غَيْرُ وَارِدٍ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّخْيِيرَ وَقَعَ بَيْنَ مُبَاحٍ

وَحَرَامٍ، إذْ تِلْكَ الْخَمْرَةُ مِنْ الْجَنَّةِ، لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجْتَنِبهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَمَّا شَابَهَتْ الْخَمْرَةَ الْمُحَرَّمَةَ تَجَنَّبَهَا، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْوَرَعِ وَأَدَقُّ سَلَّمْنَا. إلَّا أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ حِينَئِذٍ مُبَاحَةٌ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْإِسْرَاءُ كَانَ بِمَكَّةَ. فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُ حِينَ اخْتَارَ اللَّبَنَ: أَصَبْتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اخْتِيَارَ الْخَمْرِ خَطَأٌ عُصِمَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْتُ: يُؤْنَسُ فِيهَا بِالتَّحْرِيمِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْغَزَالِيَّ فِي الْمُسْتَصْفَى " عِنْدَ الْكَلَامِ فِي تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَشَارَ إلَى احْتِمَالٍ بِالتَّخْيِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي الرُّتْبَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا يُنَاقِضُ جَوَازَ التَّرْكِ مُطْلَقًا، أَمَّا جَوَازُهُ بِشَرْطٍ فَلَا. بِدَلِيلِ: أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى التَّرَاخِي، وَإِذَا أَخَّرَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَمْ يَعْصِ إذَا أَخَّرَ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى الِامْتِثَالِ، فَظَهَرَ أَنَّ تَرْكَهُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ لَا يُنَاقِضُ الْوُجُوبَ، بَلْ الْمُسَافِرُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَرْضًا، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ رَكْعَتَيْنِ وَاجِبَتَيْنِ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُمَا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ قَصْدِ التَّرَخُّصِ. ثَانِيهِمَا: لَا يَرِدُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ بِأَنَّهَا مُخَيَّرٌ فِيهَا، وَلَيْسَ الْجَمِيعُ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَا مِنْ وَاحِدَةٍ يُمْكِنُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا إلَّا وَتَقَعُ وَاجِبًا. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مُرَادُنَا بِالتَّسَاوِي. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُتَمَيِّزَةً لِلْمُكَلَّفِ فَلَا يَجُوزُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ

جَمِيعِ الْوُجُوهِ لَا يَتَخَصَّصُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِوَصْفٍ، كَمَا لَوْ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي كُلِّ النُّعُوتِ. هَذَا مِمَّا لَا يُدْرَكُ فِي حُكْمِ التَّكْلِيفِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَمَاثِلَانِ مُتَغَايِرَيْنِ كَمَا أَنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ مُتَغَايِرَانِ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا وَاحِدًا بِأَنْ يَتَأَتَّى الْإِتْيَانُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَدَلًا عَنْ أَغْيَارِهَا، فَلَوْ ذُكِرَ لِلْمُخَاطَبِ فِعْلَانِ مُؤَقَّتَانِ بِوَقْتَيْنِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخَيُّرًا، فَإِنَّهُ فِي وَقْتِ الْإِمْكَانِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفِعْلِ الثَّانِي لِيَتَنَجَّزَ، وَفِي الثَّانِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَا يَتَحَقَّقُ وَصْفُ التَّخْيِيرِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي وَصْفَيْنِ يَجُوزُ ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا بَدَلًا عَنْ الثَّانِي مَعَ تَقْدِيرِ اتِّحَادِ الْوَقْتِ. هَكَذَا شَرَطَهُ الْقَاضِي، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي وُجُوبِ الْعَزْمِ بَدَلًا عَنْ الْفِعْلِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ فِي هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: خِطْ هَذَا الْقَمِيصَ يَوْمَ السَّبْتِ، أَوْ هَذَا الْقَبَاءَ يَوْمَ الْأَحَدِ كَانَ تَخْيِيرًا صَحِيحًا، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ يَقَعُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، كَقُمْ أَوْ اُقْعُدْ، أَوْ خِلَافَيْنِ، كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، أَوْ مِثْلَيْنِ كَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، وَزَعَمَ الْمَازِرِيُّ أَنَّهُ لَا يَرِدُ التَّكْلِيفُ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَفِيهِ نَظَرٌ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى الرَّافِعِيِّ وَصَاحِبِ الْحَاوِي الصَّغِيرِ " حَيْثُ جَعَلَا غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ أَوْ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالْعِتْقِ

وَالْإِطْعَامِ مَثَلًا. بَلْ مَسْحُ الْخُفِّ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشُرُوطٍ، وَإِذَا لَبِسَهُ بِشَرْطِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ دَوَامِ اللُّبْسِ التَّخْيِيرُ بَلْ وَاجِبُهُ الْمَسْحُ، فَإِنْ نُزِعَ فَالْغَسْلُ؛ وَلِأَنَّ غَسْلَ الرِّجْلِ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ فَوَاتِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ إلَّا أَنْ يُقَال: إنَّ الرِّجْلَ تُغْسَلُ وَهِيَ فِي الْخُفِّ. تَنْبِيهٌ [مَنْعُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَعْضِهِ] مَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَعْضِهِ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إتْمَامِ الصَّلَاةِ وَقَصْرِهَا، وَمَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَعْضِهِ. فُرُوعٌ إذَا خُيِّرَ الْعَبْدُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ فَمَا عَلِمَ اللَّهُ وُقُوعَهُ مِنْهُ فَهُوَ مُرَادُهُ مِنْهُ، فَالْإِرَادَةُ مَعَ الْعِلْمِ فِي قَرْنٍ قَالَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَنَا فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ إلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَعِنْدَهُمْ هُمْ إذَا خُيِّرَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ أَتَى بِالْجَمِيعِ أُثِيبَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَمَا كَانَ حَسَنًا كَانَ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالتَّزْوِيجِ بَيْنَ الْأَكْفَاءِ، وَنَصْبِ الْأَئِمَّةِ، فَوَاحِدٌ مُرَادٌ، وَالْجَمْعُ مَكْرُوهٌ.

مسألتان في الكفارة

[مَسْأَلَتَانِ فِي الْكَفَّارَة] [الْأُولَى تَعْيِينُ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ] مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا [تَعْيِينُ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ] إذَا عَيَّنَ الْمُكَلَّفُ خَصْلَةً مِنْ الْخِصَالِ هَلْ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؟ يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ خِلَافٌ مِنْ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ الْمُخَيَّرَةِ، هَلْ يُعْتَبَرُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ مِنْ الثُّلُثِ؟ ثُمَّ رَأَيْت فِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ فِي بَابِ النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ خَصْلَةٌ بِالنَّذْرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الشُّرُوعُ بخصلة هَلْ يُعَيِّنُهَا] ؟] لَوْ شَرَعَ فِي خَصْلَةٍ هَلْ تَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا ثُمَّ أَرَادَ فِعْلَ غَيْرِهَا لَا يُجْزِئُهُ اعْتِبَارُ الْعَارِضِ أَوْ لَا تَتَعَيَّنُ اسْتِصْحَابًا لِلثَّابِتِ؟ لَمْ أَرَ فِيهَا أَيْضًا تَصْرِيحًا. تَذْنِيبٌ: إذَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ وَاحِدًا مِنْ أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ وَأَمْكَنَ التَّلْفِيقُ، فَهَلْ الْوَاجِبُ وَاحِدٌ مِنْهَا مُبْهَمٌ أَوْ الْوَاجِبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ جُزْءٌ؟ لَمْ أَرَ لِلْأُصُولِيِّينَ فِيهَا كَلَامًا، وَيُخَرَّجَ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا فِي الْفُرُوعِ فِيهَا وَجْهَانِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ شَاةٌ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً. وَاخْتَلَفُوا هَلْ الْوَاجِبُ مَثَلًا جُزْءٌ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، أَوْ حَيَوَانٌ مُبْهَمٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ مَا إذَا بَاعَ الْجَمِيعَ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ خَرَجَ عَلَى تَفْرِيقِ

فائدة معظم العبادات على التخيير

الصَّفْقَةِ، أَوْ بِالثَّانِي فَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ، " يَبْطُلُ فِي الْجَمِيعِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ ". قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ النِّصَابُ مُخْتَلِفًا كَمَا إذَا اشْتَمَلَ عَلَى كِبَارٍ وَصِغَارٍ، فَالْحُكْمُ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ لِلتَّسَاوِي فِي الْأَسْنَانِ وَتَقَارُبِ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ فِيمَا عَدَا قَدْرَ الزَّكَاةِ وَجْهَانِ، فَإِنَّ الْمَاوَرْدِيَّ قَدْ ذَكَرَ هَذَا التَّفْصِيلَ بِعَيْنِهِ فِي نَظِيرِهِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الشَّاةَ. وَمِنْ نَظَائِرِ الْمَسْأَلَةِ: مَا لَوْ بَاعَهُ صَاعًا مِنْ صُبْرَةٍ مَعْلُومَةِ الصِّيعَانِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَهَلْ يَنْزِلُ عَلَى الْإِبْهَامِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ حَتَّى يَبْقَى الْبَيْعُ مَا بَقِيَ صَاعٌ أَوْ عَلَى الْإِشَاعَةِ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي ذَلِكَ الصَّاعُ نِسْبَتُهُ إلَى جُمْلَةِ الصُّبْرَةِ، فَيَكُونُ الْمَبِيعُ، عَلَى هَذَا عُشْرَ الصُّبْرَةِ حَتَّى لَوْ تَلِفَ بَعْضُهَا تَلِفَ مِنْهُ بِقَدْرِهِ؟ وَالْأَصَحُّ الثَّانِي، وَبِهِ يَظْهَرُ التَّرْجِيحُ فِي مَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ. [فَائِدَةٌ مُعْظَمُ الْعِبَادَاتِ عَلَى التَّخْيِيرِ] ِ] قَالَ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ فِي التَّخْلِيصِ ": مُعْظَمُ الْعِبَادَاتِ فِي الشَّرْعِ عَلَى التَّخْيِيرِ، إلَّا مَا شَذَّ وَنَدَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِأَيِّ مَاءٍ شَاءَ، وَيُصَلِّي فِي أَيِّ مَكَان مَعَ أَيٍّ لَبُوسٍ شَاءَ؟ وَمَنْ لَزِمَهُ عِتْقٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ مِنْ أَيِّ الرِّقَابِ الْمُجْزِئَةِ؟ وَمَنْ لَزِمَتْهُ الصَّدَقَةُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَعْيَانِ الدَّرَاهِمِ.

تتمة وجوب الأشياء قد يكون على التخيير

تَنْبِيهٌ [جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّخْيِيرُ] مَا وَقَعَ فِيهِ التَّخْيِيرُ قَدْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَقْلًا وَشَرْعًا، كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ يُمْنَعُ عَقْلًا وَشَرْعًا، كَالتَّأْجِيلِ وَالتَّعْجِيلِ بِمِنًى، وَقَدْ يُمْكِنُ عَقْلًا لَا شَرْعًا كَالتَّزْوِيجِ مِنْ الْخَاطِبِينَ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ عَقِيمٌ. وَقَسَّمَ الصَّيْرَفِيُّ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ إلَى مَا يَرْجِعُ لِشَهْوَةِ الْمُكَلَّفِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْأَصْلَحِ وَلَا لِلْمَسَاكِينِ، وَإِلَى مَا يَجِبُ فِيهِ اخْتِيَارُ الْأَصْلَحِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْمَلِينَ، كَتَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي الْكَافِرِ الْأَسِيرِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، وَالرِّقِّ، وَكَأَخْذِ الصَّدَقَةِ إذَا اجْتَمَعَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَأَرْبَعُ حِقَاقٍ فِي فَرْضِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصْلَحَ لِلْمَسَاكِينِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْوَسَطُ مَالَهُ. [تَتِمَّةٌ وُجُوبُ الْأَشْيَاءِ قَدْ يَكُونُ عَلَى التَّخْيِيرِ] ِ] وُجُوبُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْمُكَلَّفِ قَدْ يَكُونُ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَرَامًا، كَالتَّزْوِيجِ مِنْ الْكُفْأَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا، كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ بِثَوْبٍ بَعْدَ ثَوْبٍ، وَقَدْ يَكُونُ نَدْبًا، كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، كَذَا قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ " وَفِي الْأَوَّلِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا مِنْ الْمُخَيَّرِ، نَعَمْ نَظِيرُهُ لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ أَحَدَ

هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ. وَكَذَا تَمْثِيلُهُ الثَّانِي بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِثَوْبٍ زَائِدٍ عَلَى الثِّيَابِ الْمُسَوَّمَةِ، وَأَيْضًا فَالْمُبَاحُ لُبْسُ الثَّانِي، ثُمَّ الزَّائِدُ لَيْسَ بِسَاتِرٍ لِلْعَوْرَةِ، وَحُكْمُهُ بِالنَّدْبِ عَلَى الثَّالِثِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَلَمْ نَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِالِاحْتِيَاطِ لَهُ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى تَعْدَادِ الرِّقَابِ فِيمَنْ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا بِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَكَانَتْ نَذَرَتْ تَرْكَ كَلَامِهِ أَعْتَقَتْ رِقَابًا كَثِيرَةً. وَلَعَلَّ مُرَادَ الْإِمَامِ أَنَّ الْجَمْعَ قَبْلَ فِعْلِهِ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، بَلْ إذَا فَعَلَهُ بَعْدَ فِعْلِ غَيْرِهِ يَقَعُ مُسْتَحَبًّا بِنَاءً عَلَى ثَوَابِ النَّدْبِ كَالنَّافِلَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَيَشْهَدُ لَهُ تَمْثِيلُهُمْ لِلْمُخَيَّرِ الْمُبَاحِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ بِثَوْبٍ بَعْدَ آخَرَ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُمَثَّلَ لَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْحَجَرِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَدْ يَكُونُ الْجَمْعُ حَرَامًا كَالْمُضْطَرِّ الْوَاجِدِ مُذَكَّاةً وَمَيْتَةً كَذَا مَثَّلَهُ فِي الْمَحْصُولِ "، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ إنَّمَا هُوَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، إذْ لَا تَدْخُلُ الْمُذَكَّاةُ فِي الْحُرْمَةِ، وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ إنَّمَا يَكُونُ لِعِلَّةٍ دَائِرَةٍ بَيْنَ الْمُفْرَدَيْنِ. وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا، وَمَثَّلَهُ فِي الْمَحْصُولِ " بِالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَغَلِطَ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَخْتَصُّ بِحَالِ الْعَجْزِ. وَصَوَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إذَا خَافَ مِنْ اسْتِعْمَالِ

الْمَاءِ لِمَرَضٍ وَلَمْ يَنْتَهِ خَوْفُهُ إلَى الْقَطْعِ أَوْ الظَّنِّ بِالضَّرَرِ الْمَانِعِ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ التَّيَمُّمُ، لِأَجْلِ الْخَوْفِ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْوُضُوءُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الضَّرَرِ، فَإِذَا تَوَضَّأَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ جَازَ، ثُمَّ خَدَشَ فِيهِ بِأَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ بَطَلَ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ ذَلِكَ، إذْ الْمُبِيحُ قَائِمٌ، وَيُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُوَرٍ: أَحَدُهَا: إذَا وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ، فَلَوْ تَيَمَّمَ، ثُمَّ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، أَرَادَ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِشِرَاءِ الْمَاءِ وَالْوُضُوءِ بِهِ جَازَ. الثَّانِيَةُ: لَوْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِعَطَشٍ، وَلَوْ تَوَضَّأَ بِهِ لَاحْتَاجَ إلَى شِرَائِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَا مَعَهُ فِي الْوُضُوءِ وَيَشْتَرِي الْمَاءَ لِلشُّرْبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَيَمَّمَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالَ مَا مَعَهُ وَشِرَاءَ الْمَاءِ لِلشُّرْبِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إذَا ارْتَفَعَ سِعْرُهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، وَحَاجَتُهُ إلَى الشُّرْبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الَّذِي مَعَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا تَوَضَّأَ بَطَلَ التَّيَمُّمُ إذْ لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ بُطْلَانُهُ بَلْ التَّيَمُّمُ الْمُتَقَدِّمُ لَا يُبْطِلُهُ الْوُضُوءُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إدْخَالُ عِبَادَةٍ عَلَى أُخْرَى وَهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: التَّيَمُّمُ لَا يَصِحُّ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ الَّذِي يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ. أَمَّا مَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَهُ كَهَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي صَوَّرْنَاهَا فَلَا.

وَيُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا أَيْضًا مَعَ تَأَخُّرِ التَّيَمُّمِ فِي صُوَرٍ. إحْدَاهَا: إذَا وَجَدَ مَاءً لِلْوُضُوءِ، ثُمَّ لَمْ يُوجَدْ مَاءٌ يَغْتَسِلُ بِهِ لِلْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ عَنْ الْغُسْلِ، وَمِثْلُهُ مُرِيدُ الْإِحْرَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِبَاحَةِ: جَوَازُ الْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ: لَوْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى وَأَرَادَ التَّجْدِيدَ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ عِوَضًا عَنْ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ، كَمَا يَتَيَمَّمُ لِلْغُسْلِ عَنْ الْجُمُعَةِ. هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْفِقْهُ. الثَّالِثَةُ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ الْوَدَائِعِ " فِي الْمَاءِ الْمُخْتَلَفِ فِي طَهُورِيَّتِهِ، كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَالنَّبِيذِ الَّذِي يُجَوِّزُ أَبُو حَنِيفَةَ الطَّهَارَةَ بِهِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ. الرَّابِعَةُ: الرَّائِدُ لِلْجُمُعَةِ إذَا وَجَدَ مَا لَا يَكْفِيهِ لِلْغُسْلِ، وَيَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ تَوَضَّأَ بِهِ وَتَيَمَّمَ، وَكَذَلِكَ مَرِيدُ الْإِحْرَامِ. كُلُّ التَّيَمُّمِ هَاهُنَا عَنْ الْغُسْلِ، وَهَذِهِ صُورَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الدَّوَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ صُورَةَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ بِعُضْوِهِ جِرَاحَةٌ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَتَيَمَّمُ عَنْ الْجَرِيحِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ سَكَتَ فِي هَذَا الْقِسْمِ عَنْ الْمَكْرُوهِ الْجَمْعِ، وَالْوَاجِبِ الْجَمْعِ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْجَمْعِ مَعَ التَّرْتِيبِ فَلَا يُمْكِنُ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُرَتَّبِ فَكَلَحْمِ الْجَلَّالَةِ وَالْمُذَكَّى لِلْمُضْطَرِّ.

فَائِدَةٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ: الْوَاجِبُ هَذَا وَالْآخَرُ بَدَلٌ عَنْ هَذَا، كَمَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، هَلْ الْوَاجِبُ الْقَوَدُ وَالدِّيَةُ بَدَلٌ عَنْهُ أَوْ أَحَدُهُمَا؟ أَنَّ الثَّانِيَ فِيهِ تَرْتِيبٌ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَالْأَوَّلُ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ. فَائِدَةُ ثَانِيَةٌ حُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَمَرَ اللَّه بِأَشْيَاءَ، وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ نَظَرْت، فَإِنْ بَدَأَ بِالْأَغْلَظِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْأَخَفَّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى التَّرْتِيبِ بِدَلِيلِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَإِنْ بَدَأَ بِالْأَخَفِّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى التَّخْيِيرِ بِدَلِيلِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ". وَقَدْ يُورَدُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ قَتْلِ الصَّيْدِ، فَإِنَّهَا مَبْدُوءَةٌ بِالْأَغْلَظِ، وَهُوَ إيجَابُ مِثْلِ الصَّيْدِ مَعَ أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ. نَعَمْ حَكَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ كَفَّارَاتِ النُّفُوسِ لَا تَخْيِيرَ فِيهَا، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ: كَلِمَةُ " أَوْ " مَتَى ذُكِرَتْ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَسْبَابِ فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ، كَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ، وَإِلَّا فَلِلتَّخْيِيرِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ.

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهِ " أَوْ " فَهُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إلَّا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] فَلَيْسَ بِمُخَيِّرٍ فِيهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَبِمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَقُولُ. أَيْ: إنَّهَا لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ بَلْ لِبَيَانِ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحُرْمَةِ، وَمِثْلُهُ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» فَإِنَّ أَصَحَّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَخَيَّرُ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ " أَوْ " فِيهِ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّخْيِيرِ أَيْ: صَاعًا مِنْ

تَمْرٍ إنْ كَانَ غَالِبَ قُوتِ بَلَدِهِ، أَوْ مِنْ شَعِيرٍ إنْ كَانَ غَالِبَ قُوتِ بَلَدِهِ. تَنْبِيهٌ [تَمْثِيلُ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِآيَةِ الْكَفَّارَةِ] اسْتَشْكَلَ الْعَبْدَرِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى " تَمْثِيلَ الْأَئِمَّةِ لِلْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِآيَةِ الْكَفَّارَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ " أَوْ " تَكُونُ فِي الْخَبَرِ لِلشَّكِّ وَفِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلتَّخْيِيرِ أَوْ لِلْإِبَاحَةِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، فَقَالُوا: إذَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ الْفِعْلَيْنِ فِي التَّخْيِيرِ كَانَ عَاصِيًا، وَإِذَا فَعَلَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فِي الْإِبَاحَةِ كَانَ مُطِيعًا. قَالَ: فَالشَّائِعُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ تُسَمَّى الْكَفَّارَةُ وَاجِبًا مُبَاحَةٌ أَنْوَاعُهُ، لَا وَاجِبَ مُخَيَّرٍ فِي أَنْوَاعِهِ. وَهَذَا السُّؤَالُ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْبَسِيطِ " عَنْ النَّحْوِيِّينَ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَحْظُورِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الْأَمْرُ، وَالْآخَرُ يَبْقَى مَحْظُورًا لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا عَدَا الْوَاجِبِ تَبَرُّعًا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ التَّبَرُّعِ. وَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهُ فِي الْجَمْعِ الْإِتْيَانُ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهُ الْوَاجِبُ، أَمَّا لَوْ أَتَى بِالْجَمِيعِ لَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ جَائِزٌ قَطْعًا، وَأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَجَوَازُ غَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ. حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا لَمْ يَجُزْ، كَمَا إذَا قَالَ: بِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ ذَاكَ.

فَائِدَةٌ [الْأَبْدَالُ تَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلَاتِ] قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي الْقَوَاعِدِ ": الْأَبْدَالُ إنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلَاتِ فِي وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِهَا إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ مُبْدَلَاتِهَا فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِالْإِتْيَانِ بِهَا، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُمَا لَيْسَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ الْأَجْرَ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، وَلَيْسَ الصَّوْمُ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْإِعْتَاقِ وَلَا الْإِطْعَامُ كَالصِّيَامِ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ التَّيَمُّمُ كَالْوُضُوءِ إذْ لَوْ تَسَاوَتْ الْأَبْدَالُ وَالْمُبْدَلَاتُ لَمَا شُرِطَ فِي الِانْتِقَالِ إلَى الْأَبْدَالِ فَقْدُ الْمُبْدَلَاتِ. اهـ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ أُمُورٌ مِنْهَا: الْجُمُعَةُ بَدَلٌ مِنْ الظُّهْرِ عَلَى رَأْيٍ مَعَ أَنَّ حُكْمَهَا عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ اشْتِرَاطِ تَعَذُّرِ الْمُبْدَلِ، فَإِنَّهُ هُنَا أَعْنِي الْجُمُعَةَ لَا تُعْدَلُ إلَى الْبَدَلِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُبْدَلِ. فَمَنْ لَازَمَهُ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ هَاهُنَا أَفْضَلَ مِنْ الْمُبْدَلِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَعْدِلُ مِنْ شَيْءٍ إلَى آخَرَ لِلْأَفْضَلِيَّةِ غَالِبًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى مَا إذَا كَانَ سَبَبُ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مُتَّحِدًا، كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ، أَوْ عَلَى الْغَالِبِ، أَوْ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْبَدَلُ أَخَصَّ مِنْ الْمُبْدَلِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، ثُمَّ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ قِيلَ: إنَّهُ بَدَلٌ مِنْ غَسْلِ الرِّجْلِ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الْوُضُوءِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا الْغَسْلُ أَوْ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا، وَالْحَقُّ خِلَافُهُ كَمَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّخْيِيرِ.

مَسْأَلَةٌ [الْفِعْلُ إمَّا أَنْ يَزِيدَ عَنْ وَقْتِهِ وَإِمَّا أَنْ يُسَاوِيَ] الْفِعْلُ إمَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى وَقْتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ إيقَاعَ الْفِعْلِ جَمِيعِهِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي لَا يَسَعُهُ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ. يُجَوِّزُهُ مَنْ يُجَوِّزُهُ وَيَمْنَعُهُ مَنْ يَمْنَعُهُ، وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيُتِمَّ بَعْدَهُ، أَوْ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ وَيَفْعَلَهُ كُلَّهُ بَعْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ، كَإِيجَابِ الظُّهْرِ عَلَى مَنْ زَالَ عُذْرُهُ آخِرَ الْوَقْتِ، فَأَدْرَكَ قَدْرَ رَكْعَةٍ مِنْ آخِرِهِ، وَكَذَا تَكْبِيرَةٌ عَلَى الْأَظْهَرِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ قَدْرَ إمْكَانِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ. وَإِمَّا أَنْ يُسَاوِيَ وَيُسَمَّى " بِالْمِعْيَارِ " كَالصَّوْمِ الْمُعَلَّقِ بِمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَوَقْتِ الْمَغْرِبِ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَكَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِلْعَمَلِ فِيهِ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ. [الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ] وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ التَّسَاوِيَ إلَى مَا يَكُونُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَإِلَى مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَقَضَائِهِ، وَأَثْبَتُوا مِنْ الْأَقْسَامِ مَا لَا يُعْلَمُ زِيَادَتُهُ وَلَا مُسَاوَاتُهُ، وَهُوَ الْوَاجِبُ الْمُشْكِلُ كَالْحَجِّ. وَإِمَّا نَاقِصٌ عَنْهُ كَالصَّلَاةِ، وَيُسَمَّى " الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَرَفَ بِهِ، وَهُمْ الْجُمْهُورُ، وَالْإِشْكَالُ فِيهِ وَفِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ سَوَاءٌ، إذْ لِأَجْلِهِ أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ

هُنَا، وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَلْزَمُهُ الْمَنْعُ مِنْ التَّرْكِ، وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ إخْلَاؤُهُ عَنْ الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْوُجُوبَ. وَحَلُّ الْإِشْكَالِ فِيهِمَا أَنْ يُقَالَ: كُلُّ فَرْدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْرَادِ أَعْنِي: مِنْ أَفْرَادِ الْوَقْتِ وَأَفْرَادِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ لَهُ جِهَةُ عُمُومٍ، وَهُوَ كَوْنُهُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَجِهَةُ خُصُوصٍ وَهُوَ مَا بِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمُتَعَلَّقُ الْوُجُوبِ جِهَةُ الْعُمُومِ وَتِلْكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا بِوَجْهٍ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُتْرَكُ فِي الْمُوَسَّعِ بِإِخْلَاءِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَفِي الْمُخَيَّرِ تَرْكُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يُوجَدْ الْمُنَافِي لِلْوُجُوبِ، فَهُوَ جَائِزُ التَّرْكِ فِيمَا جَعَلْنَاهُ مُتَعَلَّقَ الْوُجُوبِ. أَمَّا جِهَةُ الْخُصُوصِ فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لِجَوَازِ تَرْكِهَا إلَى غَيْرِهَا وَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ اضْطَرَبَ الْمُحَصِّلُونَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ، فَقِيلَ: إنَّمَا يَعْصِي بِتَفْوِيتِهِ وَلَا تَفْوِيتَ إلَّا بِالْمَوْتِ، وَالزَّمَانُ ظَرْفٌ لِلْوُجُوبِ، وَالْوَاجِبُ لَا يُنْسَبُ إلَى زَمَانٍ، كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الثَّانِي، فَقِيلَ لَهُمْ: الْعَزْمُ نَتِيجَةُ الِاعْتِقَادِ ضَرُورَةً لَا بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، وَلَا يُتَخَيَّلُ ذَلِكَ مَعَ التَّمَكُّنِ. اهـ. إذَا عَرَفْت هَذَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّ الْمُوَسَّعَ مَوْجُودٌ وَالْوَقْتُ جَمِيعُهُ

جواز ترك الواجب الموسع أول الوقت

ظَرْفٌ لِلْوُجُوبِ عَلَى مَعْنًى فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْهُ أَوْقَعَهُ تَأَدَّى الْوَاجِبُ، وَجَوَّزُوا التَّأْخِيرَ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يَضِيقَ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنٍّ فَوَاتُهُ بَعْدَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ. اهـ. وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " عَنْ أَبِي زَيْدٍ مِنْهُمْ أَيْضًا، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي شُجَاعٍ، وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ الْجِبَائِيَّيْنِ، وَأَصْحَابِنَا. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ الشَّارِعِ، وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ الِارْتِفَاقُ فِيهِ، كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبِ أَحَدُهَا، وَلَا يَتَعَيَّنُ مِنْهَا شَيْءٌ بِتَعْيِينِ الْمُكَلَّفِ نَصًّا وَلَا قَصْدًا بِأَنْ يَنْوِيَهُ، بَلْ يَخْتَارُ أَيَّهَا شَاءَ فَيَفْعَلُهُ، فَيَصِيرُ هُوَ الْوَاجِبَ. [جَوَازُ تَرْكِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَوَّلَ الْوَقْتِ] [جَوَازُ تَرْكِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَوَّلَ الْوَقْتِ] وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِفُونَ بِالْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَرْكِهِ أَوَّلَ الْوَقْتِ بِلَا بَدَلٍ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي إيقَاعَ الْفِعْلِ فِي أَيِّ جُزْءٍ كَانَ، فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَا يُشْتَرَطُ الْبَدَلُ وَلَا يَعْصِي حَتَّى يَخْلُوَ الْوَقْتُ كُلُّهُ عَنْهُ.

الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ] وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ فِي ثَانِي الْحَالِ، وَإِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ تَعَيَّنَ الْفِعْلُ حَتَّى يَتَمَيَّزَ بِذَلِكَ الْوَاجِبُ عَنْ فِعْلِ النَّفْلِ، فَلَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ مَعَ الْعَزْمِ لَمْ يَعْصِ، وَهَذَا مَا صَارَ إلَيْهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَعَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّينَ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى، وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَالْبَصْرِيُّ فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ إلَى الْعَزْمِ بَلْ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ بِدُونِهِ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا. حَكَاهُمَا الْقَاضِيَانِ الطَّبَرِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَالصَّحِيحُ مِنْهُمَا كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ: وُجُوبُ الْعَزْمِ؛ وَلِهَذَا أَوْجَبُوهُ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي جَمْعِ التَّأْخِيرِ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَدْيُونُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ مَا لَمْ يُطَالَبْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَزْمُ عَلَى أَدَائِهِ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَمِمَّنْ أَنْكَرَ الْعَزْمَ عَلَى الْقَاضِي إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لِتَخَيُّلِهِ أَمْرَيْنِ نَسَبَهُمَا إلَيْهِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ أَخَذَ الْعَزْمَ مِنْ الصِّيغَةِ، وَلَا ظُهُورَ لَهُ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ يَتَوَقَّفُ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ قَاطِعٌ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ، فَكَيْفَ لَا يَتَوَقَّفُ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِيهِ احْتِمَالٌ؟ . وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ جَعَلَ الْعَزْمَ بَدَلًا مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ حَتَّى إذَا وَجَبَ الْعَزْمُ سَقَطَ وُجُوبُ نَفْسِ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا أَخَذَ الْقَاضِي الْعَزْمَ

مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الصِّيغَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْعَزْمُ عِنْدَهُ بَدَلٌ مِنْ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ، فَإِذَا عَزَمَ فَقَدْ سَقَطَ وُجُوبُ التَّقْدِيمِ لَا بَدَلٌ مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ. وَكَذَا أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ قَالَ: وَلَعَلَّهُ يَقُولُ: حُكْمُ الْعَزْمِ الْأَوَّلِ يَنْسَحِبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يَجِبُ تَذَكُّرُهُ فِي كُلِّ حَالٍ، كَالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: وَعِنْدَهُ أَنَّ دَلِيلَ الْعَزْمِ لَا يُتَلَقَّى مِنْ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ خُرُوجٌ عَظِيمٌ، وَأَدْنَى مَا فِيهِ الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُشْعِرْ بِهِ اللَّفْظُ، قَالَ: وَمِنْ عَجِيبِ الْأَمْرِ تَوَقُّفُ الْقَاضِي فِي صِيغَةِ " افْعَلْ " إذَا وَرَدَتْ عَلَى التَّرَدُّدِ، ثُمَّ الْتِزَامُ إثْبَاتِ الْعَزْمِ الَّذِي لَيْسَ فِي اللَّفْظِ إشْعَارٌ بِهِ، ثُمَّ إنَّهُ وَجَبَ فِي كُلِّ وَقْتٍ الْفِعْلُ أَوْ الْعَزْمُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْفِعْلَ عَنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَى التَّعْيِينِ. قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُخَاطَبِ الِاعْتِنَاءُ بِالْعَزْمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَّا تَيَقُّنَ الِامْتِثَالِ فِيهِ. وَأَطْنَبَ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ فِي تَزْيِيفِ الْقَوْلِ بِالْعَزْمِ، وَقَالَ: يَجِبُ طَرْحُهُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ، وَلَا يُحْفَظُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ طَرِيقَةً وُسْطَى وَهِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَافِلِ عَنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَزْمُ، وَبَيْنَ مَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْفِعْلِ عَزَمَ عَلَى التَّرْكِ ضَرُورَةً، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْقَرَافِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ "، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ لِمَذْهَبِ الْقَاضِي، إذْ لَيْسَ لَنَا قَائِلٌ بِوُجُوبِ الْعَزْمِ مَعَ الْغَفْلَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَمَّا كَانَ الْقَاضِي وَابْنُ فُورَكٍ يَرَيَانِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ

الْوَقْتِ قَبْلَ الْفِعْلِ لَا يَأْثَمُ أَلْزَمُوا الْجَمْعَ بَيْنَ إبَاحَةِ الشَّيْءِ وَالتَّأْثِيمِ مِنْهُ؛ لِأَنَّا نُجَوِّزُ لَهُ التَّأْخِيرَ، فَكَيْفَ نُؤَثِّمُهُ؟ اعْتَذَرَ عَنْ هَذَا الْإِلْزَامِ بِأَنْ أَثْبَتُوا الْعَزْمَ عَلَى إيقَاعِ الْفِعْلِ بَدَلًا مِنْ تَقْدِيمِ إيقَاعِهِ، وَرَأَوْا أَنَّ التَّأْخِيرَ لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ عِوَضٍ مِنْهُ، وَهُوَ الْعَزْمُ، فَأَشْبَهَ تَخْيِيرَ الْحَانِثِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ، فَإِنَّ الْإِطْعَامَ وَإِنْ لَمْ نُؤَثِّمْهُ فِي تَرْكِهِ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ، وَعَوَّضَ عَنْهُ الْكِسْوَةَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَقِيقَةِ الْوُجُوبِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ إلَى بَدَلٍ، وَأَنْكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إثْبَاتَ الْعَزْمِ هُنَا وَلَمْ يَرَهُ انْفِصَالًا عَنْ الْإِلْزَامِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَكَانَ دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ اللَّخْمِيِّ فِي هَذَا مَقَالٌ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ إيجَابَ الْعَزْمِ وَاسْتَبْعَدَهُ كَمَا اسْتَبْعَدَهُ الْإِمَامُ، فَلَمْ يَكُنْ إلَّا قَلِيلًا حَتَّى قَرَأَ الْقَارِئُ فِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثَ «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ تَعْلِيلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَوْنِ الْمَقْتُولِ فِي النَّارِ، لِكَوْنِهِ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، فَقُلْت: هَذَا يَدُلُّ لِلْقَاضِي، فَلَمْ يُجِبْ بِغَيْرِ الِاسْتِبْعَادِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ يَقُولُ بِالْعَزْمِ، وَتَرَدُّدِ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ الْعَزْمِ وَالْفِعْلِ كُلَّ وَقْتٍ إلَى آخِرِ زَمَنِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُظَنُّ بِهَذَا الرَّجُلِ الْعَظِيمِ يَعْنِي الْقَاضِيَ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعَزْمَ تَكْرِيرًا، وَإِنَّمَا يَرَاهُ يَجِبُ مَرَّةً وَاحِدَةً،

وَيُسْتَحَبُّ حَالَةَ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، كَالنِّيَّةِ الْمُنْسَحِبِ حُكْمُهَا مِنْ أَوَّلِ الْعِبَادَةِ عَلَى أَثْنَائِهَا، وَهَذَا خِلَافُ مَا حُكِيَ عَنْهُ أَوَّلًا. اهـ. وَالْقَائِلُونَ بِالْعَزْمِ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الصَّلَاةُ وَغَيْرُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيُّ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ "؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَقِيلَ: إنَّمَا وَجَبَ لِيَتَمَيَّزَ الْوَاجِبُ عَنْ غَيْرِهِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ لَوْ كَانَ بَدَلًا لَسَقَطَ بِهِ الْوُجُوبُ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهَا أَوَّلَ الْوَقْتِ، لَا مِنْ فِعْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَدَلًا مِنْهَا لَسَقَطَتْ. قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ بَدَلٌ مَنْ فِعْلِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ فِعْلٍ لَوْ وَقَعَ لَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَهُوَ غَيْرُ الْفِعْلِ الَّذِي يَقَعُ مِنْ بَعْدُ. حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ هَلْ يَقْتَضِي الْفَوْرَ أَوْ التَّرَاخِيَ؟ وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ ": الْمُثْبِتُونَ لِلْبَدَلِ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْ مِنْ فِعْلِنَا؟ فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو هَاشِمٍ: إنَّ بَدَلَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَوَسَطَهُ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى أَدَائِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّ لَهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَوَسَطِهِ بَدَلًا يَفْعَلُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُومُ مَقَامَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَنْهُ أَنْ لَا يَحْسُنَ لِتَكْلِيفِ الصَّلَاةِ مَنْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ يُخْتَرَمُ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ فِعْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَقَامَ فِعْلِهِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَلَوْ كَلَّفَهُ الصَّلَاةَ لَكَانَ إنَّمَا كَلَّفَهُ بِمُجَرَّدِ الثَّوَابِ فَقَطْ.

المنكرون للواجب الموسع

وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا اتَّفَقُوا فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَلَى وُجُوبِ الْعَزْمِ عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ، وَكَأَنَّ الْفَرْقَ: أَنَّ الْمُقَيَّدَ بِوَقْتٍ مُوَسَّعٍ لَمَّا كَانَ آخِرُ وَقْتِهِ مَعْلُومًا بِأَنَّ ذَلِكَ مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ يُنَافِي الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، فَإِنَّ الْعَزْمَ فِيهِ يَنُوبُ مَنَابَ تَعْجِيلِ الْفِعْلِ وَتَعْيِينِ الْوَقْتِ. ذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ". [الْمُنْكِرُونَ لِلْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ] [الْمُنْكِرُونَ لِلْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ] وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، فَاخْتَلَفُوا عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوُجُوبَ يَخْتَصُّ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، فَإِنْ أُخِّرَ عَنْهُ فَقَضَاءٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ، وَحَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَكَذَا الْإِمَامُ فِي الْمَعَالِمِ "، وَالْبَيْضَاوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ "، فَلَمْ يَنْفَرِدْ إذَنْ بِنَقْلِهِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ حَتَّى قَالَ السُّبْكِيُّ: سَأَلْت ابْنَ الرِّفْعَةِ، وَهُوَ أَوْحَدُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، فَقَالَ: تَتَبَّعْت هَذَا فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ فَلَمْ أَجِدْهُ. وَقَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ: هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَلَعَلَّ مَنْ عَزَاهُ إلَيْهِمْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ بِوَجْهِ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَفْضُلُ فِيمَا زَادَ

عَلَى صَلَاةِ جِبْرِيلَ فِي الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ يَكُونُ قَضَاءً. انْتَهَى. وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ عِنْدَهُ مُوَسَّعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَهُ مِنْ تَضْيِيقِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا تَضْيِيقٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَجِبُ الصَّلَاةُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، فَظَنَّ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِتَجِبُ، فَوَقَعَ الِالْتِبَاسُ فِي الْجَارِ وَالْمَجْرُورِ. وَقِيلَ: بَلْ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: رِضْوَانُ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ عَفْوِهِ، وَقِيلَ بَلْ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ " فِي الْخَامِسِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ: نُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَبَعْضِ مَنْ يُفْتِي: أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا يُصَيِّرُهَا قَضَاءً، وَتَأْخِيرَ الْحَجِّ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَهَذَا الْأَخْذُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ قَائِلَهُ لَا يَقُولُ: إنَّ الْوَقْتَ يَخْرُجُ وَيَصِيرُ قَضَاءً بَعْدَ أَوَّلِهِ، كَمَا نَقَلَ الْإِمَامُ، بَلْ إنَّهُ يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعِصْيَانِ خُرُوجُ الْوَقْتِ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ: أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَقُولُ بِالتَّأْثِيمِ إذَا أَخَّرَهُ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ نَقَلَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ قَضَاءٌ يَسُدُّ مَسَدَ الْأَدَاءِ، وَمَا نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَثْبَتُ. لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ: ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، وَإِنْ أُخِّرَتْ كَانَتْ قَضَاءً قَالَ: وَهَذَا الْقَائِلُ يُجَوِّزُ التَّأْخِيرَ. قَالَ: وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ وَجُمْلَةِ

الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعُمُرِ، وَرَأَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ. اهـ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوُجُوبَ يَخْتَصُّ بِآخِرِ الْوَقْتِ، وَأَوَّلُهُ سَبَبٌ لِلْجَوَازِ، وَهُوَ مَا مَالَ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَهْلِ الرَّأْيِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " عَنْ بَعْضِهِمْ وَهَكَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ "، وَنَقَلَهُ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَالرَّازِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ أَنَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ حَكَى الْقَوْلَ بِالتَّوْسِعَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِآخِرِهِ، وَإِنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي حَصَّلْنَاهُ عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّ الْوَقْتَ جَمِيعَهُ وَقْتُ الْأَدَاءِ، وَالْوُجُوبُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ بِأَحَدِ وَقْتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ فَالْوُجُوبُ يَتَعَيَّنُ بِالْوَقْتِ الْمَفْعُولِ فِيهِ لِلصَّلَاةِ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي " أُصُولِهِ ": نُقِلَ عَنْ ابْنِ شُجَاعٍ أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ يُنْكِرُونَ هَذَا وَيَقُولُونَ: الْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِآخِرِهِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ حَاضَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ إذَا طَهُرَتْ. اهـ.

وَنَصَّ الدَّبُوسِيُّ فِي تَقْوِيمِ الْأَدِلَّةِ " عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ الْمُوَسَّعِ، وَأَبْطَلَ الْقَوْلَ بِتَعَلُّقِهِ بِآخِرِهِ. وَقَالَ شَارِحُ الْهِدَايَةِ ": الْقَوْلُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَفِي أَوَّلِهِ نَافِلَةٌ قَوْلٌ ضَعِيفٌ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَلَيْسَ مَنْقُولًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا: أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا. اهـ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَذْهَبِنَا، وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُرْوَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهِ فِيمَا لَوْ فَعَلَهُ أَوَّلَ الْوَقْتِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَقِيلَ: تَقَعُ وَاجِبَةً بِكُلِّ حَالٍ، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ الصَّلَاةُ إمَّا بِفِعْلِهَا أَوْ بِمَجِيءِ آخِرِ الْوَقْتِ، وَقِيلَ: تَقَعُ نَافِلَةً بِكُلِّ حَالٍ إلَّا أَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ عِنْدَنَا، وَقِيلَ: يُرَاعَى فَإِنْ لَحِقَ آخِرَهُ وَهُوَ بِصِفَةِ التَّكْلِيفِ كَانَ فَرْضًا وَإِلَّا فَلَا. حَكَى الثَّلَاثَةَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْأَخِيرَيْنِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْهُمْ.

وَقَالَ الْقَاضِي عَنْ الثَّالِثِ: إنَّهُ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الدَّهْمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ إذَا بَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ تَكْبِيرَةٍ. وَالرَّابِعُ: كَذَلِكَ، وَآخِرِهِ إذَا بَقِيَ قَدْرُ صَلَاةٍ. فَإِنْ عَجَّلَ فَنَفْلٌ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ، وَذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ مُكَلَّفًا آخِرَ الْوَقْتِ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ وَقَعَ وَاجِبًا وَإِلَّا فَنَفْلٌ. نُقِلَ عَنْ الْكَرْخِيِّ، وَعِنْدَهُ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا تُوصَفُ بِالنَّفْلِ وَلَا الْفَرْضِ، وَهُوَ نَظِيرُ وَجْهٍ عِنْدَنَا فِي الْمُعَادَةِ أَنَّهُ يَنْوِي بِهَا فَرْضًا وَلَا نَفْلًا. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ مُكَلَّفًا آخِرَ الْوَقْتِ كَانَ مَا فَعَلَهُ مُسْقِطًا لِلْفَرْضِ تَعْجِيلًا نَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ وَقْتًا تَعَيَّنَ إلَى أَنْ يَتَضَيَّقَ، فَيَتَعَيَّنَ بِالتَّضْيِيقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُخْتَصًّا بِالْجُزْءِ الَّذِي يَتَّصِلُ الْأَدَاءُ بِهِ وَإِلَّا فَآخِرُ الْوَقْتِ الَّذِي يَسَعُ الْفِعْلَ، وَلَا يَفْضُلُ عَنْهُ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ عَنْ الْكَرْخِيِّ. وَادَّعَى الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عِنْدَهُمْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ عَلَى الْبَدَلِ إنْ اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ وَإِلَّا

تتمات هل يستقر الوجوب بمجرد دخول الوقت

فَآخِرُهُ، إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْوَقْتِ سَبَبًا، وَإِلَّا لَزِمَ الْوُجُوبُ بَعْدَهُ، وَقَالَ: وَإِنَّمَا عَدَدْت هَذِهِ الْفِرْقَةَ مِنْ الْمُنْكِرِينَ لِلْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ الصَّلَاةَ مَهْمَا أُدِّيَتْ فِي الْوَقْتِ كَانَتْ وَاجِبَةً وَأَدَاءً؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ فَاضِلًا عَنْ الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْقَائِلِينَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ. وَالثَّامِنُ: أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِجُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَمَا تَعَلَّقَ فِي الْكَفَّارَاتِ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَتَأَدَّى الْوُجُوبُ فِيهِمَا بِالْغَيْرِ. حَكَاهُ الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ قَالَ: وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي وَأَشْبَهُ بِأُصُولِنَا فِي الْكَفَّارَاتِ، فَيَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ مُرَادُ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِ. وَالتَّاسِعُ: حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ لَهُ حَظٌّ فِي الْوُجُوبِ، وَلَا نَقُولُ: وَجَبَ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ أَدْرَكَ جَمِيعَ الْوَقْتِ نَقُولُ: وَجَبَ بِجَمِيعِ الْوَقْتِ، وَهَذَا كَالْقِيَامِ يَجِبُ بِقَدْرِ الْفَاتِحَةِ فَلَوْ أَطَالَ الْقِيَامَ بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ فَالْكُلُّ وَاجِبٌ. قَالَ: وَهَذَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ. [تَتِمَّاتُ هَلْ يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْوَقْتِ] تَتِمَّاتُ. الْأُولَى: [هَلْ يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْوَقْتِ؟] حَيْثُ قُلْنَا بِالْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، فَهَلْ يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْوَقْتِ أَوْ لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فِيهِ؟ مَذْهَبَانِ. الْأَوَّلُ: هُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ أَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ، الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: مَذْهَبُنَا أَنَّهَا تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، وَيَسْتَقِرُّ وُجُوبُهَا بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَكَذَا قَالَ الدَّارِمِيُّ فِي الِاسْتِذْكَارِ ": تَجِبُ عِنْدَنَا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، وَيَسْتَقِرُّ وُجُوبُهَا بِقَدْرِ فِعْلِهَا، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُمَا مِنْ الْأَصْحَابِ، وَحَكَوْا مَعَهُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ قَبْلَ إمْكَانِ الْأَدَاءِ إلْحَاقًا لِأَوَّلِ الْوَقْتِ بِآخِرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يَحْيَى الْبَلْخِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَخَطَّئُوهُ بِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ دُونَ أَوَّلِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَسْتَقِرُّ حَتَّى يُدْرِكَ مَعَ الْوَقْتِ أَدَاءَ جُزْءٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقَرَّ فَرْضُهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا إذَا سَافَرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، لِاسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا، فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَقَرَّ بِآخِرِ الْوَقْتِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَيْسَ جَوَازُ الْقَصْرِ آخِرَ الْوَقْتِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَسْتَقِرَّ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ مِنْ صِفَاتِ الْأَدَاءِ. قَالُوا: وَهَذَا مِنْ ابْنِ سُرَيْجٍ رُجُوعٌ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وُجُوبِهَا بِآخِرِ الْوَقْتِ. الثَّانِيَةُ: [فَائِدَةُ الْخِلَافِ] حَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِآخِرِ الْوَقْتِ يُجَوِّزُونَ فِعْلَهُ أَوَّلَهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَسْمِيَتِهِ وَاجِبًا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي حُكْمَيْنِ مَقْصُودَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى آخِرِهِ إلَّا بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مِمَّا يَجِبُ قَضَاؤُهُ، فَإِذَا مَضَى مِنْ أَوَّلِ حَالِ

الواجب الموسع قد يكون محدودا وقد يكون وقته العمر

الْإِمْكَانِ مِقْدَارُ زَمَنِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ زَالَ التَّكْلِيفُ بِجُنُونٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى فَاتَ وَقْتُهُ وَجَبَ قَضَاؤُهُ عَلَى قَوْلِنَا، وَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ. [الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ قَدْ يَكُونُ مَحْدُودًا وَقَدْ يَكُونُ وَقْتُهُ الْعُمُرَ] الثَّالِثَةُ: [الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ قَدْ يَكُونُ مَحْدُودًا وَقَدْ يَكُونُ وَقْتُهُ الْعُمُرَ] إذَا أَثْبَتْنَا الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ فَقَدْ يَكُونُ مَحْدُودًا بِغَايَةٍ مَعْلُومَةٍ، كَالصَّلَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ وَقْتُهُ الْعُمُرَ، كَالْحَجِّ وَقَضَاءِ الْفَائِتِ مِنْ الصَّلَاةِ بِعُذْرٍ، فَإِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي عَلَى الصَّحِيحِ، وَسَمَّوْهُ الْحَنَفِيَّةُ الْمُشَكِّكَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا مِنْ الصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ، وَمِنْ الصَّوْمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّنَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَقَعُ فِيهَا إلَّا حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْحَجَّ لَا يُسَمَّى مُوَسَّعًا بِالْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَالتَّوْسِيعُ وَالتَّضْيِيقُ إنَّمَا يَكُونَانِ فِي الْوَقْتِ، وَلَكِنْ جَرَيْنَا فِي هَذَا التَّقْسِيمِ عَلَى عِبَارَةِ الْجُمْهُورِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَيَتَضَيَّقُ بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالِانْتِهَاءِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَا يَفْضُلُ زَمَانُهُ عَنْهُ. وَثَانِيهِمَا: بِغَلَبَةِ الظَّنِّ؛ لِعَدَمِ الْبَقَاءِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ مَهْمَا غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ قَبْلَهُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَعْصِي فِيهِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِخُرُوجِ وَقْتِهِ. وَالثَّانِي: بِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتٍ يُظَنُّ فَوْتُهُ بَعْدَهُ، كَالْمُوَسَّعِ بِالْعُمُرِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ " الِاتِّفَاقُ عَلَى عِصْيَانِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ

سَوَاءٌ بَقِيَ بَعْدُ أَمْ لَا، وَلَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لَمْ يَعْصِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يَعْصِي. قَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى ": وَهُوَ خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ. قَالَ: بَلْ مُحَالٌ أَنْ يَعْصِيَ، وَقَدْ جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ، فَإِنْ قَالَ: جَازَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ. قُلْنَا: مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ عَنْهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ فِي الْمُوَسَّعِ فِي الْعُمُرِ فَيَعْصِي فِيهِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالتَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتٍ يُظَنُّ فَوْتُهُ بَعْدَهُ. وَالثَّانِي: بِالْمَوْتِ عَلَى الصَّحِيحِ سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ قَبْلَ ذَلِكَ الْبَقَاءُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَهُ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ عَنْهُ مَسْتُورَةٌ، وَالثَّانِي: لَا يَمُوتُ عَاصِيًا وَهُوَ أَشْكَلُ مِمَّا قَبْلَهُ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ مَعْنَى الْوُجُوبِ. وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ الشَّيْخِ فَيَعْصِي، وَالشَّابُّ فَلَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، وَرَفْعُ الْإِشْكَالِ عَنْهُ سَنَذْكُرُهُ. وَهَذَا الْقِسْمُ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ الْمَوْتَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لَا يَعْصِي بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْفَرْقُ بِأَنَّ بِالْمَوْتِ خَرَجَ وَقْتُ الْحَجِّ، وَبِالْمَوْتِ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُهَا، وَنَظِيرُ الْحَجِّ: أَنْ يَمُوتَ آخِرَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يَعْصِي بِخُرُوجِ الْوَقْتِ. وَإِذَا قُلْنَا: يَعْصِي فَلَهُ شَرْطَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَى الْفِعْلِ فَإِنْ عَزَمَ عَلَيْهِ وَمَاتَ فِي أَثْنَائِهِ فَلَا يَعْصِي بِالْإِجْمَاعِ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُسْتَصْفَى " وَالْآمِدِيَّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْثِمُونَ مَنْ مَاتَ فَجْأَةً بَعْدَ انْقِضَاءِ مِقْدَارِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ وَقْتِ الزَّوَالِ، وَكَانُوا لَا يَنْسُبُونَهُ إلَى تَقْصِيرٍ لَا سِيَّمَا إذَا اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ، وَنَهَضَ إلَى الْمَسْجِدِ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، بَلْ مُحَالٌ أَنْ يَعْصِيَ وَقَدْ جُوِّزَ لَهُ التَّأْخِيرُ فِي فِعْلِ مَا يَجُوزُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَعْصِيَتِهِ؟ . انْتَهَى. وَالثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ أَدَاءِ إمْكَانِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ لَمْ يَعْصِ بِلَا خِلَافٍ. نَعَمْ حَكَوْا عَنْ أَبِي يَحْيَى الْبَلْخِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا، وَلَيْسَ إمْكَانُ الْأَدَاءِ مُعْتَبَرًا، وَلَعَلَّهُ يَقْرَبُ مِنْ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ. وَقَدْ اسْتَصْعَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصْفَ الصَّلَاةِ بِالْوُجُوبِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لَا يَعْصِي فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَقَالَ: لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ، وَهُوَ أَنَّهَا لَوْ أُقِيمَتْ لَوَقَعَتْ عَلَى مَرْتَبَةِ الْوَاجِبَاتِ. وَرَدَّهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، وَقَالَ: التَّأْخِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ فِيهِ تَفْوِيتُ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَإِذَا مَاتَ بَغْتَةً فَهُوَ غَيْرُ مُفَوِّتٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَّرَ مِنْ وَقْتٍ إلَى مِثْلِهِ، وَهَذَا لَا يُعَدُّ تَفْوِيتًا؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ إلَّا أَنَّهُ صَارَ فَائِتًا بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ، فَلَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِالْعِصْيَانِ، وَهَذَا كَالْأَمْرِ الْمُضَيَّقِ إذَا لَمْ تُسَاعِدْهُ الْحَيَاةُ فِي ذِمَّتِهِ.

وَزَعَمَ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ ": أَنَّ الْمُوَسَّعَ بِالْعُمُرِ إنَّمَا يَتَضَيَّقُ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ عَنْ وَقْتٍ يُظَنُّ فَوْتُهُ فِيهِ. قَالَ: وَلَوْ لَمْ نَقُلْ بِهِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ أَبَدًا، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ حَقِيقَةَ الْوُجُوبِ، وَإِمَّا إلَى زَمَنٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ نَقُولَ: يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَبْقَى سَوَاءٌ بَقِيَ أَمْ لَا، وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى عَصَى بِالتَّأْخِيرِ سَوَاءٌ مَاتَ أَمْ لَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَوْلٌ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَعْصِي بِالْمَوْتِ سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْبَقَاءُ أَمْ لَا، وَلَا يَلْزَمُهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ الْمُبَادَرَةُ، فَالتَّمْكِينُ مَوْجُودٌ، وَجَوَازُ التَّأْخِيرِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، وَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، فَتَبَيَّنَ عَدَمُ الْجَوَازِ، وَالْوُجُوبُ مُحَقَّقٌ مَعَ التَّمَكُّنِ فَيَعْصِي، وَيَكُونُ التَّأْخِيرُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَظَاهِرًا فَقَطْ عَلَى رَأْيِ الْفُقَهَاءِ، وَالْبَاطِنُ مَجْهُولُ الْحَالِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْعِصْيَانِ فَهَلْ يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ أَوْ مِنْ آخِرِهَا أَوْ لَا يُضَافُ إلَى سَنَةٍ بِعَيْنِهَا؟ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: الثَّانِي. وَغَلِطَ الْمُقْتَرِحُ فِي " تَعْلِيقِهِ " عَلَى الْبُرْهَانِ " حَيْثُ قَالَ: وَتَوَهَّمَ الْإِمَامُ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ انْبَسَطَتْ الْمَعْصِيَةُ عَلَى جَمِيعِ سِنِي الْإِمْكَانِ، وَأَنَّهُ عَاصٍ فِي كُلِّ زَمَنٍ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا يَعْصِي بِتَرْكِ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ. انْتَهَى. بَقِيَ الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِهِمْ: جَوَازُ التَّأْخِيرِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ رَبْطٌ لِلتَّكْلِيفِ بِمَجْهُولٍ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: هَذَا هَوَسٌ؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ جَهَالَةٌ تَمْنَعُ فَهْمَ الْخِطَابِ، أَوْ إمْكَانَ الِامْتِثَالِ، فَأَمَّا تَكْلِيفُهُ الْمَرْءَ شَيْئًا مَعَ تَقْدِيرِ عُمُرِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَتَنْبِيهُهُ أَنَّهُ إذَا امْتَثَلَهُ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ أُخْلِيَ الْعُمُرُ مِنْهُ تَعَرَّضَ لِلْمَعْصِيَةِ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ.

وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ سَلَامَةَ الْعَاقِبَةِ مُتَعَلَّقُ الْجَوَازِ، وَالْجَوَازُ لَيْسَ بِتَكْلِيفٍ بَلْ مُبَاحٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْمُبَاحِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الشَّكُّ فِي الْإِبَاحَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِحْكَامِ ": سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد مَنْ أَجَازَ تَأْخِيرَ الْحَجِّ، فَقَالَ: مَتَى صَارَ الْمُؤَخِّرُ لِلْحَجِّ إلَى أَنْ مَاتَ عَاصِيًا؟ أَفِي حَيَاتِهِ؟ هَذَا غَيْرُ قَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ فَالْمَوْتُ لَا يُثْبِتُ عَلَى أَحَدٍ مَعْصِيَةً لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً فِي حَيَاتِهِ. فَأَجَابَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ: إنَّمَا كَانَ لَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ يَفْعَلَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، فَلَمَّا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا لَهُ التَّأْخِيرُ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: لَمْ يُحَقِّقْ أَبُو الْحُسَيْنِ الْجَوَابَ عَلَى أُصُولِ الشَّافِعِيِّ، فَمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ إنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا فِي آخِرِ أَوْقَاتِ صِحَّتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا قَادِرًا عَلَى الطَّلَاقِ. قَالَ: وَنَحْنُ نُجِيبُ عَنْ جَوَابِهِ، فَنَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُكَلَّفُ بِالتَّرْكِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَرْكُهُ وَلَمْ يُطْلِعْ اللَّهُ أَحَدًا عَلَى وَقْتِ مَوْتِهِ، وَلَا عَرَّفَهُ بِآخِرِ أَوْقَاتِ مَوْتِهِ، وَلَا قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، وَلَا يُوصَفُ بِالْعِصْيَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَبَقِيَ سُؤَالُ أَبِي بَكْرٍ بِحَسَبِهِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَيُقَالُ: لِأَبِي بَكْرٍ: قَوْلُك: إنَّ تَعْصِيَتَهُ فِي حَيَاتِهِ خِلَافُ قَوْلِكُمْ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ قَوْلُنَا وَتُنْسَبُ الْمَعْصِيَةُ إلَى آخِرِ سِنِي الْإِمْكَانِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَجَوَابُ ابْنِ الْقَطَّانِ كَأَنَّهُ فَرَّعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْجُوحِ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مِنْ أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ، وَلِهَذَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ سُؤَالُ

ابْنُ حَزْمٍ بِصُورَةِ الطَّلَاقِ، وَنَحْنُ إذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْأَصَحِّ فَهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَسَعُهُ، فَقُبَيْلَ الْمَوْتِ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ هُوَ آخِرُ تَمَكُّنِهِ، فَوَقَعَ حِينَئِذٍ كَذَلِكَ آخِرَ سِنِي الِاسْتِطَاعَةِ وَقْتَ تَمَكُّنِهِ، فَيَعْصِي إذْ ذَاكَ، وَخَرَجَ الْجَوَابُ بِذَلِكَ عَلَى أُصُولِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الِاصْطِلَامِ ": وَأَمَّا تَسْمِيَةُ تَارِكِ الْحَجِّ عَاصِيًا فَقَدْ تَخَبَّطَ فِيهِ الْأَصْحَابُ. وَالْأَوْلَى عِنْدِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ، وَلَا يُوصَفُ بِالْعِصْيَانِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْمَوْتُ، فَإِذَا غَلَبَ وَأَخَّرَ وَمَاتَ لَقِيَ اللَّهَ عَاصِيًا، وَإِنْ مَاتَ بَغْتَةً قَبْلَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ لَا يَكُونُ عَاصِيًا، فَإِنْ قَالُوا: قَدْ تَرَكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ إلَى أَنْ مَاتَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ عَاصِيًا. قُلْنَا: نَعَمْ تَرَكَ وَاجِبًا مُوَسَّعًا عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ يَنْتَظِرُ تَضْيِيقَهُ عَلَيْهِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مَعْهُودٌ فِي غَالِبِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَإِنْ اخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْلُغَ الْمَعْهُودَ مِنْ أَجْنَاسِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عَتْبٌ، وَلَمْ يَعْصِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى عَزْمٍ إذَا تَضَيَّقَ لَا يُؤَخَّرُ. [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ [لِلْقَضَاءِ دَرَجَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ] لِلْقَضَاءِ دَرَجَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَهِيَ قَضَاءُ رَمَضَانَ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْصِيَةِ كَالصَّلَاةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ الْفَوَاتِ كَالْحَجِّ، وَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ: لَوْ مَاتَ بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ لَمْ يَعْصِ لَكِنْ يُطْعَمُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَا الْإِطْعَامُ وَلَا الصِّيَامُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَحْدُودٌ بِمَا بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ. فَإِذَا مَاتَ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِعَدَمِ تَرَبُّطِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ مَعْلُومٌ، وَلَا حَدَّ لِانْتِهَائِهِ. حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ ".

مسألة ما لا يتم الواجب إلا به

التَّنْبِيهُ] الثَّانِي [التَّوْسِيعُ فِي السُّنَّةِ كَالْوَاجِبِ] التَّوْسِيعُ كَمَا يَكُونُ فِي الْوَاجِبِ يَكُونُ فِي السُّنَّةِ، كَالْأُضْحِيَّةِ. [التَّنْبِيهُ] الثَّالِثُ [صَيْرُورَةُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّرَاخِي وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ] كُلُّ وَاجِبٍ عَلَى التَّرَاخِي فَإِنَّهُ يَصِيرُ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ إذَا ضَاقَ وَقْتُهُ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا وَجَبَ قَضَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا لَمَّا ضَاقَ صَارَ عَلَى الْفَوْرِ. . [مَسْأَلَةٌ مَا لَا يَتِمُّ الواجب إلَّا بِهِ] ِ] مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ هُوَ إمَّا أَجْزَاءُ الْوَاجِبِ، أَوْ شُرُوطُهُ أَوْ الشَّرْعِيَّةُ، أَوْ ضَرُورَاتُهُ الْعَقْلِيَّةَ أَوْ الْحِسِّيَّةَ، لَا تَنْفَكُّ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. فَالْأَوَّلُ: وَاجِبٌ بِخِطَابِ الِاقْتِضَاءِ، وَالثَّانِي: بِخِطَابِ الْوَضْعِ، وَالثَّالِثُ: لَا خِطَابَ فِيهِ فَلَا وُجُوبَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ. إذَا عَرَفْت هَذَا، فَنَقُولُ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَوَقُّفُهُ

المذاهب في الشرط الشرعي

عَلَيْهِ فِي وُجُوبِهِ، أَوْ فِي إيقَاعِهِ بَعْدَ تَحَقُّقِ وُجُوبِهِ، فَأَمَّا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إيجَابُ الْوَاجِبِ، فَلَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ حِينَئِذٍ مُقَيَّدٌ لَا مُطْلَقٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ انْتِفَاءَ مَانِعٍ. فَالسَّبَبُ كَالنِّصَابِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ لِتَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ. وَالشَّرْطُ كَالْإِقَامَةِ هِيَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَاءِ الصَّوْمِ، فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا إذَا عَرَضَ مُقْتَضَى السَّفَرِ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ السَّفَرِ. وَالْمَانِعُ كَالدَّيْنِ فَلَا يَجِبُ نَفْيُهُ لِتَجِبَ الزَّكَاةُ. وَأَمَّا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إيقَاعُ الْوَاجِبِ وَدُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ، فَإِنْ كَانَ جُزْءًا فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ أَمْرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهَا ضِمْنًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ خَارِجًا كَالشَّرْطِ وَالسَّبَبِ، كَمَا إذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ، ثُمَّ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ، فَهَلْ يَدُلُّ الْأَمْرُ بِهَا عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ؟ . هَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ وَلِهَذَا عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِالْمُقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُقَدِّمَةَ خَارِجَةٌ عَنْ الشَّيْءِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْجُزْءِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ. [الْمَذَاهِبُ فِي الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ] [الْمَذَاهِبُ فِي الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ] وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ مُطْلَقًا لَكِنْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ،

كَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الشُّرُوطِ، فَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ أَمْرٌ بِهَا، أَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ مِنْ الْآلَاتِ وَالذَّوَاتِ فَتُخَرَّجُ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَحِينَئِذٍ فَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ هَذَا الشَّرْطَ مَنْ مَنْعَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ. هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " قَالُوا: وَسَوَاءٌ كَانَ شَرْطًا أَوْ سَبَبًا، وَكَانَ الشَّرْطُ شَرْعِيًّا كَالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ، أَوْ عَقْلِيًّا كَتَرْكِ أَضْدَادِ الْوَاجِبِ، أَوْ عَادِيًا كَغَسْلِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ لِغَسْلِ الْوَجْهِ. وَإِذَا قُلْنَا بِهَذَا فَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوُجُوبَ هَلْ يُتَلَقَّى مِنْ نَفْسِ الصِّيغَةِ أَوْ مِنْ دَلَالَتِهَا؟ أَشَارَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ إلَى حِكَايَةِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الثَّانِي، وَنَصَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ. قَالَ: لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ مَا كَانَ مَسْمُوعًا فِي اللَّفْظِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلشَّرْطِ لَفْظًا يَخُصُّهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنَّ دَلَالَتَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَيُخَرَّجُ مِنْ اخْتِلَافِ عِبَارَاتِهِمْ مَذْهَبَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ. وَالثَّانِي: بِالتَّضَمُّنِ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " وَ " التَّلْخِيصِ ". وَقَدْ يُسْتَشْكَلُ بِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ جُزْءَ الصَّلَاةِ، فَكَيْفَ يَدُلُّ بِالتَّضَمُّنِ؟

وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ إيجَابَ الطَّهَارَةِ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، فَالصَّلَاةُ وَجَبَتْ مُقَيَّدَةٌ بِالْغَسْلِ الَّذِي هُوَ الْوُضُوءُ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ ذَلِكَ، ثُمَّ وَرَدَ قَوْلُهُ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ، وَهِيَ الْمُقَيَّدَةُ بِالطَّهَارَةِ، وَالدَّالُّ عَلَى الصَّلَاةِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ، وَهِيَ الْمُقَيَّدَةُ بِالطَّهَارَةِ، وَالدَّالُّ عَلَى الصَّلَاةِ الْمُقَيَّدَةِ دَالٌّ عَلَى قَيْدِهَا بِالتَّضَمُّنِ، كَقَوْلِهِ: أَعْتِقْ الرَّقَبَةَ الْمُؤْمِنَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَعْتِقْ الرَّقَبَةَ، فَمُطْلَقُ الرَّقَبَةِ دَالٌّ عَلَى الْإِيمَانِ بِالتَّضَمُّنِ. الثَّانِي: إذَا قُلْنَا: إنَّهُ وَجَبَ مِنْ دَلَالَتِهِ، فَهَلْ وَجَبَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ فِي " الِاسْتِذْكَارِ "، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ، وَرَجَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عَادَةً كَغَسْلِ شَيْءٍ مِنْ الرَّأْسِ لِغَسْلِ الْوَجْهِ، وَاسْتِصْحَابِ الْإِمْسَاكِ عَنْ الْمُفْطِرِ فِي جُزْءٍ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَنَّهُ وَجَبَ لِنَفْسِهِ، وَحَكَى قَوْلًا أَنَّهُ نَدْبٌ لَا وَاجِبٌ، وَزَيَّفَهُ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَلَوْ تَرَكَهُ لَتَعَطَّلَ الْوَاجِبُ، فَمَا مَعْنَى وَصْفِهِ بِالتَّطَوُّعِ؟ وَزَعَمَ الْإِبْيَارِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ " الْخِلَافَ فِيهِ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَزَعَمَ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ السَّبَبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَكِنْ بِهَذَا صَرَّحَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ "، فَقَالَ: الَّذِي لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ إنْ كَانَ سَبَبًا كَالرَّمْيِ فِي الْإِصَابَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُسَبَّبِ أَمْرٌ بِالسَّبَبِ فِي الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا فَإِيجَابُ الْمُسَبَّبِ إيجَابٌ لِسَبَبِهِ، وَإِبَاحَتُهُ إبَاحَةٌ لِسَبَبِهِ، وَحَظْرُهُ حَظْرٌ لِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ؛ لِوُجُودِهِ بِدُونِهِ.

وَإِنْ كَانَ شَرْطًا شَرْعِيًّا كَالْوُضُوءِ، أَوْ غَيْرَ شَرْعِيٍّ كَالْمَشْيِ إلَى عَرَفَاتٍ لِلْوُقُوفِ، فَإِنْ وَرَدَ الْأَمْرُ مُطْلَقًا فَهُوَ فِي الْمَعْنَى أَمْرٌ بِالشَّرْطِ هَذَا بَعْدَ أَنْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ ذَلِكَ، وَإِنْ وَرَدَ مَشْرُوطًا بِاتِّفَاقِ حُصُولِ الْمُقَدِّمَةِ فَلَيْسَ أَمْرًا بِالْمُقَدِّمَةِ، كَالْأَمْرِ بِالْحَجِّ بِشَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ. اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَمَا نَقَلَهُ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي أَنَّ إيجَابَ الْمُسَبَّبِ هَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى إيجَابِ السَّبَبِ؟ وَمَحَلُّ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَجَبَ الْمُسَبَّبُ فَقَدْ وَجَبَ السَّبَبُ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ. وَلِهَذَا قَالَ فِي " الْمُنْتَهَى ": فَإِنَّا لَا نُنْكِرُ وُجُوبَ الْأَسْبَابِ بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ كَمَا أَنَّ أَسْبَابَ الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ مُطْلَقًا، وَنُسِبَ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " عَنْ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّرَائِطَ لَهَا صِيَغٌ بِخُصُوصِهَا، وَاخْتِلَافُ الصِّيَغِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَصُوغِ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّا لَا نُنْكِرُ كَوْنَ الصَّلَاةِ مُقْتَضِيَةً لِلطَّهَارَةِ بِالدَّلَالَةِ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ كَوْنَهُ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ مُقْتَضِيَةً لَهُ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الصَّلَاةَ بِصِيغَتِهَا تَدُلُّ عَلَى الدُّعَاءِ فَقَطْ، وَمَا زَادَ عَلَى الدُّعَاءِ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لَا مِنْ جِهَةِ الصِّيغَةِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ هَلْ نَصِفَهُ الْآنَ بِالنَّدْبِ، لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى تَحْصِيلِ أَمْرٍ وَاجِبٍ أَوْ بِالْإِبَاحَةِ؟ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي اسْتِحْبَابِ النَّذْرِ أَوْ إبَاحَتِهِ.

وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْوَسِيلَةُ سَبَبَ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَيَجِبُ أَوْ شَرْطَهُ فَلَا يَجِبُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ " الْمَصَادِرِ " كَمَا سَبَقَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ وُجُودَ السَّبَبِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُسَبَّبِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: إنْ كَانَ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا فَهُوَ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: يَجِبُ الشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ إذَا كَانَ الْفِعْلُ يَتَأَتَّى بِدُونِهِ عَقْلًا أَوْ عَادَةً لَكِنْ الشَّرْعُ جَعَلَهُ شَرْطًا لِلْفِعْلِ كَالْوُضُوءِ وَأَمَّا مَا لَمْ يَتَأَتَّ اسْمُ الْفِعْلِ إلَّا بِهِ عَقْلًا أَوْ عَادَةً كَالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْوَجْهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَا نُسَمِّيهِ شَرْطًا، إذْ لَا يَتِمُّ عَادَةً غَسْلُ الْوَجْهِ إلَّا بِغَسْلِ شَيْءٍ مِنْ الرَّأْسِ، وَبِهَذَا أَجَابَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ وَتَبِعَهُمْ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَالْفَرْقُ: أَنَّ الشَّرْطَ الشَّرْعِيَّ يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَشْرُوطِ هَاهُنَا كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ بِخِلَافِ غَيْرِ الشَّرْعِيِّ، نَحْوَ غَسْلِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْ الشَّرْعِ نَصٌّ عَلَى إيجَابِهِ بَلْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْوَجْهِ مُطْلَقًا، وَالْعَادَةُ تَقْضِي بِأَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِغَسْلِ جُزْءٍ مِنْ الرَّقَبَةِ، فَبِهَذَا افْتَرَقَ الشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ وَغَيْرُهُ. هَذَا تَحْرِيرُ النَّقْلِ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. الْمَذْهَبُ السَّادِسُ: الْوَقْفُ، أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " إلْزَامًا لِلْوَاقِفِينَ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِشَرْطِ تَحْصِيلِ الْمُقَدِّمَةِ، وَلَا بِأَمْرٍ خِلَافَهُ، فَيَجِبُ الْوَقْفُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنْ كَانَ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ مُلَازِمًا فِي الذِّهْنِ بِحَيْثُ إنَّ الْمُكَلَّفَ حَالَ اسْتِمَاعِ الْأَمْرِ يَنْتَقِلُ ذِهْنُهُ إلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مُمْتَنِعٌ بِدُونِ الْإِتْيَانِ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلَازِمًا، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ وَاجِبًا مِنْ تِلْكَ

الصِّيغَةِ، بَلْ مِنْ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْأَمْرِ وَالْعَقْلِ، أَوْ مِنْ الْأَمْرِ وَالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيّ مُجَلِّيًا لِعِبَارَةِ الْإِمَامِ: لَيْسَ الْخِلَافُ فِي الْعَادِي كَالْأَمْرِ بِغَسْلِ شَيْءٍ مِنْ الرَّأْسِ لِأَجْلِ اسْتِيعَابِ الْوَجْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يَلْزَمُ قَطْعًا أَيْ مِنْ جِهَةِ الصِّيغَةِ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الشَّرَائِطِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُؤَوَّلُ إلَى الْمُعْتَادِ. قَالَ فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: مُتَلَقًّى مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَالثَّانِي: مَا ثَبَتَ شَرْطًا فِي الْعِبَادَةِ، وَفِي الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُزْءًا مِنْهُ كَالْوُضُوءِ، فَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ الصَّحِيحَةِ يَتَضَمَّنُ أَمْرًا بِالطَّهَارَةِ، وَكَذَا وَضْعُ الشَّرَائِطِ، وَالثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِمْكَانِ وَلَيْسَ بِمَقْصُودِ الشَّرْعِ لَا مَشْرُوطًا وَلَا شَرْطًا، وَلَكِنَّهُ فِي عِلْمِ الْجِبِلَّةِ يُضَاهِي الشُّرُوطَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا شَرْعِيًّا، وَهَذَا يَلْتَفِتُ عَلَى الِانْتِهَاءِ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي مُحَاوِلَةِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ. اهـ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْعَادِيَ لَا يُسَمَّى شَرْطًا وَلَا يَجِبُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ، وَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَزَادَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ إيضَاحًا فَقَالَ: تَحَصَّلْنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ لَا يَتَأَتَّى فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا بِهَا. أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ أَبْعَاضِهِ وَأَجْزَائِهِ كَأَجْزَاءِ الصَّلَاةِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَالْأَمْرُ يَتَنَاوَلُهَا، وَدَلَّ عَلَيْهَا لَفْظًا.

الثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ شَرَائِطِهِ وَأَسْبَابِهِ كَالطَّهَارَةِ، وَالْقِبْلَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، فَالْأَمْرُ تَنَاوَلَهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا مَعْنًى لَا لَفْظًا. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَأَخْذِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي صَوْمِ الْيَوْمِ، وَأَخْذِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ، فَالْأَمْرُ مَا تَنَاوَلَهُ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا ثَبَتَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْمَأْمُورِ جِبِلَّةً وَخِلْقَةً. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْمَأْمُورِ يُتَصَوَّرُ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِدُونِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ شَرَائِطِهِ وَأَسْبَابِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إتْيَانُ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا إذَا أُتِيَ بِهِ. مِثَالُهُ: أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْوَاحِدِ مِنَّا إدْرَاكَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ حَتَّى تُطْبَقَ النِّيَّةُ عَلَيْهِ صَحَّ صَوْمُهُ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إمْسَاكُ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَدَرَ عَلَى غَسْلِ مَا هُوَ الْفَرْضُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ غَسْلُ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ، وَهَكَذَا فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ صِحَّةُ الْأَمْرِ إلَّا بِهِ، فَكَانَ الْأَمْرُ دَالًّا عَلَيْهِ مَعْنًى، وَلَمْ يَكُنْ دَالًّا عَلَى الْأَوَّلِ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. تَنْبِيهَاتٌ (التَّنْبِيهُ) الْأَوَّلُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ قَدْ تُطْلَبُ فَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ، فَإِنَّ الصُّورَةَ مَفْرُوضَةٌ حَيْثُ دَلَّ الدَّلِيلُ مِنْ خَارِجٍ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ وَحِينَئِذٍ، فَمَا فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ يَشْمَلُهُ الْأَمْرُ بِالْمَشْرُوطِ؟

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فَائِدَتُهُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ تَرَتَّبَ الْفِعْلُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ. هَلْ نَقُولُ: إنَّهُ يُثَابُ عَلَى الْوَاجِبِ وَعَلَى تَحْصِيلِ السَّبَبِ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً لِلْقُرْبَةِ؟ وَهَلْ يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فَقَدْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْوَاجِبِ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَاحْتِمَالٌ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْمَقَاصِدَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَسَائِلِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ إذَا تُرِكَتْ الْوَسِيلَةُ مَعَ الْمَقَاصِدِ هَلْ يُعَاقَبُ عِقَابَيْنِ عَلَى الْوَسِيلَةِ وَالْمَقْصِدِ؟ وَإِذَا فَعَلَهُمَا هَلْ يُثَابُ ثَوَابَيْنِ عَلَيْهِمَا؟ وَتَعَدُّدُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّوَقُّفِ، وَهُوَ مُسَلَّمٌ إجْمَاعًا، فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ تَارِكَ الْجُمُعَةِ وَتَارِكَ الْحَجِّ عَلَى تَرْكِ الْعِبَادَةِ، وَعَلَى تَرْكِ السَّعْيِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ آمِرًا بِهِمَا مَعَ السُّكُوتِ عَنْ السَّعْيِ؟ وَلَك أَنْ تَقُولَ: تَخْرِيجُ الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ وَاضِحٌ، وَأَمَّا تَخْرِيجُ الثَّوَابِ، فَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يُثَابَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ حَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهَا إلَّا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ، وَيَبْقَى نَظِيرُ فَائِدَةِ الْخِلَافِ فِي خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ. وَأَقُولُ: لَهُ فَوَائِدُ فِي الدُّنْيَا: مِنْهَا أُجْرَةُ الْكَيَّالِ عَلَى بَائِعِ الْمَكِيلِ، وَأُجْرَةُ الْوَزَّانِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِلثَّمَنِ، وَإِذَا الْتَزَمَ نَقْلَ مَتَاعِهِ إلَى مَكَان فَعَلَيْهِ الظُّرُوفُ، وَإِذَا نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ صَلَّاهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا خَفِيَ عَلَيْهِ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ مِنْ الثَّوْبِ غَسَلَهُ كُلَّهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوعِ الْمُنْتَشِرَةِ الَّتِي تَرَتَّبَ فِيهَا الْوَاجِبُ عَلَى غَيْرِهِ.

وَ (التَّنْبِيهُ) الثَّانِي (وُجُوبُ الشَّرْطِ سَمْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ) إنَّ هَذَا الْوُجُوبَ سَمْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ، فَإِنَّ إيجَابَ الصَّلَاةِ ثَابِتٌ بِخِطَابٍ سَمْعِيٍّ، وَذَلِكَ الْإِيجَابُ مَعَ الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِ الْوُضُوءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ الْوُضُوءِ، وَلَا نَعْنِي بِالسَّمْعِ إلَّا هَذَا، وَنَازَعَ صَاحِبُ ' " التَّنْقِيحَاتِ " فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْهُ الْمُعَاقَبَةُ عَلَى التَّرْكِ الَّذِي هُوَ خَاصِّيَّةُ الْوُجُوبِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الِاسْتِلْزَامِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الصَّحِيحُ: أَنَّ الْوَسِيلَةَ فِي الْوَاجِبِ وُجُوبُهَا عَقْلِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ، وَكَذَلِكَ وَسِيلَةُ تَرْكِ الْحَرَامِ. (التَّنْبِيهُ) الثَّالِثُ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ هَلْ هُوَ فِي الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ أَمْ فِي اللِّسَانِيِّ؟ يُحْتَمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَقُومُ بِالذَّاتِ مَعْنَى إيجَابِ الصَّلَاةِ، وَمَعْنَى اشْتِرَاطِ الْوُضُوءِ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ يَسْتَلْزِمَانِ مَعْنًى ثَالِثًا، وَهُوَ إيجَابُ الْوُضُوءِ، وَيُحْتَمَلُ الثَّانِي عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْخِطَابَيْنِ يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ الصَّلَاةِ الْتِزَامًا، وَلَا يُتَصَوَّرُ دَلَالَتُهُمَا عَلَيْهِ مُطَابِقَةً؛ لِعَدَمِ الْوَضْعِ.

(التَّنْبِيهُ) الرَّابِعُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ؟ فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيِّ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ وَاجِبَةٌ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ. (التَّنْبِيهُ) الْخَامِسُ هَذَا كُلُّهُ فِيمَا هُوَ مُقَدَّمَةٌ وَوَسِيلَةٌ بِأَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَيْهِ وُجُودُ الْوَاجِبِ إمَّا شَرْعًا، كَالْوُضُوءِ مَعَ الصَّلَاةِ، أَوْ عَقْلًا، كَالسَّيْرِ إلَى الْحَجِّ، وَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ لَازِمًا لِفِعْلِ الْوَاجِبِ بِأَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْوَاجِبِ لَا نَفْسُ وُجُودِ الْوَاجِبِ، وَذَلِكَ إمَّا لِالْتِبَاسِ الْوَاجِبِ بِغَيْرِهِ كَالْإِتْيَانِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إذَا تَرَكَ وَاحِدَةً وَنَسِيَ عَيْنَهَا، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ أَتَى بِالصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِتْيَانِ بِالْخَمْسِ، وَإِمَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ إلَّا إذَا أَتَى بِغَيْرِهِ [لِتَقَارُبِ] مَا بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ حَدٌّ بِفَرْقٍ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ كَسَتْرِ شَيْءٍ مِنْ الرُّكْبَةِ لِسَتْرِ الْفَخِذِ وَغَيْرِهِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ حَدٌّ بِفَرْقٍ، فَالْعِلْمُ بِسَتْرِ جَمِيعِ الْفَخِذِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ إنَّمَا يَحْصُلُ بِشَيْءٍ مِنْ الرُّكْبَةِ لِلتَّقَارُبِ الْمَذْكُورِ. (التَّنْبِيهُ) السَّادِسُ إنَّمَا تَجِبُ الْمُقَدِّمَةُ حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْهَا أَقْوَى مِنْهَا. مِثَالُهُ: يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ كَشْفُ الْوَجْهِ فِي الْإِحْرَامِ، وَجَوَّزُوا لَهَا أَنْ تَسْتُرَ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنْهُ الَّذِي يَلِي

مسألة حقائق الأحكام الخمسة متباينة

الرَّأْسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالسِّتْرِ إلَّا بِسَتْرِهِ، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ السِّتْرَ أَحْوَطُ مِنْ الْكَشْفِ. (التَّنْبِيهُ) السَّابِعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَأْمُورِ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَتَأَتَّى أَدَاءُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَجْرِي مِثْلُهُ فِي النَّهْيِ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْكَفُّ عَنْ الْمَحْظُورِ إلَّا بِالْكَفِّ عَمَّا لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَبَاحِثِ الْمَحْظُورِ. مَسْأَلَةٌ (الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَوْصُوفِ وَاجِبًا وَلَا نَدْبًا) الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ إذَا كَانَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَوْصُوفِ وَاجِبًا وَلَا نَدْبًا، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مَنْدُوبَةً وَالْمَوْصُوفُ وَاجِبًا، كَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَكُونُ الصِّفَةُ كَالْمَوْصُوفِ مَنْدُوبًا، كَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ كَالْأَمْرِ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمَوْصُوفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِتْيَانُ إلَّا بِهِ. قَالَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ". [مَسْأَلَةٌ حَقَائِقُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ مُتَبَايِنَةٌ] ٌ) حَقَائِقُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ مِنْ حَيْثُ تَمَامُهَا مُتَبَايِنَةٌ فَلَا يَجْتَمِعُ شَيْءٌ مِنْهَا مَعَ الْآخَرِ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ حُدُودِهَا

وَقَالَ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ تَبَايُنَ الْحَقَائِقِ: إنَّ إيجَابَ الشَّيْءِ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْفُقَهَاءِ وَمُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ: وَأَنْكَرَ الْقَاضِي إطْلَاقَ هَذَا، وَقَالَ: لَا مَعْنَى لِلْجَوَازِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْوُجُوبِ، إذْ لَا يَحْسُنُ تَسْمِيَةُ الْوُجُوبِ جَوَازًا، وَتَسْمِيَةُ الْوَاجِبِ جَائِزًا، وَالْأَحْكَامِ مَضْبُوطَةً. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَلَا يَتَحَقَّقُ خِلَافٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ حَقِيقَةُ الْجَائِزِ أَوْ الْمُبَاحِ حَقِيقَةُ الْوَاجِبِ، وَغَرَضُ الْخَصْمِ أَنَّ مَا يُلَامُ عَلَى تَرْكِهِ وَيَقْتَضِي اللُّزُومَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ مَا يُحَرِّضُ عَلَى فِعْلِهِ أَنْ يَجُوزَ لَك الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ غَيْرَ أَنَّ غَرَضَ الْمُوجِبِ الْإِلْزَامُ، وَالْبَاقِي يَقَعُ ضِمْنًا وَلَكِنْ عَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ وَالْجَوَازِ، وَالْمَحْكِيُّ قَصْرُ الْخِلَافِ عَلَى الْجَوَازِ. إذَا عَرَفْت هَذَا فَلَوْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ. فَهَلْ يَبْقَى الْجَوَازُ أَمْ لَا؟ ، فِيهِ مَذَاهِبُ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَبْقَى الْجَوَازُ وَاخْتَارَهُ الْبَاجِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَصَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " وَتَابَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ لِلْأَكْثَرِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى الْحَظْرِ. حَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ وَهُوَ غَرِيبٌ. الثَّالِثُ: يَبْقَى النَّدْبُ حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي " الْمُعْتَمَدِ ". قَالَ: وَعَلَيْهِ يَدُلُّ مَذْهَبُ مَالِكٍ، فَإِنَّ صِيَامَ عَاشُورَاءَ لَمَّا نُسِخَ بَقِيَ صِيَامُهُ مُسْتَحَبًّا، وَلَمَّا نُسِخَ فَرْضُ قِيَامِ اللَّيْلِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَقِيَ مُسْتَحَبًّا، وَكَذَلِكَ الضِّيَافَةُ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ كُلُّ حَقٍّ كَانَ فِي الْمَالِ بِالزَّكَاةِ، وَبَقِيَ

ذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَحَبًّا، فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يُحْتَجَّ بِالْآثَارِ الْمَنْسُوخَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَعَلَى الْجَوَازِ. قَالَ: هَكَذَا حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ الْمَذْهَبِ. قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ: وَصَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الْغَزَالِيِّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ ": أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ إلَى النَّدْبِ أَحَدٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا نُسِخَ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَثْبُتْ نَدْبٌ وَلَا إبَاحَةٌ إلَّا بِدَلِيلٍ حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ، قَالَ: وَمَنَعُوا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ فَضْلًا عَنْ النَّدْبِ، وَالْخَامِسُ: لَا تَبْقَى الْإِبَاحَةُ الَّتِي تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْوُجُوبِ بَلْ يَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ تَحْرِيمٍ أَوْ إبَاحَةٍ، وَصَارَ الْوُجُوبُ بِالنَّسْخِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ. قَالَ: إلَّا أَنْ يَأْتِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ أَيْضًا. قَالَ: وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ يَبْقَى الْجَوَازُ لَسَاغَ أَنْ يُقَالَ: يَبْقَى النَّدْبُ، لَا سِيَّمَا وَالِاقْتِضَاءُ كَائِنٌ فِي النَّدْبِ كَمَا أَنَّهُ كَائِنٌ فِي الْوُجُوبِ، وَاحْتَجَّ لَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ الْأَمْرَ مَوْضُوعٌ لِلْوُجُوبِ، وَالْجَوَازُ إنَّمَا دَخَلَ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَيَمْتَنِعُ فِعْلُهُ، وَإِذَا انْتَفَى اللَّفْظُ فَلَا يَبْقَى مَا كَانَ فِي ضِمْنِهِ.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: إنَّهُ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِهِمْ. قَالَ: وَبَنَوْا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ لْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ، فَإِنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ سَابِقٌ عَلَى الْحِنْثِ، وَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، فَبَقِيَ الْجَوَازُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَنَا. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِبَقَاءِ الْجَوَازِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِ، هَلْ هُوَ عَدَمُ الْحَرَجِ عَنْ الْفِعْلِ فَقَطْ، أَوْ رَفْعُهُ عَنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؟ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا: عِنْدَ التَّحْقِيقِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْحَرَجِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مَا تَسَاوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَهُوَ جُزْءُ مَاهِيَّةِ الْوُجُوبِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ قَيْدُ الْمَنْعِ مِنْ التَّرْكِ بَقِيَ الْجَوَازُ قَطْعًا، وَالثَّانِي لَيْسَ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْوُجُوبِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ارْتِفَاعِ قَيْدِ الْمَنْعِ مِنْ التَّرْكِ بَقَاءُ التَّسَاوِي. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُفْرَضَ الْخِلَافُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ: أَوْجَبْت عَلَيْك الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ، ثُمَّ قَالَ: نَسَخْت الْوُجُوبَ، هَلْ يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْفِعْلِ أَمْ لَا؟ . وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَوَازِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ

شَرْعًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: حَقِيقَةُ الْجَوَازِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَالتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا بِتَسْوِيَةِ الشَّارِعِ. وَقَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ: أَكْثَرُهُمْ يَجْعَلُ الْخِلَافَ لَفْظِيًّا، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ عَنَى بِالْجَوَازِ الَّذِي لَا يَبْقَى بَعْدَ رَفْعِ الْوُجُوبِ التَّخْيِيرَ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ جُزْءًا لِلْوَاجِبِ بَلْ هُوَ قَسِيمُهُ وَمُقَابِلُهُ، وَمَنْ قَالَ يَبْقَى، لَمْ يَعْنِ بِالْجَوَازِ الْجُزْءَ بَلْ عَنَى بِهِ رَفْعَ الْحَرَجِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْوَاجِبِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الرَّازِيَّ يَقُولُ: يَبْقَى الْجَوَازُ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. قَالَ: وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ التِّلِمْسَانِيُّ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَقَالَ الْقَرَافِيِّ: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ بِمَعْنَى مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، قَالَ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ ثُمَّ يَقُولُ الْآمِرُ: رَفَعْت الْوُجُوبَ فَقَطْ. أَمَّا إنْ نُسِخَ الْأَمْرُ بِالتَّحْرِيمِ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ قَطْعًا، أَوْ قَالَ رَفَعْت جُمْلَةَ مَا دَلَّ الْأَمْرُ السَّابِقُ مِنْ جَوَازٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ قَطْعًا. قُلْت: الْغَزَالِيُّ مُنَازِعٌ فِي أَصْلِ بَقَاءِ الْجَوَازِ؛ لِقَوْلِهِ: إنَّ الْحَالَ يَعُودُ إلَى مَا قَبْلُ مِنْ تَحْرِيمٍ أَوْ إبَاحَةٍ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ الْحَالُ قَبْلَ الْوُجُوبِ تَحْرِيمًا، فَعِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ يَكُونُ الْفِعْلُ الْآنَ مُحَرَّمًا كَمَا كَانَ أَوْ لَا، وَعِنْدَ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ مُطْلَقَ الْجَوَازِ الَّذِي كَانَ دَاخِلًا فِي ضِمْنِ الْوُجُوبِ بَاقٍ يُصَادِمُ مَا دَلَّ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَالْخِلَافُ مَمْنُوعٌ قَطْعًا.

وَلِلْمَسْأَلَةِ الْتِفَاتٌ إلَى بَحْثٍ عَقْلِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْفَصْلَ عِلَّةٌ لِوُجُودِ حِصَّةِ النَّوْعِ مِنْ الْجِنْسِ، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْفَصْلِ عَدَمُ حِصَّةِ النَّوْعِ مِنْ الْجِنْسِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعِلَّةِ عَدَمُ الْمَعْلُولِ، وَابْنُ سِينَا هُوَ الْقَائِلُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَالرَّازِيَّ يُخَالِفُهُ فِيهَا، وَيَقُولُ: ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَإِلَى بَحْثٍ أُصُولِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُبَاحَ هَلْ هُوَ جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ، وَالْجَائِزُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ أَمْ لَا؟ وَالْمُرَادُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ مَا لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ جَوَازِ تَرْكِهِ، وَبِالْأَهَمِّ مَا لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، وَلِهَذَا قَدَّمْت ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهَا. وَعَبَّرَ عَنْهَا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ هَلْ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الْأَدَاءِ، أَمْ لَا؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ شَرْعًا، وَلَا يَكُونُ الْمُؤَدَّى جَائِزًا، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى تِلْمِيذُ الْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُحِيطِ " بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: هَلْ الْفَرْضُ دَاخِلٌ فِي جِنْسِ النَّفْلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ نَفْلٌ وَزِيَادَةٌ أَوْ هُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ؟ خِلَافٌ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَا إذَا قَامَ عَنْ السُّجُودِ نَاسِيًا، وَقَصَدَ الِاسْتِرَاحَةَ، فَإِنْ قُلْنَا: النَّفَلُ دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْفَرْضِ فَلَمْ تَكُنْ الِاسْتِرَاحَةُ فِيهِ مُنَاقِضَةً لِنِيَّةِ الْفَرْضِ الْبَاقِيَةِ كُلِّهَا، بَلْ تَعَرَّضَتْ لِبَعْضِهَا فَصَحَّتْ الْجِلْسَةُ عَنْ الْفَرْضِ بِالنِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَإِنْ جَعَلْنَا النَّفَلَ غَيْرَ الْفَرْضِ فَلَمْ يُجْزِ عَنْ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ. انْتَهَى. وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ الْمَعْدُودَةُ فِي إقَامَةِ النَّفْلِ مَقَامَ الْفَرْضِ كَاللُّمْعَةِ وَغَيْرِهَا.

قاعدة تجمع مسائل جائز الترك مطلقا

تَنْبِيهٌ) إذَا سَقَطَ الْأَمْرُ بِالنَّسْخِ، وَقُلْنَا: إنَّهُ سَقَطَ الْجَوَازُ فَإِلَى مَاذَا يَرْجِعُ حُكْمُهُ؟ قِيلَ: إلَى مَا قَبْلَ الْوُجُوبِ مِنْ تَحْرِيمٍ أَوْ إبَاحَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِيهِمَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَرْجِعُ إلَى حُكْمِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. هَلْ هِيَ عَلَى الْوَقْفِ أَوْ الْحَظْرِ أَوْ الْإِبَاحَةِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا أَوْلَى مِنْ ذِكْرِهَا فِي النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ نَظَرٌ فِي حَقِيقَةِ الْجَوَازِ لَا فِي حَقِيقَةِ النَّسْخِ. [قَاعِدَةٌ تَجْمَعُ مَسَائِلَ جَائِزُ التَّرْكِ مُطْلَقًا] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الزِّيَادَةُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ] قَاعِدَةٌ تَجْمَعُ مَسَائِلَ جَائِزُ التَّرْكِ مُطْلَقًا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَتَجَوَّزْنَا بِمُطْلَقًا عَنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَالْمُوَسَّعِ وَالْمُخَيَّرِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ: (الْمَسْأَلَةُ) الْأُولَى (الزِّيَادَةُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ) أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى أَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فِيمَا لَا يَتَقَدَّرُ بِمُعَيَّنٍ، كَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَتَطْوِيلِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَأُلْحِقَ بِهَا إمْسَاكُ بَعْضِ اللَّيْلِ احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ إذَا لَمْ نُوجِبْهُ، كَمَا حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ، وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ "، وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " وَالْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ "، وَغَيْرُهُمْ.

وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي " الْمَطْلَبِ " فِي مَسْحِ الرَّأْسِ: إنَّهُ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: الْكُلُّ وَاجِبٌ إذْ لَيْسَ بَعْضٌ أَوْلَى، فَكَانَ الْكُلُّ وَاجِبًا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ، كَمَا نَقَلَهُ فِي " الْبَحْرِ " عَنْهُ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ، فِيمَا إذَا أَوْصَى بِوَضْعِ بَعْضِ النُّجُومِ، وَيُحْكَى عَنْ الْكَرْخِيِّ وَنَسَبَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " إلَى الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ، وَقَالَ: حَتَّى قَالُوا: إنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُطْلَبُ مِنْ الصَّبِيِّ حَتْمًا، وَلَوْ أَتَى بِهِ وَقَعَ وَاجِبًا، وَعَلَى هَذَا فَوَصْفُهُ بِالِاسْتِحْبَابِ قَبْلَ الْإِيقَاعِ، أَمَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيَقَعُ فَرْضًا. وَقِيلَ عَلَيْهِ: إنَّ حُكْمَ مَسْحِ الْبَعْضِ الْمُجْزِئِ حُكْمُ خِصَالِ " الْكَفَّارَةِ " فَأَيُّ خَصْلَةٍ فَعَلَهَا حُكِمَ بِأَنَّهَا الْوَاجِبُ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي " الْمَطْلَبِ ": وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ أَحَدًا قَالَ فِيمَا إذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا، ثُمَّ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ فَرْضًا فِي جَمَاعَةٍ، وَقُلْنَا: الثَّانِيَةُ هِيَ الْفَرْضُ: إنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَحَدُ الظُّهْرَيْنِ عَلَى التَّخْيِيرِ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَعْضِ أَجْزَأَهُ، فَالزَّائِدُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَسُبُعُ الْبَدَنَةِ لِلْمُتَمَتِّعِ وَإِلَّا فَالْكُلُّ فَرْضٌ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ بَعِيرًا عَنْ الشَّاةِ فِي الْخُمُسِ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى خُمُسِ بَعِيرٍ فَقَطْ لَمْ يُجْزِئْهُ قَطْعًا، وَادَّعَى النَّوَوِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنْ " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " اتِّفَاقَ أَصْحَابِنَا عَلَى تَصْحِيحِهِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَنَا مَا تَتَنَاوَلُهُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ، وَعِنْدُهُمْ تَتَنَاوَلُهَا. قُلْت: وَعَقَدَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " مَسْأَلَةَ الْأَمْرِ بِفِعْلِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي

وُجُوبَ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ. قَالَ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَكْثَرِ وَزَيَّفَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَمَرَ بِشَيْءٍ فَلَزِمَهُ أَدْنَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَزَادَ عَلَيْهِ، فَالزِّيَادَةُ تَطَوُّعٌ، وَعَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ. اهـ. فَجَعَلَ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ مُفَرَّعًا عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ أَدْنَى الِاسْمِ. تَنْبِيهَاتٌ (التَّنْبِيهُ) الْأَوَّلُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْخِلَافُ يُتَّجَهُ فِيمَا وَقَعَ مُتَعَاقِبًا كَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْقِيَامِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ بِجُمْلَتِهِ مَعًا، وَلَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ بِالْإِشَارَةِ [وَالتَّعْبِيرِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: قَدْرُ الْأَصْلِ] مِنْهُ وَاجِبٌ، وَالْبَاقِي نَدْبٌ. قُلْت: وَقَدْ حَكَوْا طَرِيقَيْنِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. هَلْ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْجَمِيعُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، حَتَّى إذَا وَقَعَ مُرَتَّبًا يَكُونُ نَفْلًا جَزْمًا أَمْ الْخِلَافُ فِي الصُّورَتَيْنِ؟ وَالصَّحِيحُ: الثَّانِي. كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ". لَكِنْ الْأَقْوَى الْأَوَّلُ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. (التَّنْبِيهُ) الثَّانِي زَعَمَ السُّهْرَوَرْدِيّ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ يَرْجِعُ إلَى تَفْسِيرِ الْوُجُوبِ بِمَاذَا؟ وَالْحَقُّ: أَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ وَلِلْخِلَافِ فَوَائِدُ:

المسألة الثانية الصوم واجب على أصحاب الأعذار

مِنْهَا: زِيَادَةُ الثَّوَابِ فَإِنَّ ثَوَابَ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ النَّفْلِ، وَمِنْهَا: إذَا مَسَحَ عَلَى شَعْرٍ ثُمَّ حَلَقَ بَعْضَهُ. فَإِنَّ مَنْ يَرَى أَنَّهُ إذَا حُلِقَ كُلُّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ، قَدْ يَقُولُ: إذَا قُلْنَا: الْكُلُّ وَاجِبٌ لَزِمَهُ إعَادَةُ الْمَسْحِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَلَقَهُ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُ بِفِعْلِهَا يَكُونُ مُعَيِّنًا لِوُجُوبِهَا، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ إذَا فُعِلَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ ثُمَّ فَسَدَ أَوْ أُفْسِدَ، ثُمَّ أَتَى بِهِ فِي بَقِيَّةِ الْوَقْتِ يَكُونُ قَضَاءً؛ لِأَنَّهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ تَعَيَّنَ. قَالَهُ فِي الْمَطْلَبِ. (التَّنْبِيهُ) الثَّالِثُ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ ": الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي زَائِدٍ يُمْكِنُ انْفِكَاكُ الْوَاجِبِ مِنْهُ أَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ تَبَعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ يَعْنِي، بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَنَاوَلُ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ مَعَ كَوْنِهِ ضِدَّ الْمُوجِبِ الْآخَرِ، كَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَلَأَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مَعَ جِنْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْلَى، وَحَاصِلُهُ: تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِمَا إذَا أَمْكَنَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَصْلِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِفِعْلِ الْكُلِّ، فَالْكُلُّ وَاجِبٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَهَذَا كَمَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَإِذَا انْكَسَرَ مُدٌّ صَامَ، يَوْمًا كَامِلًا لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ، وَيَقَعُ فَرْضًا قَطْعًا وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ " فِيمَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ فَاعْتَكَفَ أَقْصَرَ الْأَيَّامِ أَجْزَأَهُ أَوْ أَطْوَلَ الْأَيَّامِ وَقَعَ الْجَمِيعُ فَرْضًا. أَيْ: مِنْ غَيْرِ تَخْرِيجٍ عَلَى الْخِلَافِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ [الصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ] قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ

مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ لَهُمْ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] . وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، فَقَالَ: ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي الْحَالِ، كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، أَوْ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الصَّوْمُ فِي الْحَالِ، كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، وَيَأْتُونَ بِهِ عِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ وَهُوَ قَضَاءٌ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ. قَالَ: وَالْقَوْلُ بِإِيجَابِهِ عَلَى الْحَائِضِ مُشْكِلٌ جِدًّا، ثُمَّ وَجَّهَهُ، وَقَالَ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": فِي الْمُسَافِرِ مَذْهَبَانِ ضَعِيفَانِ. أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ فِي سَفَرٍ، وَالثَّانِي: مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ: أَنَّ الْوَاجِبَ أَيَّامٌ أُخَرٌ، وَلَكِنْ لَوْ صَامَ رَمَضَانَ صَحَّ وَكَانَ مُعَجِّلًا لِلْوَاجِبِ، كَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تُفْهِمُ إلَّا الرُّخْصَةَ فِي التَّأْخِيرِ، وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ صَوْمُ أَحَدِ الشَّهْرَيْنِ إمَّا شَهْرُ الْأَمْرِ أَوْ شَهْرُ الْقَضَاءِ وَأَيٌّ مَا صَامَ كَانَ أَصْلًا، كَالْأَنْوَاعِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ عَنْ الْأَشْعَرِيَّةِ. قَالَ: وَقَالُوا فِي الْمَرِيضِ وَالْحَائِضِ كَقَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَ الْعُذْرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: اخْتَلَفُوا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ

وَالْحَائِضِ الَّذِينَ لَا يَلْزَمُهُمْ فِعْلُ الصَّوْمِ فِي الْحَالِ لِأَجْلِ عُذْرِهِمْ. هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ؟ فَمَذْهَبُنَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ فِي الْحَالِ إلَّا أَنَّهُمْ يَجُوزُ لَهُمْ تَأْخِيرُهُ إلَى أَنْ يَزُولَ الْعُذْرُ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي الْحَالِ دُونَ الْمَرِيضِ. قَالُوا: وَأَمَّا الْحَائِضُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَيْهَا، وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ بِدْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ الْمَقْدِسِيُّ فِي " الْفُرُوقِ ": وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْمُسَافِرَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ الْوَاجِبَ غَيْرُ كَوْنِهِ وَاجِبًا. فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ وَاجِبٍ وَمُبَاحٍ، بَلْ الْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَ فِعْلِ الصَّوْمِ وَبَيْنَ فِعْلِ الْعَزْمِ عَلَى قَضَائِهِ، فَيَكُونُ الْعَزْمُ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ مِنْ الْوَقْتِ، وَحَاصِلُهُ: الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَأَمَّا الْحَائِضُ فَفِي وُجُوبِهِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ. صَحَّحَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ الْوُجُوبَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلَ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَّا وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهَا لَا تُخَاطَبُ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " الرَّوْضَةِ ": إنَّهُ الْأَصَحُّ، إذْ الْقَضَاءُ لَا يَجِبُ إلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ. قُلْت: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ "، فَقَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ التَّكْلِيفَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَالِغِينَ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَكَذَا التَّنْزِيلُ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْبَالِغِينَ الْعَالِمِينَ دُونَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَمَنْ بَلَغَ مِمَّنْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ مِنْ ذَوِي الْحَيْضِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ. هَذَا لَفْظُهُ، وَقَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ: إنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهَا مُكَلَّفَةً بِتَقْدِيرِ زَوَالِ الْمَانِعِ فَحَقٌّ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا تُؤْمَرُ بِالْإِتْيَانِ بِالصَّوْمِ حَالَةَ الْحَيْضِ فَبَاطِلٌ، وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَيْضًا، وَقِيلَ: بَلْ يَظْهَرُ فِي النِّيَّةِ إذَا قُلْنَا: يَجِبُ التَّعَرُّضُ لِلْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ. وَحَكَى إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وُجُوبَهُ عَلَيْهَا بِمَعْنَى تَرَتُّبِهِ فِي ذِمَّتِهَا لَا وُجُوبِ أَدَائِهِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى مَا تُؤَدِّيهِ بَعْدَ الْحَيْضِ قَضَاءً، وَرَأَيْت مَنْ يَحْكِي ذَلِكَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَحِينَئِذٍ فَيَصِيرُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْوُجُوبِ لَا يَعْنِي غَيْرَ ذَلِكَ، فَبَقِيَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ قَبْلَ الطُّهْرِ أَمْ لَا؟ وَنَظِيرُ هَذَا، أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ هَلْ يُوصَفُ قَبْلَ الْحُلُولِ بِالْوُجُوبِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ عَنْ الْقَفَّالِ فِي بَابِ الدَّعَاوَى. وَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا مَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ دَيْنًا مُؤَجَّلًا قَبْلَ الْمَحِلِّ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ: لَا يَلْزَمُنِي دَفْعُ شَيْءٍ إلَيْك الْآنَ وَيَحْلِفُ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَقُولُ لَا شَيْءَ عَلَيَّ مُطْلَقًا؟ قَالَ الْقَفَّالُ: فِيهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى هَذَا. قُلْت: وَالْمَسْأَلَةُ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ عَلَى الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ فِي صِحَّةِ سَمَاعِ الدَّعْوَى بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ كَمَا حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ " التَّدْبِيرِ ": أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ، إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إلْزَامٌ وَمُطَالَبَةٌ فَلَا فَائِدَةَ فِيهَا.

المسألة الثالثة المباح مأمور به

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْمُبَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ] ِ قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْمُبَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ تَرْكُ الْحَرَامِ وَهُوَ وَاجِبٌ، فَالْمُبَاحُ وَاجِبٌ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَحْثِ الْمُبَاحِ.

فصل في فرض الكفاية

[فَصْلٌ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ] ِ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي تَعْرِيفِهِ: كُلُّ مُهِمٍّ دِينِيٍّ يُرَادُ حُصُولُهُ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ عَيْنُ مَنْ يَتَوَلَّاهُ. فَخَرَجَ بِالْقَيْدِ الْأَخِيرِ فَرْضُ الْعَيْنِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وُقُوعُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى فَاعِلِهِ، بِخِلَافِ فَرْضِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْفَاعِلُ، وَجَعَلَهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، لَكِنْ الْحَقُّ: أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَنْقَطِعُ النَّظَرُ عَنْ فَاعِلِهِ بِدَلِيلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. نَعَمْ لَيْسَ الْفَاعِلُ فِيهِ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ بَلْ بِالْعَرَضِ، إذْ لَا بُدَّ لِكُلِّ فِعْلٍ مِنْ فَاعِلٍ، وَالْقَصْدُ بِالذَّاتِ وُقُوعُ الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ: " دِينِيٍّ " بَنَاهُ عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ الْحِرَفَ وَالصِّنَاعَاتِ وَمَا بِهِ قِوَامُ الْمَعَاشِ لَيْسَ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي " الْوَسِيطِ " تَبِعَا لِإِمَامِهِ. لَكِنْ الصَّحِيحُ خِلَافُهُ، وَلِهَذَا لَوْ تَرَكُوهُ أَثِمُوا، وَمَا حَرُمَ تَرْكُهُ وَجَبَ فِعْلُهُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ.

المسألة الأولى فرض الكفاية لا يباين فرض العين

[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَرْضُ الْكِفَايَةِ لَا يُبَايِنُ فَرْضَ الْعَيْنِ] ِ) فَرْضُ الْكِفَايَةِ لَا يُبَايِنُ فَرْضَ الْعَيْنِ بِالْجِنْسِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، بَلْ يُبَايِنُهُ بِالنَّوْعِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ شَمِلَ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالثَّانِيَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ تَأْثِيمِ الْجَمِيعِ عِنْدَ التَّرْكِ لَكِنَّهُ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، فَالْوُجُوبُ صَادِقٌ عَلَيْهِمَا بِالتَّوَاطُؤِ لَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ عَلَى الْأَصَحِّ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَلْ يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ] (الْمَسْأَلَةُ) الثَّانِيَةُ (هَلْ يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ؟) اخْتَلَفُوا هَلْ يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ؟ . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِتَعَذُّرِ خِطَابِ الْمَجْهُولِ بِخِلَافِ خِطَابِ الْمُعَيَّنِ بِالشَّيْءِ الْمَجْهُولِ، فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ كَالْكَفَّارَةِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ " الْأُمِّ ": مِنْهَا قَوْلُهُ: حَقٌّ عَلَى النَّاسِ غُسْلُ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ، لَا يَسَعُ عَامَّتَهُمْ تَرْكُهُ، وَإِذَا قَامَ مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ أَجْزَأَهُ عَنْهُمْ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - وَهُوَ كَالْجِهَادِ عَلَيْهِمْ حَقٌّ أَنْ لَا يَدَعُوهُ، وَإِذَا انْتَدَبَ مِنْهُمْ مَنْ يَكْفِي النَّاحِيَةَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْجِهَادُ أَجْزَأَ عَنْهُمْ، وَالْفَضْلُ لِأَهْلِ الْوِلَايَةِ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ التَّخَلُّفِ عَنْهُمْ.

وَقَالَ فِي بَابِ السَّلَفِ فِيمَنْ حَضَرَ كِتَابَ حَقٍّ بَيْنَ رَجُلَيْنِ: وَلَوْ تَرَكَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ الْكِتَابَ خِفْت أَنْ يَأْثَمُوا بَلْ لَا أَرَاهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِثْمِ وَأَيُّهُمْ قَامَ بِهِ أَجْزَأَ عَنْهُمْ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ فِي الشُّهُودِ إذَا دُعُوا لِلْأَدَاءِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ فِي طُرُقِهِمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْقَاضِي، وَالْغَزَالِيُّ. قَالُوا: وَالْجُمْلَةُ مُخَاطَبَةٌ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ، وَمَتَى لَمْ تَقَعْ الْكِفَايَةُ فَالْكُلُّ آثِمُونَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ مِنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُمَا افْتَرَقَا فِي السُّقُوطِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ. ثُمَّ عِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ وَجَبَ عَلَى عَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إذَا قُلْنَا: إنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ. قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَمِيعٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَإِنْ قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْ الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ الْجَمِيعُ. وَيَظْهَرُ تَغَايُرُ الْقَوْلَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ التَّأْثِيمِ عِنْدَ التَّرْكِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَأْثِيمُ كُلِّ وَاحِدٍ يَكُونُ وَاقِعًا بِالذَّاتِ، وَعَلَى الثَّانِي بِالْعَرَضِ، وَقَدْ ضَعَّفَ صَاحِبُ " التَّنْقِيحَاتِ " الْقَوْلَ الثَّانِيَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ إذَا تَعَيَّنَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِالْفِعْلِ، وَلَيْسَ الشَّيْءُ مِمَّا يَفُوتُ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَإِسْقَاطُهُ عَنْ الْبَاقِينَ رَفْعٌ لِلطَّلَبِ بَعْدَ التَّحَقُّقِ فَيَكُونُ نَسْخًا، وَلَا يَصِحُّ دُونَ خِطَابٍ جَدِيدٍ، وَلَا خِطَابَ، فَلَا نَسْخَ، فَلَا سُقُوطَ. بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ وُجُوبُهُ عَلَى الْجَمِيعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جَمِيعٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ هَذَا الْإِشْكَالُ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْحُكْمِ

عَلَى جُمْلَةٍ إيجَابُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ تَرْجِيحُ الثَّانِي، فَإِنَّ تَكْلِيفَ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ لَا يُعْقَلُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْأَفْرَادُ رَجَعَ لِقَوْلِنَا. وَقَوْلُهُ: يَلْزَمُ مِنْهُ رَفْعُ الطَّلَبِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّسْخِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ رَفْعَ الطَّلَبِ كَمَا يَكُونُ بِالنَّسْخِ يَكُونُ بِانْتِفَاءِ عِلَّةِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ احْتِرَامًا لِلْمَيِّتِ كَمَا أَوْجَبَ دَفْنَهُ سَتْرًا لَهُ، فَإِذَا قَامَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ زَالَتْ الْعِلَّةُ فَيَسْقُطُ الْوُجُوبُ؛ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ، كَمَا أَنَّهُ يَسْقُطُ وُجُوبُ الدَّفْنِ إذَا احْتَرَقَ الْمَيِّتُ أَوْ أَكَلَهُ السَّبُعُ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ. وَيَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: " وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ " فِيهِ تَجَوُّزٌ، فَإِنَّ عِلَّةَ السُّقُوطِ بِالْحَقِيقَةِ هِيَ انْتِفَاءُ عِلَّةِ الْوُجُوبِ لَا فِعْلُ الْبَعْضِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِعْلُ الْبَعْضِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ عِلَّةِ الْوُجُوبِ نُسِبَ السُّقُوطُ إلَيْهِ تَجَوُّزًا. هَذَا إنْ عَلَّلْنَا أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَقَاصِدِ، وَمَنْ لَمْ يُعَلِّلْهَا بِالْمَقَاصِدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ بَعْضِهِمْ أَمَارَةً عَلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْ الْبَاقِينَ، وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكُلِّ لَمَا سَقَطَ بِفِعْلِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ الْآخَرَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ، وَتَارِكُ الْوَاجِبِ مُسْتَحِقُّ الْعِقَابِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْإِيجَابَ مُتَعَلَّقٌ بِالْجَمِيعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالْجَمِيعِ تَعَلُّقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ سُقُوطَهُ عَنْ الْبَاقِينَ لَتَعَذُّرِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَالتَّكْلِيفُ تَارَةً يَسْقُطُ بِالِامْتِثَالِ، وَتَارَةً يَسْقُطُ بِتَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: هَلْ نَقُولُ إذَا فَعَلَهُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَهُمْ، أَوْ نَقُولُ بِأَنَّ آخِرَ الْأَمْرِ أَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَتَنَاوَلْ سِوَى مَنْ فَعَلَهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ.

قُلْت: وَهُوَ يُشْبِهُ الْقَوْلَ الْمَحْكِيَّ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا بِالْفِعْلِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْبَعْضِ، وَعَلَى هَذَا فَهَلْ هُوَ مُبْهَمٌ أَوْ مُعَيَّنٌ؟ قَوْلَانِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ هَلْ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ أَوْ مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ دُونَ النَّاسِ؟ قَوْلَانِ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَوَلِّي وَجْهُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِطَائِفَةٍ مُبْهَمَةٍ وَيَتَعَيَّنُ بِالْفِعْلِ. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ تَفْصِيلًا بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا يَجِبُ وَإِلَّا وَجَبَ، وَاسْتَحْسَنَهُ. قَالَ: وَالْخِلَافُ عِنْدِي لَفْظِيٌّ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. قُلْت: وَقَدْ يُقَالُ: بِأَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي صُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ هَلْ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ؟ فَمَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ أَوْجَبَهُ بِالشُّرُوعِ لِمُشَابِهَتِهِ فَرْضَ الْعَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ: إذَا فَعَلَتْهُ طَائِفَةٌ، ثُمَّ فَعَلَتْهُ أُخْرَى هَلْ يَقَعُ فِعْلُ الثَّانِيَةِ فَرْضًا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ. وَكَلَامُ الْإِمَامِ فِي الْمَحْصُولِ مُضْطَرِبٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقُولُ: عَلَى الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُتَنَاوِلًا لِجَمَاعَةٍ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، وَمُرَادُهُ بِالْجَمْعِ أَعَمُّ مِنْ التَّعْمِيمِ وَالِاجْتِمَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَسَمَهُ إلَيْهِمَا، فَقَالَ فِي التَّنَاوُلِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ: إنَّهُ مُمْكِنٌ فَقَدْ يَكُونُ فِعْلُ بَعْضِهِمْ شَرْطًا فِي فِعْلِ الْبَعْضِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْجَمِيعِ لَا جَمِيعًا وَلَا إنْسَانًا، وَإِنَّمَا عَلَى الْبَعْضِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: فَمَتَى حَصَلَ ذَلِكَ بِالْبَعْضِ لَمْ يَلْزَمْ الْبَاقِينَ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْجَمِيعِ لَمَا قَالَ: " لَمْ يَلْزَمْ الْبَاقِينَ " بَلْ كَانَ يَقُولُ: (سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ) غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ السُّقُوطِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي تَأْوِيلُهُ لِيُجْمَعَ كَلَامَاهُ.

المسألة الثالثة إذا ترك الجميع فرض الكفاية

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إذَا تَرَكَ الْجَمِيعُ فَرْضَ الْكِفَايَةِ] ِ أَثِمُوا) إذَا تَرَكَهُ الْجَمِيعُ أَثِمُوا، وَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِالْبَعْضِ، وَوَجَّهَهُ الْإِمَامُ فِي بَابِ الْأَذَانِ مِنْ " النِّهَايَةِ " بِأَنَّ تَعْطِيلَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ مِنْ الْجَمِيعِ بِمَثَابَةِ تَعْطِيلِ الْوَاحِدِ فَرْضَ الْعَيْنِ، فَلِهَذَا يَنَالُ الْكَافَّةَ الْحَرَجُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، كَمَا يَنَالُهُ الْوَاحِدَ فِي فَرْضِ الْعَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ قُوتِلُوا، وَشَبَّهَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " ذَلِكَ بِمَنْ ضَمِنَ أَلْفًا عَنْ الْمَدْيُونِ، ثُمَّ تَمَنَّعَ مَعَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ عَنْ الْأَدَاءِ فَيَعْصِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَرْكِ أَدَاءِ الْأَلْفِ الْمُلْتَزَمَةِ، وَإِنْ كَانَ يَقْصِدُ الْمُطَالِبُ مِنْهُمَا أَلْفًا، فَلَمَّا عَمَّهُمَا الْوُجُوبُ عَمَّتْهُمَا الْمَعْصِيَةُ بِالتَّرْكِ. وَحَكَى أَصْحَابُنَا وَجْهَيْنِ فِي تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إذَا تَرَكَهُ الْجَمِيعُ. هَلْ يَعُمُّهُمْ الْإِثْمُ أَوْ يَخْتَصُّ بِاَلَّذِينَ نُدِبُوا إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَصَحُّهُمَا: يَأْثَمُ كُلُّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ التَّكْلِيفُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ مَنُوطٌ بِالظَّنِّ لَا بِالتَّحْقِيقِ] (الْمَسْأَلَةُ) الرَّابِعَةُ (التَّكْلِيفُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ مَنُوطٌ بِالظَّنِّ لَا بِالتَّحْقِيقِ) التَّكْلِيفُ بِهِ مَنُوطٌ بِالظَّنِّ لَا بِالتَّحْقِيقِ، فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ قَامَ بِهِ غَيْرُهُ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ أَحَدٌ، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى فِعْلِ الْجَمِيعِ، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ " مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْغَيْرَ هَلْ يَفْعَلُ أَوْ لَا؟

المسألة الخامسة سقوط فرض الكفاية بفعل الجميع دفعة واحدة

غَيْرُ مُمْكِنٍ إنَّمَا الْمُمْكِنُ تَحْصِيلُ الظَّنِّ، وَلَك أَنْ تَقُولَ: الْوُجُوبُ عَلَى الْكُلِّ مَعْلُومٌ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْعِلْمِ، وَلَيْسَ مِنْهُ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُمْكِنُ إلَى حُصُولِ الْعِلْمِ، ثُمَّ نَقُولُ: إنَّمَا لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِعَدَمِ فِعْلِ الْغَيْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّ غَيْرَهَا يَقُومُ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: سَقَطَ أَيْ فِي الظَّاهِرِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَاضِي فَيُمْكِنُ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ. [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ سُقُوطُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ بِفِعْلِ الْجَمِيعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً] (الْمَسْأَلَةُ) الْخَامِسَةُ (سُقُوطُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ بِفِعْلِ الْجَمِيعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً) إذَا أَتَى بِهِ دَفْعَةً جَمِيعُ مَنْ خُوطِبَ بِهِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ، وَحَصَلَ ثَوَابُهُ لَهُمْ، وَيَقَعُ فِعْلُ كُلٍّ فَرْضًا، إذْ لَيْسَ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِوَصْفِهِ بِالْقِيَامِ بِالْفَرْضِ مِنْ الْبَعْضِ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِالْفَرْضِيَّةِ لِلْجَمِيعِ. حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ الْجَنَائِزِ عَنْ الْأَئِمَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَإِيصَالِ الْمُتَوَضِّئِ الْمَاءَ إلَى جَمِيعِ رَأْسِهِ دَفْعَةً، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْجَمِيعَ فَرْضٌ، أَوْ الْفَرْضَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَقَطْ؟ وَلَكِنْ قَدْ يُخَيَّلُ لِلْفَطِنِ فَرْقٌ وَيَقُولُ: مَرْتَبَةُ الْفَرْضِيَّةِ فَوْقَ رُتْبَةِ السُّنَّةِ وَكُلُّ مُصَلٍّ فِي الْجَمْعِ الْكَبِيرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْرَمَ رُتْبَةَ الْفَرْضِيَّةِ، وَقَدْ قَامَ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَهَذَا لَطِيفٌ لَا يَصِحُّ مِثْلُهُ فِي الْمَسْحِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إذَا بَاشَرَهُ أَكْثَرُ مَنْ يَحْصُلُ بِهِ تَأَدِّي الْفَرْضِ، هَلْ يُوصَفُ فِعْلُ الْجَمِيعِ بِالْفَرْضِيَّةِ؟ قَالَ: وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا: إنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْكِفَايَةُ بِغَيْرِهِ أَرَدْنَا بِهِ يُسْتَحَبُّ الشُّرُوعُ وَالِابْتِدَاءُ، وَلَمْ نُرِدْ بِهِ أَنَّهُ يَقَعُ مُسْتَحَبًّا فِي حَقِّهِ إذَا شَرَعَ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِ.

المسألة السادسة يسقط فرض الكفاية بمن فعله أولا

[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ يَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِمَنْ فَعَلَهُ أَوَّلًا] ) إذَا أَتَوْا بِهِ عَلَى التَّعَاقُبِ، فَإِنْ فَعَلَهُ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِهِ، ثُمَّ لَحِقَ بِهِمْ آخَرُونَ، سَقَطَ بِالْأَوَّلِينَ، وَوَقَعَ فِعْلُ الْآخَرِينَ فَرْضًا، كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ الْأَذَانِ مِنْ " التَّحْرِيرِ "، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ. وَفَصَّلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ، فَقَالَ: إنْ لَحِقُوا بِهِمْ قَبْلَ تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ كَانَ مَا فَعَلُوهُ فَرْضًا وَإِنْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ بِغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ لَمْ تَحْصُلْ بَعْدُ. ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ، وَذَكَرَ لَهُ أَمْثِلَةً. مِنْهَا: أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعَدُوِّ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِدَفْعِهِمْ، ثُمَّ لَحِقَ بِهِمْ آخَرُونَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ، فَيُكْتَبُ لَهُمْ أَجْرُ الْفَرْضِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ رُتَبُهُمْ فِي الثَّوَابِ لِقِلَّةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْعِلْمِ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ الْوَاجِبَةُ، ثُمَّ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ مَنْ يَشْتَغِلُ بِهِ، فَيَكُونُ فَرْضًا؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمْ تَكْمُلْ بَعْدُ، وَمِنْهَا: صَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَوْ أَحْرَمَتْ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْأُولَى كَانُوا كَمَنْ صَلَّى دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ أَحْرَمُوا بَعْدَهُ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: إنَّ الثَّانِيَةَ تَكُونُ فَرْضًا أَيْضًا إذْ لَا تَقَعُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ نَافِلَةً. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِمَا سَيَأْتِي عَنْ الرُّويَانِيِّ. وَمِنْهَا: لَوْ رَدَّ الْجَمِيعُ السَّلَامَ كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ سَوَاءٌ كَانُوا مَعًا أَوْ مُتَعَقِّبِينَ صَرَّحُوا بِهِ فِي السِّيَرِ.

المسألة السابعة هل يتعلق بالجميع وفعل البعض مسقط للحرج أم لا

[الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ وَفِعْلُ الْبَعْضِ مُسْقِطٌ لِلْحَرَجِ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ إذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ، وَفِعْلُ الْبَعْضِ مُسْقِطٌ لِلْحَرَجِ، فَهَلْ ذَلِكَ بِالشُّرُوعِ أَمْ لَا لِاحْتِمَالِ الْقَطْعِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَالصَّوَابُ: الثَّانِي، وَيُحْتَمَلُ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ هَلْ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ؟ [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ سَقَطَ بِفِعْلِ الْبَعْضِ] . الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ سَقَطَ بِفِعْلِ الْبَعْضِ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: سَقَطَ بِفِعْلِ الْبَعْضِ - أَيْ بَعْضِ مُكَلَّفٍ؛ لِيَخْرُجَ مَا قَامَ بِهِ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ فَإِنَّهُ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا، وَلِهَذَا لَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ صَبِيٌّ فَأَجَابَ الصَّبِيُّ وَحْدَهُ لَا يَسْقُطُ فَرْضُهُمْ بِجَوَابِهِ عَلَى الْأَصَحِّ وَقَالُوا: إذَا حَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ لَا يَسْتَأْجِرُ صَبِيًّا، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْإِسْلَامِ. نَعَمْ تَسْقُطُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِصَلَاةِ الصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ عِنْدَ وُجُودِ الرِّجَالِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": إنَّ الصَّبِيَّ إذَا أَذَّنَ، وَقُلْنَا: الْأَذَانُ فَرْضُ كِفَايَةٍ حَصَلَ الْفَرْضُ بِأَذَانِهِ. [الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَة سُقُوط فَرْضِ الْكِفَايَةِ بِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ] ِ هَلْ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ؟ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ

المسألة العاشرة فرض الكفاية يلزم بالشروع

فِي " تَذْكِرَةِ الْخِلَافِ " فِي مَسْأَلَةِ تَغْسِيلِ الشَّهِيدِ الْجُنُبِ. فَقَالَ: غُسْلُ الْمَلَائِكَةِ لَا يُسْقِطُ مَا تُعُبِّدَ بِهِ الْآدَمِيُّ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ، وَقِيَاسُ سَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَذَلِكَ، وَمِثْلُهُ هَلْ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْجِنِّ؟ لَمْ أَرَ فِيهِ تَصْرِيحًا، وَيَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ وَسَنَذْكُرُهُ. [الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ فَرْضُ الْكِفَايَة يَلْزَم بِالشُّرُوعِ] ِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ عَلَى الْمَشْهُورِ قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي " الْمَطْلَبِ " فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ، وَأَشَارَ فِي بَابِ اللَّقِيطِ إلَى أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ إنَّمَا هُوَ بَحْثٌ لِلْإِمَامِ، وَلِهَذَا قَالُوا: يَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ بِحُضُورِ الصَّفِّ، وَيَلْزَمُهُ إتْمَامُ الْجِنَازَةِ عَلَى الْأَصَحِّ بِالشُّرُوعِ، وَأَمَّا تَجْوِيزُهُمْ الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ فَبَعِيدٌ، وَلَمْ يُرَجِّحْ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ شَيْئًا بِخُصُوصِهِ، وَإِنَّمَا صَحَّحُوا فِي أَفْرَادِ مَسَائِلِهَا مَا يُخَالِفُ الْآخَرَ، وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ: أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ إذَا أَنِسَ مِنْ نَفْسِهِ النَّجَابَةَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَصَحَّحَا خِلَافَهُ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمَشْرُوعِ فِيهِ بِخِلَافِ الْجِهَادِ. وَقَالَ الْقَاضِي الْبَارِزِيُّ فِي تَمْيِيزِهِ ": وَلَا يَلْزَمُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالشُّرُوعِ عَلَى الْأَصَحِّ إلَّا فِي الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ. اهـ.

وَأَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْوَجِيزِ " أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، وَقَالَ فِي " الْوَسِيطِ ": وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَلِيقُ بِأَصْلِ الشَّافِعِيِّ تَعْيِينُ الْحُكْمِ بِالشُّرُوعِ، فَإِنَّ الشُّرُوعَ لَا يُغَيِّرُ حَقِيقَةَ الْمَشْرُوعِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَلْزَمُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ فِي بَابِ الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ: وَمَنْ لَابَسَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إتْمَامِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْإِضْرَابَ عَنْهُ، فَقَدْ نَقُولُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَصِيرُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْمُلَابَسَةِ مُتَعَيِّنًا، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَتَفْصِيلٌ سَأَذْكُرُهُ فِي بَابِ السِّيَرِ. قُلْت: وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمَفْعُولِ أَوَّلًا، أَمَّا لَوْ شَرَعَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ هَلْ يَلْزَمُ؟ قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ ": لَوْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بَعْدَمَا صَلَّى عَلَيْهَا فَرْضَ الْكِفَايَةِ هَلْ لَهُ " الْخُرُوجُ؟ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ يَنْبَنِيَانِ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ تَقَعُ فَرْضًا أَمْ لَا؟ وَفِيهِ جَوَابَانِ، وَالْقِيَاسُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَقَعُ فَرْضًا، لِأَنَّ الْفَرْضَ مَا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. اهـ. وَيَنْبَغِي جَرَيَانُهُ فِي سَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَجَزَمَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِوُقُوعِ الثَّانِيَةِ فَرْضًا.

المسألة الحادية عشرة هل يتعين فرض الكفاية بتعيين الإمام

[الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَة هَلْ يَتَعَيَّنُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ] ِ؟) إنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ هَلْ يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، صَنَّفَ فِيهِ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ الصَّيْدَلَانِيُّ: أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَمَرَ شَخْصًا بِتَجْهِيزِ مَيِّتٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَة الْقِيَام بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْعَيْنِ] (الْمَسْأَلَةُ) الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ (الْقِيَامُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْعَيْنِ) قِيلَ: الْقِيَامُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ فِيهَا الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَفِي فَرْضِ الْعَيْنِ يُسْقِطُ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَطْ. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي " شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ " وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُحِيطِ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ " وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ " الْغِيَاثِيِّ "، وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ

بِوُجُوبِ الْكِفَايَةِ عَلَى الْبَعْضِ، وَوَهَمَ بَعْضُهُمْ فَحَكَى عَنْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ، وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الْقِيَامِ بِهَذَا الْجِنْسِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ عِبَارَةُ الْجُوَيْنِيِّ: " وَلِلْقَائِمِ بِهِ مَزِيَّةٌ "، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْمَزِيَّةِ الْأَفْضَلِيَّةُ. عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ مَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ، فَفِي " الْأُمِّ ": إنَّ قَطْعَ الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَوْ الرَّوَاتِبِ مَكْرُوهٌ، إذْ لَا يَحْسُنُ تَرْكُ فَرْضِ الْعَيْنِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَمِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِهِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْإِحْيَاءِ " فِي شُرُوطِ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْخِلَافِ: أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِهِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مَنْ لَمْ يَتَفَرَّغْ عَنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ. قَالَ: وَمَنْ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ فَاشْتَغَلَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَزَعَمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَقُّ فَهُوَ كَذَّابٌ. وَمِثَالُهُ: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهِ وَتَبَحَّرَ فِي تَحْصِيلِ الثِّيَابِ وَنَسْجِهَا قَصْدًا لِسَتْرِ الْعَوْرَاتِ. اهـ. وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَكَانَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُخَصِّصُهُ بِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ أَوَّلًا. أَمَّا مَنْ فَعَلَهُ ثَانِيًا فَلَا يَكُونُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلَ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ حَصَلَ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ كُنَّا نُسَمِّي فِعْلَ الْآخَرِينَ فَرْضًا عَلَى رَأْيٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ الزَّمْلَكَانِيِّ: مَا ذَكَرَ مِنْ تَفْضِيلِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ عَلَى فَرْضِ الْعَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَعَارَضَا فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ تَعَيُّنِهَا وَحِينَئِذٍ هُمَا فَرَضَا عَيْنٍ، وَمَا يَسْقُطُ الْحَرَجُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَعَارَضَا، وَكَانَ فَرْضُ الْعَيْنِ مُتَعَلِّقًا بِشَخْصٍ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِهِ، فَفَرْضُ الْعَيْنِ أَوْلَى.

المسألة الثالثة عشرة يتصور المخير في الواجب الكفائي

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَة يُتَصَوَّرُ الْمُخَيَّرُ فِي الْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ] ِّ) كَمَا يُتَصَوَّرُ الْمُخَيَّرُ فِي الْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ كَمَا سَبَقَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ كَذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ، وَقَدْ ظَفِرْت لَهُ بِمِثَالٍ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرُقَهُ الْخِلَافُ. أَنَّهُ هَلْ الْوَاجِبُ الْجَمِيعُ أَوْ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ؟ . [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَة الْجَمْع بَيْنَ قَوْلِ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ] (الْمَسْأَلَةُ) الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ اُسْتُشْكِلَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ إنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَقَوْلِ الْفُقَهَاءِ: لَوْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ طَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ وَقَعَتْ صَلَاتُهُمْ فَرْضًا أَيْضًا، وَإِذَا سَقَطَ الْفَرْضُ بِالْأُولَى كَيْفَ تَقَعُ الصَّلَاةُ الثَّانِيَةُ فَرْضًا؟ ، وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " فَقَالَ: عِبَارَةُ الْمُحَقِّقِينَ: " يَسْقُطُ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ " أَيْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ هَذَا الْفِعْلِ، فَلَوْ فَعَلُوهُ وَقَعَ فَرْضًا كَمَا لَوْ فَعَلُوهُ مَعَ الْأَوَّلِينَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا عِبَارَةُ مَنْ يَقُولُ: سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ، فَمَعْنَاهُ سَقَطَ حَرَجُ الْفَرْضِ وَإِثْمُهُ. اهـ. قُلْت: وَهِيَ عِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَيَشْهَدُ لَهُ مَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي:

إنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ تَنْوِي بِصَلَاتِهِمْ الْفَرْضَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِمْ أَسْقَطَ عَنْهُمْ الْحَرَجَ لَا الْفَرْضَ، وَهَذَا قَدْ يُنْكِرُهُ الشَّادِي فِي الْعِلْمِ، وَيَقُولُ: لَا مَعْنَى لِلْفَرْضِ إلَّا الَّذِي يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ فِعْلِ الْأُولَى لَا يَلْحَقُ الثَّانِيَةَ حَرَجٌ عَلَى التَّرْكِ، فَلَا مَعْنَى لِبَقَاءِ الْفَرْضِ فِي حَقِّهِمْ، وَقَدْ أُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَحْصُلُ تَمَامُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَلَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَالثَّانِي: يَتَجَدَّدُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكْرَارِ الْفَاعِلِينَ لَهُ كَالِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ، وَحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الشَّفَاعَةُ، فَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ وَنَحْوُهَا كُلُّ أَحَدٍ مُخَاطَبٌ بِهِ، وَإِذَا وَقَعَ يَقَعُ فَرْضًا تَقَدَّمَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ إلَّا بِشَرْطِ قِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ، فَإِذَا قَامَ غَيْرُهُ بِهِ جَازَ التَّرْكُ وَارْتَفَعَ الْحَرَجُ.

فصل في الحرام

[فَصْلٌ فِي الْحَرَامِ] ِ وَهُوَ لُغَةً: الْمَنْعُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] أَيْ: حَرَمْنَاهُ رَضَاعَهُنَّ وَمَنَعْنَاهُ مِنْهُنَّ، إذْ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُكَلَّفًا، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50] وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ... عَلَى شَجْوِهِ إلَّا بَكَيْت عَلَى عَمْرٍو وَعَلَيْهِ خَرَجَ قَوْله تَعَالَى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 95] أَيْ وَوَاجِبٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَرَدْنَا إهْلَاكَهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ الْكُفْرِ إلَى الْإِيمَانِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْقَبِيحُ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَالْمَحْظُورُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: الْحَرَامُ يَكُونُ مُؤَبَّدًا، وَالْمَحْظُورُ قَدْ يَكُونُ

إلَى غَايَةٍ حَكَاهُ عَنْهُ الْعَسْكَرِيُّ فِي فُرُوقِهِ "، وَفِي " النُّكَتِ " لِابْنِ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيِّ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْبَصْرِيَّ عَنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مُحَرَّمٌ فِي الْقَبِيحِ إذَا كَانَ طَرِيقُ قُبْحِهِ مَقْطُوعًا بِهِ، وَيَقُولُونَ: مَكْرُوهٌ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ مُجْتَهَدًا فِيهِ كَسُؤْرِ كَثِيرٍ مِنْ السِّبَاعِ. قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِهِ مَكْرُوهًا أَيْضًا تَوَسُّعًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَفْظَ الْمَكْرُوهِ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. تَنْبِيهٌ (الْحُرْمَةُ لَيْسَتْ مُلَازِمَةً لِلذَّمِّ) الْحُرْمَةُ لَيْسَتْ مُلَازِمَةً لِلذَّمِّ وَالْإِثْمِ لَا طَرْدًا وَلَا عَكْسًا، فَقَدْ يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ، كَمَا إذَا قَدِمَ عَلَى زَوْجِهِ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً، وَقَدْ يَحْرُمُ مَا لَيْسَ فِيهِ إثْمٌ، كَمَا إذَا قَدِمَ عَلَى أَجْنَبِيَّةٍ يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ: أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ تَابِعَانِ لِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَلَّ الْأَبْضَاعَ، وَالْأَمْوَالَ، وَالْأَزْوَاجَ فِي أَحْوَالٍ بِشُرُوطٍ، وَحَرَّمَهَا بِدُونِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، جَعَلَ الْإِثْمَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِذَا قَدِمَ الْعَبْدُ عَلَى فِعْلٍ يَعْتَقِدُهُ حَلَالًا وَهُوَ حَرَامٌ لَا إثْمَ عَلَيْهِ تَخْفِيفًا عَلَى الْعَبْدِ، وَإِذَا أَقْدَمَ عَلَى فِعْلٍ يَظُنُّهُ حَرَامًا وَهُوَ حَلَالٌ عَاقَبَهُ عَلَى الْجُرْأَةِ، فَمَعْنَى قَوْلِنَا: هَذَا الْفِعْلُ حَرَامٌ أَنَّ الشَّارِعَ لَهُ تَشَوُّفٌ إلَى تَرْكِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا: حَلَالٌ خِلَافُ ذَلِكَ.

وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ يُطْلَقَانِ تَارَةً عَلَى مَا فِيهِ إثْمٌ وَمَا لَيْسَ فِيهِ، وَهُوَ مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ بِقَوْلِهِمْ: الْحَرَامُ مَا يُذَمُّ عَلَيْهِ، وَتَارَةً عَلَى مَا لِلشَّارِعِ فِيهِ تَشَوُّفٌ إلَى تَرْكِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَطْءُ الشُّبْهَةِ، أَعْنِي شُبْهَةَ الْمَحَلِّ حَرَامٌ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا إثْمَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْخَطَأِ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ عَلَى رَأْيٍ، وَهَذَا يُمْكِنُ رَدُّ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ إلَيْهِ فِي حَدِّ الْحَرَامِ بِأَنَّهُ مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ، بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يُذَمُّ بِالْقُوَّةِ. أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ، يُذَمُّ بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِحَالِهِ، وَإِنْ اسْتَنْكَرْت إطْلَاقَ الْحُرْمَةِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ، فَانْظُرْ إلَى قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ: لَوْ اشْتَبَهَتْ الْمَنْكُوحَةُ بِأَجْنَبِيَّةٍ حُرِّمَتَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمَا. وَقَوْلُهُ: إذَا قَالَ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ حُرِّمَتَا تَغْلِيبًا لِلْحُرْمَةِ، فَإِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ فِي الْفَرْعَيْنِ حَرَامٌ بِاعْتِبَارِ الْإِثْمِ عَلَى الْجُرْأَةِ، وَهِيَ الَّتِي فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهَا الزَّوْجَةُ فِي الْأُولَى، وَاَلَّتِي سَيُعَيِّنُهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَالْأُخْرَى حَرَامٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، فَقَوْلُهُمْ: حُرِّمَتَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَوْلُهُمْ: تَغْلِيبًا لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ، فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَثْبَتُوا التَّحَرُّمَ لِلزَّوْجَةِ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ، وَصَرَفُوهُ عَنْهَا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي. وَمَا ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ ذَهَابًا إلَى مُوَافَقَةِ مَنْ يَقُولُ: الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ يُوصَفُ بِهِمَا الذَّوَاتُ بَلْ هُوَ تَوَسُّطٌ. وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ يُوصَفُ بِهِمَا ذَوَاتُ الْأَفْعَالِ طَابَقَتْ الِاعْتِقَادَ أَمْ لَا. وَهَذَا إذَا تَبَيَّنَ لَك فِي الْحَرَامِ نَقَلْته إلَى بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ. وَانْظُرْ قَوْلَ الْبَيْضَاوِيِّ: قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى الْحَائِضِ، وَالْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ، فَرُبَّ وَاجِبٍ يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ بِتَرْكِهِ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ، وَيَكُونُ فِي

مسألة الحرمة لا تلازم الفساد

نَفْسِ الْأَمْرِ حَرَامًا، وَبِالْعَكْسِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِيمَنْ صَلَّى وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ: لَقِيَ اللَّهَ وَعَلَيْهِ تِلْكَ الصَّلَاةُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُهُ، فَهَذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُوبِ بِمَعْنَى تَشَوُّفِ الشَّارِعِ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ. [مَسْأَلَةٌ الْحُرْمَةُ لَا تُلَازِمُ الْفَسَادَ] َ) الْحُرْمَةُ لَا تُلَازِمُ الْفَسَادَ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مُحَرَّمًا مَعَ الصِّحَّةِ. كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَثَوْبِ الْحَرِيرِ، وَفَائِدَةُ التَّحْرِيمِ سُقُوطُ الثَّوَابِ. [مَسْأَلَةٌ مَا لَا يَتِمُّ تَرْكُ الْحَرَامِ إلَّا بِهِ] ِ) مَا لَا يَتِمُّ تَرْكُ الْحَرَامِ إلَّا بِهِ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ فِي مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ. فَالْأَوَّلُ: مَا كَانَ مِنْ أَجْزَائِهِ كَالزِّنَى. فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْهُ نَهْيٌ عَنْ أَجْزَائِهِ، وَهِيَ الْإِيلَاجَاتُ وَالْإِخْرَاجَاتُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: لَا تَزْنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: لَا تُولِجْ وَلَا تُخْرِجْ، وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ شُرُوطِهِ وَأَسْبَابِهِ كَمُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ مِنْ الْمُفَاخَذَةِ، وَالْقُبْلَةِ، وَسَائِرِ الدَّوَاعِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنْهُ الْعَقْدُ عَلَى الْأُمِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبَ الْوَطْءِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَانَ الْعَقْدُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ إلَيْهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ.

الثَّالِثُ: مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا إذَا اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ فِي بَلْدَةٍ صَغِيرَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ نِكَاحَ الْأَجْنَبِيَّاتِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، لَكِنْ لَمَّا اخْتَلَطَتْ بِهِنَّ الْأُخْتُ، وَعَسُرَ التَّمْيِيزُ كَانَ تَحْرِيمُ الْأَجْنَبِيَّاتِ مِنْ ضَرُورَاتِ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ، وَلِهَذَا لَوْ تَعَيَّنَتْ حَرُمَ نِكَاحُهَا عَلَى الْخُصُوصِ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَا لَوْ وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَقَالَ: الْمَاءُ طَاهِرٌ فِي عَيْنِهِ، وَلَمْ يَصِرْ نَجَسًا بِحَالٍ، وَإِنَّمَا النَّجَاسَةُ مُجَاوِرَةٌ، فَلَمْ يُنْهَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ، لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِاسْتِعْمَالِ النَّجَسِ. فَكَانَ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ اسْتِعْمَالُ النَّجَسِ إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِأُصُولِ الشَّافِعِيِّ، بَلْ هُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ قَاعِدَتَهُ. أَنَّ الْمَاءَ جَوْهَرٌ طَاهِرٌ، وَالطَّاهِرُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ نَجَسًا فِي عَيْنِهِ بِالنَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ قَلْبَ الْأَعْيَانِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وُسْعِ الْخَلْقِ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَهْيٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ. وَيُسْتَدَلُّ عَلَى هَذَا بِفَضْلِ الْمُكَاثَرَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كُوثِرَ عَادَ طَهُورًا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ صَارَ الْمَاءُ عَيْنُهُ نَجَسًا بِالْمُخَالَطَةِ لَمَا تَصَوَّرَ انْقِلَابُهُ طَاهِرًا بِالْمُكَاثَرَةِ. قَالَ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمَائِعَ اللَّطِيفَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ خَالَطَتْ أَجْزَاؤُهُ أَجْزَاءَهَا، وَامْتَزَجَتْ بِهِ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا مَعْنَى لَهَا إلَّا الِاجْتِنَابَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وُجُوبَ الِاجْتِنَابِ ثَابِتٌ فِي الْكُلِّ وَقَدْ وَافَقَ عَلَى حِكَايَةِ هَذَا الْخِلَافِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، فَقَالَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَصِيرُ كُلُّهُ نَجَسًا، وَهُوَ اللَّائِقُ بِمَذْهَبِنَا، وَقِيلَ: إنَّمَا حَرُمَ الْكُلُّ لِتَعَذُّرِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُبَاحِ قَالَ وَهُوَ يَلِيقُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قُلْت وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ " وَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ

فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ رَدَّهُ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّ وُجُوبَ الِاجْتِنَابِ عِنْدَ اخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي عِلَّةِ الِاجْتِنَابِ مَا هِيَ؟ وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": اخْتَلَفُوا فِي اخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، فَقِيلَ: يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ النَّجَاسَةَ مُسْتَهْلَكَةً، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِهْلَاكِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ عَدَمُ تَغَيُّرِ الْمَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ كَثْرَةُ الْمَاءِ. وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ الْكَثْرَةَ بِالْقُلَّتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَدَّرَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ. إذَا عَلِمْت هَذَا، فَنَقُولُ: إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْكَفُّ عَنْ الْمَحْظُورِ إلَّا بِالْكَفِّ عَمَّا لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، كَمَا إذَا اخْتَلَطَ بِالطَّاهِرِ النَّجَسُ كَالدَّمِ وَالْبَوْلِ يَقَعُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَوْ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ، فَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِطَ وَيَمْتَزِجَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ، فَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ، وَيُحْكَمُ بِتَحْرِيمِ الْكُلِّ. قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " وَغَيْرِهِ، وَكَذَا لَا يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِالْمَمْنُوعِ أَصَالَةً، ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ: فِي أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَإِنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي كَيْفِيَّةِ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا سَبَقَ. أَمَّا إذَا لَمْ يَخْتَلِطْ بِدُخُولِ أَجْزَاءِ الْبَعْضِ فِي الْبَعْضِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَجِبُ الْكَفُّ عَنْ الْكُلِّ، كَالْمَرْأَةِ الَّتِي هِيَ حَلَالٌ تَخْتَلِطُ بِالْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمُطَلَّقَةُ بِغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ، وَالْمُذَكَّاةُ بِالْمَيْتَةِ، فَيَحْرُمُ إحْدَاهَا بِالْأَصَالَةِ وَهِيَ الْمُحَرَّمَةُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ وَالْمَيِّتَةُ، وَالْأُخْرَى بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ وَهِيَ الزَّوْجَةُ، وَالْمُذَكَّاةُ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالْأَصَالَةِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ وَلَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إلَّا بِاجْتِنَابِ مَا

اشْتَبَهَ بِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَقِيلَ: تُبَاحُ الْمُذَكَّاةُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ وَلَكِنْ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا تَوَهُّمُ هَذَا مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُمَا أَيْ: قَائِمٌ بِذَاتِهِمَا، كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَانِ بِالْفِعْلِ، وَهُمَا الْإِذْنُ فِي الْفِعْلِ وَوُجُوبُ الْكَفِّ، وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ مُرَادَ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُذَكَّاةِ بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ، وَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُبَاحَتَانِ، فَالْخِلَافُ إذَنْ لَفْظِيٌّ. الثَّانِي: مَا يُسْقِطُ حُكْمَ التَّحْرِيمِ، كَمَا إذَا اخْتَلَطَتْ مَحْرَمٌ بِنِسَاءِ بَلْدَةٍ عَظِيمَةٍ، فَيُجْعَلُ كَالْعَدَمِ، وَيُبَاحُ لَهُ نِكَاحُ أَيِّ امْرَأَةٍ أَرَادَ. الثَّالِثُ: مَا يُتَحَرَّى فِيهِ، كَالثِّيَابِ وَالْأَوَانِي. قَالَ الْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ ": وَكَانَ الْقِيَاسُ عَدَمَ التَّحَرِّي؛ لِأَنَّ تَرْكَ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ لَا يَتَأَتَّى بِيَقِينٍ إلَّا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ. قَالَ: وَهَاهُنَا فِيهِ خِلَافٌ، يَعْنِي هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاجْتِهَادِ أَمْ يَجُوزُ الْهُجُومُ بِمُجَرِّدِ الظَّنِّ؟ وَالْأَصَحُّ: الْأَوَّلُ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ مُعَيَّنَةً حُرِّمَتَا جَمِيعًا إلَى حِينِ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةَ وَغَيْرَهَا، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ غَلَبَ الْحَرَامُ، وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ قَبْلَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَحِلُّ قَبْلَهُمَا وَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ مَحَلًّا، فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ أَحَدٌ عَبْدَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: حُرِّمَتَا جَمِيعًا، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ

تَعْيِينُ مَحَلِّ الطَّلَاقِ، ثُمَّ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَالْمَنْعُ فِي ذَلِكَ مُوجَبُ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، أَمَّا الْمُضِيُّ إلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ، وَالْأُخْرَى مَنْكُوحَةٌ كَمَا تَوَهَّمُوهُ فِي اخْتِلَاطِ الْمَنْكُوحَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَنْقَدِحُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ مِنْ الْآدَمِيِّ عَرَضَ بَعْدَ التَّعْيِينِ. أَمَّا هَذَا فَلَيْسَ مُتَعَيِّنًا فِي نَفْسِهِ، بَلْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مُطْلَقًا لِإِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا. اهـ. وَمَا قَالَهُ أَوَّلًا مِنْ احْتِمَالِ حِلِّ الْوَطْءِ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي كِتَابِ " الْخِلَافِ وَالْإِجْمَاعِ "، وَلَوْ قِيلَ: بِحِلِّ وَطْءِ إحْدَاهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ لِإِحْدَاهُمَا تَعْيِينٌ لِلطَّلَاقِ فِي الْأُخْرَى، كَمَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَبْعُدْ، ثُمَّ إذَا عَيَّنَ إحْدَاهُمَا فِي نِيَّتِهِ. قَالَ الْإِمَامُ فِي بَابِ الشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ مِنْ " النِّهَايَةِ ": أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ التَّحْرِيمَ مَا لَمْ يُقَدِّمُ بَيَانًا. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إذَا عَرَفَ الْمُطَلَّقَةَ حَلَّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى فِي الْبَاطِنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ غِشْيَانِهِمَا جَمِيعًا. أَمَّا إذَا غَشِيَ إحْدَاهُمَا فَمَا سَبَبُ الْمَنْعِ حِينَئِذٍ؟ ثُمَّ حَمَلَ كَلَامَ الْأَصْحَابِ عَلَى مَا إذَا ظَهَرَتْ الْوَاقِعَةُ لِلْحَاكِمِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ تَعْيِينٌ بِالنِّيَّةِ. أَمَّا لَوْ قَالَ لَهَا وَلِأَجْنَبِيَّةٍ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ: أَرَدْت الْأَجْنَبِيَّةَ؟ وَجْهَانِ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْعِتْقِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِعَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ الْوَجْهَيْنِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ الطَّلَاقِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمًا وَأَثَرًا.

مسألة لو تعدى عما أبيح له

[مَسْأَلَةٌ لَوْ تَعَدَّى عَمَّا أُبِيحَ لَهُ] ُ) سَبَقَ فِي الْوَاجِبِ أَنَّهُ إذَا أَتَى بِالْقَدْرِ الزَّائِدِ هَلْ يَقَعُ الْجَمْعُ فَرْضًا أَمْ لَا؟ وَنَظِيرُهُ هُنَا لَوْ تَعَدَّى عَمَّا أُبِيحَ لَهُ، كَمَا لَوْ كَشَفَ الْعَوْرَةَ فِي الْخَلْوَةِ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَةِ هَلْ يَأْثَمُ عَلَى الْكُلِّ أَوْ عَلَى الزَّائِدِ فَقَطْ؟ فِيهِ خِلَافٌ. حَكَاهُ الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْوَكِيلِ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَأَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ قَاعِدَةٍ فِي الْفِقْهِ، وَهِيَ أَنَّ تَعَدِّيَ الْمُسْتَحِقِّ هَلْ يَبْطُلُ بِهِ الْمُسْتَحَقُّ أَوْ يَبْقَى مَعَهُ الْمُسْتَحَقُّ وَيَبْطُلُ الزَّائِدُ؟ فِيهِ خِلَافٌ فِي بَابِ الْقَسْمِ، وَبَابِ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا نُسِخَ التَّحْرِيمُ هَلْ تَبْقَى الْكَرَاهَةُ] ُ؟) سَبَقَ فِي الْوَاجِبِ أَنَّهُ إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ هَلْ يَبْقَى الْجَوَازُ؟ وَنَظِيرُهُ هُنَا أَنْ يُقَالَ: إذَا نُسِخَ التَّحْرِيمُ هَلْ تَبْقَى الْكَرَاهَةُ؟ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْأُصُولِيُّونَ لِذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ هُنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ اشْتِرَاكًا فِي الْجِنْسِ، وَهُوَ مُطْلَقُ الْمَنْعِ، وَامْتَازَ الْحَرَامُ بِالْجُرْمِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ الْجُرْمُ يَبْقَى مُطْلَقُ الْمَنْعِ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ، فَإِنَّ مَأْخَذَ الْخِلَافِ هُنَاكَ أَنَّ الْمُبَاحَ جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ جِنْسٌ لِلْحَرَامِ.

مسألة الحرام والواجب متناقضان

[مَسْأَلَةٌ الْحَرَامُ وَالْوَاجِبُ مُتَنَاقِضَانِ] ِ) قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَرَامَ وَالْوَاجِبَ مُتَنَاقِضَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ، فَالْحَرَامُ بِالشَّخْصِ لَا يَكُونُ حَرَامًا وَوَاجِبًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا إذَا جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ الْمُحَالِ لِذَاتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاحِدَ يُقَالُ بِالتَّشْكِيكِ عَلَى الْوَاحِدِ بِالْجِنْسِ، وَعَلَى الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ، وَعَلَى الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ، فَأَمَّا الْوَاحِدُ بِالنَّوْعِ، كَمُطْلَقِ السُّجُودِ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ وَمَنْهِيًّا عَنْهُ، بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِهِ وَاجِبٌ وَبَعْضَهَا حَرَامٌ؟ فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ، وَاحْتَجُّوا بِوُقُوعِهِ، فَإِنَّ السُّجُودَ لِلَّهِ وَاجِبٌ، وَلِلصَّنَمِ حَرَامٌ بَلْ كُفْرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت: 37] فَالسُّجُودُ نَوْعٌ وَاحِدٌ قَدْ أُمِرَ بِبَعْضِهِ، وَنُهِيَ عَنْ بَعْضِهِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ تَعْظِيمُ الصَّنَمِ لَا نَفْسُ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ لِنَصِّ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى أَنَّ السَّاجِدَ لِلصَّنَمِ عَاصٍ بِنَفْسِ السُّجُودِ وَالْقَصْدِ جَمِيعًا عَلَى مَا حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَحْرُمُ السُّجُودُ، بَلْ الْمُحَرَّمُ الْقَصْدُ إلَى ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ: أَنَّ أَفْرَادَ النَّوْعِ لَا تَخْتَلِفُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَأَمَّا الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ: أَيْ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَيْسَ لَهُ إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ لَهُ جِهَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ

كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ التَّكْلِيفَ بِالْمُحَالِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ جِهَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ مِنْ جِهَةٍ وَيُنْهَى عَنْهُ مِنْ جِهَةٍ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ؟ فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا: يَصِحُّ. لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْجِهَاتِ يُوجِبُ التَّغَايُرَ، لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ وَالْإِضَافَاتِ، وَذَلِكَ يَدْفَعُ التَّنَاقُضَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا فِي الْبُقْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَهُمَا مُتَعَلِّقَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَجَعَلُوا اخْتِلَافَ، الْجِهَتَيْنِ كَاخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِهَتَيْنِ مُنْفَكَّةٌ عَنْ الْأُخْرَى، وَاجْتِمَاعُهُمَا إنَّمَا وَقَعَ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ فَلَيْسَا مُتَلَازِمَيْنِ، فَلَا تَنَاقُضَ. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو هَاشِمٍ الْجُبَّائِيَّانِ وَأَبُو شِمْرٍ الْحَنَفِيُّ، وَالزَّيْدِيَّةُ، وَالظَّاهِرِيَّةُ إلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُجْزِئَةٍ، وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ أَصْبَغَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي " النُّكَتِ "

وَقَالَ: لَا وَجْهَ لِدَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي إجْزَائِهَا مَعَ خِلَافِ الزَّيْدِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَأَبُو شِمْرٍ وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ لِذَلِكَ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ " وَجْهًا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَكَذَا ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي فَتَاوِيهِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِخُرَاسَانَ. قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَا تَقَعُ مَأْمُورًا بِهَا، وَلَكِنْ يَسْقُطُ الْقَضَاءُ عِنْدَهَا لَا بِهَا، كَمَا يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِالْأَعْذَارِ الطَّارِئَةِ مِنْ الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَهَا سَبَبًا لِسُقُوطِ الْفَرْضِ، أَوْ أَمَارَةً عَلَيْهِ عَلَى نَحْوٍ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ لَا عِلَّةً لِسُقُوطِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي صِحَّتَهَا. هَكَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْهُ فِي " الْبُرْهَانِ " وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " وَاخْتَارَهُ فِي " الْمَحْصُولِ "، وَالسُّهْرَوَرْدِي. وَنَقَلَ الْهِنْدِيُّ عَنْهُ: لَا يَصِحُّ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهَا لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْقَاضِي وَمَنْ تَابَعَهُ: يَسْقُطُ عِنْدَهَا لَا بِهَا، وَقَالَ الْبَاقُونَ: لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ لَا بِهَا وَلَا عِنْدَهَا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ. هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُهُمْ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَقُولُ بِذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فَلَا يَقُولُ بِسُقُوطٍ بِهَا وَلَا عِنْدَهَا. اهـ. وَهُوَ ظَاهِرُ نَقْلِ " الْمُسْتَصْفَى "، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ فِي " الْمَعَالِمِ " هِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْفُقَهَاءِ، ثُمَّ إنْ صَحَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الْقَضَاءِ

قُلْنَا: يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا لَا بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْإِجْمَاعُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ. انْتَهَى. وَالْإِجْمَاعُ لَمْ يَنْقُلْهُ الْقَاضِي صَرِيحًا، وَإِنَّمَا تَلَقَّاهُ بِمَسْلَكٍ اسْتِنْبَاطِيٍّ عَلَى زَعْمِهِ، فَقَالَ: لَمْ يَأْمُرْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ الْعُصَاةَ بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي أَقَامُوهَا فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: كَانَ فِي السَّلَفِ مُتَعَمِّقُونَ فِي التَّقْوَى يَأْمُرُونَ بِدُونِ مَا فَرَضَهُ الْقَاضِي، وَضَعَّفَهُ الْإِبْيَارِيُّ، قَالَ: وَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْقَضَاءِ بِدُونِهِ، وَكَيْفَ لَا يَأْمُرُونَ بِالْقَضَاءِ فِي هَذَا؟ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: خِلَافُ أَحْمَدَ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ، بَلْ الْإِجْمَاعُ السَّالِفُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّلَمَةَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا، وَلَوْ أُمِرُوا بِهِ لَانْتَشَرَ، وَلَمَّا صَحَّتْ أَدِلَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ لُزُومِ تَوَارُدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ الِاخْتِيَارِيِّ قَالَ بِهَا فَحَكَمَ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ وَلَمَّا صَحَّ عِنْدَهُ إجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَأْمُرُوا بِالْقَضَاءِ فِي الْبُقَعِ الْمَغْصُوبَةِ قَالَ: إنَّ الْإِجْزَاءَ يَحْصُلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا. قِيلَ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْإِجْمَاعُ فَلَا مَحِيصَ عَمَّا قَالَ، فَإِنَّهُ إعْمَالٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ فِي مَحَلِّهِ، وَأَنَّى يَصِحُّ هَذَا الْإِجْمَاعُ، وَخِلَافُ أَحْمَدَ قَدْ مَلَأَ الْأَسْمَاعَ، فَلَوْ سَبَقَهُ إجْمَاعٌ لَكَانَ أَجْدَرَ مِنْ الْقَاضِي بِمَعْرِفَتِهِ، وَمِمَّنْ مَنَعَ الْإِجْمَاعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَقَالَ إلْكِيَا: مُسْتَنَدُهُ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ إجْمَاعُ الْأَوَّلِينَ، وَالْإِجْمَاعُ إنْ

لَمْ يَسْلَمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُمْكِنٌ تَحْقِيقُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَهُوَ مُمَاطِلٌ يُصَلِّي مَعَ الْمَطْلِ، فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ وَإِمْكَانُ الْإِجْمَاعِ هَاهُنَا بَعِيدٌ، وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَسِرٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ لَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ تَقْدِيرِ تَكَرُّرِ الْوَاقِعَةِ، وَالْغَصْبُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانَ قَلِيلَ الْوُقُوعِ. اهـ. وَعَلَى تَقْدِيرِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ فَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْقَاضِي، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ الْآنِيَةِ مِنْ " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": أَنَّ أَصْحَابَنَا يَدَّعُونَ الْإِجْمَاعَ عَلَى الصِّحَّةِ قَبْلَ مُخَالَفَةِ أَحْمَدَ، وَهَذَا لَوْ تَمَّ دَفَعَ مَذْهَبَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: مَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ النَّهْيَ هَلْ عَادَ لِعَيْنِ الصَّلَاةِ أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا؟ فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَبْطَلَهَا، وَقِيلَ: بَلْ أَصْلُ الْخِلَافِ: أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ؟ فَعِنْدَنَا لَا يَتَنَاوَلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: يَتَنَاوَلُهُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِفِعْلٍ إذَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ كَرِهَ الشَّرْعُ إيقَاعَهُ عَلَيْهِ، لَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا. وَقِيلَ: يَتَوَجَّهُ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالصِّحَّةِ صِحَّةُ يَوْمِ النَّحْرِ نَقْضًا، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُمْ: الْغَصْبُ مُنْفَكٌّ عَنْ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْوُقُوعِ يَوْمَ النَّحْرِ

تَخْصِيصٌ لِلدَّعْوَى بِمَا يُجَوِّزُ انْفِكَاكَ الْجِهَتَيْنِ فِيهِ، وَيَتَوَجَّهُ عَلَى الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ صَوْمُ يَوْمٍ خِيفَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكُ فِيهِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ مَعَ الصِّحَّةِ، وَكَذَا إذَا صَلَّى فِي الْبَلَدِ الَّذِي حَرُمَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ فِيهِ؛ لِأَجْلِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ إجْمَاعًا. وَعَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ نَقَلَ أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ عَقْلًا لَا شَرْعًا. وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ شَرْعًا لَا عَقْلًا. قَالَ: وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِمْ: يَصِحُّ عِنْدَهَا لَا بِهَا. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الصِّحَّةِ. ثَالِثُهَا: إنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ لَمْ يَصِحَّ وَإِلَّا صَحَّتْ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَلْ هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْقَطْعِ أَوْ الِاجْتِهَادِ؟ فَقَالَ الْقَاضِي: الصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْ مَسَائِلِ الْقَطْعِ، وَبِهِ جَزَمَ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَقَالَ الْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَحِّحَ أَخَذَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ قَطْعِيٌّ، وَمَنْ أَبْطَلَ أَخَذَهُ مِنْ التَّضَادِّ الَّذِي بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَيَدَّعِي اسْتِحَالَتَهُ عَقْلًا، فَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ، وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي التَّعْيِينِ.

الْأُولَى إذَا قُلْنَا: يَصِحُّ فَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ " الْفَتَاوَى " الَّتِي نَقَلَهَا الْقَاضِي أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ أَنَّ الْمَحْفُوظَ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا بِالْعِرَاقِ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ يَسْقُطُ بِهَا الْفَرْضُ، وَلَا ثَوَابَ فِيهَا، وَإِنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ " الْكَامِلِ " أَنَّا إذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْصُلَ الثَّوَابُ، وَيَكُونُ مُثَابًا عَلَى فِعْلِهِ عَاصِيًا بِمُقَامِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَنْصُورِ: وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ إذَا صَحَّحْنَا. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يُثَابُ يَعْتَضِدُ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ أَجْرَ الْعَمَلِ الْوَاقِعِ قَبْلَهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. الثَّانِيَةُ: أَطْلَقُوا الْكَلَامَ فِي الصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا، وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي " الْمَطْلَبِ ": عِنْدِي أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَقْصُودَيْنِ أَدَاءَ مَا وَجَبَ وَحُصُولَ الثَّوَابِ، فَإِذَا انْتَفَى الثَّوَابُ صَحَّتْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ الْآخَرِ، وَنَحْنُ لَا نَشْتَرِطُ فِي سُقُوطِ خِطَابِ الشَّرْعِ حُصُولَ الثَّوَابِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ أَجْرَ الْأَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا لَوْ أَسْلَمَ، وَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ قَهْرًا لَا يُثَابُ عَلَيْهَا؛ لِفَقْدِ النِّيَّةِ مِنْهُ، وَسَقَطَ بِهَا خِطَابُ الشَّرْعِ عَنْهُ؛ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ السَّهْمَانِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْخَطِيبِ: وَإِنْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ

فرع كون الواحد واجبا وحراما باعتبارين

إعَادَتِهَا، فَنَقُولُ سَقَطَ الْفَرْضُ عِنْدَهَا لَا بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ فِي " التَّنْبِيهِ ": فَإِنْ صَلَّى لَمْ يُعِدْ، وَلَمْ يَقُلْ: صَحَّتْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي " الْمُهَذَّبِ ": وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَلَاةُ النَّفْلِ لَا مَقْصُودَ فِيهَا غَيْرَ الثَّوَابِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَا تَنْعَقِدُ، وَإِطْلَاقُ مَنْ أَطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْيِيدِ بِالْفَرْضِ. اهـ. [فَرْعٌ كَوْنُ الْوَاحِدِ وَاجِبًا وَحَرَامًا بِاعْتِبَارَيْنِ] ِ] قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُجَوِّزُونَ كَوْنُ الْوَاحِدِ وَاجِبًا وَحَرَامًا بِاعْتِبَارَيْنِ هَذَا إذَا أَمْكَنَ الْإِتْيَانُ بِأَحَدِهِمَا مُنْفَكًّا عَنْ الْآخَرِ، أَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو الْمُخَاطَبُ عَنْهُمَا، بِأَنْ يَقُولَ: لَا تَنْطِقْ، وَلَا تَسْكُتْ، وَلَا تَتَحَرَّكْ، وَلَا تَسْكُنْ، فَإِنْ مَنَعْنَا تَكْلِيفَ الْمُحَالِ مَنَعْنَاهُ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ جَوَّزْنَاهُ عَقْلًا لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ، فَعَلَى هَذَا مَنْ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً أَوْ تَخَطَّى زَرْعَ غَيْرِهِ، ثُمَّ تَابَ وَتَوَجَّهَ لِلْخُرُوجِ، وَاخْتَارَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ، أَوْ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي مُحَرَّمٍ، ثُمَّ خَرَجَ فَخُرُوجُهُ وَاجِبٌ لَا تَحْرِيمَ فِيهِ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ اعْتِبَارَانِ، الشَّغْلُ وَالتَّفْرِيغُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِالتَّفْرِيغِ إلَّا بِالشَّغْلِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كَفِّ الزَّانِي عَنْ الزِّنَى. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: خُرُوجُهُ كَلُبْثِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَذَلِكَ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَمَأْمُورٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ عَنْ الْمُكْثِ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْهُ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ أَبِي الشَّمِر مِنْ

الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ بَنَاهُ أَبُو هَاشِمٍ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، فَأَصْلُهُ الْفَاسِدُ مِنْ مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ. وَحَاصِلُ الْخِلَافِ: أَنَّ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ هَلْ يَبْقَى مُسْتَمِرًّا أَوْ يَنْقَطِعُ؟ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا لِتَوَسُّطِهَا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْخُرُوجِ، وَإِنَّمَا يَعْصِي بِمَا تَوَرَّطَ بِهِ مِنْ الْعُدْوَانِ السَّابِقِ، وَقَالَ: وَهُوَ مُرْتَبِكٌ فِي الْمَعْصِيَةِ بِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ مَعَ انْقِطَاعِ تَكْلِيفِ النَّهْيِ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ عَاصٍ فِي خُرُوجِهِ وَلَا نَهْيَ عَلَيْهِ فَسُقُوطُ النَّهْيِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ، وَتَعْصِيَتُهُ لِتَسَبُّبِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، إذْ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَعْصِيَةٌ مِنْ غَيْرِ نَهْيٍ وَلَا عِقَابٌ مِنْ غَيْرِ نَهْيٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي مَسْأَلَةِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ غَصَبَ مَالًا وَغَابَ بِهِ، ثُمَّ تَابَ وَتَوَجَّهَ رَاجِعًا، وَكَذَا اسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَضَعَّفَهُ الْغَزَالِيُّ لِاعْتِرَافِهِ بِانْتِفَاءِ النَّهْيِ، فَالْمَعْصِيَةُ إلَى مَاذَا تَسْتَنِدُ؟ . وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا مَعْصِيَةَ إلَّا بِفِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ، وَقَدْ سَلِمَ انْتِفَاءُ تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهِ فَانْتَهَضَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: فِيهِ جِهَتَانِ يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِافْتِرَاغِ مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالنَّهْيُ عَنْ اللُّبْثِ، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ سَوَاءٌ كَمَا قَالَهُ فِي " الْبُرْهَانِ ": قُلْنَا: مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَا جِهَتَيْنِ لِتَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنَّ الِامْتِثَالَ مُمْكِنٌ، وَإِنَّمَا جَاءَ الِاتِّحَادُ مِنْ جِهَةِ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لَا خَيْرَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، فَلَا يُكَلَّفُ.

قُلْتُ: وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فِي الْمُحْرِمِ إذَا تَطَيَّبَ: وَلَا رُخْصَةَ لَهُ فِي تَرْكِهِ إذَا قَدَرَ عَلَى غَسْلِهِ، وَهَذَا مُرَخَّصٌ لَهُ فِي التَّيَمُّمِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً، وَلَوْ غَسَلَ الطِّيبَ غَيْرُهُ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ، وَإِنْ غَسَلَهُ هُوَ بِيَدِهِ يَفْتَدِي مِنْ غَسْلِهِ. قِيلَ: إنَّ عَلَيْهِ غَسْلَهُ، وَإِنْ مَاسَّهُ فَلَا، إنَّمَا مَاسَّهُ لِيُذْهِبَهُ عَنْهُ، ثُمَّ يُمَاسُّهُ لِيَتَطَيَّبَ بِهِ وَلَا يُثْبِتُهُ، وَهَذَا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْهُ خَرَجَ مِنْهُ كَمَا يَسْتَطِيعُ، وَلَوْ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنٍ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَلَمْ أَزْعُمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْخُرُوجِ، وَإِنْ كَانَ يَمْشِي مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَلِأَنَّ مَشْيَهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الذَّنْبِ لَا لِلزِّيَادَةِ مِنْهُ، فَهَكَذَا هَذَا الْبَابُ كُلُّهُ. اهـ لَفْظُهُ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ تَوَرَّطَ فِي الْوُقُوعِ فِي حَرَامٍ فَيَتَخَلَّصُ مِنْهُ لَا يُوصَفُ حَالَةَ التَّخَلُّصِ بِالْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لَهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مِنْ الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الدُّخُولِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ مِنْ " الْفُرُوقِ ": قَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَأْثِيمِ مَنْ دَخَلَ أَرْضًا غَاصِبًا، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا قَصَدَ الْخُرُوجَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِخُرُوجِهِ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْغَصْبِ. اهـ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ نَفْسَ إشْغَالِ الْحَيِّزِ بَاقٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَنَفْسَ الِانْتِقَالِ هُوَ جَائِزٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ، إذْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى تَرْكِ الْحَرَامِ، وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ. هَلْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ؟ .

قَالَ ابْنُ خَيْرَانَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ وَالنَّزْعَ يَقَعُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَقَالَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ: بَلْ يَجُوزُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْأُمِّ "؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَقَعُ فِي النِّكَاحِ، وَاَلَّذِي يَقَعُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ هُوَ النَّزْعُ، وَالنَّزْعُ تَرْكُ الْمَأْثَمِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ لَيْسَ بِحَرَامٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: اُدْخُلْ دَارِي وَلَا تُقِمْ فِيهَا. ثُمَّ ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ غَرَضَهُ يَظْهَرُ بِمَسْأَلَةٍ أَلْقَاهَا أَبُو هَاشِمٍ، فَحَارَتْ فِيهَا عُقُولُ الْفُقَهَاءِ وَهِيَ مَنْ تَوَسَّطَ جَمْعًا مِنْ الْجَرْحَى، وَجَثَمَ عَلَى صَدْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَهَلَكَ مَنْ تَحْتَهُ، وَلَوْ انْتَقَلَ لَهَلَكَ آخَرُ، يَعْنِي مَعَ تَسَاوِي الرَّجُلَيْنِ فِي جَمِيعِ الْخِصَالِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ أَتَحَصَّلْ فِيهَا مِنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ عَلَى ثَبْتٍ، وَالْوَجْهُ: الْقَطْعُ بِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنْ صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ مَعَ اسْتِمْرَارِ حُكْمِ سَخَطِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ، وَوَجْهُ السُّقُوطِ اسْتِحَالَةُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَاسْتِمْرَارُ الْعِصْيَانِ، لِتَسَبُّبِهِ إلَى مَا لَا يَخْلُصُ مِنْهُ، وَلَوْ فُرِضَ إلْقَاءُ رَجُلٍ عَلَى صَدْرِ آخَرَ، بِحَيْثُ لَا يُنْسَبُ إلَى الْوَاقِعِ اخْتِيَارٌ فَلَا تَكْلِيفَ وَلَا عِصْيَانَ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: يَمْكُثُ، فَإِنَّ الِانْتِقَالَ فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَيُحْتَمَلُ التَّخْيِيرُ، وَقَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلَّهِ فِيهِ، فَلَا يُؤْمَرُ بِمُكْثٍ وَلَا انْتِقَالٍ، وَلَكِنْ إنْ تَعَدَّى فِي الِابْتِدَاءِ

اسْتَصْحَبَ حُكْمَ الْعُدْوَانِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ فَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ، وَنَفَى الْحُكْمُ حُكْمَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَقَالَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ أَنْ لَا حُكْمَ، وَهُوَ نَفْيُ الْحُكْمِ. هَذَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِيهِ، وَلَمْ أَفْهَمْهُ بَعْدُ، وَقَدْ كَرَّرْتُهُ عَلَيْهِ مِرَارًا، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: نَفْيُ الْحُكْمِ حُكْمٌ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ جَعْلُ نَفْيِ الْحُكْمِ حُكْمًا تَنَاقُضٌ، فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إنْ كَانَ لَا يَعْنِي بِهِ تَخْيِيرَ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَإِنْ عَنَاهُ فَهُوَ إبَاحَةٌ مُحَقَّقَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ، وَهَذَا أَدَبٌ حَسَنٌ مَعَ الْإِمَامِ، وَقَوْلُهُ: هَذَا لَا أَفْهَمُهُ يَعْنِي لَا لِعَجْزِ السَّامِعِ عَنْ فَهْمِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَفْهُومٍ فِي نَفْسِهِ. اهـ. وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ: أَرَدْت انْتِفَاءَ الْحُكْمِ يَعْنِي الْحُكْمَ الْخَاصَّ وَهِيَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ، وَتَكُونُ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ حُكْمًا لِلَّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ مِنْ " النِّهَايَةِ ": لَيْسَ يَبْعُدُ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهُ فِيمَا فَعَلَهُ، وَهَذَا حُكْمٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: انْتِقَالُك ابْتِدَاءُ فِعْلٍ مِنْك وَاسْتِقْرَارُك فِي حُكْمِ اسْتِدَامَةِ مَا وَقَعَ ضَرُورِيًّا، وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الِانْتِقَالَ إنَّمَا يَجِبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إذَا كَانَ مُمْكِنًا، وَإِذَا امْتَنَعَ بِإِيجَابِهِ بِحَالٍ، وَالْمُمْتَنِعُ شَرْعًا كَالْمُمْتَنِعِ حِسًّا وَطَبْعًا. قَالَ: وَهَذَا فِي الدِّمَاءِ لِعِظَمِ مَوْقِعِهَا بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ، فَالتَّحْقِيقُ فِيهَا لَيْسَ بِالْبِدْعِ، فَلَوْ وَقَعَ بَيْنَ أَوَانٍ وَلَا بُدَّ مِنْ انْكِسَارِ بَعْضِهَا أَقَامَ أَوْ انْتَقَلَ فَيَتَعَيَّنُ

فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّخْيِيرُ. اهـ. وَقَدْ سَأَلَ الْغَزَالِيُّ الْإِمَامَ فِي كِبَرِهِ عَنْ هَذَا، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ لَا حُكْمَ وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَا تَخْلُو وَاقِعَةٌ عَنْ حُكْمٍ؟ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ أَنْ لَا حُكْمَ، فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَفْهَمُ هَذَا؟ وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنْ تَسَبَّبَ إلَى الْوُقُوعِ أَثِمَ بِالنَّسَبِ، وَإِلَّا فَلَا إثْمَ وَلَا ضَمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: إنْ وَقَعَ عَلَى الْجَرْحَى بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَزِمَهُ الْمُكْثُ، وَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ، وَإِنْ تَلِفَ شَيْءٌ بِاسْتِمْرَارٍ وَكُرْهٍ، أَوْ بِانْتِقَالِهِ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى آخَرَ قَطْعًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " يُحْتَمَلُ وُجُوبُ الْبَقَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ اسْتِئْنَافُ فِعْلٍ بِالِاخْتِيَارِ مُهْلِكٍ وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِصْحَابُ، فَإِنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَنْتَقِلُ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ فِي سَلَامَةِ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَهْلِكَ الْمُنْتَقَلُ إلَيْهِ، أَوْ يَمُوتَ بِأَجَلِهِ قَبْلَ الْجُثُومِ إلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَخَيَّرَ؛ لِتَعَادُلِ الْمَفْسَدَتَيْنِ. قَالَ: وَلَعَمْرِي لَقَدْ دَلَّسَ بِفَرْضِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَضِيقُ كَمَا زَعَمَ إلَّا بِأَنْ نَفْرِضَ جَوْهَرَيْنِ مُفْرَدَيْنِ مُتَلَاصِقَيْنِ، قَدْ جَثَمَ جَوْهَرٌ فَرْدٌ عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنْ بَقِيَ أَهْلَك، وَإِنْ انْتَقَلَ فَرَّ مِنْ انْتِقَالِهِ عَنْ الْجَوْهَرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ زَمَنُ جُثُومِهِ عَلَى الْجَوْهَرِ الثَّانِي لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا زَمَنٌ وَهَذَا فَرْضٌ مُسْتَحِيلٌ، فَإِنَّ الْأَجْسَامَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَزْمِنَةُ انْتِقَالِهَا مَعْدُودَةٌ، فَهُوَ إذَا انْتَقَلَ مَضَتْ أَزْمِنَةٌ بَيْنَ الِانْتِقَالِ وَالْجُثُومِ هُوَ فِيهَا سَالِمٌ مِنْ الْقَضِيَّتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمُوتَ الثَّانِي قَبْلَ الْجُثُومِ عَلَيْهِ، فَيَسْلَمُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا فَالِانْتِقَالُ مُتَرَجِّحٌ فَيَتَعَيَّنُ، وَكَذَلِكَ مُتَوَسِّطُ الْبُقْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ، حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْخُرُوجِ، وَيَكُونُ بِهِ مُطِيعًا لَا عَاصِيًا.

تكميل تضاد المكروه والواجب

قَالَ: وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ فِي مَسْأَلَةِ أَبِي هَاشِمٍ: لَا تَكْلِيفَ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ، وَبِخُلُوِّ الْوَاقِعَةِ مَعَ الْتِزَامِهِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ عَدَمَ الْخُلُوِّ، وَاحْتِجَاجِهِ بِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ. [تَكْمِيلٌ تضاد الْمَكْرُوه وَالْوَاجِبِ] ِ] كَمَا يَتَضَادُّ الْحَرَامُ وَالْوَاجِبُ كَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ وَالْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَطْلُوبُ التَّرْكِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ، فَإِنْ انْصَرَفَتْ الْكَرَاهَةُ عَنْ ذَاتِ الْوَاجِبِ إلَى غَيْرِهِ صَحَّ الْجَمْعُ، كَكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ، وَنَحْوِهَا، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الْقَضَاءُ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ حَكَى وَجْهًا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. [مَسْأَلَةٌ تَحْرِيمُ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ] ِ] يَجُوزُ أَنْ يَحْرُمَ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ مِنْ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ

ذَلِكَ، وَقَالَ: لَمْ تَرِدْ بِهِ اللُّغَةُ، وَأَوَّلُوا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] عَلَى جَعْلِ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَبُحَ أَحَدُهُمَا قَبُحَ الْآخَرُ فَيَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي " أُصُولٍ " عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَحَكَى الْمَازِرِيُّ الْأَوَّلَ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " مُحْتَجًّا أَنَّ النَّهْيَ فِي الْآيَةِ عَنْ طَاعَتِهِمَا جَمِيعًا. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَوْلَا الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الشَّرْعِ النَّهْيُ عَنْ طَاعَتِهِمَا جَمِيعًا لَمْ تُحْمَلْ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ وَوُقُوعُهُ. وَعَلَى هَذَا فَاخْتَلَفُوا، فَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْكُلِّ بَلْ الْمُحَرَّمُ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ فِعْلُ أَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي جَانِبِ الْإِيجَابِ، كَذَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: الْكُلُّ حَرَامٌ، كَقَوْلِهِمْ فِي جَانِبِ الْإِيجَابِ: الْكُلُّ وَاجِبٌ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُوجِبُوا الْجَمْعَ هُنَاكَ، وَهُنَا أَوْجَبُوا اجْتِنَابَ الْكُلِّ، فَيَبْقَى النِّزَاعُ هُنَا مَعْنَوِيًّا بِخِلَافِ مَا قَالُوهُ. وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْهِنْدِيُّ، إذْ لَا يَظْهَرُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ. قَالَ: وَالْقِيَاسُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ كَمَا يَتْبَعُ الْحُسْنَ الْخَاصَّ عِنْدَهُمْ. فَكَذَا التَّحْرِيمُ يَتْبَعُ الْقُبْحَ الْخَاصَّ، فَإِنْ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْ الْجَمِيعِ بِنَاءً عَلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، فَلْيَجِبْ فِعْلُ الْجَمِيعِ فِي صُورَةِ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَقْتَضِي الْإِيجَابَ.

قُلْت: مَأْخَذُ الْخِلَافِ هُنَا: أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ جَعَلُوا مُتَعَلَّقَ التَّحْرِيمِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ، وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ، وَنَقُولُ: مُتَعَلِّقُ أَحَدِ الْخُصُوصِيَّيْنِ، وَإِنْ شِئْت قُلْت: إحْدَى الْحِصَّتَيْنِ الْمُعَيَّنَتَيْنِ لَا بِعَيْنِهَا، وَأَمَّا الْقَرَافِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ، وَالنَّهْيِ الْمُخَيَّرِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ مُتَعَلِّقٌ بِمَفْهُومِ أَحَدِهَا وَالْخُصُوصِيَّاتُ مُتَعَلَّقُ التَّخْيِيرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْمُشْتَرَكِ إيجَابُ الْخُصُوصِيَّاتِ كَمَا مَضَى. وَأَمَّا النَّهْيُ فَإِنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ بِالْمُشْتَرَكِ لَزِمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ الْخُصُوصِيَّاتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ مِنْهُ فَرْدٌ إلَى الْوُجُودِ لَدَخَلَ فِي ضِمْنِهِ الْمُشْتَرَكُ الْمُحَرَّمُ، وَوَقَعَ الْمَحْذُورُ، كَمَا إذَا حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ يَلْزَمُ تَحْرِيمُ السَّمِينِ مِنْهُ وَالْهَزِيلِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَنَحْوِهِ إنَّمَا لَاقَى فِي الْمَجْمُوعِ عَيْنًا لَا الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ مَاهِيَّةُ الْمَجْمُوعِ فِي الْوُجُودِ، وَالْمَاهِيَّةُ تَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ جُزْءٍ مِنْهَا، وَأَيُّ أُخْتٍ تَرَكَهَا خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْمَجْمُوعِ فَلَيْسَ كَالْأَمْرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْحَقُّ نَفْيُ التَّحْرِيمِ الْمُخَيَّرِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الْأُخْتَيْنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ لَا إحْدَاهُمَا، وَلَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ إمَّا أَحَدُهَا أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى التَّخْيِيرِ، وَفِي كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مَأْخَذُهُ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّ النَّهْيَ عَنْ نَوْعٍ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ كُلِّ أَفْرَادِهِ، إذْ فِي كُلِّ فَرْدٍ النَّهْيُ، مِثْلُ " لَا تَزْنِ " فَلَا شَيْءَ مِنْ الزِّنَى بِحَلَالٍ،

وَإِلَّا لَصَدَقَ أَنَّهُ زِنًى. وَالْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، غَيْرَ أَنَّ قَوْمًا يَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ، وَآخَرُونَ يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْكُلِّ يَسْتَلْزِمُ بَعْضَ أَفْرَادِهِ وَقَالَ صَاحِبُ " الْوَاضِحِ " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ: النَّهْيُ عَنْ أَشْيَاءَ عَلَى التَّخْيِيرِ إنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: لَا تَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُلُوُّ مِنْهَا كُلِّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الْجَمِيعِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْسُنْ النَّهْيُ عَنْ كُلِّهَا كَقَوْلِهِ: لَا تَفْعَلْ فِي يَدِك حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا. وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ رَأْيُ أَصْحَابِنَا فِي النَّهْيِ عَنْ أَشْيَاءَ عَلَى التَّخْيِيرِ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْأَضْدَادُ بِجُمْلَتِهَا قَبِيحَةً، وَلَا يَنْفَكُّ الْإِنْسَانُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُنْهَى عَنْهَا بِأَجْمَعَ، فَإِذَا نَهَى عَنْ ضِدَّيْنِ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُمَا إلَى ثَالِثٍ صَحَّ، وَيَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُهَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ أَيَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَعَلَهُ كَانَ قَبِيحًا، وَالنَّهْيُ عَنْهُمَا مَعَ تَضَادِّهِمَا عَنْ الْجَمْعِ لَا يَحْسُنُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لَيْسَ فِي الْمَقْدُورِ، وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ، وَمَتَى مَا أَمَرَ بِشَيْئَيْنِ ضِدَّيْنِ كَانَ لَهُ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَهَذَا يُبَيِّنُ صِحَّةَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا لَزِمَ الْمُكَلَّفَ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَ الضِّدَّيْنِ كَانَا وَاجِبَيْنِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَإِذَا نُهِيَ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ النَّهْيِ، فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّخْيِيرِ، فَلَا يَصِحُّ، وَيُفَارِقُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مِمَّا يُفَارِقُ الْأَمْرَ النَّهْيُ: أَنَّهُ إذَا نُهِيَ عَنْ أَشْيَاءَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَفْظُ التَّخْيِيرِ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ} [الإنسان: 24] الْآيَةَ.

مسألة هل يقال هذا أحرم من هذا

[مَسْأَلَةٌ هَلْ يُقَالُ هَذَا أَحْرَمُ مِنْ هَذَا] ؟] سَبَقَ فِي بَحْثِ الْوَاجِبِ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ هَلْ يُقَالُ هَذَا أَوْجَبُ مِنْ هَذَا؟ أَجْرَاهُ ابْنُ بَزِيزَةَ فِي " شَرْحِ الْأَحْكَامِ " فِي أَنَّهُ هَلْ يُقَالُ هَذَا أَحْرَمُ مِنْ هَذَا أَمْ لَا؟ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَقُولٌ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ أَوْ كَثْرَةِ الزَّوَاجِرِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الطَّلَبِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّنَى بِالْأُمِّ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَى بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الزِّنَى فِي الْمَسْجِدِ آثَمُ مِنْ الزِّنَى فِي الْكَنِيسَةِ. وَقَدْ رَدَّ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ شِدَّةَ التَّحْرِيمِ فِيهِ إلَى أَنَّهُ فَعَلَ حَرَامَيْنِ، وَالْكَلَامُ لَمْ يَقَعْ إلَّا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ. اهـ. [خَاتِمَةٌ تَرْكُ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ مِنْ فِعْلِ الْحَرَامِ] ِ] قِيلَ: تَرْكُ الْوَاجِبِ فِي الشَّرِيعَةِ بَلْ وَفِي الْعَقْلِ أَعْظَمُ مِنْ فِعْلِ الْحَرَامِ لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلِ: أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمِ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ،

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] فَبَيَّنَ أَنَّ مَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَكْبَرُ مِمَّا فِيهَا مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْفَحْشَاءِ. الثَّانِي: أَنَّ أَعْظَمَ الْحَسَنَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَهُوَ أَدَاءُ وَاجِبٍ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ كُفْرٌ.

فصل في المباح

[فَصْلٌ فِي الْمُبَاحِ] ِ وَهُوَ مَا أُذِنَ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَرْكٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِاقْتِضَاءِ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، فَخَرَجَ بِالْإِذْنِ بَقَاءُ الْأَشْيَاءِ عَلَى حُكْمِهَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى مُبَاحًا، وَخَرَجَ فِعْلُ اللَّهِ فَلَا يُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَقِّ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ "، وَالْأُسْتَاذُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ. وَقَوْلُنَا: مِنْ حَيْثُ هُوَ تُرِكَ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الْمُبَاحَ بِالْحَرَامِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، فَلَا يَكُونُ تَرْكُهُ وَفِعْلُهُ سَوَاءً، بَلْ يَكُونُ تَرْكُهُ وَاجِبًا، وَإِنَّمَا يَسْتَوِي الْأَمْرَانِ إذَا تَرَكَ الْمُبَاحَ بِمِثْلِهِ كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَقَدْ يُتْرَكُ بِالْوَاجِبِ كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُتْرَكُ بِمَنْدُوبٍ كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَقَدْ يُتْرَكُ بِالْحَرَامِ، كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْكَذِبِ وَالْقَذْفِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ حُكْمَ الْمُبَاحِ يَتَغَيَّرُ بِمُرَاعَاةِ غَيْرِهِ فَيَصِيرُ وَاجِبًا إذَا كَانَ فِي تَرْكِهِ الْهَلَاكُ، وَيَصِيرُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَ فِي فِعْلِهِ فَوَاتُ فَرِيضَةٍ أَوْ حُصُولُ مَفْسَدَةٍ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَيَصِيرُ مَكْرُوهًا إذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ نِيَّةُ مَكْرُوهٍ، وَيَصِيرُ مَنْدُوبًا إذَا قَصَدَ بِهِ الْعَوْنَ عَلَى الطَّاعَةِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْإِحْيَاءُ ": بَعْضُ الْمُبَاحِ يَصِيرُ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ صَغِيرَةً كَالتَّرَنُّمِ بِالْغِنَاءِ، وَلَعِبِ الشَّطْرَنْجِ، وَكَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَصِيرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِنَا حَدُّوا الْمُبَاحَ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ وَلَا فِي تَرْكِهِ، مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ عَسِرٌ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ اللَّهِ وَفِعْلُ السَّاهِي وَالْغَافِلِ وَالنَّائِمِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْبَهِيمَةِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ؛ لِاسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ الْمَنْعِ الشَّرْعِيِّ بِهَا، فَإِذَا شَمِلَتْ الْإِبَاحَةُ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَمْنَعُ كَوْنَهَا مُتَعَلَّقَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ امْتَنَعَ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْإِبَاحَةِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَإِلَّا لَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا. وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الْحَلَالُ وَالْمُطْلَقُ وَالْجَائِزُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ ": كُلُّ مُبَاحٍ جَائِزٌ، وَلَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ مُبَاحًا، فَإِنَّا نَقُولُ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ: إنَّهَا جَائِزٌ حُدُوثَهَا، وَلَا نَقُولُ: إنَّهَا مُبَاحَةٌ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ الْمُبَاحَ إذَا وَقَعَ لِتَعَلُّقِ إرَادَةِ اللَّهِ ثَمَّتَ بِكُلِّ الْمُرَادَاتِ.

مسألة ما يطلق عليه المباح

وَخَالَفَتْ الْمُعْتَزِلَةُ، فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مُرِيدٍ لِلْمُبَاحِ وَلَا كَارِهٍ لَهُ، وَنَشَأَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ أَرَادَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ فِعْلَ شَيْءٍ وَرَدَتْ فِيهِ صِيغَةُ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا تَكْلِيفًا. [مَسْأَلَةٌ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْمُبَاحُ] ُ] يُطْلَقُ الْمُبَاحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا مَا صَرَّحَ فِيهِ الشَّرْعُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ لِلْمُسَافِرِ: إنْ شِئْت فَصُمْ، وَإِنْ شِئْت فَأَفْطِرْ. الثَّانِي: مَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّرْعُ، فَيُقَالُ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ، وَيُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثِ، وَهُوَ مَا جَازَ فِعْلُهُ، اسْتَوَى طَرَفَاهُ أَوْ لَا. وَقَدْ يُطْلَقُ الْمُبَاحُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَمِنْهُ قَوْلُنَا: الْحَلْقُ فِي الْحَجِّ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَالْمُرَادُ بِالْإِبَاحَةِ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّحْلِيلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ. وَقَدْ يَجْرِي فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ: جَازَ لَهُ أَوْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا وَيُرِيدُونَ

مسألة من صيغ المباح

بِهِ الْوُجُوبَ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ دَائِرًا بَيْنَ الْحُرْمَةِ وَالْوُجُوبِ فَيَسْتَفِيدُ بِقَوْلِهِمْ: يَجُوزُ نَفْيُ الْحُرْمَةِ فَيَبْقَى الْوُجُوبُ، وَلِهَذَا لَا يَحْسُنُ قَوْلُهُمْ فِيمَنْ عَلِمَ دُخُولَ رَمَضَانَ بِالْحِسَابِ: إنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ لَا يُتَنَفَّلُ بِهِ، وَكَذَا لَا يَحْسُنُ قَوْلُهُمْ فِي الصَّبِيِّ: لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ وَجَبَ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ صِيَغِ الْمُبَاحِ] ِ] وَمِنْ صِيَغِهِ أَعْنِي الْمُبَاحَ: رَفْعُ الْحَرَجِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلسَّائِلِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» وَمِنْ صِيَغِهِ فِي الْقُرْآنِ: نَفْيُ الْجُنَاحِ، وَمِنْ ثَمَّ صَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ الْقَصْرَ مُبَاحٌ لَا وَاجِبٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] وَالْجُنَاحُ: الْإِثْمُ، وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُبَاحِ لَا الْوَاجِبِ. وَأُجِيبُ عَنْ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: نُزُولُهَا عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ ظَنُّهُمْ أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.

مسألة الإباحة حكم شرعي

[مَسْأَلَةٌ الْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ] ٌّ] الْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ يَلْتَفِتُ إلَى تَفْسِيرِ الْمُبَاحِ، إنْ عَرَّفَهُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْأَقْدَمِينَ، فَنَفْيُ الْحَرَجِ ثَابِتٌ قَبْلَ الشَّرْعِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ الشَّرْعِ، وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْإِعْلَامِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ فَالْإِعْلَامُ بِهِ إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ الشَّرْعِ فَيَكُونُ شَرْعِيًّا. [مَسْأَلَةٌ الْإِبَاحَةُ لَيْسَتْ بِتَكْلِيفٍ] ٍ] الْإِبَاحَةُ، وَإِنْ كَانَتْ شَرْعِيَّةً لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَكْلِيفٍ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّهُ تَكْلِيفٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّا كُلِّفْنَا اعْتِقَادَ إبَاحَتِهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لِلْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بَلْ وَاجِبٍ، وَكَلَامُنَا فِي الْمُبَاحِ. وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: هُوَ تَكْلِيفٌ بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ، لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَقَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْعِلْمَ بِحُكْمِ الْمُبَاحِ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ الْمُبَاحِ.

مسألة المباح لا يسمى قبيحا

قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ غَلَّطَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ حَيْثُ قَالَ فِي حَدِّ الْفِقْهِ: إنَّهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ، وَفِي الْفِقْهِ مُبَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِدُخُولِ الْمُبَاحِ فِي التَّكْلِيفِ هَلْ دَخَلَ فِيهِ بِإِذْنٍ أَوْ أَمْرٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: بِإِذْنٍ لِيَخْرُجَ عَنْ حُكْمِ النَّدْبِ. وَالثَّانِي: بِأَمْرٍ دُونَ أَمْرِ النَّدْبِ، كَمَا أَنَّ أَمْرَ النَّدْبِ دُونَ أَمْرِ الْوَاجِبِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى خُرُوجِهِ مِنْ التَّكْلِيفِ بِإِذْنٍ أَوْ أَمْرٍ، لِاخْتِصَاصِ التَّكْلِيفِ بِمَا تَضَمَّنَهُ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ. [مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ لَا يُسَمَّى قَبِيحًا] ] أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُسَمَّى قَبِيحًا، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُسَمَّى حَسَنًا أَمْ لَا؟ وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَسَنِ، وَقَدْ سَبَقَ. [مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ هَلْ هُوَ جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ] ِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ هَلْ يَبْقَى الْجَوَازُ؟

مسألة المباح هل هو مأمور به

[مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ] ِ] الْمُبَاحُ هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ؟ خِلَافٌ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي مَاذَا؟ هَلْ هُوَ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْ الْفِعْلِ أَوْ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ فِي النَّدْبِ أَوْ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ بِخِلَافِ الثَّانِي وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ حَيْثُ قَالَ: كُلُّ فِعْلٍ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَرَكَ بِهِ الْحَرَامَ. وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِفِعْلِهِ مُطِيعًا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ، وَصَرَّحَ الْقَاضِي عَنْ الْكَعْبِيِّ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " بِأَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ دُونَ الْأَمْرِ بِالنَّدْبِ، وَالنَّدْبَ دُونَ الْأَمْرِ بِالْإِيجَابِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْأَمْرَ عَلَى الْمُبَاحِ فَلَا يُسَمَّى الْمُبَاحُ وَاجِبًا، وَلَا الْإِبَاحَةُ إيجَابًا، وَتَبِعَهُ فِي هَذَا الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ " وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ الْكَعْبِيُّ مُفَاجِئًا بِإِنْكَارِ الْمُبَاحِ

وَهُوَ قَضِيَّةُ اسْتِدْلَالِهِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنْهُ فِي " الْبُرْهَانِ " وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: أَنَّهُ بَاحَ بِإِنْكَارِ الْمُبَاحِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَالَ: هُوَ وَاجِبٌ، وَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " وَ " الْأَوْسَطِ " وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ وَالْأَلْيَقُ بِهِ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَنَسَبَهُ إلَى مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ إذَنْ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، فَقَدْ قَالَ بِهِ أَبُو الْفَرَجِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: حَكَاهُ عَنْهُ الْبَاجِيُّ، ثُمَّ قَالَ: إنْ كَانَ مُرَادُهُمْ بِكَوْنِ الْمُبَاحِ مَأْمُورًا بِهِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، فَالْخِلَافُ فِي الْعِبَارَةِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْإِبَاحَةَ لِلْفِعْلِ اقْتِضَاءٌ لَهُ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ أَوْ النَّدْبِ وَأَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: ذَهَبَ الْكَعْبِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا مُبَاحَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَهُ مَأْخَذَانِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَكِنَّهُ دُونَ النَّدْبِ، كَمَا أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَكِنْ دُونَ الْوَاجِبِ، وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَطْلُبَهُ الطَّالِبُ لِحُسْنِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ فِي الْفَتْوَى، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَإِنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ إمَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ أَوْ لَا: فَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ تَرَجَّحَ فَإِنْ لَحِقَ الذَّمُّ عَلَى تَرْكِهِ؛ فَهُوَ الْوَاجِبُ، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَنْدُوبُ، وَمَنْ تَخَيَّلَ وَاسِطَةً فَلَا عَقْلَ لَهُ. انْتَهَى.

وَأَلْزَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَصْحَابَنَا الْمَصِيرَ إلَى مَقَالَةِ الْكَعْبِيِّ مِنْ قَوْلِهِمْ: النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الزِّنَى لَمَّا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَإِنَّ الْقَوَاطِعَ عَنْهُ بِالِاشْتِغَالِ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا كَوْنِ حُكْمِهَا عِنْدَ الْكَعْبِيِّ أَوْ أَحَدِهَا وَاجِبًا عَلَى الْمُكَلَّفِ الْتَبَسَ بِهِ لِيَكُونَ قَاطِعًا لَهُ عَنْ الزِّنَى، وَيُخَيَّرُ فِي الْأَشْغَالِ الْقَاطِعَةِ، فَمَا اخْتَارَ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهِ مِنْهَا تَعَيَّنَ وُجُوبُهُ كَمَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا: إنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ الَّتِي يَكُونُ التَّلَبُّسُ بِهَا يَقْطَعُهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي التَّلَبُّسِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَيَجْرِي مَجْرَى التَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ بِخِطَابِ الْإِبَاحَةِ إنَّمَا هُوَ ذَاتُهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ آخَرَ، فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ شَاغِلٌ عَنْ الْمَعَاصِي فَلَيْسَ هَذَا بِمَقْصُودِ الشَّرْعِ، وَلَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْمُكَلَّفِ، وَمَا صَوَّرَهُ الْكَعْبِيُّ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ ذَرِيعَةً وَوَسِيلَةً فَلَا نُنْكِرُهُ، وَلَكِنْ الْمُنْكَرُ قَصْدُ الشَّارِعِ إلَيْهِ، وَلِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَأَنَّهُ نَقِيضُ الْوَاجِبِ، وَكَوْنُهَا وُصْلَةً لَا يَغْلِبُ حُكْمُهَا الْمَقْصُودَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ شَرْعًا. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: مَذْهَبُ الْكَعْبِيِّ يَتَّجِهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَلَا طَرِيقَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَخِلَافِ الْكَعْبِيِّ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْوَاجِبَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابٌ مَقْصُودٌ، وَالْإِبَاحَةُ مَقْصُودَةٌ فِي الْإِبَاحَاتِ، وَلَمْ يُشْرَعْ لِلنَّهْيِ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " لَا تَزْنِ وَلَا تَسْرِقْ " لَمْ يُطْلَقْ لَهُ الرَّوَاحُ وَالْمَجِيءُ مِنْ غَيْرِ خُطُورِ النَّهْيِ عَنْ السَّرِقَةِ. وَلَيْسَ الْوُجُوبُ وَصْفًا رَاجِعًا إلَى الْعَيْنِ حَتَّى يُقَالَ: لَا أَثَرَ لِقَصْدِ الْمُخَاطَبِ فِيهِ، وَلَعَلَّ الْكَعْبِيَّ يَعْتَقِدُ الْوُجُوبَ وَصْفًا رَاجِعًا إلَى الْعَيْنِ كَمَا قَالُوا فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، أَوْ يُخَالِفُ فِي الْعِبَارَةِ.

قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ إلَى عِبَارَةِ " إذْ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا عَقْلِيَّةٌ ". نَعَمْ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَوَائِدُ شَرْعِيَّةٌ، فَإِنَّ النَّاوِيَ لِلصَّوْمِ لَا يَقْصِدُ الْإِمْسَاكَ لَيْلًا، وَلَا يَنْوِي بِصَوْمِهِ تَقَرُّبًا، وَقَدْ يُقَالُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى مِقْدَارُهُ فَيُقَالُ: الْمَجْهُولُ كَيْفَ يَكُونُ وَاجِبًا وَلَا إمْكَانَ فِيهِ؟ وَالْمُخَالِفُ فِيهِ يَقُولُ: لَا جَرَمَ هَذَا النَّوْعُ وَآخِرُ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ لَا يَتَّصِفَانِ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُمَا لَا يَتَبَيَّنُ فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَتَبْقَى تَسْمِيَةُ الْوَاجِبِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِلَّا فَمَا عَلِمَ الْحَكِيمُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى أَدَاءُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَجْعَلُهُ وَاجِبًا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": بَنَى الْكَعْبِيُّ مَذْهَبَهُ عَلَى أَصْلٍ إذَا سَلِمَ لَهُ فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَالنَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَلَا مُخَلِّصَ مِنْ مَذْهَبِهِ إلَّا بِإِنْكَارِ هَذَا الْأَصْلِ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِأَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ تَرْكُ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ مُبَاحٍ إلَّا وَهُوَ تَرْكٌ لِمَحْظُورٍ. وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْمُبَاحِ وَاجِبًا مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهِ تَرْكًا لِمَحْظُورٍ، وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهِ تَرْكُ الْحَرَامِ لِجَوَازِ تَرْكِهِ بِوَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ، فَلَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْحَرَامِ بَلْ يَحْصُلُ بِهِ تَرْكُهُ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْمُبَاحُ الَّذِي بِهِ يُتْرَكُ الْحَرَامُ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَفِيهِ إقْرَارٌ بِأَنَّ بَعْضَ الْمُبَاحِ وَاجِبٌ.

قَالَ الْآمِدِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ صَادِرٌ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ كَلَامَهُ فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِدُونِ التَّلَبُّسِ بِضِدِّهِ مِنْ أَضْدَادِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَالتَّلَبُّسُ بِضِدٍّ مِنْ أَضْدَادِهِ وَاجِبٌ. وَالثَّانِي أَنَّهُ يَلْزَمُ إذَا تَرَكَ وَاجِبًا مُضَيَّقًا كَإِنْقَاذِ أَعْمَى مِنْ بِئْرٍ وَاشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ أَنَّهُ حَرَامٌ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهُوَ يَلْتَزِمُهُ. قَالَ: وَلَا مُخَلِّصَ عَنْهُ إلَّا بِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ مِنْ عَقْلِيٍّ أَوْ عَادِيٍّ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي دَعَاهُ إلَى ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ اسْتَصْعَبَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ كَلَامَ الْكَعْبِيِّ صَحِيحٌ حَتَّى قَالَ الْآمِدِيُّ: عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِي حَلُّهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: قَوْلُهُ إنَّ الْحَرَامَ إذَا تُرِكَ بِهِ حَرَامٌ آخَرُ يَكُونُ وَاجِبًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُقَالُ عَلَيْهِ: إنَّ التَّفْصِيلَ بِالْجِهَتَيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَقْلِ دُونَ الْخَارِجِ، فَلَيْسَ لَنَا فِي الْخَارِجِ فِعْلٌ وَاحِدٌ يَكُونُ وَاجِبًا حَرَامًا؛ لِاسْتِحَالَةِ تَقَوُّمِ الْمَاهِيَّةِ بِفَصْلَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ، وَهُمَا فَصْلُ الْوُجُوبِ وَفَصْلُ الْحُرْمَةِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يُقَالُ عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ الْمُبَاحَ وَاجِبٌ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ عُلِمَ بِالْبَدِيهَةِ امْتِنَاعُ تَقْوِيمِ الْمَاهِيَّةِ بِفَصْلَيْنِ أَوْ فُصُولٍ مُتَعَانِدَةٍ، وَمِنْ ثَمَّ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ مُمَيِّزَانِ ذَاتِيَّانِ بِخِلَافِ الْمُمَيِّزَيْنِ الْعَرَضِيَّيْنِ الْخَاصَّيْنِ وَاللَّازِمَيْنِ. وَأَيْضًا نَقُولُ: قَوْلُهُ " فِعْلُ " الْمُبَاحِ تَرْكُ الْحَرَامِ. قُلْنَا: تَرْكُهُ لَهُ بِخُصُوصِهِ أَوْ تَرْكٌ لَهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْفِعْلِ وَاجِبًا، وَأَمَّا

الثَّانِي فَلَا نُسَلِّمُ، وَسَنَدُ الْمَنْعِ أَنَّ التَّلَبُّسَ بِالْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ تَرْكٌ لِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ وَالْمُبَاحَةِ غَيْرَ الْفِعْلِ الْمُتَلَبَّسِ بِهِ، وَتَرْكُ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ لَا يَتَعَيَّنُ بِهِ ضِدٌّ مُعَيَّنٌ عَمَلًا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى الْكَافِرِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْ مَفْهُومِهِ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، ثُمَّ نَقُولُ: مَا ذَكَرْتُمْ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ. قُلْنَا: مَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَتِهِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ الَّذِي لَيْسَ بِمُضَيَّقٍ، وَلِتَرْكِ الْحَرَامِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ اللَّوَازِمُ تَسَاقَطَتْ فَيَبْقَى الْمُبَاحُ عَلَى إبَاحَتِهِ. الثَّانِي: أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعَارُضِ اللُّزُومِ الَّذِي اسْتَلْزَمَهُ لَوَازِمُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَمَتَى تَعَارَضَتْ اللَّوَازِمُ تَسَاقَطَتْ. الثَّالِثِ: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا جَمِيعَ الْأَفْعَالِ دَائِرَةً أَخَذَتْ الْأَفْعَالُ الْمُبَاحَةُ خُمْسَهَا. فَإِذَا حَصَلَ الْفِعْلُ الْمُتَلَبَّسُ بِهِ فَهُوَ مَرْكَزُ الدَّائِرَةِ، وَإِذَا كَانَ مَثَلًا مُبَاحًا بِالذَّاتِ الَّذِي أَقَرَّ الْكَعْبِيُّ بِهِ حَصَلَ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ نِسْبَةٌ إلَى كُلِّ خُمْسٍ مِنْ أَجْزَاءِ الدَّائِرَةِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ مُبَاحٌ فَتَسَاقَطَتْ النِّسَبُ الْخَمْسُ، وَتَبْقَى الْإِبَاحَةُ الذَّاتِيَّةُ. الثَّانِي: مِنْ أَدِلَّةِ الدَّائِرَةِ إذَا تَلَبَّسَ الْمُتَلَبِّسُ حَصَلَتْ لَهُ الْإِبَاحَةُ بِالذَّاتِ وَبِالنِّسْبَةِ حَصَلَ مِنْهُ الْوُجُوبُ نَاشِئًا عَنْ النِّسْبَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ أَمْرَانِ يَقْتَضِيَانِ حُكْمَيْنِ عَارَضَهُمَا أَمْرٌ مُسَاوٍ لِأَحَدِهِمَا يَقْتَضِي نَفْيَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ مُرَجِّحٌ وُقُوعَ نَقِيضِ الْأَمْرَيْنِ، فَيَرْجَحُ الْقَوْلُ بِإِبَاحَةِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ. الثَّالِثِ: أَنْ تَقُولَ: هَذَا الْفِعْلُ فِيهِ إبَاحَةٌ ذَاتِيَّةٌ، وَإِبَاحَةٌ نِسْبِيَّةٌ، وَفِيهِ وُجُوبٌ نِسْبِيٌّ مُعَارِضٌ لِلْإِبَاحَةِ فَيَتَسَاقَطَانِ وَتَبْقَى الْإِبَاحَةُ الذَّاتِيَّةُ. الرَّابِعِ: أَنْ تَقُولَ: الْإِبَاحَةُ النِّسْبِيَّةُ تُرَجَّحُ بِانْفِرَادِهَا عَلَى الْوُجُوبِ

النِّسْبِيِّ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ النِّسْبِيَّةَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى النِّسْبَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْوُجُوبُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَرْكِ الْحَرَامِ، وَالْحَرَامُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى النِّسْبَةِ الْمَذْكُورَةِ فَتَرْجَحُ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ رُدَّ مَذْهَبُ الْكَعْبِيِّ أَيْضًا بِاسْتِلْزَامِ كَوْنِ الْمَنْدُوبِ وَاجِبًا، إذْ يُتْرَكُ بِهِ الْحَرَامُ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَقْسَامِ مَعَ نَقَائِضِهَا، وَلَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ؛ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ انْتِقَالٍ عَنْ تَحْرِيمٍ مِنْ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ أَوْ نَوْمٍ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، وَهُوَ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ، وَيَلْزَمُ فِيمَا إذَا اشْتَغَلَ عَنْ الْقَتْلِ بِالزِّنَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، فَيَجْمَعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ وَلِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَمَنْ سُبِقَ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُبَاحُ أَحَدُ أَضْدَادِ الْمُحَرَّمِ، وَالتَّلَبُّسُ بِأَحَدِهَا وَاجِبٌ، وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، فَيَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْوُجُوبِ، كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَهُوَ قَوِيُّ الْإِشْكَالِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْوَاصِفِينَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّخْيِيرِ بِالْوُجُوبِ، لَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: الْوَاجِبُ الْمُسَمَّى فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ وَصْفُ أَحَدِ الْمُبَاحَاتِ عَلَى التَّعْبِيرِ بِالْوُجُوبِ.

فصل في المندوب

[فَصْلٌ فِي الْمَنْدُوبِ] ِ وَهُوَ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَارِكٌ لَهُ، فَخَرَجَ بِالْقَيْدِ مَا لَوْ أَقْدَمَ عَلَى ضِدٍّ مِنْ أَضْدَادِ الْمَنْدُوبِ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ فِي نَفْسِهِ، فَيَلْحَقُهُ الْإِثْمُ إذَا تَرَكَ الْمَنْدُوبَ مِنْ حَيْثُ عِصْيَانُهُ لَا مِنْ حَيْثُ تَرْكُهُ الْمَنْدُوبَ. قَالَهُ فِي " التَّلْخِيصِ ". قَالَ: وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ بَاطِلٌ، لِصِدْقِهِ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُسَمَّى نَدْبًا كَمَا لَا يُسَمَّى مُبَاحًا. وَالنَّدْبُ، وَالْمُسْتَحَبُّ، وَالتَّطَوُّعُ، وَالسُّنَّةُ أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَفِي " الْمَحْصُولِ ": لَفْظُ السُّنَّةِ يَخْتَصُّ فِي الْعُرْفِ بِالْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ قَوْلِنَا: هَذَا الْفِعْلُ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: السُّنَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَنْدُوبِ بَلْ تَتَنَاوَلُ مَا عُلِمَ وُجُوبُهُ أَوْ نَدْبِيَّتُهُ. اهـ.

وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ: مَا عَدَا الْفَرَائِضَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: سُنَّةٌ: وَهِيَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمُسْتَحَبٌّ: وَهُوَ مَا فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَتَطَوُّعَاتٌ: وَهُوَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ بِخُصُوصِهِ نَقْلٌ بَلْ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً كَالنَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ، وَرَدَّهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " الْمِنْهَاجِ " بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ فِي عُمُرِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَفْعَالُهُ فِيهَا سُنَّةٌ، وَإِنْ لَمْ تَتَكَرَّرْ، وَالِاسْتِسْقَاءُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةُ لَمْ يُنْقَلْ إلَّا مَرَّةً، وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ اهـ. وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: أَنَّ النَّفَلَ وَالتَّطَوُّعَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ وَهُمَا مَا سِوَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، وَالْمُسْتَحَبِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ أَنْوَاعٌ لَهَا. وَفِي وَجْهٍ رَابِعٍ قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ: السُّنَّةُ مَا اُسْتُحِبَّ فِعْلُهُ وَكُرِهَ تَرْكُهُ، وَالتَّطَوُّعُ مَا اُسْتُحِبَّ فِعْلُهُ وَلَمْ يُكْرَهْ تَرْكُهُ. وَفِي وَجْهٍ خَامِسٍ: حَكَاهُ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنْ " الْمَطْلَبِ ": السُّنَّةُ مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُسْتَحَبُّ مَا أَمَرَ بِهِ سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَوْ لَا، أَوْ فَعَلَهُ وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ، فَالسُّنَّةُ إذًا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْإِدَامَةِ، وَقِيلَ: السُّنَّةُ مَا تُرَتَّبُ كَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَالنَّفَلُ وَالنَّدْبُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ "، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": النَّفَلُ قَرِيبٌ مِنْ النَّدْبِ إلَّا أَنَّهُ دُونَهُ فِي الرُّتْبَةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا ارْتَفَعَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْأَمْرِ وَبَالَغَ الشَّرْعُ فِي التَّخْصِيصِ مِنْهُ يُسَمَّى سُنَّةً، وَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ تَطَوُّعًا وَنَافِلَةً، وَمَا تَوَسَّطَ بَيْنَ هَذَيْنِ فَضِيلَةً وَمُرَغَّبًا فِيهِ.

وَفَرَّقَ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْهَيْئَةِ: بِأَنَّ الْهَيْئَةَ مَا يَتَهَيَّأُ بِهَا فِعْلُ الْعِبَادَةِ، وَالسُّنَّةَ مَا كَانَتْ فِي أَفْعَالِهَا الرَّاتِبَةِ فِيهَا، وَجَعَلَ التَّسْمِيَةَ وَغَسْلَ الْكَفَّيْنِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْهَيْئَاتِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا سُنَّةٌ، وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو تَمَّامٍ بِمَكَّةَ. قَالَ: سَأَلْت الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ بِبَغْدَادَ عَنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: إنَّهُ سُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ وَنَفْلٌ وَهَيْئَةٌ، فَقَالَ: هَذِهِ عَامِّيَّةٌ فِي الْفِقْهِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إلَّا فَرْضٌ لَا غَيْرُ. قَالَ: وَقَدْ اتَّبَعَهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فَذَكَرَ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ سُنَّةً وَهَيْئَةً، وَأَرَادَ بِالْهَيْئَةِ رَفْعَ الْيَدَيْنِ وَنَحْوَهُ. قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى السُّنَّةِ. قَالَ: وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ سَأَلْت عَنْ هَذَا أُسْتَاذِي الْقَاضِي أَبَا الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيَّ بِالْبَصْرَةِ. فَقَالَ: هَذِهِ أَلْقَابٌ لَا أَصْلَ لَهَا، وَلَا نَعْرِفُهَا فِي الشَّرْعِ. قُلْت لَهُ: قَدْ ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا الْبَغْدَادِيُّونَ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ، فَقَالَ: الْجَوَابُ عَلَيْكُمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا النُّظَّارُ، فَقَالُوا: السُّنَّةُ مَا صَلَّاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمَاعَةٍ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ مَالِكٌ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ

مسألة المندوب مأمور به

سُنَّةً، وَالْفَضِيلَةُ مَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ مِنْ أَصْلِ نَفْسِهَا كَالْقُنُوتِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ. قَالَ: وَهَذَا خِلَافٌ لَفْظِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي الثَّوَابِ، فَالسُّنَّةُ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَالنَّدْبُ وَمُتَعَلِّقُهُ مِنْ الثَّوَابِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ رَكِبَ الشَّافِعِيُّ مَسْلَكًا ضَيِّقًا فَأَطْلَقَ عَلَى الْجَمِيعِ سُنَّةً، ثُمَّ قَالَ: إنَّ تَرْكَ السُّورَةِ لَا يَقْتَضِي سُجُودَ السَّهْوِ، وَتَرْكَ الْقُنُوتِ يَقْتَضِي، حَتَّى قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُوجَدُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ. [مَسْأَلَةٌ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ] ِ] الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً فِي قَوْلِ الْقَاضِي، وَالْغَزَالِيِّ، وَابْنِ الصَّبَّاغِ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَصَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا وَرَدَ لَفْظُ الْأَمْرِ وَدَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّدْبُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجْعَلُهُ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ، وَإِخْرَاجُ الْبَعْضِ فَكَانَ حَقِيقَةً كَلَفْظِ الْعُمُومِ إذَا خُصَّ فِي بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو هَاشِمٍ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلِهَذَا قَسَّمُوا الْأَمْرَ

إلَى وَاجِبٍ وَنَدْبٍ، وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ، وَقَالَ الْكَرْخِيّ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ، وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الرَّازِيَّ فِي " الْمَحْصُولِ ": إنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ ": الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ، وَهُوَ خِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَقَوْلُنَا: إنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ، وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْأَمْرَ إنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْوُجُوبِ فَقَطْ فَالْمَنْدُوبُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِلَّا فَمَأْمُورٌ بِهِ، قَالَ: وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَاقِفِيَّةِ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ، فَكَيْفَ اخْتَارَ أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ التَّوَقُّفُ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ يَخُصُّ الْآمِدِيَّ، وَابْنَ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُمَا زَعَمَاهُ كَذَلِكَ.

قُلْنَا: الْكَلَامُ هُنَا فِي الْأَمْرِ هُوَ صِيغَةُ " أم ر " لَا فِي صِيغَةِ " افْعَلْ " وَالْأَمْرُ مَقُولٌ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِالْحَقِيقَةِ، وَ " افْعَلْ " يَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَكُونُ إلَّا إيجَابًا، وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْأَمْرِ لَا فِي الْمُطْلَقِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَهُوَ بَحْثٌ آخَرُ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ مُشَكَّكٌ كَالْوُجُودِ وَالْبَيَاضِ، وَأَجَابَ الْقَاضِي مِنْهُمْ بِأَنَّ النَّدْبَ بَعْضُ الْوُجُوبِ فَهُوَ كَدَلَالَةِ الْعَلَمِ عَلَى بَعْضِهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَجَازٍ، وَإِنَّمَا الْمَجَازُ دَلَالَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ. قِيلَ: وَالْمَنْدُوبُ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى الْوَاجِبِ أَوْلَى أَوْ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ. ثُمَّ قِيلَ: الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، إذْ الْمَنْدُوبُ مَطْلُوبٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَعَلَى هَذَا مَطْلُوبُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَلْ اقْتِضَاءُ الشَّرْعِ لِلْمَنْدُوبِ أَمْرٌ حَقِيقَةً أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ، وَلَهُ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: قَالَ الْمَازِرِيُّ، وَالْإِبْيَارِيُّ: إنَّمَا جَعَلَ الْإِمَامُ الْخِلَافَ لَفْظِيًّا؛ لِتَعَلُّقِهِ بِبَحْثِ اللُّغَةِ، وَإِلَّا فَفَائِدَتُهَا فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ إذَا قَالَ الرَّاوِي: أُمِرْنَا، أَوْ أَمَرَنَا

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا فَإِنْ قُلْنَا: لَفْظُ الْأَمْرِ يَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي ذَلِكَ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خُولِفَ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبَحْثُ الْعَقْلِيُّ هَلْ وَجَدَ فِي النَّدْبِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ؟ وَالثَّانِي: هَلْ يُسَمَّى النَّدْبُ أَمْرًا؟ وَهَذَا بَحْثٌ لُغَوِيٌّ، وَقَدْ نُوزِعَ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا جَعَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ مِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ الصَّحَابِيُّ: أُمِرْنَا أَوْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَهَانَا فَعِنْدَنَا يَجِبُ قَبُولُهُ، وَقَالَ الظَّاهِرِيَّةُ: لَا يُقْبَلُ حَتَّى يُعْقَلَ لَفْظُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ، وَعِنْدَنَا مَأْمُورٌ بِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إذَا وَرَدَ لَفْظُ الْأَمْرِ وَدَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْوُجُوبَ فَمَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ حَمَلَهُ عَلَى النَّدْبِ، وَلَمْ يَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى دَلِيلٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَهُ حَقِيقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالْإِطْلَاقِ، وَالْأُخْرَى بِالتَّقْيِيدِ، وَكَمَا حُمِلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى إحْدَاهُمَا حُمِلَ عِنْدَ التَّقْيِيدِ عَلَى الْأُخْرَى، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مَجَازٌ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ ذَكَرَهُ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ". الثَّالِثَةُ: لِحَمْلِ لَفْظِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ وَجْهَانِ: وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": مَنْشَأُ الْخِلَافِ هَاهُنَا: أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي مَاذَا؟ فَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي التَّرْجِيحِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ إشْعَارٍ بِجَوَازِ الْمَنْعِ مِنْ التَّرْكِ، وَلَا بِالْمَنْعِ مِنْهُ فَالْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي التَّرْجِيحِ الْمَانِعِ مِنْ النَّقِيضِ فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ.

فروع المندوب حسن

وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْأَمْرَ إنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْوُجُوبِ فَلَا. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ» ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَأَمَرْتُهُمْ أَمْرَ إيجَابٍ لَا أَمْرَ نَدْبٍ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْبَزَّارِ فِي مُسْنَدِهِ (لَفَرَضْتُ عَلَيْهِمْ) . [فُرُوعٌ الْمَنْدُوبُ حَسَنٌ] ٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ مِنْ التَّكْلِيفِ عِنْدَ الْقَاضِي خِلَافًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ التَّكْلِيفِ، وَسَيَأْتِي، وَلَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَإِلَّا لَنَاقَضَ أَصْلَ نَدْبِيَّتِهِ، وَأَمَّا وُجُوبُ إتْمَامِ الْحَجِّ فَلِاخْتِصَاصِهِ بِأَنَّ فَرْضَهُ كَنَفْلِهِ نِيَّةً وَكَفَّارَةً

وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مُفَرَّعَةً عَلَى مَسْأَلَةِ الْكَعْبِيِّ، وَهُوَ أَنَّ مَا جَازَ تَرْكُهُ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ وَاجِبًا، وَالْحَقُّ: خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْكَعْبِيِّ مَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَالْقَائِلُ بِالْوُجُوبِ هُنَا لَا يُجَوِّزُ التَّرْكَ، فَلَا يَصِحُّ تَفْرِيعُهَا عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَوَقَعَ لِي مَأْخَذٌ لَطِيفٌ لِمَالِكٍ فِي أَنَّ الشَّرْعَ يُلْزِمُ أَنَّ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَنَحْوَهُمَا عِبَادَاتٌ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ، فَلَوْ رَكَعَ إنْسَانٌ، فَتَرَكَ السُّجُودَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا أَلْبَتَّةَ، فَإِذَا شَرَعَ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، وَيَكُونُ التَّقْوِيمُ عَلَى مُعْتِقِ الْبَعْضِ أَصْلًا فِي هَذَا، فَإِنَّ حَاصِلَهُ إيجَابُ الْإِتْمَامِ عَلَى مَنْ شَرَعَ وَيَكُونُ نَظِيرَ عِتْقِ مُشْكِلٍ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ حَيْثُ قَبْلُ التَّجْزِئَةِ ابْتِدَاءً وَاسْتَقَرَّتْ فِيهِ التَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِضَرُورَةِ السَّفَرِ، فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِ الْأَرْكَانِ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ الْإِتْمَامِ إلَى الْإِيمَاءِ. قُلْتُ: وَهُوَ يَرْجِعُ لِمُنَاسَبَةٍ مُتَدَافِعَةٍ كَمَا تَرَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ احْتَجَّ عَلَى الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فَإِنَّهُ جَاهِلٌ بِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا: لَا تُبْطِلُوهَا بِالرِّيَاءِ وَأَخْلِصُوهَا، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَقِيلَ: لَا تُبْطِلُوهَا بِالْكَبَائِرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: اللَّفْظُ

عَامٌّ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ إلَّا بِالنَّذْرِ. وَفِي " الِاسْتِذْكَارِ " لِلدَّارِمِيِّ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ: إذَا دَخَلَ فِي عَمَلِ تَطَوُّعٍ، ثُمَّ نَوَاهُ وَاجِبًا فَحَكَى أَبُو حَامِدٍ أَنَّ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: يَجِبُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَجِبُ. وَهَلْ يَجِبُ بِأَمْرِ الْإِمَامِ؟ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مِنْ الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ وَجَبَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِسْقَاءِ فِي الْجَدْبِ تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ لَا يَجِبُ كَمَا لَوْ أَمَرَهُمْ بِالْعِتْقِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَأَفْتَى النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ إذَا أَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ الِاسْتِسْقَاءِ وَجَبَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ، فَهُوَ يُشْبِهُ أَمْرَهُ بِالصَّدَقَةِ، وَذَكَرُوا فِي السِّيَرِ: أَنَّ الْإِمَامَ يَأْمُرُهُمْ بِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ فِي " الرَّوْضَةِ ": قُلْت: الصَّحِيحُ وُجُوبُ الْأَمْرِ، وَإِنْ قُلْنَا: صَلَاةُ الْعِيدِ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالطَّاعَةِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَ شِعَارًا ظَاهِرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَنْدُوبِ آكَدَ مِنْ بَعْضٍ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَا يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْوَاجِبِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ تَفَاصِيلُ الْأُجُورِ وَالثَّوَابِ، وَإِنْ تَسَاوَتْ فِي التَّرْكِ. وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ السُّنَنَ إلَى أَبْعَاضٍ وَهَيْئَاتٍ فَخَصُّوا مَا تَأَكَّدَ أَمْرُهُ بِاسْمِ الْبَعْضِ كَأَنَّهُ لِتَأَكُّدِهِ صَارَ كَالْجُزْءِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ.

مسألة لا يترك المندوب إذا صار شعارا للمبتدعة

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": لَا خَفَاءَ أَنَّ مَرَاتِبَ السُّنَنِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي التَّأْكِيدِ، وَانْقِسَامِ ذَلِكَ إلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ وَمُتَوَسِّطَةٍ، وَنَازِلَةٍ وَذَلِكَ بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى الطَّلَبِ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ طَرِيقَةُ الشَّافِعِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمْ رُبَّمَا فَرَّقُوا بِلَفْظِ الْهَيْئَاتِ. قَالَ: وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ السُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ أَرَهُ إلَّا فِي كَلَامِ صَاحِبِ " الذَّخَائِرِ " فَإِنَّهُ حَكَى وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ غَسْلَ الْكَفِّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ أَوْ مِنْ فَضَائِلِهِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُتْرَكُ الْمَنْدُوبُ إذَا صَارَ شِعَارًا لِلْمُبْتَدِعَةِ] ِ] وَلَا يُتْرَكُ لِكَوْنِهِ صَارَ شِعَارًا لِلْمُبْتَدِعَةِ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِهَذَا تُرِكَ التَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ، وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ، وَالْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ، وَالتَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ، وَتَسْطِيحُ الْقُبُورِ مُحْتَجًّا «بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ الْقِيَامَ لِلْجِنَازَةِ لَمَّا أُخْبِرَ أَنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ» . وَأُجِيبُ بِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُشَرِّعٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ لَا يَتْرُكُ سُنَّةً صَحَّتْ عَنْهُ، وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ بَيْنَ السُّنَنِ الْمُسْتَقِلَّةِ وَبَيْنَ الْهَيْئَاتِ التَّابِعَةِ، فَقَالَ: لَا يُتْرَكُ الْقُنُوتُ إذَا صَارَ شِعَارًا لِلْمُبْتَدِعَةِ بِخِلَافِ التَّسْطِيحِ، وَالتَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا هَيْئَاتٌ تَابِعَةٌ، فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَالصَّحِيحُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا.

مسألة لا يترك المندوب لخوف اعتقاد العامة وجوبه

[مَسْأَلَةٌ لَا يُتْرَكُ الْمَنْدُوبُ لِخَوْفِ اعْتِقَادِ الْعَامَّةِ وُجُوبَهُ] ُ] وَلَا يُتْرَكُ لِخَوْفِ اعْتِقَادِ الْعَامَّةِ وُجُوبَهُ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَوَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِيمَا حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ فِي " الِاسْتِذْكَارِ " أَنَّهُ قَالَ: لَا أُحِبُّ أَنْ يُدَاوِمَ الْإِمَامُ عَلَى مِثْلِ أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ بِالْجُمُعَةِ وَنَحْوِهِ؛ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ الْعَامَّةُ وُجُوبَهُ. [مَسْأَلَةٌ سُنَّةُ الْعَيْنِ وَسُنَّةُ الْكِفَايَةِ] ِ] وَكَمَا يَنْقَسِمُ الْفَرْضُ إلَى عَيْنٍ وَكِفَايَةٍ فَكَذَلِكَ السُّنَّةُ. وَسُنَّةُ الْكِفَايَةِ أَنْ يَقَعَ الِامْتِثَالُ لِأَمْرِ الِاسْتِحْبَابِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَيَنْقَطِعَ دَلَالَةُ النَّصِّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَبْقَى مُتَسَحَّبًا بَلْ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الْمُبَاحِ أَوْ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ سُنَّةِ الْعَيْنِ فَإِنَّهَا بِفِعْلِ الْبَعْضِ الِاسْتِحْبَابُ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ " وَمِثَالُ سُنَّةِ الْعَيْنِ الْوِتْرُ، وَصِيَامُ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ، وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ، وَمِثَالُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَالتَّسْلِيمُ وَالتَّشْمِيتُ، وَكَذَا الْأُضْحِيَّةَ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ: إذَا ضَحَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ، فَقَدْ وَقَعَ اسْمُ الْأُضْحِيَّةِ، وَكَذَلِكَ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ حَكَاهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَفِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ مَا يَقْتَضِيهِ، وَكَذَا مَا يُفْعَلُ بِالْمَيِّتِ مِمَّا يُنْدَبُ إلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيُفَارِقُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ سُنَّةَ الْكِفَايَةِ فِي أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يُنَافِيهِ الِاسْتِحْبَابُ فِي حَقِّ مَنْ زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي سَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ، وَالسُّنَّةُ عَلَى الْكِفَايَةِ يُنَافِيهَا الِاسْتِحْبَابُ فِيمَا زَادَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَى الِاسْتِحْبَابَ، وَهُنَا فَائِدَتَانِ: إحْدَاهُمَا: [الْمَشْهُورُ وُقُوعُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ] . الْمَشْهُورُ وُقُوعُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّاشِيُّ، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ " الْمُعْتَمَدِ " فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَا نَصُّهُ: لَمْ نَرَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ سُنَّةً عَلَى الْكِفَايَةِ بِحَالٍ، وَالسُّنَنُ مَعْلُومَةٌ وَيُخَالِفُ الْفَرْضُ حَيْثُ انْقَسَمَ إلَى عَيْنٍ وَكِفَايَةٍ، فَإِنَّ فِي الْكِفَايَةِ فَائِدَةً، وَهِيَ السُّقُوطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَاقِينَ، وَالسُّنَّةُ لَا يَظْهَرُ لَهَا أَثَرٌ فِي كَوْنِهَا عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا إثْمَ فِي تَرْكِهَا فَتَسْقُطُ كَمَنْ تَرَكَ بِفِعْلِ مَنْ فَعَلَ، وَإِنَّمَا هِيَ ثَوَابٌ يَحْصُلُ لَهُ بِالسَّلَامِ مَثَلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ثَوَابٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يُوجَدُ مِنْ جِهَةٍ تُسَاوِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ جَمَاعَةٌ سُنَّ لَهُمْ تَحِيَّةٌ بِالْمَسْجِدِ، وَلَا تَسْقُطُ سُنَّةُ التَّحِيَّةِ فِي حَقِّ بَعْضِهِمْ بِفِعْلِ الْبَعْضِ؟ وَهَذَا لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مُوَجَّهٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ احْتِيَاطًا؛ لِيَحْصُلَ ذَلِكَ الْفَرْضُ، فَإِذَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَسَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، وَالسُّنَّةُ إنَّمَا أُمِرَ بِهَا اسْتِحْبَابًا لِحَظِّ الْمَأْمُورِ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ لَهُ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ بِمَا لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ. اهـ. الثَّانِيَةُ [سُنَّةُ الْكِفَايَةِ أَهَمُّ مِنْ سُنَّةِ الْعَيْنِ] قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَهَمُّ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ مِنْ جِهَةِ إسْقَاطِ الْحَرَجِ عَنْ الْكُلِّ، فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ بِمِثْلِهِ هُنَا فِي سُنَّةِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ، لَكِنْ لَا حَرَجَ هُنَا فَلْيَكُنْ أَفْضَلِيَّةُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ مِنْ جِهَةِ تَحْصِيلِهِ الثَّوَابَ لِلْجَمِيعِ، وَفِيهِ بُعْدٌ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ

الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَكَ غَيْرُهُ فِي ثَوَابِ أُضْحِيَّتِهِ وَذَبَحَ عَنْ نَفْسِهِ جَازَ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ «تَضْحِيَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ، وَقَوْلُهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» . فَائِدَةٌ [الْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى] الْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: بِمَا افْتَقَرَ مِنْ الطَّاعَاتِ إلَى النِّيَّةِ. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " الْمُلَخَّصِ ": قَالَ: وَالطَّاعَةُ: مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، وَالْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْمُطَاعِ، وَالْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الْمُرَادِ. وَقِيلَ: مُخَالَفَةُ الْمَعَاصِي، وَهَذَا بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ شَرْطُهُ الْإِرَادَةُ. قَالَ: وَالْعِبَادَةُ مَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ مَنْوِيًّا بِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلًا كَالصَّلَاةِ، أَوْ تَرْكًا كَالزِّنَا، وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: الْوُضُوءُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ؛ لِعَدَمِ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ، وَلَنَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّعَبُّدِ، وَعَدَمُ النِّيَّةِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ عِبَادَةً، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، وَعِنْدِي: أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالطَّاعَةَ وَالْقُرْبَةَ إنَّمَا يَكُونُ فِعْلًا وَتَرْكًا إذَا فَعَلَ

خاتمة السنة لا تعدل الواجب

الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ تَعَبُّدًا أَوْ تَرَكَهُ تَعَبُّدًا، فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ لَا بِقَصْدِ التَّعَبُّدِ بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ، أَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ التَّعَبُّدِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عِبَادَةً مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38] وَأَمَّا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّمَا صَحَّتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ طَرِيقَهَا التَّرْكُ فَصَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّعَبُّدَ؛ لِأَنَّهُ عَدَمُ الْفِعْلِ، وَلَكِنْ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا قَصَدَ بِهِ الْإِزَالَةَ لِلصَّلَاةِ أَوْ لِأَجْلِ النَّهْيِ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عِبَادَةً. وَأَمَّا الْقُرْبَةُ فَقَالَ الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيِّ: مَا كَانَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ رَجَاءَ الثَّوَابِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي " الْأَسْرَارِ " قَالَ: وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدُّيُونِ وَرَدُّ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا، وَمِنْ سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ النَّفْعُ لِلْآدَمِيِّ. [خَاتِمَةٌ السُّنَّةُ لَا تَعْدِلُ الْوَاجِبَ] َ] قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي " الْأَمَالِي ": قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا يَعْدِلُ شَيْءٌ مِنْ السُّنَنِ وَاجِبًا أَبَدًا وَهُوَ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُرَتَّبَانِ عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ: ثَمَنُ دِرْهَمٍ مِنْ الزَّكَاةِ تَرْبُو مَصْلَحَتُهُ عَلَى مَصْلَحَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ تَطَوُّعًا، وَأَنَّ قِيَامَ الدَّهْرِ لَا يَعْدِلُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، هَذَا خِلَافُ الْقَوَاعِدِ. اهـ. وَفِيهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ إشْكَالَهُ هَذَا يَرْجِعُ بِالْإِشْكَالِ عَلَى مَنْعِهِ السَّابِقِ، كَمَزِيَّةِ الْقَائِمِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ عَلَى فَرْضِ الْعَيْنِ، لِتَوَفُّرِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ مُتَقَابِلَةً لِمَصْلَحَةٍ

خَاصَّةٍ، وَلَيْسَتْ مَفْسَدَةُ تَرْكِ النُّهُوضِ بِمُهِمَّاتِ شَعَائِرِ الدِّينِ أَقَلَّ مِنْ مَفْسَدَةِ التَّارِكِ لِفَرْضِ عَيْنٍ بَلْ أَكْثَرُ لِمَا فِيهِ مِنْ خَرْمِ نِظَامِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ. الثَّانِي: أَنَّ مَا مَثَّلَ بِهِ قَدْ يَلْتَزِمُ، إذْ تَرْكُ التَّطَوُّعِ صَدَقَةً كَانَ أَوْ صَلَاةً لَا إثْمَ فِيهِ، وَإِنْ كَثُرَ بِخِلَافِ الْفَرْضِ، وَإِنْ قَلَّ، فَنَاسَبَ تَأَكُّدُهُ وَالِاعْتِنَاءُ بِهِ بِزِيَادَةِ الثَّوَابِ، فَلَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ التَّفْضِيلِ. الثَّالِثُ: فِي كَلَامِ أَصْحَابِنَا فِي الْفُرُوعِ صُوَرٌ تَقْتَضِي تَرْجِيحَ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ. مِنْهَا: أَنَّ إبْرَاءَ الْمُعْسِرِ أَفْضَلُ مِنْ إنْظَارِهِ، لِحُصُولِ الْغَرَضِ وَزِيَادَةٍ، وَمِنْهَا: مَا قَالَهُ فِي " الْأَذْكَارِ ": أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ أَفْضَلُ؛ لِحَدِيثٍ صَحِيحٍ فِيهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ وَالْإِمَامَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى مَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِيهِمَا مَعَ تَرْجِيحِهِ الْأَذَانَ. وَمِنْهَا: مَا صَحَّحَهُ أَيْضًا مِنْ تَفْضِيلِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ مَعَ وُجُوبِهِ فِي الْقَدِيمِ.

فصل في المكروه

[فَصْلٌ فِي الْمَكْرُوهِ] ِ وَهُوَ لُغَةً ضِدُّ الْمُرَادِ، وَيُطْلَقُ فِي حَقِّ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] أَيْ: أَرَادَ التَّثْبِيطَ فَمَنَعَ الِانْبِعَاثَ، فَسُمِّيَتْ إرَادَةَ كَرَاهَةٍ بِاعْتِبَارِ ضِدِّهِ؛ لِأَنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْمُتَضَادَّانِ، وَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الشَّرْعِيَّاتِ؛ لِأَنَّا لَا نَشْتَرِطُ فِي الْأَمْرِ الْإِرَادَةَ، وَلَا فِي النَّهْيِ الْكَرَاهَةَ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ التَّنْفِيرِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] . وَيُطْلَقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: الْحَرَامُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] أَيْ مُحَرَّمًا، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْآنِيَةِ: وَأَكْرَهُ آنِيَةَ الْعَاجِ، وَفِي بَابِ السَّلَمِ: وَأَكْرَهُ اشْتِرَاطَ الْأَعْجَفِ وَالْمَشْوِيِّ وَالْمَطْبُوخِ؛ لِأَنَّ الْأَعْجَفَ مَعِيبٌ، وَشَرْطُ الْمَعِيبِ مُفْسِدٌ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: وَهُوَ غَالِبٌ فِي عِبَارَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَرَاهَةَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] ، فَكَرِهُوا إطْلَاقَ لَفْظِ التَّحْرِيمِ.

الثَّانِي: " مَا نُهِيَ عَنْهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ " وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. الثَّالِثُ: تَرْكُ الْأَوْلَى كَصَلَاةِ الضُّحَى؛ لِكَثْرَةِ الْفَضْلِ فِي فِعْلِهَا، وَحَكَى الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ " أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ مَعَ أَنَّهُ لَا نَهْيَ فِيهِ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي جَارٍ فِي كُلِّ مَسْنُونٍ صَحَّ الْأَمْرُ بِهِ مَقْصُودًا. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ ": عَلَى أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الْإِحْرَامِ مَكْرُوهٌ. وَفَرَّقَ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ يُقَالُ فِيهِ: مَكْرُوهٌ، وَمَا لَا يُقَالُ فِيهِ: خِلَافُ الْأَوْلَى، وَلَا يُقَالُ: مَكْرُوهٌ. وَفَرَّقَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ كَرَاهَةِ تَحْرِيمٍ، فَقَالَ: الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ: مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِغَيْرِ قَطْعِيٍّ، وَالْحَرَامُ مَا ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ كَالْوَاجِبِ مَعَ الْفَرْضِ. الرَّابِعُ: مَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي تَحْرِيمِهِ كَلَحْمِ السَّبُعِ، وَيَسِيرِ النَّبِيذِ هَكَذَا عَدَّهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " مِنْ أَقْسَامِ الْكَرَاهَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا فِي الْفُرُوعِ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِي جَوَازِهَا، لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ اسْتَشْكَلَهُ بِأَنَّ مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى تَحْرِيمِهِ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَمَنْ أَدَّاهُ إلَى حِلِّهِ فَلَا مَعْنَى لِلْكَرَاهَةِ فِي حَقِّهِ إلَّا إذَا كَانَ فِي شُبْهَةِ الْخَصْمِ حَزَازَةٌ فِي نَفْسِهِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ فَلَا يَصِحُّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْكَرَاهَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ الظَّنِّ الْحِلَّ، وَيُتَّجَهُ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَأَمَّا

مسألة قد تكون الكراهة شرعا

عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَالْحِلُّ عِنْدَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ": وَلَيْسَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَسْأَلَةٌ أَصْعَبُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْكَرَاهَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلَانِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِمَا كَانَ الْمَصِيرُ إلَى الْكَرَاهَةِ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، ثُمَّ الَّذِي يَتَأَتَّى فِي هَذَا التَّوَقُّفُ عَنْ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْحِلُّ لِاحْتِمَالِ التَّحْرِيمِ. أَمَّا حَمْلُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ أَوْ الْفَتْوَى بِالْكَرَاهَةِ فَلَا وَجْهَ لَهُ عِنْدِي. تَنْبِيهٌ إطْلَاقُ الْكَرَاهَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ هَلْ هُوَ مِنْ الْمُشْتَرَكِ أَوْ حَقِيقَةٌ فِي التَّنْزِيهِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ؟ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا. حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَاقَةَ فِي كِتَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَالتَّحْرِيمِ. [مَسْأَلَةٌ قَدْ تَكُونُ الْكَرَاهَةُ شَرْعًا] وَقَدْ تَكُونُ الْكَرَاهَةُ شَرْعِيَّةً لِتَعْلِيقِ الثَّوَابِ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَكُونُ إرْشَادِيَّةً أَيْ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَمِنْهُ «كَرَاهَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْلَ التَّمْرِ لِصُهَيْبٍ وَهُوَ أَرْمَدُ» ، وَمِنْهُ كَرَاهَةُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ عَلَى رَأْيٍ، وَالنَّظَرِ فِي الْفَرْجِ.

مسألة المكروه هل هو منهي عنه

[مَسْأَلَةٌ الْمَكْرُوهُ هَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ] ُ؟] الْمَكْرُوهُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْمَنْدُوبِ هَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَمْ لَا؟ فَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمَنْدُوبِ هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ؟ مَنْ قَالَ: النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ فَلَيْسَ عِنْدَهُ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ: لِلتَّنْزِيهِ أَوْ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْرِيمِ، أَوْ هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَحَكَى الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ فِعْلَ الْمَكْرُوهِ هَلْ هُوَ مَعْصِيَةٌ أَمْ لَا؟ وَقَالَ: إنَّ الشَّافِعِيَّ مَرَّضَ الْقَوْلَ فِيهِ وَمَالَ إلَى أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، فَقَالَ: وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً يَعْنِي فِي الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْصِيَةُ ضَرْبَانِ: مُحَرَّمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِثْمُ، وَمَعْصِيَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْمُخَالَفَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إثْمٌ، فَتَوَقُّفُ الشَّافِعِيِّ عَنْ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً فِيهَا إثْمٌ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ يَقْتَضِي الْإِثْمَ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِكَرَاهَةِ التَّرْكِ.

مسألة هل المكروه من التكليف

[مَسْأَلَةٌ هَلْ الْمَكْرُوهُ مِنْ التَّكْلِيفِ] ِ] فِي أَنَّ الْمَكْرُوهَ هَلْ هُوَ مِنْ التَّكْلِيفِ أَمْ لَا؟ وَالْخِلَافُ كَالْخِلَافِ فِي الْمَنْدُوبِ. [مَسْأَلَةٌ الْمَكْرُوهُ هَلْ هُوَ قَبِيحٌ] ٌ؟] الْمَكْرُوهُ هَلْ هُوَ قَبِيحٌ أَمْ لَا يَلْتَفِتُ عَلَى تَفْسِيرِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ؟ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِقُبْحٍ وَلَا حُسْنٍ. [مَسْأَلَةٌ الْمَكْرُوهُ هَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ] ِ؟] الْمَكْرُوهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ وَاقْتِضَاءٌ، وَالْمَكْرُوهُ لَا يَكُونُ مَطْلُوبًا وَلَا مُقْتَضًى، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ لِلتَّنَاقُضِ. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إلَّا أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ لَفْظُهَا

كَمَا قِيلَ فِي تَنْكِيسِ الْوُضُوءِ: إنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ عَادَةَ السَّلَفِ فِي هَيْئَتِهِ لَا فِي أَصْلِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ إمْرَارُ الْمَاءِ، وَلَا فِي شَرَائِطِهِ فَلَمْ يَمْنَعْ الْإِجْزَاءَ. وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَثَّلَهَا الْأَئِمَّةُ بِالتَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ، فَمَنْ يَرَاهُ يَقُولُ: التَّنْكِيسُ مَكْرُوهٌ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فَعِنْدَنَا هَذَا لَا يَتَنَاوَلُ الطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَلَا الْمُنَكَّسَ، وَغَيْرُهُمْ يَتَنَاوَلُهُ فَإِنَّهُمْ، وَإِنْ اعْتَقَدُوا كَرَاهِيَتَهُ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْأَمْرِ وَأَجْزَأَ. قَالَ: وَهَذَا الْمَقَالُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى أَصْلِهِمْ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَيْسَ هُوَ بِطَوَافٍ أَصْلًا. وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ أَيْضًا: الصَّلَاةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ إذَا قُلْنَا: إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَفِي صِحَّتِهَا تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا وَجْهَانِ، وَالْقَوْلُ بِالْبُطْلَانِ وَهُوَ الْأَصَحُّ يُخَرَّجُ عَلَى أَنَّ الْمَكْرُوهَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَمِنْهَا: مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَاقْتَصَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى ذِكْرِهَا وَأَهْمَلُوا أَصْلَهَا، وَالْعَكْسُ أَوْلَى، وَمِنْهَا: إعَادَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا يَصِحُّ فِي احْتِمَالِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ وَوَجَّهَهُ: أَنَّهَا لَا تُسْتَحَبُّ، وَقِيلَ تُكْرَهُ، وَمَعَ الْكَرَاهَةِ لَا تَصِحُّ تَخْرِيجًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَمِنْهَا: لَوْ نَذَرَ الْإِحْرَامَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. قَالَ صَاحِبُ " التَّهْذِيبِ ": يَلْزَمُهُ، وَوَافَقَهُ النَّوَوِيُّ، وَخَالَفَهُمَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْعَقِدَ لِكَوْنِهِ مَكْرُوهًا، وَنَظِيرُهُ الصَّوْمُ يَوْمَ الشَّكِّ تَطَوُّعًا حَرَامٌ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُ فَفِي انْعِقَادِهِ وَجْهَانِ.

وَمِنْهَا: حَيْثُ قُلْنَا: لِلْقَاضِي قَبُولُ الْهَدِيَّةِ وَلَمْ نُحَرِّمْهَا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ قَوِيٌّ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، ثُمَّ صَحَّحُوا أَنَّهَا تُرَدُّ إلَى صَاحِبِهَا، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهَا تُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا تُرَدُّ إلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرُوا الْمَسْأَلَةَ هَكَذَا وَنَصَبُوا الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا حَكَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي: أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ كَمَا يُثْبِتُ صِفَةَ الْجَوَازِ وَالْحَسَنِ شَرْعًا يُثْبِتُ انْتِفَاءَ صِفَةِ الْكَرَاهَةِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُ: اخْتَارَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ كَوْنَهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقَالَ: وَهُوَ كَمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي تَضَمُّنِ الْوُجُوبِ لِلْجَوَازِ حَتَّى إذَا نُسِخَ هَلْ يَبْقَى الْجَوَازُ؟ قُلْتُ: فَيُقَالُ هُنَا: إذَا نُسِخَ الْأَمْرُ هَلْ يَبْقَى الْمَكْرُوهُ أَمْ لَا؟ يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ.

فصل في خلاف الأولى

[فَصْلٌ فِي خِلَافِ الْأَوْلَى] هَذَا النَّوْعُ أَهْمَلَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ، أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى؟ كَالنَّفْضِ وَالتَّنْشِيفِ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ " النِّهَايَةِ ": التَّعَرُّضُ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا مِمَّا أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ يُقَالُ فِيهِ: مَكْرُوهٌ وَمَا لَا فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَلَا يُقَالُ: مَكْرُوهٌ، وَقَالَ: الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ الْمَقْصُودِ أَنْ يَكُونَ مُصَرَّحًا بِهِ كَقَوْلِهِ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا، أَوْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ كَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ بِمُسْتَحَبٍّ فَإِنَّ تَرْكَهُ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ؛ لِأَنَّا اسْتَفَدْنَاهُ بِاللَّازِمِ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ الْمَقْصُودِ تَعْمِيمُ النَّهْيِ لَا خُصُوصُهُ، إذْ قَالَ: وَوَجَّهَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنْ قَالَ: الْمَكْرُوهُ يَتَمَيَّزُ عَنْ خِلَافِ الْأَوْلَى بِأَنْ يُفْرَضَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ، وَقَدْ ثَبَتَ نَهْيٌ مَقْصُودٌ عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْبِدَعِ، وَإِظْهَارُ شِعَارِهِمْ، وَالصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِمَّا اُشْتُهِرَ بِالْفِئَةِ الْمُلَقَّبَةِ بِالرَّفْضِ. اهـ. وَكَلَامُ الْإِمَامِ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ قَالَ: كُلُّ فِعْلٍ مَسْنُونٍ صَحَّ الْأَمْرُ بِهِ مَقْصُودًا فَتَرْكُهُ مَكْرُوهٌ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّمَا يُقَالُ: تَرْكُ الْأَوْلَى إذَا كَانَ مُنْضَبِطًا كَالضُّحَى وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَمَا لَا تَحْدِيدَ لَهُ وَلَا ضَابِطَ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ لَا يُسَمَّى تَرْكُهُ مَكْرُوهًا، وَإِلَّا لَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُلَابِسًا لِلْمَكْرُوهَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَقُمْ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، أَوْ يَعُودُ مَرِيضًا وَنَحْوَهُ. اهـ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ خِلَافَ الْأَوْلَى قِسْمٌ مِنْ الْمَكْرُوهِ، وَدَرَجَاتُ الْمَكْرُوهِ تَتَفَاوَتُ كَمَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ قِسْمًا آخَرَ، وَإِلَّا لَكَانَتْ الْأَحْكَامُ سِتَّةً، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ، أَوْ كَانَ خِلَافُ الْأَوْلَى خَارِجًا عَنْ الشَّرِيعَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

خطاب الوضع

[خِطَابُ الْوَضْعِ] قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْخِطَابَ كَمَا يَرِدُ بِالِاقْتِضَاءِ وَالتَّخْيِيرِ فَكَذَا يَرِدُ بِالْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ، لِكَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبًا، وَشَرْطًا، وَمَانِعًا كَمَا سَبَقَ، فَعَلَى هَذَا لِلَّهِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ رُتِّبَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى وَصْفٍ أَوْ حِكْمَةٍ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: نَفْسُ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الْوَصْفِ. وَثَانِيهِمَا: سَبَبِيَّةُ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ، إذْ صِحَّةُ الْقِيَاسِ فِي الْأَوَّلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْقَائِسِينَ، وَفِي الثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهَا مِلْكُ النِّصَابِ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِثَالُهُ: مِلْكُ النِّصَابِ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ؛ فَالْمِلْكُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ ذَاتُ السَّبَبِ، وَكَوْنُهُ سَبَبًا عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ الشَّارِعِ: إنْ جَعَلْت الْمِلْكَ أَمَارَةَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ، وَالْحَوْلِ حُكْمٌ آخَرُ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ الْمَقْصُودُ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْخِطَابِ الْخِلَافُ فِي ثُبُوتِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ. وَضَعَّفَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ أَيْضًا، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِإِثْبَانِهِ إنْ أَرَادُوا بِالسَّبَبِيَّةِ أَنَّهَا

السبب

مَعْرِفَةٌ لِلْحُكْمِ فَحَقٌّ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنْ أَرَادُوا تَأْثِيرَ الزِّنَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الزِّنَا حَالَ حُصُولِهِ سَبَبٌ إنْ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ الشَّارِعِ شَيْءٌ فَلَيْسَ لِهَذِهِ السَّبَبِيَّةِ مَعْنًى، فَإِنْ صَدَرَ فَالصَّادِرُ إمَّا الْحُكْمُ أَوْ شَيْءٌ مُؤَثِّرٌ فِي الْحُكْمِ أَوْ غَيْرُهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْمُؤَثِّرُ هُوَ الشَّارِعُ، وَالثَّانِي هُوَ الْقَوْلُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَالثَّالِثُ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، لَا يُقَالُ: فَقَدْ أَجْرَوْا الْقِيَاسَ فِي الْأَسْبَابِ، فَقَالُوا: نَصْبُ الزِّنَا عِلَّةُ الرَّجْمِ، وَاللِّوَاطُ فِي مَعْنَاهُ، لِأَنَّا نَقُولُ: نَمْنَعُهُ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَلَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَقَدْ أَجْرَوْا الْقِيَاسَ فِي اللُّغَاتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمًا شَرْعِيًّا. [السَّبَبُ] الْأَوَّلُ: تَعْرِيفُ السَّبَبِ وَأَقْسَامُهُ وَهُوَ لُغَةً: عِبَارَةٌ عَمَّا يَحْصُلُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ لَا بِهِ؛ أَيْ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فِي الْوُجُودِ بَلْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ، فَالْحَبْلُ مَثَلًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إخْرَاجِ الْمَاءِ مِنْ الْبِئْرِ، وَلَيْسَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْإِخْرَاجِ، وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ حَرَكَةُ الْمُسْتَقِي لِلْمَاءِ. وَفِي الشَّرْعِ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ الْوَصْفُ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ الَّذِي دَلَّ السَّمْعُ عَلَى كَوْنِهِ مُعَرِّفًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، كَجَعْلِ دُلُوكِ الشَّمْسِ مُعَرِّفًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَقِيلَ: هُوَ الْمُوجِبُ لَا لِذَاتِهِ، وَلَكِنْ بِجَعْلِ الشَّارِعِ إيَّاهُ مُوجِبًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ، وَحَاوَلَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ تَزْيِيفَهُ.

وَقِيلَ: هُوَ الْمُوجِبُ لِذَاتِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنَّمَا نُصِبَ السَّبَبُ لِلْحُكْمِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى خِطَابِ اللَّهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، كَالْعَلَامَةِ. ثُمَّ السَّبَبُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِهِ كَالدُّلُوكِ لِلصَّلَاةِ، وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي رَمَضَانَ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ، وَكَالنِّصَابِ لِلزَّكَاةِ، وَإِلَى مَا لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ كَوُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ، وَوُجُوبِ الْحَجِّ عِنْدَ تَكَرُّرِ الِاسْتِطَاعَةِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا سَبَبًا. وَقَسَّمَ ابْنُ الْحَاجِبِ السَّبَبَ إلَى وَقْتِيٍّ كَالزَّوَالِ، فَإِنَّهُ مُعَرِّفٌ لِوَقْتِ الظُّهْرِ، وَإِلَى مَعْنَوِيٍّ كَالْإِسْكَارِ فَإِنَّهُ مُعَرِّفٌ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَالْمِلْكُ فَإِنَّهُ جُعِلَ سَبَبًا لِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ. إطْلَاقَاتُ السَّبَبِ وَيُطْلَقُ السَّبَبُ فِي لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: مَا يُقَابِلُ الْمُبَاشَرَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: إذَا اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ غَلَبَ الْمُبَاشَرَةُ كَحَفْرِ الْبِئْرِ مَعَ التَّرْدِيَةِ. الثَّانِي: عِلَّةُ الْعِلَّةِ كَالرَّمْيِ يُسَمَّى سَبَبًا لِلْقَتْلِ، وَهُوَ أَعْنِي الرَّمْيَ عِلَّةٌ لِلْإِصَابَةِ، وَالْإِصَابَةُ عِلَّةٌ لِزَهُوقِ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ، فَالرَّمْيُ هُوَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ وَقَدْ سَمَّوْهُ سَبَبًا. الثَّالِثُ: الْعِلَّةُ بِدُونِ شَرْطِهَا كَالنِّصَابِ بِدُونِ الْحَوْلِ يُسَمَّى سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ.

مسألة للأسباب أحكام تضاف إليها

الرَّابِعُ: الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْمُقْتَضَى، وَالشَّرْطِ، وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَوُجُودُ الْأَهْلِ وَالْمَحَلِّ يُسَمَّى سَبَبًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ مُوجِبَةٌ لِوُجُودِ مَعْلُولِهَا كَمَا عُرِفَ مِنْ الْكَسْرِ لِلِانْكِسَارِ، وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ مَعَ الِانْفِعَالَاتِ بِخِلَافِ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودُ مُسَبَّبَاتِهَا. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَإِذَا حَكَمْنَا عَلَى الْوَصْفِ أَوْ الْحِكْمَةِ بِكَوْنِهِ سَبَبًا فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي غَيْرِهِ، وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّ سَبَبِيَّةَ السَّبَبِ وَإِنْ كَانَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَلَيْسَتْ مُسْتَفَادَةً مِنْ سَبَبٍ آخَرَ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ إمَّا الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ، بَلْ هِيَ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ النَّصِّ أَوْ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَعَ الِاقْتِرَانِ. [مَسْأَلَةٌ لِلْأَسْبَابِ أَحْكَامٌ تُضَافُ إلَيْهَا] لِلْأَسْبَابِ أَحْكَامٌ تُضَافُ إلَيْهَا صَارَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ لِلْأَحْكَامِ أَسْبَابًا تُضَافُ إلَيْهَا، وَالْمُوجِبُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالشَّارِعُ لَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى دُونَ الْأَسْبَابِ، إذْ الْإِيجَابُ إلَى الشَّارِعِ دُونَ غَيْرِهِ وَنَقَلُوا عَنْ جُمْهُورِ الْأَشْعَرِيَّةِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، فَالْعِبَادَاتُ لَا يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَّا إلَى اللَّهِ وَخِطَابِهِ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِلَّهِ عَلَى الْخُلُوصِ فَيُضَافُ إلَى إيجَابِهِ، وَالْعُقُوبَاتُ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ أَسْبَابٌ يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَيْهَا، لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بِكَسْبِ الْعَبْدِ، وَعَلَى هَذَا جَوَّزُوا إضَافَةَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ إلَى الْأَسْبَابِ أَيْضًا.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ إنْكَارُ الْأَسْبَابِ أَصْلًا. وَقَالُوا: الْحُكْمُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ثَابِتٌ بِظَاهِرِ النَّصِّ وَفِي غَيْرِهِ بِالْوَصْفِ الْمَجْعُولِ عِلَّةً، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَمَارَةً لِثُبُوتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِإِيجَابِهِ تَعَالَى. قَالُوا: لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْأَحْكَامِ وَالشَّارِعَ لَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي إضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْأَسْبَابُ قَطْعُهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لَكِنَّهُ يُقَالُ: حَصَلَ بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ أَمَارَةٌ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ، فَيُقَالُ لَهَا: أَسْبَابٌ أَوْ عِلَلٌ مُوجِبَةٌ مَجَازًا، لِظُهُورِ الْأَحْكَامِ عِنْدَهَا. قِيلَ: وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرُ، وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ مُعَرِّفَاتٌ لِحُكْمِ اللَّهِ لَا مُوجِبَةٌ بِذَاتِهَا، فَلَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ إلَّا فِي اللَّفْظِ. قُلْت: اتَّفَقَ الْأَشْعَرِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ لِذَاتِهِ أَوْ لِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ إمَّا الْمُعَرِّفُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَإِمَّا الْمُوجِبُ لَا لِذَاتِهِ وَلَا لِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ وَلَكِنْ بِجَعْلِ الشَّرْعِ إيَّاهُ مُوجِبًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ، وَصَارَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّأْثِيرِ. وَيَنْبَنِي الْخِلَافُ عَلَى أَنَّهُ يُعْقَلُ تَأْثِيرٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ مُؤَثِّرًا بِذَاتِهِ، أَوْ بِصِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ، أَوْ لَا يُعْقَلُ ذَلِكَ؟ وَعَلَيْهِ يُبْنَى كَوْنُ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ بِإِقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ خَلْقِهِ لَهُ مَا يَقْتَضِي تَأْثِيرَهُ فِي الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُؤَثِّرًا بِذَاتِهِ أَوْ بِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ، فَأَصْحَابُنَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: الصَّادِرُ عَنْهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يُنْكِرُونَهُ.

فَائِدَةٌ قَدْ يَتَقَدَّمُ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبِهِ الْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَقَدْ يَتَقَدَّمُ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبِهِ، وَذَلِكَ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَلِهَذَا كَانَتْ مَغَارِمُهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِالتَّلَفِ، لِتَعَذُّرِ اقْتِرَانِهِ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّلَفِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفَسْخِ انْقِلَابُ الْمِلْكِ بَعْدَ تَلَفِ الْمَبِيعِ وَلَا يَصِحُّ انْقِلَابُ الْمِلْكَيْنِ بَعْدَ التَّلَفِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بَعْدَ ذَهَابِهِ بِنَفْسِ انْقِلَابِهِ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ قَبْلَ تَلَفِهِ. الشَّرْطُ الثَّانِي الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ بِأَنَّهُ شَرْطٌ. وَالشَّرْطُ لُغَةً: الْعَلَامَةُ، وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْمَشْرُوطِ، كَالْإِحْصَانِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ رَجْمِ الزَّانِي يَنْتَفِي الرَّجْمُ لِانْتِفَائِهِ، فَلَا يُرْجَمُ إلَّا مُحْصَنٌ، وَكَالْحَوْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ يَنْتَفِي وُجُوبُهَا بِانْتِفَائِهِ. أَقْسَامُ الشَّرْطِ ثُمَّ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ شَرْطُ السَّبَبِ، وَهُوَ كُلُّ مَعْنًى يَكُونُ عَدَمُهُ مُخِلًّا

بِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ كَشَرَائِطِ الْمَبِيعِ مِنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ وَغَيْرُهُ، وَإِلَى مَا هُوَ شَرْطُ الْحُكْمِ، وَهُوَ كُلُّ مَعْنًى يَكُونُ عَدَمُهُ مُخِلًّا بِمَقْصُودِ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءٍ لِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ، كَالْقَبْضِ لِلْمَبِيعِ لِلْمِلْكِ التَّامِّ. وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: عَقْلِيٌّ: كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ فَإِنَّهَا شَرْطٌ لَهُ إذْ لَا يُعْقَلُ عَالِمٌ إلَّا وَهُوَ حَيٌّ. وَيُسَمَّى عَقْلِيًّا، لِأَنَّ الْعَقْلَ أَدْرَكَ لُزُومَهُ لِمَشْرُوطِهِ. ثَانِيهَا: لُغَوِيٌّ، كَدُخُولِ الدَّارِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، أَوْ الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ. ثَالِثُهَا: شَرْعِيٌّ، كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ انْتِقَاءِ الطَّهَارَةِ انْتِقَاءُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ لِجَوَازِ انْتِفَائِهَا لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ آخَرَ. رَابِعُهَا: الْعَادِي، كَالْغِذَاءِ لِلْحَيَوَانِ، وَالْغَالِبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْغِذَاءِ انْتِفَاءُ الْحَيَاةِ وَمِنْ وُجُودِهِ وُجُودُهَا. وَالشَّرْطُ الْعَادِي وَاللُّغَوِيُّ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْبَابِ لَا مِنْ قَبِيلِ الشُّرُوطِ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ: الشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ أَسْبَابٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا الْوُجُودُ، وَمِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ بِخِلَافِ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْحَيَّاتِ فِي الشِّتَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ، فَقِيلَ: تَغْتَذِي بِالتُّرَابِ، وَقِيلَ:

المانع

لَا تَغْتَذِي مُدَّةَ مُكْثِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ انْتِقَاءِ الْغِذَاءِ فِي حَقِّهَا انْتِفَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْعَكِسُ الْحَالُ، وَتَصِيرُ الْحَيَاةُ هِيَ شَرْطُ الْغِذَاءِ. [الْمَانِعُ] الثَّالِثُ: الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ مَانِعًا. وَالْمَانِعُ عَكْسُ الشَّرْطِ، وَهُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ عَدَمُ وُجُودِ الْحُكْمِ، كَالدَّيْنِ مَعَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالْأُبُوَّةِ مَعَ الْقِصَاصِ. وَوَجْهُ الْعَكْسِ فِيهِ: أَنَّ الشَّرْطَ يَنْتَفِي الْحُكْمُ بِانْتِفَائِهِ، وَالْمَانِعُ يَنْتَفِي الْحُكْمُ لِوُجُودِهِ، فَوُجُودُ الْمَانِعِ وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ سَوَاءٌ فِي اسْتِلْزَامِهَا انْتِفَاءَ الْحُكْمِ، وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَوُجُودُ الشَّرْطِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُمَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُمَا وُجُودُ الْحُكْمِ وَلَا عَدَمُهُ. [أَقْسَامُ الْمَانِعِ] ثُمَّ يَنْقَسِمُ إلَى مَانِعِ الْحُكْمِ - وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقِيَاسِ - وَإِلَى مَانِعِ السَّبَبِ، وَهُوَ كُلُّ وَصْفٍ وُجُودِيٍّ يُخِلُّ وُجُودُهُ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يَقْتَضِي السَّبَبُ الْمُسَبِّبَ، كَحَيْلُولَةِ النِّصَابِ الْغَصْبَ وَالْإِبَاقَ، فَإِنَّهَا

تَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ النِّصَابِ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ. ثُمَّ الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ وَاسْتِمْرَارَهُ، كَالرَّضَاعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ ابْتِدَاءً وَيَقْطَعُهُ دَوَامًا. ثَانِيهَا: مَا يَمْنَعُهُ ابْتِدَاءً لَا دَوْمًا، كَالْعِدَّةِ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ لِغَيْرِ مَنْ هِيَ مِنْهُ، وَلَوْ طَرَأَتْ عَلَى نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ لَمْ يَقْطَعْهُ، وَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ. ثَالِثُهَا: مَا يَمْنَعُهُ دَوَامًا لَا ابْتِدَاءً، كَالْكُفْرِ بِالنِّسْبَةِ لَمَالِكِ الرَّقِيقِ الْمُسْلِمِ لَا يَمْنَعُ فِي الِابْتِدَاءِ لِتَصْوِيرِهِ بِالْإِرْثِ، وَغَيْرُهُ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى نَحْوِ الْأَرْبَعِينَ، وَيُمْتَنَعُ دَوَامُهُ بَلْ يَنْقَطِعُ بِنَفْسِهِ كَشِرَاءِ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ أَوْ بِالْإِجْبَارِ عَلَى إزَالَتِهِ. تَنْبِيهٌ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ. وَزَادَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ وَهِيَ الصِّحَّةُ، وَالْبُطْلَانُ، وَالْعَزِيمَةُ، وَالرُّخْصَةُ وَسَنَذْكُرُهَا. وَزَادَ الْقَرَافِيُّ نَوْعَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُمَا التَّقْدِيرَاتُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْحِجَاجُ.

مسألة الصحة والفساد

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ كَالْمَاءِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ الْخَائِفِ. وَعَكْسُهُ كَالْمَقْتُولِ يُورَثُ عَنْهُ الدِّيَةُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِمَوْتِهِ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ إلَّا إذَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَمْلِكُ فَيُقَدِّرُ دُخُولَهَا فِي مِلْكِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ حَتَّى يَنْتَقِلَ لِوَارِثِهِ. فَقَدَّرْنَا الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا لِلضَّرُورَةِ. وَقَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ: الْحُكْمُ التَّقْدِيرِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى تَقْدِيرِ صِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ فِي الْمَحَلِّ يَظْهَرُ أَثَرُهَا، كَتَقْدِيرِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْيَمِينِ، وَإِلَى تَقْدِيرِ أَعْيَانٍ مَحْسُوسَةٍ كَتَقْدِيرِ الدَّرَاهِمِ فِي الذِّمَّةِ، قَالَ: وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُثْبِتُ هَذِهِ التَّقَادِيرَ، وَيَقُولُ: حُكْمُ الْفَرْعِ فِي الْمَحَلِّ هُوَ نَفْسُ مَا ادَّعَى كَوْنَهُ أَمْرًا. أَمَّا تَقْدِيرُ صِفَاتِ مُوجِبِهِ لَهَا، فَإِثْبَاتُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا النَّمَطِ قَوْلُهُمْ: الْحَدَثُ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ فِي أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ أَثَرُهُ الْمَنْعُ مِنْ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْحِجَاجُ: فَهِيَ الَّتِي يَسْتَنِدُ إلَيْهَا الْقُضَاةُ فِي الْأَحْكَامِ، كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْيَمِينِ مَعَ النُّكُولِ، أَوْ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، فَإِذَا نَهَضَتْ تِلْكَ الْحُجَّةُ عِنْدَ الْقَاضِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى السَّبَبِ. [مَسْأَلَة الصِّحَّة وَالْفَسَادِ] الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ: مِنْ أَنْوَاعِ خِطَابِ الْوَضْعِ لِأَنَّهُمَا حُكْمٌ مِنْ الشَّارِعِ عَلَى الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ، وَيُبْنَى عَلَيْهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ. وَنَازَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كَوْنِ ذَلِكَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَقَالَ: إذَا كَانَتْ الصِّحَّةُ هِيَ الْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ لِمُقْتَضَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَالْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ اعْتِبَارِيٌّ لَيْسَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي شَيْءٍ، بَلْ نَوْعُ نَسَبٍ وَإِضَافَةٍ إلَى مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا سُؤَالٌ حَسَنٌ لِجَدِّي الْعَلَّامَةِ أَبِي الْحَسَن مُظَفَّرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْمُقْتَرِحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قُلْت: وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ " وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ إذَنْ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، وَأَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمُنْتَخَبِ " فَقَالَ: مُوَافَقَةُ الشَّرِيعَةِ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا حَقِيقِيًّا، فَإِنَّهَا نِسْبَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ وَالْأَمْرِ مَثَلًا، فَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا أَنَّهَا نَفْسُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَتَسْمِيَةُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ حُكْمًا مَجَازٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ بِالصِّحَّةِ فِي الْعُقُودِ ثُبُوتُهَا عَلَى مُوجِبِ الشَّرْعِ لِيَتَرَتَّبَ آثَارُهُ كَالْمِلْكِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الْعُقُودِ، أَيْ: يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّصَرُّفِ كَالْحِلِّ فِي النِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: نِكَاحُ الْكُفَّارِ صَحِيحٌ، أَيْ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ، وَأَثَرُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى حَسَبِهِ، فَأَثَرُ الْبَيْعِ الْمُكْنَةُ مِنْ التَّصَرُّفِ كَالْأَكْلِ، وَالْبَيْعِ، وَالْوَقْفِ وَنَحْوِهِ، وَأَثَرُ الْإِجَارَةِ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَفِي الْقِرَاضِ عَدَمُ الضَّمَانِ وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ، وَفِي النِّكَاحِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ، فَكُلُّ عَقْدٍ تَرَتَّبَ آثَارُهُ عَلَيْهِ فَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِلَّا فَهُوَ الْفَاسِدُ. وَقِيلَ: إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ، وَلَا يَرِدُ الْمَبِيعُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا عَلَى شَرْطٍ آخَرَ وَلَيْسَ التَّصَرُّفُ وَالِانْتِقَاعُ أَثَرَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا أَثَرُهُ حُصُولُ الْمِلْكِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِشَرْطِهِ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خِيَارٌ. وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ امْرَأَةٍ فِي يَدِ الْغَيْرِ، ثُمَّ قَبِلَ نِكَاحَهَا مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ يَدَّعِي رِقَّهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلِصَاحِبِهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْمَهْرِ، فَهَذَا عَقْدٌ صَحِيحٌ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، لَكِنْ لِمَانِعٍ.

الصحة في العبادات

[الصِّحَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ] وَأَمَّا الصِّحَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ فَاخْتُلِفَ فِيهَا فَقَالَ الْفُقَهَاءُ: هِيَ وُقُوعُ الْفِعْلِ كَافِيًا فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ، كَالصَّلَاةِ إذَا وَقَعَتْ بِجَمِيعِ وَاجِبَاتِهَا مَعَ انْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا، فَكَوْنُهَا لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا هُوَ صِحَّتُهَا. وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: هِيَ مُوَافَقَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ فِي ظَنِّ الْمُكَلَّفِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ فِي التَّلْخِيصِ " فَكُلُّ مَنْ أُمِرَ بِعِبَادَةٍ تُوَافِقُ الْأَمْرَ بِفِعْلِهَا كَانَ قَدْ أَتَى بِهَا صَحِيحَةً وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا أَوْ وُجِدَ مَانِعٌ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ صِحَّةٍ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِلْأَمْرِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ صِحَّةً عِنْدَهُمْ. وَاصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ أَنْسَبُ، فَإِنَّ الْآنِيَةَ مَتَى كَانَتْ صَحِيحَةً مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ فَهِيَ مَكْسُورَةٌ لُغَةً وَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً حَيْثُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الْخَلَلُ مِنْ جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الْخَلَلُ مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ الْحَدَثِ، فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً بَلْ الْمُسْتَجْمِعُ لِشُرُوطِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ الصَّحِيحُ. وَبَنَوْا عَلَى الْخِلَافِ صَلَاةَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ حَدَثُهُ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ دُونَ الْفُقَهَاءِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ إنَّمَا وَافَقَتْ الْأَمْرَ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ الَّذِي تَبَيَّنَ فَسَادُهُ، وَلَيْسَتْ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ بِهِ ابْتِدَاءً، فَعَلَى هَذَا نَسْتَفْسِرُ، وَنَقُولُ: إنْ أَرَدْتُمْ

بِالصَّحِيحِ مَا وَافَقَ أَمْرًا مَا فَهَذَا الْفِعْلُ صَحِيحٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، لَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا مُطْلَقًا لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهِ الْأَمْرَ الْأَصْلِيَّ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ مَا وَافَقَ الْأَمْرَ الْأَصْلِيَّ فَهَذِهِ غَيْرُ مُوَافَقَةٍ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً. تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ الصِّحَّةَ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ تَبِعْنَا فِيهِ الْأُصُولِيِّينَ لَكِنْ كَلَامُ الْأَصْحَابِ مُصَرِّحٌ بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى شُرُوطِ الْإِمَامَةِ: وَإِنْ كَانَ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُغْنِيَةً عَنْ الْقَضَاءِ أَوْ لَا إلَخْ، فَجَعَلُوا الصَّحِيحَ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُغْنِي وَإِلَى مَا لَا يُغْنِي، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مَا لَا يُغْنِي عَنْ الْقَضَاءِ. وَحَكَوْا وَجْهَيْنِ فِي صَلَاةِ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ هَلْ تُوصَفُ بِالصِّحَّةِ؟ وَالصَّحِيحُ: نَعَمْ وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مُقَابِلَهُ، وَتَابَعَهُ النَّوَوِيُّ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْجَدِيدِ. قَالُوا: وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يَجِبُ قَضَاؤُهَا. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الْأَيْمَانِ وَفِي جَوَازِ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ صِحَّةً مُغْنِيَةً عَنْ الْقَضَاءِ جَازَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الصِّحَّةَ تُجَامِعُ الْقَضَاءَ.

التَّنْبِيهُ الثَّانِي زَعَمَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَتَابَعَهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ. وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ تُسَمَّى هَذِهِ صَحِيحَةٌ أَمْ لَا؟ قَالَ الْقَرَافِيُّ: لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى، سَائِرِ أَحْكَامِهَا. فَقَالُوا: الْمُصَلِّي مُوَافِقٌ لِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُثَابٌ عَلَى صَلَاتِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا عَلِمَ الْحَدَثَ، فَلَمْ يَبْقَ النِّزَاعُ إلَّا فِي التَّسْمِيَةِ. قُلْت: وَنَفْيُ الْخِلَافِ فِي الْقَضَاءِ مَرْدُودٌ، فَالْخِلَافُ ثَابِتٌ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ " فِي مَسْأَلَةِ: الْإِجْزَاءُ الِامْتِثَالُ، وَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ: إنَّهَا صَحِيحَةٌ، لِأَنَّهُ وَافَقَ الْأَمْرَ الْمُتَوَجِّهَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَهِيَ مُسْقِطَةٌ لِلْقَضَاءِ لَوْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِالْقَضَاءِ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ كَمَا حَكَاهُ فِي الْمُسْتَصْفَى " عَنْهُمْ، وَوَصْفُهُمْ إيَّاهَا بِالصِّحَّةِ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الصِّحَّةَ هِيَ الْغَايَةُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَعِنْدَنَا قَوْلٌ مِثْلُهُ فِيمَا إذَا صَلَّى بِنَجَسٍ لَمْ يَعْلَمْهُ أَوْ مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ سَاهِيًا إنَّهَا صَحِيحَةٌ وَلَا قَضَاءَ نَظَرًا لِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ حَالَ التَّلَبُّسِ. وَعَكْسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رَجُلٌ ، وَفَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فَإِنَّهَا عَلَى اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ صَحِيحَةٌ لِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُوَافَقَةً لِأَمْرِ الشَّارِعِ. وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ " أَنَّ مَا يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا إذَا صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَقُلْنَا بِالرَّاجِحِ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ قَالَ: فَتِلْكَ الصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.

قُلْت: فِيهِ وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي وَبَنَى عَلَيْهِمَا مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَصَلَّى كَذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ. وَفِي كَلَامِ الْأَصْفَهَانِيِّ نَظَرٌ، إذْ كَيْفَ يُؤْمَرُ بِعِبَادَةٍ هِيَ فَاسِدَةٌ؟ وَبَنَى ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ " عَلَى الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِ الصِّحَّةِ مَسْأَلَةً: لَوْ تَحَيَّرَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْأَوَانِي فَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ، فَتَيَمَّمَ، ثُمَّ إنْ كَانَ قَبْلَ الصَّبِّ وَجَبَ الْقَضَاءُ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ خِلَافًا فِي وُجُوبِ الصَّبِّ، وَنَسَبَ الْجُمْهُورُ عَدَمَ الْوُجُوبِ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَالْخِلَافُ يُلْتَفَتُ عَلَى أَنَّ الصِّحَّةَ مَا هِيَ؟ فَإِنْ قُلْنَا: مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ لَمْ يَلْزَمْ الْإِرَاقَةُ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وَهَذَا غَيْرُ وَاجِدٍ لَهُ، إذْ الْوُجُودُ مَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ مَا أَسْقَطَ الْقَضَاءَ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّبُّ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ صَحِيحَةً إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَادِرٌ هَاهُنَا. اهـ. وَهَذَا يُعْطِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي تَفْسِيرِ الصِّحَّةِ ثَابِتٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا وَقَالَ الْآمِدِيُّ: وَلَا بَأْسَ بِتَفْسِيرِ الصِّحَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ بِمَا ذَكَرُوهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ تَرَتُّبِ أَحْكَامِهَا الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا يَعْنِي لِأَمْرٍ مَقْصُودِ الْعِبَادَةِ إقَامَةُ رَسْمِ التَّعَبُّدِ، وَبَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْعَبْدِ مِنْهَا. فَإِذَا أَفَادَتْ ذَلِكَ كَانَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّهَا كَافِيَةٌ فِي سُقُوطِ التَّعَبُّدِ، فَتَكُونُ صَحِيحَةً.

مسألة الحقائق الشرعية المتعلقة بالماهيات من عبادة وعقد

التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: لَمْ يَرِدْ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ، بَلْ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَإِنَّمَا الصِّحَّةُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ. قُلْت: وَوَرَدَ لَفْظُ الْإِجْزَاءِ كَثِيرًا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الصِّحَّةِ ثُمَّ إنَّ الْجُمْهُورَ لَمْ يَسْمَحُوا بِإِطْلَاقِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: هِيَ صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ أَوْ شَبِيهَةٌ بِهَا، كَإِمْسَاكِ رَمَضَانَ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ": إنَّمَا صَارَ الْفُقَهَاءُ إلَى هَذَا فِي أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُمْ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ: مَا لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ الْتِفَاتَ الْخِلَافِ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ هَلْ يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ جَدِيدٍ؟ وَالثَّانِي: قَوْلُ الْفُقَهَاءِ حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي الْمَنْخُولِ ". [مَسْأَلَةٌ الْحَقَائِقُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَاهِيَّاتِ مِنْ عِبَادَةٍ وَعَقْدٍ] الْحَقَائِقُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَاهِيَّاتِ مِنْ عِبَادَةٍ وَعَقْدٍ هَلْ يَقَعُ عَلَى الْفَاسِدِ مِنْهَا أَوْ يَخْتَصُّ بِالصَّحِيحِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ حَكَاهَا الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ " فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ:

مسألة الصحة لا تستلزم الثواب

أَحَدُهَا: لَا يُسَمَّى الْفَاسِدُ مِنْهَا بَيْعًا وَلَا نِكَاحًا. وَالثَّانِي: يُسَمَّى وَإِنْ فَسَدَ شَرْعًا. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ وَالْأَعْيَانِ لَا يَسْلُبُهُمَا الِاسْمَ عِنْدَ انْتِفَاءِ شُرُوطٍ شُرِعَتْ فِيهِ، وَذَلِكَ كَالْغُسْلِ وَالْوَطْءِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَحْكَامِ، كَتَسْمِيَةِ الْغُسْلِ طَهَارَةً فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْغُسْلَ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ. اهـ. وَالْقَوْلَانِ وَجْهَانِ لِلْأَصْحَابِ فِي الْعُقُودِ، وَأَصَحُّهُمَا: اخْتِصَاصُهُ بِالصَّحِيحِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ لَا يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ، فَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ: سَيَأْتِي خِلَافٌ فِي أَنَّهَا هَلْ تُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا إذَا حَلَّفَهُ لَا يَصُومُ وَلَا يُصَلِّي؟ وَقَدْ اسْتَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَنَا فِي اخْتِصَاصِهَا بِالصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْعُقُودِ. نَعَمْ قَالُوا: لَوْ حَلَفَ لَا يَحُجُّ حَنِثَ بِالْفَاسِدِ، وَيُحْتَمَلُ فِي كُلِّ مَا فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ وَقَدْ يُمْنَعُ، وَالْفَرْقُ مُخَالَفَةُ الْحَجِّ غَيْرَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. [مَسْأَلَةٌ الصِّحَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ] الصِّحَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ بَلْ يَكُونُ الْفِعْلُ صَحِيحًا وَلَا ثَوَابَ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: الرِّدَّةُ بَعْدَ الْحَجِّ تُحْبِطُ الثَّوَابَ وَلَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ، وَمِنْهُ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. وَكَذَا صَوْمُ الْمُغْتَابِ عِنْدَ الْقَفَّالِ وَالْمَاوَرْدِيِّ. وَحَكَاهُ الْإِمَامُ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْأَجْرِ وَالْفَضِيلَةِ مِنْ شَأْنِ الْفُقَهَاءِ، وَالثَّوَابُ غَيْبٌ لَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَرَدَ خَبَرٌ

مسألة ثواب الصلاة الفاسدة

فِي أَنَّ الْغِيبَةَ تُحْبِطُ الْأَجْرَ فَهُوَ تَهْدِيدٌ مُؤَوَّلٌ، وَقَدْ يَرِدُ مِثْلُهُ فِي التَّرْغِيبِ قُلْت: وَكَذَا قَالَ الصَّيْمَرِيُّ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ " فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ تَصِحُّ، وَأَمَّا الثَّوَابُ فَإِلَى اللَّهِ. [مَسْأَلَةٌ ثَوَابُ الصَّلَاةِ الْفَاسِدَةِ] إذَا صَلَّى صَلَاةً فَاسِدَةً هَلْ يُثَابُ عَلَيْهَا، قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: يُثَابُ عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا كَالْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": لَوْ نَوَى نِيَّةً صَحِيحَةً، وَغَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ، ثُمَّ أَبْطَلَ الْوُضُوءَ فِي أَثْنَائِهِ بِحَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ هَلْ لَهُ ثَوَابُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ؟ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوَابُهُ كَالصَّلَاةِ إذَا بَطَلَتْ فِي أَثْنَائِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إذَا بَطَلَتْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَهُ ثَوَابُهُ وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا ثَوَابَ لَهُ بِحَالٍ، لِأَنَّهُ يُرَادُ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ. [مَسْأَلَةٌ الْإِجْزَاءُ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْفِعْلِ فِي سُقُوطِ الْأَمْرِ] الْإِجْزَاءُ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْفِعْلِ فِي سُقُوطِ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخِطَابَ مُتَعَلِّقٌ

بِفِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا أَتَى الْمُكَلَّفُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ انْقَطَعَ عَنْهُ تَعَلُّقُ الْخِطَابِ، وَهَذَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَفْسِيرِ الصِّحَّةِ بِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: إسْقَاطُ الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ فِي الصِّحَّةِ، وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِالْأَدَاءِ، لِأَنَّا نُعَلِّلُ الْإِجْزَاءَ بِأَدَاءِ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَنَقُولُ: أَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ كَمَا أُمِرَ. وَعَسُرَ عَلَى بَعْضِهِمْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِجْزَاءِ وَالصِّحَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِجْزَاءَ أَعَمُّ، وَيَخْتَصُّ الْإِجْزَاءُ بِالْعِبَادَاتِ فَلَا مَعْنَى لَهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَيَخْتَصُّ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي وُقُوعُهَا بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهَا، أَوْ لَا يَتَرَتَّبُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَأَمَّا مَا يَقَعُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَلَا يُوصَفُ بِهِ، كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ، وَيَخْتَصُّ أَيْضًا بِالْمَطْلُوبِ أَعَمُّ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ. لَا يُقَالُ فِي الْمَنْدُوبِ: إنَّهُ مُجْزِئٌ أَوْ غَيْرُ مُجْزِئٍ، وَنَصَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ "، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ فِي الضَّحَايَا» مَعَ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ، وَكَذَا «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَنَاقِ أَبِي بُرْدَةَ: يُجْزِئُك وَلَنْ يُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» وَإِنْ كَانَتْ الْأُضْحِيَّةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ.

مسألة الجائز ما وافق الشريعة

[مَسْأَلَةٌ الْجَائِزُ مَا وَافَقَ الشَّرِيعَةَ] الْجَائِزُ مَا وَافَقَ الشَّرِيعَةَ، فَإِذَا قُلْنَا: صَوْمٌ جَائِزٌ وَبَيْعٌ جَائِزٌ، فَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَقَدْ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ، وَيُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ. وَضَابِطُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لِلْعَاقِدِ فَسْخُهُ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ لَا وَيَئُولُ إلَى اللُّزُومِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى ذَلِكَ الْمَبِيعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَإِنَّهُ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي شَرْحِ جَدَلِهِ ". وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": الْجَائِزُ مَا أُذِنَ فِي فِعْلِهِ فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَيَخْرُجُ الْحَرَامُ، وَقِيلَ: مَا لَا يَأْثَمُ بِفِعْلِهِ وَلَا تَرْكِهِ. قَالَ: وَالْحَدُّ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مِنْ وَصْفٍ وَاحِدٍ. قَالَ: وَكُلُّ صَحِيحٍ جَائِزٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَأْذُونًا فِي فِعْلِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ صَحِيحًا كَكَثِيرٍ مِنْ الْمُبَاحَاتِ. قَالَ: وَحَدُّ الْجَائِزِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ أَهْلُ الْمَعْقُولِ. [مَسْأَلَةٌ يُقَابِلُ الصِّحَّةَ الْبُطْلَانُ] وَيُقَابِلُ الصِّحَّةَ الْبُطْلَانُ فَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، فَمَنْ

قَالَ: الصِّحَّةُ وُقُوعُ الْفِعْلِ كَافِيًا فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ قَالَ: الْبُطْلَانُ هُوَ وُقُوعُهُ غَيْرُ كَافٍ لِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ، وَمَنْ قَالَ الصِّحَّةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ قَالَ: الْبُطْلَانُ مُخَالَفَتُهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى الْمُتَطَهِّرُ يَظُنُّ أَنَّهُ مُحْدِثٌ وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، لَكِنْ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ لِكَوْنِهَا بَاطِلَةً بِالْمُخَالَفَةِ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الطَّهَارَةِ. وَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ عِنْدَنَا مُتَرَادِفَانِ، فَكُلُّ فَاسِدٍ بَاطِلٌ وَعَكْسُهُ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقَانِ فَرْقَ الْأَعَمِّ وَالْأَخَصِّ كَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، إذْ كُلُّ بَاطِلٍ فَاسِدٌ وَلَيْسَ كُلُّ فَاسِدٍ بَاطِلًا. فَقَالُوا: الْبَاطِلُ مَا لَا يَنْعَقِدُ بِأَصْلِهِ كَبَيْعِ الْحُرِّ، وَالْفَاسِدُ مَا لَا يَنْعَقِدُ دُونَ أَصْلِهِ كَعَقْدِ الرِّبَا فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيْعٌ، وَمَمْنُوعٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَقْدُ رِبًا. وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُمْ يُشَارِكُ الصَّحِيحَ فِي إفَادَةِ الْمِلْكِ إذَا اتَّصَلَ بِالْقَبْضِ فَجَعَلُوا الْفَاسِدَ رُتْبَةً مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَذْهَبِ الْجَاحِظِ. وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ بَلْ هُوَ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ. وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فَسَادُهُ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْفَاسِدُ هُوَ الْمَوْجُودُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْخَلَلِ، وَالْبَاطِلُ هُوَ الَّذِي لَا تَثْبُتُ حَقِيقَتُهُ بِوَجْهٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فَسَمَّى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَاسِدَةً عِنْدَ تَقْدِيرِ الشَّرِيكِ وَوُجُودِهِ. وَدَلِيلُ التَّمَانُعِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَالَمَ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرِيكِ،

التفرقة بين الفاسد والباطل

وَوُجُودِهِ، يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ، لِحُصُولِ التَّمَانُعِ لَا أَنَّهُ يَكُونُ مَوْجُودًا عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْخَلَلِ، فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي لَا تَثْبُتُ حَقِيقَتُهُ بِوَجْهٍ، فَاسِدًا وَهُوَ خِلَافُ مَا قَالُوا فِي التَّفْرِقَةِ، فَإِنْ كَانَ مَأْخَذُهُمْ فِي التَّفْرِيقِ بِمُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ فَهُمْ مُطَالَبُونَ بِمُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِمَا. قُلْت: قَدْ تَقَدَّمَ أُمُورٌ فِي تَفْرِقَتِهِمْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ بِمِثْلِهَا هُنَا. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَتَوَسَّطُوا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ فِي التَّسْمِيَةِ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: الْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُفِيدُ شُبْهَةَ الْمِلْكِ فِيمَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ، فَإِذَا لَحِقَهُ أَحَدُ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ يُقَدَّرُ الْمِلْكُ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ حَوَالَةُ الْأَسْوَاقِ، وَتَلَفُ الْعَيْنِ وَنُقْصَانُهَا، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهَا عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي التَّلْخِيصِ " نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي تَحْدِيدِ الْفَاسِدِ: هُوَ كُلُّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى اسْتِبَاحَةِ مَا جَعَلَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ. ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْعَقْدَ فِي وَقْتٍ تَضِيقُ الصَّلَاةُ، فَإِنَّ الْمُتَلَفِّظَ بِالْعَقْدِ تَارِكٌ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَتَرْكُ التَّكْبِيرَةِ مُحَرَّمٌ فَهَذَا مُحَرَّمٌ تَوَصَّلَ بِهِ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَمْلَاكِ وَالْأَبْضَاعِ؛ وَأُصُولُهَا عَلَى الْحَظْرِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاسِدٍ. [التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ] وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ فِي مَوَاضِعَ: أَوَّلُهَا، وَثَانِيهَا: الْخُلْعُ وَالْكِتَابَةُ، فَالْبَاطِلُ مِنْهُمَا مَا كَانَ عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ مَقْصُودٍ كَالْمَيْتَةِ، أَوْ رَجَعَ إلَى خَلَلٍ فِي الْعَاقِدِ كَالصِّغَرِ وَالسَّفَهِ، وَالْفَاسِدُ خِلَافُهُ، وَحُكْمُ الْبَاطِلِ أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَالٌ، وَالْفَاسِدُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ وَالسَّيِّدُ بِالْقِيمَةِ.

وَثَالِثُهَا: الْحَجُّ يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ وَيَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ. وَحُكْمُ الْبَاطِلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ وَلَا يَمْضِي بِخِلَافِ الْفَاسِدِ. هَذَا حُكْمُ مَا يَطْرَأُ، وَأَمَّا الْفَاسِدُ ابْتِدَاءً، فَيُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ جَامَعَ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، وَقِيلَ: صَحِيحًا، وَقِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ. قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ وَأَمَّا إذَا أَحْرَمَ مُجَامِعًا فَيَنْعَقِدُ فَاسِدًا أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْمَوَاقِيتِ، وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ عَدَمَ الِانْعِقَادِ. وَرَابِعُهَا: الْعَارِيَّةُ وَقَدْ صَوَّرَهَا الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ " فَإِنَّهُ حَكَى فِي صِحَّةِ إعَارَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ خِلَافًا، ثُمَّ قَالَ فَإِنْ أَبْطَلْنَاهَا فَفِي طَرِيقِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ، لِأَنَّهَا إعَارَةٌ فَاسِدَةٌ، وَفِي طَرِيقِ الْمَرَاوِزَةِ أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ لِأَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْإِعَارَةِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ كَذَا حَصَرَهَا جَمَاعَةٌ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ بَلْ يَجْرِي ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ. وَمِنْ صُورَةِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وَتَجِبُ فِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ. أَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ مَثَلًا صَبِيٌّ رَجُلًا بَالِغًا فَعَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، لِأَنَّهُ الَّذِي فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ عَمَلَهُ وَتَكُونُ بَاطِلَةً. وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ لِلْمَدْيُونِ: اعْزِلْ قَدْرَ حَقِّي، فَعَزَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَارَضْتُك عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْعَزْلِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ الْمَأْمُورُ فَإِنْ اشْتَرَى بِالْعَيْنِ فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ، وَإِنْ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ لِلْقِرَاضِ وَنَقَدَهُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الشِّرَاءُ لِلْقِرَاضِ وَيَكُونُ قِرَاضًا فَاسِدًا وَلَهُ الْأُجْرَةُ وَالرِّبْحُ لِبَيْتِ الْمَالِ.

وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ قِرَاضًا لَا فَاسِدًا وَلَا صَحِيحًا بَلْ هُوَ بَاطِلٌ. وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: بِعْتُك وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا وَسَلَّمَ، وَتَلِفَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي هَلْ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ، وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَبِيعًا فَيَكُونُ أَمَانَةً. وَمِنْهَا: لَوْ نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ فَهُوَ فَاسِدٌ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا الْحَدَّ، وَلَوْ نَكَحَ السَّفِيهُ بِلَا إذْنٍ فَبَاطِلٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ السُّبْكِيُّ: عِنْدِي. أَنَّ أَصْحَابَنَا لَمْ يُوَافِقُوا الْحَنَفِيَّةَ فِي هَذَا التَّفْرِيقِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُثْبِتُونَ بَيْعًا فَاسِدًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَعَ الْقَبْضِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْعُقُودُ لَهَا صُوَرٌ لُغَةً وَعُرْفًا مِنْ عَاقِدٍ وَمَعْقُودٍ عَلَيْهِ وَصِيغَةٍ، وَلَهَا شُرُوطٌ شَرْعِيَّةٌ فَإِنْ وُجِدَتْ كُلُّهَا فَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ فُقِدَ الْعَاقِدُ أَوْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَوْ الصِّيغَةُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَلَا عَقْدَ أَصْلًا، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ وَنُسَمِّيهِ بَيْعًا بَاطِلًا مَجَازًا، وَإِنْ وُجِدَتْ وَقَارَنَهَا مُفْسِدٌ مِنْ عَدَمِ شَرْطٍ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ فَاسِدٌ، وَعِنْدَنَا هُوَ بَاطِلٌ خِلَافًا لَهُمْ. وَوَافَقُونَا عَلَى الْبُطْلَانِ إذَا كَانَ الْفَسَادُ لِصِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ. وَنَحْنُ لَا نُرَتِّبُ عَلَى الْفَاسِدِ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَكِنْ لَنَا قَاعِدَةٌ، وَهِيَ إذَا كَانَ لِلْفِعْلِ عُمُومٌ وَبَطَلَ الْخُصُوصُ قَدْ لَا يَعْمَلُ الْعُمُومُ. فَالْمَسَائِلُ الَّتِي رَتَّبَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهَا حُكْمًا مِنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ هِيَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. اهـ. فَائِدَةٌ أَقْسَامُ الْبَاطِلِ قَسَّمَ ابْنُ الْقَاصِّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ " الْبَاطِلَ إلَى خَمْسَةٍ: الْإِحَالَةُ

مسألة الرخصة والعزيمة

وَالْمُنَاقَضَةُ وَالْفُحْشُ وَالْغَلَطُ، قَالَ: وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ خَارِجَةٌ عَنْ الْأُصُولِ فَمَنْ صَارَ إلَيْهَا فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَالْخَامِسُ يُسَمَّى الْخَطَأُ، فَعَلَيْهِ تَدُورُ الْمُنَاظَرَاتُ، وَإِلَيْهِ يُقْصَدُ بِالْمُطَالَبَاتِ. قَالَ: فَالْإِحَالَةُ: مَا دَفَعَهُ الْحِسُّ، وَالْمُنَاقَضَةُ: مَا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاخْتِلَافِ، وَالْفُحْشُ: مَا يَسْتَقْبِحُهُ الْعَقْلُ، وَالْغَلَطُ: مَا طَرَحَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْخَطَأُ: كُلُّ مُتَلَبِّسٍ قَامَ فَسَادُهُ دَلِيلٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: حَدُّ الْمُحَالِ كُلُّ جُمْلَةٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ وَلَا فَائِدَةٌ قَالَ: وَإِنَّمَا يُطْلِقُهُ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ عَلَى فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ يَنْضَمُّ إلَيْهِ حَتَّى يَعْتَدَّ بِهِ فَإِذَا فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الشَّرْطِ يُقَالُ: هَذَا فِعْلٌ مُحَالٌ فَيُقَالُ: الصَّلَاةُ بِلَا طَهَارَةٍ مُحَالٌ، وَالْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ مُحَالٌ، وَالصَّوْمُ بِاللَّيْلِ مُحَالٌ. انْتَهَى. [مَسْأَلَةٌ الرُّخْصَةُ وَالْعَزِيمَةُ] [الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي مَدْلُولِهِمَا] الْحُكْمُ يُوصَفُ بِالْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ وَفِيهِمَا مَبَاحِثُ: [الْمَبْحَثُ] الْأَوَّلُ فِي مَدْلُولِهِمَا. الْعَزِيمَةُ أَمَّا الْعَزِيمَةُ فَهِيَ لُغَةً: الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]

وَشَرْعًا: عِبَارَةٌ عَنْ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ السَّالِمِ مُوجِبُهُ عَنْ الْمُعَارِضِ، كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَمَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهَا مِنْ التَّكَالِيفِ. قِيلَ: وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ حَيْثُ لَا يَقُومُ دَلِيلُ الْمَنْعِ عَزِيمَةٌ، وَهُوَ لَا يُطَابِقُ الْوَضْعَ اللُّغَوِيَّ، وَلَا الِاصْطِلَاحَ الْفِقْهِيَّ، فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّأْكِيدِ وَالْجَزْمِ كَمَا يُقَالُ عَزَمْت عَلَيْك بِكَذَا وَكَذَا، وَلِهَذَا يُقَابِلُونَهُ بِمَا فِيهِ تَرْخِيصٌ، وَالْإِبَاحَةُ بِمُجَرَّدِهَا لَيْسَ فِيهَا هَذَا الْمَعْنَى. وَفِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيَّ مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا بِالْوَاجِبَاتِ فَإِنَّهُمَا قَالَا: مَا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى. أَيْ بِإِيجَابِهِ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَا، فَإِنَّهَا تُذْكَرُ فِي مُقَابَلَةِ الرُّخْصَةِ، وَالرُّخْصَةُ تَكُونُ فِي الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ مَا يُقَابِلُهَا، وَمِثَالُ دُخُولِ الْإِبَاحَةِ فِيهَا قَوْلُهُمْ: " ص " مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَدُخُولُ الْحَرَامِ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَخْمَصَةِ هُوَ عَزِيمَةٌ، لِأَنَّ حُكْمَهَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ خَلَا عَنْ الْمُعَارِضِ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْمَخْمَصَةُ حَصَلَ الْمُعَارِضُ لِدَلِيلِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ رَاجِحٌ عَلَيْهِ حِفْظًا لِلنَّفْسِ، فَجَازَ الْأَكْلُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: تَرْكُ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ عَزِيمَةٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ عَزِيمَةً لِكَوْنِهَا مُكَلِّفَةً بِتَرْكِهَا، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنَّ مَنْ كُلِّفَ بِتَرْكِ شَيْءٍ لَمْ يُكَلَّفْ بِفِعْلِهِ فِي حَالِ تَكْلِيفِهِ بِتَرْكِهِ، وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، وَلَمْ يَرِدْ. الرُّخْصَةُ وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فَهِيَ لُغَةً: الْيُسْرُ وَالسُّهُولَةُ، وَمِنْهُ رَخُصَ السِّعْرُ إذَا تَرَاجَعَ وَسَهُلَ الشِّرَاءُ، وَفِيهَا لُغَاتٌ ثَلَاثٌ: رُخُصَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْخَاءِ، وَرُخْصَةٌ بِإِسْكَانِ الْخَاءِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنْ الْأُولَى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَصْلًا بِنَفْسِهَا، وَالثَّالِثَةُ: خُرْصَةٌ بِتَقْدِيمِ الْخَاءِ حَكَاهَا الْفَارَابِيُّ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهَا مَقْلُوبَةٌ مِنْ الْأُولَى، وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَلَى أَلْسُنِ النَّاسِ فَتْحُ الْخَاءِ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ سَمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ، لِأَنَّ " فُعَّلَةٌ " تَكُونُ لِلْفَاعِلِ كَهُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ وَضُحَكَةٌ، وَلِلْمَفْعُولِ كَلُقَطَةٍ، فَقِيَاسُهُ إنْ ثَبَتَ هُنَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْكَثِيرِ الرَّخِيصِ عَلَى غَيْرِهِ إذَا فَشَا الرُّخْصُ فِيهِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي الْإِحْكَامِ ": الرُّخْصَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ: الْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَخْذِ الْمَصْدَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَرَادَ اسْمَ الْفَاعِلِ، وَالْقِيَاسُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمَنْقُولُ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: مَا جَازَ فِعْلُهُ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الرُّخْصَةَ هِيَ الْحُكْمُ، وَأَنَّهَا

قَدْ تَكُونُ بِجَوَازِ التَّرْكِ، وَأَنَّ التَّكَالِيفَ كُلَّهَا كَذَلِكَ، لِأَنَّهَا عَلَى خِلَافِ التَّخْفِيفِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ، كَذَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ التَّكَالِيفَ كُلَّهَا بَعْضُ مَا هُوَ يَسْتَحِقُّ عَلَى الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَاشٍ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: طَلَبُ الْفِعْلِ السَّالِمِ عَنْ الْمَانِعِ الْمُشْتَهِرِ، وَاحْتُرِزَ بِالْمُشْتَهِرِ عَنْ نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُقُودَ الْمُخَالِفَةَ لِلْقِيَاسِ كَالسَّلَمِ وَالْمُسَابَقَةِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: مَا جَازَ فِعْلُهُ أَوْ تَرْكُهُ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ مِنْهُ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: مَا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِهِ تَعَالَى وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقِيلَ: مَا خَرَجَ عَنْ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ لِعَارِضٍ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْمَشْرُوعُ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ لَوْلَا الْعُذْرُ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ التَّعَبُّدُ بِالتَّحْرِيمِ. وَقِيلَ: اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ، فَإِنْ أُرِيدَ إبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ بِلَا حُرْمَةٍ فَهُوَ قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ أُرِيدَ إبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ، فَهُوَ قَوْلٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ، وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ مَعَ الْمُعَارِضِ أَيْ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الْمَنْعِ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِعُذْرٍ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَيْ الشَّرْعِيِّ، لَا الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الْمَصْلَحِيِّ، لِأَنَّهُ إنَّمَا عَدَلَ بِهِ عَنْ نَظَائِرِهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ. هَذَا فِي جَانِبِ الْفِعْلِ، وَفِي جَانِبِ التَّرْكِ أَنْ يُوسِعَ لِلْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ

المبحث الثاني الرخصة من أي الخطابين

مَعَ قِيَامِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ تَخْفِيفًا وَتَرَفُّهًا سَوَاءٌ كَانَ التَّغْيِيرُ فِي وَضْعِهِ أَوْ حُكْمِهِ. وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَغَيَّرَ الْحُكْمُ مَعَ بَقَاءِ الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمًا مَعَ سُقُوطِ حُكْمِهِ، كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ مَعَ قِيَامِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْقُطَ الْحَظْرُ وَالْمُؤَاخَذَةُ جَمِيعًا كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ وَمَاتَ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ. [الْمَبْحَثُ الثَّانِي الرُّخْصَة مِنْ أَيِّ الْخِطَابَيْنِ] فِي أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنْ أَيِّ الْخِطَابَيْنِ؟ فَأَمَّا الْآمِدِيُّ فَجَعَلَهَا مِنْ أَنْوَاعِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْحَقُّ: أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ الِاقْتِضَاءِ، وَلِهَذَا قَسَّمُوهَا إلَى وَاجِبَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمُبَاحَةٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا مِنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّازِيَّ أَنَّهَا نَفْسُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، وَالْقَوْلَانِ غَيْرُ خَارِجَيْنِ عَنْ الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: الرُّخْصَةُ التَّيْسِيرُ، وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي قَوْلُهُمْ: هَذَا رُخْصِي مِنْ الْمَاءِ أَيْ: هَذَا شُرْبِي.

المبحث الثالث أقسام الرخصة

[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ] فِي أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ: وَقَدْ قَسَّمَهَا الْأُصُولِيُّونَ إلَى ثَلَاثَةٍ: وَاجِبَةٌ، وَمَنْدُوبَةٌ، وَمُبَاحَةٌ. فَالْوَاجِبَةُ كَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ لِمَنْ غَصَّ بِاللُّقْمَةِ، وَكَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ بِنَاءً عَلَى النُّفُوسِ حَقُّ اللَّهِ وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْمُكَلَّفِينَ، فَيَجِبُ حِفْظُهَا لِيَسْتَوْفِيَ اللَّهَ حَقَّهُ مِنْهَا بِالتَّكْلِيفِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ عَزِيمَةً لِوُجُودِ الْمَلْزُومِ وَالتَّأْكِيدِ قَالَ: وَلَا مَانِعَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ رُخْصَةً مِنْ وَجْهٍ وَعَزِيمَةً مِنْ وَجْهٍ، فَمِنْ حَيْثُ قَامَ الدَّلِيلُ الْمَانِعُ نُسَمِّيهِ رُخْصَةً، وَمِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ نُسَمِّيهِ عَزِيمَةً. وَهَذَا التَّرَدُّدُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ سَبَقَهُ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ " وَتَرَدَّدَ فِي أَنَّ الْوَاجِبَاتِ هَلْ يُوصَفُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالرُّخْصَةِ؟ وَقَالَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ مِنْ النِّهَايَةِ ": يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَكْلُ الْمَيْتَةِ لَيْسَ بِرُخْصَةٍ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ صَاحِبُهُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ": الصَّحِيحُ عِنْدَنَا: أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ، كَالْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ، وَيَتَحَصَّلُ بِذَلِكَ فِي مُجَامَعَةِ الرُّخْصَةِ لِلْوُجُوبِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْبَابَ يُجَامِعُهَا، وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهَا وَالْمَنْدُوبَةُ كَالْقَصْرِ فِي السَّفَرِ إذَا بَلَغَ ثَلَاثَ مَرَاحِلَ، وَالْمُبَاحَةُ كَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَلَيْسَ بِتَمْثِيلٍ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ مَشَقَّةِ الصَّوْمِ وَيُكْرَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَشَقَّةِ، فَلَيْسَ لَهُ إبَاحَةٌ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمْ أَجِدْ لَهُ مِثَالًا بَعْدَ الْبَحْثِ الْكَثِيرِ إلَّا التَّيَمُّمَ عِنْدَ وُجْدَانِ الْمَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَالْوُضُوءُ مُسْتَوِيًا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ أَصْحَابِنَا. قُلْت: هَذَا إنْ جَعَلْنَا التَّيَمُّمَ رُخْصَةً، وَفِيهِ خِلَافٌ: وَالْأَوْلَى: التَّمْثِيلُ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَفِي الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ لِلْعَبَّاسِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادَاتِ، أَمَّا الْمُعَامَلَاتِ فَرُخَصُهَا كَثِيرَةٌ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْعَرَايَا عَلَى أَنَّ الْغَزَالِيَّ فِي الْمُسْتَصْفَى " أَبْدَى احْتِمَالَيْنِ فِي السَّلَمِ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ " بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرَايَا، وَسَنَذْكُرُ فِي الْقِيَاسِ عَلَى الرُّخَصِ، بَلْ يَأْتِي فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ " لَبَنُ الْمَأْكُولِ طَاهِرٌ، وَذَلِكَ عِنْدِي فِي حُكْمِ الرُّخَصِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَيْهَا وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ بِإِحْلَالِهَا. وَذَكَرَ فِي الْبَسِيطِ " مِثْلَهُ فِي شَعْرِ الْمَأْكُولِ الْبَائِنِ فِي حَيَاتِهِ أَنَّهُ رُخْصَةٌ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي الْمَلَابِسِ.

وَأَهْمَلَ الْأُصُولِيُّونَ رَابِعًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى كَالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ التَّضَرُّرِ بِالصَّوْمِ، وَكَتَرْكِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْحَجَرِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ. وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تُجَامِعُ التَّحْرِيمَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: الرُّخَصُ لَا تُنَاطُ بِالْمَعَاصِي، لَكِنْ لَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ فَانْكَسَرَ وَصَلَّى قَاعِدًا، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ مَعَ أَنَّ إسْقَاطَ الْقَضَاءِ عَنْ الْقَاعِدِ رُخْصَةٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمَعْصِيَةَ انْتَهَتْ. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْحَرَامَ فَأَكَلَ الْمَيْتَةَ لِلضَّرُورَةِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ فِيهِ، حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي فَتَاوِيهِ "، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُوصَفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ فَيَبْقَى التَّنَاوُلُ وَهُوَ وَاجِبٌ فَكَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا وَلَيْسَ ذَا وَجْهَيْنِ. تَنْبِيهٌ [فِي تَقْسِيمِ الرُّخْصَةِ] اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْأُصُولِيِّينَ يُقَسِّمُونَ الرُّخْصَةَ إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَانَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يُثِيرُ فِي ذَلِكَ بَحْثًا، وَهُوَ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُمْ ذِكْرَ مَا وَقَعَ بِهِ التَّرْخِيصُ أَوْ ذِكْرَ الْحَالَةِ الَّتِي صَارَتْ إلَيْهِ الْعِبَادَةُ بَعْدَ التَّرْخِيصِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ الْإِحْلَالِ، لِأَنَّ الْإِحْلَالَ هُوَ الَّذِي جُعِلَ لَهُ التَّيْسِيرُ وَالسُّهُولَةُ، وَكَوْنُ ذَلِكَ الَّذِي حَلَّ يَعْرِضُ

لَهُ أَمْرٌ آخَرُ يُصَيِّرُهُ وَاجِبًا لَيْسَ مِنْ الرُّخْصَةِ فِي شَيْءٍ، فَالتَّرْخِيصُ لِلْمُضْطَرِّ مِنْ الْمَيْتَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ إحْلَالُهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حَرَامًا، وَكَوْنُهَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرٌ آخَرُ نَشَأَ عَنْ وُجُوبِ حِفْظِ النَّفْسِ، فَلَا يَكُونُ الرُّخْصَةُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْإِحْلَالِ. وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُمْ ذِكْرَ الْأَحْوَالِ الَّتِي صَارَتْ إلَيْهَا الْعِبَادَةُ بَعْدَ التَّرْخِيصِ فَتَقْسِيمُهَا إلَى ثَلَاثَةٍ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ إلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَوْعًا، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ خَمْسَةٌ، وَكُلٌّ مِنْهَا إذَا صَارَ إلَى حُكْمٍ آخَرَ يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْسُ أَقْسَامٍ فِي الْخَمْسَةِ السَّابِقَةِ، فَهِيَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ قِسْمًا. يَسْقُطُ مِنْهَا انْتِقَالُ كُلِّ حُكْمٍ إلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مُحَالٌ صَارَتْ عِشْرِينَ، يَسْقُطُ مِنْهَا التَّرْخِيصُ فِي الْمُبَاحِ إلَى الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَحَقُّ مِنْ الْإِبَاحَةِ، فَلَا رُخْصَةَ فِيهَا صَارَتْ سِتَّةَ عَشَرَ، وَيَسْقُطُ مِنْهَا تَخْفِيفُ الْمُسْتَحَبِّ إلَى الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ لَا تَسْهِيلَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ تَخْفِيفُ الْمَكْرُوهِ إلَى الْحَرَامِ مُحَالٌ أَيْضًا فَيَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِسْمًا. الْأَوَّلُ: رُخْصَةٌ وَاجِبَةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ. الثَّانِي: رُخْصَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ، كَالْقَصْرِ فِي السَّفَرِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. الثَّالِثُ: رُخْصَةٌ مَكْرُوهَةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ، كَالْقَصْرِ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَالتَّرْخِيصُ فِي النَّفْلِ عَنْ التَّحْرِيمِ إلَى الْكَرَاهَةِ. الرَّابِعُ: رُخْصَةٌ مُبَاحَةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ، كَالتَّيَمُّمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ بَذْلِ ثَمَنِ الْمَاءِ لَهُ، أَوْ بَذْلِ آلَةِ الِاسْتِقَاءِ، أَوْ إقْرَاضِ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَذَبَحَهُ وَمَيْتَةً فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. الْخَامِسُ: رُخْصَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ أَصْلُهَا الْوُجُوبُ، كَإِتْمَامِ الصَّلَاةِ قَبْلَ ثَلَاثَةِ

أَيَّامٍ، وَكَالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ لِلْقَوِيِّ وَالتَّرْخِيصُ فِي النَّفْلِ فِي الْقُعُودِ. تَنْبِيهٌ [قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الرُّخْصَةِ اخْتِيَارِيًّا] قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الرُّخْصَةِ اخْتِيَارِيًّا، كَالسَّفَرِ. وَاضْطِرَارِيًّا كَالِاغْتِصَاصِ بِاللُّقْمَةِ الْمُبِيحِ لِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقَرَافِيِّ: قَدْ يُبَاحُ سَبَبُهَا كَالسَّفَرِ وَقَدْ لَا يُبَاحُ كَالْغُصَّةِ، لِأَنَّ الْغُصَّةَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا يُوصَفُ بِإِبَاحَةٍ وَلَا حَظْرٍ. قِيلَ: وَالْعَجَبُ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَيْفَ رَجَّحُوا الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ فِي الْفِطْرِ وَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ مَعَ سُهُولَةِ الْخَطْبِ فِيهَا؟ وَرَجَّحُوا الْعَزِيمَةَ فِيمَا يَأْتِي عَلَى النَّفْسِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَإِمَّا أَنْ يُرَجِّحُوا الرُّخْصَةَ مُطْلَقًا أَوْ الْعَزِيمَةَ مُطْلَقًا. أَمَّا الْفَرْقُ فَلَا يَظْهَرُ لَهُ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: لَهُ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ أَوْ الْعَزِيمَةِ هِيَ الْعِبَادَةُ، فَفِي أَيِّهِمَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ أَعْظَمَ رَجَّحْنَا الْأَخْذَ بِهِ، وَالْعِبَادَةُ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ دُونَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَعْظَمُ، لِأَنَّهُ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ، قِيلَ: هَذَا يَبْطُلُ بِالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ عِبَادَةً، وَقَدْ رَجَّحْتُمْ الْفِطْرَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ فِي النَّفْسِ أَعْظَمُ لِأَنَّهَا إذَا بَقِيَتْ وُجِدَ مِنْهَا [الشَّهَوَاتُ] الْمُتَعَدِّدَةُ الْأَنْوَاعُ، أَضْعَافُ مَا يَحْصُلُ مِنْ تَرْكِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مِنْ الْعِبَادَةِ.

فَائِدَةٌ الرُّخْصَةُ إمَّا كَامِلَةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ تَنْقَسِمُ الرُّخْصَةُ إلَى كَامِلَةٍ وَهِيَ الَّتِي لَا شَيْءَ مَعَهَا كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، وَإِلَى نَاقِصَةٍ وَهِيَ بِخِلَافِهِ كَالْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَهَذَا تَلْمِحَتُهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ " فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْمَسْحُ رُخْصَةُ كَمَالٍ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّيَمُّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ فِيمَا لَا يَجِبُ مَعَهُ الْقَضَاءُ رُخْصَةٌ كَامِلَةٌ وَمَعَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ رُخْصَةٌ نَاقِصَةٌ. تَنْبِيهٌ [تَشْكِيكُ الْآمِدِيَّ فِي تَحْقِيقِ الرُّخْصَةِ] شَكَّكَ الْآمِدِيُّ فِي تَحْقِيقِ الرُّخْصَةِ بِأَنَّ الْعُذْرَ الْمُرَخِّصَ إنْ كَانَ رَاجِحًا عَلَى السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ كَانَ مُوجِبُهُ عَزِيمَةً، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ حُكْمٍ ثَابِتٍ رَاجِحٍ مَعَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ الْمَرْجُوحِ رُخْصَةً، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا أَوْ مَرْجُوحًا فَأَيُّ شَيْءٍ يُرَجِّحُ دَلِيلَ الرُّخْصَةِ؟ ، ثُمَّ قَالَ: الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَرْجُوحٌ قَالَ: هُوَ أَشْبَهُ بِالرُّخْصَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّيْسِيرِ بِالْعَمَلِ بِالْمَرْجُوحِ، أَجَابَ الْهِنْدِيُّ بِالْتِزَامِ أَنَّ الْعُذْرَ الْمُرَخِّصَ رَاجِحٌ. قَوْلُهُ: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ رَاجِحٍ رُخْصَةً. قُلْنَا: الرَّاجِحُ قِسْمَانِ: رَاجِحٌ شُرِعَ لِعُذْرٍ، وَاسْتُفِيدَ رُجْحَانُهُ مِنْ دَلِيلٍ خَاصٍّ فَهُوَ رُخْصَةٌ أَبَدًا، وَكُلُّ خَاصٍّ عَارَضَ الْعَامَّ، وَكَانَ خُرُوجُهُ لِعُذْرٍ

مسألة الأداء والقضاء والإعادة

فَهُوَ رُخْصَةٌ، وَرَاجِحٌ شُرِعَ لَا لِعُذْرٍ وَتَسْهِيلٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ هَذَا. [مَسْأَلَةٌ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ وَالْإِعَادَةُ] مِنْ لَوَاحِقِ خِطَابِ الْوَضْعِ تَقْسِيمُ الْحُكْمِ إلَى أَدَاءً وَقَضَاءٍ وَإِعَادَةٍ. وَالضَّابِطُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ إنْ فُعِلَتْ فِي وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا سُمِّيَتْ أَدَاءً، كَفِعْلِ الْمَغْرِبِ مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِ الشَّفَقِ، فَخَرَجَ مَا لَمْ يُقْصَدْ فِيهِ الْوَقْتُ فَلَا يُوصَفُ بِأَدَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْفِعْلُ فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ، كَالْإِيمَانِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ عِنْدَ حُضُورِ الْعَدُوِّ. بِخِلَافِ الْأَدَاءِ فَإِنَّهُ قُصِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ وَالزَّمَانُ. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: غَيْرُ الْمُؤَقَّتِ يُسَمَّى أَدَاءً شَرْعًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] نَزَلَتْ فِي تَسْلِيمِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَلِأَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا مَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالْكَلَامُ فِي الِاصْطِلَاحِيِّ، وَلَا يُشْتَرَطُ وُقُوعُ الْجَمِيعِ فِي الْوَقْتِ بَلْ

لَوْ وَقَعَ بَعْضُهُ كَرَكْعَةٍ، فَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْجَمِيعَ أَدَاءٌ تَبَعًا لِلرَّكْعَةِ، فَإِنَّهَا لِمُعْظَمِ الصَّلَاةِ وَقِيلَ: بَلْ يُحْكَمُ بِبَقَاءِ الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَتَكُونُ الْعِبَادَةُ كُلُّهَا مَفْعُولَةً فِي الْوَقْتِ، وَهَذَا أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ يُنَافِيهِ قَوْلُهُمْ: بَعْضُهَا خَارِجَ الْوَقْتِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُضَيَّقًا كَصَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ مُوَسَّعًا كَالصَّلَاةِ وَسَوَاءٌ فُعِلَ قَبْلَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى أَمْ لَا. هَذَا هُوَ قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ " وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَالْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ ". ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ: فَإِنْ فَعَلَ ثَانِيًا بَعْدَ ذَلِكَ سُمِّيَ إعَادَةً، فَظَنَّ أَتْبَاعُهُ أَنَّهُ مُخَصِّصٌ لِلْإِطْلَاقِ السَّابِقِ فَقَيَّدُوهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَالصَّوَابُ: أَنَّ الْأَدَاءَ اسْمٌ لِمَا وَقَعَ فِي الْوَقْتِ مُطْلَقًا مَسْبُوقًا كَانَ أَوْ سَابِقًا، وَإِنْ سَبَقَهُ أَدَاءً مُخْتَلٌّ سُمِّيَ إعَادَةً، فَالْإِعَادَةُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْأَدَاءِ، فَكُلُّ إعَادَةٍ أَدَاءٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ التَّحْصِيلِ " وَالْمِنْهَاجِ " مِنْ كَوْنِهِ قَسِيمًا لَهُ. وَهَلْ الْمُرَادُ بِالْخَلَلِ فِي الْإِجْزَاءِ كَمَنْ صَلَّى بِدُونِ شَرْطٍ أَوْ رُكْنٍ، أَوْ فِي الْكَمَالِ كَمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا ثُمَّ أَعَادَهَا فِي جَمَاعَةٍ فِي الْوَقْتِ؟ خِلَافٌ، وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ الْقَاضِي. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْإِعَادَةَ فِعْلٌ مِثْلُ مَا مَضَى فَاسِدًا كَانَ الْمَاضِي أَوْ صَحِيحًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَقِيلَ: لَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ فِي الْإِعَادَةِ. فَعَلَى هَذَا بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْإِعَادَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَيَنْفَرِدُ الْأَدَاءُ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَتَنْفَرِدُ الْإِعَادَةُ بِمَا إذَا قَضَى صَلَاةً، وَأَفْسَدَهَا، ثُمَّ أَعَادَهَا، وَيَجْتَمِعَانِ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ فِي الْوَقْتِ عَلَى مَا سَبَقَ.

وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ": الْإِعَادَةُ اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ يُبْتَدَأُ بِهَا، ثُمَّ لَا يُتِمُّ فِعْلَهَا إمَّا بِأَنْ لَا يَعْقِدَهَا صَحِيحَةً، وَإِمَّا بِأَنْ يَطْرَأَ الْفَسَادُ عَلَيْهَا، وَقَدْ. يُعِيدُهَا فِي الْوَقْتِ فَتَكُونُ أَدَاءً، وَبَعْدَ الْوَقْتِ فَتَكُونُ قَضَاءً، وَرُبَّمَا عَبَّرَ بِالْإِعَادَةِ عَنْ الْعِبَادَةِ الَّتِي تُؤَخَّرُ، أَمَّا إنْ أَدَّى خَارِجَ وَقْتِهِ الْمُضَيَّقِ أَوْ الْمُوَسَّعِ الْمُتَعَيِّنِ لَهُ سُمِّيَ قَضَاءً سَوَاءٌ كَانَ التَّأْثِيرُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ سَبَقَ بِنَوْعٍ مِنْ الْخَلَلِ أَمْ لَا. وَخَرَجَ بِالْمُقَدَّرِ: الْمُعَيَّنُ عَنْ الْمُقَدَّرِ بِغَيْرِهِ، بَلْ بِضَرْبٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ كَالْمُوَسَّعِ فِي الْحَجِّ إذَا تَضَيَّقَ وَقْتُهُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَدَّاهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْمُخْتَارِ، وَسَيَأْتِي، وَسَوَاءٌ وَجَبَ أَدَاؤُهُ أَوْ لَمْ يَجِبْ وَلَكِنْ وُجِدَ سَبَبُ الْأَمْرِ، وَلَا يَصِحُّ عَقْلًا كَالنَّائِمِ أَوْ شَرْعًا كَالْحَائِضِ، أَوْ يَصِحُّ لَكِنَّهُ سَقَطَ لِمَانِعٍ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالسَّفَرِ، أَوْ لَا بِاخْتِيَارِهِ كَالْمَرَضِ، وَمَا لَا يُوجَدُ فِيهِ سَبَبُ الْأَمْرِ بِهِ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ قَضَاءً إجْمَاعًا لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، كَمَا لَوْ صَلَّى الصَّبِيُّ الصَّلَاةَ الْفَائِتَةَ فِي حَالَةِ الصِّبَا، وَإِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ وَوَجَبَ كَانَ فِعْلُهُ خَارِجَ الْوَقْتِ قَضَاءً حَقِيقَةً بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ وَلَمْ يَجِبْ لِعَارِضٍ سُمِّيَ قَضَاءً أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: «كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ» لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ قَضَاءٌ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَسْمِيَةِ الْعِبَادَةِ قَضَاءً تَقَدَّمَ سَبَبُ وُجُوبِ أَدَائِهَا لَا وُجُوبُ أَدَائِهَا، وَإِلَّا لَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَةُ عِبَادَةِ الْمَجْنُونِ وَالْحَائِضِ قَضَاءً، إذْ لَمْ يُخَاطَبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَالَةَ

الْحَيْضِ، وَخَالَفَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، فَقَالَ: الْحَيْضُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ دُونَ وُجُوبِهِ، وَنَسَبَهُ إلَى الْحَنَفِيَّةِ وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ هَلْ كَانَ لِاسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ فَيَكُونُ هَاهُنَا حَقِيقَةً لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، أَوْ لِاسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ مَا وَجَبَ فَيَكُونُ هَاهُنَا مَجَازًا لِعَدَمِ الْوُجُوبِ؟ وَذَكَرَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: أَنَّ مَأْخَذَ الْخِلَافِ أَنَّ الْقَضَاءَ هَلْ يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ أَمْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ؟ فَمَنْ أَوْجَبَهُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ أَطْلَقَ اسْمَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَعَلَى مُقَابِلِهِ يَكُونُ مَجَازًا، ثُمَّ إذَا قُلْنَا بِاشْتِرَاطِ سَبْقِ الْوُجُوبِ فِي الْقَضَاءِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ وُجُوبُهُ عَلَى الْمُسْتَدْرِكِ أَوْ وُجُوبُهُ فِي الْجُمْلَةِ؟ قَوْلَانِ. وَيَتَحَصَّلُ مِنْ ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ فِعْلَهُمْ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي قَضَاءٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقَضَاءِ سَبْقُ الْوُجُوبِ فِي الْجُمْلَةِ لَا سَبْقُ الْوُجُوبِ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِقَضَاءٍ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ التَّرْكِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ بِسَبَبِهِ، وَفِعْلُهُمْ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي قَضَاءٌ. قُلْنَا: لَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَاجِبَانِ عَلَيْهِمْ بِأَسْبَابِهِمَا لَمَا جَازَ لَهُمْ تَرْكُهُمَا لَكِنْ يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُهُمَا إجْمَاعًا. قَالُوا: شُهُودُ الشَّهْرِ مُوجِبٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَهُمْ قَدْ شَهِدُوا الشَّهْرَ.

قُلْنَا: شُهُودُ الشَّهْرِ وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلصَّوْمِ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ الْعُذْرَ مَانِعٌ مِنْ الْوُجُوبِ، وَالشَّيْءُ قَدْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُوجِبِهِ لِمَانِعٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ شُهُودِ الشَّهْرِ وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ. قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": فَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ اسْمُ الْقَضَاءِ إنَّمَا جَاءَ لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ مُنْفَكًّا عَنْ الْوُجُوبِ، لَا لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّرْكِ جُزْءُ مَاهِيَةِ الْوُجُوبِ، فَيَسْتَحِيلُ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ مَعَ جَوَازِ التَّرْكِ. ثُمَّ تَقَدُّمُ السَّبَبِ قَدْ يَكُونُ مَعَ التَّأْثِيمِ بِالتَّرْكِ كَالْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّدِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْ الْفِعْلِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَالْحَائِضِ، ثُمَّ قَدْ يَصِحُّ مَعَ الْإِجْزَاءِ وَقَدْ لَا يَصِحُّ إمَّا شَرْعًا كَالْحَيْضِ أَوْ عَقْلًا كَالنَّوْمِ، ثُمَّ قِيلَ: الْقَضَاءُ لَا يُوصَفُ إلَّا بِالْوَاجِبِ، وَقِيلَ: لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ غَيْرَهُ وَهُمَا فَاسِدَانِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُوصَفُ بِالثَّلَاثَةِ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: يَقْضِي الرَّوَاتِبَ عَلَى الْأَظْهَرِ. تَنْبِيهٌ [لَا فَرْقَ بَيْنَ تَسْمِيَةِ الْقَضَاءِ أَدَاءً وَبِالْعَكْسِ] مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ رَاجِعٌ إلَى التَّلْقِيبِ وَالِاصْطِلَاحِ، وَإِلَّا فَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسَمَّى الْقَضَاءُ أَدَاءً وَالْأَدَاءُ قَضَاءً، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ الْقَضَاءُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ، فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَلْفَاظٌ وَأَلْقَابٌ تُطْلَقُ وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " ذَيَّلَ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ هَلْ يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ؟ وَهُوَ مُنَازَعٌ فِيهِ.

فرع تأخير المأمور به هل يكون قضاء

[فَرْعٌ تَأْخِيرُ الْمَأْمُورِ بِهِ هَلْ يَكُونُ قَضَاءً] إذَا قُلْنَا بِالْفَوْرِ فِي الْأَوَامِرِ فَإِذَا أَخَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ، فَهَلْ يَكُونُ قَضَاءً لِأَنَّهُ أَوْقَعَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا؟ قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي أَمَالِيهِ ": الْوَقْتُ عَلَى قِسْمَيْنِ: وَقْتٌ يُسْتَفَادُ مِنْ الصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَأْمُورِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الشَّرْعِ حَدَّ لِلْعِبَادَةِ ذَلِكَ الْوَقْتَ أَوْ لَمْ يَحُدَّ، وَوَقْتٌ يَحُدُّهُ الشَّرْعُ لِلْعِبَادَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ اللَّفْظِ اقْتَضَاهُ أَوْ لَا. وَالْمُرَادُ بِالْوَقْتِ فِي حَدِّ الْقَضَاءِ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَحِينَئِذٍ، فَتَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَكُونُ قَضَاءً بَلْ إنَّمَا تَكُونُ إنْ خَرَجَتْ عَنْ وَقْتِهَا الْمَضْرُوبِ لَهَا لَا أَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ. [فَائِدَةٌ الْعِبَادَةُ الَّتِي تَقَعُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَتَكُونُ أَدَاءً] لَيْسَ لَنَا عِبَادَةٌ تَقَعُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَتَكُونُ أَدَاءً غَيْرَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إذَا عَجَّلَهَا قَبْلَ لَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَلَيْسَ لَنَا عِبَادَةٌ يَتَوَقَّفُ قَضَاؤُهَا إلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلٍ: إحْدَاهُمَا: إذَا تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ وَيَكُونُ أَدَاءً عَلَى الْأَظْهَرِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَضَاءً، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى فِيمَا عَدَا أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

مسألة من غلب على ظنه عدم البقاء

الثَّانِيَةُ: النَّوَافِلُ الْمُؤَقَّتَةُ فِيهَا قَوْلٌ أَنَّهَا لَا تُقْضَى إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى. [مَسْأَلَةٌ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الْبَقَاءِ] وَإِذَا كَانَ الِاعْتِبَارُ بِالتَّعْيِينِ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ فِي الْوَقْتِ فَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الْبَقَاءِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَصَى، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَبَقِيَ بَعْدَهُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ أَدَاءٌ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ خَطَأَ ظَنِّهِ، وَرَجَّحَهُ الْهِنْدِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْقَاضِيَانِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَالْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ: قَضَاءٌ، لِأَنَّهُ تَضَيَّقَ بِتَأْخِيرِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَأَخَّرَ عَنْ زَمَنِهِ الْمَحْدُودِ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ: النَّظَرُ إلَى الْحَالِ أَوْ الْمَآلِ؟ فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْحَالِ فَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ، أَوْ إلَى الْمَآلِ فَقَدْ زَالَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَانْكَشَفَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى التَّوَسُّعِ، وَرَجَّحَ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ: إنَّ اعْتِبَارَ الْمَوْجُودِ مُحَقَّقٌ بِخِلَافِ اعْتِبَارِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ خِلَافُهُ اُعْتُبِرَ غَيْرَ مُحَقَّقٍ. وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِيمَا إذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ بَعْدَ الْوَقْتِ: وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً أَصَحُّهُمَا، قَضَاءٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ اعْتِبَارِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: فَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي وُجُوبَ نِيَّةِ الْقَضَاءِ فَبَعِيدٌ، لِوُقُوعِهَا فِي الْوَقْتِ، وَيَلْزَمُهُ لَوْ اعْتَقَدَ انْقِضَاءَ الْوَقْتِ قَبْلَ الْوَقْتِ أَنَّهُ يُعْصَى بِالتَّأْخِيرِ وَقَدْ يَلْتَزِمُهُمَا.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ بَاقٍ حَتَّى يَكُونَ إيجَابُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بَعِيدًا، بَلْ وَقْتُ الْأَدَاءِ خَرَجَ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ فَإِذَا كَذَّبَ ظَنَّهُ، وَاسْتَمَرَّتْ حَيَاتُهُ صَارَ كَمَا لَوْ مَاتَ، ثُمَّ عَاشَ فِي الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ الصَّلَاةَ بِتَكْلِيفٍ ثَانٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ هُنَا. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ ": مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَنْوِي الْقَضَاءَ، لِأَنَّهُ يَقْضِي مَا الْتَزَمَهُ فِي الذِّمَّةِ بِشُرُوعِهِ قَالَ: وَعَلَى قَوْلِ الْقَفَّالِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ. وَأَمَّا الثَّانِي: أَنَّهُ يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ الَّذِي ظَنَّهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، لِعُدُولِهِ عَمَّا ظَنَّهُ الْحَقَّ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الظُّنُونَ لَا مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَصَرَّحَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ الْقَاضِي بِأَنَّ مَعْنَاهُ وُجُوبُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ وَقْتُهُ شَرْعًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ مُقَدَّرًا بِأَصْلِ الطَّلَبِ. قَالَ: وَكَلَامُ الْقَاضِي ظَاهِرٌ لَوْلَا أَنَّهُ يُقَالُ عَلَى مَنْ لَزِمَهُ قَضَاءُ صَلَاةٍ فَأَخَّرَهُ: قَاضِي الْقَضَاءِ. وَرَدَّ الْآمِدِيُّ طَرِيقَةَ الْقَاضِي بِأَنَّ جَمِيعَ الْوَقْتِ كَانَ وَقْتًا لِلْأَدَاءِ قَبْلَ ظَنِّ الْمُكَلَّفِ تَضَيُّقَهُ بِالْمَوْتِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، ثُمَّ ظَنُّ الْمُكَلَّفِ الْمَذْكُورُ إنَّمَا أَثَّرَ فِي تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ بَقَاءُ الْوَقْتِ الْأَصْلِيِّ وَقْتًا لِلْأَدَاءِ فِي حَقِّهِ، كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ، فَإِنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ الْأَصْلِيِّ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَقَدْ وَافَقَ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ. قِيلَ: وَخَرَجَ عَنْ هَذَا مَنْزَعٌ صَعْبٌ عَلَى الْقَاضِي: وَهُوَ أَنَّ الْأَدَاءَ وَالْقَضَاءَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَالْإِثْمَ عَلَى التَّأْخِيرِ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَظَنُّ الْمُكَلَّفِ إنَّمَا يُنَاسِبُ تَأْثِيرَهُ فِي الْأُمُورِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَتُقْلَبُ حَقَائِقُهَا، لِأَنَّهَا

أُمُورٌ تَقْدِيرِيَّةٌ أَوْ تَقْرِيبِيَّةٌ كَالْإِثْمِ وَالثَّوَابِ جَازَ أَنْ يَتْبَعَ الظُّنُونَ وَالِاعْتِقَادَاتِ أَمَّا الْأُمُورُ الْوَضْعِيَّةُ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَلَا يَقْوَى الْمُكَلَّفُ عَلَى قَلْبِ حَقَائِقِهَا. تَنْبِيهٌ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا مَضَى مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ إلَى حِينِ الْفِعْلِ زَمَنٌ يَسَعُ الْفَرْضَ حَتَّى يَتَّجِهَ الْقَوْلُ بِالْقَضَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَفَعَلَهُ، فَلْيَكُنْ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إذَا وَقَعَ بَعْضُ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَبَعْضُهَا خَارِجَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى ظَنِّ هَذَا الْمُكَلَّفِ صَارَ وَقْتُ الْأَدَاءِ الْأَصْلِيُّ وَقْتَ قَضَاءٍ فِي حَقِّهِ هُوَ قَلْبًا لِحَقِيقَةِ أَمْرٍ وَضْعِيٍّ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ. وَأَمَّا الصُّوَرُ الَّتِي قَاسَ عَلَيْهَا الْآمِدِيُّ وَهِيَ تَأْخِيرُ الْمُوَسَّعِ بِدُونِ الْعَزْمِ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ بِحُصُولِ الظَّنِّ الْمُنَاسِبِ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَاضِي، وَالظَّنُّ وُجُودِيٌّ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْآمِدِيَّ فَإِنَّهُ قَدْ عَصَى مَعْصِيَةً عَدَمِيَّةً، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا فَلَا يَقْوَى عَلَى مُنَاسَبَةِ تَغْيِيرِ أَمْرٍ وَضْعِيٍّ. فَرْعٌ لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَتَى بِهَا فِي الْوَقْتِ. قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ: يَكُونُ قَضَاءً، لِأَنَّ بِالشُّرُوعِ يَضِيقُ الْوَقْتُ بِدَلِيلِ امْتِنَاعِ الْخُرُوجِ مِنْهَا فَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهَا بَعْدَهُ إلَّا قَضَاءً، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِيمَا سَبَقَ. وَذَكَرَ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَنَّ فِي نَصِّ الْأُمِّ إشَارَةً إلَيْهِ حَيْثُ مَنَعَ الْخُرُوجَ بَعْدَ التَّلَبُّسِ فَقَالَ: فَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا بِلَا عُذْرٍ كَانَ مُفْسِدًا آثِمًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ

أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْسَلِبُ عَنْهَا اسْمُ الْأَدَاءِ، لِبَقَاءِ الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ شَرْعًا، وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ " فِي اللُّمَعِ " فَقَالَ: فَأَمَّا إذَا دَخَلَ فِيهَا فَأَفْسَدَهَا نَسِيَ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِهَا فَأَعَادَهَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ سُمِّيَ إعَادَةً وَأَدَاءً. انْتَهَى. وَأَشَارَ فِي شَرْحِهَا إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، وَهُوَ حَقٌّ، وَبِهِ يَتَّضِحُ أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لِلْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَأَتْبَاعِهِ دَعْوَاهُمْ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِمْ بِالْقَضَاءِ فِي مُقِيمٍ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ أَفْسَدَهَا، ثُمَّ سَافَرَ لَا يَقْصُرُ، أَوْ مُسَافِرٌ أَتَمَّ وَاقْتَدَى بِمُقِيمٍ، ثُمَّ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ لَا يَقْضِي إلَّا تَمَامًا بِنَاءً عَلَى مَنْعِ قَصْرِ الْفَوَائِتِ، بَلْ الْجَارِي عَلَى وَفْقِ الْفِقْهِ الْقَصْرُ وَاسْتِئْنَافُ الْجُمُعَةِ إذَا وَقَعَ ذَلِكَ فِيهَا مَا بَقِيَ الْوَقْتُ. نَعَمْ. نَقَلَ فِي الشَّامِلِ " عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ: إنْ أَحْرَمَ مُسَافِرٌ بِالصَّلَاةِ، وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّ لَهُ قَصْرَهَا ثُمَّ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، لِأَنَّهُ عَقَدَهَا أَرْبَعًا، فَإِذَا سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِيهَا فَقَدْ قَصَدَ إفْسَادَهَا، وَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ أَنَّهَا تَصِيرُ قَضَاءً بِإِفْسَادِهَا فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ قَالَ: فَرْعٌ: إذَا أَحْرَمَ وَنَوَى الْإِتْمَامَ أَوْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا تَامَّةً، لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ بِالدُّخُولِ فِيهَا، وَكُلُّ عِبَادَةٍ تَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِيهَا إذَا أَفْسَدَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَزِمَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ، كَالْحَجِّ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. اهـ. تَنْبِيهٌ لَا يَجِيءُ هَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ فِيمَا إذَا كَانَ وَقْتُ الْقَضَاءِ مُوَسَّعًا كَالْمَتْرُوكِ

التكليف

بِعُذْرٍ فَإِذَا شَرَعَ فِي قَضَائِهِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يُقْضَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [التَّكْلِيفُ] ُ لُغَةً: مِنْ الْكُلْفَةِ بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ أُصُولِ الْفِقْهِ ": حَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ إرَادَةُ الْمُكَلِّفِ مِنْ الْمُكَلَّفِ فِعْلَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ. اهـ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ ": الْأَمْرُ بِطَاعَةٍ، وَالنَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّكْلِيفُ مَقْرُونًا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَكَانَ مَا تَخَلَّلَ كِتَابَهُ مِنْ الْقِصَصِ عِظَةً وَاعْتِبَارًا تَقْوَى مَعَهَا الرَّغْبَةُ وَيَزْدَادُ بِهَا الرَّهْبَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ الْأَمْرُ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ: أَوْ النَّهْيُ عَمَّا فِي الِامْتِنَاعِ عَنْهُ كُلْفَةٌ، وَعَدَّ النَّدْبَ وَالْكَرَاهَةَ مِنْ التَّكْلِيفِ.

وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ إلْزَامٌ فِيهِ كُلْفَةٌ ، وَعَلَى هَذَا فَالنَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ لَا كُلْفَةَ فِيهِمَا، لِأَنَّهَا تُنَافِي التَّخْيِيرَ. قَالَ فِي الْمَنْخُولِ ": وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ عِبَارَةٌ عَمَّا خُيِّرَ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَالنَّدْبُ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ مُثَابٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَحْصُلْ التَّسَاوِي، وَمَا نَقَلْنَا عَنْ الْقَاضِي تَبِعَنَا فِيهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، لَكِنَّ الَّذِي فِي التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي: أَنَّهُ إلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ كَمَقَالَةِ الْإِمَامِ فَلْيُنْظَرْ، فَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ. وَزَعَمَ الْإِمَامُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْحَظْرَ وَالْوُجُوبَ قَطْعًا، وَلَا يَتَنَاوَلُ الْإِبَاحَةَ قَطْعًا إلَّا عِنْدَ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَفِي تَنَاوُلِهِ النَّدْبَ وَالْكَرَاهَةَ خِلَافٌ وَسَلَكَتْ الْحَنَفِيَّةُ مَسْلَكًا آخَرَ فَقَالُوا: التَّكْلِيفُ يَنْقَسِمُ إلَى وُجُوبِ أَدَاءً، وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالْفِعْلِ إيجَادًا أَوْ إعْدَامًا، وَإِلَى وُجُوبٍ فِي الذِّمَّةِ سَابِقٍ عَلَيْهِ، وَعَنَوْا بِهِ اشْتِغَالَ الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ، وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ صَاحِبُ الذِّمَّةِ لِلْإِلْزَامِ، كَالصَّبِيِّ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ فَإِنَّ ذِمَّتَهُ تَشْتَغِلُ بِالْعِوَضِ، ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ الْأَدَاءُ عَلَى الْوَلِيِّ. وَزَعَمُوا اسْتِدْعَاءَ التَّكْلِيفِ الْأَوَّلِ عَقْلًا وَفَهْمًا لِلْخِطَابِ بِخِلَافِ الثَّانِي: قَالُوا: الْأَوَّلُ مُتَلَقًّى مِنْ الْخِطَابِ، وَالثَّانِي مِنْ الْأَسْبَابِ فَمُسْتَغْرِقُ الْوَقْتِ

مسألة التكليف حسن في العقول

بِالنَّوْمِ يَقْضِي الصَّلَاةَ مَعَ ارْتِفَاعِ قَلَمِ التَّكْلِيفِ عَنْ النَّائِمِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ مُضَافًا إلَى أَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ دُونَ الْخِطَابِ وَجَبَ الْقَضَاءُ لِذَلِكَ. وَزَعَمُوا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْوَقْتُ، وَالصَّوْمِ الشَّهْرُ، وَتَسَلَّقُوا بِهِ إلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، إذْ الْوُجُوبُ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الشَّهْرُ، وَقَدْ وُجِدَ، وَعِنْدَنَا لَا وُجُوبَ إلَّا بِالْخِطَابِ لَا بِالْأَسْبَابِ. [مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ حَسَنٌ فِي الْعُقُولِ] التَّكْلِيفُ حَسَنٌ فِي الْعُقُولِ إذَا تَوَجَّهَ إلَى مَنْ عُلِمَتْ طَاعَتُهُ، وَاخْتُلِفَ فِي حُسْنِهِ إذَا تَوَجَّهَ إلَى مَنْ عُرِفَتْ مَعْصِيَتُهُ، فَاسْتَحْسَنَهُ الْمُعْتَزِلَةُ، لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا لِلثَّوَابِ، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهُ الْأَشْعَرِيَّةُ، لِأَنَّهُ بِالْمَعْصِيَةِ مُعَرَّضٌ لِلْعِقَابِ. كَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ دَلَائِلِ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ ". قَالَ: وَالْأَوَّلُ: أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ: وَلَمْ أَعْرِفْ لَهُمْ فِيهِ قَوْلًا. [مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ هَلْ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالْأَصْلَحِ] اُخْتُلِفَ فِي التَّكْلِيفِ هَلْ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالْأَصْلَحِ؟

فَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْأَصْلَحِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَنْفَعَةُ الْعِبَادِ. وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ وَجَمْعٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى الْأَشْعَرِيَّةِ إلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ مَصْلَحَةٍ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا، فَمَنْ اعْتَبَرَ بِالْأَصْلَحِ مَنَعَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَبِهِ يَصِحُّ تَكْلِيفُ مَا لَحِقَتْ فِيهِ الْمَشَقَّةُ الْمُحْتَمَلَةُ. وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، فَجَوَّزَهَا الْفُقَهَاءُ، وَمَنَعَ مِنْهَا بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَدْ وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَمُتَعَلَّقُ التَّكْلِيفِ اكْتِسَابُ الْعَبْدِ الْأَفْعَالَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِهَا وَلَا بِحُدُوثِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ. التَّكْلِيفُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِيجَادِ وَالْإِحْدَاثِ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ خَلْقُ الْأَفْعَالِ عِنْدَهُمْ. وَلَا يُعْقَلُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: التَّكْلِيفُ وَهُوَ الْمَصْدَرُ، وَالْمُكَلَّفُ وَهُوَ مَنْ يَقُومُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَأَصْلُهُ طَالِبٌ مُلْزِمٌ، لَكِنْ قَدْ حَقَّقْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا طَاعَةَ اللَّهِ، وَطَاعَةَ مَنْ أَوْجَبَ طَاعَتَهُ الْمُكَلَّفُ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَدْعَى مِنْهُ الْفِعْلَ، وَالْمُكَلَّفُ بِهِ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنَّمَا يُشْتَقُّ اسْمُ الْفَاعِلِ، أَوْ الْمَفْعُولِ مِنْ الْمَصَادِرِ، فَلِهَذَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى

المكلف

التَّكْلِيفِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ مَعْرِفَةُ الطَّائِعِ لِيُثَابَ وَالْعَاصِي لِيُعَاقَبَ، فَلِهَذَا اُشْتُرِطَ لِهَذَا شُرُوطٌ بَعْضُهَا فِي الْمُكَلَّفِ، وَبَعْضُهَا فِي الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَحُكْمُ الْمُكَلَّفِ وَالتَّكْلِيفِ قَدْ عُرِفَا فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى الْأَخِيرَيْنِ. [الْمُكَلَّفُ] الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُكَلَّفُ وَهُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَلَهُ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: الْحَيَاةُ: فَالْمَيِّتُ لَا يُكَلَّفُ وَإِنْ جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ الْمُحَالِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ وَصَلَ عَظْمَهُ بِنَجَسٍ لَمْ يُنْزَعْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ مَاتَتْ الْمُعْتَدَّةُ الْمُحْرِمَةُ جَازَ تَطْيِيبُهَا نَظَرًا إلَى أَنَّ الْخِطَابَ سَقَطَ بِالْمَوْتِ. نَعَمْ قَدْ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّكْلِيفِ، وَلِهَذَا يُمْتَنَعُ تَكْفِينُ الرَّجُلِ بِالْحَرِيرِ، وَكَذَا بِالزَّعْفَرَانِ وَالْمُعَصْفَرِ إنْ مَنَعْنَاهُ فِي الْحَيَاةِ كَمَا هُوَ الْمَنْصُوصُ، وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ إذَا مَاتَ يَحْرُمُ تَطْيِيبُهُ، وَإِزَالَةُ شَعْرِهِ وَظُفْرِهِ. وَعَلَّلَهُ الْقَفَّالُ بِأَنَّ الْحَجَّ أَلْزَمُ الْعُقُودِ فَبَقِيَ حُكْمُهُ كَمَا يَبْقَى حُكْمُ الْإِسْلَامِ. وَلَوْ مَاتَ الْمُحْرِمُ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْحَلْقُ فَإِذَا حَلَقَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَفِي وُقُوعِهِ الْمَوْقِعَ نَظَرٌ لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا.

فرع تكليف من أحيي بعد موته

[فَرْعٌ تَكْلِيفُ مَنْ أَحُيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ] تَكْلِيفُ مَنْ أَحُيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ مَنْ أُحْيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَاَلَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَكَالْخَارِجِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ أُلُوفٌ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ": اُخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ تَكْلِيفِ مَنْ أُعِيدَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقِيلَ: يَبْقَى، لِئَلَّا يَخْلُوَ عَاقِلٌ مِنْ تَعَبُّدٍ، وَقِيلَ: يَسْقُطُ، فَالتَّكْلِيفُ مُعْتَبَرٌ بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ. اهـ.، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ ": إذَا جَازَ تَكْلِيفُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُ أَهْلِ الْآخِرَةِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْآخِرَةِ الِاضْطِرَابُ إلَى الْمَعْرِفَةِ، وَبَعْدَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَا تَكْلِيفَ وَأَهْلُ الصَّاعِقَةِ يَجُوزُ كَوْنُهُ تَعَالَى لَمْ يَضْطَرَّهُمْ فَصَحَّ تَكْلِيفُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. اهـ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْحَقُّ أَنَّ الْآيَاتِ الْمُضْطَرَّةَ لَا تَمْنَعُ التَّكْلِيفَ، وَ [الْيَهُودُ] قَدْ أَبَوْا أَخْذَ الْكِتَابِ، فَرَفَعَ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ، فَآمَنُوا وَقَبِلُوهُ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا آيَةٌ مُضْطَرَّةٌ. وَقَوْلُ الرَّازِيَّ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ فِي الْآخِرَةِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمَعْرِفَةِ بَاقٍ فِيهَا، وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ تُؤَجَّجُ نَارٌ وَيُؤْمَرُونَ بِالدُّخُولِ فِيهَا، فَمَنْ أَقْبَلَ عَلَى ذَلِكَ صُرِفَ عَنْهَا، وَهَذَا تَكْلِيفٌ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُمْ: الْآخِرَةُ دَارُ جَزَاءٍ، وَالدُّنْيَا دَارُ تَكْلِيفٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَغْلَبِ فِي كُلِّ دَارٍ فِي الْآخِرَةِ الْجَزَاءُ كَمَا فِي الدُّنْيَا التَّكْلِيفُ. [الشَّرْطُ] الثَّانِي: كَوْنُهُ مِنْ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ فَيَخْرُجُ الْبَهَائِمُ وَالْجَمَادَاتُ. وَحَكَى الْقَاضِي وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَحَكَى صَاحِبُ الْمُعْتَمَد " عَنْ أَهْلِ التَّنَاسُخِ، أَنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ تَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَنَّ جَمِيعَهَا عُقَلَاءُ مُكَلَّفُونَ لِفَرَائِض اللَّهِ. وَعَنْ الْآخَرِينَ تَكْلِيفُ الْجِبَالِ وَالْأَشْجَارِ وَالْحِيطَانِ وَالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ. وَرُدَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ قِرَدَةً رَجَمُوا مَنْ زَنَى بَيْنَهُمْ، فَإِنْ، صَحَّ فَلَعَلَّهُ مِنْ بَقَايَا مَنْ كُلِّفَ. [الشَّرْطُ] الثَّالِثُ: الْبُلُوغُ: فَالصَّبِيُّ لَيْسَ مُكَلَّفًا أَصْلًا لِقُصُورِ فَهْمِهِ عَنْ إدْرَاكِ مَعَانِي الْخِطَابِ. قَالَ الْإِمَامُ فِي الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ ": وَمُدْرِكُ شَرْطِهِ الشَّرْعُ، وَلَوْ رَدَدْنَا إلَى الْعَقْلِ لَمْ يَسْتَحِلْ تَكْلِيفُ الْعَاقِلِ الْمُمَيِّزِ مِنْ الصِّبْيَانِ.

وَقَالَ فِي بَابِ الْحَجْرِ مِنْ النِّهَايَةِ ": كَأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُلْزِمْ الصَّبِيَّ قَضَايَا التَّكْلِيفِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ مِنْ مَظِنَّةِ الْغَبَاوَةِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ فَلَا يَسْتَقِلُّ بِأَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ عَرَى عَنْ الْبَلِيَّةِ الْعُظْمَى، وَهِيَ الشَّهْوَةُ فَرَبَطَ الشَّرْعُ الْتِزَامَ التَّكْلِيفِ بِأَمَدٍ وَتَرْكِيبِ الشَّهْوَةِ، أَمَّا الْأَمَدُ فَيُشِيرُ إلَى التَّهْذِيبِ بِالتَّجَارِبِ، وَأَمَّا تَرْكِيبُ الشَّهْوَةِ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ لِلْبَلَايَا الْعِظَامِ، فَرَأَى الشَّرْعُ تَثْبِيتَ التَّكْلِيفِ مَعَهُ زَاجِرًا. وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ مُرَادُهُمْ وُجُوبُ الْأَخْذِ مِنْ مَالِهِ لَا خِطَابُ الْأَدَاءِ. وَنَقَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ أَنَّ الصَّبِيَّ مُخَاطَبٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ خِطَابُ الْوَضْعِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ " فِي الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي بَابِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ: الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَدْخُلَانِ فِي خِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278] وَيَدْخُلَانِ فِي خِطَابِ الْإِلْزَامِ، كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ} [النساء: 92] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ نَحْوَهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالطُّرْطُوشِيُّ: الصَّبِيُّ لَا يَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ التَّكْلِيفُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالْإِخْبَارِ لَا وُجُوبَ لَا يُنَافِيهِ الصِّغَرُ لِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الزَّكَاةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِمَالِهِ، وَيُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَلِيُّهُ. وَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ تَدْخُلُ فِي حَقِّ الْأَطْفَالِ مِنْ النِّسَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] الْآيَةُ. وَعَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ عَلَى ابْنِ الْعَشْرِ وُجُوبَ مِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ بِتَرْكِهَا، إذْ لَوْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ لَمَا ضُرِبَ عَلَيْهَا وَقَالَ الْقَاضِي الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " قُبَيْلَ بَابِ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ: وَأَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " إلَى أَنَّهَا تَجِبُ قَبْلَ بُلُوغِهِ، وَلَكِنْ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا عُقُوبَةَ الْبَالِغِ. وَرَأَيْت كَثِيرًا مِنْ الْمَشَايِخِ مُرْتَكِبِينَ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ إذَا بَلَغَ عَشْرًا. اهـ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي الرِّسَالَةِ " بِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَا يَجِبَانِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَاسْتَصْوَبَ الْإِمَامُ فِي الْأَسَالِيبِ " قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ. قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهَا وَمَلُومٌ عَلَى تَرْكِهَا، وَمَا حَكَاهُ عَنْ النَّصِّ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ

عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ وَلِيِّهِ، لِأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِهَا وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَاَلَّذِي يَسْتَدْعِي التَّكْلِيفَ إنَّمَا هُوَ أَمْرُ اللَّهِ. وَأَمَّا أَفْهَمِيَّةُ الْعِقَابِ فَهُوَ الضَّرْبُ عَلَى تَرْكِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوُجُوبِ. أَمَّا الْإِيجَابُ وَدُخُولُهُ فِي خِطَابِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَدْخُلُ فِيهِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ السُّبْكِيُّ أَنَّ الصَّبِيَّ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ نَحْوِ قَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] فَإِنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالنَّاسِ وَهُوَ مِنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَبِيٍّ «يَا بُنَيَّ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيك» قَالَ: وَعَدُّ الْأُصُولِيِّينَ ذَلِكَ فِي أَمْرِ التَّأْدِيبِ لَا يَضُرُّنَا. قَالَ: وَالصَّبِيُّ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ أَمْرَ إيجَابٍ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ الْأَمْرُ الْجَازِمُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الصَّبِيِّ لَكِنَّ الْوُجُوبَ تَخَلَّفَ عَنْهُ، لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا بِالْأَدِلَّةِ. عَلَى أَنَّ الْفَهْمَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، وَلِرَفْعِ الْقَلَمِ إنْ كَانَ مُمَيِّزًا. وَإِذَا فَسَّرْنَا الْإِيجَابَ بِالْأَمْرِ الْجَازِمِ لَمْ يُمْتَنَعْ تَخَلُّفُ الْوُجُوبِ لِمَعْنَى التَّكْلِيفِ عَنْ الْإِيجَابِ بِمَعْنَى الْجَزْمِ، وَلَا نَعْنِي بِالْجَازِمِ الْمَنْعَ مِنْ هَذِهِ إنَّمَا الْجَزْمُ صِفَةٌ لِلطَّلَبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى رُتْبَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَرُتْبَةُ الْفَرْضِ هِيَ

الْعُلْيَا، لِأَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِيهَا، وَالْمَنْدُوبُ فِيهِ رُخْصَةٌ مُنْحَطَّةٌ عَنْ رُتْبَةِ الْوَاجِبِ، وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ: وَالشَّخْصُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ الْأَمْرُ يُعْتَبَرُ فِيهِ أُمُورٌ إنْ وُجِدَتْ تَرَتَّبَ مُقْتَضَاهُ كَالْوُجُوبِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْإِيجَابِ وَإِلَّا فَلَا. وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَسْتَبْعِدْهُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الَّذِي اقْتَضَتْ رُخْصَةُ اللَّهِ رَفْعَ الْقَلَمِ عَنْهُ. انْتَهَى. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ " فِي بَابِ حَجِّ الصَّبِيِّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ بَعْضَ الْفَرْضِ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَذَكَرَ الْعِدَّةَ وَذَكَرَ مَا يَلْزَمُهُ فِيمَا اُسْتُهْلِكَ مِنْ أَمْتِعَةِ النَّاسِ. قَالَ: وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ أَوْ يَبْلُغَ الْمَأْثَمَ فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا. أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيًّا هُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا رَوَى؟ كَانَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ عَنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى الصِّغَارِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَإِنَّمَا نَسَبَ هَذَا الْكَلَامَ إلَى عَلِيٍّ، لِأَنَّهُ عَنْهُ يَصِحُّ، وَقَدْ رَفَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَةِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَوَقَفَهُ عَلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ. اهـ. وَسَلَكَ الْقَفَّالُ طَرِيقًا آخَرَ فِي الْإِيجَابِ، فَقَالَ: إنَّ الصَّبِيَّ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ أَمْرَ إيجَابٍ، لِأَنَّهُ آكَدُ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِهَا.

قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي الْأَسْرَارِ ": فَقُلْت لَهُ: لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ. قَالَ: أَمَرَ الْأَوْلِيَاءَ لِيَأْمُرُوهُ فَهُوَ كَأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِيمَا يَلْزَمُ أُمَّتَهُ. وَفِيمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ الْوَلِيُّ، وَفِي أَمْرِ الْأَوْلِيَاءِ بِالضَّرْبِ عِنْدَ تَرْكِ الصَّلَاةِ مَا يُصَرِّحُ بِنَفْيِ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ، إذْ لَوْ كَانُوا مُكَلَّفِينَ لَمْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْوَلِيِّ كَمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَرْبُ اسْتِصْلَاحٍ كَالْبَهِيمَةِ. وَزَعَمَ الْحَلِيمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: أَنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ الصَّبِيُّ مُكَلَّفًا، وَهُوَ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يُولَدَ لَهُ، ثُمَّ اُعْتُبِرَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ، وَحَمَلَا عَلَيْهِ حَدِيثَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ الصَّبِيِّ» فَإِنَّ الرَّفْعَ يَقْتَضِي الْوَضْعَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْبُلُوغِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ عَقْلِيٌّ لِلتَّكْلِيفِ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْعِبَادَةِ أَوْ شَرْعِيٌّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ: لَا يُخَاطَبُ الصَّبِيُّ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الصَّبِيِّ فَلَا يُخَاطَبُ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ،

وَهَلْ انْتِفَاءُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ الْحُكْمِ كَمَا قَبْلَ الشَّرْعِ أَوْ حُكْمٌ مِنْ اللَّهِ تَخْفِيفًا عَنْهُ؟ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ، وَعَلَيْهِ يُنْبِي مَا سَبَقَ فِي مَعْنَى رَفْعِ الْقَلَمِ. وَهَلْ يُخَاطَبُ بِالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ؟ الْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْحَابِنَا فِي الْفُرُوعِ حَيْثُ قَالُوا: إنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِالنَّدْبِ، وَلِهَذَا جَعَلُوا لَهُ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: إذَا عَلَّقْنَا التَّكْلِيفَ بِالْبُلُوغِ، فَهَلْ يَصِيرُ مُكَلَّفًا بِمُجَرَّدِهِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنْ الزَّمَانِ مَا يُمْكِنُهُ فِيهِ التَّعْرِيفُ وَالْقَبُولُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. حَكَاهُمَا الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ فِي كِتَابِ " فَهْمِ السُّنَنِ ". قَالَ: وَقَوْلُنَا: إنَّهُ يَصِيرُ مُكَلَّفًا فِي الْوَقْتِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَانِعٌ، فَإِذَا انْقَضَى وَقْتُ أَدَائِهِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ كَانَ عَاصِيًا بِتَرْكِهِ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ بِهِ. [الشَّرْطُ] الرَّابِعُ: الْعَقْلُ فَالْمَجْنُونُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ إجْمَاعًا، وَيَسْتَحِيلُ تَكْلِيفُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَلَا يَبْعُدُ مِنْ الْقَائِلِينَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ جَوَازُ تَكْلِيفِهِ كَالْغَافِلِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِوُجُوبِ قَضَاءِ الصَّوْمِ عَلَى الْمَجْنُونِ. نَصَّ عَلَيْهَا فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، وَضَعَّفَهَا مُحَقِّقُو أَصْحَابِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى غَيْرِ الْمَجْنُونِ الْمُطْبِقِ، كَمَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا.

قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي الْمُرْشِدِ ": وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمَجْنُونُ مَأْمُورٌ بِشَرْطِ الْإِفَاقَةِ كَمَا يُوَجَّهُ عَلَى الْمَعْدُومِ بِشَرْطِ الْوُجُودِ، وَيَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الصَّبِيِّ، وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا الْجُنُونُ الطَّارِئُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْ الْمُقَارِنِ لَهُ. نَعَمْ طُرُوءُ الْجُنُونِ عَلَى الْكَافِرِ لَا يَمْنَعُ التَّكْلِيفَ، وَلِهَذَا لَوْ جُنَّ الْمُرْتَدُّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَإِنْ سَقَطَتْ عَنْ الْمَجْنُونِ الْمُسْلِمِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَمِقْدَارُ الْعَقْلِ الْمُقْتَضِي لِلتَّكْلِيفِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا بَيْنَ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ وَيَسْتَشْهِدَ عَلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ بِاضْطِرَارٍ، فَمَنْ كَانَ هَذَا وَصْفُهُ كَانَ عَاقِلًا، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ مُتَفَاوِتِينَ فِي تَكَامُلِ الْعُقُولِ كُلِّفَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَصِلُ إلَيْهِ عَقْلُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجَازِي كُلَّ إنْسَانٍ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ» وَانْظُرْ إلَى قَوْلِ عُمَرَ لِرَجُلٍ عَيِيٍّ. أَشْهَدُ أَنَّ خَالِقَك وَخَالِقَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَاحِدٌ.

وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ مِنْ تَعْلِيقِهِ ": جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ: " عَلِّمُوا النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ "؟ أَيْ لَا تَنْبُوَا الْأَفْهَامُ عَنْهُ، فَيُكَذَّبُونَ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: إنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَى الْعَقْلِ. [الشَّرْطُ] الْخَامِسُ: الْفَهْمُ وَالْمَعْنَى فِيهِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاعِدِ ": إنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ وَالِامْتِثَالُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ ضَرُورِيٌّ فَيُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْغَافِلِ كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي لِمُضَادَّةِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْفَهْمَ، فَيَنْتَفِي شَرْطُ صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى امْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» . وَأَمَّا إيجَابُ الْعِبَادَةِ عَلَى النَّائِمِ وَالْغَافِلِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ حَالَةَ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ، لِأَنَّ الْإِيجَابَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّائِمُ يَضْمَنُ مَا يُتْلِفُهُ فِي نَوْمِهِ؟ قُلْنَا: الْخِطَابُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْهُ حَالَةَ النَّوْمِ، وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ أَتْلَفَ الصَّبِيُّ شَيْئًا ضَمِنَهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ. وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي الْأَسْرَارِ ": النَّهْيُ لَا يُلَاقِي السَّاهِيَ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ

التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ وَكَفَّارَةِ الْخَطَأِ لِكَوْنِ الْفِعْلِ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَحْظُورٌ عَقْدُهُ إلَّا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: مَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ مِنْ أَنَّ السَّاهِيَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ لَا يُنَافِيهِ تَحْنِيثُ الْفُقَهَاءِ لَهُ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّ تَحْنِيثَهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْلِيفِ بَلْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَهَذَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ كَالصَّبِيِّ. وَقَالَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ ": مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالنَّوْمِ وَطَبَقَ الْوَقْتَ، فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ. وَصَارَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى تَكْلِيفِ النَّائِمِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ عَنَوْا بِهِ ضَمَانَ الْمُتْلِفَاتِ وَنَحْوُهُ فَالْمَجْنُونُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ إجْمَاعًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَوْجَبْتُمْ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ؟ قُلْنَا: لِلْأَمْرِ الْجَدِيدِ قَالَ: وَالْحُكْمُ فِي السَّاهِي وَالْجَاهِلِ كَالنَّائِمِ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَكَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ يُنَازَعُ فِيهِ.

فروع الانشغال عن الصلاة بلعب الشطرنج

وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": النَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ وَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ هَلْ يُخَاطَبُونَ أَمْ لَا؟ ذَهَبَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ، وَنَقَلَ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ثُبُوتُ الْفِعْلِ فِي الذِّمَّةِ وَلَمَّا لَمْ يَتَصَوَّرْ الْمُتَكَلِّمُونَ هَذَا مَنَعُوهُ. اهـ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنِسْيَانُ الْأَحْكَامِ بِسَبَبِ قُوَّةِ الشَّهَوَاتِ لَا يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ، كَمَنْ رَأَى امْرَأَةً جَمِيلَةً، وَهُوَ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ النَّظَرِ إلَيْهَا فَنَظَرَ إلَيْهَا غَافِلًا عَنْ تَحْرِيمِ النَّظَرِ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ لَا يَقَعُ الْأَمْرُ فِيهِ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ، لِامْتِنَاعِ الْأَمْرِ بِمَا لَا يُهَيَّأُ قَصْدٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ تَرْكَهُ لَمْ يَكُنْ نَاسِيًا لَهُ، وَالْمُرْتَفِعُ إنَّمَا هُوَ الْإِثْمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» وَكُلُّ مَا أَخْطَأْت بَيْنَك وَبَيْنَ رَبِّك فَغَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ، وَأَمَّا الْخَطَأُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعِبَادِ فَيَضْمَنُهُ، وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ وَغَيْرُهُ. [فُرُوعٌ الِانْشِغَالُ عَنْ الصَّلَاةِ بِلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ] الِانْشِغَالُ عَنْ الصَّلَاةِ بِلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ لَوْ شَغَلَهُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ غَافِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَثُرَ وَتَكَرَّرَ فَسَقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ.

تكليف السكران

قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَكَذَا ذَكَرُوهُ، وَفِيهِ إشْكَالٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْصِيَةِ الْغَافِلِ وَالسَّاهِي، ثُمَّ قِيَاسُهُ الطَّرْدُ فِي شُغْلِ النَّفْسِ بِسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ. قُلْت: وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ نِسْيَانَ الْعِبَادَةِ لِسَبَبِ الشَّهْوَةِ لَا يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ فَلَا يَرِدُ إشْكَالُ الرَّافِعِيِّ. [تَكْلِيف السَّكْرَان] تَنْبِيهٌ [السَّكْرَانُ] السَّكْرَانُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ مِنْهُمْ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " وَالْغَزَالِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي الْأَسَالِيبِ ": السَّكْرَانُ عِنْدَنَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ تَوَجُّهُ الْخِطَابِ عَلَى مَنْ لَا يَتَصَوَّرُ، وَلَكِنْ غُلِّظَ الْأَمْرُ فِي سُكْرِهِ رَدْعًا وَمَنْعًا، فَأُلْحِقَ بِالصَّاحِي. مِمَّنْ قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ مُجَلِّي فِي الذَّخَائِرِ "، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ: وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ " عَنْ أَصْحَابِنَا الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ: وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ حَالَةَ السُّكْرِ، وَمُرَادُنَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ.

قُلْت: وَالصَّحِيحُ: أَنَّ السَّكْرَانَ الْمُعْتَدِيَ بِسُكْرِهِ مُكَلَّفٌ مَأْثُومٌ. هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ " فَقَالَ: وَمَنْ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ نَبِيذًا فَأَسْكَرَهُ فَطَلَّقَ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَالْحُدُودُ كُلُّهَا وَالْفَرَائِضُ، وَلَا تُسْقِطُ الْمَعْصِيَةُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْمَعْصِيَةُ بِالسُّكْرِ مِنْ النَّبِيذِ عَنْهُ فَرْضًا وَلَا طَلَاقًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَذَا مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ، وَالْمَرِيضُ وَالْمَجْنُونُ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ. قِيلَ: الْمَرِيضُ مَأْجُورٌ وَمُكَفَّرٌ عَنْهُ بِالْمَرَضِ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ. وَهَذَا آثِمٌ مَضْرُوبٌ عَلَى السُّكْرِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عَنْهُ الْقَلَمُ، فَكَيْفَ يُقَاسُ مَنْ عَلَيْهِ الْعِقَابُ بِمَنْ لَهُ الثَّوَابُ؟ وَالصَّلَاةُ مَرْفُوعَةٌ عَنْ مَنْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ وَلَا تُرْفَعُ عَنْ السَّكْرَانِ، وَكَذَلِكَ الْفَرَائِضُ مِنْ حَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. اهـ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَنُسِبَ مُقَابِلُهُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِهَذَا صَحَّحَ الشَّافِعِيُّ تَصَرُّفَاتِهِ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ فِيمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِقَوْلِهِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ» . قَالَ: وَالسَّكْرَانُ لَيْسَ فِي مَعْنَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ ". الْمَرِيضُ مَأْجُورٌ مُكَفَّرٌ عَنْهُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ، وَهَذَا آثِمٌ مَضْرُوبٌ عَلَى السُّكْرِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عَنْهُ الْقَلَمُ. اهـ. قِيلَ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ مَضْرُوبٌ عَلَى السُّكْرِ ": فِيهِ تَجَوُّزٌ إنَّمَا هُوَ عَلَى الشُّرْبِ سَكِرَ أَمْ لَمْ يَسْكَرْ، لَكِنَّهُ يُرِيدُ عَلَى سَبَبِ السُّكْرِ.

وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَكْلِيفِهِ مَعَ إخْرَاجِ الْأُصُولِيِّينَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ مَنْ لَا يَفْهَمُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: بَلْ السَّكْرَانُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ النَّائِمِ الَّذِي يُمْكِنُهُ تَنْبِيهُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ قَوْلًا ثَالِثًا مُفَصِّلًا بَيْنَ السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ لِلتَّغْلِيظِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى السَّكْرَانِ الَّذِي يَنْتَقِلُ عَنْ رُتْبَةِ التَّمْيِيزِ دُونَ الطَّافِحِ الْمُغْشَى عَلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْغَافِلِ مُطْلَقًا، فَقَدْرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَجُلُّ عَنْ ذَلِكَ. قُلْت: وَبِالثَّانِي صَرَّحَ أَبُو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَالْأَقْرَبُ احْتِمَالٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي حَقِّهِ مُسْتَصْحَبٌ لَا وَاقِعٌ وُقُوعًا مُبْتَدَأً كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْخَارِجِ مِنْ الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ: إنَّهُ مُرْتَبِكٌ فِي الْمَعْصِيَةِ. الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ اخْتَلَفُوا فِي الْجَوَابِ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْتِزَامِهِ بِقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ، فَقِيلَ: لَا دَلَالَةَ دَالَّةٌ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي حَقِّهِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَمَّا كَانَ سُكْرُهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي

دَعْوَى السُّكْرِ لِفِسْقِهِ أَلْزَمْنَاهُ حُكْمَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَطَرَدْنَا مَا لَزِمَهُ فِي حَالِ الْيَقِظَةِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إلْزَامُنَا لَهُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ وَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ. وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَلِكَ وَقَالَ: هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ خِطَابَ الْوَضْعِ لَا يَقْتَضِي قَتْلًا وَلَا إيقَاعَ طَلَاقٍ وَلَا إلْزَامَ حَدٍّ، وَكَوْنُ الزِّنَا جُعِلَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ. قُلْت: الطَّلَاقُ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْخِطَابَانِ، لِأَنَّهُ إمَّا مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ، فَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ هُوَ مُحَرَّمٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ سَبَبًا لِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَثُبُوتُ الْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ خِطَابُ وَضْعٍ فَقَطْ لَا تَكْلِيفٌ. حَقُّهُ كَمَا فِي الْإِرْثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ ": اُخْتُلِفَ فِي السَّكْرَانِ، فَقِيلَ: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، لِزَوَالِ عَقْلِهِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ فِي الشَّرِيعَةِ مُخَاطَبٌ مُكَلَّفٌ تَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ فِي حَالِ سُكْرِهِ إذَا كَانَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِأَمْرٍ عَصَى اللَّهَ فِيهِ، فَعُوقِبَ بِأَنْ أُلْحِقَ بِالْمُكَلَّفِينَ رَدْعًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ. قَالَ: وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ جَائِزٌ مُحْتَمَلٌ لِوُرُودِ الشَّرِيعَةِ بِهِمَا. اهـ. قُلْت: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ الْمُنْتَهِي إلَى مَا لَا يَعْقِلُ أَلْبَتَّةَ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ شَرْحِ الْمِفْتَاحِ "، فَقَالَ: قُلْت: وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي تَصَرُّفِ السَّكْرَانِ: إنَّ السَّكْرَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَعْقِلُ مَا يَقُولُ: فَهَذَا مُخَاطَبٌ وَتَصِحُّ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهِ،

وَالثَّانِي: لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ، وَقَدْ زَالَ عَقْلُهُ وَذَهَبَ حِسُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهَذَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ، وَهَذَا أَدْوَنُ حَالَةً مِنْ الْمَجْنُونِ هَذَا هُوَ اخْتِيَارِي. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِمَامِ فِي النِّهَايَةِ "، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ إذَا انْتَهَى إلَى حَالَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِإِلْحَاقِهِ بِهِمَا. قَالَ: وَأَبْعَدَ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمَحْصُولِ " الْخِلَافُ فِي الْمُلْتَجِّ أَمَّا الْمُنْتَشِي، فَمُكَلَّفٌ إجْمَاعًا. قُلْت: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُهُمْ عَنْ الْآيَةِ، وَمِمَّنْ أَطْلَقَ تَكْلِيفَ السَّكْرَانِ شَيْخَا الْمَذْهَبِ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَفَّالُ، وَنَقَلَاهُ عَنْ الْمَذْهَبِ، وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي فَتَاوِيهِ " وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ مِنْ شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ " وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " عَنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ نَقَلَ الْمَنْعَ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَّا وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: قَالَ أَبِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَجَدْت السَّكْرَانَ لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ عَنْهُ الْقَلَمُ، وَكَانَ أَبِي يُعْجِبُهُ هَذَا وَيَذْهَبُ إلَيْهِ. اهـ. وَأَطَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ " عَدَمَ تَكْلِيفِهِ، ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ: إنَّهُ مُكَلَّفٌ لَكِنْ بَعْدَ السُّكْرِ بِمَا كَانَ فِي السُّكْرِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مَجْمَعُ مَذَاهِبِ الْفَرِيقَيْنِ. وَصَرَّحَ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ " بِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ مَعَ تَقْرِيرِهِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ مُؤَاخَذَتَهُ الْمُصَرِّحَةُ بِالتَّكْلِيفِ، وَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِمَا سَبَقَ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْنَعُ تَوَجُّهَ الْخِطَابِ إلَيْهِ، أَمَّا ثُبُوتُ الْأَحْكَامِ فِي حَقِّهِ، وَتَنْفِيذُ بَعْضِ أَقْوَالِهِ فَلَا يُمْنَعُ. قَالَ: وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي تَكَالِيفِ النَّاسِي فِي اسْتِمْرَارِ نِسْيَانِهِ، إذْ لَوْ كَانَ مِمَّنْ فَهِمَ الْخِطَابَ، لَكَانَ مُتَذَكِّرًا لَا نَاسِيًا، قَالَ: وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ بِتَكْلِيفِهِ بَنَاهُ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: الظَّاهِرُ عِنْدَنَا تَكْلِيفُ السَّكْرَانِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: التَّكْلِيفُ بِمَعْنَى إيجَابِ الْقَضَاءِ عَامٌّ فِي النَّاسِي وَالنَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ، وَبِمَعْنَى عَدَمِ الْخِطَابِ حَاصِلٌ فِي النَّائِمِ وَالنَّاسِي. وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ يُلْحَقُ بِهِمَا، وَعِنْدَنَا بِخِلَافِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ

أَنَّهُ مُخَاطَبٌ حَالَةَ السُّكْرِ، وَكَذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ عَبْدَانَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَكْلِيفِ السَّكْرَانِ بِاعْتِبَارِ تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ لَا إشْكَالَ فِيهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَقَدْ يُدْخِلُونَهُ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ كَمَا أَدْخَلَتْهُ طَائِفَةٌ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ. وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْإِثْمِ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُ حَالَ السُّكْرِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نَشَاطٌ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ طَافِحًا أَوْ مُخْتَلِطًا فَمَحَلُّ نَظَرٍ. وَلَعَلَّ الْفُقَهَاءَ لَا يَرَوْنَ الْإِثْمَ، أَوْ لَعَلَّهُمْ يُرِيدُونَ الطَّافِحَ، وَالْأُصُولِيُّونَ يُرِيدُونَ الْمُخْتَلِطَ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ فِيهِمَا تَكْلِيفٌ مَعَ الْغَفْلَةِ. [الشَّرْطُ] السَّادِسُ الِاخْتِيَارُ فَيُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْمُلْجَأِ، وَهُوَ مَنْ لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عَنْ الْفِعْلِ مَعَ حُضُورِ عَقْلِهِ كَمَنْ يُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ فَهُوَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْوُقُوعِ، وَلَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ، وَلَا هُوَ بِفَاعِلٍ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ آلَةٌ مَحْضَةٌ كَالسِّكِّينِ فِي يَدِ الْقَاطِعِ، وَحَرَكَةٌ كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَمِثْلُهُ الْمُضْطَرُّ. وَاتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ إلَى فِعْلٍ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي اُضْطُرَّ إلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَوْقَ الْمُلْجَأِ، وَعِنْدَنَا مِثْلُهُ، كَمَنْ شُدَّ وَثَاقُهُ وَأُلْقِيَ عَلَى شَخْصٍ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِتَكْلِيفِهِ، فَقَالُوا: الْمُضْطَرُّ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجِبُ. قَدْ يُوَجَّهُ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَيُقَالُ: لَا فِعْلَ لِلْمُضْطَرِّ وَلَا اخْتِيَارَ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِيجَابُ وَيَكْتَفِي بِصُورَةِ الدَّاعِيَةِ، لَكِنْ جِهَةُ التَّكْلِيفِ فِيهِ سَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي الْمُكْرَهِ. وَكَذَلِكَ يُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْمُكْرَهِ وَمَنْ لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عَنْ الْفِعْلِ إلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى إيقَاعِ مَا أُكْرِهَ بِهِ، كَمَنْ قَالَ لَهُ قَادِرٌ عَلَى مَا يَتَوَعَّدُ: اُقْتُلْ زَيْدًا وَإِلَّا

قَتَلْتُك، لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عَنْ قَتْلِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلْهَلَاكِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى قَتْلِ زَيْدٍ لَيْسَ كَوُقُوعِ الَّذِي أُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي عَدَمِ التَّكْلِيفِ لَكِنْ تَكْلِيفُهُ هَذَا أَقْرَبُ مِنْ تَكْلِيفِ الْمُلْجَأِ، وَلِهَذَا أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَلِمَةُ الْكُفْرِ. وَأَمَّا تَأْثِيمُ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ فَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُكْرَهٌ وَأَنَّهُ قَتْلٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آثَرَ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ ذُو وَجْهَيْنِ: الْإِكْرَاهُ وَلَا إثْمَ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَجِهَةُ الْإِيثَارِ وَلَا إكْرَاهَ فِيهَا، وَهَذَا لِأَنَّك قُلْت: اُقْتُلْ زَيْدًا وَإِلَّا قَتَلْتُك، فَمَعْنَاهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ زَيْدٍ، فَإِذَا آثَرَ نَفْسَهُ فَقَدْ أَثِمَ، لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ، وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ: مَحَلُّ التَّخْيِيرِ لَا وُجُوبَ فِيهِ، وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ. وَهَذَا تَحْقِيقٌ حَسَنٌ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ لِاسْتِثْنَاءِ صُورَةِ الْقَتْلِ مِنْ قَوْلِنَا الْمُكْرَهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ. وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: الْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التَّصَرُّفِ إلَّا فِي صُوَرٍ إنَّمَا ذَكَرُوهُ لِضَبْطِ تِلْكَ الصُّوَرِ، لَا أَنَّهُ مُسْتَثْنًى حَقِيقَةً. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ نَصِّ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَإِنَّهُ احْتَجَّ عَلَى إسْقَاطِ قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلِلْكُفْرِ أَحْكَامٌ، فَلَمَّا وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَقَطَتْ أَحْكَامُ الْإِكْرَاهِ عَنْ الْقَوْلِ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْأَعْظَمَ إذَا سَقَطَ سَقَطَ مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ، نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي السُّنَنِ " وَعَضَّدَهُ بِحَدِيثِ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .

وَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّ الْمُكْرَهَ مُكَلَّفٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَنَقَلُوا الْخِلَافَ فِيهِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ "، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، وَبَنَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي وُجُوبِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ الِامْتِثَالِ، وَكَيْفَ يُثَابُ عَلَى مَا هُوَ مُكْرَهٌ عَلَيْهِ إذْ لَا يُجِبْ دَاعِي الشَّرْعِ؟ وَإِنَّمَا يُجِيبُ دَاعِيَ الْإِكْرَاهِ؟ وَأَلْحَقُوا هَذَا بِالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا عَادَةً كَحُصُولِ الشِّبَعِ عَنْ الْأَكْلِ وَالرِّيِّ عَنْ الشُّرْبِ، فَكَمَا يَسْتَحِيلُ التَّكْلِيفُ بِالْوَاجِبِ عَقْلًا وَعَادَةً، فَكَذَا يَسْتَحِيلُ بِفِعْلِ الْمُكْرَهِ. [الْمُكْرَهُ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ لِفَهْمِ الْخِطَابِ] وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا: أَنَّ الْمُكْرَهَ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ لِفَهْمِ الْخِطَابِ، وَأَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا مَا فِي الْإِقْدَامِ أَوْ الِانْكِفَافِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي تَكْلِيفِهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَقَرِّبًا فَيَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ وَهُوَ غَيْرُ الْكَلَامِ فِي تَكْلِيفِهِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَنَعْنِي بِالْمُكْرَهِ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فَيُحْمَلُ مَثَلًا عَلَى الصَّلَاةِ بِالْإِرْجَافِ وَالْخَوْفِ وَقَتْلِ السَّيْفِ، وَاَلَّذِي بِهِ رَعْشَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُكْرَهًا فِي رِعْدَتِهِ.

وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْمُكْرَهِ مَعَ وِفَاقِهِمْ عَلَى اقْتِدَارِهِ، وَزَادُوا عَلَيْنَا: فَقَالُوا: الْقُدْرَةُ تَتَعَلَّقُ بِالضِّدَّيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا مَعْنَى لِتَفْصِيلِ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعِهِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ وَغَيْرِهِ، وَلَا لِمَنْ جَعَلَهُ قَوْلًا ثَالِثًا فِي الْمَسْأَلَةِ. وَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ": قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ إلَّا مَعَ تَصَوُّرِ اقْتِدَارِ الْمُكْرَهِ، فَمَنْ بِهِ رَعْشَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُكْرَهًا، وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ الْمُخْتَارُ لِتَحْرِيكِهَا، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي تَكْلِيفِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ اقْتِدَارِهِ وَاخْتِبَارِهِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ، وَبَالَغُوا حَتَّى قَالُوا: إنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِالضِّدَّيْنِ، وَالْمُكْرَهُ الْقَادِرُ عَلَى الْفِعْلِ قَادِرٌ عَلَى ضِدِّهِ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: إذَا قَدَرَ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَمْ تَتَعَلَّقْ قُدْرَتُهُ بِتَرْكِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى تَوَجُّهِ النَّهْيِ عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ عَنْ الْقَتْلِ، وَهَذَا عَيْنُ التَّكْلِيفِ. انْتَهَى. وَهَذَا يُعْلَمُ جَوَابُهُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ تَأْثِيمَ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُكْرَهًا. وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ قَدْ نَازَعَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، فَقَالَ: نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ. قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لِأَحَدٍ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْإِلْجَاءَ الَّذِي يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعَبْدِ يُنَافِي التَّكْلِيفَ كَالْإِيمَانِ حَالَةَ الْيَأْسِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " الْمُكْرَهُ عِنْدَنَا مُخَاطَبٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.

قَالَ: وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مُخَاطَبًا بِمَا عَدَا مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ. وَنُقِلَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَهَذَا خَطَأٌ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالْخِطَابِ مِنْ الْمُخْتَارِ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَحْمِيلُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَحَالَةُ الْمُكْرَهِ أَدْخَلُ فِي أَبْوَابِ التَّكْلِيفِ وَالْمَشَاقِّ مِنْ حَالَةِ الْمُخْتَارِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ الْفِعْلِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَوَاجِبُ الِانْقِيَادِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِسْلَامُ، وَمَوْعُودٌ عَلَيْهِ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ. إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَأَوْا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الْمُلْجَأَ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمُلْجَأَ وَالْمُكْرَهَ وَاحِدٌ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُلْجَأُ هُوَ الَّذِي لَا يُخَاطَبُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّرْكِ بَلْ يَكُونُ مَدْفُوعًا وَمَحْمُولًا بِأَبْلَغِ جِهَاتِ الْحَمْلِ. كَمَنْ شُدَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ رِبَاطًا وَأُلْقَى عَلَى عُنُقِ إنْسَانٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْدِفَاعُ، فَهَذَا لَيْسَ لَهُ الِاخْتِيَارُ، وَأَمَّا الْمُكْرَهُ فَلَهُ قَصْدٌ وَقُدْرَةٌ فَكَانَ مُكَلَّفًا. وَلِهَذَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْقُدْرَةُ تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، لِأَنَّهَا لَوْ صَلَحَتْ لِفِعْلٍ دُونَ فِعْلٍ صَارَ الشَّخْصُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ وَمُلْجَأً، وَلَأَمْكَنَهُ الِامْتِنَاعُ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَهُمْ لَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالُوا: الْإِيمَانُ حَالَةَ الْيَأْسِ لَا يَنْفَعُ وَهُوَ إيمَانُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ النَّافِعَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ: أَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَتَصِيرُ الْمَعَارِفُ ضَرُورِيَّةً فَلَا يَنْفَعُ، لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ أُلْجِئُوا. اهـ. وَمَا قَالَهُ فِي الْمُلْجَأِ: إنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُونَ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ وَلَمْ يُفَصِّلُوا بَلْ الْأَظْهَرُ التَّفْصِيلُ. وَقَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": إنَّهُ الْمَشْهُورُ وَجَرَى عَلَيْهِ أَتْبَاعُهُ، وَقَالَ

الْآمِدِيُّ: إنَّهُ الْحَقُّ وَقَرَّرَهُ الْقَرَافِيُّ، وَيَنْبَنِي كَلَامُ الْمُطْلِقِينَ عَلَى أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَرْهَانٍ: إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يُخَالِفُونَ فِي تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَبَقَ مِنْ نَقْلِ الْفُحُولِ عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ نَقْلُهُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ لَا يُوجَدُ فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِهِمْ، بَلْ قَالَ الْبَزْدَوِيُّ فِي كِتَابِهِ: الْمُكْرَهُ عِنْدَنَا مُكَلَّفٌ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ مُبْتَلًى بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ، وَإِبَاحَةٍ وَرُخْصَةٍ إلَخْ، وَقَدْ قَالُوا بِنُفُوذِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَعِتْقِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَسَبَقَ فِي فَصْلِ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلتَّكْلِيفِ كَلَامُ صَاحِبِ الْمَبْسُوطِ " مِنْهُمْ فِيهِ وَنَقَلَ الْإِبْيَارِيُّ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ، فَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ عِنْدَهُمْ فِي الْإِقْرَارِ وَيُؤَثِّرُ فِي الْإِنْشَاءِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ بَنَوْا امْتِنَاعَ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ بِفِعْلِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: الْقَوْلُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ. وَالْأُخْرَى: وُجُوبُ الثَّوَابِ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ، عِنْدَهُمْ الْإِثَابَةُ. وَقَدْ نَقَضَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الْقَتْلُ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَكَذَا الزِّنَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَقَدْ كُلِّفَ حَالَةَ

التكليف حالة الإكراه على قسمين

الْإِكْرَاهِ، وَلَمْ يَرْتَضِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا، وَقَالَ: إنَّ الْقَوْمَ لَا يَمْنَعُونَ مِنْ الشَّيْءِ مَعَ الْحَمْلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ فِي الْمِحْنَةِ وَاقْتِضَاءِ الثَّوَابِ، وَإِنَّمَا الَّذِي مَنَعُوهُ الِاضْطِرَارَ إلَى الْفِعْلِ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ. [التَّكْلِيفُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى قِسْمَيْنِ] وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ هَذَا النَّقْضُ غَيْرُ وَارِدٍ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُكَلَّفَ بِالنَّهْيِ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِهِ كَمَنْ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِفِعْلِ مَا أُكْرِهَ عَلَى إيقَاعِهِ، كَمَنْ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ بِحَيْثُ لَمْ تَبْقَ فِيهِ سَعَةٌ لِغَيْرِهَا فَأَكْرَهَهُ إنْسَانٌ عَلَى فِعْلِهَا لِهَذَا هُوَ الَّذِي مَنَعَتْ الْمُعْتَزِلَةُ صِحَّةَ التَّكْلِيفِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ مَا إذَا وَافَقَ دَاعِيَةَ الْإِكْرَاهِ دَاعِيَةُ الشَّرْعِ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ حَيَّةٍ أَوْ كَافِرٍ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. أَمَّا مَا خَالَفَ دَاعِيَةَ الْإِكْرَاهِ دَاعِيَةُ الشَّرْعِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّكْلِيفِ، وَهَذَا أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ ": اخْتَلَفُوا فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُخَاطَبٌ بِهِ، فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ بِجَوَازِهِ، لِأَنَّ الْعَزْمَ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ

الْجِنْسِ الْعَزْمُ وَالنِّيَّةُ، وَهِيَ الْقَصْدُ إلَى الِامْتِثَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ، وَذَلِكَ كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الصَّلَاةِ، فَقِيلَ لَهُ صَلِّ، وَإِلَّا قُتِلْت، أَمَّا إذَا قِيلَ لَهُ: إنْ صَلَّيْت قُتِلْت، فَظَنَّ الْقَاضِي أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ، فَغَلَّطَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَقَالُوا: لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ مَأْمُورٌ بِهَا. وَإِنْ رُخِّصَ لَهُ فِي تَرْكِهَا، فَلَيْسَ التَّرْخِيصُ مِمَّا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ الْمَأْثَمَ، وَهَذَا الْغَلَطُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْقَاضِي لَيْسَ بِقَوْلٍ لَهُ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ. قَالُوا: لَا يُتَصَوَّرُ الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ إلَى الْفِعْلِ مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ انْكِفَافُهُ عَنْهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ، فَكَذَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى الِامْتِثَالِ، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ، وَإِنَّمَا غَلِطَ إذَنْ مِنْ نَسَبَ إلَيْهِ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي أَبْطَلَهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْت مَا قَالُوهُ قَبْلَ أَنْ أَرَى كَلَامَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي اُضْطُرَّ إلَيْهِ. تَعْرِيفُ الْمُضْطَرِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِ. فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: الْمُضْطَرُّ الْمُلْجَأُ إلَى مَقْدُورِهِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَوَقَّعٍ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُقَدَّرِ الْمُلْجَأِ إلَيْهِ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الْمُضْطَرُّ الْمَحْمُولُ عَلَى مَا عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ. وَزَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ قَاطِبَةً أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ فِعْلٌ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ فِيهِ الْغَيْرُ فِعْلًا هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَقْدُورَاتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ فِيهِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى مُدَافَعَةِ الْفِعْلِ، وَخَالَفَهُ ابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُلْجَأَ قَادِرٌ عَلَى مَا أُلْجِئَ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِيهِ غَيْرُهُ فِعْلًا، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي تَعْرِيفِهِ، فَالْمُلْجَأُ دُونَ الْمُضْطَرِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ، وَدُونَهُمَا الْمُكْرَهُ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ وَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ مِنْ عَدَمِ اخْتِيَارِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَ كَالْآلَةِ الْمَحْضَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إثْمٌ، هُوَ الْمُضْطَرُّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ كَمَنْ شُدَّ وَثَاقُهُ وَأُلْقَى عَلَى شَخْصٍ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ أَوْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ فَمَاتَ وَسَقَطَ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ. وَلَيْسَ كَالْمُكْرَهِ وَلَا كَالْمُضْطَرِّ فَإِنْ انْضَمَّ إلَى عَدَمِ اخْتِيَارِهِ عَدَمُ إحْسَاسِهِ وَشُعُورِهِ فَأَبْعَدُ عَنْ الضَّمَانِ. وَقَدْ خَرَجَ لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَهُوَ الْحَقُّ، ثُمَّ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ جَائِزٌ غَيْرُ وَاقِعٍ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ وَالْمُخْتَارُ سَوَاءً فِي الِاخْتِيَارِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ: قَالَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ ": الْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الْمُخْتَارَ مُطْلَقُ

الدَّوَاعِي وَالْإِرَادَاتِ، وَالْمُكْرَهُ مَقْصُورُ الدَّوَاعِي وَالْإِرَادَةِ عَلَى فِعْلِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَا يَخْتَارُ غَيْرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ صَارَتْ هَذِهِ حَالُهُ؟ قِيلَ: لِمَا يَخَافُهُ مِنْ عِظَمِ الضَّرَرِ فَهُوَ يَدْفَعُ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ بِأَدْوَنِهِمَا وَدَوَاعِيهِ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَهَاهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: هَذَا الْإِكْرَاهُ الَّذِي أَسْقَطَ الشَّارِعُ حُكْمَهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ حَقِيقَتِهِ لِيَتَحَقَّقَ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مَا لَا يُزِيلُ حَقِيقَتَهُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، أَوْ مَا يُزِيلُهَا فَلَا يَسْقُطُ الْحُكْمُ، إذْ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، وَهَذَا كَمَنْ قِيلَ لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتَك، فَقَالَ: طَلَّقْت زَوْجَاتِي كُلَّهُنَّ، فَيَقَعُ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لَا مُكْرَهٌ. وَقَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مَا يَتَرَدَّدُ الذِّهْنُ فِي أَنَّهُ مُزِيلٌ، لِكَوْنِهِ إكْرَاهًا أَوْ غَيْرَ مُزِيلٍ فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَسْقُطُ أَثَرُ التَّصَرُّفِ بِهِ أَمْ لَا يَسْقُطُ؟ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ: طَلِّقْ إحْدَى زَوْجَتَيْك، وَحُمِلَ عَلَى تَعَيُّنِ إحْدَاهُمَا لَا عَلَى إبْهَامِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّ الْمَحْمُولَ عَلَى الْإِبْهَامِ مَحْمُولٌ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ لَا عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُ: طَلِّقْ إمَّا هَذِهِ وَإِمَّا هَذِهِ، فَقَالَ: طَلَّقْت هَذِهِ، فَهَلْ هُوَ اخْتِيَارٌ أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ اخْتِيَارٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الْقَلْبِيَّةِ، فَلَا يَصِحُّ الْإِكْرَاهُ عَلَى عِلْمٍ بِشَيْءٍ أَوْ جَهْلٍ بِهِ أَوْ حُبٍّ أَوْ بُغْضٍ أَوْ عَزْمٍ عَلَى شَيْءٍ. الثَّالِثُ: يُشْتَرَطُ لِكَوْنِ الْإِكْرَاهِ مَرْفُوعَ الْحُكْمِ شُرُوطٌ: أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ أَشَقَّ مِنْ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يَشْهَدُ لَهُ الشَّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْقِصَاصِ، وَلَا يَرْفَعُ الْإِثْمَ عَنْ الْمُكْرَهِ.

بَيَانُهُ: أَنَّ نَفْسَهُ وَنَفْسَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى مَنْ يَقْتُلُهُ مُسْتَوِيَانِ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، فَإِيثَارُهُ نَفْسَهُ نَاشِئٌ عَنْ شَهَوَاتِ الْأَنْفُسِ وَحُظُوظِهَا، وَمَحَبَّتِهَا الْبَقَاءَ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَزْيَدَ مِنْ مَحَبَّتِهَا لِبَقَاءِ غَيْرِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مِنْ نَظَرِ الْعُقَلَاءِ، الشَّرْعَ الَّذِي يَتَعَبَّدُونَ بِهِ. وَبِهَذَا خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي اُسْتُثْنِيَتْ مِنْ قَوْلِنَا: الْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التَّصَرُّفِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَرَتِّبًا عَلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ حِينَئِذٍ جَعَلَ فِعْلَهُ كَلَا فِعْلٍ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَرَتِّبًا عَلَى أَمْرٍ حِسِّيٍّ لَا يُنْسَبُ إلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ، وَإِنْ كَانَ نَاشِئًا عَنْهَا فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِكْرَاهِ الْفِعْلُ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَوْضِعَ الْحُكْمِ الِانْفِعَالُ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ الْوُقُوعِ بَعْدَ الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ أَثَرُ الْفِعْلِ، وَالشَّارِعُ قَدْ يُرَتِّبُ الْحُكْمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَدْ رَتَّبَهُ عَلَى الِانْفِعَالِ وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي رَفْعُهُ مَشَقَّةٌ عَلَيْنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَفِي الثَّانِي مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ فَكَيْفَ يَرْتَفِعُ؟ وَبِهَذَا خَرَجَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الرَّضَاعِ وَعَلَى الْحَدَثِ، فَإِذَا أَكْرَهَ امْرَأَةً حَتَّى أَرْضَعَتْ خَمْسَ رَضَعَاتٍ حَرُمَ رَضَاعُهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ حَتَّى لَوْ حُلِبَ قَبْلَ مَوْتِهَا وَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَوْتِهَا حَرُمَ، وَإِذَا أُكْرِهَ فَأَحْدَثَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، لِأَنَّ الِانْتِقَاضَ مَنُوطٌ بِالْحَدَثِ وَقَدْ وُجِدَ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهَذَا مَوْضِعُ الرُّخْصَةِ وَالتَّخْفِيفِ مِنْ الشَّارِعِ، أَمَّا إذَا كَانَ بِحَقٍّ فَقَدْ كَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا الْمُكْرَهِ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أُكْرِهَ وَلَمْ يَسْقُطْ أَثَرُ فِعْلِهِ، وَكَانَ آثِمًا عَلَى كَوْنِهِ أَحْوَجَ إلَى أَنْ يُكْرَهَ، وَهَذَا كَالْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ يُكْرَهَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِسْلَامُهُمَا صَحِيحٌ وَهُمَا آثِمَانِ، لِكَوْنِهِمَا أَحْوَجَا إلَى الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْإِسْلَامُ إنْ وَقَعَ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ

بَاطِنًا كَمَا وَقَعَ ظَاهِرًا فَهُوَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَإِلَّا فَحُكْمُهُمَا فِي الظَّاهِرِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْبَاطِنِ كَافِرَانِ، لِمَا أَضْمَرَاهُ مِنْ حَيْثُ الطَّوِيَّةُ. وَمِنْ الْإِكْرَاهِ بِالْحَقِّ أَمْرُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ بِالْبَيْعِ، فَيَمْتَنِعُ فَلَهُ جَبْرُهُ عَلَيْهِ، وَيَصِحُّ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ الْوَاجِبِ. الرَّابِعُ: فِي فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ: ذَكَرُوا فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ وَالتَّكْلِيفِ، وَذَكَرُوا فِي الْفِقْهِ أَنَّ طَلَاقَهُ وَإِقْرَارَهُ وَرِدَّتَهُ لَا تَصِحُّ، فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يُخَفَّفُ عَنْهُ بِأَنْ لَا يُلْزَمَ بِحُكْمِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَخْتَرْهُ مِنْ طَلَاقٍ وَبَيْعٍ وَغَيْرِهِمَا، لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا. الْخَامِسُ: قِيلَ: لِلْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَأْخَذَانِ. أَحَدُهُمَا: الْخِلَافُ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ فَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا، اتَّجَهَ الْقَوْلُ بِتَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الْمَخْلُوقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وَفْقِ إرَادَتِهِ فَيَصِيرُ التَّكْلِيفُ بِهَا مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَرَ تَكْلِيفَ الْمُكْرَهِ، لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقٌ لَهُمْ لَا لَهُ سُبْحَانَهُ تَحْقِيقًا لِعَدْلِهِ: إذْ لَوْ خَلَقَهَا ثُمَّ عَابَ عَلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ جَوْرًا. الثَّانِي: أَنَّهُ هَلْ فِي التَّخْوِيفِ وَالْإِكْرَاهِ مَا يَتَضَمَّنُ ضَرُورِيَّةَ الْفِعْلِ أَيْ: مَا يَقْتَضِي اضْطِرَارَ الْمُكْرَهِ إلَى الْفِعْلِ لِدَاعِي الطَّبْعِ أَمْ لَا؟ [الشَّرْطُ] السَّابِعُ [عِلْمُ الْمُخَاطَبِ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا] أَنْ يَعْلَمَ الْمُخَاطَبُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قَبْلَ زَمَنِ الِامْتِثَالِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ مِنْهُ قَصْدُ الِامْتِثَالِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ شَرْطِهِ، وَتَمَكُّنِهِ فِي الْوَقْتِ.

قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى اشْتِرَاطِهِ، وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: لَا نَعْلَمُهُ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ، وَالْجَهْلُ بِالشَّرْطِ مُحَقَّقٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَهْلَ بِالشُّرُوطِ، نَعَمْ. أَجْمَعَ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى إطْلَاقِ وُرُودِ الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ بَقَاءِ أَكْثَرِهِمْ، وَظُهُورِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ. قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو هَاشِمٍ لَا دَافِعَ لَهُ إلَّا أَصْلٌ لِأَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ فِي النَّسْخِ. وَمَذْهَبُهُ فِيهِ: أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ قَطْعًا، ثُمَّ رُفِعَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالنَّسْخِ. فَقَالَ: ثَانِيًا عَلَيْهِ إذَا تَوَجَّهَ أَمْرٌ عَلَى الْمُخَاطَبِ فَقَطْ تَنَجَّزَ الْأَمْرُ، ثُمَّ إذَا زَالَ إمْكَانُهُ فَلَا رَيْبَ فِي الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ فِي الشَّرْطِ الْقَضَاءُ لَا فِي شَرْطِ أَصْلِ الْأَمْرِ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظَ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ، الطَّلَبُ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي شَرْطَهُ الْإِمْكَانَ إلَّا أَنْ يُنْكِرَ كَوْنَ الْإِمْكَانِ شَرْطًا، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ إلَّا بِهِ، وَأَبُو هَاشِمٍ لَا يُنْكِرُ وُجُوبَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَنِيَّةُ الْوُجُودِ وَالتَّرَدُّدِ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لَا يُنْكَرُ، فَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ. اهـ. وَأَمَّا الْقَاضِي فَفَرْضُ الْخِلَافِ فِي الصِّحَّةِ فَقَالَ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ إذَا اتَّصَلَ بِالْمُكَلَّفِ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ الِامْتِثَالِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَعْتَقِدُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى عَلَى صِفَةِ التَّكْلِيفِ، فَنَسْتَيْقِنُ الْحَالَ تَوَجُّهَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الِاسْتِقْبَالِ فَإِنْ بَقِيَ دَامَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِنْ مَاتَ انْقَطَعَ عَنْهُ. وَقَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ: لَا يَصِحُّ عِلْمُهُ بِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الِامْتِثَالِ، أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَسَعُهُ مَعَ تَرْكِهِ، فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ كَوْنُهُ مَأْمُورًا قَطْعًا. وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا نَقُولُ: يَقْطَعُ بِذَلِكَ وَيُؤَوَّلُ تَوَقُّعُهُ فِي اسْتِدَامَةِ الْوُجُوبِ إلَى تَوَقُّعِ الِاحْتِرَامِ وَالْبَقَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": الْوَاحِدُ مِنَّا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا عَلَى الْحَقِيقَةِ هَذَا مَذْهَبُ كَافَّةِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُ قَدْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ جَائِزٌ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ، وَأَبُو هَاشِمٍ بَنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَإِنْ سَلِمَ لَهُ، فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ وَإِنْ أُبْطِلَ بَطَلَ مَذْهَبُهُ. وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يَجِبُ عَلَيْهِ الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَالتَّقَرُّبِ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهَا، وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ. وَشُبْهَةُ أَبِي هَاشِمٍ: أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْأَمْرِ، وَهِيَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَنَا فَلَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ عَالِمًا اهـ. وَأَمَّا أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَقَالَ: الْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُكْتَسَبِ. عِلْمُ الْمُكْتَسِبِ بِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ كَوْنُ الْمَقْدُورِ مِمَّا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِهِ. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا مَتَى يَصِحُّ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْفِعْلِ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا اتَّصَلَ الْخِطَابُ بِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ الِامْتِثَالِ عَلِمَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، فَيُقْطَعُ بِهِ لَكِنْ يَفْتَقِرُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ الْأَوْقَاتِ بِشَرْطِ وَفَاءِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ تَوَجَّهَ الْخَطَأُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَمْضِ زَمَنُ الْإِمْكَانِ حَتَّى لَوْ اشْتَغَلَ بِالِامْتِثَالِ فِي الْحَالِ لَمْ يَعْرِفْ الْوُجُوبَ أَيْضًا مَا لَمْ يَمْضِ زَمَنٌ يَتَصَوَّرُ فِيهِ الِامْتِثَالَ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِبَقَاءِ الْإِمْكَانِ لَهُ إلَى انْقِرَاضِ زَمَانٍ يَمْتَنِعُ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْإِمْكَانُ شَرْطُ التَّكْلِيفِ،

وَالْجَاهِلُ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ جَاهِلٌ بِوُقُوعِ الْمَشْرُوطِ لَا مَحَالَةَ، وَتَمَسَّكَ الْقَاضِي بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَوَجُّهِ الْأَمْرِ إلَى الْمُكَلَّفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَوْلُهُمْ: يُفْضِي إلَى أَنَّهُ لَيْسَ يَعْلَمُ أَحَدٌ عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ أَنَّهُ يُنْهَى عَنْ الْقَتْلِ وَالزِّنَا، وَكَمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَعْلَمُ غَيْرُهُ مِنْهُ. وَمَالَ الْإِمَامُ إلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ: تَشْغِيبُ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ تَهْوِيلٌ بِلَا تَحْصِيلٍ، فَإِنَّ إطْلَاقَاتِ الشَّرْعِ لَا تُعْرَضُ عَلَى مَأْخَذِ الْحَقَائِقِ بَلْ تُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الْعُرْفِ وَالتَّفَاهُمِ الظَّاهِرِ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ تَعَاطِيهَا. تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ: الْقَطْعِيُّ أَيْ: أَنَّهُ هَلْ يَقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا قَبْلَ زَمَنِ الِامْتِثَالِ؟ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَبَا هَاشِمٍ لَا يُخَالِفُ فِي الظَّنِّ، فَإِنَّ الشُّرُوعَ فِي الْفِعْلِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَطْعُ بَلْ تَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ مَهْمَا بَادَرَ وَاسْتَمَرَّ فِي حَيَاتِهِ إلَى الْفَرَاغِ. [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كَانَ الْآمِرُ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِامْتِثَالِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بَقَاءَهُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَأْمُورَ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَيْضًا

[التَّنْبِيهُ] الثَّالِثُ. أَنَّ الْخِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآحَادِ لَا فِي حَقِّ الْجِنْسِ، فَقَدْ وَافَقَ أَبُو هَاشِمٍ عَلَى أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ الِاسْتِطَاعَةُ مَعْلُومٌ هُنَا قَطْعًا، لِعِلْمِنَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعُمُّ الْكُلَّ بِالْهَلَاكِ كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ. وَفَرَضَ الْإِمَامُ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا خَصَّ بِالْخِطَابِ وَاحِدًا وَكَانَ مُنْدَرِجًا مَعَ آخَرَ تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ، وَهُوَ فِي حَالَةِ اتِّصَالِ الْخِطَابِ بِهِ مُسْتَجْمِعٌ شَرَائِطَ التَّكْلِيفِ. وَلَمْ يَقِفْ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ: هَذَا إذَا كَانَ الْأَمْرُ خَاصًّا، فَإِنْ كَانَ عَامًّا وَلَمْ يُعْلَمْ انْقِرَاضُ الْجَمِيعِ بَلْ بَعْضُهُمْ فَأَظُنُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، إذْ أَكْثَرُ أَوَامِرِ اللَّهِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ يَمُوتُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يُشْعِرُ بِخِلَافٍ فِيهِ أَيْضًا. انْتَهَى. مَسْأَلَةٌ [هَلْ يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ] قِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ بَلْ يُشْتَرَطُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْعِلْمِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: ثَالِثُهَا: يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ، قَالَ: وَالْمَرْجِعُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الصَّحَابَةَ بِاسْتِدْرَاكِ مَا فَعَلُوهُ عَلَى خِلَافِ الْأَمْرِ حَيْثُ جَهِلُوهُ كَمَا لَمْ يَأْمُرْ الْمُشَمِّتَ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُصَلِّيَ إلَى قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِ.

مسألة التكليف بالفعل الذي ينتفي شرط وقوعه عند وقته

الرَّابِعُ مِنْ التَّنْبِيهَاتِ سَبَقَ عَنْ إلْكِيَا أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ أَبَا هَاشِمٍ لَا يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ لَكِنَّ أَبَا هَاشِمٍ بَنَاهُ عَلَى مَأْخَذٍ لَهُ كَلَامِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ تُلَازِمُهُ الْإِرَادَةُ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ انْتِقَاءَ الشَّرْطِ لَمْ يَتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّقِ طَلَبُهُ عَلَى شَرْطٍ، وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ فِي الْأَصْلِ، فَلِهَذَا خَالَفْنَاهُ فِي الْفَرْعِ. وَحَاصِلُ الْخِلَافِ: يَرْجِعُ إلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الِامْتِثَالِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ أَوْ شَرْطٌ فِي إيقَاعِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَحُصُولِهِ؟ فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ أَوْ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ لَا عَلَى أَنَّهُ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، فَإِنَّ الْقَطْعَ بِذَلِكَ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِبَقَائِهِ بِكَوْنِهِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ لِإِمْكَانِ الْمَوْتِ بَلْ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَاسْتِمْرَارُ الْقُدْرَةِ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ إتْمَامِ الْعِبَادَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِنَا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْأَمْرِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْإِتْمَامِ. [مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَنْتَفِي شَرْطُ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ] الْفِعْلُ الَّذِي يَنْتَفِي شَرْطُ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ إنْ جَهِلَ الْآمِرُ انْتِفَاءَهُ، كَالْوَاحِدِ مِنَّا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَأْمُورِ عَلَى صِفَاتِ التَّكْلِيفِ فَيَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ، لِانْطِوَاءِ الْغَيْبِ عَنَّا. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ إشْعَارٌ بِالْخِلَافِ فِيهِ، وَإِنْ عَلِمَ انْتِفَاءَهُ كَمَا إذَا أَمَرَ اللَّهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَوْتَهُ فِي رَمَضَانَ، فَهَلْ يَصِحُّ

التَّكْلِيفُ بِهِ؟ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ: يَصِحُّ وَيَقَعُ، وَلِذَلِكَ يَعْلَمُ الْمُكَلَّفُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ شَرْطِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْوَقْتِ، وَلَوْلَا أَنَّ تَحَقُّقَ الشَّرْطِ فِي الْوَقْتِ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّكْلِيفِ لَمَا عُلِمَ قَبْلَ وَقْتِهِ، إذَا الْجَهْلُ بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْجَهْلَ بِالْمَشْرُوطِ. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: يُمْتَنَعُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَقَالُوا: إنَّمَا يَصِحُّ الشَّرْطُ مِنَّا لِتَرَدُّدِنَا حَتَّى لَوْ عَلِمَ الْوَاحِدُ مِنَّا بِوَحْيٍ أَوْ إعْلَامِ نَبِيٍّ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِ مُخَاطَبِهِ. لَا يَصِحُّ أَيْضًا تَقْيِيدُ الْخِطَابِ بِبَقَاءِ الْمُخَاطَبِ عَلَى صِفَةِ التَّكْلِيفِ، وَوَافَقَهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَالْحَقُّ: صِحَّتُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِالْمُحَالِ فِي شَيْءٍ وَيَجُوزُ مِنْ الْقَدِيمِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ عَبْدَهُ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ. وَلَهُ فَوَائِدُ ثَلَاثَةٌ: إحْدَاهَا: اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ، وَيَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالِاعْتِقَادِ كَمَا يَجُوزُ بِالْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ إنْ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ عَلَى صِفَةِ التَّكْلِيفِ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَيُثَابُ، أَوْ لَا يَعْزِمُ فَيُعَاقَبُ. الثَّالِثَةُ: جَوَازُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ مَصْلَحَةٌ وَلُطْفٌ، وَيَكُونُ فِيهِ فَائِدَةٌ مُصَحِّحَةٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا، وَهُوَ شَكُّ الْمُكَلَّفِ فِي بَقَائِهِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ وَقْتَ الْخِطَابِ لَا يَدْرِي هَلْ يَبْقَى إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ أَوْ لَا؟ وَيَنْقَطِعُ هَذَا التَّكْلِيفُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ كَانْقِطَاعِ سَائِرِ التَّكَالِيفِ الْمُتَكَرِّرَةِ. وَحَاصِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ اللَّهَ إذَا عَلِمَ أَنَّ زَيْدًا سَيَمُوتُ غَدًا، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالصَّوْمِ غَدًا بِشَرْطِ أَنْ يَعِيشَ غَدًا أَمْ لَا؟ فَرَجَعَ

الْخِلَافُ إلَى تَحْقِيقِ الْأَمْرِ بِالشَّرْطِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَصْحَابُنَا جَوَّزُوهُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ مَنَعُوهُ، وَقَالُوا: يَسْتَحِيلُ أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمُكَلَّفِ. وَزَعَمُوا: أَنَّ الشَّرْطَ فِي أَمْرِهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يَقَعُ حَيْثُ الشَّكُّ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا شَرْطَ. فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الشَّمْسَ طَالِعَةٌ لَا يَقُولُ: إنْ كَانَتْ الشَّمْسُ طَلَعَتْ دَخَلْت الدَّارَ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ مِنْ الشَّاكِّ كَالْوَاحِدِ مِنَّا، وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ لِلْوَاحِدِ مِنَّا بِإِخْبَارِ نَبِيٍّ امْتَنَعَ الْأَمْرُ بِالشَّرْطِ فِيهِ أَيْضًا، وَلَمْ يَقْصُرُوا خِلَافَهُمْ عَلَى مَا إذَا عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَهُ بَلْ عَدَّوْهُ إلَى مَا عَلِمَ وُجُودَهُ أَيْضًا، فَقَالُوا: إنْ كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِهِ أَمْرًا بِهِ، بَلْ هُوَ جَارٍ: مَجْرَى: صُمْ غَدًا إنْ صَعِدْت السَّمَاءَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَمْرِ فِي شَيْءٍ إلَّا عَلَى رَأْيِ بَعْضِ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ مَشْرُوطًا بِهِ بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: صَلِّ إنْ كَانَتْ الشَّمْسُ مَخْلُوقَةً، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَشْرُوطِ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى تَرَدُّدٍ فِي الْحُصُولِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّرَدُّدَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَلَا يُتَصَوَّرُ تَعْلِيقٌ عَلَى الشَّرْطِ أَلْبَتَّةَ لَا إنْ عَلِمَ وُقُوعَهُ، وَلَا إنْ عَلِمَ عَدَمَ وُقُوعِهِ. وَأَلْزَمَهُمْ الْقَاضِي أَنْ لَا يَتَقَيَّدَ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ أَيْضًا كَمَا لَا يَتَقَيَّدَ أَمْرُهُ مَعَ أَنَّ مُعْظَمَ وَعْدِ الْقُرْآنِ وَوَعِيدِهِ مُقَيَّدٌ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} [الكهف: 18] قَالَ: وَلَا وَجْهَ لِلتَّرَدُّدِ فِي الشَّرْطِ مَعَ عِلْمِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ. وَلَهُ فَائِدَةٌ: وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ ابْتِلَاءَ الْمُكَلَّفِ وَامْتِحَانَهُ فِي تَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى الِامْتِثَالِ وَالْعَزْمِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْمَعْدُومَ وَالْعَاجِزَ بِشَرْطِ أَنْ يَقْدِرَ فِي حَالِ الْحَاجَةِ إلَى الْقُدْرَةِ.

وَأَجَابَ أَبُو الْحُسَيْنِ بِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ كَلَّفَهُ بِشَرْطٍ أَنْ يَقْدِرُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ حُكْمَنَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَلَّفَهُ الْفِعْلَ مَشْرُوطًا بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَقْدِرُ، فَالشَّرْطُ دَاخِلٌ عَلَى حُكْمِنَا لَا عَلَى تَكْلِيفِ اللَّهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُخَالِفُ هَذَا رَجَعَ النِّزَاعُ إلَى اللَّفْظِ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: إنَّمَا حَمَلَ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى ذَلِكَ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ، فَأَمَّا مَا تَحَقَّقَ ثُبُوتًا أَوْ نَفْيًا فَلَا يَصْلُحُ لِلشَّرْطِيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ يُلَازِمُ الْإِرَادَةَ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ انْتِفَاءَ الشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ الَّذِي عَلَّقَ طَلَبَهُ عَلَى الشَّرْطِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَقُولُ بِاقْتِرَانِ الْأَمْرِ بِالْإِرَادَةِ، فَيَصِحُّ الْأَمْرُ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ. هَذَا تَحْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَتَرْجَمَ بَعْضُ مُخْتَصِرِي الْبُرْهَانِ " وَهُوَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مِنْ جِنْسِ الْمُمْكِنِ فَيَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ الْمُخَاطَبُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قَبْلَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَسَعُ الْفِعْلَ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، وَلَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ. قَالَ: وَاعْتَقَدَ الْإِمَامُ أَنَّ الْقَاضِيَ سَلَّمَ لَهُ كَوْنَ الْإِمْكَانِ شَرْطًا، فَقَالَ: يَلْزَمُ إذَا بَانَ أَنْ لَا إمْكَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَكْلِيفٌ، وَلَيْسَ كَمَا اعْتَقَدَهُ، لِأَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي تَرْجَمَتَهَا بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِشَرْطِهِ يُسَمَّى أَمْرًا أَمْ لَا؟ وَلِهَذَا ذَكَرَهَا فِي بَحْثِ الْأَوَامِرِ دُونَ التَّكَالِيفِ. تَنْبِيهَاتٌ

التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ [الْعِلْمُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ] مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَصْلًا لِلَّتِي قَبْلَهَا أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْعِلْمِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْأَمْرُ بِالشَّرْطِ صَحَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ اللَّه بِشَرْطِ الْبَقَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ إذَا تَوَجَّهَ الْأَمْرُ نَحْوَ الْمُكَلَّفِ بِحُكْمٍ ظَاهِرِ الْبَقَاءِ فَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى أَمْ لَا؟ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ فَرْعًا لِلَّتِي قَبْلَهَا، فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَأْمُورَ يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ جَوَّزَ وُرُودَهُ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ لَمْ يُجَوِّزْهُ صَرَّحَ بِهِ الْهِنْدِيُّ. وَكَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنَّا قُلْنَا: نَقْطَعُ الْمُكَلَّفَ بِالْتِزَامِ مَا كُلِّفَ مَعَ التَّرَدُّدِ فِي حُكْمِ الْعَاقِبَةِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْمَقْصُودُ، وَنَقُولُ: لَوْ وَرَدَ الْأَمْرُ مُطْلَقًا هَلْ يَقُولُونَ: يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِ فِي الْحَالِ قَطْعًا أَوْ يَسْتَرِيبُونَ فِيهِ؟ فَإِنْ اسْتَرَبْتُمْ عُدْنَا إلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِنْ قَطَعْتُمْ مَعَ انْطِوَاءِ الْعَاقِبَةِ عَنْ الْمُكَلَّفِ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا مَعَ ذُهُولِهِ عَمَّا يَكُونُ، وَالْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا تُصَوِّرَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِمَا يَعْتَقِدُ فِيهِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ؟

التَّنْبِيهُ] الثَّانِي [الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ لَهُ أَحْوَالٌ] قَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ": الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مَعْلُومًا انْتِفَاؤُهُ عِنْدَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ جَمِيعًا، فَهَذَا مَمْنُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا عِنْدَهُمَا فَجَائِرٌ بِالِاتِّفَاقِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْآمِرِ مَجْهُولًا عِنْدَ الْمَأْمُورِ. فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ جَوَّزَهُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنَعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَهُمْ الْمُصِيبُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي فَرَضُوا فِيهِ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ صِيغَةَ اللَّفْظِ، إنَّمَا فَرَضُوا الْكَلَامَ فِي الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِ الْآمِرِ طَلَبُ مَا يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، بَلْ طَلَبُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ وَأَنْ لَا يَقَعَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْمُمْكِنِ، فَالْمَأْمُورُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا عِنْدَ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بَلْ عِنْدَ وُقُوعِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَيْضًا فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُورُ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْأَمْرُ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ فَبَطَلَ كَوْنُهُ مُمْكِنًا وَصَارَ وَاجِبًا، وَهَذَا مُحَالٌ فَنَقِيضُهُ مُحَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا عِنْدَ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بَلْ عِنْدَ وُقُوعِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. انْتَهَى. وَفِيمَا ذَكَرَهُ نِزَاعٌ. وَفَاتَهُ قِسْمٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَالِمًا بِالِانْتِفَاءِ دُونَ الْآمِرِ، فَلَا يَصِحُّ وِفَاقًا لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُورِ وَهُوَ الِامْتِثَالُ، وَعَدَمُ صِحَّةِ طَلَبِهِ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ.

وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. [تَفْرِيعُ الْغَزَالِيِّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ] فَرَّعَ الْغَزَالِيُّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فُرُوعًا: مِنْهَا: لَوْ عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ بِالْعَادَةِ أَنَّهَا تَحِيضُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، أَوْ بِقَوْلِ نَبِيٍّ حَيْضًا أَوْ مَوْتًا أَوْ جُنُونًا، فَهَلْ يَلْزَمُهَا نِيَّةُ الصَّوْمِ حَتَّى تَصُومَ الْبَعْضَ؟ قَالَ: أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَنْبَغِي اللُّزُومُ، لِأَنَّ بَعْضَ الْيَوْمِ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَهِيَ غَيْرُ مَأْمُورَةٍ بِالْكُلِّ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُهُ، لِأَنَّ الْمُرَخِّصَ فِي الْإِفْطَارِ لَمْ يُوجَدْ وَالْأَمْرُ قَائِمٌ فِي الْحَالِ، وَالْمَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ. اهـ. وَقَدْ نُوزِعَ فِي قَوْلِهِ: " وَالْأَمْرُ قَائِمٌ فِي الْحَالِ " بِقَوْلِهِ: فِي كِتَابِ النَّسْخِ: إنْ جَهِلَ الْمَأْمُورُ شَرْطَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ قَائِمًا فِي الْحَالِ وَالْمُكَلَّفُ عَالِمٌ بِطَرَيَانِ الْحَيْضِ، وَالْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ كِلَاهُمَا يَعْلَمَانِهِ؟ وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: إنْ صَلَّيْت أَوْ شَرَعْت فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الصَّوْمِ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ، ثُمَّ شَرَعَ ثُمَّ أَفْسَدَهَا أَوْ مَاتَ أَوْ جُنَّ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ خِلَافٌ يُلْتَفَتُ إلَى هَذَا الْأَصْلِ فَلَا يَحْنَثُ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَحْنَثُ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِنَا، وَكَذَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ هَذَا فَرْعًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَفِيهِ نَظَرٌ،

لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَقُولَ: إنْ صُمْت يَوْمًا كَامِلًا مِنْ رَمَضَانَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ لَكِنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَقَعُ لِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَمْ يَصُمْ يَوْمًا كَامِلًا. وَمِنْهَا: لَوْ أَفْسَدَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ بِمَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ثُمَّ مَاتَ أَوْ جُنَّ أَوْ حَاضَتْ فِي أَثْنَائِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ. لَا يُقَالُ: هَذَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ، فَإِنَّ السُّقُوطَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ مِنْ خَصَائِصِ وُجُوبِ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي لَا يَتَعَرَّضُ الِانْقِطَاعُ فِيهِ. وَمِنْهَا: لَوْ نَذَرَ الصِّيَامَ يَوْمَ قُدُومِ زَيْدٍ، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ غَدًا، فَنَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ نَذْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَمْ يَقُولُوا: إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَلْ اخْتَلَفُوا فِي الْإِجْزَاءِ، وَقِيَاسُ هَذَا الْأَصْلِ الْوُجُوبُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَزَالِيَّ يَقُولُ بِهِ كَالْحَائِضِ. [التَّنْبِيهُ] الرَّابِعُ اسْتَشْكَلَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحِكَايَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ الْإِجْمَاعَ عَلَى صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا سَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ ثُمَّ الصُّورَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ هُنَاكَ تَعَلَّقَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ مَعَ بُلُوغِ

الْمُكَلَّفِ حَالَةَ التَّمَكُّنِ، وَهُنَا فِيمَا إذَا لَمْ يَبْلُغْ حَالَةَ التَّمَكُّنِ بِأَنْ يَمُوتَ قَبْلَ زَمَنِ الِامْتِثَالِ. وَأَيْضًا فَتِلْكَ فِي وُرُودِ التَّكْلِيفِ مُنَجَّزًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ، وَلَكِنَّ الِامْتِنَاعَ جَاءَ مِنْ أَمْرٍ خَارِجٍ. وَمَأْخَذُ الْمَنْعِ فِيهَا تَكْلِيفُ الْمُحَالِ، وَهَذِهِ فِي الْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطٍ هَلْ يَتَحَقَّقُ مَعَهُ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ؟ وَمَأْخَذُ الْمَانِعِ فِيهَا عَدَمُ تَصَوُّرِ الشَّرْطِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمُخَالِفِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْصُرْ خِلَافَهُ عَلَى مَا عَلِمَ عَدَمَ وُقُوعِهِ بَلْ عَدَّاهُ إلَى مَا عَلِمَ وُقُوعَهُ أَيْضًا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ. [التَّنْبِيهُ] الْخَامِسُ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ تَصْوِيرَ الْمَسْأَلَةِ بِالْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطِ عِلْمِ انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ قَاصِرٌ، فَإِنَّ خِلَافَهُمْ لَا يَخُصُّ هَذِهِ الْحَالَةَ، وَإِنَّمَا خِلَافُهُمْ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الْأَمْرُ بِشَرْطٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا؟ [التَّنْبِيهُ] السَّادِسُ كُلُّ مَنْ مَنَعَ نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ كَالْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْفِعْلِ وَقْتَ وُجُوبِهِ شَرْطُ تَحَقُّقِ الْأَمْرِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا اللَّائِقُ بِأُصُولِهِمْ. قَالَ: وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَهُ كَمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، فَاخْتَلَفُوا فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ وَذَهَبَ بَعْضٌ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى اشْتِرَاطِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ مُنَاقِضًا لِذَلِكَ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَشَدَّ مُلَاءَمَةً لَهُ.

مسألة المعدوم الذي تعلق العلم بوجوده مأمور

فَائِدَةٌ [تَكْلِيفُ الْمُتَمَكِّنِ وَوُقُوعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْكِنِ] قَالَ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ ": يُكَلَّفُ الْمُتَمَكِّنُ وَيَقَعُ التَّكْلِيفُ بِالْمُمْكِنِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: قَوْلُهُ: يُكَلَّفُ الْمُتَمَكِّنُ، بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي تَقَدُّمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَقْدُورِ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْبُرْهَانِ " صِحَّةُ ذَلِكَ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يَرَاهُ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ. فَأَمَّا عَلَى مَا نَرَاهُ نَحْنُ مِنْ اقْتِرَانِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ فَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إلَّا قَادِرٌ، وَإِنْ أَطْلَقْنَا أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إلَّا مُتَمَكِّنٌ، فَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ فِي الْوَاقِعِ إلَّا مَنْ لَا يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ عَنْ إيقَاعِ الْمَطْلُوبِ. فَأَمَّا اشْتِرَاطُ تَحْقِيقِ الْإِمْكَانِ الَّذِي هُوَ الِاقْتِدَارُ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ أَبَدًا فِي جَرَيَانِ الْعَادَةِ إلَّا بَعْدَ الْعَمَلِ، وَمِنْ الْمُتَعَذَّرِ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي تَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ عِلْمُ مَا لَمْ يَعْلَمْ إلَّا بَعْدَ الِامْتِثَالِ. [مَسْأَلَةٌ الْمَعْدُومُ الَّذِي تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ مَأْمُورٌ] [الْمَعْدُومُ الَّذِي تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ مَأْمُورٌ] الْمَعْدُومُ الَّذِي تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ مَأْمُورٌ عِنْدَنَا بِالْأَمْرِ الْأَزَلِيِّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ أَصْحَابَنَا لَمَّا أَثْبَتُوا الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ آمِرًا نَاهِيًا مُخْبِرًا. قِيلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِ الْخُصُومِ الْقَائِلِينَ

بِحُدُوثِهِ: إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِدُونِ الْمُخَاطَبِ عَبَثٌ، فَاضْطَرَبَ الْأَصْحَابُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فِرْقَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: قَالَتْ: إنَّ الْمَعْدُومَ فِي الْأَزَلِ مَأْمُورٌ عَلَى مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ فِي الْأَزَلِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُجُودِ، وَاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ لَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ حَالَ عَدَمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِتَقْدِيرِ الْوُجُودِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ، ثُمَّ إنَّ الشَّخْصَ الَّذِي سَيُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْأَمْرِ. وَهَذَا مُفَرَّعٌ عَلَى إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ إلَّا الْأَشَاعِرَةُ هَكَذَا نَقَلُوهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ مِنْهُمْ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ. قَالَ إِلْكِيَا: تَعَلُّقُ الْأَمْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُجُودِ مَعَهُ الْأَكْثَرُونَ وَجَوَّزَهُ الْأَشْعَرِيُّ بَلْ أَوْجَبُوهُ، لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ قَدِيمٌ وَلَا مُخَاطِبَ أَزَلًا. وَأَنْكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُسْتَمْسِكِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ، وَلَا يُعْقَلُ الطَّلَبُ مِنْ الْمَعْدُومِ، فَقِيلَ: هَذَا الطَّلَبُ لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطِبًا أَوْ مُتَعَلِّقًا، فَإِنَّهُ نَفْيٌ، وَإِذَا قُلْت: النَّفْيُ مُتَعَلِّقٌ فَكَأَنَّك قُلْت: لَا مُتَعَلِّقَ، فَقِيلَ لَهُمْ: الْمَعْدُومُ كَيْفَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا؟ قُلْنَا: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِنَا فَقِيلَ: هَذَا أَمْرٌ وَلَا مَأْمُورَ. قُلْنَا: هُوَ بِتَقْدِيرِ أَمْرٍ فَإِنَّ الطَّلَبَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ فَلَا يَثْبُتُ دُونَ مُتَعَلَّقِهِ أَصْلًا، كَالْعِلْمِ لَا يَثْبُتُ دُونَ مَعْلُومٍ وَالْكَلَامُ الْأَزَلِيُّ لَيْسَ تَقْدِيرًا. قَالَ: وَأَصْحَابُ الشَّيْخِ يَقُولُونَ: مَعْنَى قَوْلِنَا: " إنَّهُ فِي الْأَزَلِ آمِرٌ " أَنَّهُ صَالِحٌ لَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمَوْجُودِ بَعْدَ وُجُودِهِ كَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ

الصِّفَاتِ، وَإِنْكَارُ بَعْضِهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ يَجُرُّ إلَى مَا سِوَاهُ. اهـ. وَقَدْ عَظُمَ النَّكِيرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْأَشْعَرِيِّ حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ إلَى انْكِفَافِ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْقُدَمَاءِ، فَقَالُوا: كَلَامُ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ لَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا وَوَعْدًا أَوْ وَعِيدًا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الصِّفَاتُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُخَاطَبِينَ فِيمَا لَا يَزَالُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ لِكَلَامٍ خَارِجٍ عَنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَهُوَ يَسْتَحِيلُ، وَلَئِنْ جَازَ ذَلِكَ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى أَنَّ الصِّفَةَ الْأَزَلِيَّةَ لَيْسَتْ كَلَامًا أَزَلًا، ثُمَّ يَسْتَحِيلُ كَوْنُهَا فِيمَا لَا يَزَالُ؟ وَسَهَّلَ الطُّرْطُوشِيُّ أَمْرَ هَذَا الْخِلَافِ، فَقَالَ: لَيْسَ خِلَافًا فِي مَعْنًى، وَإِنَّمَا خِلَافٌ عَائِدٌ إلَى لُغَةٍ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى وُجُودِ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ، وَامْتِنَاعُ الْقَلَانِسِيِّ مِنْ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ آمِرًا نَاهِيًا وَتَسْمِيَةِ كَلَامِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ أَجْلِهِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ هَذَا الِاقْتِضَاءَ قَائِمٌ بِذَاتِ الْبَارِئِ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَا أُطْلِقُ عَلَيْهِ آمِرًا وَلَا عَلَى كَلَامِهِ أَمْرًا حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِمُتَعَلَّقِهِ، فَحِينَئِذٍ أُسَمِّيهِ آمِرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَجَدَّدَ فِي الْقَدِيمِ شَيْءٌ وَهَذَا قَرِيبٌ. وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: الْأَقْوَى أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ آمِرٌ قَبْلَ التَّعْلِيقِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَعَالَى قَادِرٌ قَبْلَ وُجُودِ الْمَقْدُورِ. اهـ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يُرِدْ تَنْجِيزَ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ قِيَامَ التَّعَلُّقِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ قِيَامُ الطَّلَبِ بِالذَّاتِ مِنْ الْمَعْدُومِ إذَا وُجِدَ، صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ أَيْضًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَنَازَعَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ: الْحَقُّ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ إنَّمَا أَرَادَ التَّنْجِيزَ، وَالتَّعَلُّقُ عِنْدَهُ قَدِيمٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّنْجِيزِ تَكْلِيفُ

الْمَعْدُومِ بِأَنْ يُوجَدَ الْفِعْلُ فِي حَالِ عَدَمِهِ بَلْ تَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ بِهِ عَلَى صِفَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُوقِعُهُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهِ وَاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَدَمَ التَّنْجِيزِ بَلْ التَّنْجِيزُ وَاقِعٌ، وَهَذَا مَعْنَاهُ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا فِي الْعَدَمِ أَنْ يُوجَدَ فِي الْعَدَمِ فَقَدْ زَلَّ، فَإِنَّ إتْيَانَهُ بِهِ فِي الْعَدَمِ كَمَا يَسْتَدْعِي الْإِمْكَانَ كَذَلِكَ يَسْتَدْعِي أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْأَمْرُ لَمْ يَقَعْ كَذَلِكَ بَلْ عَلَى صِفَةِ أَنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ الَّتِي فِيهَا الْوُجُوبُ. وَأَقْرَبُ مِثَالٍ لِذَلِكَ: الْوَكَالَةُ فَإِنَّ تَعْلِيقَهَا بَاطِلٌ عَلَى الذَّهَبِ، وَلَوْ نَجَّزَ الْوَكَالَةَ وَعَلَّقَ التَّصَرُّفَ عَلَى شَرْطٍ جَازَ، وَهُوَ الْآنَ وَكِيلُ وَكَالَةٍ مُنَجَّزَةٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا عَلَى مُقْتَضَاهَا، وَهُوَ وِجْدَانُ الشَّرْطِ. الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتْ: إنَّهُ كَانَ فِي الْأَزَلِ آمِرٌ مِنْ غَيْرِ مَأْمُورٍ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَمَرَّ وَبَقِيَ صَارَ الْمُكَلَّفُونَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي الْوُجُودِ مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَضَرَبُوا لِذَلِكَ مِثَالًا: وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَرُبَ مَوْتُهُ قَبْلَ وِلَادَةِ وَلَدِهِ، فَرُبَّمَا يَقُولُ لِبَعْضِ النَّاسِ: إذَا أَدْرَكْت وَلَدِي، فَقُلْ لَهُ: إنَّ أَبَاك كَانَ يَأْمُرُك بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ. فَهَاهُنَا قَدْ وُجِدَ الْآمِرُ، وَالْمَأْمُورُ مَعْدُومٌ حَتَّى لَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الْأَمْرُ إلَى أَوَانِ بُلُوغِ ذَلِكَ الصَّبِيِّ لَصَارَ مَأْمُورًا بِهِ. قَالَ صَاحِبُ " التَّنْقِيحَاتِ ": وَفِيهِ بَحْثٌ إذْ الْكَلَامُ فِيمَا لَيْسَ هُنَاكَ مَأْمُورٌ وَلَا مَنْ يَنْهَى إلَيْهِ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْأَشَاعِرَةِ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ إنَّمَا هُوَ الْخَبَرُ، وَالْخَبَرُ فِي الْأَزَلِ وَاحِدٌ لَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ إضَافَتُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ

تَخْتَلِفُ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَعْلُومَاتِ. وَلَعَلَّ الْأَشَاعِرَةَ إنَّمَا ذَهَبُوا إلَى انْحِصَارِ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْخَبَرِ. لِهَذَا الْغَرَضِ وَالْقَائِلُونَ بِجَوَازِ أَمْرِ الْمَعْدُومِ اخْتَلَفُوا كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَبْلَ وُجُودِ الْمَأْمُورِ أَمْرُ إنْذَارٍ وَإِعْلَامٍ، وَلَيْسَ بِأَمْرِ إيجَابٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّهُ أَمْرُ إيجَابٍ عَلَى شَرْطِ الْوُجُودِ، فَإِنَّ مَا يَتَحَاشَى مِنْ الْإِيجَابِ يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْإِعْدَامِ، وَكَمَا يَتَعَذَّرُ إلْزَامُ الْمَعْدُومِ شَيْئًا يَتَعَذَّرُ إعْلَامُهُ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا تَحْقِيقَ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَوْجُودٍ وَاحِدٍ فَصَاعِدًا، ثُمَّ يَتَّبِعُهُ الْمَعْدُومُونَ عَلَى شَرْطِ الْوُجُودِ وَسُقُوطُ هَذَا وَاضِحٌ. قُلْت: وَهُوَ يُضَاهِي قَوْلَ الْفُقَهَاءِ: يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْمَعْدُومِ تَبَعًا لِمَوْجُودٍ كَوَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَعَلَى مَنْ سَيُولَدُ لِي. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَأَنْكَرُوا خِطَابَ الْمَعْدُومِ وَتَوَصَّلُوا بِزَعْمِهِمْ إلَى إبْطَالِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَعَلَى، هَذَا فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ الْوَارِدَةِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِينَ، وَأَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ تَنَاوَلَهُ بِدَلِيلٍ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ فِي " الْهِدَايَةِ " عَنْ الْغَزَالِيِّ وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ اخْتِيَارَ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومِينَ وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِينَ. قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ: أَنَّهُ إذَا احْتَجَّ عَلَيْنَا بِأَمْرٍ أَوْ خَبَرٍ يَلْزَمُنَا عَلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ يَلْزَمُنَا لَوْ كُنَّا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَوْجُودِينَ مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ إنْ قُلْنَا الْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَنَاوَلُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى قِيَاسٍ أَوْ دَلِيلٍ آخَرَ لِإِلْحَاقِ الْمَوْجُودِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالْمَوْجُودِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.

وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الشَّامِلِ " مَذْهَبَ الشَّيْخِ وَأَشَارَ فِي " الْبُرْهَانِ " إلَى الْمَيْلِ إلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَعَلَى قَضِيَّةِ هَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتَلَفَ الصَّائِرُونَ إلَى قِدَمِ كَلَامِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَنَّ كَلَامَهُ هَلْ يَتَّصِفُ فِي أَزَلِهِ بِكَوْنِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَمْ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى وُجُودِ الْمُكَلَّفِينَ وَتَوَفُّرِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ؟ فَمَنْ جَوَّزَ أَمْرَ الْمَعْدُومِ صَارَ إلَى أَنَّ كَلَامَ الرَّبِّ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ أَمْرًا، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ جَعَلَ كَوْنَهُ أَمْرًا مِنْ الصِّفَاتِ الْآيِلَةِ إلَى الْفِعْلِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَتَّصِفْ فِي أَزَلِهِ بِكَوْنِهِ خَالِقًا، فَلَمَّا خَلَقَ وُصِفَ بِكَوْنِهِ خَالِقًا. قَالَ: وَاَلَّذِي نَرْتَضِيهِ جَوَازُ أَمْرِ الْمَعْدُومِ عَلَى التَّحْقِيقِ بِشَرْطِ الْوُجُودِ، وَأَنْكَرَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ قَاطِبَةً. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْمَعْدُومَ مَأْمُورٌ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِشَرْطِ الْوُجُودِ وَهُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْخِطَابَ بَعْدَ الْوُجُودِ فَلَيْسَ أَمْرَ مَعْدُومٍ، وَإِنْ أَرَادَ خِطَابَهُ حَالَةَ الْعَدَمِ فَذَلِكَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَشْرُوطُ عَلَى الشَّرْطِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ أَصْلٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ إثْبَاتُ كَلَامِ النَّفْسِ لِلْبَارِئِ، فَعِنْدَنَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ أَبَدًا، وَهُوَ يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا خَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْمَعْدُومِ، لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي الْأَزَلِ اتَّصَفَ بِكَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَنَحْنُ مَعْدُومُونَ إذْ ذَاكَ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَصَارُوا إلَى أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ بِخَلْقِهِ إذَا أَمَرَ أَوْ نَهَى وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ فَلَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ قَبْلَ الْمَأْمُورِ.

وَنُقِلَ عَنْ الْقَلَانِسِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: الْبَارِئُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ قَائِمٍ بِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ لَا يَتَّصِفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ إلَّا إذَا أَمَرَ وَنَهَى وَدَخَلَ الْمُكَلَّفُونَ وَحَدَّثَ الْمُخَاطَبُونَ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُمْ أَحَالُوا وُجُودَ أَمْرٍ وَلَا مَأْمُورَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ اللَّهِ أَحَدٌ فِي الْأَزَلِ حَتَّى يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ فَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْأَمْرِ لِاسْتِحَالَةِ الْكَلَامِ. وَدُهِشَ لِهَذَا بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْقَلَانِسِيُّ وَغَيْرِهِ حَتَّى رَكِبَ مَرْكَبًا صَعْبًا فَأَنْكَرَ كَوْنَ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا، فَخَلَصَ بِهَذَا مِنْ إلْزَامِهِمْ، لِأَنَّهُ إذَا نَفَى الْأَمْرَ فِي الْأَزَلِ لَمْ تَجِدْ الْمُعْتَزِلَةُ سَبِيلًا إلَى الطَّعْنِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي قِدَمِ الْقُرْآنِ، لَكِنَّهُ اسْتَبْعَدَ أَمْرًا وَفَرَّ مِنْهُ، فَوَقَعَ فِي آخَرَ أَبْعَدَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ كَلَامَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قَدِيمًا فِي الْأَزَلِ عَلَى غَيْرِ حَقَائِقِ الْكَلَامِ مِنْ كَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا. وَإِثْبَاتُ كَلَامٍ لَيْسَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَلَا خَبَرٍ. وَلَا اسْتِخْبَارٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَكَأَنَّ مُثْبَتَهُ لَمْ يَثْبُتْ كَلَامًا، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ صِفَةً أُخْرَى غَيْرَ كَلَامٍ. فَالْحَاصِلُ: صُعُوبَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَنْشَأَ عَنْهَا نَفْيُ قِدَمِ الْكَلَامِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَّا إثْبَاتُ قِدَمِ الْكَلَامِ، وَفِيهِ إثْبَاتُ قِدَمِ الْخَلَائِقِ الْمَأْمُورِينَ أَوْ إثْبَاتِ أَمْرٍ وَلَا مَأْمُورَ، وَإِمَّا إثْبَاتُ كَلَامٍ قَدِيمٍ عَارَضَ حَقَائِقَ الْكَلَامِ، فَأَمَّا شَيْخُ الْمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيُّ فَلَمْ يَسْتَبْعِدْ إثْبَاتَ أَمْرٍ فِي الْأَزَلِ وَلَا مَأْمُورَ لِأَنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَمْرَ الْغَائِبِ، وَإِنَّمَا يُتَوَجَّهُ عِنْدَ حُضُورِهِ. وَأَجَابَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ الَّذِي نَجِدُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا تَقْدِيرُ أَمْرٍ إذَا حَضَرَ لَا نَفْسَ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، وَكَلَامُ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا التَّقْدِيرُ.

وَاسْتَدَلَّ شَيْخُنَا بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَعْدُومَ يَأْمُرُ بِهِ. تَقُولُ بِهِ: زُرْنِي غَدًا، وَبِأَنَّ الْخَلْقَ إلَى يَوْمِنَا لَمْ يَزَالُوا مَأْمُورِينَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَصْفُو بَعْدَ تَصَوُّرِ أَحْكَامِ التَّعَلُّقَاتِ وَمُتَعَلِّقَاتهَا، وَصَرْفِ التَّعْيِينِ إلَى الْمُتَعَلِّقَاتِ لَا الْمُتَعَلِّقِ، وَهُوَ مِنْ الْغَوَامِضِ. وَأَهْلُ الْحَقِّ أَثْبَتُوا هَذِهِ التَّعَلُّقَاتِ أَزَلِيَّةً، لِأَنَّ نَفْيَهَا عَنْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ. وَقَالَ الْمُقْتَرَحُ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْبُرْهَانِ ": التَّقْدِيرُ هَاهُنَا لَيْسَ عَائِدًا إلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ حَادِثٌ وَيَسْتَحِيلُ قِيَامُ الْحَادِثِ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ إلَى الْمُكَلَّفِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُقَدِّرُ فِي نَفْسِهِ احْتِمَالُ وُجُودِ هَذَا الْمَعْدُومِ، وَاحْتِمَالُ أَنْ لَا يُوجَدَ، فَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ يَكُونُ مَأْمُورًا قَالَ: وَإِنْ صَدَّقْنَا وَحَقَّقْنَا قُلْنَا: الْأَمْرُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَعْدُومِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ الْمُتَوَقَّعِ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ الْأَزَلِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ الَّذِي سَيَكُونُ، كَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ الْأَزَلِيُّ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي سَيَكُونُ، فَالْأَمْرُ إذَنْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ الطَّلَبُ بِالْمَوْجُودِ بِالْمَعْدُومِ، فَإِنَّ نَفْيَ التَّنْجِيزِ يُشْعِرُ بِذَلِكَ. تَنْبِيهَانِ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ هَذَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمَأْمُورَ مَتَى يَصِيرُ مَأْمُورًا؟ هَلْ مِنْ الْأَزَلِ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِهِ وَشُرُوطٍ أُخْرَى؟ وَإِنْ كَانَ أَنْشَأَ الْأَمْرَ مُتَقَدِّمًا يُضَاهِيهِ الْبَحْثُ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ.

مسألة لا يشترط في المكلف الحرية

الْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: بِالتَّعْلِيقِ يَنْعَقِدُ سَبَبُهُ، وَعِنْدَ الصِّفَةِ تَعَذَّرَ إنْشَاؤُهُ وَيُجْعَلُ كَالنَّازِلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَقُولُونَ: إنَّ التَّعْلِيقَ الْمُتَقَدِّمَ هُوَ الْعِلَّةُ فَيُؤَثِّرُ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا أَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِمْ الْآنَ، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ مَصْرِفُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا يَصِيرُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ إذَا انْقَرَضَ مِنْ قَبْلِهِ وَلَعَلَّ خِلَافَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَأْتِي فِي ذَلِكَ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ مَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاةِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى فَهَلْ نَقُولُ: إنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقَالَ بِهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ أَهْلَ الشَّيْءِ هُوَ الْمُسْتَقِرُّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَأَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا» ؟ فَكَذَلِكَ يَقُولُ: إنَّ مِنْ شَرْطِ اسْمِ الْوَقْفَ الِاسْتِحْقَاقُ. [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي لَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ " لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ الشَّرْعِ " تَنَاقُضٌ، كَمَا قَدْ يَظُنُّ، فَإِنَّهُ إنْ فَسَّرَ لَا حُكْمَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ فَسَّرَ بِعَدَمِ الْحُكْمِ، فَكَذَلِكَ، لِأَنَّا نَقُولُ: دَالُّ الْحُكْمِ فِي الْأَزَلِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْمُكَلَّفِ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُودِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فَمَعْنَى لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ الشَّرْعِ: أَيْ لَا تَعَلُّقَ لِلْأَمْرِ فَلَا تَنَاقُضَ. [مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُكَلَّفِ الْحُرِّيَّةُ] وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُكَلَّفِ الْحُرِّيَّةُ بَلْ يُدَخِّلُ الْعَبِيدُ فِي الْخِطَابِ الْعَامِّ

مسألة دخول الذكور في الإناث في الخطاب

نَحْوَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] وَهُوَ كَالْحُرِّ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِ الْخِطَابِ بِالْأَحْرَارِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي الْعُمُومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَحُكْمُ مَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ الرِّقِّ حُكْمُ الرَّقِيقِ. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِي بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي كِتَابِ " بَيَانِ الْبُرْهَانِ " وَقَلَّ مَنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ فِي " الْإِرْشَادِ ": وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَالُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ. [مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الذُّكُورِ فِي الْإِنَاثِ فِي الْخِطَابِ] [دُخُولُ الذُّكُورِ فِي الْإِنَاثِ فِي الْخِطَابِ] لَا يُشْتَرَطُ الذُّكُورِيَّةُ بَلْ الْخِطَابُ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَتَّبِعُ فِي ذَلِكَ وَضْعَ اللُّغَةِ، فَإِنْ وَرَدَتْ لَفْظٌ تَخُصُّ الرِّجَالَ خَصَّصْنَا بِهِمْ فَإِنْ وُضِعَتْ شَرِكَةٌ حَمَلْنَاهَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ سَيَأْتِي فِي الْعُمُومِ، وَيَتَنَاوَلُ الْخُنْثَى، لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَنْهُمَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأُصُولِيُّونَ. [مَسْأَلَةٌ تَكْلِيفُ الْجِنِّ] [تَكْلِيفُ الْجِنِّ] وَلَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ الْإِنْسِيَّةُ بَلْ الْجِنُّ مُكَلَّفُونَ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ وَقَعَ

الركن الرابع المكلف به

نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ فَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ: إنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ لَكِنْ لَا عَلَى حَدِّ تَكْلِيفِ الْإِنْسِ بِهَا، لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْإِنْسَ بِالْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، فَبِالضَّرُورَةِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي بَعْضِ التَّكَالِيفِ. مِثَالُهُ. أَنَّ الْجِنَّ قَدْ أُعْطِيَ بَعْضُهُمْ قُوَّةَ الطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِقَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلْحَجِّ طَائِرًا، وَالْإِنْسَانُ لِعَدَمِ تِلْكَ الْقُوَّةِ لَا يُخَاطَبُ بِذَلِكَ. هَذَا فِي طَرَفِ زِيَادَةِ تَكْلِيفِهِمْ عَلَى تَكْلِيفِ الْإِنْسِ، فَكُلُّ تَكْلِيفِهِ يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ طَبِيعَةِ الْإِنْسِ يَنْتَفِي فِي حَقِّ الْجِنِّ، لِعَدَمِ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ فِيهِمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى تَكْلِيفِ الْجِنِّ بِالْفُرُوعِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرْسِلَ بِالْقُرْآنِ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَجَمِيعُ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ يَتَوَجَّهُ إلَى الْجِنْسَيْنِ، وَقَدْ تَضْمَنَّ ذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ الْإِنْسِ مُخَاطَبُونَ بِهَا وَكَذَلِكَ كُفَّارُ الْجِنِّ. [الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْمُكَلَّفُ بِهِ] ِ] وَلَهُ شُرُوطٌ [شُرُوطُ الْمُكَلَّفِ بِهِ] أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا مِنْ حَيْثُ هُوَ يُمْكِنُ حُدُوثُهُ، إذْ إيجَادُ الْمَوْجُودِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ، إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا لِلْقُدْرَةِ. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِكَسْبِ الْمُكَلَّفِ، فَلَا يَصِحُّ أَمْرُ زَيْدٍ بِكِتَابَةِ عَمْرٍو، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى هَذَا بِإِلْزَامِ الْعَاقِلَةِ دِيَةَ خَطَأِ وَلِيِّهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْمُخَالِفُ فِيهِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْفَرَائِضِ: ذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ إلَى أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَى

الْمُحْتَضَرِ أَنْ يُوصِيَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ بِمَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْفَرَائِضِ، وَكَانَ مَنْ يُوَفَّقُ لِذَلِكَ مُصِيبًا وَمَنْ تَعَدَّاهُ مُخْطِئًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا زَلَلٌ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الشَّرَائِعِ فَإِنَّهُ تَكْلِيفٌ عَلَى عَمَائِهِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ، وَالْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ الْكَفُّ وَالْكَفُّ فِعْلُ الْإِنْسَانِ دَاخِلٌ تَحْتَ كَسْبِهِ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرْكُ نَفْيٌ مَحْضٌ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ وَلَا الْكَسْبِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «تَكُفُّ شَرَّكَ عَنْ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ» نَعَمْ. لَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ عَلَى الْكَفِّ إلَّا مَعَ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ دُونَ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ. خَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لَهُ عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا الشَّرْطِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَبَعْضُهُمْ تَرْجَمَهَا بِالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِهَا. فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْدُومَ إمَّا مُمْكِنٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ، فَالْمُمْكِنُ مَا اسْتَوَتْ نِسْبَتُهُ إلَى الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَيَحْتَاجُ فِي وُجُودِهِ إلَى مُرَجِّحٍ وَمُخَصِّصٍ، وَالْوَاجِبُ مَا تَرَجَّحَ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ وَالْمُمْتَنِعُ مَا تَرَجَّحَ عَدَمُهُ عَلَى وُجُودِهِ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمُمْتَنِعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ أَوْ امْتِنَاعُهُ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَالْوَاجِبُ لَا لِذَاتِهِ مَا تَوَقَّفَ وُجُودُهُ عَلَى سَبَبٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ كَسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ حَالَ وُجُودِهَا، وَالْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ

الضِّدَّيْنِ، وَالْمُمْتَنِعُ لِغَيْرِهِ كَتَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ أَنَّ فُلَانًا يَمُوتُ كَافِرًا وَهُوَ أَمْثَالُ الْمَشْهُورِ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِذَنْ الْمُحَالُ ضَرْبَانِ: مُحَالٌ لِذَاتِهِ وَمُحَالٌ لِغَيْرِهِ، وَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ فِيهِمَا. وَيُطْلِقُهُ الْأُصُولِيُّونَ وَالْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يُعْقَلُ عَلَى حَالٍ، وَهُوَ الْمُسْتَحِيلُ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَقَلْبِ الْأَجْنَاسِ، وَإِعْدَامِ الْقَدِيمِ، وَإِيجَادِ الْمَوْجُودِ. الثَّانِي: عَلَى مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ كَخَلْقِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَإِلَّا لَمَا أَدْرَكُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَجْزًا عَنْهُ. الثَّالِثُ: مَا لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ، كَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ. الرَّابِعُ: عَلَى جِنْسِ الْمَقْدُورِ فِي الْعَادَةِ وَلَكِنْ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً عَلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا جَمِيعُ الطَّاعَاتِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ، وَالْمَعَاصِي الْوَاقِعَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُقَدِّرْ الْعَاصِيَ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا الْمُمْتَنِعَ مِنْ الطَّاعَةِ عَلَى فِعْلِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ قِسْمًا آخَرَ، وَهُوَ تَكْلِيفُ الْقَاعِدِ الْقِيَامَ وَالْقَائِمِ الْقُعُودَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ.

جواز تكليف المحال

إذَا عَلِمَتْ هَذَا فَالنَّظَرُ فِي شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ، وَالثَّانِي: الْوُقُوعُ. [جَوَازُ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ] [جَوَازُ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ] أَمَّا الْجَوَازُ فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ جَوَازُهُ مُطْلَقًا، قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الشَّامِلِ " الَّذِي مَالَ إلَيْهِ أَكْثَرُ أَجْوِبَةِ شَيْخِنَا وَارْتَضَاهُ الْمُحَصِّلُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ جَائِزٌ عَقْلًا، وَكَذَلِكَ تَكْلِيفُ الشَّيْءِ مَعَ تَقْدِيرِ الْمَنْعِ مِنْهُ اسْتِمْرَارًا، وَفِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ لَا يُسَوِّغُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ كَجَمْعِ الضِّدَّيْنِ، وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْمَانِعِ مِنْهُ، وَمَعَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ ثُمَّ لَمْ يَصِرْ فِي مَنْعِهِ إلَى التَّقْبِيحِ الَّذِي ادَّعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ " الْإِرْشَادُ ": مِنْ صُوَرِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ، وَإِيقَاعُ مَا يَخْرُجُ عَنْ قَبِيلِ الْمَقْدُورَاتِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ. اهـ. وَقَدْ نَصَّ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ " الْوَجِيزِ " عَلَى الْجَوَازِ، فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِاسْتِحَالَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] فَقَالَ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا لَمَا اسْتَقَامَ الِابْتِهَالُ إلَى اللَّهِ بِدَفْعِهِ. اهـ. يَعْنِي لَوْلَا جَوَازُهُ لَمَا اسْتَعَاذُوا مِنْهُ، إذْ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ مُحَالٍ مُحَالٌ، وَالْخَصْمُ يَتَأَوَّلُهُ عَلَى مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، ثُمَّ هِيَ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ الْآيَةِ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .

وَحَاوَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ نَفْيَ هَذَا الْمَذْهَبِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ، وَزَعَمَ أَنَّ الَّذِي جَوَّزَهُ وُرُودُ صِيغَةٍ مُضَاهِيَةٍ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا تَعْجِيزُ وَتَبْيِينُ حُلُولِ الْعِقَابِ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ طَلَبًا وَاقْتِضَاءً، وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] فَإِنَّ ظَاهِرَهُ تَعْلِيقُ الْخَلَاصِ مِنْ الْعِقَابِ بِانْسِلَاكِ الْجَمَلِ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ تَعْلِيقًا، وَإِنَّمَا هُوَ إبْدَاءُ الْيَأْسِ مِنْ النَّجَاةِ. وَيَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ صَدْرُ الْآيَةِ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَهَذَا مَا حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الشَّامِلِ " عَنْ وَالِدِهِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ وَارْتَضَاهُ صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " حَيْثُ قَالَ فِي بَعْضِ الْأَجْوِبَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا: التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ جَائِزٌ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْأَمْرُ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَصَوَّرُ الطَّاعَةَ مِنَّا فِي ذَلِكَ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ نَعْجَزُ عَنْهُ قَطْعًا وَأَنَّهُ مَتَى أَمَرَنَا بِهِ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِنُزُولِ الْعِقَابِ لَكِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَمَّا حَكَاهُ عَنْ وَالِدِهِ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ عَقْلًا تَسْمِيَةُ الطَّلَبِ مِنْ الْمُحَالِ لَزِمَ مِثْلُهُ وَتَكْلِيفُ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ وَإِنْ سَاغَ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ طَلَبًا سَاغَ فِي تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَيُعْتَضَدُ ذَلِكَ بِأَصْلٍ عَظِيمٍ مِنْ أُصُولِنَا، وَهُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ الصَّادِرَ لَيْسَ مَنِّ شَرْطِ ثُبُوتِهِ كَوْنُ الْمُكَلَّفِ مُرِيدًا لِوُقُوعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ إرَادَةُ وُقُوعِ الْمُحَالِ، وَأَمَّا طَلَبُهُ مَعَ انْتِفَاءِ إرَادَةِ امْتِنَاعِهِ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": وَسَاعَدَهُمْ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ.

قُلْت: وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَنَقَلَهُ فِي " الْمُرْشِدِ " عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَمِنْ الْأَقْدَمِينَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْإِعْلَامِ " وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي " الْأُمِّ " فَإِنَّهُ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أَنَّ عَلَيْكُمْ إتْيَانَ الْأَمْرِ فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ، لِأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا كُلِّفُوا فِيمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ الْفِعْلِ اسْتِطَاعَةَ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُكَلَّفٌ. وَأَمَّا النَّهْيُ فَالتُّرْكُ لِكُلِّ مَا أَرَادَ تَرْكَهُ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَكْلِيفِ شَيْءٍ يَحْدُثُ، إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مُتَكَلَّفٌ عَنْهُ. اهـ لَفْظُهُ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَلَيْسَ مَأْخَذُ الْمَانِعِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ التَّقْبِيحُ الْعَقْلِيُّ كَمَا صَارَ إلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ بَلْ مَأْخَذُهُمْ: أَنَّ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ لَا يَصِحَّانِ مِنْ الْعَاجِزِ فَبَطَلَ تَقْدِيرُ الْوُجُوبِ وَعَلَى هَذَا إنَّمَا كُلِّفَ أَبُو لَهَبٍ بِأَنْ يُصَدِّقَ بِأَنْ لَا يَصْدُقَ، بَلْ كُلِّفَ أَنْ يُصَدِّقَ، وَلَوْ صَدَّقَ لَكَانَ مِمَّنْ لَا يَصْدُقُ، لِقَوْلِهِ: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] أَيْ إنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ، فَلَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ. وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ فَلَا يَجُوزُ، أَوْ لِغَيْرِهِ فَيَجُوزُ، وَنُقِلَ عَنْ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ مَيْلِ الْغَزَالِيِّ وَقَدْ رَأَيْت فِي " الْإِحْيَاءِ " لَهُ التَّصْرِيحُ بِالْجَوَازِ، وَقَالَ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ وَجَدَ لَهُ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ. وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ " الْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَاَلَّذِي يَمْنَعُهُ الْمُحَالُ بِنَفْسِهِ وَإِيمَانُ أَبِي لَهَبٍ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ مُسْتَحِيلٌ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِعَدَمِهِ فَلَا يَكُونُ

وقوع التكلف بالمحال

دَاخِلًا فِي مَا مَنَعْنَاهُ، هَذَا كَلَامُهُ، وَغَلَطَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا. وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ التَّكْلِيفُ بِالْمَحَالِ، فَإِنْ وَرَدَ لَا نُسَمِّيهِ تَكْلِيفًا بَلْ عَلَامَةً نَصَبَهَا اللَّهُ عَلَى عَذَابِ مَنْ كَلَّفَهُ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَالْخِلَافُ عَلَى هَذَا لَفْظِيٌّ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعْنَوِيٌّ، وَقَالَ فِي " الْوَجِيزِ ": إذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَاخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ تَسْمِيَتَهُ تَكْلِيفًا وَإِلَيْهِ مَالَ الْأُسْتَاذُ، وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى تَسْمِيَتِهِ تَكْلِيفًا. [وُقُوعُ التَّكَلُّفِ بِالْمُحَالِ] وَأَمَّا الْوُقُوعُ السَّمْعِيُّ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، وَقِيلَ: إنَّ الْأُسْتَاذَ حَكَى فِيهِ الْإِجْمَاعَ. قَالَ الْإِمَامُ فِي " الشَّامِلِ ": وَإِلَيْهِ صَارَ الدَّهْمَاءُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَعَلَيْهِ جُلُّ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً، وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى وُقُوعِهِ. وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ كَقَلْبِ الْحَقَائِقِ مَعَ بَقَاءِ الْحَقِيقَةِ الْأُولَى، فَيُمْتَنَعُ. وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ لِغَيْرِهِ فَيَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ فِي " الشَّامِلِ ". وَقِيلَ: وَقَعَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي جَعْفَرِ بْنِ السَّمْنَانِيِّ. وَاضْطَرَبَ النَّاقِلُونَ عَنْ الْأَشْعَرِيَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ وَاقِعٌ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ فِي الْإِرْشَادِ، وَأَنَّهُ احْتَجَّ لِلْوُقُوعِ الشَّرْعِيِّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَبَا جَهْلٍ

أَنْ يُصَدِّقَهُ، وَيُؤْمِنَ بِهِ فِي جَمِيعِ مَا يُخْبِرُ عَنْهُ، وَمِمَّا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ بِأَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ، وَذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ اهـ. وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ الْآمِدِيُّ فِي " الْإِحْكَامِ " وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ الْوَقْفَ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي " الشَّامِلِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَتْبَاعُهُ كَابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ بَرْهَانٍ: وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِ بَلْ التَّكَالِيفُ بِأَسْرِهَا عِنْدَهُ لِغَيْرِ الْمُمْكِنِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا يَقَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْعَبْدُ إذَنْ مُخَاطَبٌ بِمَا لَيْسَ إلَيْهِ إيقَاعُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا مَعْنًى لِلتَّمْوِيهِ بِالْكَسْبِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عِنْدَهُ مَعَ الْفِعْلِ وَالتَّكْلِيفُ بِهِ يَتَوَجَّهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَهُوَ إذْ ذَاكَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْفِعْلِ حَالَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ حَالَ الْخِطَابِ. وَأَجَابَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْقُدْرَةَ لَمْ تُقَارِنْ الْفِعْلَ، وَإِنْ قَارَنَتْ الضِّدَّ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُمَا ضَعِيفَانِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ عَلَى رَأْيِ الشَّيْخِ لَا عَلَى رَأْيِهِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ فِيهِ تَسْلِيمًا أَنَّ بَعْضَ التَّكَالِيفِ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ لَا كُلِّهِ

وَهُوَ مَقْصُودُ الْمَسَائِلِ وَنَقِيضُ مَقْصُودِهِ، بَلْ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَا هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْخِطَابِ لَيْسَ ضِدًّا لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ ضِدَّهُ الْوُجُودِيُّ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ التَّلَبُّسَ بِهِ تَرْكُهُ فِي الزَّمَانِ الَّذِي أَمَرَ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِيهِ، وَهُوَ فِي زَمَانِ وُرُودِ الْخِطَابِ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِهِ، لِأَنَّ زَمَانَ الْفِعْلِ هُوَ الزَّمَانُ الثَّانِي إنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْفَوْرِ. سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ ضِدُّهُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَكِنَّهُ حَاصِلٌ عِنْدَ وُرُودِ الْخِطَابِ، وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ مَا هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ غَيْرُ لَازِمٍ عَلَى الشَّيْخِ، لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْفِعْلِ لَكِنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَيْسَ قَبْلَهُ عِنْدَهُ عَلَى مَا أَشْعَرَ بِهِ نَقَلَ الْإِمَامُ فَإِنْ صَحَّ هَذَا مِنْ مَذْهَبِهِ كَانَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ لَازِمٍ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: تَكْلِيفُهُ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ تُمَكِّنُ مِنْ إيجَادِ الْفِعْلِ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى فَسَادٍ سَبَقَهَا الْفِعْلُ، أَنَّهَا عَرَضٌ، فَلَوْ بَقِيَتْ لَزِمَ بَقَاءُ الْأَعْرَاضِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ. ثُمَّ الشَّرْعُ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ اسْتِطَاعَةِ الْفِعْلِ بِأَنَّا لَا نَحْكُمُ بِهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَمْ يَغْلَطْ الْقَوْمُ فِي نَقْلِ مَذْهَبِ الرَّجُلِ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: إنَّ الْأَشْعَرِيَّ أَجَازَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ أَيْ فِي الْحَالِ لَا فِي الِاسْتِقْبَالِ وَمَا يَكُونُ إيقَاعُهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَالِ، وَلَوْ قُيِّدَ إطْلَاقُهُ بِهَذَا لَمْ يَتَعَقَّبْ عَلَيْهِمْ نَقْلُهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَخْذَ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، لِأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَلَامُ الْأَشْعَرِيِّ مُصَرِّحٌ بِوُقُوعِ الْمُمْتَنِعِ

التكليف بما علم الله أنه لا يقع

لِغَيْرِهِ وَالِاضْطِرَابُ فِي النَّقْلِ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ فِي كِتَابِ " الْإِيجَازِ " بِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا، وَتَكْلِيفَ الْمُحَالِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ صَحِيحٌ وَجَائِزٌ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ وُجِدَ تَكْلِيفُ اللَّهِ الْعِبَادَ بِمَا هُوَ مُحَالٌ لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِقَضِيَّةِ أَبِي لَهَبٍ وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ مُكَلَّفٌ بِالْإِيمَانِ. وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِالْوُقُوعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129] مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ وَاجِبٌ. وَوَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى الْقُدْرَةَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْخَبَرِ الصَّادِقِ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى ذَلِكَ مَعَ تَكْلِيفِهِ بِمَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، نَقَلَهُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ وَقُصَارَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْمُجَوِّزُونَ ظَوَاهِرُ لَا تُفْضِي إلَى الْقَطْعِ وَلَيْسَ الِامْتِنَاعُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " إلَى أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ لَا يُسَمَّى مُسْتَحِيلًا. لِأَنَّهُ فِي ذَاتِهِ جَائِزُ الْوُقُوفِ. [التَّكْلِيفُ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ] فَوَائِدُ الْأُولَى [التَّكْلِيفُ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ] نَقَلَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ الْإِجْمَاعَ عَلَى صِحَّةِ التَّكْلِيفِ عَقْلًا بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ بُرْهَانٍ قَالَ: إنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِنَا

صَارُوا إلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى تَكْلِيفًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَ الْكُفَّارَ بِالْإِيمَانِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مَعَ الْفِعْلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْخِلَافَ السَّابِقَ فِي التَّكْلِيفِ بِفِعْلٍ مَشْرُوطٍ عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَ وُقُوعِهِ يَجْرِي هُنَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ". فَقَالَ: قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ يَعْنِي عَبْدَ الْجَبَّارِ: لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرِدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُكَلَّفَ الْوَاحِدَ بِالْأَمْرِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْهُ، قَالَ: وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمُوتُ أَوْ يَعْجَزُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى وَيَقْدِرَ. انْتَهَى. وَأَيْضًا فَقَدْ حَكَى الْإِبْيَارِيُّ وَغَيْرُهُ خِلَافًا فِي أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ هَلْ هُوَ مُسْتَحِيلٌ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ؟ فَعَلَى الثَّانِي يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مَنْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَقَدْ صَارَ إيمَانُهُ كَالْمُمْتَنِعِ إيقَاعُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَخَالَفَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُخَالَفَةُ عِلْمِهِ لَا تَصِحُّ، وَلَكِنَّ هَذَا الِامْتِنَاعَ لَيْسَ رَاجِعًا إلَى عَدَمِ الْإِمْكَانِ. مِنْ نَاحِيَةِ الْفِعْلِ بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ، وَعِلْمُ اللَّهِ لَا يَصِيرُ الْمُمْكِنُ غَيْرَ مُمْكِنٍ، فَبَقِيَ عَلَى إمْكَانِهِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْإِيمَانُ فِي حَقِّهِمْ كَالْمَعْجُوزِ عَنْهُ الْمُسْتَحِيلِ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ. قُلْت: وَيَدُلُّ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مَعَ الْفِعْلِ.

الثَّانِيَةُ [كَيْفَ يَطْلُبُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ مَا يُخَالِفُ عِلْمَهُ؟] اسْتَشْكَلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ تَوْجِيهَ الْجَوَازِ، فَقَالَ: إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ بَعْضَ الْخَلْقِ أَوْ أَكْثَرَهُمْ لَا يُطِيعُونَ وَلَا يَمْتَثِلُونَ فَكَيْفَ يَطْلُبُ مِنْهُمْ مَا يُخَالِفُ عِلْمَهُ؟ فَعَلَى هَذَا فَقَدْ كَلَّفَهُمْ بِمَا لَا يُطِيقُونَ، لِأَنَّ مَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَوَاجِبٌ لَازِمٌ أَنْ لَا يَكُونَ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ. وَأَجَابَ: بِأَنْ أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ تَوْجِيهَ الْخِطَابِ لِلْأَشْقِيَاءِ الَّذِينَ لَا يَمْتَثِلُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَلَا يَجْتَنِبُونَ مَا نُهُوا عَنْهُ لَيْسَ طَلَبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةٌ وُضِعَتْ عَلَى شَقَاوَتِهِمْ، وَأَمَارَةٌ نُصِبَتْ، عَلَى تَعْذِيبِهِمْ، إذْ لَا يَبْعُدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُعَبَّرَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْخَبَرِ. قُلْت: وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ حَكَاهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ وَالِدِهِ وَزَيَّفَهَا، وَابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْأُسْتَاذِ كَمَا سَبَقَ، وَاسْتَأْنَسَ لَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ بِتَكْلِيفِ الْمُصَوِّرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ شَعِيرَةً. . . الْحَدِيثَ. الثَّالِثَةُ [اسْتِحَالَةُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِالْكُفْرِ] قَالَ الْإِمَامُ فِي " الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ " يَسْتَحِيلُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِالْكُفْرِ بِاَللَّهِ

تَعَالَى، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ الْأَمْرُ بِالْجَهْلِ بِهِ؟ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ جَمْعِ الضِّدَّيْنِ. الرَّابِعَةُ [التَّكْلِيفُ بِالْمُمْكِنِ الْمَشْرُوطِ مُسْتَحِيلٌ] اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ بِالْمُمْكِنِ مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ مُسْتَحِيلٍ أَمْ لَا؟ أَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَاتَّفَقُوا عَلَى الْمَنْعِ هَاهُنَا، وَأَمَّا الْمُجَوِّزُونَ فَاخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ كَمَا يَجُوزُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِنَفْسِ الْمُسْتَحِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ لِتَهَافُتِ الصِّيغَةِ، وَأَنَّهُ إذَا قِيلَ: إنْ تَحَرَّكَ زَيْدٌ فِي حَالِ سُكُونِهِ فَقُمْ، فَإِنَّهُ يُؤَوَّلُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ، فَلَا يَقُمْ. فَسَلَبَ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ مَعْنَى الِاقْتِضَاءِ. الْخَامِسَةُ [تَأْقِيتُ الْعِبَادَةِ بِوَقْتٍ لَا يَسَعُهَا] لَا يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْعِبَادَةِ بِوَقْتٍ لَا يَسَعُهَا إنْ مَنَعْنَا تَكْلِيفَ الْمُسْتَحِيلِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ، مَنْ أَدْرَكَ مِنْ أَصْحَابِ الضَّرُورَاتِ قَدْرَ رَكْعَةٍ مِنْ آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ لَزِمَتْهُ، فَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ وُجُوبَ الْأَدَاءِ بَلْ الْقَضَاءِ. قَالَهُ الْإِمَامُ فِي التَّلْخِيصِ. السَّادِسَةُ [الْفَرْقُ بَيْنَ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ] فَرْقٌ بَيْنَ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، فَتَكْلِيفُ الْمُحَالِ: أَنْ يَرْجِعَ

الْخَلَلُ إلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَأَمَّا التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ فَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الْخَلَلُ إلَى الْمَأْمُورِ نَفْسِهِ، كَتَكْلِيفِ الْمَيِّتِ وَالْجَمَادِ وَالْبَهَائِمِ فَلَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِالْإِجْمَاعِ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. السَّابِعَةُ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّمَسُّكُ بِقَضِيَّةِ أَبِي لَهَبٍ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إنَّمَا خَصَّ الْأُصُولِيُّونَ ذِكْرَ أَبِي لَهَبٍ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْكُفَّارِ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ أَمْرَانِ، عِلْمُ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَخَبَرُهُ بِذَلِكَ، فَلِهَذَا أَكْثَرُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِذَلِكَ. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْكُفَّارِ كَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَقَدْ صَارَ إيمَانُهُ كَالْمُمْتَنِعِ إيقَاعُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَخَالَفَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَاقَشَ الْقَرَافِيُّ فِي التَّمْثِيلِ بِأَبِي لَهَبٍ، وَقَالَ: إنَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِعَدَمِ إيمَانِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] وَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ التَّبَّ هُوَ الْخُسْرَانُ، وَقَدْ يَخْسَرُ الْإِنْسَانُ، وَيَدْخُلُ النَّارَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ لِمَعَاصِيهِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] فَمَخْصُوصَةٌ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي تَفْسِيرِهِ صِحَّتَهَا وَقَالَ: هَذَا لَا يَثْبُتُ وَلَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَلَا فِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَا يُؤْمِنُ وَكَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ بِأَنْ لَا يُؤْمِنَ، وَقَالَ: إنَّمَا يَنْبَغِي التَّمْثِيلُ بِقَضِيَّةِ ثَعْلَبَةَ فَإِنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ إنْ وَسَّعَ عَلَيْهِ لِيَتَصَدَّقَ، فَلَمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ وَجَاءَهُ

مُصَدِّقُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطْلُبُ مِنْهُ الزَّكَاةَ امْتَنَعَ، وَقَالَ: (مَا هَذِهِ إلَّا وَالْجِزْيَةُ سَوَاءٌ) ، فَرَجَعَ الْمُصَدِّقُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] . قَالَ: فَهَذَا الَّذِي نَبْغِي أَنْ يُمَثِّلَ بِهَا التَّكْلِيفُ، بِخِلَافِ الْمَعْلُومِ مَعَ انْكِشَافِ الْعَاقِبَةِ لِثُبُوتِهَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. قَالَ: وَقَدْ عَلِمْت اخْتِلَافَ الْأُصُولِيِّينَ هَلْ يَسْتَمِرُّ التَّكْلِيفُ مَعَ كَشْفِ الْعَاقِبَةِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُمْكِنِ أَوْ لَا يَسْتَمِرُّ نَظَرًا إلَى مَا يَخْلُصُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ؟ أَوْ نَقُولُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ: إنَّ اللَّهَ كَلَّفَ هَؤُلَاءِ بِالْإِيمَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ الْإِيمَانَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ مُخْلِصٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ إذَا كَلَّفَهُمْ عَلَى الْعُمُومِ أَنْ يُصَدِّقُوا بِكُلِّ خَبَرٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْعُمُومِ الْخَبَرُ بِأَنَّهُمْ لَا يَصْدُقُونَ عَادَ الْإِشْكَالُ. وَالتَّحْقِيقُ: الْتِزَامُ رَفْعِ التَّكْلِيفِ عَنْ هَؤُلَاءِ وَيَقْدِرُ أَحَدُهُمْ عِنْدَ إخْبَارِ اللَّهِ عَنْهُ بِأَنْ يُؤْمِنَ أَبَدًا فِي عَدَدِ الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَئِسَ مِنْهُمْ، وَانْقَطَعَ التَّكْلِيفُ فِي حَقِّهِمْ، نِقْمَةً عَلَيْهِمْ لَا رَحْمَةً بِهِمْ. اهـ. وَهُوَ قَوْلٌ عَجِيبٌ، وَأَقْرَبُ مِنْهُ مَا سَبَقَ عَنْ الْأُسْتَاذِ وَالْجُوَيْنِيِّ وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ. وَقَوْلُهُ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ قَدْ أَنْكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَقَالَ

مسألة ثبوت الوجوب في الذمة لا يشترط فيه الإمكان

فِي كِتَابِهِ " الْمَغَازِي ": وَقَدْ عُدَّ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ فِيمَنْ شَهِدَ بَدْرًا قَالَ: وَيُعَارِضُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 77] الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي ثَعْلَبَةَ: إنَّهُ مَانِعُ الزَّكَاةِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ غَيْرُ صَحِيحٍ. [مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ لَا يُشْتَرَطْ فِيهِ الْإِمْكَانُ] ُ] سَبَقَ فِي الْكَلَامِ الْوُجُوبُ أَنَّ الْوُجُوبَ الْمُتَوَقِّفَ عَلَى الْإِمْكَانِ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ أَمَّا ثُبُوتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِمْكَانُ بَلْ يُبْنَى عَلَى السَّبَبِ، فَإِذَا وُجِدَ سَبَبُهُ ثَبَتَ حُكْمُهُ وَتَرْجَمَ بَعْضُهُمْ هُنَا التَّمَكُّنَ مِنْ الْفِعْلِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي إلْزَامِ الْأَمْرِ؟ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " الْمَحْصُولِ ": ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، وَقَدْ فَاوَضْت فِي ذَلِكَ عُلَمَاءَهُ، فَقَالَ لِي شَيْخَا مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَبُو الْوَفَا ابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْبَرْجَانِيُّ: إنَّ الْمَسْأَلَةَ صَحِيحَةٌ فِي مَذْهَبِنَا فِي إلْزَامِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ قَضَاءَ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي حَالِ إغْمَائِهِ. قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْأَمْرِ، أَمَّا النَّهْيُ فَإِنْ كَانَ عَنْ تَرْكٍ، فَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ التَّمَكُّنُ، وَإِنْ كَانَ عَنْ فِعْلٍ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ التَّمَكُّنِ مَعْنًى، لِأَنَّ التَّرْكَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّمَكُّنِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاحْذَرُوهُ» فَشَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ فِي الْأَمْرِ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي النَّهْيِ تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة

[مَسْأَلَةٌ خِطَابُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ] سَبَقَ أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ مِنْ التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، أَمَّا حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَهِيَ مَفْرُوضَةٌ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهَا بِأَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ التَّكْلِيفُ فِي الْإِمْكَانِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ قَوْلُنَا، أَوْ الْإِمْكَانُ نَاجِزًا وَهُوَ وَقَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ؟ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى مَا قَبْلَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُرَتَّبٍ وَهِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بِهَا إجْمَاعًا، وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي تَصْدِيقُ الرُّسُلِ وَعَدَمُ تَكْذِيبِهِمْ، وَالْكَفُّ عَنْ قَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ اهـ. مَعَ أَنَّ الْكَفَّ عَنْ قِتَالِهِمْ مِنْ الْفُرُوعِ.

وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهَا ضَرُورِيَّةً، فَلِهَذَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهَا كَسْبِيَّةً، وَلَكِنَّهُ مَنَعَ الْخِطَابَ لِمَا يُذْكَرُ فِي غَيْرِ هَذَا الْفَنِّ. اهـ. وَتَرَدَّدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ هَلْ هِيَ مِنْ الْفُرُوعِ؟ حَتَّى لَا يُكَلَّفُوا بِهَا عَلَى قَوْلٍ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالشَّهَادَةُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَمُقَدَّمَاتُ الْإِيمَانِ، كَالنَّظَرِ هَلْ هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْإِيمَانِ حَتَّى تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَيْهِ أَوْ يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ فِي مُقَدَّمَةِ الْوَاجِبِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَإِنْ كَانَ مُرَتَّبًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهِيَ فُرُوعُ الشَّرِيعَةِ، فَالْكَلَامُ فِي الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ. [جَوَازُ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلًا] أَمَّا الْجَوَازُ عَقْلًا فَمَحَلُّ وِفَاقٍ كَمَا قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَمُرَادُهُ وِفَاقُ أَصْحَابِنَا، وَإِلَّا فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبُوا عَقْلًا بِالْفُرُوعِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ " كِفَايَةِ الْفُحُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: أَجَازَهُ عَقْلًا قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ. [جَوَازُ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا] أَمَّا شَرْعًا فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا مُطْلَقًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقَدُّمِ

الْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] الْآيَاتِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالْكُفْرِ وَنَقْصِ الْمِكْيَالِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِالْكُفْرِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ، وَذَمَّ عَادًا قَوْمَ هُودٍ بِالْكُفْرِ وَشِدَّةِ الْبَطْشِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا: تَحْرِيمُ ثَمَنِ الْخَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي بَابِ حَجِّ الصَّبِيِّ يَبْلُغُ، وَالْمَمْلُوكِ يُعْتَقُ، وَالذِّمِّيِّ يُسْلِمُ، فِيمَا إذَا أَهَلَّ كَافِرٌ بِحَجٍّ، ثُمَّ جَامَعَ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ عَرَفَةَ فَجَدَّدَ إحْرَامًا وَأَرَاقَ دَمًا لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ أَجْزَأَتْهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا فِي حَالِ الشِّرْكِ، لِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُحْرِمٍ. قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِذَا زَعَمْت أَنَّهُ كَانَ فِي إحْرَامِهِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، أَفَكَانَ الْفَرْضُ عَنْهُ مَوْضُوعًا؟ قِيلَ: لَا بَلْ كَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ وَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ، غَيْرَ أَنَّ السُّنَّةَ تَدُلُّ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ [الْمُسْلِمِينَ] اخْتَلَفُوا فِيهِ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ أَسْلَمَ ائْتَنَفَ الْفَرَائِضَ مِنْ يَوْمِ أَسْلَمَ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِإِعَادَةِ مَا فَرَّطَ فِيهِ فِي الشِّرْكِ مِنْهَا، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ اسْتَقَامَ. هَذَا لَفْظُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِيَانِ الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْحَلِيمِيُّ. وَقَالَ فِي " الْمِنْهَاجِ ": إنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِنَا: إنَّ الطَّاعَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ. قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُؤَاخِذُ اللَّهُ أَحَدًا بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ

فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» . قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالنَّوَاهِي إذَا يُحْسِنُ فِي الْإِسْلَامِ، لِانْتِفَاءِ مَا يُحْبِطُهَا بِخِلَافِ مَنْ أَسْلَمَ وَأَحْسَنَ فَإِنَّ. إسْلَامَهُ يُحْبِطُ كُفْرَهُ، وَحَسَنَاتِهِ تُحْبِطُ سَيِّئَاتِهِ وَمُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ لَا يُنَافِي الْمَعَاصِيَ لِجَوَازِ صُدُورِهَا مِنْ السَّلَمِ فَلَا يَكُونُ مُحْبِطًا لَهَا. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ نَقَلُوهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَالْجَصَّاصِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ. إنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَمَذْهَبُ عَامَّةِ مَشَايِخِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ رَأْسُ الْمَعَاصِي فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ سُقُوطُ الْخِطَابِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِالْفُرُوعِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ. عِبَارَتُهُ: إنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي، وَوَقَعَ فِي " الْمُنْتَخَبِ " نِسْبَتُهُ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ بِتَكْلِيفِهِمْ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِرَاحِ وَهُوَ كَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ: مَا بَدَأْنَا بِهِ. اهـ.

وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. قُلْت: اخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْمَالِكِيُّ، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " بِالْجَامِعِ " إنَّهُ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ طَلَاقُهُمْ، وَلَا أَيْمَانُهُمْ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَزَادَ حَتَّى قَالَ: إنَّهُمْ إنَّمَا يَقْطَعُونَ فِي السَّرِقَةِ، وَيَقْتُلُونَ فِي الْحِرَابَةِ مِنْ بَابِ الدَّفْعِ، فَهُوَ تَعْزِيرٌ لَا حَدٌّ، لِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ كَفَّارَاتٌ. وَزَادَ، فَقَالَ: إنَّ الْمُحَدِّثَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ فِعْلِ الطَّهَارَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ فِي الْحَائِضِ: إنَّهَا تَنْتَظِرُ مَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ بَعْدَ غَسْلِهَا وَفَرَاغِهَا مِنْ الْأَمْرِ اللَّازِمِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: لَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ فُرُوعِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّوْمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ، لِأَنَّ الشِّرْكَ أَبْطَلَ كُلَّ عِبَادَةٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ وُجُوبُهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ بَعْدُ. قَالَ: وَلَمْ أَرَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ حُجَّةٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَفَكَّرْت فِي ذَلِكَ فَلَمْ أَجِدْ إلَّا أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْعِبَادَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُثَابُ كَمَا لَمْ يَجْعَلْ الْعَبْدَ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمَالِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ. وَقَالَ الْعَالِمُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ ثِقَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، لَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ خَرَجُوا عَلَى تَفْرِيعَاتِهِمْ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: إنَّ الْكَافِرَ إذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَأَسْلَمَ وَأَحْرَمَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ،

وَلَوْ كَانَ لِلْكَافِرِ عَبْدٌ مُسْلِمٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ، وَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ وَطْءُ زَوْجَتِهِ النَّصْرَانِيَّةِ إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْحَيْضِ لِعَادَتِهَا دُونَ الْعَشَرَةِ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ، وَيَمْضِي عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ، لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ كَذَلِكَ. أَمَّا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، فَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا إلَى أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَجِبْ لَمْ يُؤَاخَذُوا عَلَى تَرْكِهَا. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا أَصْحَابُنَا، لَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَدَلُّوا مِنْ مَسَائِلِهِمْ عَلَى هَذَا، وَعَلَى الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَلَوَاتِ الرِّدَّةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ عِنْدَنَا، ثُمَّ ضَعُفَ الِاسْتِدْلَال. قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَرْعًا لِأَصْلٍ مَعْرُوفٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ: أَنَّ الشَّرَائِعَ عِنْدَهُ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ، وَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ، فَيُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ، وَعِنْدَنَا لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ فَلَا يُخَاطَبُونَ بِأَدَائِهَا مَا لَمْ يُؤْمِنُوا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ انْقَسَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ إلَى اسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِهِمْ عَقْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَحِلَّهُ، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ الْجَوَازِ لَمْ يُكَلَّفُوا. وَقَالَ الْقَاضِي: أَقْطَعُ بِالْجَوَازِ، وَلَا أَقْطَعُ بِأَنَّ هَذَا الْجَائِزَ وَقَعَ، وَلَكِنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُقُوعُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ، لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ مُمْكِنٌ فِي

حَالَةَ الْكُفْرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَرُّبُ، فَجَازَ التَّكَلُّفُ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ، فَإِنَّ شَرْطَهَا الْعَزِيمَةُ، وَفِعْلُ التَّقْرِيبِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُقَرَّبِ إلَيْهِ مُحَالٌ، فَامْتُنِعَ التَّكْلِيفُ بِهَا. وَحَكَى النَّوَوِيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فِي " التَّحْقِيقِ " أَوْجُهًا لِلْأَصْحَابِ، وَسَبَقَ حِكَايَةُ الْأُسْتَاذِ وَابْنِ كَجٍّ الْأَوَّلَيْنِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَعَلَّلَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي كِتَابِ " بَيَانِ الْبُرْهَانِ " بِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ تَقَعُ عَلَيْهِمْ فِي فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَيُحَدُّ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَيُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ، وَلَا يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ فَعَلَهَا فِي كُفْرِهِ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ؟ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ. [تَكْلِيفُ الْكُفَّارِ بِالنَّوَاهِي] وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالنَّوَاهِي، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْأَوَامِرِ. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ " الْأُصُولِ " وَالْبَنْدَنِيجِيّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ مِنْ " تَعْلِيقِهِ " قَالَ: وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَمَنْهِيُّونَ عَنْهَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ جَيِّدَةٌ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: لَا خِلَافَ أَنَّ خِطَابَ الزَّوَاجِرِ مِنْ الزِّنَا وَالْقَذْفِ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ كَمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. اهـ. وَهَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ فِيمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ فِيمَا إذَا قَتَلَ الْحَرْبِيُّ مُسْلِمًا أَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالًا ثَمَّ أَسْلَمَ أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُهَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ. قَالَ: وَذَكَرَ الْعَبَّادِيُّ أَنَّهُ يُعْزَى ذَلِكَ أَيْضًا لِلْمُزَنِيِّ فِي " الْمَنْثُورِ ". وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا وَجْهَ لِهَذَا التَّفْضِيلِ، لِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْرٌ، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ التُّرُوكَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى تَصَوُّرٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْأَوَامِرِ فَقَطْ. حَكَاهُ ابْنُ الْمُرَحَّلِ فِي " الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ " وَلَعَلَّهُ انْقَلَبَ مِمَّا قَبْلَهُ، وَيَرُدُّهُ الْإِجْمَاعُ السَّابِقُ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ بِالنَّوَاهِي. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ دُونَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ. حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " وَالطُّرْطُوشِيُّ فِي " الْعُمْدَةِ "، لِالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. وَلَا مَعْنًى لِهَذَا التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ مَأْخَذَ النَّقِيِّ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ جَهْلُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْخِلَافَ يَطْرُقُ الْأَصْلَ وَالْمُرْتَدَّ لَكِنْ ظَاهِرُ

عِبَارَةِ الْإِمَامِ فِي " الْمَحْصُولِ " أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَطْرُقُ الْمُرْتَدُّ، وَالْأَشْبَهُ الْأَوَّلُ. وَلِهَذَا نَقَلَ الْأَصْحَابُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ الْأَعْمَالَ السَّابِقَةَ وَتَمْنَعُ الْوُجُوبَ فِي الْحَالِ. وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَقْضِي صَلَاةَ أَيَّامِ رِدَّتِهِ، وَعِنْدَنَا تَلْزَمُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ ": يُمْكِنُ بِنَا الْخِلَافُ فِي إحْبَاطِ الرِّدَّةِ الْأَعْمَالُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ سَاوَى الْمُرْتَدُّ الْأَصْلِيُّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَيَّامِ رِدَّتِهِ. قُلْت: إنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُرْتَدِّ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ لَا يَسْقُطُ بِخِلَافِ الْأَصْلِيِّ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الزَّكَاةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: يَجِبُ، وَالثَّانِي مَوْقُوفٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَهُوَ نَظِيرُ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ كَمَا إذَا أَسْلَمَ يُزَكِّي فَكَذَا إذَا أَسْلَمَ يُصَلِّي. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا عَدَا الْجِهَادَ، أَمَّا الْجِهَادُ فَلَا، لِامْتِنَاعِ قِتَالِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ. قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ أَيْنَ وَجَدْته. قُلْت: صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ "، فَقَالَ: وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مُخَاطَبًا بِقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَكَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي " كِتَابِ السِّيَرِ ": الذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ. وَلِهَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ الْإِمَامُ عَلَى الْجِهَادِ لَا يَبْلُغُ بِهِ سَهْمُ رَاجِلٍ عَلَى أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ. نَعَمْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ اسْتِئْجَارُهُ عَلَى الْجِهَادِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ فَرْضٍ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ كَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ. السَّابِعُ: الْوَقْفُ. حَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي تَقْرِيبِهِ " عَنْ بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ.

التنبيه الأول استحالة مخاطبة الكافر بإنشاء فرع على الصحة

وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْمَدَارِكِ ": عُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ تَرْدِيدُ الْقَوْلِ فِي خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَنَصُّهُ فِي " الرِّسَالَةِ ": الْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا. قُلْت: وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَصْحَابِ فِي الْفُرُوعِ مَذْهَبٌ ثَامِنٌ: وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ فَلَيْسَ بِمُكَلَّفٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ فِي الْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: لَا يَجِبُ حَدُّهَا عَلَى الْحَرْبِيِّ، لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ الْأَحْكَامَ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ. وَحَكَى الطُّرْطُوشِيُّ فِي " الْعُمْدَةِ " أَنَّ الْوَاقِفِيَّةَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَافَقُوا عَلَى كَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ دُخُولَهُمْ فِي الْخِطَابِ لَمْ يَكُنْ بِظَوَاهِرِهَا، وَإِنَّمَا دَخَلُوهَا بِدَلِيلٍ. اهـ وَبِهِ يَخْرُجُ مَذْهَبٌ تَاسِعٌ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ ": الصَّائِرُونَ إلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ لَا يَدْعُونَ ذَلِكَ عَقْلًا وُجُوبًا بَلْ يُجَوِّزُونَ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ خُرُوجَهُمْ عَنْ التَّكْلِيفِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ. كَيْفَ وَقَدْ أُخْرِجَ كَالْحَائِضِ عَنْ الْتِزَامِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ؟ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ تَكْلِيفَهُمْ سَائِغٌ عَقْلًا وَتَرْكُ تَكْلِيفِهِمْ جَائِزٌ عَقْلًا غَيْرَ أَنَّ فِي أَدِلَّةِ السَّمْعِ مَا يَقْتَضِي تَكْلِيفَهُمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَارُوا إلَى مَنْعِ تَكْلِيفِهِمْ، فَاخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ إلَى اسْتِحَالَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ عَقْلًا وَمَنَعَ إبْطَالَ أَدِلَّةِ السَّمْعِ بِهِمْ. [التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ اسْتِحَالَةُ مُخَاطَبَةِ الْكَافِرِ بِإِنْشَاءِ فَرْعٍ عَلَى الصِّحَّةِ] تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ [اسْتِحَالَةُ مُخَاطَبَةِ الْكَافِرِ بِإِنْشَاءِ فَرْعٍ عَلَى الصِّحَّةِ] فِي تَحْقِيقِ مَقَالَةِ أَصْحَابِنَا: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَافِرَ

مُسْتَحِيلٌ أَنْ يُخَاطَبَ بِإِنْشَاءِ فَرْعٍ عَلَى الصِّحَّةِ، وَكَذَا الْمُحْدِثُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُخَاطَبَ بِإِنْشَاءِ الصَّلَاةِ الصَّحِيحَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ مُخَاطَبُونَ بِالتَّوَصُّلِ إلَى مَا يَقَعُ آخِرًا، وَلَا يَتَنَجَّزُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ بِإِيقَاعِ الْمَشْرُوطِ قَبْلَ وُقُوعِ الشَّرْطِ، وَلَكِنْ إذَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ مَا يَسَعُ الشَّرْطَ وَالْمَشْرُوطَ وَالْأَوَائِلَ وَالْأَوَاخِرَ، فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يُعَاقَبَ الْمُمْتَنِعُ عَلَى حُكْمِ التَّكْلِيفِ مُعَاقَبَةَ مَنْ يُخَالِفُ أَمْرًا نُوجِبُهُ عَلَيْهِ نَاجِزًا. فَمَنْ أَبَى ذَلِكَ قَضَى عَلَيْهِ قَاطِعُ الْعَقْلِ بِالْفَسَادِ، وَمَنْ جَوَّزَ تَنَجُّزَ الْخِطَابِ بِإِيقَاعِ الْمَشْرُوطِ قَبْلَ وُقُوعِ الشَّرْطِ فَقَدْ سَوَّغَ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْفُرُوعِ وَأَوَاخِرِ الْعَقَائِدِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْمُحْدِثِ فَهُوَ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ مِنْ " النِّهَايَةِ ": مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ، أَرَادَ رَبْطَ الْمَأْثَمِ بِهِمْ فِي دَرْئِهِمْ بِالشَّرْعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ عَلَى كُلِّ مُحَرَّمٍ فِي الشَّرْعِ اقْتَحَمُوهُ وَكُلِّ وَاجِبٍ تَرَكُوهُ، فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ بِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَشَرَائِطِهَا فَلَا سَبِيلَ إلَى الْتِزَامِهَا انْتَهَى. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِهِمْ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ كَيْفَ يُكَلَّفُونَ بِمَا لَوْ فَعَلُوهُ لَمَا صَحَّ؟ وَلِأَنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. وَالصَّوَابُ: أَنْ نَقُولَ: مُكَلَّفُونَ بِالتَّوَصُّلِ إلَى الْفُرُوعِ بِهِ وَتَقَدُّمِ الْأَصْلِ، فَإِذَا مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ فِيهِ تَحْصِيلُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ أَثِمُوا عَلَيْهَا مَعًا كَالْمُحْدِثِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَهَذَا نَافِعٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ إطْلَاقِ أَصْحَابِنَا فِي الْأُصُولِ التَّكْلِيفَ وَفِي الْفُرُوعِ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَلَمْ يَزَلْ هَذَا الْإِشْكَالُ يَدُورُ فِي النَّفْسِ. وَجَمَعَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ مُرَادَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِهَا فِي الدُّنْيَا مَعَ كُفْرِهِمْ، فَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمْ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ

التنبيه الثاني هل يخاطب الكافر بالفروع

الْمَاضِي وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ. وَمُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ زِيَادَةٌ عَلَى عِقَابِ الْكُفْرِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمُطَالَبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فَاسِدَةٌ أَوْقَعَهُمْ فِيهَا قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ: فَائِدَتُهُ مُضَاعَفَةُ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ إلَّا فِي الْآخِرَةِ، بَلْ هُوَ جَوَابٌ عَمَّا الْتَزَمَ الْخَصْمُ فِي مَسَائِلَ خَاصَّةٍ لَا تَظْهَرُ لِلْخِلَافِ فِيهَا فَائِدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ الْأَمْرُ الْخَاصُّ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْفَائِدَةِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ فَرَّعُوا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً تَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا: وَمَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ فِي الْجَمْعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ التَّخْرِيجُ أَصْلًا لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا غَيْرُ مُرَادِ ثَمَّ. [التَّنْبِيهُ الثَّانِي هَلْ يُخَاطَبُ الْكَافِرُ بِالْفُرُوعِ] [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي [هَلْ يُخَاطَبُ الْكَافِرُ بِالْفُرُوعِ] زَعَمَ الشَّيْخَانِ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ وَأَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ السِّيَرِ مِنْ " النِّهَايَةِ "، وَوَالِدُهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي " الْفُرُوقِ "، وَأَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ "، وَالْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ "، وَغَيْرُهُمْ: هَلْ الْخِلَافُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ لِأَجْلِ إخْلَالِهِ بِالشَّرْعِيَّاتِ أَمْ لَا؟ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْفِعْلُ حَالَ الْكُفْرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَضَاءً مِنْهُ لِكُفْرِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ إذَا أَسْلَمَ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " أَيْضًا عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى، فَقَالَ: فَائِدَةُ الْخِلَافِ: أَنَّ مَنْ قَالَ. بِالْخِطَابِ قَالَ: يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ مِنَّا وَالْعِقَابَ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا، كَمَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِالْإِخْلَالِ بِالْإِيمَانِ، وَمَنْ قَالَ: لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ عَلَى

الْإِخْلَالِ بِالْعِبَادَاتِ بَلْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ لَا غَيْرُ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: لَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا: تَيْسِيرُ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ وَهُوَ خَيِّرُ النَّفْسِ بِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي تَيْسِيرِ إسْلَامِهِ. وَمِنْهَا: التَّرْغِيبُ فِي الْإِسْلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ " شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ ": إنَّ عَدَمَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْكَافِرِ مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ. قَالَ: فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ فَلَيْسَ الْإِسْلَامُ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ بَلْ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الْكَافِرِ كُلَّمَا دَخَلَ الْوَقْتُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَجِبُ عَلَيْهِ وَهِيَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ؟ قُلْنَا: كَالْمُحْدِثِ لَا تَصِحُّ مِنْهُ وَمَعَ ذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِ بِشَرِيطَةِ الْوُضُوءِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَسْلِمْ وَصَلِّ، يُقَالُ لِلْمُحْدِثِ: تَوَضَّأْ وَصَلِّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ فِي " التَّجْرِيدِ " وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُشْرِكِينَ هَلْ هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ خُوطِبُوا مَعَ الْإِيمَانِ بِالْعِبَادَاتِ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى ذَلِكَ لِمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَأَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ: إنَّهُمْ فِي حَالِ الْكُفْرِ إنَّمَا خُوطِبُوا

بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ إلَيْهِمْ الْخِطَابُ بِالْعِبَادَاتِ إلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ: الْإِسْلَامُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ لَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ، فَأَمَّا الْإِخْرَاجُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إلَّا الْمُرْتَدُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ هَذَا كَلَامُهُ وَبِهِ يَجْتَمِعُ كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ أَيْضًا. وَبَنَى الْقَفَّالُ عَلَيْهِ فِيمَا حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي " الْأَسْرَارِ " إذَا غَنِمَ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْلِكُونَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ الْقَاضِي: قُلْت: لَوْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ لَمَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُمْ، فَقَالَ الْقَفَّالُ: الضَّمَانُ وَاجِبٌ غَيْرَ أَنَّهُ سَقَطَ بِالْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَرْغَبُوا عَنْهُ خِيفَةَ انْتِزَاعِ مَا مَلَكُوهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَبَنَى عَلَيْهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ إحْبَاطَ الْعَمَلِ بِالرِّدَّةِ كَمَا سَبَقَ. وَبَنَى عَلَيْهِ الْمُتَوَلِّي حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَعِنْدَنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْخَمْرِ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ. خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَبَنَى عَلَيْهِ الْقَاضِي مُجَلِّي فِي " الذَّخَائِرِ " أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ هَلْ يُصَلِّي عَلَى قَبْرِ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي كُفْرِهِ؟ إذَا قُلْنَا: لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ. وَبَنَى عَلَيْهِ أَيْضًا صِحَّةَ النَّذْرِ مِنْ الْكَافِرِ، وَقَضِيَّةُ الْبِنَاءِ تَصْحِيحُهُ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ. وَتَقَدَّمَ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَى الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ مُفَرَّعٌ عَلَى خِطَابِهِمْ. وَمِنْهَا: لَوْ مَرَّ الْكَافِرُ بِالْمِيقَاتِ وَهُوَ مُرِيدُ النُّسُكِ فَجَاوَزَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ مَعَ أَنَّهُ حَالَةَ مُرُورِهِ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ: لَا دَمَ عَلَيْهِ جَرْيًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.

وَمِنْهَا: لَوْ قَهَرَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيًّا مَلَكَهُ، وَيُخَالِفُ الْمُسْلِمُ إذَا قَهَرَ حَرْبِيًّا، فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى مَنْ قَهَرَهُ الرِّقُّ حَتَّى يَرِقَّهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، لِأَنَّ لِلْإِمَامِ اجْتِهَادًا فِي أُسَارَى الْكُفَّارِ، وَالْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِرِعَايَتِهِ، وَالْحَرْبِيُّ لَا يُؤَاخَذُ بِمِثْلِ ذَلِكَ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَلَوْ قَهَرَ الْحَرْبِيُّ أَبَاهُ الْحَرْبِيَّ أَوْ ابْنَهُ فَهَلْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ. بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ كَمَا لَوْ مَلَكَ الْمُسْلِمُ فَرْعَهُ أَوْ أَصْلَهُ أَوْ لَا؟ بَلْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَجْهَانِ. أَشْبَهَهُمَا فِي الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ: الْأَوَّلُ. وَمِنْهَا: يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّةِ قَطْعًا، وَهَلْ تَحِلُّ لِلذِّمِّيِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي " الْكِفَايَةِ " لِابْنِ الرِّفْعَةِ وَلَعَلَّ مَدْرَكَهَا هَذَا الْأَصْلُ. وَمِنْهَا: تَحْرِيمُ نَظَرِ الذِّمِّيَّةِ إلَى الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُضْطَرَّ الْمُسْلِمَ إذَا لَمْ يَجِدْ إلَّا مَيْتَةَ آدَمِيٍّ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ أَعْظَمُ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَالْخِلَافُ فِي مَيْتَةِ الْمُسْلِمِ. أَمَّا الْكَافِرُ فَيَحِلُّ قَطْعًا انْتَهَى. وَلَوْ كَانَ الْمُضْطَرُّ كَافِرًا وَوَجَدَ مَيْتَةَ مُسْلِمٍ فَفِي حِلِّهِ وَجْهَانِ. أَقْيَسُهُمَا فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ: الْمَنْعُ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْكَافِرَ يُمْنَعُ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ. قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ مِنْ " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ "، " وَالتَّحْقِيقِ " وَقِيَاسُهُ: أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ قِرَاءَتِهِ جُنُبًا. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْكَافِرُ لَا يُمْنَعُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيُمْنَعُ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ ذَكَرَهُ فِي بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ. وَفِيهِ نَظَرٌ مَعَ جَزْمِهِ بِجَوَازِ تَعْلِيمِهِ مِمَّنْ يُرْجَى إسْلَامُهُ. وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ ذَلِكَ تَمْكِينُهُ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ وَاللَّوْحِ اللَّذَيْنِ يَتَعَلَّمُ فِيهِمَا، وَقَدْ يَكُونُ جُنُبًا. وَمِنْهَا: إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَأَدَّاهَا حَالَ كُفْرِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا تَجِبُ

التنبيه الثالث استثناء بعض الصور من تكليف الكفار بفروع الشريعة

عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اغْتَسَلَ عَنْ جَنَابَتِهِ، أَوْ تَوَضَّأَ أَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ: وُجُوبُ الْإِعَادَةِ خِلَافًا لِأَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ. [التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ تَكْلِيفُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ] [التَّنْبِيهُ] الثَّالِثُ [اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الصُّوَرِ] إنَّ الْقَائِلِينَ بِتَكْلِيفِهِ وَرُجُوعِ الْفَائِدَةِ لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا اسْتَثْنَوْا صُوَرًا لَا يَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، لِأَجْلِ عَقِيدَتِهِمْ بِإِبَاحَتِهِ فِي صُوَرٍ: مِنْهَا: شُرْبُ الْخَمْرِ لَا يُحَدُّونَ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ لِاعْتِقَادِهِمْ إبَاحَتَهُ. وَمِنْهَا: لَوْ غَصَبَ مِنْهُ الْخَمْرَ رُدَّتْ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: لَا يُمْنَعُ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ فِي الْأَصَحِّ. وَمِنْهَا: الْحُكْمُ بِصِحَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ. وَمِنْهَا: لَا يُمْنَعُ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ فِي الْأَصَحِّ. مَسَاجِدُنَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْكَافِرِ الْجُنُبِ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَدْخُلُونَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُطِيلُونَ الْجُلُوسَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُجْنِبُونَ. وَيُخَالِفُ الْمُسْلِمَ، فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ فَيُؤَاخَذُ بِمُوجِبِ اعْتِقَادِهِ وَالْكَافِرُ لَا يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ وَلَا يَلْزَمُ تَفَاصِيلُ التَّكْلِيفِ فَجَازَ أَنْ لَا

التنبيه الرابع سقوط حق الله تعالى عن الكافر إذا أسلم

يُؤَاخَذَ بِهِ كَذَا عَلَّلَهُ الرَّافِعِيُّ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُحَدُّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ وَالْمُسْلِمُ يُحَدُّ. وَمِنْهَا: تَفْضِيلُ مُعَامَلَتِهِمْ عَلَى مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّا إذَا قُلْنَا: لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُمْ فِيمَا أَخَذُوهُ عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَخَفَّ مِنْ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّهُ عَاصٍ بِذَلِكَ الْعَقْدِ، وَقَدْ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَنْهَ الْكَافِرَ. وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: مَا يَأْخُذُهُ الْإِفْرِنْجُ مِنْ أَمْوَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا يَمْلِكُونَهُ بِالْقَهْرِ بِخِلَافِ أَخْذِهِمْ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْلِكُونَهَا بِالْقَهْرِ، فَيَكُونُ الْحَلَالُ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ أَوْسَعَ مِنْ الْحَلَالِ الَّذِي بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ. وَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخِلَافَ نَشَأَ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ مُلْتَزَمٍ لِأَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ لَا مِنْ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ أَوْ لَا. وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي " الْفُرُوقِ ": وَقَدْ جَزَمَ بِجَوَازِ الْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْجُنُبِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ كَالْمُسْلِمِينَ؟ قُلْنَا: التَّعْظِيمُ يَنْشَأُ وَيُتَصَوَّرُ مِنْ أَصْلِ الْعَقِيدَةِ، وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ أَوْ لَا، وَفَائِدَةُ الْخِطَابِ زِيَادَةُ عُقُوبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. قُلْت: وَلِهَذَا إذَا تَرَافَعُوا إلَيْنَا وَفَرَّعْنَا عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنَّا نُجْرِيهِمْ عَلَى أَحْكَامِنَا. [التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ سُقُوط حَقّ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْكَافِر إذَا أَسْلَمَ] [التَّنْبِيهُ] الرَّابِعُ [إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ سَقَطَ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى] أَنَّ الْقَائِلِينَ بِتَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِمْ قَالُوا: يُشْتَرَطُ مَا وَجَبَ مِنْهَا عِنْدَ الْإِسْلَامِ. قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي كِتَابِ النَّذْرِ مِنْ " الْمَطْلَبِ "، ثُمَّ اُسْتُشْكِلَ ذَلِكَ

بِتَخْرِيجِ " مُجَلِّي " مَسْأَلَةَ نَذْرِ الْكَافِرِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِلَ بِصِحَّةِ النَّذْرِ إنَّمَا يَقُولُ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ إذَا أَسْلَمَ، ثُمَّ أَجَابَ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَلْزَمَهُمْ الشَّارِعُ. أَمَّا إذَا أَلْزَمَهُمْ ذَلِكَ بِالْتِزَامِهِمْ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا لَوْ أَتْلَفَ الْحَرْبِيُّ مَالَ الْمُسْلِمِ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ عَامَلَهُ أَسْلَمَ وَجَبَ قَضَاءُ دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ. اهـ. وَأَقُولُ: لَا يَنْبَغِي إطْلَاقُ الْقَوْلِ هَكَذَا بَلْ إذَا أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ قَضَاؤُهَا. أَمَّا الْمَالِيَّةُ: فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةً فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُغَلَّبُ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَةً، كَقَتْلِ الْخَطَأِ وَالظِّهَارِ لَمْ تَسْقُطْ. وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَحْرَمَ دُونَهُ لَزِمَهُ دَمٌ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَوْ قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَصَحِّ فَلَوْ أَسْلَمَ لَمْ يَسْقُطْ. وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ: فَإِنْ كَانَ قَدْ الْتَزَمَ حُكْمَنَا بِجِزْيَةٍ أَوْ أَمَانٍ لَمْ يُسْقِطْ نَفْسًا وَلَا مَالًا. وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ لَمْ يَسْقُطْ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَعْرُوفِ. وَفِيهِ وَجْهٌ فِي " الذَّخَائِرِ ". وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ حُكْمَنَا سَقَطَ كَالْحَرْبِيِّ إذَا أَتْلَفَ مَالًا أَوْ نَفْسًا فِي حَالِ الْحَرْبِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ يَجِبُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُعْزَى لِلْمُزَنِيِّ فِي " الْمَنْثُورِ ". أَمَّا حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى: فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا زَنَى ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي " الرَّوْضَةِ " مِنْ سُقُوطِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ عَنْهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ نَقَلَهُ فِي " الْإِشْرَافِ "، فَقَدْ رَاجَعْت كَلَامَ ابْنِ الْمُنْذِرِ فَوَجَدْتُهُ نَسَبَهُ لِقَوْلِهِ إذْ هُوَ بِالْعِرَاقِ فَهُوَ قَدِيمٌ

التنبيه الخامس جريان الخلاف في خطاب التكليف

قَطْعًا، وَنَصُّ " الْأُمِّ " جَدِيدٌ فَحَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ فِي " الِاسْتِذْكَارِ " وَجْهَيْنِ. [التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ] إنَّ الْخِلَافَ جَارٍ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ بِأَسْرِهِ، فَكُلُّ وَاجِبٍ أَوْ مُحَرَّمٍ هُوَ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ وَكَذَا الْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا أُبِيحَ فَهُوَ مُبَاحٌ فِي حَقِّهِمْ عِنْدَ مَنْ يَرَى شُمُولَ الْخِطَابِ لَهُمْ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ تَعَلُّقَ الْإِبَاحَةِ بِهِمْ إذَا قُلْنَا بِتَكْلِيفِهِمْ، وَقُلْنَا: الْإِبَاحَةُ تَكْلِيفٌ، فَإِنَّهُ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلٍ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَالْكُفَّارُ لَا يَعْتَقِدُونَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ حُكْمًا صَحِيحًا، لِأَنَّهُمْ يَسْتَنِدُونَ فِيهِ إلَى شَرْعِنَا اللَّازِمِ لَنَا وَلَهُمْ، وَشَرْعُهُمْ مَنْسُوخٌ. وَمُقْتَضَى هَذَا الْبَحْثِ أَنْ يَأْثَمُوا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا يَشْهَدُ لَهُ. أَمَّا خِطَابُ الْوَضْعِ: فَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ لِكَوْنِ الطَّلَاقِ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، فَكَذَلِكَ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافَاتِ وَالْجِنَايَاتِ فَلَا يَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ بَلْ هِيَ أَسْبَابٌ لِلضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا ثُبُوتُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَوُجُوبُ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ. وَالْحُدُودُ إنَّمَا تَكُونُ كَفَّارَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَالْكَافِرُ

لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّهِ كَالدَّيْنِ اللَّازِمِ، وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَنَحْوُهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ وَالْأَيْمَانُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. قُلْت: وَلَا تَصِحُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي الْإِتْلَافِ وَالْجِنَايَةِ بَلْ الْخِلَافُ جَارٍ فِي الْجَمِيعِ. وَقَدْ سَبَقَ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا إذَا قُلْنَا: الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ. وَنَقَلُوا وَجْهَيْنِ أَيْضًا فِيمَا لَوْ دَخَلَ الْكَافِرُ الْحَرَمَ وَقَتَلَ صَيْدًا هَلْ يَضْمَنُهُ؟ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. قَالَ صَاحِبُ الْوَافِي ": وَهُمَا شَبِيهَانِ بِالْوَجْهَيْنِ فِي تَمْكِينِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ إنْ كَانَ جُنُبًا. يَعْنِي نَظَرًا لِعَقِيدَتِهِ، بَلْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْأَسَالِيبِ " مِنْ كِتَابِ السِّيَرِ: إنَّ الْكُفَّارَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا حُكْمَ لِاسْتِيلَائِهِمْ، وَأَعْيَانِ الْأَمْوَالِ لِأَرْبَابِهَا، وَكَأَنَّهُمْ فِي اسْتِيلَائِهِمْ وَإِتْلَافِهِمْ كَالْبَهَائِمِ. قَالَ: وَمِنْ تَقْوِيمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ. وَقَالَ: هُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ اسْتِيلَائِهِمْ. اهـ. ثُمَّ قَالَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ: وَمِنْهُ الْإِرْثُ وَالْمِلْكُ بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَاغَ بَيْعُهُمْ لِوَارِثِهِمْ وَمَا يَشْتَرُونَهُ، وَلَا مُعَامَلَتُهُمْ وَكَذَا صِحَّةُ أَنْكِحَتِهِمْ إذَا صَدَرَتْ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ لَا وَجْهَ لَهُ. وَمِنْهُ كَوْنُ الزِّنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمْ، وَلِهَذَا رَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودِيَّيْنِ، وَلَا يَحْسُنُ الْقَوْلُ بِبِنَاءِ ذَلِكَ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يُقَالُ بِإِسْقَاطِ الْإِثْمِ عَنْهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ لِكُفْرِهِمْ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْأُسْتَاذِ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ أَنَّ خِطَابَ الزَّوَاجِرِ مِنْ الزِّنَا وَالْقَذْفِ يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِأَمْوَالِهِمْ: قُلْنَا: خِلَافٌ هَلْ هُوَ تَعَلُّقُ رَهْنٍ أَوْ جِنَايَةٍ

التنبيه السادس حصول الشرط الشرعي هل هو شرط في التكليف

أَوْ شَرِكَةٍ؟ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالزَّكَاةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَأْثِيمُهُمْ بِتَرْكِهَا لَا أَخْذِهَا مِنْهُمْ حَالَةَ كُفْرِهِمْ، وَالتَّعَلُّقُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَأَكُّدُ الْوُجُوبِ لِأَجْلِ أَخْذِ النِّصَابِ الْوَاجِبِ عَنْ الضَّيَاعِ فَلَا مَعْنًى لِإِبْقَائِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، لِأَنَّهُ إنْ دَامَ عَلَى الْكُفْرِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ سَقَطَتْ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا مَعْنًى لِلتَّعَلُّقِ الَّذِي هُوَ يُوثِقُهُ فِيهِ، وَالْمَوْجُودُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ إنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ بِأَدَائِهَا وَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ قَدْ يُقَالُ بِهِ فِي الْكَافِرِ أَيْضًا، وَإِثْبَاتُ تَعَلُّقِهَا بِالدَّيْنِ أَمْرٌ ثَالِثٌ يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي ثُبُوتِ الشَّرِكَةِ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وَلَا يَدْخُلُ الْكَافِرُ فِي ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْأَدِلَّةَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يَتَنَاوَلُهُمْ نَحْوَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] إذَا قُلْنَا بِتَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ، وَإِلَى مَا لَا يَتَنَاوَلُهُمْ نَحْوُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] وَنَحْوُهُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَفْظًا وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا لَهُمْ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. [التَّنْبِيهُ السَّادِسُ حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ] إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ تَرْجَمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطٌ شَرْعِيٌّ مَعَ أَنَّ حُصُولَهَا شَرْطُ التَّكْلِيفِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَلِهَذَا اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. وَالثَّانِي: قَالَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ أَنَّ الْمُحْدِثَ مُكَلَّفٌ بِالصَّلَاةِ إجْمَاعًا يَعْنِي، وَقَضِيَّةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وُجُودُ خِلَافٍ فِيهِ.

قُلْت: زَعَمَ أَبُو هَاشِمٍ: أَنَّ الْمُحْدِثَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ إجْمَاعًا وَلَوْ بَقِيَ سَائِرُ دَهْرِهِ مُحْدِثًا، وَأَنَّهُ لَوْ مَاتَ عُوقِبَ عَلَى تَرْكِ الطَّهَارَةِ فَقَطْ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالصَّلَاةِ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَخَرَقَ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ نَاجِزًا مَعَ بَقَاءِ حَدَثِهِ، فَصَحِيحٌ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْجُبَّائِيُّ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَقَالَ: إنَّ الْمُحْدِثَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ وَلَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، لِقَوْلِهِ فِي الْحَائِضِ: إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَعْنِي فِي إدْرَاكِهَا الصَّلَاةَ أَنْ يَبْقَى مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا تَغْتَسِلُ فِيهِ وَتُدْرِكُ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ. قُلْت: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. أَعْنِي اعْتِبَارَ إدْرَاكِ زَمَنِ الطَّهَارَةِ لِلْوُجُوبِ وَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ كَانَ خِلَافًا وَاهِيًا لَكِنَّ شُمُولَ التَّرْجَمَةِ لَهُ أَوْلَى. وَمِنْهُمْ مَنْ تَرْجَمَهَا بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِيمَانِ وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ مِنْ الْكَافِرِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَكَيْفَ يُخَاطَبُ بِهَا؟ وَهَذَا أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ السَّابِقِ فِي تَحْقِيقِ الْمَذْهَبِ. وَقَدْ يُقَالُ: بِأَنَّهُ خِلَافٌ قَرِيبٌ، لِأَنَّ الْإِمَامَ مُسَلِّمٌ أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ بِتَرْكِ الْفُرُوعِ لِتَرْكِهِمْ التَّوَصُّلَ إلَيْهَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحْدِثِ لَا لِتَنْجِيزِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِإِيقَاعِهَا حَالَةَ الْكُفْرِ وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّا نَقُولُ: هُمْ مُعَاقَبُونَ بِتَرْكِ الْفُرُوعِ، وَالْإِمَامُ يَقُولُ بِتَرْكِ التَّوَصُّلِ

التنبيه السابع الإمكان المشترط في التكليف هل يشترط فيه أن يكون ناجزا

إلَيْهَا، قَالَ الْخِلَافُ إلَى اللَّفْظِ. وَقَدْ قَالُوا: لَوْ أَتَى الْكَافِرُ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِنُسُكٍ، فَأَحْرَمَ مِنْهُ لَمْ يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُ. وَقَالَ فِي " الشَّامِلِ ": فِي انْعِقَادِ إحْرَامِهِ قَوْلَانِ. قَالَ فِي " الْبَحْرِ ": وَهُوَ غَلَطٌ عِنْدِي وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ. [التَّنْبِيه السَّابِعُ الْإِمْكَانَ الْمُشْتَرِطَ فِي التَّكْلِيفِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ نَاجِزًا] [التَّنْبِيهُ] السَّابِعُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَرْعِيَّةٌ، وَذَكَرَهَا فِي الْأُصُولِ لِبَيَانِ أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمْكَانَ الْمُشْتَرِطَ فِي التَّكْلِيفِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ نَاجِزًا مَعَ الْخِطَابِ أَوْ لَا؟ وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي " مَطَالِعِ الْأَحْكَامِ ": مَأْخَذُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي تَرْتِيبِ الثَّوَانِي عَلَى الْأَوَائِلِ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُمْكِنَةً. يَعْنِي أَنَّ تَرْتِيبَ التَّكْلِيفِ عَلَى اشْتِرَاطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ تَرْتِيبُ أَمْرٍ ثَانٍ عَلَى وُجُودِ أَمْرٍ أَوَّلٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا، وَلَا مُوجِبًا لِلِامْتِنَاعِ كَالْآحَادِ الْمُتَرَتِّبَةِ فِي مَرَاتِبِ الْعَدَّادِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُرَتَّبُ الْوُجُودِ عَلَى مَا قَبْلَهُ. الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ عَلَى الثَّانِي، وَهَلُمَّ جَرًّا. [التَّنْبِيهُ] الثَّامِنُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ الْقَاضِي لِتَعَلُّقِهَا بِالظَّوَاهِرِ مِنْ مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ، وَخَالَفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَرَأَى أَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ، وَقَالَ: نَحْنُ نَقْطَعُ بِتَكْلِيفِهِمْ بِالشَّرْعِ جُمْلَةً وَنُعَامِلُهُ تَفْصِيلًا، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي التَّرَدُّدُ فِي الْقَطْعِ.

التنبيه الحادي عشر قرب الكفار

التَّنْبِيهُ] التَّاسِعُ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ اسْتِدْلَالُ النَّاسِ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ، وَطَالَ النِّزَاعُ فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَصْرَحُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] وَقَوْلُهُ: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . [التَّنْبِيهُ] الْعَاشِرُ إنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّكْلِيفِ يَحْتَاجُونَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ حَدِيثِ الْجُبَّةِ الَّتِي أَعْطَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ، وَكَسَاهَا أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكَّةَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: عُمَرُ لَمْ يَأْذَنْ لِأَخِيهِ فِي لُبْسِهَا، وَكَسَاهُ مَعْنَاهُ مَلَّكَهُ، كَمَا أَنَّ الْكِسْوَةَ فِي الْكَفَّارَةِ الْمُرَادِ بِهَا التَّمْلِيكُ. وَكَذَلِكَ عَنْ «قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا» إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّهْدِيدِ لَا الْإِبَاحَةِ، وَيُبْعِدُهُ قَوْلُهُ: (وَلَكِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ) . [التَّنْبِيهُ الْحَادِيَ عَشَرَ قُرَبُ الْكُفَّارِ] مَا يَقَعُ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ الْقُرَبِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ كَالصَّدَقَةِ وَالضِّيَافَةِ وَالْعِتْقِ، وَلَا يُثَابُ عَلَى شَيْءٍ فِي الْآخِرَةِ إنْ مَاتَ كَافِرًا وَتُوَسَّعُ دُنْيَاهُ وَإِنْ أَسْلَمَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا أَيْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ» قَالَ: وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ اهـ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ الْمُرْتَدُّ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَهَا فِي حَالِ الرِّدَّةِ، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا الْأَصْلِيُّ فَهَلَّا نَقُولُ: إنَّهُ يُوضَعُ إثْمُهَا عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: نِيَّةُ التَّقَرُّبِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَغَيْرُهَا يُمْكِنُ مِنْهُ فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوُهَا فَهَلَّا صَحَّتْ، وَلَا سِيَّمَا إذَا صَامَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِوَقْتِ الصِّيَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ أَنَّ لِلْكَافِرِ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ سَيِّئَاتِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي حَسَنَاتِهِ. فَقِيلَ: مُلْغَاةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا بِنِعَمِ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَقِيلَ: مُحْصَاةٌ مِنْ أَجْلِ ثَوَابِ الدُّنْيَا، وَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يُسْلِمُ فَيُضَافُ ذَلِكَ إلَى حَسَنَاتِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْت مِنْ خَيْرٍ» . وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى إسْقَاطِ مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ إذْ جُوزِيتَ بِنَعِيمِ دُنْيَاكَ. وَقَالَ غَيْرُهُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ مَا سَبَقَ لَك مِنْ خَيْرٍ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَلَفْظُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ حَسَنَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَمَحَا عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا أَوْ لِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ مِثْلُهَا إلَّا أَنْ يُجَاوِزَ اللَّهُ عَنْهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

جنون الكافر قبل البلوغ يرفع عنه القلم

وَأَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ بِمَا سَلَفَ فِي الْكُفْرِ مِنْ أَسْبَابٍ مَعْفُوٌّ عَنْهَا بِالْإِسْلَامِ بِالِاتِّفَاقِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَقَدْ وَرَدَ مَا يُشْعِرُ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْت الرَّجُلَ يُحْسِنُ الْإِسْلَامَ أَيُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» . قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: إحْدَاهُمَا: الْإِسَاءَةُ فِي الْإِسْلَامِ بِالشِّرْكِ فَإِنَّهُ إذَا أَشْرَكَ فِي الْإِسْلَامِ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّا فِيهِ تَحَقَّقْنَا فِيهِ الْجُبَّ وَالْهَدْمَ بِالْإِسْلَامِ، فَلَا نَحْكُمُ بِعَوْدِهِ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ فَلَا رُجُوعَ فِيهِ. وَالثَّانِي: إذَا جَنَى فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ جِنَايَتِهِ فِي الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ يُعَيَّرُ بِذَلِكَ، وَيُقَالُ لَهُ: هَذَا الَّذِي كُنْت تَفْعَلُهُ فِي الْكُفْرِ، فَهَلَّا مَنَعَك مِنْهُ الْإِسْلَامُ؟ فَيَكُونُ هَذَا التَّوْبِيخُ مَعْنَى الْمُؤَاخَذَةِ. [جُنُونُ الْكَافِرِ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَرْفَعُ عَنْهُ الْقَلَمَ] فُرُوعٌ الْأَوَّلُ [جُنُونُ الْكَافِرِ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَرْفَعُ عَنْهُ الْقَلَمَ] لَوْ جُنَّ الْكَافِرُ قَبْلَ الْبُلُوغِ كَانَ الْقَلَمُ مَرْفُوعًا عَنْهُ، وَإِنْ جُنَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْكُفْرِ لَمْ يَرْتَفِعْ الْقَلَمُ عَنْهُ، لِأَنَّ رَفْعَ الْقَلَمِ عَنْ الْمَجْنُونِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ رُخْصَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرُّخْصَةِ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُرْتَدَّ يَقْضِي الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ فِي حَالِ الْجُنُونِ وَيَنْشَأُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ

وُلِدَ كَافِرًا، وَلَا أَقُولُ كَافِرًا، بَلْ بَيْنَ كَافِرَيْنِ بِحَيْثُ يُحْكَمُ لَهُ بِالْكُفْرِ الظَّاهِرِ، وَجُنَّ قَبْلَ بُلُوغِهِ، وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ حَتَّى صَارَ شَيْخًا وَمَاتَ عَلَى حَالِهِ دَخَلَ النَّارَ. كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ السُّبْكِيُّ فِي فَتَاوِيهِ " وَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ مَنْقُولًا. وَفِيمَا قَالَهُ أَخِيرًا نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ حَالَةُ تَكْلِيفٍ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ يَمُوتُ فِي صِبَاهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي حُكْمِ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ. [الْفَرْعُ] الثَّانِي إذَا قُلْنَا: إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ، فَهَلْ يَجْرِي فِي حَقِّهِمْ التَّخْفِيفَاتُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ رَفْعِ الْإِثْمِ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي مِنْهُمْ أَمْ لَا؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» اخْتِصَاصُهُ بِالْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ تُفَسَّرَ الْأُمَّةُ بِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ لَا أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، لَكِنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ إنَّمَا تَكُونُ كَفَّارَةً لِأَهْلِهَا إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. وَالطُّهْرَةُ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّهِ كَالدُّيُونِ اللَّازِمَةِ، وَلِذَلِكَ تَلْزَمُهُ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَنَحْوِهَا وَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِهَا الْإِثْمُ. [الْفَرْعُ] الثَّالِثُ [هَلْ يُوصَفُ مَالُ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ بِالْحُرْمَةِ؟] هَلْ يُوصَفُ مَالُ الْكَافِرِ بِالْحُرْمَةِ إذَا قُلْنَا: إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ؟ تَوَقَّفَ فِيهِ الشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيّ بِنَاءً عَلَى نَقْلِهِمْ: أَنَّ فَائِدَةَ الْخِطَابِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ لَكِنَّا قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ، ثُمَّ مَالَ إلَى التَّحْرِيمِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَحْكِيهِ

مسألة التكليف هل يتوجه حال مباشرة الفعل أو قبلها

عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا» وَهُوَ عَامٌّ. [الْفَرْعُ] الرَّابِعُ قَوْلُهُمْ: فَائِدَةُ التَّكْلِيفِ عِقَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ هَذَا إنْ لَمْ يَأْتُوا بِهَا، وَكَذَا إنْ أَتَوْا بِهَا فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ، وَأَمَّا مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ، وَالْوَدَائِعِ، وَالْعَوَارِيِّ وَالْغُصُوبِ وَالْكَفَّارَةِ إذَا غَلَبَ فِيهَا شَائِبَةُ الْقُرْبَةِ، فَإِذَا فَعَلُوهَا لَمْ يُعَاقَبُوا فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَرْكِهَا. وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَنَبُوا الْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يُعَذَّبُوا عَلَى ارْتِكَابِهَا إذَا لَمْ يَرْتَكِبُوهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] أَيْ: عَلَى كُفْرِهِمْ الَّذِينَ عُذِّبُوا لِأَجْلِهِ [مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ هَلْ يَتَوَجَّهُ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ أَوْ قَبْلَهَا] التَّكْلِيفُ هَلْ يَتَوَجَّهُ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ أَوْ قَبْلَهَا؟ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ غَوَامِضِ أُصُولِ الْفِقْهِ تَصْوِيرًا وَنَقْلًا. وَنَقْلُ " الْمَحْصُولِ " مُخَالِفٌ لِنَقْلِ " الْإِحْكَامِ "، وَفِيهِمَا تَوَقُّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ أَمْرِ الْإِعْلَامِ وَأَمْرِ الْإِلْزَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَحْثِ الْأَمْرِ.

فَنَقُولُ: فِعْلُ الْمُكَلَّفِ يَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الزَّمَانِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَاضٍ وَحَالٍ وَمُسْتَقْبَلٍ. أَمَّا بِاعْتِبَارِ الِاسْتِقْبَالِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِعْلَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ قَطْعًا سِوَى شُذُوذٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. كَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ. وَهَذَا أَحَدُ شِقَّيْ مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَنَصْبُ مَحَلِّ النِّزَاعِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَقَالَ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إنَّمَا يَصِيرُ مَأْمُورًا حَالَةَ زَمَانِ الْفِعْلِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ أَمْرًا بَلْ إعْلَامٌ لَهُ بِأَنَّهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي سَيَصِيرُ مَأْمُورًا. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: إنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ قَبْلَ وُقُوعِهِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ وَظَنَّ الْعَبْدَرِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى " الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَقَالَ: أَثْبَتَ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَفَاهُ الْأَشْعَرِيَّةُ، فَالْقَائِمُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ قَادِرٌ عَلَى الْقُعُودِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ غَيْرُ قَادِرٍ، وَلَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَإِنَّ مُرَادَ الْمُعْتَزِلَةِ: قَادِرٌ بِالْقُوَّةِ، وَمُرَادُ الْأَشْعَرِيَّةِ: قَادِرٌ بِالْفِعْلِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا كَذَلِكَ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": وَأَمَّا تَقَدُّمُ الْأَمْرِ عَلَى

وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِنَا الْمُثْبِتَةِ: إنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّذِي هُوَ الْإِيجَابُ وَالْإِلْزَامُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى وَقْتِ الْفِعْلِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّمَا هُوَ إعْلَامٌ وَإِنْذَارٌ، وَأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا قَارَنَ الْفِعْلَ وَقَالَ الْبَاقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى وَقْتِ الْفِعْلِ. وَاخْتَلَفَ الْمُعْتَزِلَةُ فِي مِقْدَارِ مَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ الْأَوْقَاتُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ مَعَ أَصْحَابِنَا عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِهِ بِوَقْتٍ يَحْصُلُ بِهِ لِلْمَأْمُورِ فَهْمُهُ وَالْعِلْمُ بِمَا يَقْتَضِي مِنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ بِأَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِوَقْتٍ وَاحِدٍ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِي ذَلِكَ شُرُوطًا أُخْرَى مِنْ كَوْنِ تَقَدُّمِهِ صَلَاحًا لِلْمُكَلَّفِ، وَلِغَيْرِهِ، وَكَوْنُ الْمُكَلَّفِ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ حَيًّا سَلِيمًا قَادِرًا بِجَمِيعِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ. وَاَلَّذِي يَخْتَارُهُ الْقَاضِي أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَقَدِّمَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْفِعْلِ بِوَقْتَيْنِ. أَحَدُهُمَا: وَقْتُ إدْرَاكِ وَاسْتِكْمَالِ سَمَاعِهِ. وَالثَّانِي: لِحُصُولِ فَهْمِهِ وَالْعِلْمِ بِالْمُرَادِ بِهِ. قَالَ: وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَصِحُّ إيقَاعُ الْفِعْلِ فِي حَالِ الْعِلْمِ بِتَضَمُّنِ الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُ إلَى تَقَدُّمِ دَلِيلٍ لَهُ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِمُدَّةٍ شَامِلَةٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عَلَى إيقَاعِ مَا حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِهِ، وَإِلَّا لَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهُمَا: فِي وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْأَمْرِ عَلَى وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَالثَّانِي: فِي أَنَّ تَقَدُّمَهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَإِنْ كَانَ إعْلَامًا وَإِنْذَارًا. وَالثَّالِثُ: فِي تَصَوُّرِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ حَالَ إيجَادِهِ.

تقدم الأمر على وقت المأمور به

الرَّابِعُ: فِي مُقَدِّمَاتِ مَا يَتَقَدَّمُ الْأَمْرُ بِهِ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ الْأَوْقَاتِ. قَالَ: وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا تَعَلَّقَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهِ الْخِلَافُ، لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عِنْدَنَا عَلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِمَا لَا غَايَةَ لَهُ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَلِأَنَّا لَا نَعْتَبِرُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ وَلَا نُوجِبُهَا. [تَقَدَّمَ الْأَمْرُ عَلَى وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ] وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: الْأَمْرُ قَبْلَ حُدُوثِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْرُ إيجَابٍ وَإِلْزَامٍ، وَلَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الِاقْتِضَاءَ وَالتَّرْغِيبَ وَالدَّلَالَةَ عَلَى امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ. قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَمِي إلَى الْحَقِّ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةً إذَا قَارَنَ حُدُوثَ الْفِعْلِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَمْرُ إنْذَارٍ، وَإِعْلَامُ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْوُقُوعِ، وَهَذَا بَاطِلٌ. وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ: تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْحُدُوثِ وَفِي حَالِ الْحُدُوثِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحَالَتَانِ فِي أَمْرٍ. وَهُوَ أَنَّهُ حَالَةُ الْمُقَارَنَةِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ لَكِنْ لَا يَقْتَضِي تَرْغِيبًا وَاقْتِضَاءً، بَلْ يَقْتَضِي كَوْنُهُ طَاعَةً بِالْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ. وَزَعَمَتْ الْقَدَرِيَّةُ بِأَسْرِهَا: أَنَّ الْفِعْلَ فِي حَالِ حُدُوثِهِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ. وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرُ إلَّا قَبْلَ وُجُودِهِ. ثُمَّ طَرَدُوا مَذْهَبَهُمْ فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَمْ يَصِفُوا كَائِنًا يَحْظُرُ، وَلَا وُجُوبَ وَلَا نَدْبَ، وَإِنَّمَا أَثْبَتُوا هَذِهِ الْأَحْكَامَ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْحُدُوثِ، ثُمَّ حَكَى الْخِلَافَ الَّذِي سَبَقَ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَمِنْهُ أَخَذَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. وَاخْتَارَ الرَّازِيَّ: أَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا حَالَ الْفِعْلِ، وَقَبْلَهُ إعْلَامٌ

بِالْأَمْرِ، وَلَيْسَ بِأَمْرٍ، وَكَذَلِكَ اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ. وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ بِالْأَمْرِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَا يُقَدِّمُهُ أَمْرًا لَاحْتَاجَ مَعَ الْفِعْلِ إلَى تَجْدِيدِ أَمْرٍ. وَأَمَّا الْحَالُ، أَيْ: حَالَةُ وُقُوعِ الْفِعْلِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُوصَى بِكَوْنِهِ مَأْمُومًا بِهِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَنَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ. وَنُقِلَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى وَقْتِ الْفِعْلِ، وَيَنْقَطِعُ التَّعَلُّقُ مِنْهُ حَالَ الْمُبَاشَرَةِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ " عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْفِعْلَ فِي حَالَ حُدُوثِهِ مَأْمُورٌ بِهِ، ثُمَّ عَلَّلَهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ أَصْلُهُ فِي أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا أَصْلُهُ الْآخَرُ، وَهُوَ جَوَازُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، فَهُوَ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ الِاسْتِطَاعَةِ فَلَعَلَّهُ بَنَاهُ عَلَى عَدَمِ الْوَقْعِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ الشَّيْخِ عَدَمَ انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَلَيْسَ لِلشَّيْخِ فِي الْمَسْأَلَةِ صَرِيحُ كَلَامٍ، وَإِنَّمَا تُلُقِّيَ مِنْ قَضَايَا مَذْهَبِهِ. وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَنْهُ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ الْمُبَاشَرَةِ، كَذَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ.

وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُتَأَخِّرُ فِي مُصَنَّفِهِ " الْمُفْرَدِ " فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْفِعْلِ عَلَى وَجْهِ الِامْتِثَالِ إنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، لَكِنْ لِلْمُعْتَزِلَةِ أَصْلٌ: وَهُوَ أَنَّ الْحَادِثَ لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ حَالَ حُدُوثِهِ كَالْبَاقِي الْمُسْتَمِرِّ الْوُجُودِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ. وَلِلشَّيْخِ أَصْلٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَ تُقَارِنُ الْمَقْدُورَ الْحَادِثَ وَلَا تَسْبِقُهُ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَةَ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ، فَلَوْ تَقَدَّمَتْ الْقُدْرَةُ الْحَادِثَةُ عَلَى وُجُودِ الْحَادِثِ، لَعُدِمَتْ عِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثِ ضَرُورَةُ اسْتِحَالَةِ بَقَائِهَا، فَلَا يَكُونُ الْحَادِثُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ. فَلَزِمَ عَلَى أَصْلِ الشَّيْخِ: أَنَّ الْمَأْمُورَ إنَّمَا يَصِيرُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ لَا قَبْلَهُ. وَلَزِمَ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ قَبْلَ حُدُوثِهِ لَا حَالَةَ حُدُوثِهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا حَاصِلَ لِمُتَعَلِّقِ حُكْمِ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، فَإِنَّ الْقَاعِدَ فِي حَالِ قُعُودِهِ مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْقِيَامِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ وَمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ مَأْمُورٌ عِنْدَهُ؟ قَالَ: وَهَذَا هُوَ سَبَبُ اخْتِلَافِ نَقْلِ صَاحِبِ " الْمَحْصُولِ " وَ " الْإِحْكَامِ "، فَكَأَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ اعْتَبَرَ مَذْهَبَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ، وَالْآمِدِيَّ اعْتَبَرَ مَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاعِدَ فِي حَالِ الْقُعُودِ مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ بِالِاتِّفَاقِ، فَحَصَلَ الْخِلَافُ بَيْنَ نَقْلَيْهِمَا. اهـ.

وَأَمَّا ابْنُ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُ نَسَبَ خِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ لِلشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ، وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مُوَافِقًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَرَدَّ مَا نَسَبَهُ إلَى الشَّيْخِ، فَقَالَ: قَالَ الشَّيْخُ الْأَشْعَرِيُّ: لَا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ، وَاخْتَارَهُ وَزَيَّفَ قَوْلَ الشَّيْخِ بِأَنْ قَالَ: إنْ أَرَادَ الشَّيْخُ بِعَدَمِ انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ أَنَّ تَعَلُّقَ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ لِنَفْسِ التَّكْلِيفِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ لِنَفْسِهِ بِالشَّيْءِ امْتَنَعَ انْقِطَاعُهُ عَنْهُ. فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ التَّكْلِيفُ بَعْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ أَيْضًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ أَرَادَ الشَّيْخُ أَنَّ تَنْجِيزَ التَّكْلِيفِ أَيْ: كَوْنَ الْمُكَلَّفِ مُكَلَّفًا بِالْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الِابْتِلَاءِ، لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ إنَّمَا يَصِحُّ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ فَيَنْتَفِي فَائِدَةَ التَّكْلِيفِ، لِأَنَّ فَائِدَةَ التَّكْلِيفِ إمَّا الِامْتِثَالُ أَوْ الِابْتِلَاءُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مُرَادُ الشَّيْخِ أَنَّ التَّكْلِيفَ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ تَكْلِيفٌ بِالْإِتْيَانِ بِالْكُلِّيِّ الْمَجْمُوعِيِّ، لَا بِإِيجَادِ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ التَّكْلِيفُ حَالَ الْحُدُوثِ تَكْلِيفًا بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ، لِأَنَّ الْكُلِّيَّ الْمَجْمُوعِيَّ لَمْ يُوجَدْ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ فَلَمْ يَمْتَثِلْ بِالْكُلِّيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وُجِدَ مِنْ الْفِعْلِ فَقَدْ انْقَطَعَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ فَيَكُونُ تَعْلِيقُ التَّكْلِيفِ بِالْبَاقِي، بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ. قُلْنَا: التَّكْلِيفُ بِالذَّاتِ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ وَبِأَجْزَائِهِ بِالْعَرْضِ، فَمَا لَمْ يَحْدُثْ لَمْ يَنْقَطِعْ التَّكْلِيفُ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْمُحْدَثَةَ لَا تَتَقَدَّمُ الْمَقْدُورَ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الْأَمْرَ يَتَقَدَّمُ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَيُقَارِنُهُ. وَأَلْزَمَهُ الْإِمَامُ كَوْنَ الْمُكَلَّفِ مَأْمُورًا بِالْقِيَامِ غَيْرَ مَقْدُورٍ لَهُ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِيهِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ،

فَقَدْ صَارَ الْمَأْمُورُ بِهِ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِكَوْنِهِ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ لِشَيْخٍ، لِأَنَّهُ إذَا اسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَقُولَ: إنَّ عَدَمَ تَعَلُّقِهَا بِهِ بِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا عَكْسُ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ. وَقَالَ إِلْكِيَا: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْحَادِثَ حَالَ حُدُوثِهِ هَلْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ؟ فَقَالَ أَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ: مَأْمُورٌ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: مَأْمُورٌ بِهِ قَبْلَ الْحُدُوثِ، وَإِذَا حَدَثَ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ اسْتَدْعَى التَّحْصِيلَ، وَالْحَاصِلُ لَا يَحْصُلُ. وَأَصْحَابُنَا بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَنَّ الْمَعْدُومَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا أَمَرَ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ إعْلَامٌ عَلَى مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَمْرِ الْأَزَلِيِّ بِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: الْحَادِثُ حَالَ حُدُوثِهِ مَأْمُورٌ بِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. اهـ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْخِلَافِ قَبْلَ الْحُدُوثِ. وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا فَسَّرْنَا حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ بِأَنَّهُ أَوَّلُ زَمَنِ وُجُودِهِ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفًا بِإِتْمَامِهِ وَإِيجَادِهِ بِمَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِحَالِ حُدُوثِهِ زَمَنُ وُجُودِهِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَصِحَّ مُطْلَقًا، بَلْ يَصِحُّ فِي أَوَّلِ زَمَنِ وُجُودِهِ وَإِنْ كُلِّفَ بِإِتْمَامِهِ كَمَا مَرَّ، وَعِنْدَ آخِرِ زَمَنِ وُجُودِهِ يَكُونُ قَدْ وُجِدَ وَانْقَضَى، فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ إيجَادِ الْمَوْجُودِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَهَذَا الْمَبْحَثُ يَنْزِعُ إلَى مَسْأَلَةِ الْحَرَكَةِ وَأَنَّهَا تُقْبَلُ أَمْ لَا؟ وَكَأَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا لَفْظِيٌّ، لِأَنَّ مَنْ أَجَازَ التَّكْلِيفَ عَلَّقَهُ بِأَوَّلِ زَمَنِ الْحُدُوثِ وَمَنْ مَنَعَهُ عَلَّقَهُ بِآخِرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقَرَافِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَ الْأَشْعَرِيَّةِ: الْأَمْرُ يَتَعَلَّقُ حَالَ الْمُلَابَسَةِ، لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ حُصُولَ زَمَانِ الْمُلَابَسَةِ شَرْطٌ فِي

تَعَلُّقِ الْأَمْرِ، بَلْ الْأَمْرُ مُتَعَلِّقٌ فِي الْأَزَلِ، فَضْلًا عَمَّا قَبْلَ زَمَنِ الْحُدُوثِ، وَإِنَّمَا الْبَحْثُ هَاهُنَا عَنْ صِفَةِ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ الْمُتَقَدِّمِ لِمَا تَعَلَّقَ فِي الْأَزَلِ كَيْفَ تَعَلَّقَ؟ هَلْ تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ زَمَنَ الْمُلَابَسَةِ أَوْ قَبْلَهُ؟ فَالتَّعَلُّقُ سَابِقٌ، وَالطَّلَبُ مُتَحَقِّقٌ، وَالْمُكَلَّفُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَعْمُرَ زَمَانًا بِوُجُودِ الْفِعْلِ بَدَلًا عَنْ عَدَمِهِ، وَهُوَ زَمَنُ الْمُلَابَسَةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ أُمِرَ بِهِ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي كَذَلِكَ إلَى آخِرِ الْعُمُرِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ مُوَسَّعًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَجْعَلَ الزَّمَنَ الَّذِي يَلِي زَمَانَ الْأَمْرِ وُجُودَ الْفِعْلِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ، فَزَمَنُ الْمُلَابَسَةِ ذُكِرَ لِبَيَانِ صِفَةِ الْفِعْلِ، لَا لِأَنَّهُ شَرْطُ التَّعَلُّقِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ نَفْيُ الْعِصْيَانِ لَوْ كَانَ شَرْطًا فِي التَّعَلُّقِ. قَالَ: وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ عَدَمُ وُرُودِ الِاسْتِشْكَالِ الْمَشْهُورِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى سَلْبِ التَّكَالِيفِ، إذْ لَوْ كَانَ حُصُولُ الْمُلَابَسَةِ شَرْطًا فِي تَعَلُّقِ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ عَاصِيًا، لِأَنَّهُ يَقُولُ: الْمُلَابَسَةُ شَرْطٌ فِي كَوْنِهِ مَأْمُورًا، وَأَنَا لَا أُلَابِسُ الْفِعْلَ، فَلَا يَكُونُ عَاصِيًا، وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْقِيقَ مَا تَقَدَّمَ. اهـ. [حَاصِلُ مَا تَقَدَّمَ] وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ مِنْ الْأَزَلِ بِالْفِعْلِ زَمَنَ الْمُلَابَسَةِ، وَقِيلَ: زَمَنُ الْمُلَابَسَةِ، وَقِيلَ: زَمَانُ وُرُودِ الصِّيغَةِ تَعَلُّقِ مُطَالَبَةٍ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يَلِي وُرُودَ الصِّيغَةِ، فَإِنْ لَابَسَ تَعَلَّقَ الْأَمْرُ حَالَ الْمُلَابَسَةِ، وَإِنْ أَخَّرَ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ مَضِيقًا تَعَلَّقَ بِالتَّأْخِيرِ التَّأْثِيمُ وَإِنْ كَانَ مُوسَعًا إلَى أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ زَمَنِ السَّعَةِ إلَّا قَدْرُ مَا يَسَعُ الْفِعْلَ تُضَيَّقَ، وَجَاءَ التَّأْثِيمُ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُوَ إلَّا الْمَضِيقَ، وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ. وَأَمَّا الْمَاضِي وَهُوَ تَعَلُّقُ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ بَعْدَ حُدُوثِهِ كَالْحَرَكَةِ بَعْدَ

انْقِضَائِهَا بِانْقِضَاءِ الْمُتَحَرِّكِ فَمُمْتَنِعٌ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ، وَلَا يُوصَفُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ إلَّا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يُوصَفُ قَبْلَ وُجُودِهِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَمَطْلُوبٌ، وَأَمَّا قَبْلَ وُجُودِهِ فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالِاقْتِضَاءِ وَالتَّرْغِيبِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ مِمَّا لَمْ يُوجَدْ. وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ. وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إنَّ النَّظَرَ يُضَادُّ الْعِلْمَ بِالْمَنْظُورِ فِيهِ، لِأَنَّ النَّظَرَ بَحْثٌ عَنْ الْعِلْمِ وَابْتِغَاءٌ لَهُ، وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ، وَيَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ طَاعَةٌ، وَهَلْ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ حَالَ وُقُوعِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ يَنْفُونَهُ. وَأَمَّا تَقَضِّي الْفِعْلِ فَيَصِحُّ وَصْفُهُ بِمَا سَبَقَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ حَالَ الْإِيقَاعِ وَقَبْلَهُ مَأْمُورٌ بِهِ، فَهَلْ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا مُتَسَاوِيًا؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ. فَيَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِهِمَا تَعَلُّقَ إيجَابٍ وَإِلْزَامٍ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " عَنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَالَ الْوُقُوعِ تَعَلُّقُ إلْزَامٍ، وَأَمَّا قَبْلَهُ تَعَلُّقُ إعْلَامٍ بِأَنَّهُ سَيَصِيرُ فِي زَمَانِ الْحَالِ مَأْمُورًا، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي إلَى بَعْضِ مَنْ يَنْتَمِي إلَى الْحَقِّ. قَالَ: هُوَ بَاطِلٌ. وَادَّعَى الْقَرَافِيُّ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ قَالَ فِيهِ: إنَّهُ لَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ عَاقِلٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ عَلَى الْحُدُوثِ، وَفِي حَالَةِ الْحُدُوثِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي التَّرْغِيبِ وَالِاقْتِضَاءِ وَالدَّلَالَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ، وَمَا أَبْطَلَهُ الْقَاضِي اخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ

فِي " الْمَحْصُولِ ". وَلِأَجْلِهِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي " الْمِنْهَاجِ ": التَّكْلِيفُ يَتَوَجَّهُ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ، وَهُوَ قَضِيَّةُ نَقْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْأَصْحَابِ. وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَرَأَيَا أَنَّ الْفِعْلَ حَالَ الْإِيقَاعِ لَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِهِ، وَمُدْرَكُهُمْ فِيهِ خِلَافُ مُدْرَكِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَالْمُعْتَزِلَةُ بَنُوهُ عَلَى أَصْلِهِمْ: أَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْفِعْلِ وَانْقِطَاعُ تَعَلُّقِهَا حَالَ وُجُودِهِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَكَادَ يُوَافِقُهُمْ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: مَا لَيْسَ بِمَقْدُورٍ لَا يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ يُثْبِتُ قُدْرَةً، وَيَقُولُ: الْحَالُ غَيْرُ مَقْدُورٍ فَلَزِمَ تَقَدُّمُ الْقُدْرَةِ، فَصَرَّحَ مِنْ أَجْلِهَا بِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ قَبْلَ الْفِعْلِ وَانْقِطَاعِهِ مَعَهُ. وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَإِنَّهُ سَلَّمَ مُقَارَنَةَ الْقُدْرَةِ لِلْمَقْدُورِ، وَوَافَقَ مَعَ هَذَا عَلَى انْتِفَاءِ الْأَمْرِ حَالَ الْوُقُوفِ، فَتَوَافَقَا فِي الْأَصْلِ، وَتَخَالَفَا فِي الْفُرُوعِ، ثُمَّ اعْتَمَدَ هُوَ وَإِمَامُهُ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ الِاقْتِضَاءُ وَالطَّلَبُ، وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ غَيْرُ مُقْتَضَى حَالِ الْإِيقَاعِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ هَذَا مَأْمُورٌ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ طَاعَةٌ وَامْتِثَالٌ، وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ مُوَافِقَةُ الْأَمْرِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْإِمَامَ وَالْغَزَالِيَّ قَدْ رَأَوْا أَنَّ لَا حَقِيقَةَ لِلْأَمْرِ إلَّا الِاقْتِضَاءُ، وَقَدْ يَطْلُبُ، فَبَطَلَ بِنَفْسِهِ، وَتَبِعَهُمْ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَلَيْسَ

كَذَلِكَ، بَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِهِ، وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى مَنْ قَالَ بِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ قَبْلَ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْلَامِ وَالْإِلْزَامِ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَعْصِيَ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لِأَنَّهُ إنْ أَتَى بِهِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ. وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالتَّارِكُ مُبَاشِرٌ لِلتَّرْكِ، وَهُوَ فِعْلٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ حَرَامٌ، فَإِثْمُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَعَلَى مَا سَبَقَ مِنْ طَرِيقَةِ الْقَرَافِيِّ لَا إشْكَالَ. وَقَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُتَأَخِّرُ: الْحَقُّ أَنَّ تَعَلُّقَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ لَا قَبْلَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَا حَاصِلَ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ رَأْيُ الْأَشْعَرِيِّ قَالَهُ الْإِمَامُ، فَإِنَّ الْقَاعِدَ حَالَ قُعُودِهِ مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْقِيَامِ عِنْدَ الشَّيْخِ فِي حَالِ الْقُعُودِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ؟ وَمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ مَأْمُورٌ عِنْدَنَا. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنًى لِكَوْنِ فِعْلِ الْعَبْدِ مَقْدُورًا لَهُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْخِ، فَإِنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقُ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ وَاقِعًا بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ، فَلَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَهُ. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنًى لِإِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ فِي الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مُقَارِنُ الْفِعْلِ مَدْخَلٌ فِي الْفِعْلِ فَجَمِيعُ الْأَوْصَافِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ مُتَشَارِكَةٌ فِي كَوْنِهَا مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ، فَتَمَيَّزَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِكَوْنِهَا قُدْرَةً دُونَ غَيْرِهِ، يَكُونُ تَمَيُّزًا مِنْ غَيْرِ مُمَيَّزٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَأَمَّا رَابِعًا: فَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ. وَأَمَّا خَامِسًا: فَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ هَذَا الْأَصْلِ وَكَوْنُ قُدْرَةِ

الْعَبْدِ ثَابِتَةً، وَكَوْنُ الْفِعْلِ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْقُدْرَةُ عِنْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَبْلَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَوْ تَقَدَّمَتْ الْقُدْرَةُ الْحَادِثَةُ عَلَى وُجُودِ الْحَادِثِ لَعُدِمَتْ عِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثِ ضَرُورَةُ اسْتِحَالَةِ بَقَائِهَا، فَلَا يَكُونُ الْحَادِثُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ، فَلَا طَائِلَ لَهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الْفِعْلِ فَكَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: الْفِعْلُ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ مُقَارَنَةِ الْقُدْرَةِ لِلْفِعْلِ فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ: الْفِعْلُ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ تَقَدُّمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ، بَلْ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ لِلْقُدْرَةِ مَدْخَلًا فِي الْفِعْلِ لَجَازَ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً بِالزَّمَانِ عَلَى الْفِعْلِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْعِدَّةِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ سَابِقٌ عَلَى حُدُوثِهِ، وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْفِعْلِ، وَنَعْنِي بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ صِفَةً خَلَقَهَا اللَّهُ فِي الْعَبْدِ، وَجَعَلَهَا بِحَيْثُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الْفِعْلِ، بَلْ كَوْنُهَا بِحَيْثُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الْفِعْلِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ جَمِيعَ الْمُحْدِثَاتِ بِخَلْقِهِ تَعَالَى بَعْضُهَا بِلَا أَوْسَاطٍ وَلَا أَسْبَابٍ، وَبَعْضُهَا بِوَسَائِطَ وَأَسْبَابَ، لَا بِأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْوَسَائِطُ وَالْأَسْبَابُ لِذَاتِهَا اقْتَضَتْ أَوْ يَكُونُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي وُجُودِ الْمُسَبَّبَاتِ، بَلْ خَلَقَهَا اللَّهُ بِحَيْثُ لَهَا مَدْخَلٌ. فَتَكُونُ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ لِلْعَبْدِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ وَمَقْدُورَةً لِلْعَبْدِ بِقُدْرَةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ فِيهِ، وَالْقُدْرَةُ مُمَيَّزَةٌ عَنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ مِنْ حَيْثُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الْفِعْلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصِّفَاتِ، فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ قَبْلَ حُدُوثِهِ، لَكِنْ هَلْ يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ: الْفِعْلُ الْمَطْلُوبُ يَكُونُ آتِيًا قَبْلَ الْآنَ طَرَفُ الزَّمَانِ أَوْ جُزْأَهُ عُلِمَ ذَلِكَ بِاسْتِقْرَاءِ الْأَفْعَالِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الشَّرْعِ، بَلْ يَكُونُ زَمَانِيًّا إمَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ كَالْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ ذَلِكَ ذَا أَجْزَاءٍ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالذَّاتِ مُتَعَلِّقًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ تَعَلُّقًا بِأَجْزَائِهِ مُحَالَ الْحُدُوثِ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْفِعْلِ لَمْ يَقَعْ

الْبَعْضُ بِهَا، وَالْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفِعْلِ بِالذَّاتِ لَا يَنْقَطِعُ مَا لَمْ يَحْدُثْ الْفِعْلُ، وَلَا يَحْدُثُ الْفِعْلُ إلَّا بَعْدَ حُدُوثِ أَجْزَائِهِ، فَلَا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بَعْدَ حُدُوثِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَبَيَانُ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ وَمُقَدَّرَةٌ لِلْعَبْدِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي أُصُولِ الدِّينِ. تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَمَّا حَكَى الْقَوْلَ بِأَنَّ الْفِعْلَ حَالَ حُدُوثِهِ مَأْمُورٌ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَذْهَبَ الشَّيْخِ فِي الْقُدْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَذْهَبُهُ مُخْتَبَطٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْ سَلَّمَ مُسْلِمٌ لِأَبِي الْحَسَنِ مَا قَالَهُ فِي الْقُدْرَةِ جَدَلًا فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ كَوْنُ الْحَادِثِ مَأْمُورًا، هَذَا حَاصِلُهُ. وَمَذْهَبُهُ فِي الْقُدْرَةِ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، ثُمَّ أَلْزَمَ الشَّيْخُ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ. ثُمَّ قَالَ: فَقَالَ فِي الْحَادِثِ: هَذَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الْمُخَاطَبُ، فَأَمَّا أَنْ يَتَّجِهَ الْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الْأَمْرِ طَلَبًا وَاقْتِضَاءً مَعَ حُصُولِهِ، فَلَا يَرْضَى هَذَا الْمَذْهَبَ الَّذِي لَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ عَاقِلٌ. اهـ. وَمُرَادُهُ بِالْمَذْهَبِ الَّذِي لَا يَرْتَضِيهِ عَاقِلٌ إيجَابُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ الَّذِي أَلْزَمَ بِهِ الشَّيْخَ، وَلَمْ يُرِدْ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الشَّيْخِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّهُ الْحَقُّ، وَإِنَّ عَلَيْهِ السَّلَفَ مِنْ الْأُمَّةِ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَتَعَيَّنُ. وَتَوَهَّمَ الْقَرَافِيّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مُرَادَ الْإِمَامِ بِذَلِكَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عِنْدَ

الْمُبَاشَرَةِ، وَشَنَّعُوا بِهِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ شَيْخِهِ. وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي أَنَّ مَذْهَبَ الشَّيْخِ فِي الْوُجُوبِ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ هَلْ يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ أَمْ لَا؟ وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْخِ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي تَخْصِيصِ التَّكْلِيفِ بِحَالَةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَأَصْلُ الْوَهْمِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي [بِنَاءُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ] إنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرَهُ ادَّعَوْا أَنَّ أَصْحَابَنَا بَنَوْا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ. قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ غَيْرُ سَدِيدَةٍ، وَكَيْفَ تُشَيَّدُ وَعِنْدَ الْأَصْحَابِ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ؟ وَصَرَّحُوا بِجَوَازِ تَقَدُّمِ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَالُوا: الْفَاعِلُ قَدْ يُؤْمَرُ بِالْقِيَامِ بِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ فِي حَالَةِ الْقُعُودِ حَتَّى اخْتَلَفُوا. فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْأَمْرُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ قَبْلَ حُدُوثِهِ أَمْرُ إيجَابٍ. وَقَالَ الْأَقَلُّونَ: أَمْرُ إعْلَامٍ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْحُدُوثِ، فَإِذَنْ لَيْسَ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ مَسْأَلَةَ الِاسْتِطَاعَةِ. نَعَمْ الْمُعْتَزِلَةُ يَبْنُونَ وَيَقُولُونَ: كَمَا الْقُدْرَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ بِزَعْمِهِمْ، فَالْأَمْرُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ، ثُمَّ عَوَّلَ الْإِمَامُ بَعْدَ التَّسْفِيهِ فِي الْبِنَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ وَاقْتِضَاءٌ، وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ وَلَا يُقْتَضَى. وَهَذَا اعْتِسَافٌ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّ الْفِعْلَ فِي حَالِ الْحُدُوثِ

مَأْمُورٌ بِهِ أَنَّهُ طَاعَةٌ، فَتَعَلُّقُ الْأَمْرِ قَبْلَ الْحُدُوثِ يَتَضَمَّنُ اقْتِضَاءً وَتَرْغِيبًا، وَفِي حَالِ الْحُدُوثِ يَتَضَمَّنُ كَوْنَهُ طَاعَةً، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ، فَلَا خِلَافَ إذَنْ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ أَوْ قَبْلَهُ لَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ وَالصِّحَّةِ فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْفِعْلِ قَطْعًا، فَإِذَا انْضَمَّتْ الدَّاعِيَةُ إلَيْهِ صَارَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ مَعَ هَذِهِ عِلَّةً لِلْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَجِبُ وُقُوعُهُ مَعَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ لَا يَتَخَلَّفُ عِنْدَ أَثَرِهِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَجْمُوعَ مَا لَا يَتِمُّ الْفِعْلُ إلَّا بِهِ فَلَيْسَتْ سَابِقَةً عَلَى الْفِعْلِ لِفِقْدَانِ الدَّاعِيَةِ إذْ ذَاكَ. [التَّنْبِيهُ] الثَّالِثُ [الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ] قِيلَ: إنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، وَلَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ حُكْمٌ قَطْعًا، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِالْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ إلَّا بِالِامْتِثَالِ، وَلَا يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِالْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ. وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ مُتَوَجِّهًا إلَى الْفِعْلِ قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِالْفَرَاغِ عَنْهُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّاتِ يَتَعَلَّقُ بِمَجْمُوعِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، وَتَعَلُّقُهُ بِالْأَجْزَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَرَضِ، فَمَا لَمْ يَأْتِ بِمَجْمُوعِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا، وَمَا لَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ. [التَّنْبِيهُ] الرَّابِعُ قَوْلُنَا: إنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَصِيرُ أَمْرًا حَالَ الْحُدُوثِ وَلَا يُنَاقِضُهُ قَوْلُنَا: لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. كَمَا قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ "،

مسألة النيابة في العبادات البدنية

لِأَنَّنَا إذَا فَسَّرْنَا النَّفْيَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِعَدَمِ الْحُكْمِ فَالْخِطَابُ فِي الْأَزَلِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْمُكَلَّفِ مَوْقُوفٌ عَلَى بَعْثَةِ الرُّسُلِ. فَمَعْنَى قَوْلِنَا: لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ الشَّرْعِ، أَيْ: لَا يَتَعَلَّقُ، فَلَا تَنَاقُضَ. [التَّنْبِيهُ] الْخَامِسُ سَبَقَ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْدُومَ مَأْمُورٌ بِشَرْطِ الْوُجُودِ، وَهُوَ يُنَاقِضُ قَوْلَنَا: الْأَمْرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: دَفَعَهُ أَنَّا إنْ قُلْنَا: الْأَمْرُ الْأَزَلِيُّ إعْلَامٌ فَوَاضِحٌ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ خُصُوصَ كَوْنِهِ أَمْرًا حَادِثًا كَمَذْهَبِ الْقَلَانِسِيِّ فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا فَنَقُولُ: يَعْرِضُ لَهُ نِسَبٌ يَخْتَلِفُ بِهَا، فَفِي الْأَزَلِ لَهُ نِسْبَةٌ بِهَا صَارَ إلْزَامًا خَاصًّا، وَهُوَ إنَّهُ إلْزَامُ الْمَأْمُورِ الْفِعْلَ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، وَاسْتِجْمَاعُهُ لِشَرَائِطِ التَّكْلِيفِ عِنْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ. ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ نِسَبٌ أُخْرَى فِي وُجُودِ الْمُكَلَّفِ وَبِحُدُوثِ الْفِعْلِ يَصِيرُ أَمْرًا حِينَئِذٍ، وَالْأَوَّلُ كَانَ إلْزَامًا عَلَى تَقْدِيرٍ، وَأَمَّا إذَا بَاشَرَ الْمُكَلَّفُ الْفِعْلَ فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ بِالتَّقْدِيرِ، فَالْأَمْرُ الْمُقَدَّرُ صَارَ مُحَقَّقًا. وَقَوْلُنَا: إنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلِ وَقَبْلَهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ كَانَ نَفْيًا لِهَذَا الْأَمْرِ الْخَاصِّ لَا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ. [مَسْأَلَةٌ النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ] مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَصْلُ امْتِنَاعُ النِّيَابَةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ، فَقَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي بَابِ الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَامَ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ

عَنْ أَحَدٍ عَمَلَ الْأَبَدَانِ، لِأَنَّ الْأَبْدَانَ تَعَبَّدَتْ بِعَمَلٍ، فَلَا يُجْزِئُ عَنْهَا أَنْ يَعْمَلَ عَنْهَا غَيْرُهَا لَيْسَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ بِالْخَبَرِ الَّذِي جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِأَنَّ فِيهِمَا نَفَقَةً، وَأَنَّ اللَّهَ فَرَضَهُمَا عَلَى مَنْ وَجَدَ إلَيْهِمَا السَّبِيلَ، وَالسَّبِيلُ بِالْمَالِ. اهـ. وَأَغْفَلَ الْأَصْحَابُ هَذَا وَلَمْ يَحْفَظُوا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصًّا وَهَذَا فِي الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ. وَأَمَّا الْعَقْلِيُّ: فَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا جَرَيَانُ النِّيَابَةِ فِي التَّكَالِيفِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ عَقْلًا، وَمَنَعَهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَسَاعَدَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ. وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَرْفٍ، وَهُوَ أَنَّ الثَّوَابَ مَعْلُولُ الطَّاعَةِ، وَالْعِقَابَ مَعْلُولُ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَنَا: الثَّوَابُ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ وَالْعِقَابُ عَدْلٌ مِنْ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ أَمَارَةٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ نَحْوَهُ وَحَرَّرَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، فَقَالَ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ دُخُولِ النِّيَابَةِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ إذَا كَانَ مَالِيًّا، وَعَلَى وُقُوعِهِ أَيْضًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْغَيْرِ صَرْفُ زَكَاةِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ، وَكَيْفَ لَا، وَصَرْفُ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ إلَى الْإِمَامِ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَصْرِفْهَا إلَى الْفُقَرَاءِ إلَّا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ دُخُولِهَا فِيهِ إذَا كَانَ بَدَنِيًّا، فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ مَعًا مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ لِنَفْسِهِ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ قَوْلُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: أَمَرْتُكَ بِخِيَاطَةِ هَذَا الثَّوْبِ، فَإِنْ خِطْتَهُ بِنَفْسِكَ أَوْ اسْتَنْبَتَ فِيهِ أَثَبْتُكَ، وَإِنْ

تَرَكْتَ الْأَمْرَيْنِ عَاقَبْتُكَ، وَاحْتَجُّوا بِالنِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ إذَا كَانَ بَدَنِيًّا مَحْضًا، بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَا هُوَ بَدَنِيٌّ وَمَالِيٌّ مَعًا كَالْحَجِّ، وَلَعَلَّ الْخَصْمَ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهِ كَذَا قَالَ الْهِنْدِيُّ لَكِنَّ الْخِلَافَ مَوْجُودٌ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمُبَاشِرِ، وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تُجْزِئُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَّا أَنَّ فِي الْحَجِّ شَائِبَةً مَالِيَّةً مِنْ جِهَةِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. فَمِنْ جِهَةِ الْمُبَاشَرَةِ تَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، وَمِنْ جِهَةِ الْإِنْفَاقِ تَقَعُ عَنْ الْآمِرِ. لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ عَمَلًا بِظَوَاهِر الْأَحَادِيثِ. وَاحْتَجَّ الْمَانِعُ بِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ إيجَابِ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِ، وَالنِّيَابَةُ تُخِلُّ بِذَلِكَ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يُخِلُّ بِهِ مُطْلَقًا فَإِنَّ فِي النِّيَابَةِ امْتِحَانًا أَيْضًا. وَزَادَهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَحْقِيقًا، فَقَالَ: الْأَفْعَالُ الْمُسْتَنِدَةُ إلَى الْفَاعِلِينَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ شَرْعِيَّةً أَوْ لُغَوِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ شَرْعِيَّةً فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَادَةً أَوْ غَيْرَهَا، وَغَيْرُ الْعِبَادَةِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُنْظَرَ فِيهَا إلَى جِهَةِ الْفَاعِلِيَّةِ أَوْ إلَى جِهَةِ الْفِعْلِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْفَاعِلِ. فَمِنْ الْأَوَّلِ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» فَأَنَاطَ الشَّارِعُ ذَلِكَ بِالْفَاعِلِ، فَالْعِبْرَةُ فِيهِ بِهِ، فَتَكُونُ عُهْدَةُ الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةً بِهِ وَلَوْ وَكِيلًا. وَمِنْ الثَّانِي: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ» فَقَصَدَ الشَّارِعُ تَحْصِيلَ الْفِعْلِ، وَاجْتَمَعَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]

فَالتَّطْلِيقُ الْمُرَادُ بِهِ تَحْصِيلُ الْفِعْلِ سَوَاءٌ كَانَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنِيَابَةٍ أَوْ بِغَيْرِهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْفِقْهِ وَهَذَا مِنْ الثَّانِي. وَحَتَّى تَنْكِحَ: الْمُرَادُ بِهِ الْإِسْنَادُ الْحَقِيقِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفَاعِلِ. وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ: فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً أَوْ تُقْصَدُ، فَإِنْ كَانَتْ وَسِيلَةً فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً تَبْعُدُ عَنْ الْعِبَادَةِ جِدًّا أَوْ تَقْرُبُ مِنْهَا جِدًّا، فَإِنْ كَانَتْ تَبْعُدُ جِدًّا، كَتَحْصِيلِ التُّرَابِ وَالْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، وَالصَّبِّ عَلَيْهِ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَقْرُبُ مِنْهَا جِدًّا، فَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا الْقَصْدُ أَوْ لَا يُعْتَبَرُ. فَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ كَتَوْضِئَةِ الْغَيْرِ لَهُ أَوْ تَغْسِيلِهِ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ الدُّخُولِ. وَأَمَّا الْقَصْدُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَدَنِيًّا مَحْضًا أَوْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ اُمْتُنِعَتْ النِّيَابَةُ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ رَكْعَتَا الطَّوَافِ تَبَعًا لِلْحَجِّ، وَكَذَا الصَّوْمُ عَنْ الْمَيِّتِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. وَإِنْ كَانَ مَالِيًّا مَحْضًا كَالزَّكَاةِ دَخَلَتْ النِّيَابَةُ فِي تَفْرِيقِهِ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْوَسِيلَةَ، إذْ الْمَالُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا كَالْحَجِّ جَازَ عِنْدَ الْيَأْسِ وَالْمَوْتِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْفِقْهِ. وَأَمَّا اللُّغَوِيَّاتُ: فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَصْرُوفَةٌ إلَى مَا اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْفِعْلُ حَيْثُ لَمْ يَبْقَ مَا يَعُمُّ الْمَجَازَ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ رَافِعَةً لِلْحَقِيقَةِ لِتَأْدِيَةِ ذَلِكَ إلَى النَّسْخِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مُخَصَّصَةً عَلَى طَرِيقَةٍ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ مَعَنَا حَقِيقَتَانِ دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُمَا مُشْتَرِكَيْنِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، أَوْ يَأْخُذُ بَيْنَهُمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا، فَهُنَا يُقَالُ: الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ أَوْلَى، وَأَمَّا فِي حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فَلَا.

فصل في الأعذار المسقطة للتكليف

[فَصْلٌ فِي الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلتَّكْلِيفِ] فِي الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلتَّكْلِيفِ السَّفَرُ فَمِنْهَا: السَّفَرُ مُسْقِطٌ لِشَطْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَمُسَوِّغٌ لِإِخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا، إذْ جَوَّزَ لَهُ الشَّرْعُ التَّأْخِيرَ بِنِسْبَةِ الْجَمْعِ تَرْخِيصًا، ثُمَّ مِنْهُ مَا ثَبَتَ لِمُطْلَقِ السَّفَرِ وَإِنْ قَصُرَ. وَعَدَّهَا الْغَزَالِيُّ أَرْبَعَةً: النَّفَلُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَتَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَالتَّيَمُّمُ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَقَدْ يُنَازَعُ فِي هَذَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَا يَخْتَصَّانِ بِالسَّفَرِ. وَمِنْهُ مَا يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ. وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْقَصْرُ، وَالْفِطْرُ، وَالْجَمْعُ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. الِاضْطِرَارُ وَمِنْهَا: الِاضْطِرَارُ لِاسْتِبْقَاءِ الْمُهْجَةِ، رَخَّصَ لَهُ الشَّرْعُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ بَلْ أَوْجَبَهُ، لِأَنَّهَا إنَّمَا حُرِّمَتْ لِأَنَّ تَنَاوُلَهَا يُخِلُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَذَلِكَ لَا يُقَاوِمُ اسْتِبْقَاءَ الْمُهْجَةِ. الْجَهْلُ وَمِنْهَا: الْجَهْلُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَالْخَمْرِ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ، وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِجَهْلِهِ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ، وَلَا تَبْطُلُ

فَوْرِيَّةُ الْخِيَارِ بِجَهْلِهِ ثُبُوتَهُ، وَلَا يَكْفُرُ مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْخَفِيِّ كَتَوْرِيثِ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ، السُّدُسَ. وَفِي " تَعْلِيقِ " الْقَاضِي الْحُسَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى خَيْطِ الْخَيَّاطِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ تَدِقُّ وَتَغْمُضُ مَعْرِفَتُهَا هَلْ يُعْذَرُ فِيهَا الْعَامِّيُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ فِي تَعْصِيَتِهِ الْبَيْعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ الْعِلْمَ بِالنَّهْيِ وَعَذَرَهُ بِالْجَهْلِ، وَكَذَا فِي النَّجْشِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ. خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ لَمْ يَشْرِطْهُ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الْمَنَاهِي، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ «آكِلُ الرِّبَا وَمُوَكِّلُهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِذَلِكَ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . [الْخَطَأُ] وَمِنْهَا: الْخَطَأُ بِأَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ الْفِعْلُ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لَكِنْ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ، وَأَنْ لَا إثْمَ فِيهِ. حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ " الْبَيَانِ " فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَنَحْوِهِ حَتَّى لَا يُوصَفَ لَا بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ.

الْحَيْضُ] وَمِنْهَا: الْحَيْضُ مُسْقِطٌ لِلصَّلَاةِ وَكَذَا الصَّوْمُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ قَضَاؤُهُ بِأَمْرِ جَدِيدٍ. [الْمَرَضُ] وَمِنْهَا: الْمَرَضُ مُسْقِطٌ لِلْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ وَمُسَوِّغٌ لِإِخْرَاجِ الصَّوْمِ عَنْ وَقْتِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ دَائِمُ الْحَدَثِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَالسَّلَسُ مُسْقِطٌ لِحُكْمِ الطَّهَارَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ. [الرِّقُّ] وَمِنْهَا: الرِّقُّ يُسْقِطُ الْجُمُعَةَ، وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ قَطْعًا. [الْإِكْرَاهُ] وَمِنْهَا: الْإِكْرَاهُ الْمُبِيحُ لَهُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الِاسْتِسْلَامِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ وَالزِّنَا. وَفِي " الْمَبْسُوطِ " لِلْحَنَفِيَّةِ الْإِكْرَاهُ أَثَرُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي إلْغَاءِ عِبَارَتِهِ كَتَأْثِيرِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ. وَعِنْدَنَا تَأْثِيرُهُ فِي سَلْبِ الرِّضَا، لَا فِي إهْدَارِ عِبَارَتِهِ، حَتَّى كَأَنَّ مُتَصَرِّفَاتِهِ مُنْعَقِدَةٌ، وَلَكِنْ مَا يُعْتَمَدُ لُزُومُهُ الرِّضَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَلْزَمُ، وَمَا لَا يَعْتَمِدُ الرِّضَا يَلْزَمُ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ.

قَالَ السَّرَخْسِيُّ: قَدْ اسْتَكْثَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِدْلَالَ بِالْآثَارِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ، وَهَذَا لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ حَتَّى يَتَنَوَّعَ أَفْعَالُهُ إلَى مُبَاحٍ وَوَاجِبٍ وَحَرَامٍ. فَالْوَاجِبُ شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَتَارَةً قَتْلُ النَّفْسِ وَالزِّنَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْخِطَابِ. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَجُمْلَةُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ النَّظَرُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْمَعْرِفَةُ ثَانِيًا، ثُمَّ الْعِبَادَاتُ. فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ سَاقِطَةٌ عَنْ الصَّبِيِّ دُونَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ إذَا أُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ، فَلَا نَقُولُ: يَسْتَحِقُّ بِهَا ثَوَابَ مَنْ يُمْتَحَنُ بِتَنْقِيصِ الْمِلْكِ، وَمَرَاغِمِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يَعِدُ الْفَقْرَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ لَا نَظَرًا لِلصَّبِيِّ الْمُؤَدِّي. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْمُوَاسَاةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعِبَادَةِ. فَعَلَى هَذَا لَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَا بَدَنِيَّةٌ، وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ مِنْ مَالِهِ نَفَقَةُ أُخُوَّةِ الدِّينِ. ثُمَّ لَا يَلْزَمُ قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لِعِلْمِ الشَّرْعِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ حَرَجًا عَظِيمًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الصَّبِيَّ عَامٌّ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَقَدْ صَحَّ قَطْعًا مُدَّةٌ مَدِيدَةٌ. وَالْجُنُونُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ مَعَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِدَوَامِهِ، وَلَا أَنَّهُ عَامٌّ فَلَيْسَ مُلْتَحِقًا بِالصَّبِيِّ مَعَ الْفَرْقِ الْقَاطِعِ. وَلَكِنْ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ وَمَقَادِيرُهُ مُلْحِقَةٌ بِأَصْلِهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُلْحِقُ تَفَاصِيلَهُ بِأَصْلٍ آخَرَ: وَهُوَ الْإِغْمَاءُ، وَنَظَرُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى. وَيَتَّصِلُ بِذَلِكَ أَنَّ عَقْلَهُ وَتَمْيِيزَهُ يَقْتَضِي تَصْحِيحَ عِبَارَتِهِ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: فَسَدَتْ عِبَارَتُهُ فِيمَا صَارَ بِوَلِيٍّ عَلَيْهِ فِيهَا، وَأَمَّا مَا لَمْ يَصِرْ مُوَلَّى عَلَيْهِ فِيهَا فَفَاسِدٌ فِيمَا يَضُرُّهُ، صَحِيحٌ فِيمَا يَنْفَعُهُ،

حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنَا جَائِعٌ يُسْمَعُ مِنْهُ وَيُطْعَمُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَصَّلَ فَقَالَ: وَالْأَعْذَارُ الْمُسْقِطَةُ لِلْوُجُوبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ تِسْعَةٌ: جُنُونٌ وَنَوْمٌ وَإِغْمَاءٌ وَنِسْيَانٌ وَخَطَأٌ وَإِكْرَاهٌ وَجَهْلٌ بِأَسْبَابِ الْوُجُوبِ وَحَيْضٌ وَرِقٌّ. فَالْجُنُونُ رَآهُ أَبُو حَنِيفَةَ شَبِيهًا بِالصَّبِيِّ فِي عَدَمِ الْعَقْلِ بِالْجُنُونِ مِنْ أَصْلِهِ، وَالصَّبِيُّ فِي كَمَالِهِ، وَأَلْحَقَهُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَالصِّبَا يَمْنَعُ وُجُوبَ حُقُوقِ اللَّهِ كُلِّهَا مَالِيِّهَا وَبَدَنِيِّهَا، وَعِنْدَنَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ. وَالسَّفَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعِبَادَاتِ إجْمَاعًا وَفِي الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ بِالدَّمِ، وَيُؤَثِّرُ فِي التَّصَرُّفَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَالنَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ يَمْنَعَانِ اسْتِكْمَالَ الْعَقْلِ، فَلَمْ نَعْتَبِرْ النَّوْمَ لِشَيْءٍ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْعِبَادَةِ، وَفِي الْعِبَادَةِ كَلَامٌ. وَالسُّكْرُ وَإِنْ شَابَهَ الْإِغْمَاءَ فِي الصُّورَةِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ صَارَ السَّكْرَانُ كَالصَّاحِي وَمَا يَقْتَضِي النِّسْيَانَ وَالْإِكْرَاهَ وَالرِّقَّ عُذْرٌ يُسْتَقْصَى فِي الْفِقْهِ. وَالْكُفْرُ لَيْسَ مُسْقِطًا لِلْخِطَابِ عِنْدَنَا وَلَكِنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ مَعَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ بِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَرَخَّصَ بِإِسْقَاطِ ضَمَانِ الْمُتْلِفَاتِ، وَرَخَّصَ تَصْحِيحُ أَنْكِحَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ كَثِيرًا مِمَّا يُخَالِفُ وَضْعَ الشَّرْعِ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي الْفِقْهِ. فَهَذَا مَجْمُوعُ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ رَجَّحَ سَبَبًا عَلَى سَبَبٍ مِنْ

غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ فِي بَعْضِهَا. [الصِّبَا] وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّبَا، إنَّمَا يَنْتَصِبُ عُذْرًا فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَقَرَّرَ وُجُوبُهَا بِالشَّرْعِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّ وُجُوبَ الْإِسْلَامِ بِالْعَقْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَدِّرَ الصِّبَا عُذْرًا أَصْلًا، وَيَقُولُ: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَبَنَى عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ صِحَّةُ إسْلَامِهِ عَلَى مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِ لِتَرَتُّبِهَا عَلَى الْإِسْلَامِ الْمَرْفُوعِ، وَأَبْطَلَهُ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ انْطِوَاءَ ضَمِيرِهِ، أَوْ يَقُولُ: لَا يُحْتَمَلُ الْإِسْلَامُ إلَّا فَرْضًا، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ فَرْضًا فَخَرَجَ لِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا.

مباحث الكتاب

[مَبَاحِثُ الْكِتَابِ] [تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ] الْكِتَابُ] الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: بَلْ مُتَغَايِرَانِ، وَرَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَنْ الْجِنِّ {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] فَدَلَّ عَلَى تَرَادُفِهِمَا، وَهُوَ أُمُّ الدَّلَائِلِ، وَفِيهِ الْبَيَانُ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي " الرِّسَالَةِ ": وَلَيْسَتْ تَنْزِلُ بِأَحَدٍ نَازِلَةٌ فِي الدُّنْيَا إلَّا وَفِي كِتَابِ اللَّهِ الدَّلِيلُ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى فِيهَا، وَأَوْرَدَ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا ثَبَتَ ابْتِدَاءً بِالسُّنَّةِ، وَأَجَابَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ فِيهِ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ، وَحَذَّرْنَا مِنْ مُخَالَفَتِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَمَنْ قَبِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَنْ اللَّهِ قَبِلَ. وَيُطْلَقُ الْقُرْآنُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ هَذَا الْمَتْلُوُّ، وَذَلِكَ مَحَلُّ نَظَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأُخْرَى وَيُرَادُ بِهِ الْأَلْفَاظُ الْمُقَطَّعَةُ الْمَسْمُوعَةُ، وَهُوَ الْمَتْلُوُّ. وَهَذَا مَحَلُّ نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ وَسَائِرِ خَدَمَةِ الْأَلْفَاظِ كَالنُّحَاةِ وَالْبَيَانِيِّينَ وَالتَّصْرِيفِيَّيْنِ وَاللُّغَوِيِّينَ وَهُوَ مُرَادُنَا.

تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ فَنَقُولُ: هُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ لِلْإِعْجَازِ بِآيَةٍ مِنْهُ الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ فَخَرَجَ " بِالْمُنَزَّلِ " الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ، وَالْأَلْفَاظُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَقْبَلُ حَقِيقَةَ النُّزُولِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ الْمَجَازُ الصُّورِيُّ. وَقَوْلُنَا: " لِلْإِعْجَازِ " خَرَجَ بِهِ الْمُنَزَّلُ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْإِعْجَازَ، وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": بِأَنَّ السُّنَّةَ مُنَزَّلَةٌ كَالْكِتَابِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] . وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا: " الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ " مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ. وَقُلْنَا بِآيَةٍ مِنْهُ وَلَمْ نَقُلْ بِسُورَةٍ كَمَا ذَكَره الْأُصُولِيُّونَ، لِأَنَّ أَقَصَرَ السُّوَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ، وَالتَّحَدِّي قَدْ وَقَعَ بِأَقَلَّ مِنْهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34] . وَصَرَّحَ أَصْحَابُنَا فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ فِيمَا لَوْ أَصَدَقَهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ فَلَقَّنَهَا بَعْضَ آيَةٍ، ثُمَّ نَسِيَتْ لَا يُحْسَبُ لَهُ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى قُرْآنًا، لِعَدَمِ الْإِعْجَازِ فِيهَا. كَذَا قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ. وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى الْجُنُبِ، لَكِنْ صَرَّحَ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِالْمَنْعِ. وَأَمَّا الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ فَحَكَى فِي " الشَّامِلِ ": وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْإِعْجَازَ إنَّمَا يَقَعُ بِثَلَاثِ آيَاتٍ وَذَلِكَ قَدْرُ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْآيَةَ تَامَّةٌ مِنْ جِنْسٍ لَهُ فِيهِ إعْجَازٌ، فَأَشْبَهَ الثَّلَاثَ. عَلَى أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْإِعْجَازَ مُمْكِنٌ بِالسُّورَةِ، فَإِنَّ الْبُلَغَاءَ مِنْ الْعَرَبِ قَدْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ، فِي " الْأَبْكَارِ ": الْتَزَمَ الْقَاضِي فِي أَحَدِ جَوَابَيْهِ الْإِعْجَازَ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ وَأَمْثَالِهَا تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] وَالْأَصَحُّ: مَا ارْتَضَاهُ فِي الْجَوَابِ الْآخَرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ التَّحَدِّيَ إنَّمَا وَقَعَ بِسُورَةٍ تَبْلُغُ فِي الطُّولِ مَبْلَغًا يَتَبَيَّنُ فِيهِ رُتَبُ ذَوِي الْبَلَاغَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ الْبَلِيغِ أَوْ مِمَّنْ هُوَ أَدْنَى فِي الْبَلَاغَةِ مِنْ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مَا يُمَاثِلُ بَعْضَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ الصَّادِرِ عَمَّنْ هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُ الْكَلَامِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ تَفَاوُتُ الْبُلَغَاءِ، بَلْ إنَّمَا ضَبَطَ بِالْمُتَعَارَفِ الْمَعْلُومِ بَيْنَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَالْبَلَاغَةِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: مَا ذَكَرْنَاهُ إنْ كَانَ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] غَيْرَ أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالدَّلِيلِ وَاجِبٌ، فَإِنْ حُمِلَ التَّحَدِّي عَلَى مَا لَا يَتَفَاوَتُ فِيهِ بَلَاغَةُ الْبُلَغَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ بِهِ التَّعْجِيزُ يَكُونُ مُمْتَنِعًا. انْتَهَى.

الإعجاز في قراءة كلام الله

[الْإِعْجَازُ فِي قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ] تَنْبِيهٌ [الْإِعْجَازُ فِي قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ] الْإِعْجَازُ يَقَعُ عِنْدَنَا فِي قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ لَا فِي نَفْسِ كَلَامِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَقَاوِيلِ أَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي " الْمُقْنِعِ ". وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْإِعْجَازَ دَلَالَةُ الصِّدْقِ وَدَلَالَةُ الصِّدْقِ لَا تَتَقَدَّمُ الصِّدْقَ، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِيٌّ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْصَرِفَ ذَلِكَ إلَى الْقِرَاءَةِ الْحَادِثَةِ، وَلِأَنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ فِي النَّظْمِ، وَالنَّظْمُ يَقَعُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] فَالْمُرَادُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَحَدَّى بِالسُّورَةِ، وَالسُّورَةُ تَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ لَا إلَى الْمَقْرُوءِ. قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى إثْبَاتِ نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاقْتَدَى بِبَعْضِ سَلَفِنَا فِي ذَلِكَ مِمَّنْ كَانَ يَتَعَاطَى التَّفْسِيرَ. وَالتَّحْقِيقُ: مَا ذَكَرْنَاهُ. مَسْأَلَةٌ [الْكَلَامُ] الْكَلَامُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَشْعَرِيَّةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ وَالْمَعْنَى النَّفْسِيِّ، لِأَنَّهُ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِمَا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعِبَارَاتِ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13] وَقِيلَ: حَقِيقَةٌ فِي النَّفْسِيِّ مَجَازٌ فِي اللِّسَانِيِّ، وَقِيلَ: عَكْسُهُ، وَالثَّلَاثَةُ مَحْكِيَّةٌ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، حَكَاهَا ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْهُ.

وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ نِسْبَةٌ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ قَائِمَةٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ، وَيَعْنُونَ بِالنِّسْبَةِ بَيْنَ الْمُفْرَدَيْنِ تَعَلُّقَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَإِضَافَتَهُ إلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الْإِسْنَادِ الْإِفَادِيِّ. أَيْ: بِحَيْثُ إذَا عَبَّرَ عَنْ تِلْكَ النِّسْبَةِ بِلَفْظٍ يُطَابِقُهَا وَيُؤَدِّي مَعْنَاهَا كَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ إسْنَادًا إفَادِيًّا. وَمَعْنَى قِيَامِ هَذِهِ النِّسْبَةِ بِالْمُتَكَلِّمِ: أَنَّ الشَّخْصَ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: اسْقِنِي مَاءً، فَقَبْلَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ قَامَ بِنَفْسِهِ تَصَوُّرُ حَقِيقَةِ السَّقْيِ وَحَقِيقَةِ الْمَاءِ وَالنِّسْبَةِ الطَّلَبِيَّةِ بَيْنَهُمَا فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَالْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ، وَصِيغَةُ قَوْلِهِ: اسْقِنِي مَاءً عِبَارَةٌ عَنْهُ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: مَعْنَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ فِي نَفْسِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ عَنْ كَوْنِ الْوَاحِدِ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ وَعَنْ حَدَثِ الْعَالَمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ وَلُغَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْمُخْتَلِفُ هُوَ الْكَلَامُ اللِّسَانِيُّ، وَغَيْرُ الْمُخْتَلِفِ هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْعِلْمُ الْخَاصُّ سَمْعًا، لِأَنَّ إدْرَاكَ الْحَوَاسِّ إنَّمَا هُوَ عُلُومٌ خَاصَّةٌ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ [عِلْمٍ] ، فَكُلُّ إحْسَاسٍ عِلْمٌ وَلَيْسَ كُلُّ عِلْمٍ إحْسَاسًا. فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الْعِلْمُ الْخَاصُّ فِي نَفْسِ مُوسَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى سُمِّيَ بِاسْمِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ السَّمَاعُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ عَقَائِدِهِ: مَنْ أَحَالَ سَمَاعَ مُوسَى كَلَامًا لَيْسَ بِصَوْتٍ وَلَا حَرْفٍ فَلْيُحِلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُؤْيَةَ ذَاتٍ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ.

إنزال القرآن بلغة العرب

[إنْزَالُ الْقُرْآنِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ] مَسْأَلَةٌ [إنْزَالُ الْقُرْآنِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ] وَأَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلُغَةِ الْعَرَبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وَأَوْرَدَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ سُؤَالًا حَسَنًا، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَبْعُوثًا إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا بِلِسَانِهِمْ. أَمَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَلِمَ صَارَ مَبْعُوثًا بِلِسَانِ بَعْضِهِمْ؟ أَجَابَ: بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَبْعُوثًا بِلِسَانِ جَمِيعِهِمْ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْعُرْفِ وَالْمَعْهُودِ مِنْ الْكَلَامِ، وَيَبْعُدُ بَلْ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ مُكَرَّرَةً بِكُلِّ الْأَلْسِنَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ أَحَقَّ مِنْ كُلِّ لِسَانٍ، لِأَنَّهُ أَوْسَعُ وَأَفْصَحُ، وَلِأَنَّهُ لِسَانُ أَوْلَى بِالْمُخَاطَبِينَ. قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ: وَنَزَلَ بِلُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ إلَّا قَلِيلًا، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةِ التَّمِيمِيِّينَ فَمِنْ الْقَلِيلِ إدْغَامٌ {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 4] فِي سُورَةِ الْحَشْرِ {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: 54] فِي قِرَاءَةِ غَيْرِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ فَإِنَّ الْإِدْغَامَ فِي الْمَجْزُومِ وَالْأَمْرَ الْمُضَاعَفَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْفَكُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَكَذَلِكَ نَحْوُ

{مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: 54] {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ} [البقرة: 282] وَ {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَ {يُمْدِدْكُمْ} [آل عمران: 125] وَ {وَمَنْ يُشَاقِقِ} [الأنفال: 13] وَ {مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} [التوبة: 63] وَ {واسْتَفْزِزْ} [الإسراء: 64] ، {فَلْيَمْدُدْ - وَاحْلُلْ} [طه: 75 - 27] وَ {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31] {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ} [طه: 81] قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى نَصْبِ {إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] لِأَنَّ لُغَةَ الْحِجَازِيِّينَ الْتِزَامُ النَّصْبِ فِي الْمُنْقَطِعِ، وَإِنْ كَانَ بَنُو تَمِيمٍ يُتْبِعُونَ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى نَصْبِ {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ، وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65] أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ جَاءَ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ نَازَعَهُ فِي ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ [الْإِعْجَازُ فِي النَّظْمِ وَالْإِعْرَابِ] وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُعْجِزٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِهِ هَلْ كَانَ لِكَوْنِهِ مُعْجِزًا أَوْ لِمَنْعِ اللَّهِ إيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالصَّرْفِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:

وَالثَّانِي: قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: الْإِعْجَازُ لِخُرُوجِهِ عَنْ سَائِرِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ فَزَادَهُمْ أُسْلُوبًا لَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي لُغَتِهِمْ، لِأَنَّهَا مَحْصُورَةٌ فِي الرَّجَزِ، وَالشِّعْرِ، وَالرِّسَالَةِ، وَالْخَطِّ، وَمَنْظُومِ الْكَلَامِ وَمَنْثُورِهِ، وَالْقُرْآنُ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ، فَجَرَى مَجْرَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى فِي زَمَنِ عِيسَى، لِأَنَّ فِي وَقْتِهِ كَانَ الْأَطِبَّاءُ يَدَّعُونَ تَصْحِيحَ الْمَرْضَى، وَلَمْ يَكُنْ دَعْوَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى فَزَادَ عَلَيْهِمْ إحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَكَذَلِكَ عَصَا مُوسَى. وَقِيلَ: الْإِعْجَازُ فِي بَلَاغَتِهِ وَجَزَالَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ الْمُجَاوِزَةِ لِحُدُودِ جَزَالَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْأَسَالِيبِ ": وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي جَزَالَتِهِ مَعَ أُسْلُوبِهِ الْخَارِجِ عَنْ أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْجَزَالَةُ وَالْأُسْلُوبُ مَعًا مُتَعَلِّقَانِ بِالْأَلْفَاظِ، وَالْمَعْنَى فِي حُكْمِ الشَّائِعِ لِلَّفْظِ، وَاللَّفْظُ هُوَ الْمَتْبُوعُ، وَمِنْ ثَمَّ لَا تَقُومُ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ مَقَامَهُ فِي إقَامَةِ فَرْضِ الصَّلَاةِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَاخْتَارَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " نَحْوَهُ. وَحُكِيَ عَنْ الْجَاحِظِ أَنَّ الْإِعْجَازَ مَنْعُ الْخَلْقِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُ الصِّرْفَةِ الْمَعْزُوِّ إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ. فَإِنَّ قَوْلَ الصَّارِفَةِ مَعْنَاهُ: أَنَّ قُوَاهُمْ كَانَتْ مَجْبُولَةً عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ سَلَبَهُمْ اللَّهُ تِلْكَ الْقُوَّةَ، فَصَارُوا عَاجِزِينَ، وَالْإِعْجَازُ حَاصِلٌ بِهَذَا حُصُولَ ابْتِدَاءٍ، لِأَنَّ سَلْبَ الْإِنْسَانِ قُدْرَتَهُ أَعْجَزُ لَهُ وَأَبْلَغُ مِنْ تَحَدِّيهِ بِمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْإِعْجَازُ فِيهِ غَرَابَةُ النَّظْمِ مَعَ الْإِخْبَارِ عَنْ الْغَيْبِ وَإِتْيَانِهِ بِقَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. مَسْأَلَةٌ وَهَلْ الْإِعْجَازُ فِي النَّظْمِ وَحْدَهُ دُونَ الْإِعْرَابِ أَوْ فِي النَّظْمِ وَالْإِعْرَابِ

مَعًا؟ خِلَافٌ. حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي فِي " التَّتِمَّةِ " وَالرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَفَرَّعَا عَلَيْهِ مَا لَوْ لَحَنَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُغَيِّرْ الْمَعْنَى، كَمَا لَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَنَصَبَ الْهَاءَ، هَلْ تُجْزِئُهُ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: الْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عَنْ النَّظْمِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى. مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهَا بَلْ يَجِبُ قِرَاءَتُهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْإِعْجَازُ لِتَقْصِيرِ التَّرْجَمَةِ عَنْهُ، وَلِتَقْصِيرِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْسُنِ عَنْ الْبَيَانِ الَّذِي خُصَّ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْأَلْسِنَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَدًّى بِنَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ، وَإِذَا لَمْ تَجُزْ قِرَاءَتُهُ بِالتَّفْسِيرِ الْعَرَبِيِّ الْمُتَحَدَّى بِنَظْمِهِ فَأَحْرَى أَنْ لَا تَجُوزَ بِالتَّرْجَمَةِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ. وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ ": عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ. قِيلَ لَهُ: فَإِذَنْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ. قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ مُرَادِ اللَّهِ وَيَعْجَزُ عَنْ الْبَعْضِ أَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ. وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بَيْنَ التَّرْجَمَةِ وَالتَّفْسِيرِ، فَقَالَ: يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْأَلْسُنِ بَعْضِهَا بِبَعْضِهِ، لِأَنَّ التَّفْسِيرَ: عِبَارَةٌ عَمَّا قَامَ فِي النَّفْسِ مِنْ الْمَعْنَى لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ. وَالتَّرْجَمَةُ: هِيَ بَدَلُ اللَّفْظَةِ بِلَفْظَةٍ تَقُومُ مَقَامَهَا فِي مَفْهُومِ الْمَعْنَى لِلسَّامِعِ الْمُعْتَبِرِ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ، فَكَأَنَّ التَّرْجَمَةَ إحَالَةُ فَهْمِ السَّامِعِ عَلَى الِاعْتِبَارِ،

وَالتَّفْسِيرُ تَعْرِيفُ السَّامِعِ بِمَا فَهِمَ الْمُتَرْجِمُ، وَهَذَا فَرْقٌ حَسَنٌ، وَمَا أَحَالَهُ الْقَفَّالُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ فَارِسٍ عَنْ كِتَابِ " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ " أَيْضًا. فَقَالَ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ الْمُتَرْجِمِينَ عَلَى أَنْ يَنْقُلَ الْقُرْآنَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَلْسِنَةِ كَمَا نُقِلَ الْإِنْجِيلُ عَنْ السُّرْيَانِيَّةِ إلَى الْحَبَشِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ، وَتُرْجِمَتْ التَّوْرَاةُ، وَالزَّبُورُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ الْعَجَمَ لَمْ تَتَّسِعْ فِي الْمَجَازِ اتِّسَاعَ الْعَرَبِ. أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ أَرَدْت أَنْ تَنْقُلَ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَأْتِيَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُؤَدِّيَةً عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي أُودِعَتْ فِيهِ حَتَّى تَبْسُطَ مَجْمُوعَهَا، وَتَفُكَّ مَنْظُومَهَا، وَتُظْهِرَ مَسْتُورَهَا فَتَقُولُ: إنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ قَوْمٍ هُدْنَةٌ وَعَهْدٌ فَخِفْتَ مِنْهُمْ خِيَانَةً وَنَقْضًا، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ قَدْ نَقَضْتَ مَا شَرَطْتَهُ لَهُمْ، وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ لِتَكُونَ أَنْتَ وَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِالنَّقْضِ عَلَى اسْتِوَاءٍ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11] اهـ. وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْخِلَافَ الْمَحْكِيَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ قِرَاءَتِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ لِعَدَمِ إمْكَانِ تَصَوُّرِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ. حَكَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ ". وَاَلَّذِينَ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى الرُّجُوعِ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالُوا: أَرَادَ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ عَنْ الْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ اُمْتُنِعَ، وَحُكِمَ بِزَنْدَقَةِ فَاعِلِهِ. وَجَعَلَ الْقَفَّالُ فِيمَا حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي " الْأَسْرَارِ " مَأْخَذَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَرَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَغَارِبَةِ أَنَّ الْمَنْعَ مَخْصُوصٌ بِالتِّلَاوَةِ، فَأَمَّا مَا تَرْجَمَتُهُ

الألفاظ غير العربية في القرآن

بِالْفَارِسِيَّةِ: فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى بَيَانِ الْحُكْمِ الْمُحْكَمِ مِنْهُ وَالْقَرِيبِ الْمَعْنَى بِمِقْدَارِ الضَّرُورَةِ إلَيْهَا مِنْ التَّوْحِيدِ وَأَرْكَانِ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ وَيُؤْمَرُ مَنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ بِتَعَلُّمِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتُبْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى قَيْصَرَ إلَّا بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مَحْكَمَةٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّبَرِّي مِنْ الْإِشْرَاكِ، لِأَنَّ النَّقْلَ مِنْ لِسَانٍ إلَى لِسَانٍ قَدْ تَقْصُرُ التَّرْجَمَةُ عَنْهُ لَا سِيَّمَا مِنْ الْعَرَبِيِّ إلَى الْعَجَمِيِّ. فَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْمُتَرْجَمِ عَنْهُ وَاحِدًا عُدِمَ أَوْ قَلَّ وُقُوعُ التَّقْصِيرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْمَعَانِي إذَا كَثُرَتْ لَا سِيَّمَا إذَا اشْتَرَكَتْ الْأَلْفَاظُ وَتَقَارَبَتْ، أَوْ تَوَاصَلَتْ الْمَعَانِي أَوْ تَقَارَبَتْ. وَإِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِضَرُورَةِ التَّبْلِيغِ، أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُقَرَّرًا فِي كُتُبِهِمْ وَإِنْ خَالَفُوهُ: وَإِفْرَادُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِكَلَامِي هَذَا لَا تَجِدُهُ فِي كِتَابٍ فَاشْكُرْ اللَّهَ عَلَى هَذَا الْمُسْتَطَابِ. [الْأَلْفَاظُ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ] مَسْأَلَةٌ [الْأَلْفَاظُ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ] لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كَلَامٌ مُرَكَّبٌ عَلَى غَيْرِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ فِيهِ أَسْمَاءَ أَعْلَامٍ لِمَنْ لِسَانُهُ غَيْرُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ كَإِسْرَائِيلَ، وَجَبْرَائِيلَ، وَنُوحٍ، وَلُوطٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ غَيْرُ أَعْلَامٍ مُفْرَدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَلَامِ الْعَرَبِ؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَادَّعَى أَنَّ مَا وُجِدَ فِيهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ مِمَّا اتَّفَقَ فِيهِ اللُّغَاتُ. وَبَحَثَ الْقَاضِي عَنْ أُصُولِ أَوْزَانِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَرَدَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إلَيْهَا

مسألة المحكم والمتشابه

عَلَى الطَّرِيقَةِ النَّحْوِيَّةِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى وُجُودِهَا فِيهِ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي ذَيْلِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. مَسْأَلَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْمَجَازُ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ. وَسَيَأْتِي أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ] ُ] فِي الْقُرْآنِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] وَقَدْ يُوصَفُ جَمِيعُ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ فِي الدَّلَالَةِ وَالْإِعْجَازِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] ، وَقَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ أُحْكِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ فِيهِ تَفَاوُتٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] وَالْمُحْكَمُ إمَّا بِمَعْنَى الْمُتْقَنِ كَقَوْلِهِ: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِمَّا فِي مُقَابَلَةِ الْمُتَشَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] . وَاخْتَلَفَ فِيهِ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ مُنْتَشِرَةٍ.

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَا خَلَصَ لَفْظُهُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَلَمْ يَشْتَبِهْ بِغَيْرِهِ، وَعَكْسُهُ الْمُتَشَابِهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا اتَّصَلَتْ حُرُوفُهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا انْفَصَلَتْ، كَالْحُرُوفِ الْمُتَقَطِّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ قَدْ تَتَّصِلُ وَلَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا، وَتَتَرَدَّدُ بَيْنَ احْتِمَالَاتٍ وَتُعَدُّ مُتَشَابِهَةً. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا تَوَعَّدَ بِهِ الْفُسَّاقُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا أَخْفَى عِقَابَهُ، وَقَدْ حَرَّمَهُ كَالْكِذْبَةِ وَالنَّظْرَةِ. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ وَاصِلَ بْنَ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى عَنْهُ أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ الْوَعِيدُ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالْمُتَشَابِهَ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَنَسَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ أَيْضًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَا احْتَجَّ بِهِ عَلَى الْكُفَّارِ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْأَصَمِّ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِي الْأَحْكَامِ، وَالْمُتَشَابِهُ: الْقَصَصُ وَسِيَرُ الْأَوَّلِينَ، لِأَنَّ الْمُحْكَمَ مَا اُسْتُفِيدَ الْحُكْمُ مِنْهُ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا لَا يُفِيدُ حُكْمًا. حَكَاهُ الْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ " قَالَ: وَاللُّغَةُ لَا تَشْهَدُ لِذَلِكَ السَّادِسُ: أَنَّهُ نَعْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّوْرَاةِ وَالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْمُتَشَابِهُ نَعْتُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَنُسِبَ لِلْأَصَمِّ. السَّابِعُ: أَنَّهُ النَّاسِخُ، وَالْمُتَشَابِهُ: الْمَنْسُوخُ. وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَنْسُوخَ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ حُكْمٌ، وَلَفْظُ النَّسْخِ فِيهِ إجْمَالٌ، فَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا قَوْله تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52] وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ. الثَّامِنُ: الْمُتَشَابِهُ: آيَاتُ الْقِيَامَةِ، وَالْبَاقِي مُحْكَمٌ قَالَهُ الزَّجَّاجُ إذَا لَمْ يَنْكَشِفْ الْغِطَاءُ عَنْهَا بِدَلِيلٍ قَوْله تَعَالَى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] وَكَانُوا لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا أَمْرَ السَّاعَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187] التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا عَسُرَ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَآيَةِ الِاسْتِوَاءِ. قَالَ فِي الْمَنْخُولِ: وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنْ التَّأْوِيلِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ أَوْجُهًا، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَجَرَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُحْكَمُ مَا كَانَتْ مَعَانِي أَحْكَامِهِ مَعْقُولَةً بِخِلَافِ الْمُتَشَابِهِ، كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ، وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِرَمَضَانَ دُونَ شَعْبَانَ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيَانٍ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالَ: وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ، فَتَارَةً يُبَيَّنُ بِكَذَا وَتَارَةً بِكَذَا، لِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ فِي تَأْوِيلِهِ. قَالَ: وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] لِأَنَّ الْقُرْءَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَقَوْلُهُ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. قُلْت: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ بِظَاهِرِهِ أَوْ بِدَلَالَةٍ

تَكْشِفُ عَنْهُ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا لَا يُعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عَلَى طَرِيقَةِ السُّنَّةِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَالْوَقْفُ التَّامُّ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " فَقَالَ: هُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَرُبَّ كَلَامٍ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ. قَالَ: وَالسَّدِيدُ أَنْ يُقَالَ: الْمُحْكَمُ: السَّدِيدُ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ الَّذِي يُفْضِي إلَى إثَارَةِ الْمَعَانِي، الْمُسْتَقِيمُ مِنْ غَيْرِ مُنَافٍ. وَالْمُتَشَابِهُ: هُوَ الَّذِي لَا يُحِيطُ الْعِلْمَ بِالْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ إلَّا أَنْ تَقْتَرِنَ أَمَارَةٌ أَوْ قَرِينَةٌ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْمُشْتَرَكُ كَالْقُرْءِ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ الْوَاضِحُ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ إشْكَالٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِحْكَامِ، وَهُوَ الْإِتْقَانُ، وَالْمُتَشَابِهُ نَقِيضُهُ، فَيَدْخُلُ فِي الْمُحْكَمِ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ، وَفِي الْمُتَشَابِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ كَالْقُرْءِ وَاللَّمْسِ وَمَا يُوهِمُ التَّشْبِيهَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحُرُوفُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، إذْ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً بِاصْطِلَاحٍ سَابِقٍ، فَتُوهِمُ الْإِشْكَالَ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا تَوْقِيفٌ فَيُتَّبَعُ، بَلْ نَقُولُ فِيهَا: كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَقْصُودُ هَذَا الْبَحْثِ: أَنَّ مُحْكَمَ الْقُرْآنِ يُعْمَلُ بِهِ وَالْمُتَشَابِهُ يُؤْمَنُ بِهِ وَيُوقَفُ فِي تَأْوِيلِهِ إنْ لَمْ يُعِبْهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: اخْتَلَفُوا فِي إدْرَاكِ عِلْمِ الْمُتَشَابِهِ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ كَالْحَارِثِ وَالْقَلَانِسِيِّ: إنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا

اللَّهُ، وَوَقَفُوا عَلَى قَوْلِهِ {إلَّا اللَّهُ} وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ الرَّاسِخِينَ مَنْ يَعْلَمُ الْمُتَشَابِهَ، وَوَقَفُوا عَلَى قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] قَالَ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَنَا، لِأَنَّهُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى النَّحْوِيِّ، وَبِهِ نَقُولُ. قَالَ: وَتَدْخُلُ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ. وَأَقْوَالُ الْمُتَأَوِّلِينَ لَهَا مُتَعَارِضَةٌ لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ اهـ. وَحَكَى الْخِلَافَ أَيْضًا أُسْتَاذُهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، إذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا وَعُرِفَ بَيَانُهُ وَلَيْسَ فِي السُّنَّةِ مَا يُشَاكِلُهُ. وَمَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ حَكَاهُ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ " عَنْ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالنَّحْوِيِّينَ وَأَيَّدَهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " إنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ". وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: انْتَهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلَى أَنْ قَالُوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. قَالَ الْبَغَوِيّ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. اهـ، وَقَطَعَ بِهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ كِبَارِ أَئِمَّتِنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " الْمُسْكِتِ "، فَقَالَ: دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا غَيَّبَهُ اللَّهُ عَنْ خَلْقِهِ لِيُلْزِمَهُمْ النَّقْصَ فِي أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مِنْ الْأَمْرِ إلَّا مَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] انْتَهَى.

وَرَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ اسْتَأْثَرَهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، بَلْ وَقَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْرَدَ هَذَا مَدْحًا لِلْعُلَمَاءِ فَلَوْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ لَشَارَكُوا الْعَامَّةَ وَبَطَلَ مَدْحُهُمْ وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] قَالَ: فَأَخْبَرَ أَنَّ الْكِتَابَ كُلَّهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ وَبُيِّنَتْ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَبَيْنَهُمَا مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّاسِ يَعْلَمُهَا وَهُمْ الرَّاسِخُونَ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَالظَّاهِرُ الْوَقْفُ عَلَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِمَا لَا يُفْهَمُ بَعِيدٌ. قُلْت: وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي شَيَّدَ لَهُ فِي كِتَابِ " الْبُرْهَانِ " عَنْ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ وَالنُّحَاةِ، وَاخْتَارَهُ. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهَذَا عَكْسُ حِكَايَةِ الْأُسْتَاذِ وَالْبَغَوِيِّ لَكِنْ حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ قَالَ: وَاخْتَارَهُ الْعَيْنِيُّ قَالَ: وَقَدْ كَانَ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ السُّنَّةِ لَكِنَّهُ سَهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: وَلَا غَرْوَ فَلِكُلِّ جَوَادٍ كَبْوَةٌ، وَلِكُلِّ عَالِمٍ هَفْوَةٌ. قَالَ: وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلَا أَعْلَمُ تَحَقُّقَهُ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي كَلَامِهِ عَلَى مَعَانِي الْحُرُوفِ: الْوَقْفُ التَّامُّ عَلَى قَوْلِهِ: " إلَّا اللَّهُ " ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالرَّاسِخِينَ، وَتَوَسَّطَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فَقَالَ فِي آخِرِ كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الْقَوْلَانِ مُحْتَمِلَانِ وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُتَشَابِهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ الْإِيمَانَ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ:

وَقَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى قَوْلِهِ: " إلَّا اللَّهُ "، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ غَرَضِ الْأُصُولِيِّ، وَغَرَضُنَا أَنَّ التَّشَابُهَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِلتَّكْلِيفِ مُحَالٌ، وَيُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ رَسْمُ الْمَسْأَلَةِ فِي آيَةِ الِاسْتِوَاءِ قَالَ مَالِكٌ: لَمَّا سُئِلَ عَنْهُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11] وَقَدْ تَحَزَّبَ النَّاسُ فِيهِ، فَضَلَّ قَوْمٌ أَجْرَوْهُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَفَازَ مَنْ قَطَعَ بِنَفْيِ الِاسْتِقْرَارِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ فِي مُجْمَلِهِ وَرَآهُ فَلَا يُعَابُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَتَكْلِيفُ تَعْلِيمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِقْرَارِ لَا نَرَاهُ وَاجِبًا عَلَى الْآحَادِ بَلْ يَجِبُ عَلَى شَخْصٍ فِي كُلِّ إقْلِيمٍ أَنْ يَقُومَ لِيَدْفَعَ الْبِدَعَ إذَا ثَارَتْ. انْتَهَى. وَقِيلَ: الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَبِهَذَا يَصِحُّ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا وَلَا يَتَنَافَيَانِ، وَهُوَ الَّذِي يُعَضِّدُهُ الدَّلِيلُ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ خَاضُوا فِي التَّأْوِيلِ. وَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ عَلَى {إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ بَلْ لَمْ يَذْهَبْ إلَى الْوَقْفِ عَلَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] إلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.

الثَّانِي: أَنَّ " أَمَّا " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِتَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ فِي سِيَاقِهِ قِسْمَانِ: إمَّا لَفْظًا، وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَإِمَّا تَقْدِيرًا، وَسَبَبُهُ إمَّا الِاسْتِغْنَاءُ بِذِكْرِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَنْ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67] وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَ الْآخَرَ لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ، وَإِمَّا بِكَلَامٍ يُذْكَرُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ ذَلِكَ كَهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] فَهَذَا تَمَامُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ فِي سِيَاقِ " أَمَّا " فَاقْتَضَى وَضْعُ اللُّغَةِ ذِكْرَ قِسْمٍ آخَرَ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَكِلُونَ مَعْنَاهُ إلَى رَبِّهِمْ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] أَيْ مِنْ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِمَا وَاجِبٌ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَيَقُولُونَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا} [البقرة: 26] . الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: " وَالرَّاسِخُونَ " وَإِنْ احْتَمَلَتْ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ عَاطِفَةٍ غَيْرَ أَنَّهَا هَاهُنَا اسْتِئْنَافِيَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْعَطْفَ، لَقَالَ: " وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ " عَطْفًا لَيَقُولُونَ عَلَى يَعْلَمُونَ الْمُضْمَرِ، إذْ التَّقْدِيرُ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْمَلُونَ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ " يَقُولُونَ " جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مَعَ إضْمَارِ فِعْلِهَا الْعَامِلِ فِيهَا، فَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ " عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا " بِمَعْنَى أَقْبَلَ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَالرَّاسِخُونَ قَائِلُونَ بِتَقْدِيرِ يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ.

الثَّانِي: مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ " عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ آمَنَّا بِهِ " فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُبَيِّنَةُ إجْمَالِ الْوَاوِ فِي الْآيَةِ، وَأَنَّهَا اسْتِئْنَافِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ، ثُمَّ إنْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعَهَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِيَ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلْآيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ مُرَجَّحٌ، لِأَنَّهَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. الثَّالِثُ: فِي تَرْجِيحِ كَوْنِهَا اسْتِئْنَافِيَّةً أَنَّ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ تَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا، وَالْحَالُ فَضْلَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ رُكْنِ الْجُمْلَةِ، وَكَوْنُ الْجُمْلَةِ رُكْنًا أَقْوَى مِنْ كَوْنِهَا فَضْلَةً، وَإِذَا دَارَ أَمْرُ اللَّفْظَةِ بَيْنَ أَقْوَى الْحَالَيْنِ وَأَضْعَفِهِمَا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَقْوَى أَوْلَى. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَمِّ مُبْتَغِي الْمُتَشَابِهِ، إذْ وُصِفُوا بِزَيْغِ الْقُلُوبِ وَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ صَرَّحَتْ السُّنَّةُ بِذَمِّهِمْ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا: «إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» . الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] يَدُلُّ عَلَى تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ لِمَا لَمْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْمُرَادِ بِهِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ أَهْلَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّسْلِيمِ لِمُرَادِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي فَهْمَهُمْ الْمُرَادَ بِهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ بِأَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَقْتَضِي عِلْمَهُمْ بِتَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، نَعَمْ مِنْ الْمُتَشَابِهِ مَا يَعْلَمُ الرَّاسِخُونَ مِنْهُ، وَمِنْهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَالرُّوحِ وَوَقْتِ السَّاعَةِ.

مسألة ورود المهمل في القرآن

وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَمَعْرَفَتِهِ وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْوُقُوفِ عَلَى كُنْهِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِغَيْرِهِ، كَمَا حَكَى عَنْ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ، وَقَدْ قِيلَ: حَقِيقَةُ الْمَرْءِ لَيْسَ الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا ... فَكَيْفَ كَيْفِيَّةُ الْجَبَّارِ فِي الْقِدَمِ ثُمَّ قِيلَ: النِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الرَّاسِخَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ، أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً، وَمَنْ قَالَ لَا يَعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى اللَّهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي إنْزَالِ الْمُتَشَابِهِ ابْتِلَاءُ الْعُقَلَاءِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَقْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {إلَّا اللَّهُ} وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ مَذْهَبٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {إلَّا اللَّهُ} وَقَوْلُهُ: {وَالرَّاسِخُونَ} مُبْتَدَأٌ وَلَكِنْ لَا نَقُولُ: لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ بَلْ يَعْلَمُونَهُ بِرَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ، وَبِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ، وَعَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَيَتَّفِقُ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ بِالْعِلْمِ الْقَدِيمِ لَا بِتَذَكُّرٍ وَلَا تَفَكُّرٍ وَلَا دَلِيلٍ، وَالرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَهُ بِالتَّذَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ. [مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْمُهْمَلِ فِي الْقُرْآنِ] لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ لَهُ مَعْنًى أَصْلًا، لِأَنَّهُ مُهْمَلٌ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، أَوْ لَهُ مَعْنًى وَلَكِنْ لَا يُفْهَمُ، أَوْ يُفْهَمُ لَكِنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرَهُ خِلَافًا، وَلِهَذَا أَوَّلُوا آيَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى مُقْتَضَى مَا فَهِمُوهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا يُقَالُ: إنَّ فَائِدَتَهُ فِي مُخَاطَبَةِ الْخَلْقِ بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ،

لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَقْصُودُ بِهِ تَفْهِيمُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَقَدْ فَهِمُوهُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَنْ يُخَاطِبُ الْعُقَلَاءَ بِكَلَامٍ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِمَا يَفْهَمُ الصِّبْيَانُ وَالْعَوَامُّ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعَارِفِينَ بَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْهَمْ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْفَهْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . وَأَمَّا الْحُرُوفُ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا، فَقِيلَ: إنَّمَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ. وَقِيلَ: ذَكَرَهَا اللَّهُ لِجَمْعِ دَوَاعِي الْعَرَبِ إلَى الِاسْتِمَاعِ، لِأَنَّهَا تُخَالِفُ عَادَتَهُمْ فَتُوقِظُهُمْ عَنْ الْغَفْلَةِ حَتَّى تَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ إلَى الْإِصْغَاءِ، فَلَمْ يَذْكُرْهَا لِإِرَادَةِ مَعْنًى. وَقِيلَ: إنَّمَا ذَكَرَهَا كِنَايَةً عَنْ سَائِرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي لَا يَخْرُجْ عَنْهَا جَمِيعُ كَلَامِ الْعَرَبِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ يُخَاطِبُهُمْ إلَّا بِلُغَاتِهِمْ وَحُرُوفِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا مَأْخُوذٌ مِنْهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، فَالْكَافُ مِنْ كَافٍ، وَالْهَاءُ، مِنْ هَادٍ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ، وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ: أَنَا كَافِيك وَهَادِيك. وَقِيلَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْأَحْرُفَ إبْطَالًا لِحِسَابِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْسِبُونَ هَذِهِ الْأَحْرُفَ حَالَةَ نُزُولِهَا وَيَرُدُّونَهَا إلَى حِسَابِ الْجُمَّلِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ مُنْتَهَى دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ كَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَحْرُفَ تَخْبِيطًا لِلْحِسَابِ عَلَيْهِمْ.

وَقِيلَ: ذَكَرَهَا اللَّهُ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذِكْرِ النَّسِيبِ فِي أَوَائِلِ الْخُطَبِ وَالْقَصَائِدِ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّتْ بِالْأَوَائِلِ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّازِيَّ تَرْجَمَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَحْصُولِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِشَيْءٍ، وَلَا يَعْنِي بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي التَّكَلُّمِ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ شَيْئًا، وَهُوَ يُفِيدُ فِي نَفْسِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفِيدَ وَلَا يَعْنِي بِهِ شَيْئًا، فَمَحَلُّ النِّزَاعِ غَيْرُ مُنَقَّحٍ، لِأَنَّ فِي كَلَامِ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " نَصْبَ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِشَيْءٍ وَلَا يَعْنِي بِهِ شَيْئًا؟ وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَالْحَقُّ أَرْجُو أَنَّ الْكَلَامَ بِمَا لَا يَعْنِي بِهِ مُفَرَّعٌ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، ثُمَّ قَالَ: وَحِينَئِذٍ فَيَسْهُلُ الْمَنْعُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ أَمَّا عَلَى رَأْيِ الْأَشَاعِرَةِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُمْ الْمَنْعُ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعَقْلِيَّيْنِ؟ قُلْت: لَا جَرَمَ جَزَمَ ابْنُ بَرْهَانٍ بِالْجَوَازِ، فَقَالَ: يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَشْتَمِلَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ. ثُمَّ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ تَمَسَّكَ بِأَسْمَاءِ السُّوَرِ. قَالَ: وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نَفْهَمُ مَعَانِيَهَا، وَقَدْ تُعُبِّدْنَا بِهَا، وَخَرَجَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ أَمْ لَا؟ وَهَذَا خِلَافُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَعْنِي بِهِ شَيْئًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مَسْأَلَتَيْنِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَيَرْتَفِعُ التَّخْلِيطُ مِنْ كَلَامِهِمْ.

مسألة لا زائد في القرآن

وَفَصَّلَ ابْنُ بَرْهَانٍ فَقَالَ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَنَا وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ، وَبَيَّنَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْمَلَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ؟ وَسَلَكَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي تَصْوِيرِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكَلَامَ اللِّسَانِيَّ أَوْ النَّفْسَانِيَّ، فَإِنْ كَانَ النَّفْسَانِيَّ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ اللِّسَانِيَّ فَجَوَازُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ، وَيَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْدِي بِهِ وَيُضِلُّ بِهِ، وَأَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يُضِلُّ بِهِ وَلَا يَهْدِي بِهِ. [مَسْأَلَةٌ لَا زَائِدَ فِي الْقُرْآنِ] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فِيهِ زَائِدٌ إلَّا بِتَأْوِيلٍ، بَلْ يَقُولُ: إنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَبَثُ، فَلَيْسَ فِيهَا لَفْظٌ زَائِدٌ لَا لِفَائِدَةٍ، وَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ: " مَا " زَائِدَةٌ وَ " الْبَاءُ " زَائِدَةٌ وَنَحْوَهَا، فَمُرَادُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَخْتَلُّ مَعْنَاهُ بِحَذْفِهَا أَيْ: لَا تَتَوَقَّفُ دَلَالَتُهُ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ عَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ الزَّائِدِ لَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ وَاضِعِ اللُّغَةِ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ. وَجَمِيعُ مَا قِيلَ فِيهِ زَائِدٌ، فَفَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْكَلَامِ تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ غَفْلَةٍ، وَإِنَّمَا صَدَرَ عَنْ قَصْدٍ وَتَأَمُّلٍ، وَذَلِكَ مِنْ فَوَائِدِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى جَوَازِ إطْلَاقِ الزَّائِدِ فِي الْقُرْآنِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْقَوْمِ وَبِمُتَعَارَفِهِمْ، وَهُوَ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِإِزَاءِ الْحَذْفِ هَذَا لِلِاخْتِصَارِ وَالتَّخْفِيفِ، وَذَلِكَ لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّوْطِئَةِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ فِي

مسألة دلالة الكلام على خلاف ظاهره

التَّنْزِيلِ مَحْذُوفَاتٍ جَاءَتْ لِلِاخْتِصَارِ لِمَعَانٍ رَائِقَةٍ، فَكَذَلِكَ تَقُولُ فِي الزِّيَادَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى الزِّيَادَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ، وَيَقُولُ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَحْمِلُونَهَا عَلَى الزِّيَادَةِ جَاءَتْ لِفَوَائِدَ وَمَعَانٍ تَخُصُّهَا، فَلَا أَقْضِي عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ. وَمِمَّنْ كَانَ يَرَى هَذَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دُرُسْتَوَيْهِ، وَكَانَ عَالِيًا فِي هَذَا الْبَابِ مُغَالِيًا فِي عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ، وَكَانَ يُزَاحِمُ الزَّجَّاجَ فِيهِ بِمَنْكِبِهِ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ نَاظَرَهُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ: وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْقَائِلُ بِالزِّيَادَةِ إثْبَاتَ مَعْنًى لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، لِأَنَّهُ عَبَثٌ فَتَعَيَّنَ أَنَّ إلَيْنَا بِهِ حَاجَةً لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْأَشْيَاءِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقْصِدِ فَلَيْسَتْ الْحَاجَةُ إلَى اللَّفْظِ الَّذِي عَدَّ هَؤُلَاءِ زِيَادَةً كَالْحَاجَةِ إلَى اللَّفْظِ الَّذِي رَأَوْهَا مَزِيدَةً عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ مِنَّا وَمِنْهُمْ إنْ اخْتَلَّ اخْتَلَفَتْ بِهِ الْفَائِدَةُ فَلَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ دُونَهُ كَلَامًا وَاَلَّذِي سَمَّوْهُ زَائِدًا إنْ اخْتَلَّ بِهِ كَانَتْ الْفَائِدَةُ دُونَهُ، وَالْجُمْلَةُ مُقْتَصَرًا بِهَا عَلَى مَا يُمَيِّزُهُ أَكْثَرِيَّةُ فَائِدَةٍ وَأَقْرَبُ، وَعَلَى هَذَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ. [مَسْأَلَةٌ دَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ] لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ مُطْلَقًا، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ خِلَافًا لِلْمُرْجِئَةِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَهُوَ

كَالْمُهْمَلِ، وَالْخِطَابُ بِالْمُهْمَلِ بَاطِلٌ. وَفَرَّعَهَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلَى قَاعِدَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَالْخِلَافُ فِي آيَاتِ الْوَعِيدِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى وَعِيدِ الْفُسَّاقِ لَا غَيْرُ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ. أَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا وَإِنَّمَا قُلْنَا: مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ إطْلَاقِ الظَّاهِرِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ جَوَازِ وُرُودِ الْعُمُومِ وَتَأَخُّرِ الْخُصُوصِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": وَكَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: كُلُّ مَا وَرَدَ فِي خِطَابِ مَنْ يَلْزَمُ الْمَصِيرَ إلَيْهِ فَلَهُ وَجْهٌ فِي اللُّغَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ مَا وَرَدَ مِنْهُ فَهُوَ مِنْهُ مَجْمُوعُهُ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ جُمْلَةٌ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ يَقْتَضِي ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى تَأْوِيلٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ فِيهِ فَقَدْ أَخْطَأَ الْحَقَّ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَرَدَ عَلَى وَجْهٍ مُحْتَاجٍ فِيهِ إلَى تَأْوِيلٍ لَهُ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ لَا يَصِحُّ الْكَلَامُ بِمِثْلِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَرِدَ مِنْ كَلَامِهِ مَا لَا يُسْتَعْمَلُ ظَاهِرُهُ، وَيُحْمَلُ عَلَى خِلَافِهِ بِدَلِيلٍ يُبَيِّنُ مَقْصُودَهُ إذَا جَازَ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ مِثْلُهُ، وَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَقَالَ: مَا كَانَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَجْمُوعَ الْخِطَابِ فِي مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَيَحْكُمُونَ بِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ:

بقاء المجمل في القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] هُوَ مِنْ عَرَفَ الْأَدِلَّةَ وَالْوُجُوهَ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا الْخِطَابُ عَرَفَ مَا أُرِيدَ بِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي خِلَافَهُ. [بَقَاءُ الْمُجْمَلِ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] مَسْأَلَةٌ [بَقَاءُ الْمُجْمَلِ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] هَلْ بَقِيَ فِي الْقُرْآنِ مُجْمَلٌ لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ مَنَعَهُ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ الدِّينَ. وَقَالَ آخَرُونَ بِإِمْكَانِهِ، وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فَجَوَّزَاهُ فِيمَا لَا يُكَلَّفُ فِيهِ، وَمَنَعَاهُ فِيمَا فِيهِ تَكْلِيفٌ خَوْفًا مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. [مَسْأَلَةٌ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ] وَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إلَى نَصٍّ وَظَاهِرٍ: أَمَّا النَّصُّ: فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الظُّهُورُ وَالِارْتِفَاعُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: نَصَصْت بِمَعْنَى أَظْهَرْت، وَمِنْهُ نَصَّتْ الصَّبِيَّةُ جِيدَهَا إذَا أَظْهَرَتْهُ، وَقَوْلُهُمْ لِلْمَنَارَةِ مِنَصَّةً، وَمِنْهَا الْمِنَصَّةُ الَّتِي تَجْلِسُ عَلَيْهَا الْعَرُوسُ، وَفِي الْحَدِيثِ «كَانَ إذَا وَجَدَ فُرْجَةً نَصَّ» أَيْ دَفَعَ السَّيْرَ وَأَسْرَعَ.

وَيُطْلَقُ بِاصْطِلَاحَاتٍ: أَحَدُهَا: مُجَرَّدُ لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيُقَالُ: الدَّلِيلُ إمَّا نَصٌّ أَوْ مَعْقُولٌ وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْجَدَلِيِّينَ. يَقُولُونَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُتَمَسَّكُ فِيهَا بِالنَّصِّ، وَهَذِهِ بِالْمَعْنَى وَالْقِيَاسِ. الثَّانِي: مَا يُذْكَرُ فِي بَابِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْإِيمَاءِ. الثَّالِثُ: نَصُّ الشَّافِعِيِّ فَيُقَالُ: لِأَلْفَاظِهِ نُصُوصٌ بِاصْطِلَاحِ أَصْحَابِهِ قَاطِبَةً. الرَّابِعُ: حِكَايَةُ اللَّفْظِ عَلَى صُورَتِهِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا نَصُّ كَلَامِ فُلَانٍ. الْخَامِسُ: يُقَابِلُ الظَّاهِرَ وَهُوَ مَقْصُودُنَا، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ النَّصَّ كُلُّ خِطَابٍ عُلِمَ مَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ، قَالَ: وَهَذَا يُلَائِمُ وَضْعَ الِاشْتِقَاقِ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْمُرَادَ بِهِ وَكَشَفَ عَنْهُ، ثُمَّ عَلَى هَذَا يَنْقَسِمُ النَّصُّ إلَى مَا يَحْتَمِلُ وَإِلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: لَعَلَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا سَمَّى الظَّاهِرَ نَصًّا، لِأَنَّهُ لَمَحَ فِيهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَشَارَ الشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلَى أَنَّ النَّصَّ يُسَمَّى ظَاهِرًا، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، لِأَنَّ النَّصَّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الظُّهُورُ، وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ، يُطْلَقُ النَّصُّ عَلَى مَا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالٌ وَسَوَاءٌ عَضَّدَهُ بِالدَّلِيلِ أَمْ لَا، وَهَذَا

الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَقَدْ يَكُونُ نَصًّا بِوَضْعِ اللُّغَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَرِينَةِ، وَقِيلَ: مَا اسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، وَأَشَارَ بِالْبَاطِنِ إلَى الْمَفْهُومِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِلَّفْظِ ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي حَدِّ النَّصِّ: إنَّهُ خِطَابٌ يُعْلَمُ مَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، أَوْ عُلِمَ الْمُرَادُ بِهِ بِغَيْرِهِ، وَلَا يُسَمَّى الْمُجْمَلُ نَصًّا، وَبِهَذِهِ حَدَّهُ الْكَرْخِيّ. وَذَكَرَ عَبْدُ الْجَبَّارِ أَنَّ النَّصَّ هُوَ خِطَابٌ يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ الْمُرَادُ بِهِ. وَشُرُوطُهُ ثَلَاثَةٌ: أَنْ يَتَكَوَّنَ لَفْظًا، وَأَنْ لَا يَتَنَاوَلَ إلَّا مَا هُوَ نَصٌّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ نَصًّا فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ مَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ نَصًّا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ مَا سِوَاهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ إفَادَتُهُ لِمَا يُفِيدُهُ ظَاهِرُهُ غَيْرَ مُحْتَمَلٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: النَّصُّ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ: اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ، كَقَوْلِك: أَعْطِ زَيْدًا أَوْ خُذْ مِنْ عَمْرٍو، وَافْعَلْ أَنْتَ وَنَحْوَهُ، وَمِنْهُ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بُرْدَةَ: وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» . وَأَصْلُهُ الظُّهُورُ. قَالَ: وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا قَالَ: لَا لَفْظَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إلَّا وَأَصْلُهُ التَّخْصِيصُ، وَذَهَبَ هَذَا الْقَائِلُ إلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا نُصُوصٌ، عُمُومًا كَانَ أَوْ ظَاهِرًا، وَزَعَمَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَبِي بُرْدَةَ: " يُجْزِئُكَ " جَوَازُ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ فِي مَعْنَاهُ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَنْفِي الْأَوَّلَ، لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي غَيْرِ النَّصِّ. اهـ.

[بُعْدُ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ النَّصِّ] وَمُقَابِلُ هَذَا فِي الْبُعْدِ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ النَّصِّ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ اللَّبَّانِ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَعِزُّ وُجُودُ النَّصِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 64] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] قَالَ: وَالصَّحِيحُ: خِلَافُهُ. قَالَ فِي الْمَنْخُولِ ": قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: لَا يُوجَدُ النَّصُّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا فِي أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اُغْدُ يَا أُنَيْسٌ إلَى امْرَأَةِ هَذَا» وَقَوْلُهُ: «وَلَا يَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» . قَالَ: وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا، ثُمَّ قَسَّمَ النَّصَّ إلَى مَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ وَإِلَى مَا لَا يَقْبَلُهُ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ النَّصَّ مَا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَأْوِيلٌ. وَتَسْمِيَةُ الظَّاهِرِ نَصًّا صَحِيحٌ لُغَةً وَشَرْعًا، لِأَنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. قَالَ: وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: الظَّاهِرُ هُوَ الْمَجَازُ وَالنَّصُّ هُوَ الْحَقِيقَةُ. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ: النَّصُّ مَا عُرِّيَ لَفْظُهُ عَنْ الشَّرِكَةِ، وَخَلَصَ مَعْنَاهُ مِنْ الشُّبْهَةِ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ،

وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، وَقِيلَ: التَّطَوُّعُ عَلَى الْمُرَادِ. وَقِيلَ: مَا اسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ قَالَ: وَإِنَّمَا تَصِحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُجْمَلَ وَالْعُمُومَ لَيْسَ بِنَصٍّ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ فِي حَدِّ النَّصِّ عِنْدَنَا: أَنَّهُ الدَّالُّ عَلَى الْحُكْمِ بِاسْمِ الْمَحْكُومِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ مُحْتَمِلًا لِلتَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ أَوْ غَيْرَ مُحْتَمِلٍ، قَالَ: وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ "، وَكَذَلِكَ حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَكُونُ الْعُمُومُ نَصًّا، وَكَذَلِكَ الْمُجْمَلُ فِي الْإِيجَابِ، وَإِنْ كَانَ مُجْمَلًا فِي صِفَةِ الْوَاجِبِ أَوْ مِقْدَارِهِ أَوْ وَقْتِهِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ التَّحْصِيلِ ": اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَسْمِيَةِ الْعُمُومِ وَالظَّوَاهِرِ الْمُحْتَمَلَةِ نُصُوصًا، فَقِيلَ: إنَّهُ مُخْتَصٌّ بِاَلَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» . وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّ الْعُمُومَ وَالظَّوَاهِرَ كُلَّهَا نُصُوصٌ. [الْفَرْقُ بَيْنَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ] وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّصَّ مَا كَانَ لَفْظُهُ دَلِيلَهُ، وَالظَّاهِرُ: مَا سَبَقَ مُرَادُهُ إلَى فَهْمِ سَامِعِهِ. وَالثَّانِي: النَّصُّ مَا لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَيْهِ احْتِمَالٌ، وَالظَّاهِرُ مَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ احْتِمَالٌ. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّصِّ، فَقِيلَ: مَا لَا

يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَأْوِيلٌ، وَقِيلَ: مَا اسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، وَنُوقِضَ بِالْفَحْوَى، فَإِنَّهَا تَقَعُ نَصًّا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ مُصَرَّحًا بِهِ لَفْظًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُ، ثُمَّ صَارَ الصَّائِرُونَ إلَى عِزَّةِ النُّصُوصِ فِي الْكِتَابِ حَتَّى لَا يُوجَدَ إلَّا قَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] وَفِي السُّنَّةِ «لَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» وَ «اُغْدُ يَا أُنَيْسٌ إلَى امْرَأَةِ هَذَا» وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، بَلْ كُلُّ مَا أَفَادَ مَعْنًى عَلَى قَطْعٍ مَعَ انْحِسَامِ التَّأْوِيلِ فَهُوَ نَصٌّ. وَالشَّافِعِيُّ قَدْ يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا فِي مَجَارِي كَلَامِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ، لِأَنَّ النَّصَّ مِنْ الظُّهُورِ وَلَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ: وَيُلْتَحَقُ بِالنَّصِّ مَا حُذِفَ مِنْ الْكَلَامِ لِدَلَالَةِ الْبَاقِي عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَلَكِنْ لَا يُشَكُّ فِي مَعْنَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَأَفْطَرَ. وَأَمَّا الظَّاهِرُ، فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ لَفْظَةٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى لَهَا حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا كَانَتْ ظَاهِرًا، وَإِنْ عَدَلَتْ إلَى جِهَةِ الْمَجَازِ كَانَتْ مُؤَوَّلَةً. وَهَذَا صَحِيحٌ فِي بَعْضِ الظَّوَاهِرِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: الظَّاهِرُ لَفْظٌ مَعْقُولٌ يَبْتَدِرُ إلَى فَهْمِ الْبَصِيرِ

مسألة القراءات السبع

لِجِهَةٍ يَفْهَمُ الْفَاهِمُ مِنْهُ مَعْنًى، وَلَهُ عِنْدَهُ وَجْهٌ فِي التَّأْوِيلِ مُسَوَّغٌ لَا يَبْتَدِرُهُ الْفَهْمُ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذَا أَمْثَلُ. قَالَ: وَمِنْ الظَّوَاهِرِ مُطْلَقُ صِيَغِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ الْوُجُوبُ، وَمِنْهُ صِيَغُ الْعُمُومِ وَفَحْوَى الْخِطَابِ لَا يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ وَالتَّأْوِيلُ، لِأَنَّهُ نَصٌّ. قَالَ: وَالظُّهُورُ قَدْ يَقَعُ فِي الْأَسْمَاءِ وَفِي الْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ مِثْلُ " إلَى "، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي التَّحْدِيدِ وَالْغَايَةِ، مُؤَوَّلٌ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْجَمْعِ. [مَسْأَلَةٌ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ] الْقِرَاءَاتُ عَنْ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ "، خِلَافًا لِصَاحِبِ الْبَدِيعِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنَّهَا مَشْهُورَةٌ. وَقَالَ السُّرُوجِيُّ فِي بَابِ الصَّوْمِ مِنْ الْغَايَةِ ": الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَجَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهَا آحَادٌ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ: الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ قِرَاءَةِ

حَمْزَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَسْرِ وَالْإِدْغَامِ وَزِيَادَةِ الْمَدِّ، وَنُقِلَ عَنْهُ كَرَاهَةُ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيّ، لِأَنَّهَا كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ فِي الْإِمَالَةِ وَالْإِدْغَامِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ مَا عَدَا الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ السَّبْعِ ثَبَتَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوَاتُرِ فَكَيْفَ تُكْرَهُ؟ . اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: التَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، وَأَمَّا تَوَاتُرُهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ إسْنَادَ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ لِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَهِيَ نَقْلُ الْوَاحِدِ عَنْ الْوَاحِدِ، فَلَمْ تَسْتَكْمِلْ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّ الْأُمَّةَ تَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ، وَاخْتَارُوهَا لِمُصْحَفِ الْجَمَاعَةِ، وَقَطَعُوا بِأَنَّهَا قُرْآنٌ، وَأَنَّ مَا عَدَاهَا مَمْنُوعٌ مِنْ إطْلَاقِهِ، وَالْقِرَاءَةُ بِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ ". وَبِهَذَا الطَّرِيقِ حَكَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّ أَحَادِيثَ الصَّحِيحَيْنِ مَقْطُوعٌ بِهَا وَإِنْ رُوِيَتْ بِالْآحَادِ، لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهَا بِالْقَبُولِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، أَيْ: أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أَفَادَ الْقَطْعَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ بِالْوَاحِدِ، فَمَا ظَنُّك فِيمَا وُجِدَ فِيهِ غَالِبُ شُرُوطِ التَّوَاتُرِ أَوْ كُلُّهَا؟ لَكِنَّ كَلَامَ ابْنِ الصَّلَاحِ هَذَا قَدْ رَدَّهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِ الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ ": كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْهَا مُتَوَاتِرٌ، أَمَّا الْمَجْمُوعُ مِنْهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيِّنَةِ عَلَى تَوَاتُرِهِ. قَالَ: وَقَدْ شَاعَ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُقْرِئِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ. قَالُوا: وَالْقَطْعُ بِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاجِبٌ.

قَالَ: وَنَحْنُ نَقُولُ بِهَذَا، وَلَكِنْ فِيمَا اجْتَمَعَتْ عَلَى نَقْلِهِ عَنْهُمْ الطُّرُقُ، وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْفِرَقُ مَعَ أَنَّهُ شَائِعٌ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَإِنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ الْمُرَادُ بِهَا: مَا رُوِيَ عَنْ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَذَلِكَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُمْ يَنْقَسِمُ إلَى مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ عَنْهُمْ لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهِ الطُّرُقُ، وَإِلَى مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَقِيَتْ نِسْبَتُهُ إلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، فَالْمُصَنِّفُونَ لِكُتُبِ الْقِرَاءَاتِ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَمَنْ تَصَفَّحَ كُتُبَهُمْ أَحَاطَ بِذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ تُعْزَى إلَى إمَامٍ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ حَتَّى يَثْبُتَ ذَلِكَ وَيُوَافِقَ لُغَةَ الْعَرَبِ. قَالَ: وَأَمَّا مَنْ يُهَوِّلُ فِي عِبَارَتِهِ قَائِلًا: بِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ مُتَوَاتِرَةٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَخَطَؤُهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْأَحْرُفَ الْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّا لَسْنَا مِمَّنْ يَلْتَزِمُ التَّوَاتُرَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْقُرَّاءِ، بَلْ الْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا تَنْقَسِمُ إلَى مُتَوَاتِرٍ وَغَيْرِهِ، وَغَايَةُ مَا يُبْدِيهِ مُدَّعِي تَوَاتُرِ الْمَشْهُورِ مِنْهَا كَإِدْغَامِ أَبِي عَمْرٍو، وَنَقْلِ الْحَرَكَةِ لِوَرْشٍ، وَوَصْلِ مِيمَيْ الْجَمْعِ وَهَاءِ الْكِنَايَةِ لِابْنِ كَثِيرٍ، أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ ذَلِكَ الْإِمَامِ الَّذِي نُسِبَتْ تِلْكَ الْقِرَاءَاتُ إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي اسْتِقْرَاءِ الطُّرُقِ وَالْوَاسِطَةِ إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ التَّوَاتُرُ مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ ذَلِكَ. وَهَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ، فَإِنَّهَا مِنْ ثَمَّ لَمْ تُنْقَلْ إلَّا آحَادًا إلَّا الْيَسِيرَ مِنْهَا، بَلْ الضَّابِطُ: أَنَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ اُشْتُهِرَتْ بَعْدَ صِحَّةِ إسْنَادِهَا وَمُوَافَقَتِهَا خَطَّ الْمُصْحَفِ، وَلَمْ يُنْكَرْ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمُعْتَمَدَةُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ شَاذٌّ وَضَعِيفٌ. اهـ.

وَكَذَا كَلَامُ غَيْرِهِ مِنْ الْقُرَّاءِ يُوهِمُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً كُلُّهَا وَأَنَّ أَعْلَاهَا مَا اجْتَمَعَ فِيهِ صِحَّةُ السَّنَدِ وَمُوَافَقَةُ خَطِّ الْمُصْحَفِ وَالْإِمَامِ، وَالْفَصِيحُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ يَكْفِي فِيهَا الِاسْتِفَاضَةُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ، وَالشُّبَهُ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ انْحِصَارِ أَسَانِيدِهَا فِي رِجَالٍ مَعْرُوفِينَ، فَظَنُّوهَا كَأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَقَدْ أَوْضَحَ الْإِمَامُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ. فَقَالَ: انْحِصَارُ الْأَسَانِيدِ فِي طَائِفَةٍ لَا يَمْنَعُ مَجِيءَ الْقِرَاءَاتِ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَقَدْ كَانَ يَتَلَقَّاهُ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ بِقِرَاءَةِ إمَامِهِمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ عَنْ مِثْلِهِمْ، وَكَذَلِكَ دَائِمًا، فَالتَّوَاتُرُ حَاصِلٌ لَهُمْ، وَلَكِنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ قَصَدُوا ضَبْطَ الْحُرُوفِ، وَحَفِظُوا عَنْ شُيُوخِهِمْ مِنْهَا جَاءَ السَّنَدُ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَهَذَا كَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ هِيَ آحَادٌ، وَلَمْ تَزَلْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ مَنْقُولَةً عَمَّنْ يَحْصُلُ بِهِمْ التَّوَاتُرُ عَنْ مِثْلِهِمْ فِي عَصْرٍ، فَهَذِهِ كَذَلِكَ، وَهَذَا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَأَنْ لَا يُغْتَرَّ بِقَوْلِ الْقُرَّاءِ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَوَاصِمِ ": وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَيْفِيَّةُ الْقِرَاءَةِ الْيَوْمَ أَنْ يُقْرَأَ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: مَا صَحَّ نَقْلُهُ، وَصَحَّ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَفْظُهُ، وَوَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ، وَذَكَرَ خِلَافًا كَثِيرًا فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَإِنَّمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَنَّ جَمِيعَ السَّبْعِ لَمْ يَكُنْ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنَّمَا كَانَ بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، وَالْمُخْتَارُ: أَنْ يَقْرَأَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خَطِّ الْمُصْحَفِ فَكُلُّ مَا صَحَّ فِي النَّقْلِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْهُ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى مَا سِوَاهُ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ لِنَفْسِي إذَا قَرَأْت بِمَا نُسِبَتْ لقالون أَنْ لَا أَهْمِزَ وَلَا أَكْسِرَ مُنَوَّنًا وَلَا غَيْرَ مَنُونٍ، فَإِنَّ

الْخُرُوجَ مِنْ كَسْرَةٍ إلَى يَاءٍ مَضْمُومَةٍ لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَمَا كُنْت لِأَمُدَّ مَدَّ حَمْزَةَ، وَلَا أَقِفَ عَلَى السَّاكِنِ، وَلَا أَقْرَأَ بِالْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ، وَلَوْ رَوَاهُ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَلَا أَمُدَّ مِيمَ ابْنِ كَثِيرٍ وَلَا أَضُمَّ هَاءَ عَلَيْهِمْ وَإِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا عِنْدِي لُغَاتٌ لَا قِرَاءَاتٌ، لِعَدَمِ ثُبُوتِهَا، وَإِذَا تَأَمَّلْتهَا رَأَيْتهَا اخْتِيَارَاتٍ مَبْنِيَّةً عَلَى مَعَانٍ وَلُغَاتٍ. قَالَ: وَأَقْوَى الْقِرَاءَاتِ سَنَدًا قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَابْنِ عَامِرٍ، وَقِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ ثَابِتَةٌ لَا كَلَامَ فِيهَا. قَالَ: وَطَلَبْت أَسَانِيدَ الْبَاقِينَ فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا مَشْهُورًا، وَرَأَيْت بِنَاءَ أَمْرِهَا عَلَى اللُّغَاتِ، وَأَطْلَقَ الْجُمْهُورُ تَوَاتُرَ السَّبْعِ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ مَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ، كَالْمَدِّ، وَاللِّينِ، وَالْإِمَالَةِ، وَتَخْفِيفِ الْهَمْزِ يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَوَاتِرَةٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمَدَّ وَالْإِمَالَةَ لَا شَكَّ فِي تَوَاتُرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْهَا وَهُوَ الْمَدُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَدٌّ، وَالْإِمَالَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ إمَالَةٌ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَتْ الْقُرَّاءُ فِي تَقْدِيرِ الْمَدِّ فِي اخْتِيَارَاتِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ طَوِيلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ قَصِيرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي الْقِصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَزَايَدَ كَحَمْزَةَ وَوَرْشٍ بِمِقْدَارِ سِتِّ أَلِفَاتٍ، وَقِيلَ خَمْسٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعٍ، وَعَنْ عَاصِمٍ: ثَلَاثٍ، وَعَنْ الْكِسَائِيُّ: أَلِفَيْنِ وَنِصْفٍ، وقالون: أَلِفَيْنِ، وَالسُّوسِيِّ: أَلِفٍ وَنِصْفٍ. وَقَالَ الدَّانِيُّ فِي التَّيْسِيرِ " أَطْوَلُهُمْ مَدًّا فِي الضَّرْبَيْنِ جَمِيعًا يَعْنِي الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْفَصِلَ وَرْشٌ وَحَمْزَةُ، وَدُونَهُمَا عَاصِمٌ، وَدُونَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ، وَدُونَهُمَا أَبُو عَمْرٍو مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: وقالون مِنْ طَرِيقِ

أَبِي نَشِيطٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى التَّقْرِيبِ مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مِقْدَارِ مَذَاهِبِهِمْ مِنْ التَّحْقِيقِ وَالْحَذْفِ. اهـ. فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ أَصْلَ الْمَدِّ مُتَوَاتِرٌ، وَالِاخْتِلَافُ وَالطُّرُقُ إنَّمَا هُوَ فِي كَيْفِيَّةِ التَّلَفُّظِ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الشَّاطِبِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَقْرَأُ بِمَدَّيْنِ طُولِيٍّ لِوَرْشٍ وَحَمْزَةَ، وَوَسَطِيٍّ لِمَنْ بَقِيَ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَرِهَ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ طُولِ الْمَدِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ: لَا تُعْجِبُنِي، وَلَوْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً لَمَا كَرِهَهَا. إلَّا أَنْ يُقَالَ. إنَّمَا كَرِهَ كَيْفِيَّتَهَا لَا أَصْلَهَا. وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَصْلِ الْإِمَالَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَتِهَا مُبَالَغَةً وَقِصَرًا، فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ: مَحْضَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَنْحَى بِالْأَلِفِ إلَى الْيَاءِ، وَبِالْفَتْحَةِ إلَى الْكِسْرَةِ، وَبَيْنَ بَيْنَ، وَهِيَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْأَلِفَ وَالْفَتْحَةَ أَقْرَبُ وَهِيَ أَصْعَبُ الْإِمَالَيْنِ، وَهِيَ الْمُخْتَارَةُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَكَذَلِكَ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ أَصْلُهُ مُتَوَاتِرٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَيْفِيَّتِهِ. وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الْمُخْتَلَفَةُ فِيهَا بَيْنَ الْقُرَّاءِ فَهِيَ أَلْفَاظُ قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُرَادُ تَنَوُّعُ الْقُرَّاءِ فِي أَدَائِهَا، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْمُبَالَغَةَ فِي تَشْدِيدِ الْحَرْفِ الْمُشَدَّدِ، فَكَأَنَّهُ زَادَ حَرْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْحَالَةَ الْوُسْطَى، فَهَذَا هُوَ الَّذِي ادَّعَى أَبُو شَامَةَ عَدَمَ تَوَاتُرِهِ، وَنُوزِعَ فِيهِ، فَإِنَّ اخْتِلَافَهُمْ لَيْسَ إلَّا فِي الِاخْتِيَارِ، وَلَا يَمْنَعُ قَوْمٌ قَوْمًا. مَسْأَلَةٌ [يَجُوزُ إثْبَاتُ قِرَاءَةٍ حُكْمًا لَا عِلْمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ] قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ ": قَالَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ

مسألة ليست القراءات اختيارية

وَالْمُتَكَلِّمِينَ: يَجُوزُ إثْبَاتُ قِرَاءَاتٍ وَقِرَاءَةٍ حُكْمًا لَا عِلْمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَامْتَنَعُوا مِنْهُ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: إنَّهُ يَسُوغُ إعْمَالُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي إثْبَاتِ قِرَاءَةٍ وَأَوْجُهٍ وَأَحْرُفٍ إذَا كَانَ صَوَابًا فِي اللُّغَةِ، وَمِمَّا سَوَّغَ التَّكَلُّمَ بِهَا وَلَمْ يُقْحَمْ حُجَّةً بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَرَأَ بِهَا بِخِلَافِ مُوجَبِ رَأْيِ الْقَائِسِينَ وَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَبَى ذَلِكَ أَهْلُ الْحَقِّ وَمَنَعُوهُ وَخَطَّئُوا مَنْ قَالَ بِذَلِكَ وَصَارَ إلَيْهِ. اهـ. [مَسْأَلَةٌ لَيْسَتْ الْقِرَاءَاتُ اخْتِيَارِيَّةً] وَلَيْسَتْ الْقِرَاءَاتُ اخْتِيَارِيَّةً، وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ " فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] وَبَنُو تَمِيمٍ يَرْفَعُونَهَا إلَّا مَنْ دَرَى كَيْفَ هِيَ فِي الْمُصْحَفِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ مَا رُوِيَ عَنْهُ. اهـ. خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ اخْتِيَارِيَّةٌ تَدُورُ مَعَ اخْتِيَارِ الْفُصَحَاءِ وَاجْتِهَادِ الْبُلَغَاءِ. وَرَدَّ عَلَى حَمْزَةَ قِرَاءَتَهُ {وَالْأَرْحَامِ} بِالْخَفْضِ، وَمِثْلُهُ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَيَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ أَنَّهُمْ خَطَّئُوا حَمْزَةَ فِي قِرَاءَتِهِ {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقَالُوا: إنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ،

مسألة البسملة في القرآن

وَأَنَّهُ كَانَ يَلْحَنُ فِي الْقِرَاءَاتِ، وَمَا يُرْوَى أَيْضًا أَنَّ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ أَرْسَلَ إلَى أَبِي الشَّعْثَاءِ بِوَاسِطَ لَا تَقْرَأْ فِي مَسْجِدِنَا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ. وَمَا حُكِيَ عَنْ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَحِلُّ الْقِرَاءَةُ بِهَا يَعْنِي قِرَاءَةَ {وَالْأَرْحَامِ} بِالْكَسْرِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ حَمْزَةَ إمَامٌ مُجْمَعٌ عَلَى جَلَالَتِهِ وَمَعْقُودٌ عَلَى صِحَّةِ رِوَايَتِهِ، وَلَقَدْ هَجَنَ الْمُبَرِّدُ فِيمَا قَالَ، إنْ صَحَّ عَنْهُ، فَقَدْ نَدَّ قُلْت: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مَتْبُوعَةٌ مُتَلَقَّاةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تَوْقِيفًا، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ إلَّا بِمَا سَمِعَهُ، وَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ، وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ مُتَوَاتِرَةٌ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِكَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَدْ جَاءَ فِي أَشْعَارِهِمْ وَنَوَادِرِهِمْ مِثْلُهَا كَثِيرًا، وَلِهَذَا اعْتَدَّ بِهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَاخْتَارَ جَوَازَ الْعَطْفِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إعْطَاءِ الْجَارِّ وِفَاقًا لِلْكُوفِيِّينَ. [مَسْأَلَةٌ الْبَسْمَلَةُ فِي الْقُرْآنِ] الْبَسْمَلَةُ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَفِيمَا عَدَاهَا مِنْ السُّوَرِ سِوَى بَرَاءَةٍ لِلشَّافِعِيِّ أَقْوَالٌ: أَصَحُّهَا: أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَمِنْ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ فِيهِ ثُبُوتُهَا فِي

سَوَادِ الْمُصْحَفِ وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ أَنْ لَا يُكْتَبَ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَأَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ. الثَّانِي: بَعْضُ آيَةٍ. وَالثَّالِثُ: لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعُزِيَ لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا آيَةٌ مُنْفَرِدَةٌ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ، وَهَذَا غَرِيبٌ لَمْ يَحْكِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ، لَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِمَّا حَكَاهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي الطَّارِقِيَّاتِ " عَنْ الرَّبِيعِ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: أَوَّلُ الْحَمْدِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَأَوَّلُ الْبَقَرَةِ أَلَمْ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَمَّا ثَبَتَتْ أَوَّلًا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَهِيَ فِي بَاقِي السُّوَرِ إعَادَةٌ لَهَا وَتَكْرَارٌ، فَلَا يَكُونُ مِنْ تِلْكَ السُّوَرِ ضَرُورَةً، وَلَا يُقَالُ: هِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، بَلْ هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ، وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَدِلَّةُ، فَإِنَّ إثْبَاتَهَا فِي الْمُصْحَفِ بَيْنَ السُّوَرِ مُنْتَهِضٌ فِي كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهَا آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ. وَحَكَى الْمُتَوَلِّي مِنْ أَصْحَابِنَا وَجْهًا: أَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَرْفُ الْأَخِيرُ مِنْ السُّورَةِ قَبْلَهُ يَاءٌ مَمْدُودَةٌ كَالْبَقَرَةِ، فَالْبَسْمَلَةُ آيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا كَ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] فَبَعْضُ آيَةٍ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ قُرْآنٌ عَلَى سَبِيل الْقَطْعِ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ أَمْ عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ، لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا؟ وَمَعْنَى سَبِيلِ الْحُكْمِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَلَا يَكُونُ قَارِئًا لِسُورَةٍ

بِكَمَالِهَا غَيْرَ الْفَاتِحَةِ إلَّا إذَا ابْتَدَأَهَا بِالْبَسْمَلَةِ سِوَى بَرَاءَةٍ، لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ فِيهَا. وَضَعَّفَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا قُرْآنٌ عَلَى الْقَطْعِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذِهِ غَبَاوَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَائِلِهِ، لِأَنَّ ادِّعَاءَ الْعِلْمِ حَيْثُ لَا قَاطِعَ مُحَالٌ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: هِيَ آيَةٌ حُكْمًا لَا قَطْعًا، فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِخِلَافِهِ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ، إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ نَافِيهَا، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ لَكَفَرَ. عَلَى أَنَّ ابْنَ الرِّفْعَةِ حَكَى وَجْهًا عَنْ صَاحِبِ الْفُرُوعِ " أَنَّهُ قَالَ بِتَكْفِيرِ جَاحِدِهَا، وَتَفْسِيقِ تَارِكِهَا. وَلَنَا مَسْلَكَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهَا مِنْهُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوهَا فِي الْمُصْحَفِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَثْبَتُوا بِهِ سَائِرَ الْقُرْآنِ، وَأَجْمَعُوا. عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ مَعَ شِدَّةِ اعْتِنَائِهِمْ بِتَجْرِيدِهِ عَمَّا لَيْسَ مِنْهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقُرْآنِ كَسَائِرِ الْآيِ الْمُكَرَّرَةِ، فِي الشُّعَرَاءِ، وَالرَّحْمَنِ، وَالْمُرْسَلَاتِ. وَأَمَّا الْخِلَافُ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَا يَهْتِكُ حُرْمَةَ الْقَطْعِ، فَكَمْ مِنْ حُكْمٍ يَقِينِيٍّ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ. أَمَّا فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَمَا مَبْنَاهُ الْيَقِينُ كَالْحِسِّيَّاتِ فَكَثِيرٌ، وَأَمَّا فِي الْفُرُوعِ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ فِيهَا وَاحِدٌ ذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ. وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ يَقْطَعُ بِخَطَأِ مُخَالِفِهِ. وَنُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَرُبَّمَا حَلَفَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ. وَالْحَقُّ: أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ إلَى يَقِينِيَّةٍ وَظَنِّيَّةٍ كَمَا سَبَقَ، لَكِنْ لَمَّا غَلَبَ عَلَى مَسَائِلِ الْخِلَافِ الظَّنُّ ظُنَّ أَنَّ جَمِيعَهَا كَذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا فَصْلُ التَّكْفِيرِ فَلَازِمٌ لَهُمْ حَيْثُ لَمْ يُكَفِّرُوا الْمُثْبِتِينَ كَمَا يُكَفَّرُ مَنْ زَادَ

مسألة في القراءة الشاذة

شَيْئًا مِنْ الْمُكَرَّرَاتِ، ثُمَّ الْجَوَابُ أَنَّ مَنَاطَ التَّكْفِيرِ غَيْرُ مُنَاطِ الْقَطْعِ، فَكَمْ مِنْ قَطْعِيٍّ لَا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالظَّنِّ كَمَا فَعَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ. ثُمَّ نَقُولُ: نَفْسُ الْآيَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِقَاطِعٍ، فَأَمَّا تَكْرَارُهَا فِي الْمُحَالِّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَاطِعِ. [مَسْأَلَةٌ فِي الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ] ِ] حَقِيقَةُ الشَّاذِّ لُغَةً: الْمُنْفَرِدُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَكْسُ الْمُتَوَاتِرِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ قِرَاءَةٌ سَاعَدَهَا خَطُّ الْمُصْحَفِ مَعَ صِحَّةِ النَّقْلِ فِيهَا وَمَجِيئُهَا عَلَى الْفَصِيحِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ: فَمَتَى اخْتَلَّ أَحَدُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُطْلِقَ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَةِ أَنَّهَا شَاذَّةٌ. قَالَ: وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَيْرَوَانِيُّ. ذَكَرَهُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ فِي كِتَابِ جَمَالِ الْقُرَّاءِ ".

ثُمَّ الْكَلَامُ فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرَادِ بِهَا وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهَا مَا وَرَاءَ السَّبْعِ، وَالصَّوَابُ: مَا وَرَاءَ الْعَشْرِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ أُخَرُ: يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ " الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَوَاصِمِ: ضَبْطُ الْأَمْرِ عَلَى سَبْعِ قِرَاءَاتٍ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ جَمَعَ قَوْمٌ ثَمَانِيَ قِرَاءَاتٍ، وَقَوْمٌ عَشْرًا، أَصْلُ ذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعِ أَحْرُفٍ» فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهَا سَبْعُ قِرَاءَاتٍ وَهَذَا بَاطِلٌ، وَتَيَمَّنَ آخَرُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَجَمَعُوا سَبْعَ قِرَاءَاتٍ. وَبَعْدَ أَنْ ضَبَطَ اللَّهُ الْحُرُوفَ وَالسُّوَرَ، فَلَا مُبَالَاةَ بِهَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ. وَسَبَقَ عَنْهُ أَنَّ قِرَاءَةَ أَبِي جَعْفَرٍ ثَابِتَةٌ لَا كَلَامَ فِيهَا. اهـ. الثَّانِي: بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ: وَلَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِشَيْءٍ مِنْ الشَّوَاذِّ لِخُرُوجِهَا عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ الْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ الْمُتَوَاتِرُ وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْعَرَبِيَّةِ وَخَطِّ الْمُصْحَفِ، لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، إنْ كَانَتْ نَقَلَتُهُ ثِقَاتٍ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَالشَّأْنُ فِي الضَّبْطِ مَا تَوَاتَرَ مِنْ ذَلِكَ وَمَا اُجْتُمِعَ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ الشَّاشِيُّ فِي الْمُسْتَظْهِرِيِّ " عَنْ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ لَا تَصِحُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ ": تَحْرُمُ. الثَّالِثُ: فِي الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ وَتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ. اعْلَمْ أَنَّ الْآمِدِيَّ نَسَبَ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ إلَى الشَّافِعِيِّ. وَكَذَا ادَّعَى

الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " أَنَّهُ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَكَذَلِكَ النَّوَوِيُّ، فَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ " مَذْهَبُنَا: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّ نَاقِلَهَا لَمْ يَنْقُلْهَا إلَّا عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ، وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ قُرْآنًا لَمْ يَثْبُتْ خَبَرًا، وَالْمُوقِعُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ دَعْوَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ ": أَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَتَبِعَهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي التَّلْوِيحِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " وَغَيْرُهُمْ، فَقَالَ إلْكِيَا: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ مَرْدُودَةٌ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ: وَأَمَّا إيجَابُ أَبِي حَنِيفَةَ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِأَجْلِ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَلَيْسَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ أَثْبَتَ نَظْمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ أَمْكَنَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، ثُمَّ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، فَانْدَرَسَ مَشْهُورٌ رَسْمُهُ فَنُقِلَ آحَادًا، وَالْحُكْمُ بَاقٍ، وَهَذَا لَا يُسْتَنْكَرُ فِي الْعُرْفِ. قَالَ: وَالشَّافِعِيُّ لَا يُرَدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ اشْتِرَاطُ التَّتَابُعِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: لَعَلَّ مَا زَادَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ تَفْسِيرًا مِنْهُ، وَمَذْهَبًا رَآهُ، فَلَا بُعْدَ فِي تَقْدِيرِهِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِإِسْنَادِهِ إلَى الْقُرْآنِ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ ضَمُّ الْقُرْآنِ إلَى غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ضَمُّ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ إلَى الْقُرْآنِ تِلَاوَةً. وَهَذَا قَدْ يَدُلُّ مِنْ وُجْهَةٍ عَلَى بُطْلَانِ نَقْلِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ نُبْعِدُ قِرَاءَةَ مَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ مَعَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ: وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى إبْطَالِ نِسْبَةِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ إلَى الْقُرْآنِ أَنَّ

الِاهْتِمَامَ بِالْقُرْآنِ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ فِي إحْيَاءِ مَعَالِمِ الدِّينِ يَمْنَعُ تَقْدِيرَ دُرُوسِهِ وَارْتِبَاطَ نَقْلِهِ بِالْآحَادِ. قُلْت: وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ إنَّمَا عَمِلُوا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِاسْتِفَاضَتِهَا وَشُهْرَتِهَا عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ، إنَّمَا نُقِلَتْ إلَيْنَا الْآنَ بِطَرِيقِ الْآحَادِ، لِأَنَّ النَّاسَ تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَاقْتَصَرُوا عَلَى غَيْرِهَا، وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي أُصُولِ الْقَوْمِ. اهـ. وَذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ فِي الْأَسْرَارِ " وَصَاحِبُ الْمَبْسُوطِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ اشْتِرَاطَ الشُّهْرَةِ فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ السَّلَفِ، وَلِهَذَا لَمْ يَعْمَلُوا بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ مُتَتَابِعَةٍ " لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَبِمِثْلِهَا لَا يَثْبُتُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ كَانَتْ مَشْهُورَةً فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى كَانَ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتْمًا عَلَى حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَخَتْمًا مِنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَالزِّيَادَةُ عِنْدَنَا تَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ. اهـ. تَنْبِيهَانِ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ إنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لِلشَّافِعِيِّ عَدَمُ إيجَابِهِ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَعَ عِلْمِهِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَقَدْ سَبَقَ مِنْ كَلَامِ إلْكِيَا إبْطَالُ اسْتِنْبَاطِهِ مِنْهُ، وَقَدْ نَصَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ " عَلَى أَنَّهَا حُجَّةٌ فِي بَابِ الرَّضَاعِ، وَفِي بَابِ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ، فَقَالَ: ذَكَرَ اللَّهُ الرَّضَاعَ بِلَا تَوْقِيتٍ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ التَّوْقِيتَ بِخَمْسٍ، وَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ مِمَّا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا فَأَقَلُّ حَالَاتِهِ أَنْ يَكُونَ عَنْ رَسُولِ

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَأْتِي بِهِ غَيْرُهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» ، فَحَكَمْنَا بِهِ عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ هُوَ قُرْآنًا يُقْرَأُ اهـ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا خَبَرًا لَا قُرْآنًا، وَجَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ فِي الصِّيَامِ وَالرَّضَاعِ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الصِّيَامِ وَوُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي الصِّيَامِ، وَالْمَحَامِلِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَاحْتَجُّوا فِي إيجَابِ قَطْعِ الْيَمِينِ مِنْ السَّارِقِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا ". وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ الْأَثَرِ عَنْ الصَّحَابَةِ، نَعَمْ الشَّرْطُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُخَالِفَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهَا مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجَّ بِقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ " مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَصَرِ ". قَالَ شَارِحُوهُ: إنَّمَا عَدَلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّهَا تَشِذُّ عَنْ الْجَمَاعَةِ، وَتُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ. قُلْت: أَوْ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ لَا اسْتِدْلَالَ بِهَا مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ خَيَّرَ أَوَّلًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ الْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ، ثُمَّ خَتَمَ الصِّيَامَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يُطِقْ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ شَرْطٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ التَّذْكِرَةِ فِي الْخِلَافِ ": الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إنَّمَا تَلْحَقُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا قَرَأَهَا قَارِئُهَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ، فَإِنْ ذَكَرَهَا عَلَى أَنَّهَا تَفْسِيرٌ فَلَا، كَقِرَاءَةِ ابْنِ عُمَرَ: " فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا " وَقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ". اهـ.

وَفِيمَا قَالَهُ فِي التَّفْسِيرِ نَظَرٌ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ": مَا رُوِيَ آحَادًا مِنْ آيِ الْقُرْآنِ كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ آيَةَ الرَّجْمِ وَخَبَرِ عَائِشَةَ فِي الرَّضَاعِ وَخَبَرِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ الذَّهَبِ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا» فَإِنَّهَا ثَابِتَةُ الْأَسَانِيدِ صَحِيحَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ. وَنَحْنُ نُثْبِتُ مَا قَالُوا عَلَى مَا قَالُوا غَيْرَ مُتَأَوِّلِينَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا إلَّا أَنْ لَا نَجِدَ وَجْهًا غَيْرَ التَّأْوِيلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْقُرْآنِ مَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ تِلَاوَةُ الْمَرْسُومِ، فَأَمَّا مَا بَقِيَ حُكْمُهُ فَلَا تَجِبُ تِلَاوَتُهُ. وَاَلَّذِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فِي الرَّسْمِ هُوَ الْوَاجِبُ تِلَاوَتُهُ، وَاَلَّذِي لَمْ يُرْسَمْ يُتْلَى وَيُنْقَلُ حُكْمُهُ إذْ كَانَ الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ يُوجِبُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إثْبَاتُ حُكْمِهِ وَتِلَاوَتُهُ وَالْقَطْعُ عَلَيْهِ بِمَا يُعْمَلُ بِهِ وَالتَّسْمِيَةُ بِمَا سَمَّاهُ النَّاقِلُ، وَلَيْسَ يَثْبُتُ الْمَتْلُوُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِذَا كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ قَدْ يَخُصُّ ظَاهِرَ الْمَتْلُوِّ وَيُثْبِتُهُ تَثْبِيتَ الْأَحْكَامِ كَانَ أَيْضًا كَذَلِكَ مَا أُثْبِتَ حُكْمُهُ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ أَنَّهُ قُرْآنٌ فِي الْحُكْمِ لَا فِي الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنْ أَضَافَهَا الْقَارِئُ إلَى التَّنْزِيلِ أَوْ إلَى سَمَاعٍ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أُجْرِيَتْ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِلَّا فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّأْوِيلِ. اهـ. وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى " فَقَالَ: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: ثَالِثُهَا: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تُسْنَدَ أَمْ لَا. اهـ.

وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " مَذْهَبٌ رَابِعٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ: الْقُرْآنُ الْمَنْقُولُ بِالْآحَادِ إمَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ الْإِعْجَازُ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ جَازَ أَنْ يُعْمَلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ عَمَلٍ إذَا نُقِلَ إلَيْنَا بِالْآحَادِ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " مُتَتَابِعَاتٍ " وَإِنْ ظَهَرَ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلنُّبُوَّةِ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُعَارَضْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَعَ سَمَاعِ أَهْلِ عَصْرِهِ لَهُ، وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا وَقَدْ تَوَاتَرَ نَقْلُ ظُهُورِهِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَأَطْلَقَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُوجِبُ عِلْمًا وَلَا عَمَلًا، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَجَعَلَ الْقُرْطُبِيُّ شَارِحُ مُسْلِمٍ " مَحَلَّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا إذَا لَمْ يُصَرِّحْ الرَّاوِي بِسَمَاعِهَا وَقَطَعَ بِعَدَمِ حُجِّيَّتِهَا. قَالَ: فَأَمَّا لَوْ صَرَّحَ الرَّاوِي بِسَمَاعِهَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَاخْتَلَفَتْ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْعَمَلِ بِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالْأَوْلَى الِاحْتِجَاجُ بِهَا تَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ. [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي أَنَّ هَاهُنَا سُؤَالًا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا حُجَّةٌ فَهَلَّا أَوْجَبَ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ اعْتِمَادًا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " مُتَتَابِعَاتٍ " وَهَلَّا قَالَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى: إنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ اعْتِمَادًا عَلَى قِرَاءَةِ عَائِشَةَ: " وَصَلَاةِ الْعَصْرِ "؟ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَكَيْفَ اعْتَمَدَ فِي التَّحْرِيمِ فِي الرَّضَاعِ بِخَمْسٍ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ؟ وَكَيْفَ قَالَ: إنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ؟ وَاعْتَمَدَ فِي الْأُمِّ " عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَرَأَ: " لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ " وَاَلَّذِي يَفْصِلُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنْ لَا يُطْلَقَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ، بَلْ يُقَالُ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ وَرَدَتْ لِبَيَانِ حُكْمٍ أَوْ لِابْتِدَائِهِ،

فَإِنْ وَرَدَتْ لِبَيَانِ حُكْمٍ، فَهِيَ عِنْدَهُ حُجَّةٌ، كَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الرَّضَاعِ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " أَيْمَانَهُمَا "، وَقَوْلُهُ: " لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ ". وَإِنْ وَرَدَتْ ابْتِدَاءَ حُكْمٍ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " مُتَتَابِعَاتٍ "، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَّا أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ مِمَّا أُنْزِلَ: " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ " فَسَقَطَتْ " مُتَتَابِعَاتٍ ". أَوْ يُقَالُ: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إمَّا أَنْ تَرِدَ تَفْسِيرًا أَوْ حُكْمًا، فَإِنْ وَرَدَتْ تَفْسِيرًا فَهِيَ حُجَّةٌ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَيْمَانَهُمَا وَقَوْلِهِ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ وَقِرَاءَةِ عَائِشَةَ: " وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ "، وَإِنْ وَرَدَتْ حُكْمًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُعَارِضَهَا دَلِيلٌ آخَرُ أَمْ لَا، فَإِنْ عَارَضَهَا فَالْعَمَلُ لِلدَّلِيلِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ: " فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ "، فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «إنْ شِئْت فَتَابِعْ أَوْ لَا» ، وَإِنْ لَمْ يُعَارِضْهَا دَلِيلٌ آخَرُ فَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَوُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، عَنْهُ أَنَّهُ يُنْزِلُهَا مَنْزِلَةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: إنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ النَّقَلَةِ لَا تُقْبَلُ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي كِتَابِ تَقْدِيمِ الْأَدِلَّةِ ": لَا تَثْبُتُ الْقِرَاءَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلِهَذَا قَالَتْ الْأَئِمَّةُ، فِيمَنْ قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ بِكَلِمَاتٍ تَفَرَّدَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ صَلَاتَهُ لَا تَجُوزُ كَمَا لَوْ قَرَأَ خَبَرًا مِنْ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " مُتَتَابِعَاتٍ " لِإِيجَابِ التَّتَابُعِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَأَخَذْنَا بِهَا عَمَلًا كَمَا لَوْ رَوَى خَبَرًا

عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّهُ إنَّمَا قَرَأَهَا نَاقِلًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ قُرْآنًا لِفَوَاتِ شَرْطِهِ بَقِيَ خَبَرًا، فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلُوا كَذَلِكَ فِي الْبَسْمَلَةِ لِيَجِبَ الْجَهْرُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَحُرْمَةُ قِرَاءَتِهَا عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْقُرْآنِ. قُلْنَا: لِأَنَّا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا بِظَاهِرِ مَا تُوجِبُهُ التَّسْمِيَةُ، بَلْ كَانَ عَمَلًا بِمُقْتَضَى أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَلَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا لَا يَعْمَلُ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ.

مباحث اللغة

[مَبَاحِثُ اللُّغَةِ] وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَنَّ مُعْظَمَ نَظَرِ الْأُصُولِيِّ فِي دَلَالَاتِ الصِّيَغِ، كَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَأَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَدَلِيلِ الْخِطَابِ وَمَفْهُومِهِ. فَاحْتَاجَ إلَى النَّظَرِ فِي ذَلِكَ تَكْمِيلًا لِلنَّظَرِ فِي الْأُصُولِ، وَنَسِمُهُ بِمُقَدِّمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: تَعَلُّمُ اللُّغَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ: تَعَلُّمُ عِلْمِ اللُّغَةِ وَاجِبٌ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ لِئَلَّا يَحِيدُوا فِي تَأْلِيفِهِمْ أَوْ فُتْيَاهُمْ عَنْ سُنَنِ الِاسْتِقْرَاءِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحَاجَةُ إلَى عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّ الْإِعْرَابَ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَعَانِي، أَلَا تَرَى إذَا قُلْت: مَا أَحْسَنَ زَيْدٌ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالنَّفْيِ إلَّا بِالْإِعْرَابِ؟ . وَنَازَعَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ " فِي كَوْنِهِمَا فَرْضَ كِفَايَةٍ، لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. قَالَ: وَاللُّغَةُ وَالنَّحْوُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ فِي كُلِّ عَصْرٍ أَنْ يَقُومَ بِهِ قَوْمٌ يَبْلُغُونَ حَدَّ التَّوَاتُرِ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّرْعِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِوَاسِطَةِ مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَالْعِلْمُ بِهِمَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، فَإِنَّهُ لَوْ انْتَهَى النَّقْلُ فِيهِ إلَى حَدِّ الْآحَادِ لَصَارَ الِاسْتِدْلَال عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْعِ اسْتِدْلَالًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الشَّرْعُ مَظْنُونًا لَا مَقْطُوعًا، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. الثَّانِيَةُ: نَبَّهَ الْإِبْيَارِيُّ فِي كَلَامٍ لَهُ عَلَى شَيْءٍ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ هُنَا، وَهُوَ

أَنَّ الْأُصُولِيَّ إنَّمَا احْتَاجَ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ لِيَفْهَمَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ بِالْأُصُولِيِّ إلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ وَالْأَلْفَاظِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ افْتَقَرْنَا إلَى تَقْدِيمِ أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ هَلْ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي اللُّغَةِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ ثَبَتَ عَدَمُ التَّصَرُّفِ اكْتَفَى الْأُصُولِيُّ بِمَعْرِفَةِ وَضْعِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُقْنِعٌ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ ثَبَتَ تَصَرُّفُ الشَّرْعِ اكْتَفَى الْأُصُولِيُّ بِمَعْرِفَةِ وَضْعِ الشَّرْعِ لِلِاسْمِ وَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَإِنْ عَرَفَ وَضْعَ اللُّغَةِ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ هَلْ لِلشَّرْعِ تَصَرُّفٌ فِي الِاسْمِ أَمْ لَا؟ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِوَضْعِ اللُّغَةِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ لَهُ وَضْعُ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا إنَّ الْفُقَهَاءَ قَلَّ مَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الْأَلْفَاظِ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ اللُّغَةِ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ تَصَرُّفَ الشَّرْعِ فِي الْأَسْمَاءِ فَتَرَاهُمْ يَجْنَحُونَ إلَى الْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ مُكْتَفًى بِهِ وَمُضَافٌ إلَيْهِ، وَعُرْفُ اللُّغَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عِنْدَ احْتِمَالِ التَّغْيِيرِ لَا يُفِيدُ. [مَادَّةُ اللُّغَةِ وَمَقْصُودُهَا وَمَوْضُوعُهَا] وَيَتَعَلَّقُ النَّظَرُ بِمَادَّتِهَا وَمَقْصُودِهَا وَمَوْضُوعِهَا. أَمَّا مَادَّتُهَا: فَتَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِينَ، إمَّا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاصْطِلَاحُ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، وَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُمْ فَمَادَّتُهَا النَّقْلُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَأَمَّا مَقْصُودُهَا: فَالتَّشْبِيهُ بِأَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ فِي إعْلَامِ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا مَوْضُوعُهَا: فَالْأَلْفَاظُ وَمَا يَعْرِضُهَا لِذَاتِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ مَا يَبْحَثُ اللُّغَوِيُّ عَنْهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ إمَّا فِي حَالِ الْإِفْرَادِ كَكَوْنِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا أَوْ مُشْتَرَكَةً أَوْ مُتَرَادِفَةً أَوْ مُتَبَايِنَةً، وَكَكَوْنِ فَاءِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَوْ عَيْنِهَا أَصْلِيًّا أَوْ مَقْلُوبًا عَنْ غَيْرِهِ صَحِيحًا أَوْ مُعْتَلًّا مَفْتُوحًا أَوْ مَضْمُومًا أَوْ مَكْسُورًا،

وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ التَّصْرِيفِ، وَأَمَّا فِي حَالِ تَرْكِيبِهَا كَكَوْنِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مُبْتَدَأً أَوْ خَبَرًا أَوْ فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْأَلْفَاظِ، فَالْأَلْفَاظُ هِيَ مَوْضُوعُ اللُّغَةِ وَهَذِهِ أَعْرَاضٌ ذَاتِيَّةٌ لِلْأَلْفَاظِ. [أُمُورٌ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَبَاحِثِ اللُّغَةِ] ثُمَّ الْكَلَامُ فِي مُهِمَّاتٍ: الْأَوَّلُ: فِي الْوَضْعِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا: جَعْلُ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى الْمَعْنَى كَتَسْمِيَةِ الْإِنْسَانِ وَلَدَهُ زَيْدًا، وَكَإِطْلَاقِهِمْ عَلَى الْحَائِطِ مَثَلًا الْجِدَارَ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْطُرَ الْمَعْنَى بِبَالِ الْوَاضِعِ فَيَسْتَحْضِرَ لَفْظًا يُعَبِّرُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى، ثُمَّ يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِ يَجِبُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى عِنْدَ عَدَمِ الْقَرَائِنِ. وَالثَّانِي: غَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى حَتَّى يَصِيرَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ إلَى الذِّهْنِ حَالَ التَّخَاطُبِ بِهِ، وَذَلِكَ فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَالْعُرْفِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ. [الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ] أَمَّا الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ: فَكَإِطْلَاقِهِمْ الصَّلَاةَ عَلَى الْحَرَكَاتِ الْمَخْصُوصَةِ،

وَالصَّوْمَ عَلَى الْإِمْسَاكِ الْمَخْصُوصِ، وَالزَّكَاةَ عَلَى إخْرَاجٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَضَعْ اللَّفْظَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ وَضْعٍ، وَتَكَرَّرَ الِاسْتِعْمَالُ فِيهَا حَتَّى صَارَتْ هِيَ الْمُتَبَادِرَةُ إلَى الذِّهْنِ حَالَ التَّخَاطُبِ. [الْعُرْفُ الْعَامُّ] وَأَمَّا الْعُرْفُ الْعَامُّ: فَكَإِطْلَاقِهِمْ الدَّابَّةَ عَلَى ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ عَلَى دَابَّةٍ مَخْصُوصَةٍ عِنْدَ قَوْمٍ كَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ، وَمَفْهُومُ الدَّابَّةِ فِي اللُّغَةِ لِكُلِّ ذَاتٍ دَبَّتْ سَوَاءٌ ذَوَاتُ الْأَرْبَعِ وَغَيْرُهَا، وَأَهْلُ الْعُرْفِ لَمْ يَضَعُوا اللَّفْظَ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ ذَوَاتُ الْأَرْبَعِ، وَإِنَّمَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُمْ لِلَفْظِ الدَّابَّةِ، حَتَّى صَارَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ إلَى الذِّهْنِ حَالَةَ التَّخَاطُبِ. [الْعُرْفُ الْخَاصُّ] وَأَمَّا الْعُرْفُ الْخَاصُّ: فَكَاصْطِلَاحِ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلَى أَلْفَاظٍ خَصُّوهَا بِمَعَانٍ مُخَالِفَةٍ لِلْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، كَاصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْجَوْهَرِ وَالْعَرْضِ، وَاصْطِلَاحِ الْفَقِيهِ فِي الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ، وَاصْطِلَاحِ الْجَدَلِيِّ فِي الْكَسْرِ وَالنَّقْضِ وَالْقَلْبِ، وَاصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، فَجَمِيعُ هَذِهِ الطَّوَائِفِ لَمْ يَضَعُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِتِلْكَ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوهَا اسْتِعْمَالًا غَالِبًا حَتَّى صَارَتْ هِيَ الْمُتَبَادِرَةُ إلَى الذِّهْنِ حَالَةَ التَّخَاطُبِ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْوَضْعِ فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ لِلْوَضْعِ مَعْنًى ثَالِثًا وَهُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمَجَازُ هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا أَمْ لَا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ

هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا أَوْ لَا؟ . وَيَتَعَلَّقُ بِالْوَضْعِ مَبَاحِثُ: أَحَدُهَا فِي شُرُوطِهِ: وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَبْتَدِئَهُ بِمَا يُخَالِفُهُ. ثَانِيهَا: أَنْ لَا يَخْتِمَهُ بِمَا يُخَالِفُهُ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ قَصْدٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِكَلَامِ السَّاهِي وَالنَّائِمِ وَعَلَى السَّامِعِ التَّنَبُّهُ لِهَذِهِ الشُّرُوطِ. وَقَدْ حَكَى الرُّويَانِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْحَاوِي " فِيمَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: طَلَّقْتُك، ثُمَّ قَالَ: سَبَقَ لِسَانِي، وَإِنَّمَا أَرَدْت طَلَبْتُك، أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ظَنَّتْ صِدْقَهُ بِأَمَارَةٍ فَلَهَا أَنْ تَقْبَلَ قَوْلَهُ وَلَا تُخَاصِمُهُ، وَأَنَّهُ مَنْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ إذَا عُرِفَ الْحَالُ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ. الثَّانِي فِي سَبَبِهِ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ وَصَيَّرَهُ مُحْتَاجًا إلَى أُمُورٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا، بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى الْمُعَاوَنَةِ عَلَيْهَا، وَلَا بُدَّ لِلْمُعَاوِنِ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ، وَذَلِكَ إمَّا بِاللَّفْظِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الْمِثَالِ، وَاللَّفْظُ أَيْسَرُ لِمَا سَيَأْتِي. فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى الْوَضْعِ لِأَجْلِ الْإِفْهَامِ بِالْمُخَاطَبَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلَّمَا اشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ أَنَّهُ يُوضَعُ لَهُ، وَإِلَّا كَانَ ذَلِكَ مُخِلًّا بِمَقْصُودِ الْوَضْعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَمَا لَا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ جَازَ فِيهِ الْأَمْرَانِ يَعْنِي الْوَضْعَ وَعَدَمَ الْوَضْعِ، أَمَّا عَدَمُ الْوَضْعِ، فَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَأَمَّا الْوَضْعُ فَلِلْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ بِهِ.

مسألة المفردات موضوعة

[الْمَوْضُوعُ] الثَّالِثُ: فِي الْمَوْضُوعِ، وَهُوَ اللُّغَاتُ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا: نَظَرٌ كُلِّيٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ كُلُّ اللُّغَاتِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ يُعْرَفُ فِي عِلْمٍ آخَرَ. وَالثَّانِي: فِيمَا يَخْتَصُّ بِآحَادِ اللُّغَاتِ. وَلَمَّا جَاءَتْ شَرِيعَتُنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَجَبَ النَّظَرُ فِيهَا، وَكَيْفِيَّةُ دَلَالَتِهَا مِنْ حَيْثُ صِيَغِهَا، وَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى حُدُوثُ الْمَوْضُوعَاتِ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إفَادَةً مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَأَيْسَرِهَا، أَمَّا كَثْرَةُ إفَادَتِهَا فَلِأَنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ مَعْلُومٍ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْإِشَارَةِ، فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِ الْمَحْسُوسِ، وَبِخِلَافِ الْمِثَالِ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ لِمَا فِي الضَّمِيرِ شَكْلًا لِتَعَذُّرِهِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا أَيْسَرَ فَلِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ، لِأَنَّ الْحُرُوفَ كَيْفِيَّاتٌ تُعْرَضُ لِلنَّفْسِيِّ الضَّرُورِيِّ. [مَسْأَلَةٌ الْمُفْرَدَاتُ مَوْضُوعَةٌ] لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُفْرَدَاتِ مَوْضُوعَةٌ كَوَضْعِ لَفْظِ " إنْسَانٍ " لِلْحَيَوَانِ النَّاطِقِ، وَكَوَضْعِ " قَامَ " لِحُدُوثِ الْقِيَامِ فِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ، وَكَوَضْعِ " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي وَنَحْوِهَا. [اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَكَّبَاتِ هَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ أَمْ لَا؟] وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَكَّبَاتِ نَحْوَ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ، فَقِيلَ: لَيْسَتْ

مَوْضُوعَةً، وَلِهَذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي الْمُرَكَّبَاتِ، وَلَا فِي تَأْلِيفِهَا، وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي وَضْعِ الْمُفْرَدَاتِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا مَوْكُولٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهَا، وَاخْتَارَهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ مَالِكٍ حَيْثُ قَالَ: إنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ عَقْلِيَّةٌ لَا وَضْعِيَّةٌ، وَاحْتَجَّ لَهُ فِي كِتَابِ الْفَيْصَلِ عَلَى الْمُفَصَّلِ " بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنْ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ إلَّا لَفْظَيْنِ مُفْرَدَيْنِ صَالِحَيْنِ لِإِسْنَادِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْتَقَرُ عِنْدَ سَمَاعِهِمَا مَعَ الْإِسْنَادِ إلَى مُعَرِّفٍ لِمَعْنَى الْإِسْنَادِ بَلْ يُدْرِكُهُ ضَرُورَةً. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الدَّالَّ بِالْوَضْعِ لَا بُدَّ مِنْ إحْصَائِهِ وَمَنْعِ الِاسْتِئْنَافِ فِيهِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ الْقَائِمَةِ مَقَامَهَا، فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ دَالًّا بِالْوَضْعِ وَجَبَ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ إلَّا بِكَلَامٍ سَبَقَ إلَيْهِ، كَمَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُفْرَدَاتِ إلَّا مَا سَبَقَ اسْتِعْمَالُهُ، وَفِي عَدَمِ ذَلِكَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ دَالًّا بِالْوَضْعِ. اهـ. وَحَكَاهُ ابْنُ إيَازٍ عَنْ شَيْخِهِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ حَالُ الْجُمَلِ حَالَ الْمُفْرَدَاتِ فِي الْوَضْعِ لَكَانَ اسْتِعْمَالُ الْجُمَلِ وَفَهْمُ مَعْنَاهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى نَقْلِهَا عَنْ الْعَرَبِ كَمَا كَانَ الْمُفْرَدَاتُ كَذَلِكَ، وَلَوَجَبَ عَلَى أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يَتَتَبَّعُوا الْجُمَلَ وَيُودِعُوهَا كُتُبَهُمْ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِالْمُفْرَدَاتِ، وَلِأَنَّ الْمُرَكَّبَاتِ دَلَالَتُهَا عَلَى مَعْنَاهَا التَّرْكِيبِيِّ بِالْعَقْلِ لَا بِالْوَضْعِ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مُسَمَّى " زَيْدٌ "، وَعَرَفَ مُسَمَّى " قَائِمٌ "، وَسَمِعَ " زَيْدٌ قَائِمٌ " بِإِعْرَابِهِ الْمَخْصُوصِ، فَهِمَ بِالضَّرُورَةِ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ نِسْبَةُ الْقِيَامِ

إلَى زَيْدٍ. نَعَمْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَوْضُوعَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مُفْرَدَاتِهَا الَّتِي لَا تُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ، وَلِأَنَّ لِلَّفْظِ الْمُرَكَّبِ أَجْزَاءً مَادِّيَّةً وَجُزْءًا صُورِيًّا، وَهُوَ التَّأْلِيفُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لِمَعْنَاهُ أَجْزَاءٌ مَادِّيَّةٌ وَجُزْءٌ صُورِيٌّ، وَالْأَجْزَاءُ الْمَادِّيَّةُ مِنْ اللَّفْظِ تَدُلُّ عَلَى الْأَجْزَاءِ الْمَادِّيَّةِ مِنْ الْمَعْنَى، وَالْجُزْءُ الصُّورِيُّ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى الْجُزْءِ الصُّورِيِّ مِنْ الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فَوُضِعَتْ " زَيْدٌ قَائِمٌ " لِلْإِسْنَادِ دُونَ التَّقْوِيَةِ فِي مُفْرَدَاتِهِ وَلَا تَنَافِي بَيْنَ وَضْعِهَا مُفْرَدَةً لِلْإِسْنَادِ بِدُونِ التَّقْوِيَةِ وَوَضْعِهَا مُرَكَّبَةً لِلتَّقْوِيَةِ، وَلِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، فَالْمُضَافُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ، وَمُؤَخَّرٌ عَنْهَا فِي بَعْضٍ، وَلَوْ كَانَتْ عَقْلِيَّةً لِفَهْمِ الْمَعْنَى وَاحِدًا سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْمُضَافُ عَلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ أَوْ تَأَخَّرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ قَالَ: أَقْسَامُهَا: مُفْرَدٌ وَمُرَكَّبٌ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَزَاهُ غَيْرُهُ لِلْجُمْهُورِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا حُجِرَتْ فِي التَّرَاكِيبِ كَمَا حُجِرَتْ فِي الْمُفْرَدَاتِ، فَقُلْت: إنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ قَائِمٌ زَيْدًا لَيْسَ مِنْ كَلَامِنَا، وَمَنْ قَالَ: إنَّ زَيْدًا قَائِمٌ فَهُوَ مِنْ كَلَامِنَا، وَمَنْ قَالَ: فِي الدَّارِ رَجُلٌ فَهُوَ مِنْ كَلَامِنَا، وَمَنْ قَالَ: رَجُلٌ فِي الدَّارِ فَلَيْسَ مِنْ كَلَامِنَا إلَخْ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي تَرَاكِيبِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَعَرُّضِهَا بِالْوَضْعِ لِلْمُرَكَّبَاتِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا وَضَعَتْ أَنْوَاعَ الْمُرَكَّبَاتِ، أَمَّا جُزْئِيَّاتُ الْأَنْوَاعِ فَلَا، فَوَضَعَتْ بَابَ الْفَاعِلِ لِإِسْنَادِ كُلِّ فِعْلٍ إلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ، أَمَّا الْفَاعِلُ الْمَخْصُوصُ فَلَا، وَكَذَلِكَ بَابُ إنَّ وَأَخَوَاتِهَا أَمَّا اسْمُهَا الْمَخْصُوصُ فَلَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَنْوَاعِ التَّرْكِيبِ، وَأَحَالَتْ الْمُعَيَّنَ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ

المثنى والمجموع

بِوَضْعِ الْمُرَكَّبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَمَمْنُوعٌ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ الْمَجَازَ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْمُرَكَّبَاتِ أَمْ لَا؟ وَأَنَّهُ هَلْ يَشْتَرِطُ الْعِلَاقَةَ فِي الْآحَادِ أَمْ لَا؟ وَحَقِيقَةُ هَذَا الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ الْمُرَكَّبِ عَلَى مَعْنَاهُ هَلْ هِيَ عَقْلِيَّةٌ كَدَلَالَةِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ وَرَاءِ الْحَائِطِ عَلَى أَنَّهُ إنْسَانٌ أَوْ وَضْعِيَّةٌ؟ [الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ] تَنْبِيهٌ [الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ مَوْضُوعَانِ] لَمْ أَرَ لَهُمْ كَلَامًا فِي الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ، لِأَنَّهُمَا مُفْرَدَانِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَدُّهُمْ لِلْمُفْرَدِ، وَلِهَذَا عَامَلُوا جُمُوعَ التَّكْسِيرِ مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدِ فِي الْأَحْكَامِ. لَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ مَالِكٍ فِي كَلَامِهِ عَلَى حَدِّهَا بِأَنَّهُمَا غَيْرُ مَوْضُوعَيْنِ، وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: فَرَّعَهُ عَلَى رَأْيِهِ فِي عَدَمِ وَضْعِ الْمُرَكَّبَاتِ، لِأَنَّهُ لَا تَرْكِيبَ فِيهَا لَا سِيَّمَا أَنَّ الْمُرَكَّبَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الْإِسْنَادُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ وَالْأَجْنَاسِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مُتَعَدِّدٍ، فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ وَضْعِهِ عَجِيبٌ، لِأَنَّ أَكْثَرَهُ سَمَاعِيٌّ. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّ شَفْعًا وَنَحْوَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى اثْنَيْنِ مَوْضُوعٌ. وَقَالَ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ: الظَّاهِرُ لِي أَنَّ التَّثْنِيَةَ وُضِعَ لَفْظُهَا بَعْدَ الْجَمْعِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى الْجَمْعِ كَثِيرًا، وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ تَثْنِيَةٌ، وَالْجَمْعُ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ لُغَةٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، لِأَنَّ الْوَاضِعَ قَالَ: الشَّيْءُ إمَّا وَاحِدٌ وَإِمَّا كَثِيرٌ لَا غَيْرُ، فَجَعَلَ الِاثْنَيْنِ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ.

الموضوع له

[الْمَوْضُوعُ لَهُ] الرَّابِعُ: فِي الْمَوْضُوعِ لَهُ؛ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ أَوْ الْخَارِجِيِّ أَوْ لِأَعَمَّ مِنْهُمَا أَوْ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمْ تُوضَعْ الْأَلْفَاظُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ بَلْ وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ، وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ، وَهَذَا كَالْخَطِّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اللَّفْظِ، وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْت: الْعَالَمُ حَادِثٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَادِثًا، بَلْ يَدُلُّ عَلَى حُكْمِك بِحُدُوثِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ "، وَالْقُرْطُبِيُّ فِي الْوُصُولِ "، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ: أَمَّا فِي الْمُفْرَدَاتِ فَلِأَنَّا لَوْ رَأَيْنَا شَبَحًا مِنْ بَعِيدٍ ظَنَنَّاهُ رَجُلًا فَإِذَا قَرُبَ رَأَيْنَاهُ شَبَحًا، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الْأَسَامِي عِنْدَ اخْتِلَافِ الصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ لَهُ إلَّا عَلَيْهَا. وَأَمَّا فِي الْمُرَكَّبَاتِ فَلِأَنَّ قَوْلَنَا: قَامَ زَيْدٌ، لَا يُفِيدُ قِيَامَ زَيْدٍ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِهِ وَالْإِخْبَارَ عَنْهُ، ثُمَّ نَنْظُرُ مُطَابَقَتَهُ لِلْخَارِجِ أَمْ لَا، وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إنَّمَا عُرِضَ لِاعْتِقَادِ أَنَّهَا فِي الْخَارِجِ كَذَلِكَ، لَا لِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِهَا فِي الذِّهْنِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْخَارِجِ، وَأَيْضًا إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مِمَّا يَشْخَصُ فِي الْخَارِجِ مَجَازًا. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَنْ نَفَى الْوَضْعَ لِلْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ، إنْ أَرَادَ أَنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ، فَهَذَا حَقٌّ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ بِتَوَسُّطِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الدَّلَالَةَ الْخَارِجِيَّةَ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً مِنْ وَضْعِ اللَّفْظِ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُخَبِّرَ إذَا أَخْبَرَ غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ: جَاءَ زَيْدٌ، فَإِنَّ قَصْدَهُ الْإِخْبَارَ بِمَجِيئِهِ فِي الْخَارِجِ.

مسألة وضع اللفظ المشهور في معنى خفي جدا

الثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ لَا الذِّهْنِيِّ، لِأَنَّهُ مُسْتَقَرُّ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا مَا جَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ "، وَيَلْزَمُ الرَّازِيَّ مِنْ نَفْيِهِ الْوَضْعَ لِلْخَارِجِيِّ أَنْ يَكُونَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا فِي الْخَارِجِ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً وَلَا تَضَمُّنًا، وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا نَفْيُ الْحَقَائِقِ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَعِنْدَهُ إنَّمَا وُضِعَ لِلذِّهْنِيِّ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ لِلْخَارِجِيِّ، وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنْ لَا يَكُونَ الْآنَ شَيْءٌ مَوْضُوعٌ، لِأَنَّ الْوَضْعَ زَالَ وَهُوَ صَحِيحٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ هُوَ أَعَمُّ مِنْ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ، وَلَيْسَ لِكُلِّ مَعْنًى لَفْظٌ، بَلْ كُلُّ مَعْنًى مُحْتَاجُ إلَى اللَّفْظِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَرَدَّ مَذْهَبَ الْإِمَامِ إلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَنَسَبَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الْخُوبِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِلْفَلَاسِفَةِ: قَالَ: وَأَصْلُهُ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الِاسْمَ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَةٌ وَضْعُ اللَّفْظِ الْمَشْهُورِ فِي مَعْنًى خَفِيٍّ جِدًّا] مَنَعَ الرَّازِيَّ أَنْ يُوضَعَ اللَّفْظُ الْمَشْهُورُ فِي مَعْنًى لِمَعْنًى خَفِيٍّ جِدًّا، فَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الرَّدُّ عَلَى مُثْبِتِي الْحَالِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْحَرَكَةُ اسْمٌ لِمَعْنًى يَجْعَلُ الِاسْمَ مُتَحَرِّكًا، وَالْمَشْهُورُ نَفْسُ الِانْتِقَالِ لَا مَعْنًى أَوْجَبَ

الِانْتِقَالَ، وَجَوَّزَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى مَشْهُورَةٌ، وَبِإِزَائِهَا مَعَانٍ دَقِيقَةٌ غَامِضَةٌ لَا يَفْهَمُهَا إلَّا الْخَوَاصُّ الْعَارِفُونَ بِاَللَّهِ، وَبِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُدْرِكُ مَعَانِيَ لَطِيفَةً فَيَخْتَرِعُ لَهَا أَلْفَاظًا بِإِزَائِهَا. [فَائِدَةُ الْوَضْعِ] الْخَامِسُ: فِي فَائِدَةِ الْوَضْعِ، وَالْمَعَانِي الْمُفْرَدَةُ مَعْلُومَةٌ فِي الذِّهْنِ قَبْلَ وَضْعِ اللَّفْظِ، وَفَائِدَةُ وَضْعِ اللَّفْظِ تَصَوُّرُهَا عِنْدَ التَّلَفُّظِ لِتَوَقُّفِ فَهْمِ النِّسْبَةِ التَّرْكِيبِيَّةِ عَلَيْهِ، فَإِذَنْ الْفَائِدَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ تَصَوُّرُ مَعَانِيهَا وَشُعُورُ الذِّهْنِ بِهَا لَا مَعْرِفَةُ مَعَانِيهَا، فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ، وَتَصَوُّرُ النِّسْبَةِ مَوْجُودٌ فِي الذِّهْنِ قَبْلَ وُجُودِ اللَّفْظِ، وَالْفَائِدَةُ الْحَاصِلَةُ بِاللَّفْظِ مَعَ الْحَرَكَاتِ الْمَخْصُوصَةِ وَالتَّرْكِيبِ الْمَخْصُوصِ مَعْرِفَتُهَا وَاقِعَةً أَوْ وَقَعَتْ أَوْ سَتَقَعُ، فَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا التَّصْدِيقُ لَا التَّصَوُّرُ فَلَا دَوْرَ أَيْضًا. [الْوَاضِعُ] السَّادِسُ: فِي الْوَاضِعِ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَبَعْضِ أَتْبَاعِهِ كَابْنِ فُورَكٍ أَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ، وَأَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَعْلَمَهَا لِلْخَلْقِ بِالْوَحْيِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِخَلْقِ الْأَصْوَاتِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَوْ بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ لَهُمْ، وَحَكَاهُ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ فَارِسٍ

وَالثَّانِي: أَنَّهَا إلْهَامٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِبَنِي آدَمَ كَأَصْوَاتِ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ حَيْثُ كَانَتْ أَمَارَاتٌ عَلَى إرَادَتِهَا فِيمَا بَيْنَهَا بِإِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى، حَكَاهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ " عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَا {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] ثُمَّ قَالَ: أُلْهِمَ إسْمَاعِيلُ هَذَا اللِّسَانَ إلْهَامًا» ثُمَّ قَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ": حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَكِنَّ مَدَارَ الْحَدِيثِ عَلَى إبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْغَسِيلِيِّ، وَكَانَ مِمَّنْ يَسْرِقُ الْحَدِيثَ. انْتَهَى. وَالثَّالِثِ: مَذْهَبُ أَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِ أَنَّهَا اصْطِلَاحِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْبَشَرِ أَوْ جَمَاعَةٍ وَضَعَهَا وَحَصَلَ التَّعْرِيفُ لِلْبَاقِينَ بِالْإِشَارَةِ وَالْقَرَائِنِ كَتَعْرِيفِ الْوَالِدَيْنِ لُغَتَهُمَا لِلْأَطْفَالِ، وَحَكَاهُ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ " عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ النَّظَرِ.

وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: مَعْنَى الِاصْطِلَاحِ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ اللَّهُ مَقَاصِدَ اللُّغَاتِ، ثُمَّ يَهْجِسُ فِي نَفْسِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُنَصِّبَ أَمَارَةً عَلَى مَقْصُودِهِ، فَإِذَا نَصَّبَهَا وَكَرَّرَهَا وَاتَّصَلَتْ الْقَرَائِنُ بِهَا أَفَادَتْ الْعِلْمَ، كَالصَّبِيِّ يَتَلَقَّى مِنْ وَالِدِهِ. وَالْقَائِلُونَ بِالتَّوْقِيفِ: يَقُولُونَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُلْهَمُوا الْأَمَارَاتِ. قَالَ: وَمَنْ فَهِمَ الْمَسْأَلَةَ وَتَصَوَّرَهَا لَا يُحِيلُ تَصْوِيرَهَا، نَعَمْ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُ الْعَالَمِينَ عَلَى أَمَارَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ اخْتِلَافِ الدَّوَاعِي، فَإِنْ عُنِيَ بِالِاصْطِلَاحِ هَذَا فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ عُنِيَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا، وَإِذَا تَعَارَضَ الْإِمْكَانَاتُ تَوَقَّفَ عَلَى السَّمْعِ. وَالرَّابِعِ: أَنَّ بَعْضَهُ مِنْ اللَّهِ وَبَعْضَهُ مِنْ النَّاسِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ الْبُدَاءَةُ مِنْ اللَّهِ وَالتَّتِمَّةُ مِنْ النَّاسِ؟ وَنَسَبَهُ الْقُرْطُبِيُّ إلَى الْأُسْتَاذِ، وَإِمَّا عَكْسُهُ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ قَوْمٌ فَتَصِيرُ الْمَذَاهِبُ خَمْسَةً. وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي النَّقْلِ عَنْ الْأُسْتَاذِ، فَحَكَى الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ عَنْهُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ فِي التَّعْرِيفِ تَوْقِيفِيٌّ، وَالْبَاقِي مُحْتَمَلٌ لِلتَّوَقُّفِ وَغَيْرِهِ، وَحَكَى فِي الْمَحْصُولِ " عَنْهُ أَنَّ الْبَاقِيَ مُصْطَلَحٌ وَسَبَقَهُ إلَى حِكَايَتِهِ أَيْضًا أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالصَّوَابُ عَنْهُ: الْأَوَّلُ، فَقَدْ رَأَيْته فِي كِتَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ " لِلْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَنَقَلَهُ عَنْ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَعِبَارَتُهُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَوْ يَخْلُقَ لَهُمْ عِلْمًا بِمِقْدَارِ مَا يَفْهَمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لِمَعْنَى الِاصْطِلَاحِ وَالْوُقُوفِ عَلَى التَّسْمِيَةِ، فَإِذَا عَرَفُوهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيهِ تَوْقِيفًا مِنْهُ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ اصْطِلَاحًا فِيهِمْ، وَلَا طَرِيقَ بَعْدَهُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا كَانَ مِنْهُ فِيهِ إلَّا بِخَبَرِ نَبِيٍّ عَنْهُ. هَذَا لَفْظُهُ، وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ "، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ.

الْخَامِسُ: قَوْلُ الْقَاضِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَابْنِ بَرْهَانٍ وَجُمْهُورِ الْمُحَقِّقِينَ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ " التَّوَقُّفُ، بِمَعْنَى أَنَّ الْجَمِيعَ مُمْكِنٌ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا تَعْيِينُ الْمَوَاقِعِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ، وَمَالَ إلَيْهِ ابْنُ جِنِّي فِي أَوَاخِرِ الْأَمْرِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَعْيِينَ الْوَاقِعِ، فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْوَاقِفُ إنْ تَوَقَّفَ عَنْ الْقَطْعِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أَرَادَ التَّوَقُّفَ عَنْ الظَّنِّ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَنْفِيهِ. وَقَالَ التِّلِمْسَانِيُّ فِي الْكِفَايَةِ ": قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْخِلَافُ إنْ كَانَ فِي الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ فَهُوَ ثَابِتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالٌ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْوُقُوعِ السَّمْعِيِّ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الْوُقُوعَ إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّقْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ، وَلَا بُرْهَانٌ عَقْلِيٌّ بِنَفْيِ رَجْمِ الظُّنُونِ بِلَا فَائِدَةٍ. وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ قَوْلًا آخَرَ أَنَّ مَا وَقَعَ التَّوْقِيفُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا سِوَاهَا مِنْ اللُّغَاتِ وَقَعَ التَّوْقِيفُ عَلَيْهَا بَعْدَ الطُّوفَانِ مِنْ اللَّهِ فِي أَوْلَادِ نُوحٍ حَتَّى تَفَرَّقُوا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْمَحْضَةِ إسْمَاعِيلُ، وَأَرَادَ بِهَا عَرَبِيَّةَ قُرَيْشٍ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَأَمَّا عَرَبِيَّةُ قَحْطَانَ وَحِمْيَرَ فَكَانَتْ قَبْلَ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

وَقَالَ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ ": قَالَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: إنَّهَا كُلَّهَا تَوْقِيفٌ مِنْ اللَّهِ، وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا بُدَّ مِنْ التَّوْقِيفِ فِي أَصْلِ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى أَوَّلِ اللُّغَاتِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْ الْمُصْطَلِحِينَ، يَعْنِي مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا حَصَلَ التَّوْقِيفُ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مِنْ اللُّغَاتِ اصْطِلَاحًا، وَأَنْ يَكُونَ تَوْقِيفًا، وَلَا يُقْطَعُ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلَالَةٍ. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللُّغَاتِ كُلَّهَا اصْطِلَاحٌ، فَكَذَا قَوْلُهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمَنْ قَالَ بِالتَّوْقِيفِ عَلَى اللُّغَةِ الْأُولَى وَأَجَازَ الِاصْطِلَاحَ فِيمَا سِوَاهَا مِنْ اللُّغَاتِ اخْتَلَفُوا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ أَوَّلُ اللُّغَاتِ وَكُلُّ لُغَةٍ سِوَاهَا حَدَثَتْ بَعْدَهَا إمَّا تَوْقِيفًا أَوْ اصْطِلَاحًا، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ عَرَبِيٌّ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَسْبَقُ اللُّغَاتِ وُجُودًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لُغَةُ الْعَرَبِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: عَرَبِيَّةُ حِمْيَرَ وَهِيَ الَّتِي تَكَلَّمُوا بِهَا فِي عَهْدِ هُودٍ وَمَنْ قَبْلَهُ، وَبَقِيَ بَعْضُهَا إلَى وَقْتِنَا. وَالثَّانِي: الْعَرَبِيَّةُ الْمَحْضَةُ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَأَوَّلُ مَنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ بِهَا إسْمَاعِيلُ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ تَوْقِيفُ إسْمَاعِيلَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ الْمَحْضَةِ مُحْتَمِلًا أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ اصْطِلَاحًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُرْهُمٍ النَّازِلِينَ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَوْقِيفًا مِنْ اللَّهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ. اهـ. وَحَكَى ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ " قَوْلًا آخَرَ أَنَّ أَصْلَ اللُّغَاتِ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَالْأَسْمَاعِ، كَدَوِيِّ الرِّيحِ وَحُنَيْنِ الرَّعْدِ وَخَرِيرِ الْمَاءِ وَنَهِيقِ الْحِمَارِ وَنَعِيقِ الْغُرَابِ وَصَهِيلِ الْفَرَسِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ تَوَلَّدَتْ اللُّغَاتُ عَنْ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي وَجْهٌ صَالِحٌ وَمَذْهَبٌ مُتَقَبَّلٌ. قَالَ: وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ

معنى التوقيف

يَذْهَبُ إلَى أَنَّهَا تَوْفِيقِيَّةٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ الْقَوْلَ بِالِاصْطِلَاحِ. تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ] أَنَّ لِلْمَسْأَلَةِ مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ عَلَى اللُّغَةِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إلَّا تَوْقِيفًا أَوْ إلَّا اصْطِلَاحًا. الثَّانِي: أَنَّهُ مَا الَّذِي وَقَعَ عَلَى تَقْدِيرِ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ؟ وَالْقَوْلُ بِتَجْوِيزِ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ، وَنَقَلُوهُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، وَقِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا تَكَلَّمَ فِي الْوُقُوعِ مَعَ تَجْوِيزِ صُدُورِ اللُّغَةِ اصْطِلَاحًا، وَلَوْ مَنَعَ الْجَوَازَ لَنَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الْوُقُوعَ لَمْ يَثْبُتْ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ. [مَعْنَى التَّوْقِيفِ] [التَّنْبِيهُ الثَّانِي] مَعْنَى التَّوْقِيفِ فِي مَعْنَى التَّوْقِيفِ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: لَعَلَّ ظَانًّا يَظُنُّ أَنَّ اللُّغَةَ الَّتِي دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهَا تَوْقِيفٌ إنَّمَا جَاءَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَفِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ وَقَّفَ اللَّهُ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا شَاءَ أَنْ يُعَلِّمَهُ إيَّاهُ ثُمَّ احْتَاجَ إلَى عِلْمِهِ فِي زَمَانِهِ فَانْتَشَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ ثُمَّ عَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ آدَمَ مَنْ عَرَفَ

الأسماء التي علمها الله آدم

مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - نَبِيًّا نَبِيًّا - مَا شَاءَ أَنْ يُعَلِّمَهُ حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ إلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَآتَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا، ثُمَّ قَرَّ الْأَمْرُ قَرَارَهُ، فَلَا نَعْلَمُ لُغَةً مِنْ بَعْدِهِ حَدَثَتْ. [الْأَسْمَاءُ الَّتِي عَلَّمَهَا اللَّهُ آدَمَ] [التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ] [الْأَسْمَاءُ الَّتِي عَلَّمَهَا اللَّهُ آدَمَ] قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الْأَسْمَاءِ عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ؟ فَقِيلَ: جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ حَقِيرِهَا وَجَلِيلِهَا، وَقِيلَ: أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ، وَقِيلَ: عُلِّمَ الْأَسْمَاءَ بِكُلِّ لُغَةٍ تَكَلَّمَتْ بِهَا ذُرِّيَّتُهُ، وَقَدْ غَلَا قَوْمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى حَكَى ابْنُ جِنِّي عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يُحْسِنُ مِنْ النَّحْوِ مِثْلَ مَا أَحْسَنَ سِيبَوَيْهِ، وَنَحْوَ هَذَا مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ بَيِّنُ الْخَطَأِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: عَلَّمَهُ مَنَافِعَ كُلِّ شَيْءٍ وَمَا يَصْلُحُ. [التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ] إنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُوجِبُ الظَّنَّ بِأَنْ لَا فَائِدَةَ لِلْخَوْضِ فِيهِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا تَكْمِيلُ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ إذْ مُعْظَمُ النَّظَرِ فِيهَا يَتَعَلَّقُ بِدَلَالَةِ الصِّيَغِ، أَوْ جَوَازُ قَلْبِ مَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالشَّرْعِ فِيهَا، كَتَسْمِيَةِ الْفَرَسِ ثَوْرًا، وَالثَّوْرِ فَرَسًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْخِلَافُ فِيهَا طَوِيلُ الذَّيْلِ قَلِيلُ النَّيْلِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَعْرِفَةُ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، لِأَنَّهَا

تَجْرِي مَجْرَى الرِّيَاضِيَّاتِ الَّتِي يَرْتَاضُ الْعُلَمَاءُ بِالنَّظَرِ فِيهَا، كَمَا يُصَوِّرُ الْحَيْسُوبُ مَسَائِلَ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ، فَهَذِهِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ رِيَاضِيَّاتِهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أَوْ الْفَوْرِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، فَإِنَّهَا مِنْ ضَرُورَاتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ عَلَيْهَا مَسَائِلَ مِنْ الْفِقْهِ، كَمَا لَوْ عَقَدَا صَدَاقًا فِي السِّرِّ، وَآخَرَ فِي الْعَلَانِيَةِ، أَوْ اسْتَعْمَلَا لَفْظَ الْمُفَاوَضَةِ، وَأَرَادَا شَرِكَةَ الْعِنَانِ حَيْثُ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْجَوَازِ، أَوْ تَبَايَعَا بِالدَّنَانِيرِ وَسَمَّيَا الدَّرَاهِمَ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَا يَصِحُّ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إذَا قُلْت: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَمْ أُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنَّمَا غَرَضِي أَنْ تَقُومِي وَتَقْعُدِي، ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَعَ. وَحَكَى الْإِمَامُ فِي بَابِ الصَّدَاقِ وَجْهًا: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ. وَلَوْ سَمَّى أَمَتَهُ حُرَّةً وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْمَهَا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا حُرَّةُ، فَفِي الْبَسِيطِ " أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا لَا تُعْتَقُ إذَا قَصَدَ النِّدَاءَ، وَجَعَلَهُ مُلْتَفَتًا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. قَالَ فِي الْمَطْلَبِ ": وَالْأَشْبَهُ عَدَمُ بِنَائِهِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّا نُفَرِّعُ عَلَى جَوَازِ وَضْعِ الِاسْمِ بِالِاصْطِلَاحِ، وَإِذَا جَازَ صَارَ كَالِاسْمِ الْمُسْتَمِرِّ وَلَوْ كَانَ اسْمُهَا بَعْدَ الرِّقِّ حُرَّةً وَنَادَاهَا بِهِ، وَقَصَدَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ، فَكَذَا هُنَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ. وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَا يَتَخَرَّجُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لِأَنَّ مَسْأَلَتَنَا فِي أَنَّ اللُّغَاتِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا هَلْ هِيَ بِالِاصْطِلَاحِ أَوْ التَّوْقِيفِ؟ لَا

فِي شَخْصٍ خَاصٍّ اصْطَلَحَ مَعَ صَاحِبِهِ عَلَى تَغْيِيرِ الشَّيْءِ عَنْ مَوْضُوعِهِ، نَعَمْ يُضَاهِيهَا قَاعِدَةٌ فِي الْفِقْهِ وَهِيَ أَنَّ الِاصْطِلَاحَ الْخَاصَّ هَلْ يَرْفَعُ الِاصْطِلَاحَ الْعَامَّ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَعَلَيْهَا تَتَفَرَّعُ هَذِهِ الْفُرُوعُ، كَمَا بَيَّنْته فِي كِتَابِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ ". وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فَائِدَتُهَا النَّظَرُ فِي جَوَازِ قَلْبِ اللُّغَةِ، فَالْقَائِلُونَ بِالتَّوْقِيفِ يَمْنَعُونَهُ مُطْلَقًا وَالْقَائِلُونَ بِالِاصْطِلَاحِ يُجَوِّزُونَهُ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ، وَمَتَى لَمْ يَمْنَعْ كَانَ لِلشَّيْءِ اسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: مُتَوَقَّفٌ عَلَيْهِ، وَالْآخَرُ مُتَوَاضَعٌ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا الْمُتَوَقِّفُونَ، فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَلَفَتْ إشَارَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَذَهَبَ الْأَزْدِيُّ إلَى التَّجْوِيزِ كَمَذْهَبِ الِاصْطِلَاحِ، وَأَشَارَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْجَلِيلِ الصَّابُونِيُّ إلَى الْمَنْعِ وَجَوَّزَ كَوْنَ التَّوْقِيفِ وَارِدًا عَلَى أَنَّهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ النُّطْقُ إلَّا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ ": فَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْكَلَامَ تَوْقِيفِيًّا جَعَلَ التَّكْلِيفَ مُقَارِنًا لِكَمَالِ الْعَقْلِ، وَمَنْ جَعَلَهُ اصْطِلَاحِيًّا جَعَلَ التَّكْلِيفَ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَقْلِ مُدَّةَ الِاصْطِلَاحِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعْلِيمَ إنَّمَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الِاسْمِ دُونَ الْمَعْنَى. الثَّانِي: أَنَّهُ عُلِّمَ الْأَسْمَاءَ وَمَعَانِيَهَا، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَعْلِيمِ عِلْمِ الْأَسْمَاءِ بِلَا مَعَانٍ، لِتَكُونَ الْمَعَانِي هِيَ الْمَقْصُودَةَ، وَالْأَسْمَاءُ دَلَائِلَ عَلَيْهَا، وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيمَ إنَّمَا كَانَ مَقْصُودًا عَلَى أَلْفَاظِ الْأَسْمَاءِ دُونَ مَعَانِيهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَّمَهُ إيَّاهَا بِاللُّغَةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّمَهُ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ، وَعَلَّمَهَا آدَم وَلَدَهُ فَلَمَّا تَفَرَّقُوا تَكَلَّمَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْهُمْ بِلِسَانٍ اسْتَسْهَلُوهُ مِنْهَا وَأَلِفُوهُ، ثُمَّ نَسُوا غَيْرَهُ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ.

فائدة أسماء الله توقيفية

وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا وَكُلُّ قَوْمٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةٍ قَدْ نَسُوا غَيْرَهَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْعُرْفِ مُمْتَنِعٌ. اهـ. وَعَزَا بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ التَّوْقِيفَ لِأَصْحَابِهِمْ، وَالِاصْطِلَاحُ لِأَصْحَابِنَا، ثُمَّ قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْلِيقُ بِاللُّغَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إلَى الشَّرْعِ، وَبَنَوْا أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ الْحَبْسُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْهُ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِاللُّغَةِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْوَاضِعِينَ فِي الْأَصْلِ كَانُوا جُهَّالًا، وَضَعُوا عِبَارَاتٍ لِمُعَبَّرَاتٍ لَا لِمُنَاسَبَاتٍ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَتْ وَصَارَتْ لُغَةً. انْتَهَى. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا اصْطِلَاحِيَّةٌ أَوْ تَوْقِيفِيَّةٌ فَاخْتَارَ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ " أَنَّهَا مُتَلَاحِقَةٌ بَعْضُهَا يَتْبَعُ بَعْضًا، لَا أَنَّهَا وُضِعَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ وَهُوَ الصَّوَابُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْوَاضِعَ وَضَعَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ شَيْئًا ثُمَّ اُحْتِيجَ لِلزِّيَادَةِ عَلَيْهِ لِحُصُولِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ فَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا فَشَيْئًا إلَّا أَنَّهُ عَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ مِنْهَا فِي حُرُوفِهِ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ فَارِسٍ. [فَائِدَةٌ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ] ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ التَّحْصِيلِ " فَقَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَجَوَّزَهُ مُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ. قَالَ: وَأَمَّا أَسْمَاءُ غَيْرِهِ، فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْقِيَاسِ فِيهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مَعَ أَكْثَرِ أَهْلِ الرَّأْيِ بِامْتِنَاعِ الْقِيَاسِ.

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ بِخِلَافِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا جَازَ أَنْ يُوضَعَ لَهُ اسْمٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نُسَمِّيهِ بِاسْمِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ مِنْهُ فِي صُورَتِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ اللُّغَةِ الَّتِي قِيسَ عَلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ابْتَدَأَ لَهُ اسْمًا كَيْفَ كَانَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ لُغَةً مُخْتَصَّةً بِالْمُسَمَّى بِهَا. اهـ. وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ ": أَطْلَقَ أَئِمَّتُنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَجْرِي فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ فَانْحَصَرَ مَدَارِكُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الْوَارِدُ فِي السُّنَّةِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ مُتَوَاتِرًا؟ فِيهِ خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ غَيْرُ شَرْطٍ. [كَيْفِيَّةُ مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ إلَى مَعْرِفَةِ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ] السَّابِعُ: فِي كَيْفِيَّةِ مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ إلَى مَعْرِفَةِ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ لِمَعَانِيهَا، وَهُوَ إمَّا بِالنَّقْلِ الصِّرْفِ أَوْ بِالْعَقْلِ الصِّرْفِ أَوْ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا. الْأَوَّلُ: النَّقْلُ، وَهُوَ إمَّا مُتَوَاتِرٌ كَالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَهُوَ مُفِيدٌ لِلْقَطْعِ، وَإِمَّا آحَادٌ كَالْقُرْءِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ مُفِيدٌ لِلظَّنِّ بِشُرُوطِهِ الْآتِيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَحَكَى الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ عَنْ السَّمْنَانِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْعُمُومِ: أَنَّ اللُّغَةَ لَا تَثْبُتُ بِالْآحَادِ، وَكَأَنَّهُ قَوْلُ الْوَاقِفِيَّةِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ وَالْأَمْرِ. وَالْحَقُّ: أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً فِي بَابِ الْعَمَلِيَّاتِ وَالْأَحْكَامِ. أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ فَلَا، لِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْقَطْعَ. قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": وَالْعَجَبُ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ حَيْثُ أَقَامُوا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ، وَلَمْ يُقِيمُوا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ وَكَانَ

هَذَا، لِأَنَّ إثْبَاتَ اللُّغَةِ كَالْأَصْلِ لِلتَّمَسُّكِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَى حُجِّيَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الشَّرْعِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهِ فِي نَقْلِ اللُّغَةِ آحَادًا إذَا وُجِدَتْ الشَّرَائِطُ، فَلَعَلَّهُمْ أَهْمَلُوا ذَلِكَ اكْتِفَاءً مِنْهُمْ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ. وَأَوْرَدَ فِي الْمَحْصُولِ " تَشْكِيكَاتٍ كَثِيرَةً عَلَى نَقْلِ اللُّغَةِ وَنَاقِلِهَا، وَمِنْ جَيِّدِ أَجْوِبَتِهَا: أَنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: فَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مَدْلُولُهُ فَيَنْدَفِعُ عِنْدَ جَمِيعِ التَّشْكِيكَاتِ إذْ لَا تَشْكِيكَ فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَالْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ هَذَا، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ، وَنَقْلِ الْآحَادِ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ فِي شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ " وَتَبِعَهُ الْجِيلِيُّ فِي الْإِعْجَازِ ": وَلَا يَلْزَمُ اللُّغَةَ إلَّا بِخَمْسِ شَرَائِطَ: أَحَدُهَا: ثُبُوتُ ذَلِكَ عَنْ الْعَرَبِ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ. وَالثَّانِي: عَدَالَةُ النَّاقِلِينَ كَمَا يُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُمْ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النَّقْلُ عَمَّنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ كَالْعَرَبِ الْعَارِبَةِ مِثْلِ قَحْطَانَ وَمَعْدٍ وَعَدْنَانَ، فَأَمَّا إذَا نَقَلُوا عَمَّنْ بَعْدَهُمْ بَعْدَ فَسَادِ لِسَانِهِمْ وَاخْتِلَافِ الْمُوَلَّدِينَ، فَلَا.

قُلْت: وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ الِاسْتِشْهَادُ بِشِعْرِ أَبِي تَمَّامٍ بَلْ فِي الْإِيضَاحِ " لِلْفَارِسِيِّ، وَوُجِّهَ بِأَنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِتَقْرِيرِ النَّقَلَةِ كَلَامَهُمْ وَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ قَوَانِينِ الْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: يُسْتَشْهَدُ بِشِعْرِ الْمُوَلَّدِينَ فِي الْمَعَانِي كَمَا يُسْتَشْهَدُ بِشِعْرِ الْعَرَبِ فِي الْأَلْفَاظِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ قَدْ سَمِعَ مِنْهُمْ حِسًّا، وَأَمَّا بِغَيْرِهِ فَلَا يَثْبُتُ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَسْمَعَ مِنْ النَّاقِلِ حِسًّا. اهـ. الثَّانِي: الْعَقْلُ: قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ لَا يُفِيدُ وَحْدَهُ، إذْ لَا مَجَالَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ. الثَّالِثُ: الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا كَمَا إذَا نَقَلَ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَتَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ، فَإِنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ ذَلِكَ وَأَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ لِلْعُمُومِ، وَهُوَ يُفِيدُ الْقَطْعَ إنْ كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهُ كُلُّهَا قَطْعِيَّةً، وَالظَّنَّ إنْ كَانَ مِنْهَا شَيْءٌ ظَنِّيٌّ. وَاعْتَرَضَ فِي الْمَحْصُولِ " بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ النَّقْلِيَّتَيْنِ عَلَى النَّتِيجَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّاقِضَةَ مَمْنُوعَةٌ عَلَى الْوَاضِعِ، وَهَذَا إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا قُلْنَا: إنَّ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ، إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّقْلِ أَنْ يَكُونَ النَّقْلُ مُسْتَقِلًّا بِالدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ مَدْخَلٍ لِلْعَقْلِ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صِدْقَ الْمُخَبِّرِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ عَقْلِيٌّ؟ وَقَدْ قَالَ سُلَيْمٌ فِي بَابِ الْمَفْهُومِ مِنْ التَّقْرِيبِ ": تَثْبُتُ اللُّغَةُ بِالْعَقْلِ، لِأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمَخَارِجِ كَلَامِهِمْ عَلَى مَقَاصِدِهِمْ وَمَوْضُوعَاتِهِمْ.

تَنْبِيهَانِ [التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ] قَدْ تُعْلَمُ اللُّغَةُ بِالْقَرَائِنِ قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ " مَنْ قَالَ: إنَّ اللُّغَةَ لَا تُعْرَفُ إلَّا نَقْلًا فَقَدْ أَخْطَأَ، فَإِنَّهَا قَدْ تُعْلَمُ بِالْقَرَائِنِ أَيْضًا، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا سَمِعَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: قَوْمٌ إذَا الشَّرُّ أَبَدًا نَاجِذَيْهِ لَهُمْ ... طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا يُعْلَمُ أَنَّ الزَّرَافَاتِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَاتِ. [التَّنْبِيهُ الثَّانِي] قَالَ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ فِي " شَرْحِ الْخُطَبِ النَّبَاتِيَّةِ ": اعْلَمْ أَنَّ اللُّغَوِيَّ شَأْنُهُ أَنْ يَنْقُلَ مَا نَطَقَتْ بِهِ الْعَرَبُ وَلَا يَتَعَدَّاهُ، وَأَمَّا النَّحْوِيُّ فَشَأْنُهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَنْقُلُهُ اللُّغَوِيُّ وَيَقِيسُ عَلَيْهِ، وَمِثَالُهُمَا الْمُحَدِّثُ وَالْفَقِيهُ، فَشَأْنُ الْمُحَدِّثِ نَقْلُ الْحَدِيثِ بِرُمَّتِهِ، ثُمَّ إنَّ الْفَقِيهَ يَتَلَقَّاهُ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ وَيَبْسُطُ عِلَلَهُ وَيَقِيسُ عَلَيْهِ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ جِنِّي: يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقِيسَ مَنْثُورَنَا عَلَى مَنْثُورِهِمْ وَشِعْرَنَا عَلَى شِعْرِهِمْ.

مسألة لسان العرب أوسع الألسنة

[مَسْأَلَةٌ لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ] قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ ": لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِهِ إلَّا نَبِيٌّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى عَامَّتِهَا، وَالْعِلْمُ بِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ كَالْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ، لَا نَعْلَمُ رَجُلًا جَمَعَ السُّنَنَ فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَتُوجَدُ مَجْمُوعَةً عِنْدَ جَمِيعِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيِّ ": قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: كَلَامُ الْعَرَبِ لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا نَبِيٌّ. قَالَ: وَهَذَا كَلَامٌ حَقِيقٌ أَنْ لَا يَكُونَ صَحِيحًا، وَمَا بَلَغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمَاضِينَ أَنَّهُ ادَّعَى حِفْظَ اللُّغَةِ كُلِّهَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْخَلِيلِ: هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَالْخَلِيلُ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ. قَالَ: وَذَهَبَ عُلَمَاؤُنَا أَوْ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّ الَّذِي انْتَهَى إلَيْنَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْأَقَلُّ، وَلَوْ جَاءَنَا جَمِيعُ مَا قَالُوهُ لَجَاءَ شِعْرٌ كَثِيرٌ، وَكَلَامٌ كَثِيرٌ وَأَحْرَى بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا.

مسألة الاحتجاج باللغة العربية

[مَسْأَلَةُ الِاحْتِجَاجُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ] الِاحْتِجَاجُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ] قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: لُغَةُ الْعَرَبِ يُحْتَجُّ بِهَا فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ إذَا كَانَ التَّنَازُعُ فِي اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ مِنْ سُنَنِهَا فِي حَقِيقَةٍ أَوْ مَجَازٍ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا مَا سَبِيلُهُ الِاسْتِنْبَاطُ، وَمَا فِيهِ لِدَلَائِلِ الْعَقْلِ مَجَالٌ، فَإِنَّ الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، وَأَمَّا خِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي الْقُرْءِ وَالْعَوْدِ فِي الظِّهَارِ وَنَحْوِهِ فَمِنْهُ مَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ فِيهِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ مَا يُوَكَّلُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ: وَيَقَعُ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ لُغَتَانِ كَالصِّرَامِ، وَثَلَاثٌ كَالزُّجَاجِ، وَأَرْبَعٌ كَالصَّدَاقِ، وَخَمْسٌ كَالشِّمَالِ، وَسِتٌّ كَالْقِسْطَاسِ وَلَا يَكُونُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. اهـ. قُلْت: وَهَذَا غَرِيبٌ، فَقَدْ حَكَوْا فِي الْأُصْبُعِ عَشْرَ لُغَاتٍ، وَكَذَا الْأُنْمُلَةُ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، وَقِيلَ: فِي " أُفٍّ " خَمْسُونَ لُغَةً.

مسألة ثبوت اللغة بالقياس

[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ] لَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ اللُّغَةِ بِالنَّقْلِ وَالتَّوْقِيفِ، وَهَلْ تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْأُصُولِيِّينَ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي "، وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ "، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ حَاتِمٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ اللَّامِعِ "، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ، وَنَقَلَهُ عَنْ مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَحْصُولِ " عَنْ مُعْظَمِ أَصْحَابِنَا وَعَنْ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْآمِدِيَّ وَابْنُ الْحَاجِبِ إلَّا أَنَّهُمَا وَهِمَا فِي النَّقْلِ عَنْ الْقَاضِي فَنَقَلَا عَنْهُ الْجَوَازَ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " إنَّمَا هُوَ الْمَنْعُ، وَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْمَازِرِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ جِنِّي وَابْنُ سِيدَهْ فِي كِتَابِ الْقَوَافِي " عَنْ النَّحْوِيِّينَ. قَالَ: لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ فَرَغَتْ مِنْ تَسْمِيَةِ الْأَشْيَاءِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْتَدِعَ

أَسْمَاءً، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُطْلِقَ الِاشْتِقَاقَ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، لِئَلَّا يَقَعَ اللَّبْسُ فِي اللُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْبَيَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ سَمَّوْا الزُّجَاجَةَ قَارُورَةً لِاسْتِقْرَارِ الشَّيْءِ فِيهَا، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُسَمِّيَ الْجُبَّ وَالْبَحْرَ قَارُورَةً لِاسْتِقْرَارِ الْمَاءِ فِيهِمَا. وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى الْجَوَازِ. قُلْت: مِنْهُمْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ التَّحْصِيلِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الشُّفْعَةِ: إنَّ الشَّرِيكَ جَارٍ، وَقَاسَهُ عَلَى تَسْمِيَةِ الْعَرَبِ امْرَأَةَ الرَّجُلِ جَارَهُ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، إذْ قَالَ: الشَّرِيكُ جَارٌ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ يُقَالُ: امْرَأَتُك أَقْرَبُ إلَيْك أَمْ جَارُك؟ وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ النَّحْوِيِّينَ، وَقَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": نَقَلَ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ " أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ كَالْمَازِنِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ. قَالَ: وَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْعَرُوضِيُّونَ مِنْ أَسْمَاءِ الْبُحُورِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ وَالنَّقْلِ لِمَا وَضَعَتْهُ الْعَرَبُ فِي أَوَّلِيَّةِ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ " أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ إلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ أَنَّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ قِيَاسًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ ": تَكَلَّمْت يَوْمًا مَعَ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَصَرْت الْقَوْلَ بِجَوَازِ

أَخْذِ الْأَسَامِي قِيَاسًا، فَقَالَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ ابْنَ دُرُسْتَوَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ رَجُلًا كَبِيرًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُتَّهَمُ فِي دِينِهِ فَقَالَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ: يَجُوزُ أَخْذُ الْأَسَامِي قِيَاسًا إذَا كَانَ مِمَّا يُقَاسُ عَلَيْهِ، فَمِمَّا أُخِذَ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ مَعْنًى فِيهِ مِثْلَ الْقَارُورَةِ تُسَمَّى قَارُورَةً، لِاسْتِقْرَارِ الْمَاءِ فِيهَا، فَلِكُلِّ مَا فِي مَعْنَاهَا يَكُونُ قَارُورَةً. قِيلَ: وَأَيْشِ يَقُولُ فِي الْجُبِّ يَسْتَقِرُّ الْمَاءُ فِيهِ؟ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى قَارُورَةً؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: فَمَا تَقُولُ فِي الْبَحْرِ وَالْحَوْضِ؟ فَالْتَزَمَ ذَلِكَ، وَرَكَّبَ الْبَابَ كُلَّهُ. فَاسْتَبْشَعُوا ذَلِكَ مِنْهُ، وَشَنَّعُوا عَلَيْهِ. فَقُلْت لِأَبِي الْحُسَيْنِ: أَيْشٍ إذَا أَخْطَأَ وَاحِدٌ فِي الْقِيَاسِ؟ بَلْ كَانَ مِنْ سَبِيلِهِ أَنْ يَحْتَرِزَ فِيهِ بِنَوْعٍ مِنْ الِاحْتِرَازِ بِأَنْ يَقُولَ: مَا يَسْتَقِرُّ الْمَاءُ فِيهِ وَيَخِفُّ عَلَى الْيَدِ وَنَحْوُهُ وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ اخْتَلَفُوا فِي الْوُقُوعِ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ إثْبَاتِ الْأَسَامِي شَرْعًا، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا لُغَةً، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَيُخَرَّجُ مِمَّا سَيَأْتِي فِي عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ، وَيَمْتَنِعُ فِيمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مَجَازًا احْتَجَّ الْمَانِعُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ: إلْحَاقُ مَسْكُوتٍ عَنْهُ بِمَنْطُوقٍ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ لُغَتِهَا، وَإِنْ أُرِيدَ إلْحَاقُهُ بِمَا نَطَقَتْ بِهِ، فَهُوَ وَضْعٌ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَتِهِمْ، فَلَا يَكُونُ مِنْ لُغَتِهِمْ. وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ فِي الِاشْتِقَاقِ وَالنَّحْوِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ النَّحْوِيَّ تَصَرُّفٌ فِي أَحْوَالِ الْكَلِمِ فَلَيْسَ وَضْعًا مُسْتَأْنَفًا بِخِلَافِ وَضْعِ ذَوَاتِ الْكَلِمِ، وَالْأَقْيِسَةُ النَّحْوِيَّةُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ،

بَلْ إمَّا مَنْطُوقٌ بِعَيْنِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ، وَمِنْ مُهِمَّاتِ هَذَا الْأَصْلِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ إلْحَاقُ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ فِي الِاسْمِ حَتَّى يُحْكَمَ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِالْقِيَاسِ اللُّغَوِيِّ، فَنَحْنُ نَحْكُمُ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِ النَّبِيذِ تَمَسُّكًا بِأَصْلِ الِاسْمِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهِ خَمْرًا، كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَهَمَتْ الْعَرَبُ مِنْهَا تَحْرِيمَ النَّبِيذِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ أَقْوَامًا أَرَاقُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ النَّبِيذِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَلَا اسْتِفْسَارٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ لُغَتِهِمْ وَاصْطِلَاحِهِمْ. ثُمَّ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَعَانِي الدَّائِرَةِ مَعَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِيهَا وُجُودًا وَعَدَمًا كَالْخَمْرِ اسْمٌ لِلْمُسْكِرِ الْمُعْتَصِرِ مِنْ الْعِنَبِ، لِيَصِحَّ الْإِلْحَاقُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وُضِعَ اسْمُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْأَعْلَامُ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَلَا يَجْرِي فِيهَا وِفَاقًا. قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " وَالْمَازِرِيُّ. قَالَ: وَالْمَعْنَى فِيهِ كَوْنُهَا غَيْرَ مُعَلَّلَةٍ فَهِيَ كَالْمَنْصُوصِ لَا تُعَلَّلُ. قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ الصَّادِرَةِ فِي مَعَانٍ مَعْقُولَةٍ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَى، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ دُونَ الْجَوَامِدِ وَأَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ، وَنَازَعَهُ الْمُقْتَرِحُ بِأَنَّ الْمُشْتَقَّةَ قَدْ نُقِلَ عَنْهَا فِي الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ طَرَدُوا فِيهِ الِاشْتِقَاقَ، وَقِسْمٌ: مَنَعُوهُ فِيهِ، وَقِسْمٌ: لَمْ يُعْلَمْ هَلْ طَرَدُوهُ أَوْ مَنَعُوهُ. قَالَ: وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ: أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا نِزَاعٌ، لِأَنَّا إذَا عَلِمْنَا الِاشْتِقَاقَ كَانَ هَذَا مَأْخُوذًا مِنْ اللَّفْظِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ عَلِمْنَا الْمَنْعَ مِنْ طَرْدِ الِاشْتِقَاقِ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ لِئَلَّا يُلْتَحَقَ بِلُغَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِيهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّا إذَا شَكَكْنَا فِي أَنَّهُمْ أَجَازُوا الِاطِّرَادَ أَوْ مَنَعُوهُ فَتَعَيَّنَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا السَّمْعُ، وَلَمْ يُنْقَلْ لَنَا عَنْ الْعَرَبِ مَنْعٌ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ مَا عُلِمَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَضَعُوهُ لِمَعْنًى يَشْمَلُ الْجُزَيْئَاتِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَلَا يَجْرِي أَيْضًا فِيمَا ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ إرَادَةٌ إلَى الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ نَصُّهُمْ أَنَّ الْمَوْضُوعَ هُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ. مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُنَا: رَجُلٌ، وَالثَّانِي قَوْلُنَا: الْفَاعِلُ مَرْفُوعٌ وَالْمَفْعُولُ مَنْصُوبٌ، بَلْ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا أَطْلَقُوا اسْمًا مُشْتَمِلًا عَلَى وَصْفٍ وَاعْتَقَدْنَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ فَأَرَدْنَا تَعَدِّيَةَ الِاسْمِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ، كَمَا إذَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْخَمْرِ بِاعْتِبَارِ التَّخْمِيرِ، فَعَدَّيْنَاهُ إلَى النَّبِيذِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إنَّ الْخِلَافَ لَا يَجْرِي فِيمَا ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ كَرَفْعِ الْفَاعِلِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ قَالَ: مَا طَرِيقُ اللُّغَةِ مِنْ اسْمٍ أَوْ إعْرَابٍ هَلْ يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى ثُبُوتِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ. اهـ. وَجَعَلَ فِي الْإِرْشَادِ " مَحَلَّ الْخِلَافِ مَا إذَا أُرِيدَ إلْحَاقُ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ بِقِيَاسٍ لُغَوِيٍّ أَوْ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ. قَالَ: فَإِنْ أُرِيدَ إلْحَاقُهُ بِهِ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ سَابِقَةٌ عَلَى الشَّرْعِ، فَلَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُهَا بِعِلَلٍ شَرْعِيَّةٍ. حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ". وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": يَمْتَنِعُ إثْبَاتُ الِاسْمِ اللُّغَوِيِّ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ، مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ فِيمَنْ وَطِئَ الْغُلَامَ أَنَّهُ يُسَمَّى زِنًى، لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي فَرْجٍ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ سَابِقَةٌ لِلشَّرْعِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ، وَإِنَّمَا الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ مِثْلُ تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ صَلَاةٌ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " تَحْرِيرُ النِّزَاعِ: أَنَّ صِيَغَ التَّصَارِيفِ عَلَى

الْقِيَاسِ ثَابِتٌ فِي كُلِّ مَصْدَرٍ نُقِلَ بِالِاتِّفَاقِ، إذْ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْقُولِ، وَتَبْدِيلُ الْعِبَارَاتِ مُمْتَنِعٌ بِالِاتِّفَاقِ كَتَسْمِيَةِ الْفَرَسِ دَارًا، وَالدَّارِ فَرَسًا. وَمَحَلُّ النِّزَاعِ فِي الْقِيَاسِ عَلَى عِبَارَةٍ تُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ حَائِدٌ عَنْ نَهْجِ الْقِيَاسِ كَقَوْلِهِمْ لِلْخَمْرِ: خَمْرٌ لِأَنَّهُ يُخَامِرُ الْعَقْلَ، فَهَلْ يُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْمُسْكِرَاتِ؟ جَوَّزَهُ الْأُسْتَاذُ، وَالْمُخْتَارُ: مَنْعُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي. اهـ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: الْقِيَاسُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى عِلَّةٍ، وَالْأَسْمَاءُ لَا قِيَاسَ لَهَا، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ كَالْحَدِّ لِلشَّيْءِ وَالْعِلْمِ عَلَيْهِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ يَصْلُحُ الْجَرْيُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى الِاشْتِقَاقِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ قَصْدُ الْقَصْرِ أَوْ التَّعَدِّيَةِ كَتَسْمِيَةِ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَمْرًا مِنْ الْمُخَامَرَةِ أَوْ التَّخْمِيرِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ "، أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ بِالْقِيَاسِ اللُّغَوِيِّ جَائِزٌ إذَا كَانَ الِاسْمُ اسْمَ مَعْنًى، وَكَانَ الْقِيَاسُ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ كَالِاشْتِقَاقِ، أَمَّا هَلْ يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ أَوْ لَا؟ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ إلَى الْجَوَازِ فَأَثْبَتُوا لِنَبِيذِ التَّمْرِ اسْمَ الْخَمْرِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، ثُمَّ أَوْجَبُوا الْحَدَّ بِشُرْبِهِ، وَأَثْبَتُوا لِفِعْلِ اللِّوَاطِ اسْمَ الزِّنَى بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، ثُمَّ أَوْجَبُوا حَدَّ الزِّنَى فِيهِمَا بِالنَّصِّ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اخْتِرَاعُ أَلْفَاظٍ مُبْتَكَرَةٍ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ مِمَّا لَمْ يَضَعُوا لَهُ اسْمًا وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ فِي وَقْتِهِمْ، فَلَنَا أَنْ نُسَمِّيَهُ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّتِهِ، فَقَالَ مَنْ جَوَّزَ أَخْذَ الْأَسَامِي قِيَاسًا: إنَّا نَقِيسُ مَا لَمْ نَعْرِفْهُ فَنَعْزِيهِ إلَى مَا يُشْبِهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ بِأَصْلِهَا.

وَقَالَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْهُ: إنَّا نُسَمِّيهِ بِمَا شِئْنَا لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا يُعَرَّبُ مِنْ كَلَامِ الْفَرَسِ لِلْحَاجَةِ. تَنْبِيهَانِ [التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ] [الْقِيَاسُ فِي الْمَجَازِ] الْخِلَافُ فِي الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ كَمَا يَجْرِي فِي الْحَقِيقَةِ فِي الْمَجَازِ أَيْضًا، وَأَشَارَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ إلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الْمَجَازِ بِلَا خِلَافٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنْعَ فِي الْقِيَاسِ فِي الْمَجَازِ لَا يُوقِعُ فِي ضَرُورَةٍ لِبَقَاءِ اسْمِ الْحَقِيقَةِ، وَلَوْ مَنَعْنَا الْقِيَاسَ فِي الْحَقِيقَةِ بَقِيَتْ بِغَيْرِ اسْمٍ، وَقَدْ يُحْتَاجُ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا فَيُوقِعُ مَنْعُ الْقِيَاسِ فِي ضَرَرٍ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ لَهُ فِي ذَاتٍ لَا اسْمٍ لَهَا أَصْلًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. [الْمَجَازُ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْحَقِيقَةِ] وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَجَازَ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْحَقِيقَةِ فَيَجِبُ تَمْيِيزُ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَنَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الْقِيَاسَ فِي الْمَجَازِ. قَالَ: فَلَا يُقَالُ: سَأَلْت الثَّوْبَ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِمْ سَأَلْت الرَّبْعَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْتِيبِ مِنْ " خِلَافِهِ ": أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْقِيَاسِ.

التَّنْبِيهُ الثَّانِي] قِيلَ: هَذَا الْخِلَافُ فِي نَفْسِ اللُّغَةِ. أَمَّا حُكْمُهَا فَلَا خِلَافَ فِيهِ كَقِيَاسِ النَّحْوِيِّ " إنَّ " النَّافِيَةِ فِي الْعَمَلِ عَلَى " مَا " النَّافِيَةِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا وَضْعًا عَلَى حَرْفَيْنِ كَنَفْيِ الْحَالِ، وَهَذَا عَجِيبٌ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي اللُّغَةِ، وَهِيَ غَيْرُ النَّحْوِ، وَكَيْفَ لَا يَثْبُتُ النَّحْوَ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَقَايِيسِ كَلَامِ الْعَرَبِ؟ قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: لَمَّا كَانَ كَلَامُ الْعَرَبِ لَا يُضْبَطُ بِالْحِفْظِ انْتَدَبَ لَهُ الْأَئِمَّةُ، وَوَضَعُوا لَهُ قَوَانِينَ يُعْلَمُ بِهَا كَلَامُهُمْ، فَصَارَ النَّوْعُ الَّذِي يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالنَّحْوِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَالنَّوْعُ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ، هُوَ اللُّغَةُ، وَيَسْتَوِي فِي حَمْلِهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، لِأَنَّهُ قَيْدُ اللَّفْظِ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ: قَالَ لِي أَبُو عَلِيٍّ: وَلِأَنَّ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً مِنْ الْقِيَاسِ أَنْبَهُ وَأَنْبَلُ مِنْ كِتَابِ لُغَةٍ عِنْدَ عُيُونِ النَّاسِ، وَقَالَ لِي أَيْضًا: أَخْطَأُ فِي خَمْسِينَ مَسْأَلَةً مِنْ اللُّغَةِ، وَلَا أَخْطَأُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِيَاسِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَصَدَقَ، لِأَنَّهُ بِالْقِيَاسِ ضُبِطَ كَلَامُهُمْ، وَجَمَعُوا الْكَثِيرَ الَّذِي لَا يَضْبِطُهُ الْحِفْظُ الْقَلِيلُ بِالْقِيَاسِ، وَاسْتَغْنَوْا بِهِ عَنْ حِفْظِ مَا لَا يَنْحَصِرُ إذْ فَاتَهُمْ الْأَصْلُ عَنْ الْعَرَبِ. اهـ.

مسألة تغيير الألفاظ اللغوية

[مَسْأَلَةٌ تَغْيِيرُ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ] حَكَى بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ مِنْ شَارِحِي الْبُرْهَانِ: أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَلْفَاظَ اللُّغَوِيَّةَ هَلْ يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا حَتَّى يُسَمَّى الثَّوْبُ دَارًا مَثَلًا؟ قَالَ: فَاَلَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ إذْ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْحُكْمِ، وَمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ، فَإِنْ كَانَ تَوْقِيفِيًّا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ وَكَانَ التَّوْقِيفُ حُكْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ التَّغْيِيرَ، وَقَالَ: إمْكَانُ الْحُكْمِ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ بِالْخِطَابِ وَالْعِلْمِ بِهِ عِنْدَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي فَوَائِدِ الْخِلَافِ فِي أَنَّ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ أَمْ لَا؟ [ثُبُوتُ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ بِالِاجْتِهَادِ] مَسْأَلَةٌ [ثُبُوتُ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ بِالِاجْتِهَادِ] هَذَا فِي الِاسْمِ اللُّغَوِيِّ فَأَمَّا فِي الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ فَكَمَا يَثْبُتُ بِالتَّوْقِيفِ يَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ تَبِعَهُ الِاسْمُ كَمَا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الرِّبَا فِي الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ، ثُمَّ أَلْحَقَ الْعُلَمَاءُ غَيْرَهَا بِهَا بِالِاجْتِهَادِ، وَثَبَتَ بِذَلِكَ اسْمُ الرِّبَا. قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ السَّلَمِ مِنْ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْأَوْسَطِ.

المناسبة في الوضع

[الْمُنَاسَبَةُ فِي الْوَضْعِ] الثَّامِنُ: فِي عَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَضْعِ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى لَيْسَتْ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، بَلْ لِأَنَّهُ جُعِلَ عَلَامَةً عَلَيْهِ، وَمُعَرَّفًا بِهِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ. وَذَهَبَ عَبَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى لِمُنَاسَبَةٍ طَبِيعِيَّةٍ بَيْنَهُمَا. وَعَبَّرَ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ عَنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّ اللُّغَاتِ الْمَوْضُوعَةَ لِمَعَانِيهَا هَلْ هُوَ لِأَمْرٍ مَعْقُولٍ أَوْ لَا؟ وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ عَبَّادٍ، ثُمَّ نَقَلَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ " عَنْهُ أَنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ الْمَعْنَى بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ وَاضِعٍ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ الطَّبِيعِيَّةِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْأَحْكَامِ " عَنْهُ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ حَامِلَةٌ لِلْوَاضِعِ عَلَى أَنْ يَضَعَ. وَفَصَّلَ الزَّجَّاجِيُّ بَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَلْقَابِ وَغَيْرِهَا، فَقَالَ: وَاضِعُ اللُّغَةِ أَجْرَى اللَّفْظَ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا لَمَعَانٍ تَتَضَمَّنَهَا أَسْمَاءُ الْأَلْقَابِ، فَإِنَّ قَوْلَنَا " زَيْدٌ " وَإِنْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الزِّيَادَةِ، فَلَيْسَ بِجَارٍ عَلَى مُسَمَّاهَا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا تَعْرِيفُ شَخْصٍ مِنْ شَخْصٍ حَكَاهُ عَنْهُ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ "

عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] وَهَذَا الْمَذْهَبُ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ لَوْ لَمْ تَدُلَّ بِالْوَضْعِ، وَإِنَّمَا دَلَّتْ بِذَوَاتِهَا لَكَانَتْ كَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَلَا تَخْتَلِفُ بِالْأَعْصَارِ وَالْأُمَمِ، وَالِاخْتِلَافُ مَوْجُودٌ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَاشْتَرَكَ فِيهِ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعَقْلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقْطَعُ بِصِحَّةِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِلشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ وَضِدِّهِ، وَنَقْطَعُ بِوُقُوعِ اللَّفْظِ عَلَى الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ، كَالْقُرْءِ الْوَاقِعِ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالْجَوْرِ الْوَاقِعِ عَلَى الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ، فَلَوْ كَانَتْ الدَّلَالَةُ لِمُنَاسَبَةٍ لَزِمَ أَنْ يُنَاسِبَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ النَّقِيضَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ بِالطَّبْعِ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَلَا يَصِحُّ وَضْعُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ لَهُمَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِصِحَّةِ وَضْعِهِ لَهُمَا بَلْ بِوُقُوعِهِ. قَالَ السَّكَّاكِيُّ: هَذَا الْمَذْهَبُ مُتَأَوَّلٌ عَلَى أَنَّ لِلْحُرُوفِ خَوَاصَّ تُنَاسِبُ مَعْنَاهَا مِنْ شِدَّةٍ وَضَعْفٍ وَغَيْرِهِ كَالْجَهْرِ وَالْهَمْسِ وَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمَا، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَتِلْكَ الْخَوَاصُّ تَسْتَدْعِي عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِهَا إذَا أَخَذَ فِي تَعْيِينِ شَيْءٍ مِنْهَا لِمَعْنًى لَا يُهْمِلُ التَّنَاسُبَ بَيْنَهُمَا قَضَاءً لِحَقِّ الْكَلِمِ كَمَا تَرَى فِي الْفَصْمِ بِالْفَاءِ الَّذِي هُوَ حَرْفٌ رِخْوٌ لِكَسْرِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبِينَ، وَالْقَصْمُ بِالْقَافِ الَّذِي هُوَ حَرْفٌ شَدِيدٌ لِكَسْرِ الشَّيْءِ حَتَّى يَبِينَ، وَفِي الزَّفِيرِ لِصَوْتِ الْحِمَارِ، وَالزَّئِيرِ بِالْهَمْزِ الَّذِي هُوَ شَدِيدٌ لِصَوْتِ الْأَسَدِ، وَأَنَّ الْمُرَكَّبَاتِ " كَالْفَعَلَانِ " وَ " الْفَعَلَى " - بِالتَّحْرِيكِ - كَالنَّزَوَانِ وَالْحَيَدَى، وَ " فَعُلَ " - بِضَمِّ

الْعَيْنِ كَطَرُفَ وَشَرُفَ وَغَيْرِ ذَلِكَ خَوَاصٌّ أَيْضًا، فَيَلْزَمُ فِيهَا مَا يَلْزَمُ فِي الْحُرُوفِ مِنْ اخْتِصَاصِ بَعْضِ الْمُرَكَّبَاتِ بِبَعْضِ الْمَعَانِي دُونَ بَعْضٍ كَاخْتِصَاصِ " الْفَعَلَانِ " وَ " الْفَعَلَى بِالْمُتَحَرِّكَاتِ، وَاخْتِصَاصِ " فَعُلَ " بِأَفْعَالِ الطَّبَائِعِ، وَفِي أَنَّ لِلْحُرُوفِ وَالْمُرَكَّبَاتِ خَوَاصَّ نَوْعُ تَأْثِيرٍ لَا نَفْسُ الْكَلِمَةِ فِي اخْتِصَاصِهَا بِالْمَعَانِي. هَذَا حَاصِلُ تَأْوِيلِهِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ إنْ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عِلَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِذَاتِهَا هَذِهِ الْمَعَانِي فَخَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ بَيْنَ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ وَمَعَانِيهَا تَنَاسُبًا مِنْ وَجْهٍ مَا لِأَجْلِهَا حَتَّى جَعَلَ هَذِهِ الْحُرُوفَ دَالَّةً عَلَى الْمَعْنَى دُونَ غَيْرِهِ كَمَا يَقُولُ الْمُعَلِّلُونَ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ: إنَّ بَيْنَ عِلَلِهَا وَأَحْكَامِهَا مُنَاسَبَاتٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لَهَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ، فَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَرْبَابِ عِلْمِ الْحُرُوفِ، إذْ زَعَمُوا أَنَّ لِلْحُرُوفِ طَبَائِعَ فِي طَبَقَاتٍ مِنْ حَرَارَةٍ وَبُرُودَةٍ وَرُطُوبَةٍ وَيُبُوسَةٍ تُنَاسِبُ أَنْ يُوضَعَ لِكُلِّ مُسَمًّى مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ طَبِيعَةِ تِلْكَ الْحُرُوفِ، لِيُطَابِقَ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ يَزْعُمُ الْمُنَجِّمُونَ أَنَّ حُرُوفَ اسْمِ الشَّخْصِ مَعَ اسْمِ أُمِّهِ وَاسْمِ أَبِيهِ تَدُلُّ عَلَى أَحْوَالِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنْ عَنَى عَبَّادٌ هَذَا فَالْبَحْثُ مَعَهُ وَمَعَ هَؤُلَاءِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ بِمَا يَرُدُّ مَذْهَبَ الطَّبَائِعِيِّينَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَلَا يَنْفَعُ مَا رَدُّوا بِهِ مِنْ وَضْعِ اللَّفْظِ لِلضِّدَّيْنِ، لِأَنَّهَا مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ [ابْنُ الْحُوبِيِّ] : هَلْ لِلْحُرُوفِ فِي الْكَلِمَاتِ خَوَاصٌّ أَوْ وُضِعَتْ الْكَلِمَاتُ لِمَعَانِيهَا اتِّفَاقًا؟ فَوُضِعَ الْبَابُ لِمَعْنًى وَالنَّابُ لِآخَرَ، وَكَانَ مِنْ الْجَائِزِ وَضْعُ الْبَابِ لِمَعْنَى النَّابِ وَبِالْعَكْسِ. فَنَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تُعَلَّلُ وَلَا يُقَالُ: لِمَ قِيلَ لِهَذَا الْمَعْنَى بَابٌ وَلِذَلِكَ جِدَارٌ؟

قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ الْحُرُوفِ مَا هُوَ مُسْتَحْسَنٌ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْمُسْتَحْسَنُ إذَا ضُمَّ إلَيْهِ مُسْتَقْبَحٌ لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا، غَيْرَ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ كُلِّ لَفْظٍ وَمَعْنَاهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُمْكِنُ وَتَفْوِيتٌ لِلزَّمَانِ، فَإِنْ اُتُّفِقَ فِي بَعْضِهَا أَنْ وَقَعَ فِي الذِّهْنِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ قِيلَ بِهِ، كَمَا يَقُولُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ كَيْفَ جُعِلَ فِي الشِّدَّةِ الْحَرْفُ الشَّدِيدُ وَهُوَ الدَّالُ مُضَاعَفًا؟ وَالرَّخَاءُ كَيْفَ جِيءَ فِيهِ بِالْحُرُوفِ الرِّخْوَةِ؟ قَالَ: وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي اخْتِيَارِهِ أَحَدُ الرَّافِعِينَ بِحَاجَتِهِ وُجُودُ مُرَجِّحٍ؟ وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، فَالْجَائِعُ يَكُونُ أَكْلُهُ لِعِلَّةِ الشِّبَعِ، أَمَّا اخْتِيَارُهُ أَحَدَ الرَّغِيفَيْنِ لِشِبَعِهِ بَدَلًا عَنْ الْآخَرِ لَا يَكُونُ لِعِلَّةٍ، فَالْوَضْعُ لِحِكْمَةٍ، وَإِنَّمَا وُضِعَ الْبَابُ بِخُصُوصِهِ لِمَعْنَاهُ فَلَا سَبَبَ لَهُ. قُلْت: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ مَا إذَا تَعَارَضَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَالْعُرْفِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ: اعْتِبَارُ الْعُرْفِ، وَوَجَّهَهُ الْإِمَامُ بِأَنَّ الْعِبَارَاتِ لَا تُغْنِي لِأَعْيَانِهَا، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمَارَاتٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَعَانِي الْمَطْلُوبَةِ.

تقسيم الألفاظ تقسيم الدلالة

[تَقْسِيمُ الْأَلْفَاظِ تَقْسِيمُ الدَّلَالَةِ] الْأَوَّلُ: فِي تَقْسِيمِ الدَّلَالَةِ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَوْنُ اللَّفْظِ بِحَيْثُ إذَا أُطْلِقَ فَهِمَ مِنْهُ الْمَعْنَى مَنْ كَانَ عَالِمًا بِوَضْعِهِ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ سِينَا: إنَّهَا نَفْسُ الْفَهْمِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الدَّلَالَةَ نِسْبَةٌ مَخْصُوصَةٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَمَعْنَاهَا مُوجِبِيَّتُهُ تَخَيُّلَ اللَّفْظِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ فَهْمِ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَالْعِلَّةُ غَيْرُ الْمَعْلُولِ، فَإِذَا كَانَتْ الدَّلَالَةُ غَيْرَ فَهْمِ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ لَمْ يَجُزْ تَفْسِيرُهَا بِهِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ التَّعْلِيلَ قَدْ يَكُونُ مَعَ الِاتِّحَادِ كَمَا فِي كُلِّ حَدٍّ مَعَ مَحْدُودِهِ نَحْوَ هَذَا إنْسَانٌ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ. وَرَجَّحَ آخَرُونَ التَّفْسِيرَ الثَّانِيَ بِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَارَ بَيْنَ مُخَاطَبَيْنِ، وَحَصَلَ فَهْمُ السَّامِعِ مِنْهُ قِيلَ: هُوَ لَفْظُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ قِيلَ: لَيْسَ بِذَلِكَ، فَقَدْ دَارَ لَفْظُ الدَّلَالَةِ مَعَ الْفَهْمِ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسَمَّى الدَّلَالَةِ. وَيَتَلَخَّصُ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ خِلَافٌ آخَرُ فِي أَنَّ، الدَّلَالَةَ صِفَةٌ لِلسَّامِعِ أَوْ اللَّفْظِ؟ وَالصَّحِيحُ الثَّانِي. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ ابْنِ سِينَا عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِالْفَهْمِ الْإِفْهَامُ، وَلَا يَبْقَى خِلَافٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْفَهْمَ صِفَةُ السَّامِعِ،

دلالة المطابقة والتضمن والالتزام

وَالْإِفْهَامُ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ صِفَةُ اللَّفْظِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَهَذِهِ دَلَالَةٌ بِالْقُوَّةِ. أَمَّا الدَّلَالَةُ بِالْفِعْلِ فَهِيَ إفَادَتُهُ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعَ لَهُ. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ فِيهِ شُرُوطًا ثَلَاثَةً: أَنْ لَا يَبْتَدِئَهُ بِمَا يُخَالِفُهُ، وَلَا يَخْتِمَهُ بِمَا يُخَالِفُهُ، وَأَنْ يَصْدُرَ عَنْ قَصْدٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِكَلَامِ السَّاهِي النَّائِمِ، وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا: أَنْ يُجْعَلَ سُكُوتُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى كَلَامِهِ كَالْجُزْءِ مِنْ اللَّفْظِ، وَيُلْتَحَقُ بِالْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ، وَهِيَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ الدَّلَالَةِ بِاللَّفْظِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ بِاللَّفْظِ هِيَ الِاسْتِدْلَال بِهِ، هُوَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، فَهُوَ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ، وَالدَّلَالَةُ صِفَةُ اللَّفْظِ أَوْ السَّامِعِ، وَقَدْ أَطْنَبَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِمَا حَاصِلُهُ هَذَا. وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى لَفْظِيَّةٍ وَغَيْرِ لَفْظِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ قَدْ تَكُونُ وَضْعِيَّةً كَدَلَالَةِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ، وَعَقْلِيَّةً كَدَلَالَةِ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ كَدَلَالَةِ الدُّخَانِ عَلَى النَّارِ وَبِالْعَكْسِ. [دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ] وَالْأَوَّلُ: أَعْنِي اللَّفْظِيَّةَ تَنْقَسِمُ إلَى عَقْلِيَّةٍ كَدَلَالَةِ الصَّوْتِ عَلَى حَيَاةِ صَاحِبِهِ، وَطَبِيعِيَّةٍ كَدَلَالَةِ " أَحْ " عَلَى وَجَعٍ فِي الصَّدْرِ، وَوَضْعِيَّةٍ وَتَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةٍ: الْمُطَابَقَةُ وَالتَّضَمُّنُ وَالِالْتِزَامُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا. وَالْأَوَّلُ: الْمُطَابَقَةُ كَدَلَالَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ كَدَلَالَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَيَوَانِ وَحْدَهُ أَوْ النَّاطِقِ وَحْدَهُ، وَكَدَلَالَةِ النَّوْعِ عَلَى الْجِنْسِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْ مُسَمَّاهُ وَهِيَ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ لَهُ كَدَلَالَتِهِ عَلَى الْكَاتِبِ أَوْ الضَّاحِكِ، وَدَلَالَةِ الْفَصْلِ عَلَى الْجِنْسِ، وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ تَعَرَّفَ حَدُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا

وَقَدْ اجْتَمَعَتْ الدَّلَالَةُ فِي لَفْظِ الْعَشَرَةِ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْأَفْرَادِ مُطَابِقَةً عَلَى الْخَمْسَةِ تَضَمُّنًا وَعَلَى الزَّوْجِيَّةِ الْتِزَامًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْحَصْرِ: أَنَّ الْمَعْنَى مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَ سَمَاعِهِ إمَّا وَحْدَهُ كَمَا فِي الْمُطَابَقَةِ، وَإِمَّا مَعَ الْقَرِينَةِ كَمَا فِي التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ، فَلَوْ فُهِمَ مِنْهُ مَعْنًى عِنْدَ سَمَاعِهِ لَيْسَ هُوَ مَوْضُوعُهُ، وَلَا جُزْءُ مَوْضُوعِهِ، وَلَا لَازِمُهُ لَزِمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، لِأَنَّ نِسْبَةَ ذَلِكَ اللَّفْظِ إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى كَنِسْبَتِهِ إلَى سَائِرِ الْمَعَانِي، فَفَهْمُهُ دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ. وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ] أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ قَيَّدَ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ بِقَوْلِهِ: " مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ " وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْجُزْءِ أَوْ اللَّازِمِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ أَوْ بَيْنَ الْكُلِّ وَاللَّازِمِ، وَيُمَثِّلُونَهُ بِلَفْظِ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْإِمْكَانِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَالْعَامُّ جُزْءُ الْخَاصِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْمَنْطِقِ مِنْ أَنَّ الْمُمْكِنَ الْعَامَّ فِي مُقَابَلَةِ الْمُمْتَنِعِ، فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ وَعَلَى مَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ وَلَا وَاجِبٍ الَّذِي هُوَ الْمُمْكِنُ الْخَاصُّ، فَهُوَ حِينَئِذٍ مَوْضُوعٌ لِلْكُلِّ وَالْجُزْءِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَفِي النَّفْسِ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ شَيْءٌ فَلَعَلَّهُ مَا وُضِعَ لِذَلِكَ، بَلْ مَجْمُوعُ قَوْلِنَا: إمْكَانُ عَامٍّ لَا أَحَدُهُمَا، وَمَجْمُوعُ قَوْلِنَا: إمْكَانُ خَاصٍّ لَا قَوْلِنَا إمْكَانٌ فَقَطْ، فَلَا اشْتِرَاكَ حِينَئِذٍ. قَالَ: وَأَخَذَ التَّمْثِيلَ بِأَحْسَنَ

مِنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْحَرْفِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِكُلِّ حُرُوفِ الْمَعَانِي وَلِجُزْئِهِ، فَإِنَّ " لَيْتَ " مَثَلًا حَرْفٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّامِ وَالْيَاءِ التَّاءِ يُقَالُ لَهُ: حَرْفٌ فَهَذَا هُوَ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمُسَمَّى وَجُزْئِهِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اللَّفْظِ وَلَازِمِهِ فَهُوَ عَسِرٌ. مَعَ إمْكَانِهِ. انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُمَثَّلَ لَهُ بِلَفْظِ " مَفْعَلُ " فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ نَقَلُوا أَنَّهُ اسْمٌ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمَصْدَرِ، وَهِيَ مُتَلَازِمَةٌ عَادَةً فَيَكُونُ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِلشَّيْءِ وَلَازِمِهِ، إذْ لَا فِعْلَ إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان عَادَةً، وَمِثْلُهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ " بِفَعِيلٍ " الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، كَالرَّحِيمِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَرْحُومِ كَمَا يَكُونُ بِمَعْنَى الرَّاحِمِ نَصَّ عَلَيْهِ الْجَوْهَرِيُّ، هُوَ إذَا دَلَّ عَلَى أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ دَلَّ عَلَى الْآخَرِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، لِكَوْنِهِ لَازِمًا لَهُ، وَهُوَ أَيْضًا تَمَامُ مُسَمَّاهُ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ دَلَالَةَ الْمُطَابَقَةِ، فَلَمْ يَكُنْ التَّعْرِيفُ مَانِعًا. إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى الْقَيْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ أَيْضًا فِي الْمُطَابَقَةِ احْتِرَازًا عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ، وَبَيْنَ الْكُلِّ وَاللَّازِمِ عَلَى الْجُزْءِ أَوْ اللَّازِمِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ أَوْ الِالْتِزَامِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الدَّلَالَتَيْنِ حِينَئِذٍ دَلَالَةٌ عَلَى تَمَامِ الْمُسَمَّى، وَلَيْسَتْ مُطَابَقَةً. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِيهَا، لِأَنَّ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُمَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمُطَابِقَةِ، لِكَوْنِهِمَا تَابِعَيْنِ لَهَا، فَلَوْ جُعِلَ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ جُزْءًا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُطَابَقَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ قَبْلَ الْمُطَابَقَةِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَعْلُومًا قَبْلَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَهُوَ مُحَالٌ. قَالَ: وَلَا يَخْفَى عَلَيْك مَا فِيهِ. وَبَعْضُهُمْ حَذَفَ الْقَيْدَ الْمَذْكُورَ فِي الثَّلَاثِ اعْتِبَارًا بِقَرِينَةِ ذِكْرِ التَّمَامِ وَالْجُزْءِ

وَاللَّازِمِ، وَصَاحِبُ " التَّحْصِيلِ " ذَكَرَهُ فِي الثَّلَاثِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهُوَ قَيْدٌ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ الْإِمَامَ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى الْمُتَقَدِّمُونَ بِقَرِينَةِ التَّمَامِيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ وَاللَّازِمِيَّةِ، فَيُقَالُ لِلْإِمَامِ: إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقَرَائِنُ كَافِيَةً فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَيْدِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ الِاحْتِيَاجُ إلَيْهِ فِي الثَّلَاثِ، فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ؟ فَإِنَّا نَقُولُ فِي الْمُطَابَقَةِ: كَمَا يُمْكِنُ وَضْعُ الْعَشَرَةِ لِلْخَمْسَةِ، يُمْكِنُ وَضْعُهَا لِلْخَمْسَةِ عَشَرَ، فَيَصِيرُ لَهُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ دَلَالَتَانِ مُطَابِقَةٌ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَتَضَمُّنٌ بِاعْتِبَارِ الثَّانِي. انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ مَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِالْمُطَابَقَةِ مَعَ التَّضَمُّنِ أَوْ الِالْتِزَامِ، لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَعْنَى بِالْمُطَابَقَةِ بِالذَّاتِ وَبِهِمَا بِالْوَاسِطَةِ وَمِنْ الْمُحَالِ اجْتِمَاعُ دَلَالَتَيْ الذَّاتِ وَالْوَاسِطَةِ، وَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعَا كَانَ اللَّفْظُ فِي حَالِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ دَلَالَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْمُطَابَقَةُ، لِأَنَّهَا أَقْوَى فَتَدْفَعُ الْأَضْعَفَ. وَإِذَا صَحَّتْ لَك هَذِهِ الْقَاعِدَةُ صَحَّ مَا قَالَهُ، وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَذْكُرَ الْقَيْدُ بِالْحَيْثِيَّةِ فِي دَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ، لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ، وَلَيْسَ لِلَّفْظِ إلَّا دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ فَقَطْ لَا التَّضَمُّنُ وَالِالْتِزَامُ، فَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا فِي دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ فَاحْتَاجَ إلَى ذِكْرِ الْحَيْثِيَّةِ، وَإِلَّا كَانَ يَلْزَمُهُ أَنَّ دَلَالَةَ الْمُطَابَقَةِ عَلَى الْجُزْءِ دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ فِي صُورَةِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ اللَّفْظَ إذْ دَلَّ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى الْجُزْءِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ فَقَدْ دَلَّ عَلَى جُزْءِ الْمُسَمَّى دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ فَدَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ، دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ هَذَا خُلْفٌ، وَلَا يَلْزَمُ هَذَا عَلَى إطْلَاقِ دَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ.

أقسام اللازم

وَلِلْبَحْثِ فِيهِ مَحَالٌّ، فَقَدْ نَازَعَ بَعْضُهُمْ الْإِمَامَ فِي هَذَا التَّقْيِيدِ، وَقَالَ: اللَّفْظُ إذَا أُطْلِقَ عَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّ التَّضَمُّنَ لِلْجُزْءِ ثَابِتٌ عِنْدَ مُرَادِ الْمُطْلَقِ الْمَعْنَى الْمُرَكَّبَ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَغَيْرَهُ، فَإِنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ هُوَ جُمْلَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَجْزَاءٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إنَّمَا فُهِمَ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِلْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَعْمِلِ أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ اللَّفْظَ أَيْضًا عَلَى الْجُزْءِ، وَلَكِنْ عِنْدَ دَلَالَتِهِ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ عَلَى ذَلِكَ الْجُزْءِ لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، بَلْ مُسْتَقِلًّا، وَنَحْنُ لَا نُرِيدُ بِدَلَالَةِ التَّضَمُّنِ إلَّا أَنْ يُفْهَمَ الْجُزْءُ تَضَمُّنًا، وَيَكُونُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَا تَكُونُ الدَّلَالَةُ لَفْظِيَّةً لَكِنْ تَبَعِيَّةً، فَإِذَا اسْتَقَلَّتْ خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا تَضَمُّنًا، وَلَمْ يَبْقَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَحِينَئِذٍ فَالْقَيْدُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ. [أَقْسَامُ اللَّازِمِ] [التَّنْبِيهُ الثَّانِي] [أَقْسَامُ اللَّازِمِ] إنَّ اللَّازِمَ عَلَى قِسْمَيْنِ: لَازِمٌ فِي الذِّهْنِ بِمَعْنَى أَنَّ الذِّهْنَ يُنْتَقَلُ إلَيْهِ عِنْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى، وَيَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِ الشَّيْءِ تَصَوُّرُهُ، كَالْفَرْدِيَّةِ لِلثَّلَاثَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ لِلْأَرْبَعَةِ سَوَاءٌ كَانَ لَازِمًا فِي الْخَارِجِ أَيْضًا، كَالسَّرِيرِ فِي الِارْتِفَاعِ مِنْ الْأَرْضِ، إذْ السَّرِيرُ كُلَّمَا وُجِدَ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ مُرْتَفِعٌ، وَمَهْمَا تُصَوِّرَ فِي الذِّهْنِ فَهُوَ مُرْتَفِعٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ كَالسَّوَادِ إذَا أُخِذَ بِقَيْدِ كَوْنِهِ ضِدًّا لِلْبَيَاضِ، فَإِنَّ تَصَوُّرَهُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ يَلْزَمُهُ تَصَوُّرُ الْبَيَاضِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي الذِّهْنِ مُتَنَافِيَانِ فِي الْخَارِجِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي اللَّازِمِ الْخَارِجِيِّ فَقَطْ كَالسَّرِيرِ مَعَ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّهُ مَهْمَا وُجِدَ السَّرِيرُ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ مُمْكِنٌ ضَرُورَةً، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ السَّرِيرُ وَيُذْهَلُ عَنْ إمْكَانِهِ، فَافْهَمْ هَذَا التَّقْرِيرَ فَإِنَّهُ الصَّوَابُ، وَفِي عِبَارَاتِهِمْ إيهَامٌ، وَاللَّازِمُ الثَّانِي فِي الْوُجُودِ وَهُوَ كَوْنُ الْمُسَمَّى بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِهِ فِي الْخَارِجِ حُصُولُ الْخَارِجِيِّ فِيهِ.

إذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ اللُّزُومُ الذِّهْنِيُّ، سَوَاءٌ كَانَ فِي ذِهْنِ كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْمُتَقَابِلَيْنِ، أَوْ عِنْدَ الْعَالِمِ بِالْوَضْعِ، وَزَادَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: " ظَاهِرًا " لِأَنَّ الْقَطْعِيَّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ إطْلَاقُ اسْمِ الْيَدِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الْيَدَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْقُدْرَةَ قَطْعًا، لِأَنَّ الْيَدَ تَكُونُ شَلَّاءَ بَلْ ظَاهِرًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُ السَّكَّاكِيِّ فِي الْمِفْتَاحِ ": الْمُرَادُ بِاللُّزُومِ الذِّهْنِيِّ الْبَيِّنُ الْقَرِينَةِ بِحَيْثُ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْ فَهْمِهِ إلَى فَهْمِهِ، كَالشَّجَاعَةِ لِلْأَسَدِ، فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ ظَاهِرَةٌ يَصِحُّ إطْلَاقُ الْأَسَدِ لِإِرَادَتِهَا بِخِلَافِ الْبَخَرِ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لِلْأَسَدِ لَا أَنَّهُ أَخْفَى، فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْأَسَدِ لِإِرَادَتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي اللَّازِمِ الْخَارِجِيِّ هَلْ يُعْتَبَرُ فِي دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ إلَى اعْتِبَارِهِ، فَيَسْتَدِلُّونَ بِاللَّفْظِ عَلَى كُلِّ مَا يَلْزَمُ الْمُسَمَّى ذِهْنِيًّا أَوْ خَارِجِيًّا، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَذَهَبَ الْمَنْطِقِيُّونَ وَوَافَقَهُمْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِحُصُولِ الْفَهْمِ بِدُونِهِ كَمَا فِي الضِّدَّيْنِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ فَهْمٌ فَلَا دَلَالَةَ، وَيَرِدُ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعُ الْمَجَازَاتِ. وَالْحَقُّ: الْتِفَاتُ هَذَا الْخِلَافِ عَلَى أَصْلٍ سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ الدَّلَالَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنَّهُ مَهْمَا سُمِعَ اللَّفْظُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ فُهِمَ الْمَعْنَى أَمْ لَا، بَلْ يَكْفِي الْفَهْمُ فِي الْجُمْلَةِ؟ وَبِهِ يَظْهَرُ رُجْحَانُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ، بَلْ قَدْ تَوَسَّعَ الْبَيَانِيُّونَ فَأَجْرَوْهَا فِيمَا لَا لُزُومَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا، لَكِنَّ الْقَرَائِنَ الْخَارِجِيَّةَ

الملازمة الذهنية شرط في الدلالة الالتزامية

اسْتَلْزَمَتْهُ، وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهَا الْوُضُوحُ وَالْخَفَاءُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَوْسَعُهَا الثَّالِثُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ بِأَنَّ الْجَوْهَرَ وَالْعَرَضَ مُتَلَازِمَانِ فِي الْخَارِجِ، وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ بِالِالْتِزَامِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى غَيْرُ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْجَوْهَرِ فِي الْعَرَضِ وَعَكْسِهِ انْتِفَاءُ دَلَالَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالِالْتِزَامِ، إذْ لَيْسَ الِاسْتِعْمَالُ نَفْسَ الدَّلَالَةِ وَلَا لَازِمَهَا كَمَا فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ لَزِمَ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُجُودِ اللُّزُومِ الْخَارِجِيِّ بِدُونِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عَدَمُ كَوْنِهِ شَرْطًا لَهَا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا أَوْ لَازِمًا أَعَمَّ. وَالْعَجَبُ مِنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ صَرَّحَ عَقِيبَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللُّزُومَ الذِّهْنِيَّ شَرْطٌ لَا مُوجِبٌ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اللُّزُومُ الْخَارِجِيُّ مُعْتَبَرًا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ اسْتَدَلَّ بِوُجُودِهِ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِبَارِ؟ [الْمُلَازَمَةُ الذِّهْنِيَّةُ شَرْطٌ فِي الدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ] [التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ] [الْمُلَازَمَةُ الذِّهْنِيَّةُ شَرْطٌ فِي الدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ] إذَا شَرَطْنَا الْمُلَازَمَةَ الذِّهْنِيَّةَ فَهِيَ شَرْطٌ فِي الدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ، وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ سَبَبٌ، لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: هَذَا اللَّازِمُ شَرْطٌ لَا سَبَبٌ، يَعْنِي أَنَّ مُجَرَّدَ اللُّزُومِ مِنْ غَيْرِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ لَيْسَ بِسَبَبٍ فِي حُصُولِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، بَلْ السَّبَبُ إنَّمَا هُوَ إطْلَاقُ اللَّفْظِ، فَاللُّزُومُ شَرْطٌ، وَقِيلَ: يَعْنِي أَنَّ الْمُلَازَمَةَ الذِّهْنِيَّةَ يَلْزَمُ مِنْ

دلالة المطابقة لفظية

عَدَمِهَا الْعَدَمُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا أَفَادَ مَعْنًى غَيْرَ مُسْتَلْزِمٍ لِآخَرَ لَا يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ إلَى ذَلِكَ الْآخَرِ إلَّا بِسَبَبٍ مُنْفَصِلٍ، فَتَكُونُ إفَادَتُهُ مُضَافَةً لِذَلِكَ الْمُنْفَصِلِ لَا لِلَّفْظِ، فَلَا يَكُونُ فَهْمُهُ دَلَالَةَ اللَّفْظِ بَلْ أَثَرًا لِلْمُنْفَصِلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمُلَازَمَةِ وُجُودُ الدَّلَالَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ الْمُلَازَمَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالْفَهْمُ مَعْدُومٌ مِنْ اللَّفْظِ، إذْ اللَّفْظُ مَعْدُومٌ، فَهُوَ حِينَئِذٍ شَرْطٌ، وَالْإِطْلَاقُ هُوَ الْمُسَبِّبُ. [دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَفْظِيَّةٌ] [التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ] [دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَفْظِيَّةٌ وَالْخِلَافُ] [فِي دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ] لَا خِلَافَ أَنَّ دَلَالَةَ الْمُطَابَقَةِ لَفْظِيَّةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ عَلَى ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا عَقْلِيَّانِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَعْنَى عَلَيْهِمَا بِالْوَاسِطَةِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَاخْتَارَهُ أَثِيرُ الدِّينِ الْأَبْهَرِيُّ فِي كَشْفِ الْحَقَائِقِ وَالصَّفِيّ الْهِنْدِيُّ. قَالَ: وَإِنَّمَا وُصِفَتَا بِكَوْنِهِمَا عَقْلِيَّتَيْنِ، إمَّا لِأَنَّ الْعَقْلَ يَسْتَقِلُّ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللِّسَانِ اللَّفْظَ فِيهِمَا وَهَذَا يَسْتَقِيمُ عَلَى رَأْيِ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الْوَضْعَ فِي الْمَجَازِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُمَيِّزَ بَيْنَ مَدْلُولَيْهِمَا وَهُوَ الْجُزْءُ وَاللَّازِمُ هُوَ الْعَقْلُ. الثَّانِي: أَنَّهُمَا لَفْظِيَّانِ وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إلَى الْأَكْثَرِينَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ وَاصِلٍ فِي " شَرْحِ جُمَلِ الْخُونَجِيِّ ".

وَالثَّالِثُ: أَنَّ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ لَفْظِيَّةٌ وَالِالْتِزَامِ عَقْلِيَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، لِأَنَّ الْجُزْءَ دَاخِلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ بِخِلَافِ اللَّازِمِ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ إنْ جُعِلَتْ لَفْظِيَّةٌ لِأَجْلِ أَنَّ فَهْمَ الْجُزْءِ مِنْهَا إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ اللَّفْظِ فَدَلَالَةُ الِالْتِزَامِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ فَهْمَ اللَّازِمِ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَلْزُومِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لَهُ بِالْوَضْعِ الْمُخْتَصِّ بِالْحَقِيقَةِ فَبَاطِلٌ، أَوْ بِالْوَضْعِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَاللَّازِمُ أَيْضًا كَذَلِكَ إنْ اُعْتُبِرَ الْوَضْعُ فِي الْمَجَازِ، وَالْأَقْيَسُ مِنْهُمَا: الْوَضْعُ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ الْجُزْءَ دَاخِلٌ فِي الْمُسَمَّى، وَاللَّازِمُ خَارِجٌ عَنْهُ فَهُوَ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَاصْطِلَاحٌ مِنْ غَيْرِ مُنَاسَبَةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الدَّقَائِقِ: وَمَنْ جَعَلَ الِالْتِزَامَ لَفْظِيَّةً فَقَدْ أَخْطَأَ، لِأَنَّ الذِّهْنَ يَنْتَقِلُ مِنْ اللَّفْظِ إلَى مَعْنَاهُ، وَمِنْ مَعْنَاهُ إلَى اللُّزُومِ، وَالتَّضَمُّنُ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مُسَمَّى اللَّفْظِ بِخِلَافِ الِالْتِزَامِ، وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَنْسُوبٌ إلَى اللَّفْظِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَقْلِيٌّ بِوَجْهٍ وَاعْتِبَارٍ.

دلالة المطابقة قد تنفك عن التضمن

[دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ التَّضَمُّنِ] التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ] [وَدَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ التَّضَمُّنِ] إنَّ دَلَالَةَ الْمُطَابَقَةِ قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ التَّضَمُّنِ، وَذَلِكَ بِكَوْنِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ بَسِيطًا لَا جُزْءًا لَهُ، وَهَلْ تَنْفَكُّ عَنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ أَمْ لَا؟ قَالَ الْهِنْدِيُّ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ، لِأَنَّ كُلَّ مَاهِيَّةٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهَا لَازِمٌ أَقَلُّهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الِانْفِكَاكَ زَاعِمًا أَنَّ شَرْطَ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ أَنْ يَكُونَ اللَّازِمُ بِحَيْثُ يَكُونُ تَصَوُّرُهُ لَازِمًا لِتَصَوُّرِ الْمَلْزُومِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ اللَّازِمِ، هَذَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْقِلَ الْمَاهِيَّةَ مَعَ الذُّهُولِ عَنْ الِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا الْمُطَابَقَةُ فَلَازِمَةٌ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ التَّابِعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَابِعٌ بِدُونِ الْمَتْبُوعِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ لِكُلِّ مَاهِيَّةٍ لَازِمًا أَوْ بَعْضَ الْمَاهِيَّاتِ لَا لَازِمَ لَهَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لِكُلِّ شَيْءٍ لَازِمٌ، فَالْمُطَابَقَةُ وَالِالْتِزَامُ مُتَسَاوِيَانِ، قَالَ الْإِمَامُ فِي التَّلْخِيصِ: لِكُلِّ شَيْءٍ لَازِمٌ، وَأَدْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ غَيْرَهُ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي اللَّازِمِ الْبَيِّنِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ حُضُورِ الْمَلْزُومِ حُضُورُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ بَعْضَ الْمَاهِيَّاتِ لَا لَازِمَ لَهَا فَالْمُطَابَقَةُ أَعَمُّ. [دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ] [التَّنْبِيهُ السَّادِسُ] [دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ] إنَّ دَلَالَةَ الْمُطَابَقَةِ هِيَ الصَّرِيحُ مِنْ اللَّفْظِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، وَأَمَّا دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ فَتَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ عِنْدَنَا، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى الثَّلَاثَ وَقَعَ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.

دلالة الاستدعاء

لَنَا أَنَّ " طَلَّقْتُ " فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ، وَالْحَدَثُ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ جُزْؤُهُ وَدَلَالَتُهُ عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ، فَيَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ كَمَا لَوْ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ صَرِيحًا، فَقَالَ: أَنْتِ الطَّلَاقُ. وَأَمَّا دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ كَدَلَالَةِ الْبَيْتِ عَلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ صَاحِبُ الْمُقْتَرِحِ مِنْ أَصْحَابِنَا: فِي الْخِلَافِ: لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ وَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي الْمَلْفُوظِ، وَالْمُلْتَزَمُ غَيْرُ مَلْفُوظٍ، وَالطَّلَاقُ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ اللَّفْظِ لَا يَقَعُ. [دَلَالَةُ الِاسْتِدْعَاءِ] [التَّنْبِيهُ السَّابِعُ] [دَلَالَةُ الِاسْتِدْعَاءِ] مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ انْحِصَارِ الدَّلَالَاتِ فِي الثَّلَاثِ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَزَادَ الجزولي مِنْ النَّحْوِيِّينَ دَلَالَةً رَابِعَةً وَسَمَّاهَا: بِالِاسْتِدْعَاءِ، وَجَعَلَ دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ، وَعَلَى الْبَاعِثِ يَعْنِي الَّذِي بَعَثَ عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ، وَعَلَى الْمُصَاحَبِ وَهُوَ الْمَفْعُولُ مَعَهُ مِنْ قَبِيلِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ، وَأَنْكَرَهُ الْآمِدِيُّ، وَقَالَ: دَلَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى الْمَحَلِّ وَالْبَاعِثِ وَالْمُصَاحَبِ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ الْمَكَانَ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ مُتَعَدِّيَهَا وَلَازِمَهَا مَا وَقَعَ فِيهَا عَمْدًا وَسَهْوًا، وَالْمَحَلُّ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّي خَاصَّةً، وَالْبَاعِثَةُ إنَّمَا تَلْزَمُ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يُوقِعُهُ الْقَاصِدُ لِلْإِيقَاعِ، وَلَا يَلْزَمُ فِعْلُ السَّاهِي وَالنَّائِمِ، وَالْمُصَاحِبِ إنَّمَا يَلْزَمُ مَا يُشْرِكُ فِيهِ الْفَاعِلُ غَيْرَهُ.

وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَرَافِيُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي الثَّلَاثِ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ. وَقَالَ: إنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْهُنَّ، وَجَوَابُهُ يُعْلَمُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْرَدَ دَلَالَةَ اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ عَلَى مُفْرَدَاتِهِ، فَإِنَّ الْوَاضِعَ لَمْ يَضَعْهُ لِمَفْهُومِهِ وَلَا لِشَيْءٍ ذَلِكَ الْمَفْهُومُ دَاخِلٌ فِيهِ، وَلَا لِخَارِجٍ عَنْهُ لَازِمٌ لَهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِوَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى وَضْعُ عَيْنِهِ لِعَيْنِهِ، أَوْ وَضْعُ أَجْزَائِهِ لِأَجْزَائِهِ بِحَيْثُ يُطَابِقُ مَجْمُوعُ اللَّفْظِ مَجْمُوعَ الْمَعْنَى، وَالثَّانِي مَوْجُودٌ فِي الْمُرَكَّبِ، فَإِنَّ الْوَاضِعَ وَإِنْ لَمْ يَضَعْ مَجْمُوعَ " زَيْدٌ قَائِمٌ " لِمَدْلُولِهِ، فَقَدْ وَضَعَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ لِجُزْءٍ مِنْ مَفْهُومِهِ، فَإِنَّهُ وَضَعَ زَيْدًا لِلذَّاتِ وَقَائِمًا لِلصِّفَةِ وَالْحَرَكَةُ الْمَخْصُوصَةُ، أَعْنِي دَفْعَهُمَا لِإِثْبَاتِ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي بِاعْتِبَارِ التَّرْكِيبِ وَالْإِفْرَادِ وَيُطْلَقُ الْمُفْرَدُ بِاصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: مُقَابِلُ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ، وَهُوَ اللَّفْظُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. الثَّانِي: مُقَابِلُ الْمُضَافِ فِي بَابِ النِّدَاءِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: الْمُنَادِي مُفْرَدٌ وَمُضَافٌ. وَالثَّالِثُ: مُقَابِلُ الْجُمْلَةِ فِي بَابِ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: الْخَبَرُ قَدْ يَكُونُ مُفْرَدًا وَقَدْ يَكُونُ جُمْلَةً. الرَّابِعُ: مُقَابِلُ الْمُرَكَّبِ. أَمَّا الْمُفْرَدُ بِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ فَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى وَلَا جُزْءَ مِنْ أَجْزَائِهِ يَدُلُّ بِالذَّاتِ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَإِنْسَانٍ، وَإِنْ شِئْت فَقُلْ: هُوَ مَا لَا يُرَادُ بِالْجُزْءِ مِنْهُ دَلَالَةٌ أَصْلًا عَلَى مَعْنًى حِينَ هُوَ جُزْؤُهُ كَأَحْمَدَ. [تَعْرِيفُ الْمُرَكَّبِ] وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ فَمَا دَلَّ جُزْؤُهُ عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ حِينَ هُوَ جُزْؤُهُ

سَوَاءٌ كَانَ تَرْكِيبَ إسْنَادٍ كَقَامَ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ قَائِمٌ، أَمْ تَرْكِيبَ مَزْجٍ كَخَمْسَةَ عَشَرَ، أَوْ إضَافَةٍ كَغُلَامِ زَيْدٍ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى الذَّاتِ فَهُوَ مُفْرَدٌ، وَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى الصِّفَاتِ فَهُوَ مُرَكَّبٌ. وَالْمُرَادُ بِالْجُزْءِ مَا صَارَ بِهِ اللَّفْظُ مُرَكَّبًا كَحُرُوفِ زَيْدٍ، فَلَا يُرِدْ الزَّايَ مِنْ " زَيْدٌ قَائِمٌ "، فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ أَوْرَدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَوْنَ الْمَاضِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا، لِأَنَّ مَادَّتَهُ تَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ وَزِنَتَهُ عَلَى خُصُوصِ الزَّمَنِ، فَأَجَابُوا بِأَنَّ الْمَعْنَى بِقَوْلِنَا الْجُزْءُ لَيْسَ مُطْلَقَ الْجُزْءِ، بَلْ الْأَجْزَاءُ الْمُتَرَتِّبَةُ فِي السَّمْعِ، وَقَالُوا: وَنَحْوُ بَعْلَبَكَّ مُرَكَّبٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، لِأَنَّهُ كَلِمَتَانِ وَمُفْرَدٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ جُزْؤُهُ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ، وَ " أَقُومُ " وَ " نَقُومُ " وَ " يَقُومُ " مُرَكَّبٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّ جُزْأَهُ يَدُلُّ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ، لِأَنَّ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُتَكَلِّمِ وَحْدَهُ وَالْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ، وَالْمُخَاطَبِ مِنْهَا وَنَفْسُ الْكَلِمَةِ تَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ، وَمُفْرَدٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، لِأَنَّهُ لَفْظٌ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. أَمَّا " يَقُومُ " بِالْغَيْبَةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ، فَقِيلَ: هُوَ مُفْرَدٌ، وَقِيلَ: هُوَ مُرَكَّبٌ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ سِينَا، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّهُ مُرَكَّبٌ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُضَارِعَةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: حِينَ هُوَ جُزْؤُهُ لِيَحْتَرِزُوا مِنْ مِثْلِ أَبْكَمَ، وَإِنْسَانٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئِهِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى لَكِنْ لَا عَلَى جُزْءِ مُسَمَّاهُ حِينَ هُوَ جُزْؤُهُ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْجُمْلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ " الْأَبَ " اسْمٌ لِلْوَالِدِ "، وَ " كَمْ " اسْمٌ لِلْعَدَدِ؟ لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ جُزْءٌ مِنْ الْآخَرِ حِينَ هُوَ جُزْؤُهُ، وَكَذَلِكَ: إنْسَانٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ " إنْ " حَرْفُ شَرْطٍ يَدُلُّ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ؟ لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ جُزْءُ " إنْ ". وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ يَعِيشَ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْمُفَصَّلِ وَابْنُ إيَادٍ

أَنَّ الرَّجُلَ مُرَكَّبٌ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ التَّعْرِيفِ وَالْمُعَرَّفِ، وَهُوَ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَلِمَتَانِ، وَكَذَلِكَ " ضَرَبَا " وَ " ضَرَبُوا "، قَالَ الزَّنْجَانِيّ فِي الْهَادِي: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الرَّجُلَ وَنَظَائِرَهُ لَفْظَتَانِ لَا لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يُنْتَقَضُ مَا ذَكَرَهُ بِنَحْوِ " ضَرَبَ "، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ، وَأَنَّهُ كَلِمَةٌ بِاتِّفَاقٍ. قُلْت: لَعَلَّ الزَّمَخْشَرِيَّ بَنَاهُ أَنَّ الْمُعَرِّفَ اللَّامُ وَحْدَهَا، وَحِينَئِذٍ فَهِيَ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ كَالتَّنْوِينِ فِي زَيْدٍ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْمُعَرِّفَ " أَلْ " فَهُوَ لَفْظَتَانِ لِإِمْكَانِ التَّلَفُّظِ بِهَا وَحْدَهَا. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَمْثِلَةَ الْمُضَارِعِ خَلَا الْغَائِبَ مُرَكَّبَاتٌ قَطْعًا، وَأَمْثِلَةُ الْمَاضِي مُفْرَدَاتٌ قَطْعًا، وَأَمْثِلَةُ الْأَوَامِرِ مُرَكَّبَاتٌ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَصَرَّحَ ابْنُ مَالِكٍ فِي أَوَّلِ شَرْح التَّسْهِيلِ بِأَنَّ " يَاءَ " النَّسَبِ، وَ " أَلِفَ " ضَارِبٍ " وَمِيمَ " مُكْرَمٍ، يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى، وَلَكِنْ لَا بِالْوَضْعِ وَقَالَ ابْنُ السَّاعَاتِيِّ: الْمَجْمُوعُ هُوَ الدَّالُّ عَلَى شَخْصٍ مُسَمًّى بِذَلِكَ، لَا أَنَّ الْحَرْفَ دَلَّ بِنَفْسِهِ. وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ أَنَّ النُّحَاةَ يَتَرَجَّحُ نَظَرُهُمْ فِي جَانِبِ الْأَلْفَاظِ، وَأُولَئِكَ يَتَرَجَّحُ نَظَرُهُمْ فِي جَانِبِ الْمَعَانِي، وَعَلَى هَذَا " عَبْدُ اللَّهِ " وَنَحْوُهُ، إنْ أُرِيدَ بِهِ الْعَلَمِيَّةُ كَانَ مُفْرَدًا بِمَثَابَةِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، لِأَنَّ جُزْأَهَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ نِسْبَةُ الْعُبُودِيَّةِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا، فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ، لِدَلَالَةِ جُزْئِهَا عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهَا.

انقسام المفرد باعتبار أنواعه

وَقَدْ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ يَتَقَعْقَعُ، يَعْنِي جَدِيدًا، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: إنْ كُنْتَ عَبْدَ اللَّهِ فَارْفَعْ إزَارَك، قَالَ: فَرَفَعْتُهُ وَكَانَ طَوِيلًا» . فَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: عَبْدُ اللَّهِ، يَعْنِي أَنَا عَبْدُ اللَّهِ فَهُوَ مُفْرَدٌ، لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعَلَمِيَّةَ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إنْ كُنْت عَبْدَ اللَّهِ) فَهُوَ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبًا إضَافِيًّا، لِأَنَّ مُرَادَهُ نِسْبَةُ الْعُبُودِيَّةِ إلَى اللَّهِ، فَالْإِفْرَادُ الْعِلْمِيُّ طَارَ عَلَى التَّرْكِيبِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ يَلُوحُ فِيهِ. وَيُقَالُ لِلْمُرَكَّبِ: مُؤَلَّفٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ كَمَا قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَكَّبَ مَا دَلَّتْ أَجْزَاؤُهُ إذَا انْفَرَدَتْ، وَلَا تَدُلُّ إذَا كَانَتْ أَجْزَاءً كَعَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَلَمًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ زَيْدٍ، فَلَا تَدُلُّ أَجْزَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى شَيْءٍ، وَلَوْ انْفَرَدَتْ الْأَجْزَاءُ كَانَتْ دَالَّةً، لِأَنَّ عَبْدًا دَلَّ عَلَى ذَاتٍ اتَّصَفَتْ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَالْمُؤَلَّفُ مَا دَلَّتْ الْأَجْزَاءُ فِي حَالِ الْبَسَاطَةِ وَحَالِ التَّرْكِيبِ، كَقَوْلِنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ يَدُلُّ إذَا انْفَرَدَ، وَإِذَا كَانَ جُزْءًا [انْقِسَامُ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ] وَيَنْقَسِمُ الْمُفْرَدُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ رَابِعًا وَيُسَمِّيهِ خَالِفًا، وَهُوَ الظَّرْفُ وَالْجَارُ وَالْمَجْرُورُ أَوْ أَسْمَاءُ الْأَفْعَالِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْأَسْمَاءِ، قَالُوا: وَدَلِيلُ الْحَصْرِ أَنَّ الْمَعَانِيَ ثَلَاثَةٌ: ذَاتٌ، وَحَدَثٌ، وَرَابِطَةٌ لِلْحَدَثِ بِالذَّاتِ. فَذَاتٌ: الِاسْمُ، وَالْحَدَثُ: الْفِعْلُ، وَالرَّابِطَةُ: الْحَرْفُ.

الكلي والجزئي

قَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ: وَلَا يَخْتَصُّ انْحِصَارُ الْكَلِمَةِ فِي الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي دَلَّ عَلَى الِانْحِصَارِ فِي الثَّلَاثَةِ عَقْلِيٌّ، وَالْأُمُورُ الْعَقْلِيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ. قُلْت: وَفِي كِتَابِ الْإِيضَاحِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ: الْكَلَامُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى، قِيلَ: قَصَدَ بِهِ الْكَلِمَ الْعَرَبِيَّ دُونَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْكَلِمَ الْعَرَبِيَّ وَالْعَجَمِيَّ. اهـ. [الْكُلِّيُّ وَالْجُزْئِيُّ] ثُمَّ الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إلَى كُلِّيٍّ وَجُزْئِيٍّ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ لَا يَمْنَعَ نَفْسُ تَصَوُّرِهِ مِنْ اشْتِرَاكِ كَثِيرِينَ فِيهِ أَوْ يَمْنَعُ، وَالْأَوَّلُ الْكُلِّيُّ، وَمَعْنَى اشْتِرَاكِ الْأَشْخَاصِ فِيهِ أَنَّ مَعْنَاهُ مُطَابِقٌ لِمَعَانِيهَا بِالِاسْمِ وَالْحَدِّ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِيهَا، وَهُوَ تَارَةً تَقَعُ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالْحَيَوَانِ، وَتَارَةً لَا تَقَعُ، أَمَّا مَعَ الْإِمْكَانِ كَالشَّمْسِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ وُجُودَ مِثْلِهَا أَوْ الِاسْتِحَالَةِ كَهِيَ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُهُ، وَحَذَفْت تَمْثِيلَ الْمَنْطِقِيِّينَ عَمْدًا أَدَبًا، وَلَيْسَ الْكُلِّيُّ وَهْمِيًّا مُرْسَلًا، بَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي الْعَقْلِ، وَهُوَ مَا يَجِدُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي لَوْ نَسَبَهَا إلَى الشَّخْصِيَّاتِ الْمُنَاسِبَةِ لَكَانَتْ مُطَابِقَةً لَهَا، كَالْمُتَمَثِّلِ مِنْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ فِي الْعَقْلِ غَيْرَ تَمَيُّزِهِ فِي النَّفْسِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ صُورَتَهُ قَائِمَةٌ بِنَفْسِ الْعَاقِلِ، وَإِلَّا لَكَانَ مَنْ يَعْقِلُ الْحَرَارَةَ وَالْبُرُودَةَ حَارًّا وَبَارِدًا.

الطبيعي والمنطقي والعقلي

[الطَّبِيعِيُّ وَالْمَنْطِقِيُّ وَالْعَقْلِيُّ] وَيَنْقَسِمُ إلَى طَبِيعِيٍّ وَمَنْطِقِيٍّ وَعَقْلِيٍّ، لِأَنَّا إذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ مَثَلًا، وَأَنَّهُ كُلِّيٌّ وَأَرَدْت الْحِصَّةَ مِنْ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي شَارَكَ بِاعْتِبَارِهَا الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ فَطَبِيعِيٌّ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْإِنْسَانِ الْمَوْجُودِ وَجُزْءُ الْمَوْجُودِ مَوْجُودٌ، وَإِنْ أَرَدْت بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الشَّرِكَةِ فَهُوَ الْمَنْطِقِيُّ، وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا لَا يَتَنَاهَى. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ. وَمَدْرُك الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْإِضَافَةَ هَلْ لَهَا وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ؟ وَالْكُلِّيُّ الْمَنْطِقِيُّ نَوْعٌ مِنْ مَقُولَةِ الْمُضَافِ. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: وَنَازَعَهُ ابْنُ وَاصِلٍ، وَقَالَ: بَلْ الْكُلِّيُّ الْمَنْطِقِيُّ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّ الْإِضَافَةَ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَعْيَانِ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْكُلِّيَّ الطَّبِيعِيَّ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ، فَلَوْ كَانَ الْمَنْطِقِيُّ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ، كَانَ الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا ضَرُورَةً مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا هُوَ الْكُلِّيُّ الْعَقْلِيُّ، فَيَكُونُ أَيْضًا مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ لِتَرَكُّبِهِ مِنْ جُزْأَيْنِ مَوْجُودَيْنِ، وَسَنُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. اهـ. وَإِنْ أَرَدْت الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي الْحَيَوَانِيَّةَ الَّتِي وَقَعَتْ بِهَا الشَّرِكَةُ مَعَ كَوْنِهَا غَيْرَ مَانِعَةٍ فَهُوَ الْعَقْلِيُّ فَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ: أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ. قَالَهُ ابْنُ وَاصِلٍ، وَحَكَى غَيْرُهُ فِي وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ خِلَافًا أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، وَهُوَ غَيْرُ مُتَشَخِّصٍ. وَزَعَمَ أَفْلَاطُونُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ الْكُلِّيَّ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ.

الفرق بين الكلي والكل

[الْفَرْقُ بَيْنَ الْكُلِّيِّ وَالْكُلِّ] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكُلِّيِّ وَالْكُلِّ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُلَّ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْكُلِّيِّ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ كَذَا قِيلَ، وَهُوَ مُنَازَعٌ بِمَا سَبَقَ. وَثَانِيهَا: أَجْزَاءُ الْكُلِّ مُتَنَاهِيَةٌ وَأَجْزَاءُ الْكُلِّيِّ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَثَالِثُهَا: الْكُلُّ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ أَجْزَائِهِ مَعًا بِخِلَافِ الْكُلِّيِّ. [أَقْسَامُ الْكُلِّيِّ] ثُمَّ الْكُلِّيُّ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارَاتٍ: أَحَدُهَا: إلَى مُتَوَاطِئٍ وَمُشَكِّكٍ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حُصُولُ مَعْنَاهُ فِي أَفْرَادِهِ الذِّهْنِيَّةِ أَوْ الْخَارِجِيَّةِ عَلَى السَّوَاءِ، كَالْإِنْسَانِ فَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّوَاءِ بَلْ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ أَقْدَمَ وَأَوْلَى وَأَشَدَّ فَهُوَ الْمُشَكِّكُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُشَكِّكُ النَّاظِرَ هَلْ هُوَ مُتَوَاطِئٌ لِوَحْدَةِ الْحَقِيقَةِ فِيهِ أَوْ مُشْتَرِكٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِاخْتِلَافِ؟ وَذَلِكَ كَالْبَيَاضِ الَّذِي هُوَ فِي الثَّلْجِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الْعَاجِ، وَجَوَّزَ الْهِنْدِيُّ

فِيهِ فَتْحَ الْكَافِ وَكَسْرَهَا. إمَّا أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ لِلتَّشْكِيكِ أَوْ اسْمُ مَفْعُولٍ، لِكَوْنِ النَّاظِرِ يَتَشَكَّكُ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ حَقِيقَةَ هَذَا الْقِسْمِ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ تُسْتَعْمَلَ مَعَ ضَمِيمَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ، وَإِنْ كَانَ فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ. قِيلَ: وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ بِهِ ابْنُ سِينَا، لِأَنَّ تَرَكُّبَ الشَّبَهَيْنِ يُخْرِجُهُ إلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَى كَالْخُنْثَى، فَالْمُتَوَاطِئُ أَنْ يَضَعَ الْوَاضِعُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَيْدِ عَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُحَالِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَحَالِّ فِي أُمُورٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسَمَّى، كَامْتِيَازِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمُتَوَاطِئُ مَا اسْتَوَى مَحَالُهُ، وَيُسَمَّى: اسْمُ الْجِنْسِ كَالرَّجُلِ، وَيُسَمَّى الْمُطْلَقُ. وَقِيلَ: هُوَ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى كُلِّيٍّ مُسْتَوْفًى مَحَالَّهُ، فَكُلِّيٌّ احْتِرَازٌ مِنْ الْعِلْمِ وَمُسْتَوٍ احْتِرَازٌ مِنْ الْمُشَكِّكِ وَيُسَمَّى بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي كُلِّ مَحَلٍّ مُوَافِقٌ لِمَعْنَاهُ فِي الْآخَرِ. وَالتَّوَاطُؤُ التَّوَافُقُ. قَالَ تَعَالَى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] وَالْمُشَكِّكُ أَنْ يَضَعَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَيْدِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَحَالِّ بِأُمُورٍ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى كَالنُّورِ فِي الشَّمْسِ، وَاسْتِحَالَةِ التَّغْيِيرِ فِي الْوَاجِبِ، فَاشْتَرَكَ الْقِسْمَانِ فِي أَنَّ الْوَضْعَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَافْتَرَقَا بِقَيْدَيْهِمَا. تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ] [إطْلَاقُ الْمُتَوَاطِئِ عَلَى أَفْرَادِهِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟] إطْلَاقُ الْمُتَوَاطِئِ عَلَى كُلٍّ مِنْ أَفْرَادِهِ هَلْ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ فِيهِ بَحْثٌ لِكَثِيرٍ

مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَقِيلَ: إنَّهُ مَجَازٌ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْخُصُوصِ فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فَيَكُونُ مَجَازًا، وَقِيلَ: إنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِخُصُوصٍ كَانَ مَجَازًا. وَالْمُخْتَارُ: الْأَوَّلُ، وَلَا تَحْقِيقَ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ، فَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي الْخُصُوصِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْخُصُوصِ، أَمَّا إذَا أَرَدْت الْعُمُومَ فَلَمْ تَسْتَعْمِلْهُ، فَلَا وَجْهَ لِلْخُصُوصِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَوَاطِئَ قَدْ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ دُونَ بَعْضٍ. [التَّنْبِيهُ الثَّانِي] [يَنْقَسِمُ الْكُلِّيُّ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ إلَى مُشْتَقٍّ وَغَيْرِهِ] ، بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ إلَى مُشْتَقٍّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِصِفَةٍ فَهُوَ الْمُشْتَقُّ كَالْأَسْوَدِ، وَيُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّينَ صِفَةً، وَإِمَّا أَنْ لَا يَدُلَّ، وَحِينَئِذٍ إنْ دَلَّ عَلَى نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ فَقَطْ فَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ، كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ إذَا كَانَ " الْأَلِفُ وَاللَّامُ " لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ وَعَلَى قَيْدٍ آخَرَ زَائِدٍ عَلَيْهَا بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَيْدُ هُوَ الْوَحْدَةُ أَوْ الْكَثْرَةُ الْغَيْرُ الْمُعَيَّنَةِ فَهُوَ النَّكِرَةُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْكَثْرَةُ الْمُعَيَّنَةُ الْغَيْرُ الْمُنْحَصِرَةِ، فَهُوَ الْعَامُّ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْحَصِرَةً فَهُوَ اسْمُ الْعَدَدِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَالدَّالُّ عَلَى الْجِنْسِ يَنْقَسِمُ إلَى اسْمِ جِنْسٍ كَأَسَدٍ، وَعَلَمِ جِنْسٍ كَأُسَامَةَ، وَلَيْسَا مُتَرَادِفَيْنِ، لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ مَوْضُوعٌ لِلْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ، وَعَلَمُ الْجِنْسِ مَوْضُوعٌ لِتِلْكَ الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ تَشَخُّصِهَا فِي الذِّهْنِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ لَا بُدَّ أَنْ تَمْتَازَ عَنْ غَيْرِهَا وَتَتَشَخَّصَ فِي الذِّهْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَصْدُقُ عَلَى الْأَفْرَادِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْخَارِجِيَّةِ عَلَى مَا تَلَخَّصَ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ مِنْ صِدْقِ

الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ. [التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ] بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ وَالْكُلِّيُّ إمَّا تَمَامُ الْمَاهِيَّةِ أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا أَوْ خَارِجٌ عَنْهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ إمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَاهِيَّةٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ الْعَوَارِضِ كَالْجُزْئِيَّةِ وَالْخَارِجِيَّةِ، أَوْ يُعْتَبَرُ مَعَ الْعَارِضِ نَحْوُ كَوْنِهَا جُزْءًا لِغَيْرِهَا أَوْ خَارِجًا عَنْ مَاهِيَّةِ غَيْرِهَا، فَالْأَوَّلُ تَمَامُ الْمَاهِيَّةِ، وَالثَّانِي جُزْءٌ مِنْهَا، وَالثَّالِثُ خَارِجٌ عَنْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقُولَ فِي جَوَابِ مَا هُوَ، إنَّمَا هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَمَّا بِهِ هُوِيَّةُ الشَّيْءِ وَهُوَ تَمَامُ الْمَاهِيَّةِ، وَأَمَّا الْكُلِّيُّ الَّذِي هُوَ جُزْءُ الْمَاهِيَّةِ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالذَّاتِيِّ عَلَى رَأْيِ الْأَكْثَرِينَ، فَتَمَامُ الْمُشْتَرَكِ هُوَ الْجِنْسُ، وَتَمَامُ التَّمْيِيزِ هُوَ الْفَصْلُ. وَأَمَّا الْخَارِجُ فَإِنْ اخْتَصَّ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ الْخَاصَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ فَهُوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ. وَمِمَّا يَغْلُظُ فِيهِ كَوْنُ الْعَرَضِ هَاهُنَا هُوَ الْمُقَابِلُ لِلْجَوْهَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعَرَضِيَّ قَدْ يَكُونُ جَوْهَرًا كَالْأَبْيَضِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَالْبَيَاضِ، وَالْعَرَضُ لَا يَكُونُ جَوْهَرًا كَالْبَيَاضِ، ثُمَّ الْعَرَضُ قَدْ يَكُونُ لَازِمًا لِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، كَالضَّحِكِ لِلْإِنْسَانِ أَعْنِي بِالْقُوَّةِ.

الفرق بين العرضي اللازم والذاتي

[الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ وَالذَّاتِيِّ] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ وَالذَّاتِيِّ: أَنَّ الْعَرَضَ اللَّازِمَ يَكُونُ بَعْدَ تَحْقِيقِ الشَّيْءِ وَالذَّاتِيُّ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، فَإِنَّ الضَّحِكَ وَصْفٌ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ إنْسَانًا، وَالْحَيَوَانُ وَصْفٌ لَهُ مُقَدَّمٌ ذِهْنًا عَلَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ إنْسَانًا، وَقَدْ يَكُونُ لَازِمًا لِوُجُودِهِ كَسَوَادِ الْحَبَشِيِّ، وَكَوْنِ الْإِنْسَانِ مَوْجُودًا. وَالْعَرَضُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ لَازِمٍ فِي الْوُجُودِ وَلَا فِي الْوَهْمِ لِجَوَازِ زَوَالِهِ إمَّا سَرِيعًا كَالْقِيَامِ، أَوْ بَطِيئًا كَالسَّوَادِ. [الْجُزْئِيُّ] وَأَمَّا الْجُزْئِيُّ: فَإِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْجُزْئِيِّ فَهُوَ الْعَلَمُ كَزَيْدٍ، وَإِلَّا فَإِنْ احْتَاجَ إلَى قَرِينَةٍ، إمَّا تَكَلُّمٌ أَوْ خِطَابٌ أَوْ غِيبَةٌ، فَهُوَ وَهُوَ الْمَوْصُولُ. هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمْ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ، أَعْنِي أَنَّ الْمُضْمَرَ جُزْئِيٌّ، وَقَدْ رَأَيْته مُصَرَّحًا بِهِ فِي كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ فِي أَوَّلِ بَابِ الْعُمُومِ وَحُجَّتُهُمْ، أَنَّ الْكُلِّيَّ نَكِرَةٌ وَالْمُضْمَرَاتِ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْضُوعًا لِكُلِّيٍّ لَمَا أَفَادَ الشَّخْصَ، لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَرَجَّحَ الْقَرَافِيُّ وَالْأَصْفَهَانِيُّ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا لِكُلِّيٍّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِجُزْئِيٍّ لَمَا دَلَّ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ إلَّا بِوَضْعٍ آخَرَ، فَلَمَّا صَدَقَتْ لَفْظَةُ " أَنَا " عَلَى مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَكَذَلِكَ " أَنْتَ " عَلَى مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْمُخَاطَبِينَ، وَ " هُوَ " عَلَى مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْغَائِبِينَ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِوَضْعٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كُلِّيٌّ،

الفرق بين علم الجنس وعلم الشخص واسم الجنس

وَمَالَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَلْحَةَ مِنْ النُّحَاةِ. فَقَالَ: إنَّ الْمُضْمَرَ لَا يُنْعَتُ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِيهِ عُمُومٌ فَيَفْتَقِرُ إلَى تَخْصِيصٍ وَلَا اشْتِرَاكَ فَيَفْتَقِرُ إلَى إزَالَةِ كَذَا يَقُولُ النَّحْوِيُّونَ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يُبْدَلُ مِنْهُ لِلْبَيَانِ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ فِيهِ اشْتِرَاكٌ لِمَا أُبْدِلَ مِنْهُ أَصْلًا، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: الْمُتَكَلِّمُ أَعْرَفُ مِنْ الْمُخَاطَبِ، وَالْمُخَاطَبُ أَعْرَفُ مِنْ الْغَائِبِ، اعْتِرَافٌ مُبْهَمٌ بِدُخُولِ الِاشْتِرَاكِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْعَتْ لِأَمْرٍ آخَرَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ: هُوَ كُلِّيٌّ فِي الْوَضْعِ جُزْئِيٌّ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَبِهِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الضَّمِيرَ بِحَسَبِ مَا يَعُودُ إلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ عَلَى عَامٍّ كَانَ عَامًّا فِي كُلِّ فَرْدٍ، أَوْ عَلَى جَمْعٍ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ عَادَ عَلَى خَاصٍّ كَانَ خَاصًّا، وَأَمَّا إطْلَاقُهُمْ أَنَّ الْعَلَمَ جُزْئِيٌّ، فَهُوَ فِي عَلَمِ الشَّخْصِ، أَمَّا عَلَمُ الْجِنْسِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ كُلِّيٌّ. [الْفَرْقُ بَيْنَ عَلَمِ الْجِنْسِ وَعَلَمِ الشَّخْصِ وَاسْمِ الْجِنْس] وَاعْلَمْ أَنَّهُ مِمَّا يَكْثُرُ السُّؤَالُ عَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ عَلَمِ الْجِنْسِ وَعَلَمِ الشَّخْصِ وَاسْمِ الْجِنْسِ، وَهُوَ مِنْ نَفَائِسِ الْمَبَاحِثِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَكَانَ الْخُسْرَوْ شَاهْ يُقَرِّرُهُ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ أَحَدٍ إلَّا مِنْهُ، وَمَا كَانَ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَضْعَ فَرْعُ التَّصَوُّرِ

فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْوَاضِعُ صُورَةَ الْأَسَدِ لِيَضَعَ لَهَا، فَتِلْكَ الصُّورَةُ الثَّابِتَةُ فِي ذِهْنِهِ هِيَ جُزْئِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُطْلَقِ صُورَةِ الْأَسَدِ، فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ وَاقِعَةٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَمِثْلُهَا يَقَعُ فِي زَمَانٍ آخَرَ، وَفِي ذِهْنِ شَخْصٍ آخَرَ، وَالْجَمْعُ مُشْتَرِكٌ فِي مُطْلَقِ صُورَةِ الْأَسَدِ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ جُزْئِيَّةٌ مِنْ مُطْلَقِ صُورَةِ الْأَسَدِ، فَإِنْ وَقَعَ لَهَا مِنْ حَيْثُ خُصُوصِهَا فَهُوَ عَلَمُ الْجِنْسِ أَوْ مِنْ حَيْثُ عُمُومِهَا فَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ، وَهِيَ مِنْ حَيْثُ عُمُومِهَا وَخُصُوصِهَا تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ أَسَدٍ فِي الْعَالَمِ، لِأَنَّا إنَّمَا أَخَذْنَاهَا فِي الذِّهْنِ مُجَرَّدَةً عَنْ جَمِيعِ الْخُصُوصِيَّاتِ فَتُطْلَقُ عَلَى الْجَمِيعِ، فَلَا جَرَمَ يُطْلَقُ لَفْظُ الْأَسَدِ وَأُسَامَةَ عَلَى جَمِيعِ الْأُسُودِ لِوُجُودِ الشَّرِكَةِ فِيهَا كُلِّهَا فَيَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ اسْمِ الْجِنْسِ وَعَلَمِ الْجِنْسِ بِخُصُوصِ الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ عَلَمِ الْجِنْسِ وَعَلَمِ الشَّخْصِ: أَنَّ عَلَمَ الشَّخْصِ مَوْضُوعٌ لِلْحَقِيقَةِ بِقَيْدِ التَّشَخُّصِ الْخَارِجِيِّ، وَعَلَمَ الْجِنْسِ مَوْضُوعٌ لِلْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ التَّشَخُّصِ الذِّهْنِيِّ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ إيَازٍ رَدًّا عَلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ اسْمِ الْجِنْسِ وَعَلَمِ الْجِنْسِ: أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ وَهُوَ أُسَامَةُ مَوْضُوعٌ لِلْحَقِيقَةِ الذِّهْنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِلْأَفْرَادِ، وَعَكْسُهُ اسْمُ الْجِنْسِ. قَالَ: فَيَلْزَمُ أَنَّ أُسَامَةَ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا: الْوَضْعُ مَسْبُوقٌ بِالتَّصَوُّرِ، فَإِنْ كَانَ لِلْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ فَيَلْزَمُ وَضْعُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ مِنْ النَّحْوِيِّينَ: إنَّمَا حُكِمَ لِعَلَمِ الْجِنْسِ بِالْعَلَمِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ عَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الْأَعْلَامِ فِي أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: دُخُولِ " أَلْ " عَلَيْهَا، وَإِضَافَتِهَا، وَفِي نَصْبِ الْحَالِ عَنْهَا نَحْوَ هَذَا أُسَامَةُ مُقْبِلًا، وَامْتِنَاعِ صَرْفِهَا عِنْدَ وُجُودِ عِلَّتَيْنِ فِيهَا، وَفِي تَحَقُّقِ عِلْمِيَّتِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا لِأَبِي سَعِيدٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ بَابْشَاذَ وَابْنُ يَعِيشَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْجِنْسِ بِأَسْرِهِ بِمَنْزِلَةِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ بِاللَّامِ فِي نَحْوِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: ثُعَالَةُ يَفِرُّ مِنْ أُسَامَةَ، أَيْ أَشْخَاصُ هَذَا الْجِنْسِ يَفِرُّ مِنْ أَشْخَاصِ هَذَا الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْتَاجُوا فِي هَذَا النَّوْعِ إلَى تَعْيِينِ الشَّخْصِ كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْلَامِ، لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى تَعْيِينِ أَفْرَادِهَا. قَالَ ابْنُ يَعِيشَ: وَتَعْرِيفُهَا لَفْظِيٌّ، وَهِيَ فِي الْمَعْنَى نَكِرَاتٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْجِنْسِ فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَفْرَادِهِ، وَلَا يَخُصُّ شَخْصًا بِعَيْنِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الْعَلَمِ. وَالثَّانِي: لِابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْحَقَائِقِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الذِّهْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ نَحْوَ أَكَلْت الْخُبْزَ وَشَرِبْت الْمَاءَ، فَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ فِي الْوُجُودِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَصْدِ إلَى الْحَقِيقَةِ، فَالتَّعَدُّدُ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ لَا بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَسَدٍ وَأُسَامَةَ أَنَّ أَسَدًا مَوْضُوعٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ، فَالتَّعَدُّدُ فِيهِ مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ، وَأَمَّا أُسَامَةُ فَإِنَّهُ لَزِمَ مِنْ إطْلَاقِهِ عَلَى الْوَاحِدِ فِي الْوُجُودِ التَّعَدُّدِ، فَالتَّعَدُّدُ جَاءَ فِيهِ ضِمْنًا لَا مَقْصُودًا بِالْوَضْعِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِوَضْعِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ بَلْ الْوَاحِدُ مِنْ حُفَاةِ الْعَرَبِ إذَا وَقَعَ طَرَفُهُ عَلَى وَحْشٍ عَجِيبٍ، أَوْ طَيْرٍ غَرِيبٍ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمًا يَشْتَقُّهُ مِنْ خِلْقَتِهِ أَوْ فِعْلِهِ أَوْ وَصْفِهِ، فَإِذَا رَآهُ مَرَّةً أُخْرَى أَجْرَى عَلَيْهِ ذَلِكَ الِاسْمَ بِاعْتِبَارِ شَخْصِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصَوُّرِ أَنَّ هَذَا الْمَوْجُودَ هُوَ الْمُسَمَّى أَوَّلًا أَوْ غَيْرُهُ، فَصَارَتْ مُشَخَّصَاتُ كُلِّ نَوْعٍ مُنْدَرِجَةً تَحْتَ الْأَوَّلِ. وَالرَّابِعُ: قُلْته أَنَا: أَنَّ لَفْظَ عَلَمِ الْجِنْسِ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الذِّهْنِيَّةِ وَالْوُجُودِيَّةِ، فَإِنَّ لَفْظَ أُسَامَةَ يَدُلُّ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ عَرِيضِ الْأَعَالِي، فَالِافْتِرَاسُ وَعَرْضُ الْأَعَالِي مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الذِّهْنِيِّ وَالْوُجُودِيِّ، فَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ فِي الْوُجُودِ، فَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ لِوُجُودِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَيَلْزَمُ مِنْ إخْرَاجِهِ إلَى الْوُجُودِ التَّعَدُّدُ، فَيَكُونُ التَّعَدُّدُ مِنْ اللَّوَازِمِ لَا مَقْصُودًا بِالْوَضْعِ بِخِلَافِ أَسَدٍ، فَإِنَّ تَعَدُّدَهُ مَقْصُودٌ بِالْوَضْعِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْفَرْقُ بَيْنَ عَلَمِ الْجِنْسِ وَاسْمِ الْجِنْسِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: امْتِنَاعُ دُخُولِ " اللَّامِ " عَلَى أَحَدِهِمَا وَجَوَازُهُ فِي الْآخَرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ ابْنُ لَبُونٍ وَابْنُ مَخَاضٍ اسْمَ جِنْسٍ بِدَلِيلِ دُخُولِ " لَامِ " التَّعْرِيفِ عَلَيْهِمَا. الثَّانِي: امْتِنَاعُ الصَّرْفِ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِيَّةِ. الثَّالِثُ: نَصْبُ الْحَالِ عَنْهَا الرَّابِعُ: نَصَّ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الْإِضَافَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا، لِأَنَّ الْأَعْلَامَ جَاءَتْ مُضَافَةً. اهـ. وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّ اللَّفْظَ إنْ كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُتَصَوَّرَ الْحَقِيقَةُ، وَيَحْضُرَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهَا فِي الذِّهْنِ مُتَشَخِّصًا، فَالْوَاضِعُ تَارَةً يَضَعُ لِلْحَقِيقَةِ لَا بِقَيْدِ التَّشَخُّصِ الْخَاصِّ فِي ذِهْنِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْمَ جِنْسٍ كَمَنْ حَضَرَ فِي ذِهْنِهِ حَقِيقَةُ الْأَسَدِ، وَتَشَخَّصَ فِي ذِهْنِهِ فَرْدٌ مِنْ

أَفْرَادِهِ، فَوُضِعَ لِلْحَقِيقَةِ لَا لِذَلِكَ الْفَرْدِ، وَتَارَةً يَضَعُ لِلتَّشَخُّصِ الْخَاصِّ فِي ذِهْنِهِ بِقَيْدِ ذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي هُوَ حَاصِلٌ فِي أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ خَارِجِيَّةٍ، فَهَذَا عَلَمُ الْجِنْسِ، وَتَارَةً يَضَعُ لِلشَّخْصِ الْخَارِجِيِّ، فَهُوَ عَلَمُ الشَّخْصِ، وَسُمِّيَ هَذَا عَلَمًا، لِأَنَّ الْوَضْعَ فِيهِ لِلشَّخْصِ، لِيَكُونَ التَّشْخِيصُ لِلْوَضْعِ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلَى أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ هُوَ الَّذِي لُوحِظَ فِيهِ خَاصَّةً مِنْ خَوَاصِّ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْعَلَمَ هُوَ الْمَوْضُوعُ لِلْحَقِيقَةِ بِقَيْدِ التَّشَخُّصِ الذِّهْنِيِّ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاصْطِلَاحِ حَتَّى لَا يُمْنَعَ، لِأَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْعَلَمَ حَقِيقَتُهُ الْوَضْعُ لِلتَّشَخُّصِ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ، فَاعْتِبَارُ الْوَصْفِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ. وَعِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ تُعْطِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: هَذَا بَابٌ مِنْ الْمَعْرِفَةِ يَكُونُ فِيهِ الِاسْمُ الْخَاصُّ شَائِعًا فِي أُمَّتِهِ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا بِهِ مِنْ الْآخَرِ، نَحْوَ قَوْلِك لِلْأَسَدِ أَبُو الْحَارِثِ وَأُسَامَةُ، وَلِلثَّعْلَبِ ثُعَالَةٌ وَأَبُو الْحُصَيْنِ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً. وَفَرَّقَ بَيْنَ أُسَامَةَ وَزَيْدٍ بِأَنَّ زَيْدًا قَدْ عَرَفَهُ الْمُخَاطَبُ بِحِلْيَتِهِ أَوْ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ، وَإِذَا قَالَ أُسَامَةُ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ هَذَا الْأَسَدَ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يُشِيرَ إلَى شَيْءٍ قَدْ عَرَفَهُ بِعَيْنِهِ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَعْرِفَتِهِ زَيْدًا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِ " هَذَا " الَّذِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّتِهِ لَهُ هَذَا الِاسْمُ، فَهَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ يُعْطِي مَا قُلْنَا، وَانْظُرْ قَوْلَهُ: يَكُونُ فِيهِ الِاسْمُ خَاصًّا شَائِعًا، فَجَعَلَهُ خَاصًّا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ الْمُشَخِّصَةِ الْمَوْضُوعِ وَشَائِعًا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ الْخَارِجِيَّةِ، وَإِلَى قَوْلِهِ: يُرِيدُ هَذَا الْأَسَدَ وَلَا يُرِيدُ إلَى شَيْءٍ قَدْ عَرَفْته، وَبِهَذَا الْفَرْقِ يَتَّضِحُ أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ مَعْرِفَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنَّ قَوْلَ ابْنِ مَالِكٍ: إنَّهُ مَعْرِفَةٌ لَفْظًا وَنَكِرَةٌ مَعْنًى وَأَنَّهُ فِي أُسَامَةَ فِي السِّبَاعِ كَأَسَدٍ مَمْنُوعٌ، وَوَافَقَهُ أَبُو حَيَّانَ عَلَى أَنَّ أُسَامَةَ نَكِرَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا ثَبَتَ، هَذَا فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ كُلِّيٌّ، لِأَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ.

فصل في نسبة الأسماء إلى المسميات

[فَصْلٌ فِي نِسْبَةِ الْأَسْمَاءِ إلَى الْمُسَمَّيَاتِ] الِاسْمُ وَالْمُسَمَّى إمَّا أَنْ يَتَّحِدَا أَوْ يَتَكَثَّرَا، أَوْ يَتَكَثَّرَ الِاسْمُ وَيَتَّحِدَ الْمُسَمَّى أَوْ عَكْسُهُ. أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَّحِدَا فَإِنْ كَانَ نَفْسُ تَصَوُّرِ ذَلِكَ الْعَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ فَهُوَ الْجُزْئِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ وَكَانَ الِاشْتِرَاكُ وَاقِعًا فِيهِ بِالْفِعْلِ وَعَلَى السَّوِيَّةِ، فَمُتَوَاطِئٌ وَإِلَّا فَمُشَكِّكٌ. فَالْمُتَوَاطِئَةُ: هِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْأَعْيَانِ الْمُتَغَايِرَةِ بِالْعَدَدِ الْمُتَّفِقَةِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ، كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ، وَدَلَالَةِ لَفْظِ الْحَيَوَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ، وَمِنْهُ دَلَالَةُ اللَّمْسِ عَلَى الْقُبْلَةِ، وَعَلَى الْجِمَاعِ وَعَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِهِ، وَدَلَالَةُ اللَّوْنِ عَلَى السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَعَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَتَكَثَّرَا فَهِيَ الْأَلْفَاظُ الْمُتَبَايِنَةُ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَوْضُوعِ لِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَذَلِكَ إمَّا أَنْ تَتَبَايَنَ بِذَاتِهَا أَيْ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهَا كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَجَرِ أَوْ تَتَبَايَنَ بِصِفَاتِهَا مَعَ إمْكَانِ اجْتِمَاعِهَا بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا اسْمًا لِلذَّاتِ، وَبَعْضُهَا اسْمًا لَهَا، إذَا اتَّصَفَتْ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ كَالسَّيْفِ وَالصَّارِمِ وَيُسَمَّى الْمُزَايَلَةَ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا اسْمًا لِلصِّفَةِ وَبَعْضُهَا اسْمًا لِصِفَةِ الصِّفَةِ كَالنَّاطِقِ بِالْفِعْلِ وَالْفَصِيحِ وَسُمِّيَتْ مُتَبَايِنَةً مِنْ الْبَيْنِ الَّذِي هُوَ التَّبَاعُدُ، لِأَنَّ مُسَمَّى هَذَا غَيْرُ مُسَمَّى

ذَاكَ، أَوْ مِنْ الْبَيْنِ الَّذِي هُوَ الْفِرَاقُ، لِمُفَارَقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِ لَفْظًا وَمَعْنًى. الثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَدَّدَ اللَّفْظُ وَيَتَّحِدَ الْمَعْنَى، فَهِيَ الْمُتَرَادِفَةُ كَالْإِنْسَانِ وَالْبَشَرِ. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ النَّحْوِيُّ: وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَجْنَاسِ لَا الْأَعْلَامِ. انْتَهَى. وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ رِدْفِ الدَّابَّةِ، يُشْبِهُ اجْتِمَاعَ الرَّاكِبِينَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ بِاجْتِمَاعِ الرَّاكِبِينَ عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ إنْ اتَّحَدَ مُسَمَّاهَا ظَهَرَ التَّرَادُفُ، وَإِنْ اخْتَلَفَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا تَرَادُفَ، وَقَدْ يَخْفَى وَجْهُ الِاخْتِلَافِ فَيَقَعُ الْغَلَطُ، وَمِمَّا اعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا النَّظَرِ فِي الِاشْتِقَاقِ اللَّفْظِيِّ، وَيُجْعَلُ التَّبَايُنُ وَاقِعًا فِيهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ كَمَا سَيَأْتِي. الرَّابِعُ: عَكْسُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وُضِعَ لِلْكُلِّ أَيْ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي أَوْ لَا. وَالْأَوَّلُ: الْمُشْتَرَكُ كَالْعَيْنِ لِمَدْلُولَاتِهَا الْمُتَعَدِّدَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُوضَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَلْ لِمَعْنًى، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَنْتَقِلَ لِعَلَاقَةٍ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ لِعَلَاقَةٍ فَهُوَ الْمُرْتَجَلُ، قَالَهُ الْإِمَامُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ، فَإِنَّ الْمُرْتَجَلَ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ بِوَضْعٍ، كَغَطَفَانَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: شِعْرٌ مُرْتَجَلٌ أَيْ لَمْ يُسْبَقْ بِفِكْرٍ مَأْخُوذٌ مِنْ الرِّجْلِ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُسْبَقْ بِفِكْرِ مُتَأَمِّلِهِ كَالْوَاقِفِ عَلَى رِجْلٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّظَرِ، وَإِنْ نُقِلَ لِعَلَاقَةٍ فَإِمَّا أَنْ تَقْوَى فِي الثَّانِي أَوْ لَا. وَالْأَوَّلُ: الْمَنْقُولُ، ثُمَّ إنْ كَانَ النَّاقِلُ الشَّرْعَ كَالصَّلَاةِ سُمِّيَ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ الْعُرْفِ الْعَامِّ فَالْعُرْفِيَّةِ، أَوْ الْخَاصِّ كَاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ سُمِّيَ

بِالِاصْطِلَاحِيَّةِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى هَذَا نَقْلًا، لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ لَا تَبْقَى زَمَنَيْنِ، وَمَا لَا يَقْبَلُ الْبَقَاءَ لَا يَقْبَلُ التَّحْوِيلَ، وَلَكِنْ لَمَّا وُضِعَ لِشَيْءٍ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ حُوِّلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَنْقُولِ إلَيْهِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَنْقُولِ عَنْهُ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُسَمَّى بِالنِّسْبَةِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَوَّلِ حَقِيقَةً، وَالثَّانِيَ مَجَازًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَجَازُ ثَلَاثُهُ أَقْسَامٍ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وُضِعَ لَهُ فَهُوَ الْمُرْتَجَلُ، وَإِنْ كَانَ فَإِنْ لَمْ يَحْسُنْ فِيهِ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ فَهُوَ الِاسْتِعَارَةُ، وَإِنْ حَسُنَ ذَلِكَ فَهُوَ مَجَازُ التَّشْبِيهِ، وَفَائِدَةُ الْمُرْتَجَلِ التَّوَسُّعُ فِي الْكَلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَقْسَامَ الْأُوَلَ الْمُتَّحِدَةَ الْمَعْنَى نُصُوصٌ، لِأَنَّ لِكُلِّ لَفْظٍ مِنْهَا فَرْدًا مُعَيَّنًا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، وَقَوْلُنَا: الْمُتَّحِدَةَ الْمَعْنَى يُخْرِجُ الْعَيْنَ وَالْقُرْءَ، فَإِنَّهَا مُتَبَايِنَةٌ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنُصُوصٍ لِأَجْلِ الِاشْتِرَاكِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعَانِي عَلَى السَّوَاءِ أَيْ: مُتَسَاوِيَانِ فِي الْفَهْمِ، فَلَيْسَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا مَعًا مُشْتَرَكًا وَبِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مُجْمَلًا، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى بَعْضِهَا أَرْجَحَ فَالطَّرَفُ الرَّاجِحُ ظَاهِرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّهُورِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ، وَقَدْ سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا نَصًّا لِمُلَاحَظَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالْمَرْجُوحُ مُؤَوَّلٌ، لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الظُّهُورِ عِنْدَ مُسَاعَدَةِ الدَّلِيلِ، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ظَاهِرٌ فِي نَفْيِ

الْإِجْزَاءِ رَاجِحٌ، وَهُوَ مَرْجُوحٌ فِي نَفْيِ الْكَمَالِ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ مِنْ الرُّجْحَانِ يُسَمَّى الْمُحْكَمَ لِإِحْكَامِ عِبَارَتِهِ وَإِثْبَاتِهِ، فَالْمُحْكَمُ جِنْسٌ لِنَوْعَيْ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ، وَمُقَابِلُهُمَا الْمُجْمَلُ وَالْمُؤَوَّلُ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا مِنْ عَدَمِ الرُّجْحَانِ يُسَمَّى الْمُتَشَابِهَ، فَهُوَ جِنْسٌ لِنَوْعَيْ الْمُجْمَلِ وَالْمُؤَوَّلِ. وَأَصْلُ هَذَا الِاصْطِلَاحِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] . `

تقسيم اللفظ المركب

[تَقْسِيمُ اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ] وَهُوَ إمَّا تَامٌّ أَوْ غَيْرُ تَامٍّ، فَأَمَّا التَّامُّ فَهُوَ الَّذِي يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى كَلَامًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجُمْلَةٌ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْجُمْلَةَ أَعَمُّ مِنْ الْكَلَامِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْكَلَامِ الْإِفَادَةُ بِخِلَافِ الْجُمْلَةِ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: جُمْلَةُ الشَّرْطِ جُمْلَةُ الْجَوَابِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُفِيدٍ، فَلَيْسَ كَلَامًا. وَقَالَ: ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: شَرَطَ قَوْمٌ مِنْ النُّحَاةِ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلسَّامِعِ فَائِدَةً غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لَهُ. وَالصَّوَابُ: حُصُولُ حَقِيقَةِ الْكَلَامِ بِمُجَرَّدِ الْإِسْنَادِ الَّذِي يَصِحُّ السُّكُوتُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْقَضَايَا الْبَدِيهِيَّةُ كُلُّهَا لَيْسَتْ كَلَامًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، لِوُجُوبِ انْتِهَاءِ جَمِيعِ الدَّلَائِلِ إلَيْهَا وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْمُهْمَلَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامٌ، وَخَطَّأَهُ. قَالَ: وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي أَقْسَامِ الْكَلَامِ. وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ " أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ حَكَى فِي كِتَابِهِ الْإِرْشَادِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْمُهْمَلَ كَلَامٌ أَوْ لَا؟ قَالَ: وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُسَمَّى كَلَامًا مَجَازًا، وَلَا يَتَأَلَّفُ الْكَلَامُ إلَّا مِنْ اسْمَيْنِ، أَوْ اسْمٍ وَفِعْلٍ، إمَّا مَلْفُوظٌ بِهِ كَقَامَ زَيْدٌ أَوْ مُقَدَّرٌ كَ " يَا زَيْدُ "، فَإِنَّ حَرْفَ النِّدَاءِ فِي تَقْدِيرِ الْفِعْلِ، وَهُوَ أَدْعُو زَيْدًا. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاحْتَمَلَ التَّكْذِيبَ وَالتَّصْدِيقَ، وَسَنَذْكُرُ جَوَابُهُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ تَرْكِيبَ الْحُرُوفِ مَعَ مَا هُوَ فِي تَقْدِيرِ الِاسْمِ نَحْوَ، أَمَا

أَنَّك ذَاهِبٌ بِفَتْحِ " أَنَّ "، وَزَعَمَ ابْنُ خَرُوفٍ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ يَا زَيْدُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ " أَنَّ " وَإِنْ كَانَ فِي تَقْدِيرِ مُفْرَدٍ، فَإِنَّ فِي الْكَلَامِ مُسْنَدًا وَمُسْنَدًا إلَيْهِ، وَجَوَّزَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ائْتِلَافَهُ مِنْ فِعْلٍ وَحَرْفٍ نَحْوَ قَدْ قَامَ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُفِيدُ لِتَصَوُّرِ ضَمِيرٍ فِي الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ فِي " قَامَ "، فَيَكُونُ الْمَعْنَى قَدْ قَامَ فُلَانٌ. وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَاطِقٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ اصْطَلَحَ اثْنَانِ عَلَى أَنْ يَذْكُرَ أَحَدُهُمَا فِعْلًا أَوْ مُبْتَدَأً، وَالْآخَرُ فَاعِلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ خَبَرُ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ، فَلَيْسَ بِكَلَامٍ، وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى فِي الْكَلَامِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ هَلْ يُغَيِّرُ صِفَتَهُ؟ وَرَدَّ ابْنُ مَالِكٍ ذَلِكَ، وَقَالَ: الْمَجْمُوعُ كَلَامٌ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى حَدِّهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ النَّاطِقِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْكَاتِبِ فِي كَوْنِ الْخَطِّ خَطًّا ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ هَلْ يُحَدُّ؟ فَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ إنَّمَا يُبَيَّنُ بِالتَّفْصِيلِ، لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ، وَلَا عِبَارَةَ تُحِيطُ بِذَلِكَ إلَّا بِتَطْوِيلٍ يُصَانُ الْحَدُّ عَنْهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُحَدُّ، وَلِلْقَاضِي فِيهِ قَوْلَانِ، وَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى أَنَّهُ يُحَدُّ كَالْعَلَمِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: مَا أُوجِبَ لِمَحَلِّ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: الْقَوْلُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِبَارَاتُ، وَزُيِّفَ بِأَنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْقَوْلُ فَكَيْفَ يُحَدُّ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ؟ وَقَوْلُهُ: الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ مَجَازٌ، فَإِنَّ الْقَائِمَ مِنْ صِفَاتِ الْعُقَلَاءِ، ثُمَّ إنَّ الدَّلَالَةَ لَا تَسْتَقِلُّ بِهَا الْأَلْفَاظُ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ قَرِينَةٍ.

الثَّانِي: اخْتَلَفُوا وَهَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي اللِّسَانِيِّ أَوْ النَّفْسَانِيِّ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ تَقَدَّمَتْ مَحْكِيَّةً عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْمُخْتَارُ الثَّانِي. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا مُبْطِلٌ، فَلَوْ نَظَرَ الْمُصَلِّي فِي مَكْتُوبٍ غَيْرِ قُرْآنٍ وَرَدَّدَ مَا فِيهِ فِي نَفْسِهِ لَمْ تَبْطُلْ، وَقِيلَ: تَبْطُلُ إنْ طَالَ، حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ عَنْ النَّصِّ. الثَّانِي: إذَا حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَتَكَلَّمَ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَاطِبَ أَحَدًا أَوْ صَلَّى وَسَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ هَلْ يَحْنَثُ؟ قَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدَهُمَا: لَا يَحْنَثُ وَيُحْمَلُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّعْ أَئِمَّتُنَا عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَلَا اعْتَبَرُوهُ بِمُجَرَّدِهِ فِي إثْبَاتِ الْعُقُودِ وَلَا فِي فَسْخِهَا، وَلَمْ يُوقِعُوا الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ صَمَّمَ عَلَيْهَا بِقَلْبِهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ غَيْرُ الْمَنْوِيِّ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ» وَوَجْهُ اخْتِلَافِ قَوْلِ الْأَصْحَابِ فِيمَا لَوْ حَرَّكَ لِسَانَهُ بِالطَّلَاقِ، وَلَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ السَّمِيعُ بِنَفْسِهِ، أَنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ نُطْقٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتُوا لَهُ حُكْمَ الْكَلَامِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا لَمْ يَجْعَلُوهُ قِرَاءَةً إذَا لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ وَلِأَنَّ الْعُقُودَ الْمُفْتَقِرَةَ إلَى الْإِشْهَادِ تَفْتَقِرُ إلَى سَمَاعِ الشَّاهِدِ وَطَرِيقِ الصَّوْتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

أقسام الكلام باعتبار ما يترتب عليه من المعنى

[أَقْسَامُ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى] وَيَنْقَسِمُ الْكَلَامُ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى إلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُفِيدَ طَلَبًا بِالْوَضْعِ أَوْ، لَا، وَالْأَوَّلُ إنْ كَانَ الطَّلَبُ لِذِكْرِ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ فَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ كَقَوْلِك مَا هَذَا؟ وَمَنْ هَذَا؟ وَإِنْ كَانَ لِتَحْصِيلِ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَإِنْ كَانَ مَعَ الِاسْتِعْلَاءِ فَأَمْرٌ، أَوْ مَعَ التَّسَاوِي فَالْتِمَاسٌ، أَوْ مَعَ التَّسَفُّلِ فَدُعَاءٌ. وَالثَّانِي: إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ الْخَبَرُ وَالثَّانِي التَّنْبِيهُ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ التَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي وَالْقَسَمُ وَالنِّدَاءُ، وَيُسَمَّى الْخَبَرُ قَضِيَّةً، لِأَنَّك قَضَيْت فِيهَا بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ مِنْ جُزْئَيْهَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ، وَالْآخَرُ مَحْكُومًا بِهِ، وَالْمَنْطِقِيُّونَ يُسَمُّونَ الْأَوَّلَ مَوْضُوعًا وَالثَّانِيَ مَحْمُولًا. ثُمَّ الْقَضِيَّةُ إمَّا كُلِّيَّةً أَوْ جُزْئِيَّةً أَوْ صَالِحَةً لَهُمَا، وَتُسَمَّى الْمُهْمَلَةُ، وَصِدْقُهَا عَلَى الْجُزْئِيِّ ضَرُورِيٌّ، فَأَمَّا صِدْقُهَا عَلَى الْكُلِّيِّ فَمَنَعَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ. وَأَمَّا لُغَةُ الْعَرَبِ فَتَقْتَضِي الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِغْرَاقِ، وَعَلَيْهِ جَرَى الْأُصُولِيُّونَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ النِّدَاءِ مِنْ جُمْلَةِ أَقْسَامِ الْإِنْشَاءِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَزَعَمَ ابْنُ بَابْشَاذَ النَّحْوِيُّ أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْقَذْفِ: يَا فَاسِقُ يَا زَانِي مِمَّا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَغَلَّطُوهُ بِأَنَّ التَّكْذِيبَ لَا يَرِدُ عَلَى النِّدَاءِ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ نِدَاءِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِيقَةِ التَّذْكِيرِ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تِلْكَ الصِّفَةُ نَفْسُهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ النِّدَاءِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ بَرْهَانٍ: فِي " الْغُرَّةِ " إذَا نَادَيْت وَصْفًا فَالْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ، وَإِذَا نَادَيْت اسْمًا فَالْجُمْلَةُ لَيْسَتْ بِخَبَرِيَّةٍ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ وَجَبَ الْحَدُّ. نَعَمْ اخْتَلَفُوا فِي نَاصِبِ الْمُنَادَى، فَقِيلَ: فِعْلٌ مُضْمَرٌ أَيْ أَدْعُو زَيْدًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إخْرَاجُ النِّدَاءِ إلَى بَابِ الْإِخْبَارِ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَقِيلَ: الْحَرْفُ، وَهُوَ " يَا "

لِأَنَّهُ صَارَ بَدَلًا مِنْ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا أُمِيلَتْ. وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: " يَا " اسْمُ فِعْلٍ فَنَصَبَتْ كَنَصْبِهِ، لِأَنَّ " يَا " اسْمٌ لِقَوْلِك أُنَادِي كَمَا أَنَّ " أُفٍّ " اسْمٌ لِقَوْلِك: أَتَضَجَّرُ، وَرُدَّ بِأَنَّ " أُنَادِي " خَبَرٌ وَلَيْسَ " يَا " بِخَبَرٍ، وَمِنْ شَرْطِ اسْمِ الْفِعْلِ أَنْ يُوَافِقَهُ فِي قَبُولِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَعَدَمِهِ. وَقَدْ خَطَّأَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَنَا: يَا زَيْدُ بِأُنَادِي مِنْ وُجُوهٍ، حَاصِلُهَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ " يَا زَيْدُ " إنْشَاءٌ، وَقَوْلُنَا أُنَادِي خَبَرٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَلَحَ قَوْلُنَا: " يَا زَيْدُ " أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِعَمْرٍو كَمَا صَلَحَ قَوْلُنَا: أُنَادِي زَيْدًا لِذَلِكَ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ " أُنَادِي " الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى " يَا زَيْدُ " خَبَرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إنْشَاءٌ، نَعَمْ: الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ أُنَادِي زَيْدًا لَيْسَ هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَأَجَابَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْمُرْسِيُّ بِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ يُنْقَلُ مِنْ الْخَبَرِيَّةِ إلَى الْإِنْشَائِيَّةِ كَأَلْفَاظِ الْعُقُودِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا اسْتِحْدَاثُ الْأَحْكَامِ بِأَنَّهَا بَعْدَ نَقْلِهَا إلَى الْإِنْشَاءِ لَمْ تَبْقَ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، فَكَذَلِكَ هَذَا وَكُلُّ هَذَا غَفْلَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَحْذُوفِ فِي الْمُنَادَى، وَسِيبَوَيْهِ لَمْ يُقَدِّرْ " يَا زَيْدُ " بِأُنَادِي زَيْدًا، بَلْ قَدَّرَهُ " يَا أُنَادِي زَيْدًا " كَأَنَّ " يَا " أَوَّلًا تَنْبِيهٌ غَيْرُ خَاصٍّ يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَبَّهَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ، فَبَيَّنَ الْمُنَبَّهُ بَعْدَ هَذَا التَّنْبِيهِ غَيْرِ الْخَاصِّ

أَنَّهُ خَاصٌّ، فَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ فِي النِّدَاءِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى، وَلَا يُغَيِّرُهُ مِنْ بَابِ الْإِنْشَاءِ إلَى الْخَبَرِ، كَمَا قَالُوا: بَلْ هُوَ كَتَقْدِيرِ الْمُتَعَلِّقِ فِي قَوْلِك: " زَيْدٌ عِنْدَك " الَّذِي هُوَ مُسْتَقِرٌّ إذَا قَدَّرْت فَقُلْت: زَيْدٌ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَك. فِي أَنَّهُ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى وَلَا يُغَيِّرُهُ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ تَصَيَّدْتهَا مِنْ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ النَّحْوِيِّ أَبِي عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

خاتمة في أمرين يتعين الاهتمام بهما

[خَاتِمَةٌ فِي أَمْرَيْنِ يَتَعَيَّنُ الِاهْتِمَامُ بِهِمَا] مَبْحَثٌ الِاسْمُ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرِهِ] أَحَدُهُمَا: الْكَلَامُ فِي أَنَّ الِاسْمَ هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ؟ وَقَدْ كَثُرَ خَبْطُ النَّاسِ فِيهَا، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْخِلَافَ غَيْرُ مُحَقَّقٍ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى لَاحْتَرَقَ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِ النَّارِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَلَزِمَ كَذَا وَكَذَا، وَكُلُّ ذَلِكَ نَاشِئٌ عَنْ عَدَمِ فَهْمِ الْمَسْأَلَةِ. فَنَقُولُ: إذَا سَمَّيْت شَيْئًا بِاسْمٍ، فَالنَّظَرُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: ذَلِكَ الِاسْمُ وَهُوَ اللَّفْظُ وَمَعْنَاهُ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ، وَمَعْنَاهُ بَعْدَهَا، وَهُوَ الذَّاتُ الَّتِي أُطْلِقَ عَلَيْهَا اللَّفْظُ، وَالذَّاتُ وَاللَّفْظُ مُتَغَايِرَانِ قَطْعًا، وَالنُّحَاةُ إنَّمَا يُطْلِقُونَ الِاسْمَ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُسَمَّى قَطْعًا عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالذَّاتُ هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَيْسَ هُوَ الِاسْمُ قَطْعًا. وَالْخِلَافُ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ، وَهُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ قَبْلَ التَّلْقِيبِ، فَعَلَى قَوَاعِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ يُطْلِقُونَ الِاسْمَ عَلَيْهِ وَيَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ الثَّالِثُ أَوْ لَا فَالْخِلَافُ عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ فِي الِاسْمِ الْمَعْنَوِيِّ هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَمْ لَا؟ لَا فِي الِاسْمِ اللَّفْظِيِّ، وَأَمَّا النُّحَاةُ فَلَا يُطْلِقُونَ الِاسْمَ عَلَى غَيْرِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَبْحَثُونَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَالْمُتَكَلِّمُ لَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا الْإِطْلَاقَ، لِأَنَّهُ إطْلَاقُ اسْمِ الْمَدْلُولِ عَلَى الدَّالِّ، وَيُرِيدُ شَيْئًا دَعَاهُ عِلْمُ الْكَلَامِ إلَى تَحْقِيقِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَإِطْلَاقُهُمَا عَلَى الْبَارِي تَعَالَى. مِثَالُهُ: إذَا قُلْت: عَبْدُ اللَّهِ أَنْفُ النَّاقَةِ، فَالنُّحَاةُ يُرِيدُونَ بِاللَّقَبِ لَفْظَ: أَنْفِ النَّاقَةِ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُرِيدُونَ مَعْنَاهُ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ

وَقَوْلُ النُّحَاةِ: إنَّ اللَّقَبَ - وَيَعْنُونَ بِهِ اللَّفْظَ يُشْعِرُ بِضِعَةٍ أَوْ رِفْعَةٍ - لَا يُنَافِيهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُشْعِرٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُقْتَضِي لِلضِّعَةِ أَوْ الرِّفْعَةِ، وَذَاتُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي اللَّقَبَ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ، فَهَذَا تَنْقِيحُ مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ خَاصٌّ بِأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ الْمُشْتَقَّةِ لَا فِي كُلِّ اسْمٍ، وَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هُوَ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأُصُولِ الدِّينِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى مِنْ حَيْثُ الْمَدْلُولُ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُسَمَّى مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ، فَإِنَّ الدَّلَالَةَ تَتَغَيَّرُ وَتَتَبَدَّلُ وَتَتَعَدَّدُ، وَالْمَدْلُولُ يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَدَّلُ. وَقَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ النَّحَّاسِ: قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ عَمْرُونٍ: هَذَا الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا حَاجَةَ لِي إلَى الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ، بَلْ أَقُولُ: بَدَلُ الِاسْمِ الْعِبَارَةُ، وَبَدَلُ الْمُسَمَّى الْمُعَبَّرُ عَنْهُ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ الصَّحِيحُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَاتٍ فَإِنَّا إذَا قُلْنَا: ضَرَبْت زَيْدًا أَوْ أَكْرَمْت، زَيْدًا لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِزَيْدٍ لَيْسَ هَذِهِ الْحُرُوفَ بَلْ الْمُسَمَّى، وَإِذَا قُلْنَا: كَتَبْت زَيْدًا، أَوْ مَحَوْت زَيْدًا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إلَّا هَذِهِ الْحُرُوفَ لَا الْمُسَمَّى، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخِلَافَ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ عِبَارَاتٍ. الثَّانِي: أَنَّ إثْبَاتَ الْفِعْلِ هَلْ يَسْتَدْعِي إثْبَاتَ مُطَاوِعِهِ أَمْ لَا؟ مِثَالُهُ:

إذَا قُلْت أَخْرَجْته، فَهَلْ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ حُصُولَ الْخُرُوجِ أَوْ لَا يَسْتَدْعِيهِ؟ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ تَقُولَ: أَخْرَجْته فَمَا خَرَجَ وَعَلَّمْته فَمَا تَعَلَّمَ، وَبِهَذَا صَرَّحَ فِي الْمَحْصُولِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ اللُّغَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَيُنْسَبُ إلَى النِّهَايَةِ " لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ حِكَايَةٌ فِيهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَوَارِدَ مُخْتَلِفَةٌ وَالِاسْتِعْمَالَانِ وَاقِعَانِ فِي الْعُرْفِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَوَارِدِ. وَنُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ الْبَاجِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَسْتَدْعِي مُطَاوِعَهُ وَيَقُولُ: لَوْ لَمْ يَصِحَّ عَلَّمْته فَمَا تَعَلَّمَ لَمَا صَحَّ عَلَّمْته فَتَعَلَّمَ. يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ التَّعْلِيمَ لَوْ كَانَ عِلَّةً لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ مَعْلُولِهَا لَا تَعْقِيبَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْمَعْلُولَ يَتَأَخَّرُ لَمْ يَكُنْ فَائِدَةٌ فِي قَوْلِنَا: فَتَعَلَّمَ لِأَنَّ التَّعَلُّمَ فُهِمَ مِنْ قَوْلِنَا: عَلَّمْته، وَهَذَا كَلَامٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ غَيْرُ سَابِقَةٍ لِلْمَعْلُولِ زَمَنًا فَهِيَ سَابِقَةٌ بِالذَّاتِ إجْمَاعًا، وَذَلِكَ كَافٍ فِي تَعْقِيبِ مَعْلُولِهَا، فَإِنْ قُلْت: أَلَيْسَ يُقَالُ: كَسَرْته فَمَا انْكَسَرَ؟ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ قَوْلِنَا مَعَ ذَلِكَ عَلَّمْته فَمَا تَعَلَّمَ. قُلْت: فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ الْعِلْمَ فِي الْقَلْبِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَتَوَقَّفُ عَلَى أُمُورٍ مِنْ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فَكَانَ عَلَّمْته مَوْضُوعًا لِلْجُزْءِ الَّذِي مِنْ الْعِلْمِ فَقَطْ لِعَدَمِ إمْكَانِ فِعْلٍ مِنْ الْمَخْلُوقِ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِخِلَافِ الْكَسْرِ، فَإِنَّهُ أَثَرٌ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْكِسَارِ. وَرَجَّحَ بَعْضُ أَذْكِيَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْفِعْلَ يَسْتَدْعِي حُصُولَ مُطَاوِعِهِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف: 178] فَأَخْبَرَ عَنْ كُلِّ مَنْ هَدَاهُ بِأَنَّهُ اهْتَدَى، وَاهْتَدَى مُطَاوِعُ هَدَى، وَأَنَّهُ حَيْثُ وَجَدْنَاهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مَجَازٌ، لَكِنْ يَشْهَدُ لِوُجُودِ الْفِعْلِ دُونَ

مُطَاوِعِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] وَقَوْلُهُ: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60] فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَضَمَّنُ حُصُولَ التَّخْوِيفِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِلْكُفَّارِ خَوْفٌ أَعْنِي الْخَوْفَ النَّافِعَ الَّذِي يَصْرِفُهُمْ إلَى الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُطَاوِعُ لِلتَّخْوِيفِ الْمُرَادِ فِي الْآيَةِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] فَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْهُدَى هُنَا بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ لَا بِمَعْنَى الرَّشَادِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] .

مباحث الاشتقاق

[مَبَاحِثُ الِاشْتِقَاقِ] ِ هُوَ افْتِعَالٌ مِنْ الشَّقِّ بِمَعْنَى الِاقْتِطَاعِ مِنْ انْشَقَّتْ الْعَصَا إذَا تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا، فَإِنَّ مَعْنَى الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ تَتَوَزَّعُ عَلَى أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ مُتَقَطِّعَةٍ مِنْهَا، أَوْ مِنْ شَقَقْت الثَّوْبَ وَالْخَشَبَةَ، فَيَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا مُنَاسِبًا لِصَاحِبِهِ فِي الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَهُوَ يَقَعُ بِاعْتِبَارِ حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَرَى لَفْظَيْنِ اشْتَرَكَا فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْمَعْنَى، وَتُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهُمَا أَصْلٌ أَوْ فَرْعٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَرَى لَفْظًا قَضَتْ الْقَوَاعِدُ بِأَنَّ مِثْلَهُ أَصْلٌ، وَتُرِيدُ أَنْ تَبْنِيَ مِنْهُ لَفْظًا آخَرَ، وَالْأُولَى تَقَعُ بِاعْتِبَارٍ عَامٍّ غَالِبًا، وَالثَّانِيَةُ بِاعْتِبَارٍ خَاصٍّ، إمَّا بِحَسَبِ الْإِحَالَةِ عَلَى الْأُولَى أَوْ بِحَسَبِ مَا يَخُصُّهَا، فَمِنْ الْأُولَى الْكَلَامُ فِي الْمَصْدَرِ وَالْفِعْلُ أَيُّهُمَا أَصْلٌ وَالْآخَرُ فَرْعٌ؟ وَمِنْ الثَّانِيَةِ الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ بِنَاءِ اسْمِ فَاعِلٍ مِنْ لَهُ الطَّلَاقُ مَثَلًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُشْتَقَّةَ تُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ بِذَاتِ الشَّيْءِ وَصِفَتِهِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ السَّمْنَانِيِّ فِي ذَلِكَ لِلْحَسَنِ بْنِ هَانِئٍ: وَإِنْ اسْمُ حُسْنَى لِوَجْهِهَا صِفَةٌ ... وَلَا أَرَى ذَا لِغَيْرِهَا اجْتَمَعَا فَهِيَ إذَا سُمِّيَتْ فَقَدْ وُصِفَتْ ... فَيَجْمَعُ اللَّفْظُ مَعْنَيَيْنِ مَعَا وَقَالَ الْأَئِمَّةُ: الِاشْتِقَاقُ مِنْ أَشْرَفِ عُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَدَقِّهَا وَعَلَيْهِ مَدَارُ عِلْمِ

التَّصْرِيفِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَصْلِيِّ وَالزَّائِدِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ لِبِنْيَةٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهَا فِي الِاشْتِقَاقِ، وَتَوَقَّفَ عَلَيْهِ فِي النَّحْوِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاطِنَ: الْأَوَّلُ: فِي ثُبُوتِهِ. وَحَكَى ابْنُ الْخَشَّابِ فِيهِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: جَوَازُهُ مُطْلَقًا فَيَشْتَقُّ مَا يُمْكِنُ اشْتِقَاقُهُ وَمَا يَبْعُدُ أَوْ يَسْتَحِيلُ. قَالَهُ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ. قُلْت: وَكَذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ صَنَّفَ كِتَابًا، وَذَكَرَ فِيهِ اشْتِقَاقَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَالثَّانِي: مَنَعَهُ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مُشْتَقٌّ مِنْ آخَرَ، بَلْ الْجَمِيعُ مَوْضُوعٌ بِلَفْظٍ جَدِيدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفِ بِنَفْطَوَيْهِ. قَالَ: وَكَانَ ظَاهِرِيًّا فِي ذَا، وَفِي مَذْهَبِهِ، وَكَانَ مِنْ أَجِلَّةِ أَصْحَابِ دَاوُد، وَوَافَقَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مِقْسَمٍ الْمُقْرِي وَهَذَانِ الْمَذْهَبَانِ طَرَفَانِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَعَلَيْهِ الْحُذَّاقُ مِنْ أَهْلِ عِلْمِ اللِّسَانِ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَصْمَعِيِّ.

حد الاشتقاق

وَأَبِي عُبَيْدٍ وَقُطْرُبٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مُشْتَقًّا وَغَيْرَ مُشْتَقٍّ، وَهُوَ الْمُرْتَجِلُ. قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: لَوْ جَمَدَتْ الْمَصَادِرُ وَارْتَفَعَ الِاشْتِقَاقُ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ لَمْ تُوجَدْ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ، وَلَا فِعْلٌ لِفَاعِلٍ، وَلَوْلَا الِاشْتِقَاقُ لَاحْتِيجَ فِي مَوْضِعِ الْجُزْءِ مِنْ الْكَلِمَةِ إلَى كَلَامٍ كَثِيرٍ، أَلَا تَرَى كَيْفَ تَدُلُّ " التَّاءُ " فِي تَضْرِبُ عَلَى مَعْنَى الْمُخَاطَبَةِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَالْيَاءُ فِي يَضْرِبُ عَلَى مَعْنَى الْغَيْبَةِ وَالِاسْتِقْبَالِ؟ وَكَذَا بَاقِي حُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ، وَلَوْ جُعِلَ لِكُلِّ مَعْنًى لَفْظٌ يَتَبَيَّنُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ لَانْتَشَرَ الْكَلَامُ وَبَعُدَ الْإِفْهَامُ وَنَقَصَتْ الْقُوَّةُ. [حَدّ الِاشْتِقَاق] الثَّانِي فِي حَدِّهِ: قَالَ الرُّمَّانِيُّ: هُوَ اقْتِطَاعُ فَرْعٍ مِنْ أَصْلٍ يَدُورُ فِي تَصَارِيفِ الْأَصْلِ قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ. وَهَذَا الْحَدُّ صَحِيحٌ وَهُوَ عَامٌّ لِكُلِّ اشْتِقَاقٍ صِنَاعِيٍّ وَغَيْرِ صِنَاعِيٍّ.

وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هُوَ الْإِنْشَاءُ عَنْ الْأَصْلِ فَرْعًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضًا مَا يَكُونُ مِنْهُ النَّحْتُ وَالتَّغْيِيرُ لِإِخْرَاجِ الْأَصْلِ بِالتَّأَمُّلِ كَأَنَّك تَشُقُّ الشَّيْءَ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الْأَصْلُ، وَكَأَنَّ الْأَصْلَ مَدْفُونٌ فِيهِ، فَأَنْتَ تَشُقُّهُ لِتُخْرِجَهُ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ وَظَاهِرُهُ: أَنَّك اسْتَخْرَجْت الْأَصْلَ مِنْ الْفَرْعِ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ أَنَّهُ رَدُّ الْفَرْعِ إلَى أَصْلِهِ بِمَعْنَى جَمْعِهِمَا، وَهُوَ خَاصٌّ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ بِالْأَصْلِ. وَقَالَ الْمَيْدَانِيُّ: أَنْ تَجِدَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَنَاسُبًا فِي الْمَعْنَى وَالتَّرْكِيبِ، فَتَرُدَّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: أَنْ يَنْتَظِمَ مِنْ الصِّفَتَيْنِ فَصَاعِدًا مَعْنًى وَاحِدٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ فَإِنَّ الضَّارِبَ وَالْمَضْرُوبَ قَدْ انْتَظَمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الضَّرْبُ مَعَ أَنَّهُ لَا اشْتِقَاقَ فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ يَنْتَظِمُ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَصْدَرِ مَعَ أَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ مُشْتَقًّا مِنْ بَعْضٍ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي يَنْتَظِمُهَا، وَهُوَ الضَّرْبُ مَثَلًا. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يُحَدُّ تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ، وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ. فَفِي الْأَوَّلِ إذَا أَرَدْت تَقْرِيرَ أَنَّ الْكَلِمَةَ مِمَّ اشْتَقْت؟ فَإِنَّك تَرُدُّهَا إلَى آخَرَ لِتَعْرِفَ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ، وَالثَّانِي إذَا أَرَدْت أَنْ تَشْتَقَّ الْكَلِمَةَ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّك تَأْخُذُهَا مِنْهُ، فَقَدْ جَعَلْتهَا مُشْتَقَّةً مِنْهُ، فَالتَّفَاوُتُ إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ الرَّدِّ وَالْأَخْذِ، فَهَذَا قَبْلَ الِاشْتِقَاقِ، وَالْأَوَّلُ بَعْدَهُ.

وَالْمُخْتَارُ عَلَى الْأَوَّلِ: أَنَّهُ رَدُّ لَفْظٍ إلَى آخَرَ أَبْسَطُ مَعْنًى مِنْهُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَالْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ كَضَارِبٍ وَضَرَبَ مِنْ ضَرْبٍ، فَحَكَمْنَا بِاشْتِقَاقِ ضَرَبَ وَضَارِبٍ لِأَنَّ ضَرْبًا أَبْسَطُ مِنْهُ، وَالْبَسِيطُ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ فَشَمِلَ اللَّفْظُ الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ وَالْحُرُوفِ. قَالَ ابْنِ جِنِّي: الِاشْتِقَاقُ كَمَا يَقَعُ فِي الْأَسْمَاءِ يَقَعُ فِي الْحُرُوفِ، فَإِنَّ " نَعَمْ " حَرْفُ جَوَابٍ. وَأَرَى أَنَّ نَعَمْ، وَالنِّعَمَ، وَالنَّعْمَاءَ، وَالنَّعِيمَ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ وَكَذَلِكَ أَنْعَمَ صَبَاحًا، لِأَنَّ الْجَوَابَ بِهِ مَحْبُوبٌ لِلْقُلُوبِ، وَكَذَلِكَ سَوَّفْت مِنْ " سَوْفَ " الَّذِي هُوَ حَرْفُ تَنْفِيسٍ، وَلَوْلَيْت إذَا قُلْت لَهُ: لَوْلَا، وَلَيْلَيْت إذَا قُلْت لَهُ: لَا لَا، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْمَعْنَى الْمُشْتَقُّ حَقِيقَةً، كَضَارِبٍ مِنْ الضَّرْبِ، وَقَدْ يَكُونُ مَجَازًا عَلَى جِهَةِ الِاتِّسَاعِ نَحْوَ ضَرَبَ فِي الْغَنِيمَةِ وَغَيْرِهَا بِسَهْمٍ أَيْ أَخَذَ، وَضَارِبٍ لِفُلَانٍ بِمَالِهِ، وَمَالِ فُلَانٍ ضَرَبْت أَيْ: نِيلَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا اقْتَسَمُوا غَنِيمَةً أَوْ غَيْرَهَا ضَرَبُوا عَلَيْهَا بِسِهَامِ الْقُرْعَةِ وَهِيَ الْأَقْلَامُ، ثُمَّ اضْطَرَدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْ أَخَذَ نَصِيبًا مِنْ شَيْءٍ قَدْ ضَرَبَ فِيهِ بِسَهْمٍ، وَالْمُضَارَبَةُ بِالْمَالِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ السَّفَرُ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يُسَافِرُ عَالِمًا لِيَطْلُبَ الرِّبْحَ، ثُمَّ اطَّرَدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُسَافِرٍ وَإِنْ لَمْ يُضَارِبْ. وَخَرَجَ بِاشْتِرَاطِ الْمُنَاسَبَةِ مَا لَا يُنَاسِبُهُ أَصْلًا، وَبِالْحُرُوفِ عَمَّا لَا يُوَافِقُهُ فِي الْحُرُوفِ، بَلْ فِي الْمَعْنَى كَمَنْعٍ وَحَبْسٍ فَلَا يُقَالُ: إنَّ أَحَدَهُمَا مُشْتَقٌّ مِنْ الْآخَرِ، وَبِالْأَصْلِيَّةِ التَّنَاسُبُ فِي الزِّيَادَةِ كَدَخَلَ، فَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ الدُّخُولِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ مَصْدَرَهُ فِي الْوَاوِ، لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الْمَعْنَى مَا يُوَافِقُ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، كَضَرَبَ بِمَعْنَى سَافَرَ، لَا يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ الضَّرْبِ بِمَعْنَى الْقَتْلِ.

فائدة الاشتقاق

وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ التَّرْتِيبَ فِي الْحُرُوفِ أَيْ أَنْ تَبْقَى حُرُوفُ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْأَصْلِ، وَتَرْجِعَ تَفَارِيعُ الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ إلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ فِي الْجُمْلَةِ، كَضَرَبَ مِنْ الضَّرْبِ، وَكَمَا دَلَّ قَوْلُنَا إلَى آخَرَ عَلَى تَغَايُرِ اللَّفْظَيْنِ كَذَلِكَ قَوْلُنَا: لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْمَعْنَيَيْنِ، إذْ الشَّيْءُ لَا يُنَاسِبُ نَفْسَهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُرَدُّ الْمَعْدُولُ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمَعْدُولِ وَالْمَعْدُولِ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى. [فَائِدَةُ الِاشْتِقَاق] الثَّالِثُ فِي فَائِدَتِهِ وَسَبَقَ صَدْرَ الْبَحْثِ، وَقَالَ ابْنُ الْحُوبِيِّ: فَائِدَتُهُ تَسْهِيلُ السَّبِيلِ عَلَى الْوَاضِعِ وَالْمُتَعَلِّمِ جَمِيعًا، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ فِي الْحَقِيقَةِ يَخْتَلِفُ بِالْعَوَارِضِ، فَإِنْ وُضِعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ اسْمٌ عَلَى حِدَةٍ مِنْ حُرُوفٍ مُتَبَايِنَةٍ احْتَاجَ الْوَاضِعُ إلَى صِيَغٍ كَثِيرَةٍ، وَالْمُتَعَلِّمُ إلَى حِفْظِ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ، فَإِذَا قَالَ الْوَاضِعُ: مَا عَلَى وَزْنِ الْفَاعِلِ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ هُوَ لِفَاعِلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى وَضْعِ الضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ وَالشَّاتِمِ، وَالْمُتَعَلِّمُ إذَا عَلِمَ " ضَرَبَ " عَلِمَ " الضَّارِبَ " وَ " الْمَضْرُوبَ " وَالتَّثْنِيَةَ وَالْجَمْعَ وَالتَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَالْغَيْبَةَ وَالْحُضُورَ، وَهَذَا هُوَ عُمْدَةُ الْعَرَبِيَّةِ. [تَقْسِيم الِاشْتِقَاق] الرَّابِعُ: فِي تَقْسِيمِهِ: وَهُوَ أَصْغَرُ وَأَكْبَرُ وَأَوْسَطُ، فَالْأَصْغَرُ: مَا كَانَتْ الْحُرُوفُ الْأَصْلِيَّةُ فِيهِ مُسْتَوِيَةً فِي التَّرْكِيبِ، نَحْوَ ضَرَبَ يَضْرِبُ فَهُوَ ضَارِبٌ وَمَضْرُوبٌ. وَالْأَكْبَرُ مَا كَانَتْ الْحُرُوفُ فِيهِ غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ كَالتَّرَاكِيبِ السِّتَّةِ فِي كُلٍّ مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْقُوَّةِ، فَتُرَدُّ مَادَّةُ اللَّفْظَيْنِ فَصَاعِدًا إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَنَحْوُ

مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ جِنِّي مِنْ عَقْدِ التَّغَالِيبِ السِّتَّةِ فِي الْقَوْلِ عَلَى مَعْنَى السُّرْعَةِ وَالْخِفَّةِ نَحْوَ الْقَوْلِ وَالْقَلْوِ وَالْوَلْقِ وَالْوَقْلِ وَاللَّوْقِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ عَلَى الشِّدَّةِ كَالْمُلْكِ وَالْكَمَلِ وَاللَّكْمِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ: وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ أَحَدٌ مِنْ النَّحْوِيِّينَ إلَّا أَبَا الْفَتْحِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَنَّسُ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الِاشْتِقَاقَ غَيْرُ مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ لِعَدَمِ اطِّرَادِهِ. قُلْت: قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ فَارِسٍ، وَبَنَى عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْمَقَايِيسَ فِي اللُّغَةِ، فَيَرُدُّ تَرَاكِيبَ الْمَادَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا فِي بَعْضِهَا خَفِيًّا فِي الْبَعْضِ، فَيَحْتَاجُ فِي رَدِّهِ إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى تَلَطُّفٍ وَاتِّسَاعٍ فِي اللُّغَةِ، وَمَعْرِفَةِ الْمُنَاسَبَاتِ. مِثَالُهُ: مِنْ مَادَّةِ " ص ر ب " تَصْبِرُ وَتَرَبَّصَ وَتَبَصَّرَ، وَالتَّرَاكِيبُ الثَّلَاثَةُ رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنَى التَّأَنِّي نَحْوَ: تَصَبَّرَ عَلَى فُلَانٍ إنَّهُ مُعْسِرٌ ثُمَّ طَالَبَهُ وَ [قَوْلُ الشَّاعِرِ] : تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تَطْلُقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا وَمِنْ مَادَّةِ " ع ب ر " عَبَّرَ وَرَبَّعَ وَبَعَرَ وَبَرَعَ وَرَعَبَ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الِانْتِقَالِ وَالْمُجَاوَزَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ " ح س د " حَسَدَ، دَحَسَ وَحَدَسَ تَرْجِعُ إلَى مَعْنَى التَّضْيِيقِ، وَالْحَدْسُ جَوْدَةُ الْفِرَاسَةِ وَإِصَابَتُهَا، لِأَنَّ الْحَادِسَ يُضَيِّقُ مَجَالَ الْحُكْمِ حَتَّى يَتَعَيَّنَ لَهُ مَحْكُومٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا الْأَوْسَطُ: فَهُوَ أَنْ تَتَّفِقَ أَكْثَرُ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ كَفَلَقَ وَفَلَحَ وَفَلَدَ يَدُلُّ عَلَى الشَّقِّ، وَوَقَعَ هَذَا فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي مَوَاضِعَ.

أركان الاشتقاق

[أَرْكَان الِاشْتِقَاق] الْخَامِسُ: فِي أَرْكَانِهِ: وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْمُشْتَقُّ، وَالْمُشْتَقُّ مِنْهُ، وَالْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالرَّابِعُ التَّغْيِيرُ اللَّاحِقُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّغْيِيرِ اللَّفْظِيِّ، وَيَحْصُلُ التَّغْيِيرُ الْمَعْنَوِيُّ بِطَرِيقِ التَّبَعِ. [أَقْسَام الِاشْتِقَاق] السَّادِسُ: فِي أَقْسَامِهِ: وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ مِنْ أَقْسَامِ التَّغْيِيرِ غَيْرَ تِسْعَةٍ، وَذَكَرَ لَهَا مِثَالَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَأَعْرَضَ عَنْ الْبَاقِي ظَنًّا مِنْهُ سُهُولَةَ اسْتِخْرَاجِهَا. وَذَكَرَ ابْنُ الْخَبَّازِ الْمَوْصِلِيُّ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ مُشْكِلَةُ التَّحْصِيلِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَتَأَتَّى لَهُ اسْتِخْرَاجُهَا إلَّا بَعْدَ إطَالَةِ الْفِكْرِ وَإِدَامَةِ الذِّكْرِ وَأَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ زَمَانٌ وَهُوَ آيِسٌ مِنْ تَحْصِيلِهَا، وَأَنَّهُ بَحَثَ فِيهَا مَعَ شَيْخِهِ فَخْرِ الدِّينِ عُمَرَ النَّحْوِيِّ الْمُوصِلِيِّ فَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى صُورَةٍ أَوْ صُورَتَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِفَتْحِ رِتَاجِ الْإِشْكَالِ فَذَكَرَ أَمْثِلَةَ التِّسْعَةِ، وَذَكَرَهَا رَضِيُّ الدِّينِ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ الْبَيْضَاوِيُّ وَزَادَ عَلَيْهَا سِتَّةَ أَقْسَامٍ، فَبَلَغَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَرَأَيْت لِلشَّيْخِ

جَمَالِ الدِّينِ بْنِ مَالِكٍ زِيَادَةً عَلَيْهَا تِسْعَةً أُخْرَى، فَبَلَغَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَقَالَ: وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَمْثِلَةِ تَغْيِيرِ الْمُشْتَقِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ، لِيَدْخُلَ فِي الْفِعْلِ فَإِنَّهُ أَصْلٌ فِي الِاشْتِقَاقِ، إذْ لَا فِعْلَ إلَّا وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَصْدَرٍ مُسْتَعْمَلٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، وَالِاسْمُ تَبَعٌ لَهُ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ مِنْهُ الْجُمُودُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ فَالِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمُشْتَقِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُبَايَنَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ عِشْرِينَ قِسْمًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. أَوَّلُهَا: زِيَادَةُ الْحَرْفِ فَقَطْ، نَحْوَ كَاذِبٍ مِنْ الْكَذِبِ، وَضَاحِكٍ مِنْ الضَّحِكِ، وَكَرِيمٍ مِنْ الْكَرَمِ، وَجَزُوعٍ مِنْ الْجَزَعِ، زِيدَتْ فِيهَا الْحُرُوفُ: الْأَلِفُ وَالْيَاءُ وَالْوَاوُ. وَمَثَّلَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ الْأُرْمَوِيُّ: بِطَالِبٍ، وَقَالَ زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَيْهِ سُؤَالًا وَهُوَ فَإِنْ قُلْت: فِيمَا ذَكَرْتُمْ زِيَادَةُ حَرَكَةٍ مَعَ نُقْصَانِهَا فَإِنَّكُمْ نَقَصْتُمْ فَتْحَةَ اللَّامِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ وَزِدْتُمْ كَسْرَتَهَا. وَأَجَابَ عَنْهُ فَقَالَ: الْمَعْنَى بِزِيَادَةِ الْحَرَكَةِ تَحْرِيكُ السَّاكِنِ، وَبِنُقْصَانِهَا تَسْكِينُ الْمُتَحَرِّكِ، وَإِبْدَالُ حَرَكَةٍ بِحَرَكَةٍ لَيْسَ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي شَيْءٍ، وَلَوْ جَعَلْنَا إبْدَالَ حَرَكَةٍ بِحَرَكَةٍ زِيَادَةَ حَرَكَةٍ وَنُقْصَانٍ أُخْرَى لَكَانَ كَاذِبًا مِنْ الْكَذِبِ مِثَالًا لَهُ. قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ: وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّ

قَوْلَهُ: وَلَوْ جَعَلْنَا إبْدَالَ حَرَكَةٍ. . . إلَخْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ إبْدَالُ حَرَكَةٍ بِحَرَكَةٍ لَا زِيَادَةَ وَلَا نُقْصَانَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُنْزَعُ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مَا قَالَهُ أَوَّلًا مِنْ تَحْرِيكِ السَّاكِنِ وَتَسْكِينِ الْمُتَحَرِّكِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي التَّصْرِيفِ. ثَانِيهَا: زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ فَقَطْ نَحْوَ عَلِمَ مِنْ الْعِلْمِ، وَضَرَبَ مِنْ الضَّرْبِ، وَظَرُفَ مِنْ الظَّرْفِ، زِيدَتْ حَرَكَةُ اللَّامِ وَالرَّاءِ فَإِنَّهَا سَوَاكِنُ فِي الْمَصْدَرِ. وَمَثَّلَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ بِقَوْلِهِ: طَلَبَ مِنْ الطَّلَبِ، وَقَالَ: زِيدَ فِي الْفِعْلِ حَرَكَةُ الْبِنَاءِ الَّتِي فِي آخِرِهِ، وَفِيهِ نِزَاعٌ سَيَأْتِي بَيَانُهُ. ثَالِثُهَا: زِيَادَتُهُمَا مَعًا كَضَارِبٍ وَعَالِمٍ وَفَاضِلٍ زِيدَتْ الْأَلِفُ وَحَرَكَةُ عَيْنِ الْكَلِمَةِ. وَمَثَّلَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ بِ " طَالَبَ " الْفِعْلِ الْمَاضِي. قَالَ: وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الطَّلَبِ زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَفَتْحَةُ الْبِنَاءِ، وَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ " طَالَبَ " إنَّمَا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُطَالَبَةِ كَذَا قَالَ ابْنُ الشَّرِيشِيِّ. قُلْت: الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ إنَّمَا أَرَادَ " طَالِبَ " اسْمَ فَاعِلٍ، وَبِذَلِكَ مَثَّلَهُ ابْنُ مَالِكٍ. رَابِعُهَا: نُقْصَانُ الْحَرْفِ كَخَرَجَ مِنْ الْخُرُوجِ، وَصَهَلَ مِنْ الصَّهِيلِ، وَذَهَبَ مِنْ الذَّهَابِ. نَقَصَ مِنْهُ الْوَاوُ وَالتَّاءُ وَالْأَلِفُ. وَمَثَّلَهُ السَّرَّاجُ الْأُرْمَوِيُّ بِشَرِسَ مِنْ الشَّرَاسَةِ وَقَالَ: نَقَصَتْ مِنْهُ الْأَلِفُ وَالتَّاءُ، وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَابْنُ جَعْفَرٍ " بِخَفْ " فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ الْخَوْفِ نَقَصَتْ الْوَاوُ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْفَاءَ صَارَتْ فِي هَذَا سَاكِنَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً، فَاجْتَمَعَ فِي هَذَا الْمِثَالِ نُقْصَانُ الْحَرْفِ وَالْحَرَكَةُ مَعًا.

وَقَالَ ابْنُ الشَّرِيشِيِّ: هَذَا الْمِثَالُ غَيْرُ جَيِّدٍ، لِأَنَّ عَيْنَ الْكَلِمَةِ وَهِيَ الْوَاوُ لَمْ تُحْذَفْ لِأَجْلِ الِاشْتِقَاقِ، وَإِنَّمَا حُذِفَتْ لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَعُودُ عِنْدَ تَحْرِيكِ الْآخَرِ فِيمَا إذَا اتَّصَلَ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهَا خَافَا وَخَافُوا وَخَافِي؟ وَلَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا فِيمَا حُذِفَ لِأَجْلِ الِاشْتِقَاقِ حَتَّى يَقَعَ بِهِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمُشْتَقِّ وَالْمُشْتَقِّ مِنْهُ، وَأَمَّا الْحَذْفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَلِعِلَّةٍ أُخْرَى بَعْدَ حُصُولِ صُورَةِ الْمُشْتَقِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَنَا: " خَافَا " قَدْ عَادَ فِيهِ الْمَحْذُوفُ مَعَ بَقَاءِ الْكَلِمَةِ مُشْتَقَّةً مُعَبِّرَةً عَنْ أَصْلِهَا، وَحَقُّ الْأَلِفِ أَنْ تَكُونَ وَاوًا مُتَحَرِّكَةً لِتَقَعَ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَصْدَرِ بِحَرَكَةِ هَذِهِ الْوَاوِ، فَإِنَّهَا فِي الْمَصْدَرِ سَاكِنَةٌ، وَحَقُّهَا أَنْ تَكُونَ فِي الْفِعْلِ مُتَحَرِّكَةٌ، وَلَكِنْ طَرَأَ عَلَيْهَا الِاعْتِلَالُ فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا سَاكِنَةً، ثُمَّ حُذِفَ بَعْدَ ذَلِكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لَا لِلِاشْتِقَاقِ، وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا حُذِفَ لِلِاشْتِقَاقِ. خَامِسُهَا: نُقْصَانُ الْحَرَكَةِ كَأَبْيَضَ مِنْ الْبَيَاضِ وَأَصْبَحَ مِنْ الصَّبَاحِ، وَنَحْوَ اُطْلُبْ وَاحْذَرْ وَاضْرِبْ، فَإِنَّهُ نَقَصَ مِنْهَا حَرَكَاتُ أَوَائِلِهَا فَإِنَّهَا مُتَحَرِّكَةٌ فِي الْمَصْدَرِ سَاكِنَةٌ فِي الْفِعْلِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ، فَإِنَّ فِيهَا أَلِفًا زَائِدَةً فِي أَوَائِلِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ فِيمَا زِيدَ فِيهِ حَرْفٌ وَنَقَصَتْ مِنْهُ حَرَكَةٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَلِفَ الَّتِي فِي أَوَائِلِهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا فِي الِاشْتِقَاقِ، فَإِنَّ صُورَةَ الْمُشْتَقِّ حَاصِلَةٌ بِدُونِهَا فِي قَوْلِك: يَا زَيْدُ اضْرِبْ، وَمَا أَشْبَهَهُ، فَالْأَلِفُ سَاقِطَةٌ مَعَ أَنَّ صُورَةَ الْفِعْلِ الْمُشْتَقِّ حَاصِلَةٌ، وَإِنَّمَا يُجَاءُ بِهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ الِابْتِدَاءُ بِهَا لِسُكُونِ أَوَائِلِهَا وَتَعَذُّرِ الِابْتِدَاءِ بِالسَّاكِنِ، وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِ " ضَرْبٍ " الْمَصْدَرُ مِنْ ضَرَبَ الْمَاضِي عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي اشْتِقَاقِهِمْ الْمَصْدَرَ مِنْ الْفِعْلِ الْمَاضِي.

وَمَثَّلَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِ " ثَارَ " مِنْ الثَّارِّ، مَصْدَرُ ثِيرَ الْمَكَانُ إذَا كَثُرَتْ حِجَارَتُهُ، وَمَثَّلَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ " بِحَرِرٍ " اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ " حُرِّرَ " الْفِعْلُ الْمَاضِي فَقَدْ نَقَصَتْ مِنْهُ حَرَكَةُ الْبِنَاءِ الَّتِي فِي الْفِعْلِ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ حَرَكَةِ الْبِنَاءِ فِي صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي. سَادِسُهَا: نُقْصَانُهُمَا: نَحْوَ " سِرْ " مِنْ السَّيْرِ، وَ " بِعْ " مِنْ الْبَيْعِ، نَقَصَتْ الْيَاءُ وَحَرَكَةُ الرَّاءِ مِنْ الْأَوَّلِ وَالْيَاءُ وَحَرَكَةُ الْعَيْنِ مِنْ الثَّانِي، وَمَثَّلَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِ " حَيِيَ " مِنْ الْحَيَاةِ، وَمَثَّلَهُ الْأُرْمَوِيُّ بِ " عَصَى " مِنْ الْعِصْيَانِ. وَقَالَ: نَقَصَتْ مِنْهُ الْأَلِفُ وَالنُّونُ وَالْفَتْحَةُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْيَاءِ فِي الْمَصْدَرِ. وَمَثَّلَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ بِ " نَزَا " وَغَلَا مِنْ النَّزَوَانِ وَالْغَلَيَانِ، وَمَثَّلَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ بِ " عَدَّ " مِنْ الْعَدِّ، فَنَقَصَتْ مِنْهُ أَلِفٌ وَحَرَكَةُ الدَّالِ. وَفِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ كُلِّهَا نَظَرٌ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَرَكَةِ فِيهَا إنَّمَا هُوَ بِسُكُونِ آخِرِ الْأَفْعَالِ فِي عَصَى وَنَزَا وَغَلَا وَعَدَّ، وَسُكُونُ لَامِ الْكَلِمَةِ وَحَرَكَتُهَا لَا يُعْتَبَرَانِ فِي صِيغَةِ الْكَلِمَةِ وَبِنْيَتِهَا، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْحَشْوِ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا السُّكُونَ قَدْ يَزُولُ مَعَ بَقَاءِ صُورَةِ الْكَلِمَةِ عَلَى حَالِهَا وَلَا يُعَدُّ زَوَالُهُ مُغَيِّرًا لِلْكَلِمَةِ؟ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِنَا: عَصَيَا وَنَزَوَا وَغَلَيَا وَعَدَّا، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِي التَّغْيِيرِ بِمَا إذَا تَغَيَّرَ مِنْ صُورَةِ الْكَلِمَةِ وَبِنْيَتِهَا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا تُحَرَّكُ آخِرُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِاتِّصَالِ الضَّمَائِرِ بِهَا، وَكَانَ الْأَصْلُ سُكُونَهَا، فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا. سَابِعًا: زِيَادَةُ حَرْفٍ وَنُقْصَانُ حَرْفٍ: نَحْوَ تَدَحْرَجَ مِنْ الدَّحْرَجَةِ، نَقَصَ " هَاءُ " التَّأْنِيثِ وَزَادَتْ " التَّاءُ "،

وَهَذَا الْقِسْمُ أَهْمَلَهُ السَّرَّاجُ الْأُرْمَوِيُّ. وَمَثَّلَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ بِ " دَيَّانٍ " مِنْ الدِّيَانَةِ، وَقَالَ نَقَصَتْ مِنْهُ التَّاءُ، وَزِيدَتْ فِيهِ الْيَاءُ الْمُدْغَمَةُ السَّاكِنَةُ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ: وَمَثَّلَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِ " رَؤُفَ " مِنْ الرَّأْفَةِ. ثَامِنُهَا: زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ وَنُقْصَانُ حَرَكَةٍ أُخْرَى: نَحْوَ اضْرِبْ وَاعْلَمْ وَاشْرَبْ، نَقَصَ مِنْهَا حَرَكَاتُ فَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَزِيدَ فِيهَا حَرَكَاتُ عَيْنِهَا، وَأَلِفُ الْوَصْلِ لَا اعْتِبَارَ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِ " حَذِرَ " مِنْ الْحَذَرِ زِيدَتْ فِيهِ كَسْرَةُ الذَّالِ وَنَقَصَتْ فَتْحَتُهُ. وَمَثَّلَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ ب " كَرَمَ " مِنْ الْكَرَمِ وَ " شَرُفَ " مِنْ الشَّرَفِ، وَقَالَ: نَقَصَتْ حَرَكَةُ الرَّاءِ مِنْ الْمَصْدَرِ وَزِيدَتْ فِيهِ ضَمَّةُ الرَّاءِ وَفِي " شَرُفَ " كَسْرَتُهَا. وَالْحَقُّ: أَنَّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا نُقْصَانٌ وَلَا زِيَادَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إبْدَالٌ. تَاسِعُهَا: زِيَادَةُ الْحَرْفِ وَنُقْصَانُ الْحَرَكَةِ: نَحْوَ تُحَرِّرُ وَتُعَرِّجُ زِيدَ فِيهِ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ وَنَقَصَ مِنْهُ فَتْحَةُ الْحَاءِ وَالْيَاءِ. وَذَكَرَ الْبَيْضَاوِيُّ وَابْنُ جَعْفَرٍ فِي مِثَالِهِ: عَادَ مِنْ الْعَدَدِ، زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ بَعْدَ الْعَيْنِ، وَنَقَصَتْ حَرَكَةُ الدَّالِ الْأُولَى وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الدَّالَ الْمُدْغَمَةَ أَصْلُهَا الْحَرَكَةُ، وَإِنَّمَا سَكَنَتْ وَأُدْغِمَتْ لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الِاشْتِقَاقِ، وَهُوَ تَوَالِي الْمِثْلَيْنِ وَالنَّظَائِرِ.

وَمَثَّلَهُ السَّرَّاجُ الْأُرْمَوِيُّ بِ " أَكْرَمَ " مِنْ الْكَرَمِ زِيدَ فِيهِ الْأَلِفُ، وَنَقَصَتْ حَرَكَةُ الْكَافِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَكْرَمَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِكْرَامِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَعَلَ الْإِكْرَامَ هُوَ الْمُشْتَقُّ أَوَّلًا لَحَصَلَ بِهِ الْغَرَضُ. عَاشِرٌ: زِيَادَةُ، الْحَرَكَةِ وَنُقْصَانُ الْحَرْفِ: نَحْوَ قَدَرَ وَكَتَبَ وَرَحِمَ مِنْ الْقُدْرَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَحُرِمَ مِنْ الْحِرْمَانِ، وَنَقَصَ مِنْ النُّقْصَانِ. نَقَصَ مِنْ الْأَوَّلِ التَّاءُ وَمِنْ الْأَخِيرَيْنِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ، وَزِيدَ فِيهَا كُلُّهَا حَرَكَاتُ الْعَيْنَاتِ. وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَابْنُ جَعْفَرٍ بِ " بَنَيْت " مِنْ الْبُنْيَانِ، وَقَالَ: نَقَصَتْ الْأَلِفُ وَزِيدَ فِيهِ فَتْحَةُ الْبِنَاءِ فِي الْفِعْلِ وَسَيَأْتِي أَنَّ حَرَكَةَ الْبِنَاءِ لَا يُعْتَدُّ بِهَا. حَادِيَ عَشَرَهَا: زِيَادَةُ الْحَرْفِ وَالْحَرَكَةِ مَعًا مَعَ نُقْصَانِ حَرَكَةٍ أُخْرَى: نَحْوَ يَضْرِبُ، زِيدَ فِي حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ، وَحَرَكَةِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ وَنَقَصَ مِنْهُ حَرَكَةُ فَاءِ الْكَلِمَةِ، وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَابْنُ جَعْفَرٍ وَقَالَ زِيدَتْ فِيهِ الْهَمْزَةُ الْمَكْسُورَةُ، وَنَقَصَتْ حَرَكَةُ الضَّادِ فَجَعَلَ الْهَمْزَةَ وَحَرَكَتَهَا زَائِدَتَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَبَيَّنَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الْحَرَكَةِ بِأَنْ تَكُونَ عَلَى مَا كَانَ سَاكِنًا فِي الْأَصْلِ وَأَنَّ الْأَلِفَ الْمُتَحَرِّكَةَ. زَائِدَةٌ وَاحِدَةٌ. ثَانِيَ عَشَرَهَا: زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْحَرْفِ وَنُقْصَانِهِ:

نَحْوَ قَادِرٍ وَعَاصِمٍ وَرَاحِمٍ وَكَاتِبٍ، زِيدَ فِيهَا الْأَلِفُ، وَحُرِّكَتْ الْعَيْنَاتُ وَنَقَصَ مِنْهَا التَّاءُ الَّتِي هِيَ أَوَاخِرُهَا. وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَابْنُ جَعْفَرٍ بِ " خَافَ " مِنْ الْخَوْفِ، وَقَالَ: نَقَصَتْ الْوَاوُ وَحَرَكَةُ الدَّالِ، وَلَا يَخْفَى بِمَا تَقَدَّمَ فَسَادُهُ. ثَالِثَ عَشَرَهَا: نُقْصَانُ الْحَرْفِ مَعَ زِيَادَةِ الْحَرَكَةِ وَنُقْصَانِهَا: نَحْوَ اُنْصُرْ مِنْ النُّصْرَةِ، وَارْحَمْ مِنْ الرَّحْمَةِ، وَاقْدِرْ مِنْ الْقُدْرَةِ، زِيدَ فِيهَا حَرَكَاتُ الْعَيْنَاتِ، وَنَقَصَ مِنْهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ وَحَرَكَاتُ فَاءِ الْكَلِمَةِ وَحَرَكَتُهَا. وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِ " عِدْ " مِنْ الْوَعْدِ، زِيدَتْ فِيهِ كَسْرَةُ الْعَيْنِ، وَنَقَصَتْ الْوَاوُ وَحَرَكَةُ الدَّالِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِمَّا تَقَدَّمَ. رَابِعَ عَشَرَهَا: نُقْصَانُ الْحَرَكَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْحَرْفِ وَنُقْصَانِهِ: نَحْوَ " يَخْرُجُ "، وَ " يَقْصِدُ " زِيدَ فِيهِ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ، وَنَقَصَ مِنْهُ الْوَاوُ الَّتِي فِي الْمَصْدَرِ، وَفَتْحَةُ فَاءِ الْكَلِمَةِ، وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَابْنُ جَعْفَرٍ بِ " كَالَ " مِنْ الْكَلَالِ، وَقَالَ: زِيدَ فِيهِ الْأَلِفُ بَعْدَ الْكَافِ، وَنَقَصَ مِنْهُ الْأَلِفُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ اللَّامَيْنِ، وَفَتْحَةُ اللَّامِ الْأُولَى الْمُدْغَمَةِ وَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا فِي عَادَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. خَامِسَ عَاشِرِهَا: زِيَادَةُ الْحَرْفِ وَالْحَرَكَةِ مَعًا وَنُقْصَانُهُمَا مَعًا: كَالِاحْمِرَارِ مِنْ الْحُمْرَةِ نَقَصَتْ مِنْهُ التَّاءُ وَحَرَكَةُ الْحَاءِ وَزِيدَتْ فِيهِ الرَّاءُ الْأُولَى وَالْأَلِفُ الَّتِي بَعْدَهَا وَحَرَكَةُ الْمِيمِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ الِاصْفِرَارِ وَنَحْوِهِ.

وَمَثَّلَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ وَالسَّرَّاجُ الْأُرْمَوِيُّ بِ " اسْتَنْوَقَ " الْجَمَلُ أَيْ تَحَوَّلَ الْجَمَلُ نَاقَةً، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ النَّاقَةِ، نَقَصَتْ مِنْهُ التَّاءُ وَحَرَكَةُ النُّونِ وَزِيدَتْ فِيهِ السِّينُ وَالتَّاءُ وَحَرَكَةٌ وَالْوَاوُ الَّتِي كَانَتْ أَلِفًا سَاكِنَةً فِي النَّاقَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ " اسْتَنْوَقَ " إنَّمَا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَصْدَرِهِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِنْوَاقُ، لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ الِاسْتِنْوَاقُ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ هُوَ الْمُشْتَقُّ مِنْ النَّاقَةِ وَالْغَرَضُ يَحْصُلُ بِهِ، لِأَنَّ النُّقْصَانَ وَالزِّيَادَةَ الْمَطْلُوبَيْنِ فِي الْمِثَالِ مَوْجُودَانِ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ زِيدَتْ فِيهِ السِّينُ وَالتَّاءُ وَالْأَلِفُ الَّتِي بَعْدَ الْوَاوِ وَحَرَكَةُ الْوَاوِ وَنَقَصَ مِنْهُ التَّاءُ وَفَتْحَةُ النُّونِ، وَكَانَ جَعْلُهُ هُوَ الْمُشْتَقَّ أَوَّلًا أَوْلَى. وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَابْنُ جَعْفَرٍ بِ " ارْمِ " مِنْ الرَّمْيِ وَقَالَ: زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَكَسْرَةُ الْمِيمِ، وَنَقَصَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ وَالْيَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. أَمَّا أَلِفُ الْوَصْلِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْيَاءُ فَلَمْ تُحْذَفْ لِلِاشْتِقَاقِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ حَمْلُ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُعْرَبِ لِشَبَهِهِ بِهِ فِي الصَّحِيحِ، فَجَعْلُ الْمُعْتَلِّ كَذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْيَاءَ تُحْذَفُ فِي الْمُعْرَبِ فِي قَوْلِنَا: لَمْ يَرْمِ لِيَجْزِمَ؟ فَكَذَلِكَ حُذِفَتْ فِي قَوْلِنَا: ارْمِ لِلْبِنَاءِ حَمْلًا لِلْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُعْرَبِ فِي الصُّورَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْيَاءَ تَعُودُ عِنْدَ اتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِك: ارْمِيَا. وَعِنْدَ اتِّصَالِ النُّونَيْنِ الثَّقِيلَةِ وَالْخَفِيفَةِ فِي قَوْلِك: ارْمِيَنْ وَارْمِيَنَّ، وَعِنْدَ اتِّصَالِ ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْإِنَاثِ فِي قَوْلِك: ارْمِينَ يَا نِسْوَةُ؟ فَعُلِمَ أَنَّ الْيَاءَ مَا حُذِفَتْ لِلِاشْتِقَاقِ، وَكَلَامُنَا فِيمَا يُحْذَفُ لَهُ أَوْ يَزْدَادُ لَهُ، فَتَحْصُلُ بِهِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ صُورَةِ الْمُشْتَقِّ وَالْمُشْتَقِّ مِنْهُ لَا فِيمَا يُحْذَفُ أَوْ يُزَادُ لِمَعْنًى آخَرَ.

وَزَادَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الشَّرِيشِيُّ قِسْمَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ تَغْيِيرٌ ظَاهِرٌ، نَحْوَ حَذِرَ مِنْ الْحَذَرِ " وَفَرِحَ مِنْ الْفَرَحِ، وَجَزِعَ مِنْ الْجَزَعِ وَنَحْوُهُ، وَقَعَتْ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَصْدَرِ بِحَرَكَةِ الْعَيْنِ، فَإِنَّهَا فِي الْمَصْدَرِ مَفْتُوحَةٌ وَفِي الْفِعْلِ مَكْسُورَةٌ. ثَانِيهِمَا: مَا فِيهِ تَغْيِيرٌ مُقَدَّرٌ نَحْوُ طَلَبَ مِنْ الطَّلَبِ، وَهَرَبَ مِنْ الْهَرَبِ، وَغَلَبَ مِنْ الْغَلَبِ وَنَحْوُهُ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا التَّغْيِيرَ، لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صُورَةُ الْمُشْتَقِّ وَبِنْيَتُهُ مُخَالِفَةً لِصُورَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ، وَرَأَيْنَا هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تُخَالِفُ صُورَةَ الْمَصَادِرِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهَا مَصَادِرُ غَيْرُهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا تَغْيِيرٌ مُقَدَّرٌ كَمَا قَالَتْ النُّحَاةُ فِي الْفُلْكِ: إنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا فَتُقَدَّرُ الضَّمَّةُ إذَا كَانَ جَمْعًا غَيْرَ الضَّمَّةِ الَّتِي فِيهِ إذَا كَانَ مُفْرَدًا.

[تَنْبِيهَاتٌ] الْأَوَّلُ قَدْ تَقَرَّرَ مِنْ جَعْلِ التَّغْيِيرِ مِنْ أَرْكَانِ الِاشْتِقَاقِ وُجُودُ التَّغْيِيرِ فِي كُلِّ مُشْتَقٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِهِ، وَقَدْ نَجِدُ أَفْعَالًا مِنْ مَصَادِرَ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ ظَاهِرٍ فِيهَا، كَطَلَبَ مِنْ الطَّلَبِ، وَغَلَبَ مِنْ الْغَلَبِ، وَجَلَبَ مِنْ الْجَلَبِ، فَإِنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِمَصَادِرِهَا فِي الْحُرُوفِ وَالصِّيَغِ بِلَا تَفَاوُتٍ مَعَ اشْتِقَاقِهَا مِنْهَا، وَذَلِكَ: يَقْدَحُ فِي كَوْنِ التَّغْيِيرِ رُكْنًا لِلِاشْتِقَاقِ، لِامْتِنَاعِ تَحَقُّقِ الشَّيْءِ بِدُونِ رُكْنِهِ، وَحَلُّهُ: أَنَّ التَّغْيِيرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ظَاهِرًا لَكِنَّهُ مُقَدَّرٌ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَأَجَابَ رَضِيُّ الدِّينِ بْنُ جَعْفَرٍ بِأَنَّ حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ فِي الِاشْتِقَاقِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا تَغْيِيرًا، إذْ الِاشْتِقَاقُ إنَّمَا هُوَ مِنْ صِيغَةِ الْمَصْدَرِ بُنِيَ عَلَيْهَا وَحَرَكَةُ الْإِعْرَابِ طَارِئَةٌ عَلَى الصِّيغَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا مُنْتَقِلَةٌ غَيْرُ قَادِرَةٍ، وَأَمَّا حَرَكَةُ الْبِنَاءِ فِي آخِرِ الْفِعْلِ الْمَاضِي فَإِنَّهَا لِثَبَاتِهَا وَلُزُومِهَا وَبِنَاءِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهَا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ صَارَتْ دَاخِلَةً فِي صِيغَةِ الْفِعْلِ جَارِيَةً مَجْرَى حَرَكَةِ أَوَّلِهِ وَحَشْوِهِ فَاعْتُدَّ بِهَا فِي الِاشْتِقَاقِ، وَجُعِلَ التَّغْيِيرُ بِهَا زِيَادَةً وَنُقْصَانًا، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَدُّوا بِحَرَكَةِ الْإِعْرَابِ، وَاعْتَدُّوا بِحَرَكَةِ الْبِنَاءِ، وَجُعِلَ التَّغْيِيرُ بِهَا زِيَادَةً وَنُقْصَانًا. مِثَالُ الزِّيَادَةِ: طَلَبَ مِنْ الطَّلَبِ، لِأَنَّهُمْ مَثَّلُوهُ لِزِيَادَةِ الْحَرَكَةِ، فَإِنَّ طَلَبَ اُعْتُدَّ بِحَرَكَةِ الْبَاءِ فِي آخِرِهِ زِيَادَةً لِكَوْنِهَا حَرَكَةَ بِنَاءٍ، وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِالْحَرَكَةِ الَّتِي فِي آخِرِ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ الطَّلَبُ لِكَوْنِهَا حَرَكَةَ إعْرَابٍ. وَمِثَالُ النُّقْصَانِ: حَذِرٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَذِرَ، نَقَصَ مِنْ اسْمِ الْفَاعِلِ حَرَكَةُ الْبِنَاءِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْفِعْلِ فَقَدْ يَظُنُّ ظَانٍّ مِنْ اعْتِبَارِهِمْ التَّغْيِيرَ اللَّاحِقَ لِلْمُشْتَقِّ اسْتَلْزَمَ حُصُولَ التَّغْيِيرِ فِي كُلِّ مُشْتَقٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِهِ مَعَ أَنَّهُ نَحْنُ نَجِدُ أَفْعَالًا مَأْخُوذَةً مِنْ الْمَصَادِرِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ ظَاهِرٍ فِيهَا، كَطَلَبَ، مِنْ

الطَّلَبِ، وَحَذِرَ مِنْ الْحَذَرِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُسَاوِيَةٌ لِهَذِهِ الْمَصَادِرِ وَأَنَّهُ يَقْدَحُ فِي كَوْنِ التَّغْيِيرِ رُكْنًا فِي الِاشْتِقَاقِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا، وَحَرَكَةُ الْبِنَاءِ مُعْتَدٌّ بِهَا وَنَازَعَهُ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ، وَقَالَ: حَرَكَةُ الْإِعْرَابِ كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا فِي صِيغَةِ الْكَلِمَةِ وَبِنْيَتِهَا فَكَذَلِكَ حَرَكَةُ الْبِنَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَارِئَةٌ عَلَى الْكَلِمَةِ بَعْدَ حُصُولِ صِيغَتِهَا وَتَقْرِيرِ بِنْيَتِهَا إنْ كَانَتْ لَهَا بِنْيَةٌ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ تَتَغَيَّرُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْعَامِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: خَرَجَ زَيْدٌ خَرَجَ عَمْرٌو فَلَا يَتَغَيَّرُ آخِرُ خَرَجَ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ، وَتَقُولُ: خَرَجْت وَدَخَلْت بِتَغَيُّرِ آخِرِهِ لِاتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِهِ مَعَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ النُّحَاةِ لَا يَقُولُ: إنَّ بِنْيَةَ الْفِعْلِ تَغَيَّرَتْ؟ فَعُلِمَ أَنَّ حَرَكَةَ لَامِ الْكَلِمَةِ أَوْ سُكُونَهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا فِي بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ، فَلَا يُعَدُّ وُجُودُهَا زِيَادَةً وَلَا زَوَالُهَا نَقْصًا. وَقَوْلُهُ: إنْ الْفِعْلُ الْمَاضِي بُنِيَ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ عَلَى الْحَرَكَةِ مَمْنُوعٌ، بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا كَمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلَكِنْ بُنِيَ عَلَى حَرَكَةٍ لِعِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ الِاشْتِقَاقِ، وَهِيَ جَوَازُ وُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْمُعْرَبِ بِخِلَافِ فِعْلِ الْأَمْرِ، فَعُلِمَ أَنَّ حَرَكَةَ الْبِنَاءِ فِي الْفِعْلِ طَارِئَةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِ بِنْيَتِهِ، وَإِذَا كَانَتْ حَرَكَةُ الْإِعْرَابِ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهَا فِي بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ لِكَوْنِهَا طَارِئَةً وَمُتَغَيِّرَةً فَكَذَلِكَ حَرَكَةُ الْبِنَاءِ، وَلَا يَكُونُ ثُبُوتُهَا فِي الْفِعْلِ زِيَادَةً فِي الصِّيغَةِ، وَلَا زَوَالُهَا نَقْصًا فِيهَا. [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِزِيَادَةِ الْحَرْفِ أَوْ الْحَرَكَةِ أَوْ نُقْصَانِهِمَا جِنْسُ الْحَرْفِ وَجِنْسُ الْحَرَكَةِ لَا وَاحِدٌ فَقَطْ، فَقَدْ يَكُونُ الْمَزِيدُ مِنْ الْحُرُوفِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَرَكَةِ، وَكَذَلِكَ فِي النُّقْصَانِ، وَعَلَى هَذَا فَتَكْثُرُ الْأَقْسَامُ وَلَا يَخْفَى حِينَئِذٍ أَمْثِلَتُهَا.

التَّنْبِيهُ] الثَّالِثُ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِتَنَوُّعِ الْحَرَكَةِ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ إذْ لَوْ اُعْتُبِرَتْ لَكَثُرَتْ الْأَقْسَامُ. [التَّنْبِيهُ] الرَّابِعُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مِنْ أَرْكَانِ الِاشْتِقَاقِ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ وَالتَّغْيِيرِ، ثُمَّ جَعَلُوا مِنْ أَقْسَامِ التَّغْيِيرِ نُقْصَانَ الْحُرُوفِ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ مَتَى نَقَصْنَا أَحَدَ الْحُرُوفِ الْمُشْتَقِّ مِنْ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ زَالَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُرُوفِ. وَأَجَابَ ابْنُ جَعْفَرٍ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ قَدْ تَكُونُ بِحَقِّ الْأَصْلِ، ثُمَّ يَطْرَأُ النُّقْصَانُ الْعَارِضُ نَقِيضُهُ كَقَوْلِنَا: خَفْ مِنْ الْخَوْفِ، وَنَمْ مِنْ النَّوْمِ، فَإِنَّ الْوَاوَ سَقَطَتْ فِيهِمَا بَعْدَ انْقِلَابِهِمَا أَلِفًا لِعَارِضِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَالْمُشَارَكَةُ فِيهِمَا حَاصِلَةٌ بِالْفِعْلِ، لِحُصُولِهِمَا فِي الْأَصْلِ قَبْلَ طُرُوُّ الْحَذْفِ الْعَارِضِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَصَادِرَ ذَوَاتَ الزِّيَادَةِ كَالْإِنْبَاتِ وَالْغَشَيَانِ وَالنَّزَوَانِ إذَا اشْتَقَقْنَا مِنْهَا أَفْعَالًا كَنَبَتَ وَغَشِيَ وَنَزَا حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَصَادِرِ فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ، وَوُفِرَ التَّغَيُّرُ بِنُقْصَانِ الْحَرْفِ الزَّائِدِ فَقَدْ صَدَقَ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِمَا أَعْنِي الْمُشَارَكَةَ مَعَ النُّقْصَانِ، فَإِنَّا لَمْ نَشْتَرِطْ الْمُشَارَكَةَ فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ مَعَ نُقْصَانِ حَرْفٍ أَصْلِيٍّ.

مذهب الكوفيين والبصريين في اشتقاق الأفعال من المصادر

[مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ فِي اشْتِقَاقِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْمَصَادِرِ] التَّنْبِيهُ] الْخَامِسُ [مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ] [فِي اشْتِقَاقِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْمَصَادِرِ] مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْمَصَادِرَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَعَكَسَ الْبَصْرِيُّونَ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَفْهُومَهُ وَاحِدٌ، وَمَفْهُومَ الْفِعْلِ مُتَعَدِّدٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ، وَالْوَاحِدُ قَبْلَ الْمُتَعَدِّدِ، وَإِذَا كَانَ أَصْلًا لِلْأَفْعَالِ يَكُونُ أَصْلًا لِمُتَعَلِّقَاتِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ اسْمٌ، وَالِاسْمُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْفِعْلِ. وَيُقَالُ: مَصْدَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَصْدُرُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ كَأَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ، وَتَوَسَّطَ الْفَارِسِيُّ فَقَالَ: الصِّفَاتُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْأَفْعَالِ لِجَرَيَانِهَا عَلَيْهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِهِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَقَّةً مِنْ الْأَفْعَالِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالْأَفْعَالُ أُصُولُهَا الْقَرِيبَةُ، وَالْمَصَادِرُ أُصُولُهَا الْبَعِيدَةُ. وَذَهَبَ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَلْحَةَ إلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَصْدَرِ وَالْفِعْلِ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، لَيْسَ أَحَدُهُمَا مُشْتَقًّا مِنْ الْآخَرِ، فَالْحَاصِلُ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ. وَقَدْ اسْتَشْكَلَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ حَقِيقَةَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمَا حَقِيقَةٌ وَالْآخَرَ مَجَازٌ، فَالْحَقِيقَةُ أَصْلٌ لِلْمَجَازِ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، فَلَا خِلَافَ أَنَّا إذَا قُلْنَا: قَامَ زَيْدٌ قِيَامًا، فَإِنَّ قَوْلَنَا: " قَامَ " لَفْظَةٌ مِنْ الْحَقَائِقِ لَا تَجَوُّزَ فِيهَا، وَقَوْلُنَا " قِيَامًا " لَفْظَةٌ مِنْ الْحَقَائِقِ لَا تَجَوُّزَ فِيهَا أَيْضًا، فَقَدْ وَضَحَ بُطْلَانُ صَرْفِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَرْعِيَّةِ إلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا أَصْلٌ وَهَذَا فَرْعٌ أَنَّ اللَّفْظَيْنِ حَقِيقَتَانِ،

وَلَكِنَّ النُّطْقَ بِهَذِهِ سَبَقَ، فَهَذَا غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَالْبَحْثُ عَنْهُ عِيٌّ لَا يُجْدِي وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي السُّؤَالِ عَنْ تَسْمِيَةِ الْحَائِطِ وَالْجِدَارِ أَيُّ اللَّفْظَيْنِ نُطِقَ بِهِ أَوَّلًا؟ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا قِيلَ: هَذَا مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا فَلَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَنَاسُبًا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَسَوَاءٌ تَكَلَّمَ أَهْلُ اللُّغَةِ بِأَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ أَمْ لَا وَعَلَى هَذَا إذَا قُلْنَا: الْمَصْدَرُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ أَوْ بِالْعَكْسِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحًا، وَهَذَا هُوَ الِاشْتِقَاقُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ أَسَاسُ التَّصْرِيفِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا لِلْآخَرِ، فَهَذَا إنْ عَنِيَ بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا تُكُلِّمَ بِهِ بَعْدَ الْآخَرِ لَمْ يَقُمْ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَإِنْ عَنِيَ بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْآخَرِ فِي الْعَقْلِ لِكَوْنِ هَذَا مُفْرَدًا وَهَذَا مُرَكَّبًا، فَالْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ. [التَّنْبِيهُ] السَّادِسُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي مَعْرِفَةِ الِاشْتِقَاقِ مِنْ التَّصْرِيفِ وَهُوَ مَعْرِفَةُ اخْتِلَافِ أَبْنِيَةِ الْكَلِمَةِ وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَقَلْبٍ وَبَدَلٍ وَإِدْغَامٍ، لِيُعْرَفَ الْأَصْلِيُّ مِنْ الزِّيَادَةِ، وَيُرَدُّ الْمَقْلُوبُ إلَى أَصْلِهِ وَيُعْرَفُ الْبَدَلُ مِنْ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالْمُدْغَمُ مِنْ الْمُدْغَمِ فِيهِ. وَحُرُوفُ الزِّيَادَةِ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا قَوْلُك: سَأَلْتُمُونِيهَا، فَإِذَا عَرَفَ الْأَصْلِيَّ وَالزَّائِدَ قَابَلَ فِي مِيزَانِ التَّصْرِيفِ الْأَصْلِيَّ بِفَاءِ فِعْلٍ وَعَيْنِهِ وَلَامِهِ، وَالزَّائِدَ بِلَفْظِهِ.

تَقُولُ: وَزْنُ ضَارِبٍ فَاعِلٍ، فَالْأَلِفُ زَائِدٌ مَذْكُورٌ بِلَفْظِهِ، وَالضَّادُ وَالرَّاءُ وَالْبَاءُ أُصُولٌ مُقَابَلَةٌ بِالْفَاءِ وَالْعَيْنِ وَاللَّامِ، وَكَذَلِكَ مَضْرُوبٌ مَفْعُولٌ مِنْ الضَّرْبِ فَالْوَاوُ وَالْمِيمُ زَائِدَتَانِ، وَمِيعَادٌ وَمِيزَانٌ مِفْعَالٌ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَزْنِ فَالْمِيمُ وَالْأَلِفُ زَائِدَتَانِ وَالْيَاءُ هِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، لِظُهُورِهَا فِيمَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ. فَإِنْ قِيلَ: جَعَلْتُمْ مَعْرِفَةَ الِاشْتِقَاقِ مُتَوَقِّفَةً عَلَى مَعْرِفَةِ التَّصْرِيفِ وَأَهْلُ التَّصْرِيفِ يَجْعَلُونَ مَعْرِفَتَهُ مُتَوَقِّفَةً عَلَى مَعْرِفَةِ الِاشْتِقَاقِ لِتَعْرِيفِ الزَّائِدِ فَيُحْكَمُ، بِزِيَادَتِهِ فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ كَوْثَرًا مُشْتَقٌّ مِنْ الْكَثْرَةِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ، وَلَا نَعْرِفُ أَنَّهَا زَائِدَةٌ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْكَثْرَةِ، وَذَلِكَ دَوْرٌ فَيَمْتَنِعُ. قُلْنَا: إذَا عَرَفْنَا الْأَصْلِيَّ مِنْ الزَّائِدِ حَكَمْنَا بِاشْتِقَاقِهِ مِنْ الْأَصْلِيَّةِ، فَكُلٌّ مِنْ التَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ يَفْتَقِرُ إلَى الْآخَرِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ. [التَّنْبِيهُ] السَّابِعُ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْنَى الْمُشْتَقَّ مِنْهُ كَالْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَالْعَلَاقَةُ فِي الْمَجَازِ حَيْثُ وُجِدَ الِاشْتِقَاقُ، كَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ حَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْمُ، لَكِنْ لَمْ يَطَّرِدْ ذَلِكَ فِي الِاشْتِقَاقِ فَإِنَّا رَأَيْنَاهُمْ سَمَّوْا الْأَسَدَ ضَيْغَمًا مِنْ الضَّغْمِ، وَلَمْ يُسَمُّوا الْجَمَلَ بِهِ، وَأَنَّ الضَّغْمَ هُوَ الْعَضُّ الشَّدِيدُ مَوْجُودًا فِيهِ وَسَمَّوْا الْمَنْزِلَ الَّذِي بَعْدَ الثُّرَيَّا دَبَرَانًا لِاسْتِدْبَارِهِ إيَّاهَا أَوْ الْقِبْلَةَ، وَلَمْ يُسَمُّوا كُلَّ مُسْتَدْبِرٍ لِلثُّرَيَّا أَوْ الْقِبْلَةِ دَبَرَانًا، وَسَمَّوْا الثُّرَيَّا بِاسْمِهَا لِاشْتِقَاقِهَا مِنْ الثَّرْوَةِ وَهِيَ الْكَثْرَةُ لِاجْتِمَاعِ نُجُومِهَا، وَلَمْ يُسَمُّوا كُلَّ أَعْدَادٍ مُجْتَمِعَةٍ ثُرَيًّا، وَسَمَّوْا الْقَارُورَةَ وَهِيَ الْوِعَاءُ الْخَاصُّ لِاسْتِقْرَارِ الْمَاءِ فِيهَا وَلَمْ يُسَمُّوا كُلَّ مُسْتَقِرٍّ لِمَائِعٍ أَوْ غَيْرِهِ كَالْحَوْضِ وَنَحْوِهِ قَارُورَةً. وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ وُجُودُ مَعْنَى الْأَصْلِ فِي مَحَلِّ التَّسْمِيَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا وَالْمُرَادُ ذَاتٌ مَعَ اعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ إلَيْهَا، فَهَذَا يَطَّرِدُ فِي

كُلِّ ذَاتٍ، فَهَذَا هُوَ الْمُطَّرِدُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ ذَاتًا مَخْصُوصَةً عَلَى شَخْصِهِ امْتَنَعَ التَّعَدِّيَةُ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ مِنْ الثَّرْوَةِ وَالِاسْتِدْبَارِ وَالضَّيْغَمِ وَالِاسْتِقْرَارِ بِمَنْزِلَةِ جُزْءِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الْقِيَاسِ، وَالْجُزْءُ الْآخَرُ كَوْنُ هَذَا الْمُشْتَقِّ عَلَمًا لِهَذَا الْوَضْعِ أَوْ خَاصًّا بِهِ. [التَّنْبِيهُ] الثَّامِنُ قَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: لَا يَدْخُلُ الِاشْتِقَاقُ فِي سَبْعَةِ أَشْيَاءَ وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْعَجَمِيَّةُ كَإِسْمَاعِيلَ وَالْأَصْوَاتُ، كَ " غَاقٌ " وَالْحُرُوفُ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْمُتَوَغِّلَةِ فِي الْبِنَاءِ نَحْوَ " مِنْ " وَ " مَا "، وَالْأَسْمَاءُ النَّادِرَةُ نَحْوُ " طُوبَى لَهُ " اسْمٌ لِلنِّعْمَةِ، وَاللُّغَاتُ الْمُتَدَاخِلَةُ نَحْوُ " الْهُونِ " لِلْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَالْأَسْمَاءُ الْخُمَاسِيَّةُ كَسَفَرْجَلٍ، وَيَدْخُلُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. انْتَهَى. وَأَثْبَتَ ابْنُ جِنِّي الِاشْتِقَاقَ فِي الْحُرُوفِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ الْأَكْبَرُ. مَسْأَلَةٌ وَقَدْ يَطَّرِدُ بِأَنْ يُطَلَّقَ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ وُجِدَ فِيهَا مَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَاسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصِّفَاتِ، كَضَارِبٍ وَمَضْرُوبٍ وَحَسَنٍ، وَقَدْ يَخْتَصُّ كَالْقَارُورَةِ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الزُّجَاجَةِ. وَالضَّابِطُ: أَنَّ الْمُطَّرِدَ مَا كَانَ لِذَاتٍ، قُصِدَ فِيهِ الْمَعْنَى، وَالْمُخْتَصُّ مَا

مسألة شرط صدق المشتق صدق المشتق منه

قَصَدَ مُجَرَّدَ الذَّاتِ، وَالْمَعْنَى تَابِعٌ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ وُجُودَ مَعْنَى الْأَصْلِ فِي كُلِّ التَّسْمِيَةِ قَدْ تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ دَخَلَ فِي التَّسْمِيَةِ، وَالْمُرَادُ ذَاتُ مَا بِاعْتِبَارِ نِسْبَةٍ لَهُ إلَيْهَا، فَهَذَا يَطَّرِدُ فِي كُلِّ ذَاتٍ فِيهِ مَعْنَى الْأَصْلِ كَالْأَحْمَرِ فَإِنَّهُ لِذَاتٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحُمْرَةَ دَاخِلَةٌ فِيهِ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُصَحِّحٌ لِلتَّسْمِيَةِ مُرَجِّحٌ لَهَا كَتَسْمِيَةِ الذَّاتِ الَّتِي لَهُ الْحُمْرَةُ بِالْأَحْمَرِ، لِكَوْنِهَا أَحْمَرَ، لَكِنْ لَا بِاعْتِبَارِ دُخُولِ الْحُمْرَةِ فِي مُسَمَّاهُ، وَلِهَذَا لَوْ زَالَتْ حُمْرَتُهُ يَصِحُّ إطْلَاقُ الْأَحْمَرِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَوْلِ السَّكَّاكِيِّ: وَإِيَّاكَ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَ تَسْمِيَةِ إنْسَانٍ لَهُ حُمْرَةٌ بِأَحْمَرَ، وَبَيْنَ وَصْفِهِ بِأَحْمَرَ أَنْ تَزِلَّ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى فِي التَّسْمِيَةِ لِتَرْجِيحِ الِاسْمِ عَلَى غَيْرِهِ حَالَ تَخْصِيصِهِ بِالْمُسَمَّى وَاعْتِبَارَ الْمَعْنَى فِي الْوَصْفِ لِصِحَّةِ إطْلَاقِهِ عَلَيْهِ فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ؟ وَحَاصِلُهُ: الْفَرْقُ بَيْنَ تَسْمِيَةِ الْغَيْرِ لِوُجُودِهِ فِيهِ أَوْ بِوُجُودِهِ فِيهِ، فَهُوَ مَعَ اللَّامِ إشَارَةٌ إلَى الْعِلْمِيَّةِ، وَمَعَ الْبَاءِ إشَارَةٌ إلَى الْمُصَاحَبَةِ. [مَسْأَلَةٌ شَرْطُ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ صِدْقُ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ] ُ] شَرْطُ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ اسْمًا كَانَ أَوْ فِعْلًا صِدْقُ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ، فَلَا يَصْدُقُ قَائِمٌ عَلَى ذَاتٍ إلَّا إذَا صَدَقَ الْقِيَامُ عَلَى تِلْكَ الذَّاتِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصِّدْقُ فِي الْمَاضِي أَمْ فِي الْحَالِ أَمْ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَمَّا إنَّ ذَلِكَ هُوَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَمْ لَا، فَسَيَأْتِي. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ، وَهُمَا لَمْ يُصَرِّحَا بِالْمُخَالَفَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمَا ضِمْنًا حَيْثُ ذَهَبَا إلَى الْقَوْلِ بِعَالَمِيَّةِ اللَّهِ دُونَ عِلْمِهِ. أَيْ ذَهَبَا إلَى أَنَّ الْعَالَمَ وَغَيْرَهُ مِنْ الصِّفَاتِ أَسْمَاءٌ مُشْتَقَّةٌ

مِنْ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ إنَّهُمَا يُطْلِقَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَيُنْكِرَانِ حُصُولَ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي تُوجِبُ الْعَالَمِيَّةَ وَالْقَادِرِيَّةَ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ ثَابِتَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا حَيَاةٌ مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ، وَفِرَارًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الذَّاتُ قَابِلًا وَفَاعِلًا. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْعِلْمِ قَادِرٌ بِالْقُدْرَةِ حَيٌّ بِالْحَيَاةِ. [هَلْ الْعِلْمُ نَفْسُ الْعَالَمِيَّةِ] وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ الْعِلْمُ نَفْسُ الْعَالَمِيَّةِ أَوْ الْقُدْرَةُ نَفْسُ الْقَادِرِيَّةِ أَوْ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا؟ وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَأَتْبَاعِهِ، وَالثَّانِي: قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: عَالِمٌ بِالذَّاتِ لَا بِالْعِلْمِ، قَادِرٌ بِالذَّاتِ لَا بِالْقُدْرَةِ وَهَكَذَا فَقَدْ جَوَّزُوا صِدْقَ الْمُشْتَقِّ الَّذِي هُوَ الْعَالِمُ بِدُونِ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمَا يُعَلِّلَانِ الْعَالَمِيَّةَ بِالْعِلْمِ مُطْلَقًا، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ، وَيَقُولَانِ: إنَّ الْعِلْمَ فِي اللَّهِ غَيْرُ ذَاتِهِ، فَهُمَا لَا يَسْلُبَانِ عَنْهُ إلَّا الْعِلْمَ الزَّائِدَ عَلَى ذَاتِهِ لَا الْعِلْمَ مُطْلَقًا، وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُ عَالَمِيَّتِنَا بِالْعِلْمِ، كَمَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، أَوْ إثْبَاتُ عَالَمِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ سَلْبِ الْعِلْمِ عَنْهُ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بِسَلْبِ عِلِّيَّتِهَا عَنْهُ بَلْ

يَقُولَانِ: إنَّ عِلِّيَّةَ الْعَالَمِيَّةِ هِيَ الْعِلْمُ، وَهِيَ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. هَذَا أَصْلُ الْخِلَافِ، وَمِنْهُ أَخْذُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِجَوَازٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ: مُقْتَضَى اللُّغَةِ مَا ذَكَرْتُمْ، وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ مَنَعَ هُنَا، فَاسْتُثْنِيَ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ الْخَاصِّ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِحُّ تَعْمِيمُ الْمُشْتَقَّاتِ بِذَلِكَ، وَيَخْرُجُ الْكَلَامُ مِنْهَا عَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ إلَى عِلْمِ الْكَلَامِ، وَيَصِيرُ الْخِلَافُ مَعْنَوِيًّا لَا لَفْظِيًّا لُغَوِيًّا. وَإِنْ رَجَعْنَا بِهَا إلَى أُصُولِ الْفِقْهِ فَنَقُولُ: الْمُشْتَقُّ إمَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ الِاسْمِيَّةُ أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي صِدْقِهِ وُجُودُ الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ الْحَارِثُ وَالْعَبَّاسُ، فَإِنَّهُمَا يُسَمَّى بِهِمَا وَلَيْسَ بِحَارِثٍ، وَلَا كَثِيرِ الْعَبُوسِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ لَاحَظَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُطْلَقَ أَوْ الشَّائِعَ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَحِبُّ أَحْسَنَ الْأَسْمَاءِ وَيَكْرَهُ قَبِيحَهَا. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الِاسْمِيَّةُ فَهُوَ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ الصِّفَةِ كَالْعَالِمِ وَالْقَائِمِ، وَيُشْتَرَطُ فِي صِدْقِهِ حَقِيقَةُ وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ، وَإِطْلَاقُهُ مَعَ عَدَمِهِ مَجَازٌ مَحْضٌ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ هَذَا الْمَجَازُ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ وَاشْتَهَرَ، وَذَلِكَ كَالْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْغَافِلِ وَالنَّائِمِ وَالْمَيِّتِ مَعَ قِيَامِ مَوَانِعِ الْإِيمَانِ اسْتِصْحَابًا لِلْمَعْنَى السَّابِقِ وَالْحُكْمِ اللَّاحِقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ هُنَا، وَإِنْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَقِيقَةً فِي أَصْلِهِ وَإِنْ قَلَّ اسْتِعْمَالُهُ، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ خِلَافُ أَبِي هَاشِمٍ فِي هَذَا فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّ وُجُودَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِدْقِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُشْتَقِّ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِعْمَالَ الْعُرْفِيَّ فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.

مَسْأَلَةٌ [بَقَاءُ مَعْنَى الْمُشْتَقِّ هَلْ هُوَ شَرْطٌ] فِي أَنَّ دَوَامَ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ أَعْنِي بَقَاءَ مَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ هَلْ شَرْطٌ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الْمُشْتَقِّ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ وُجُودَهُ لَمْ يَشْتَرِطْ دَوَامَهُ قَطْعًا، وَأَمَّا الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ وُجُودَهُ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. فَنَقُولُ: إطْلَاقُ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ كَاسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ حَقِيقَةٌ بِلَا خِلَافٍ كَتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ خَمْرًا، وَبِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازٌ بِلَا خِلَافٍ كَتَسْمِيَةِ الْعِنَبِ وَالْعَصِيرِ خَمْرًا، وَأَمَّا إطْلَاقُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي كَإِطْلَاقِ الضَّارِبِ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الضَّرْبُ. انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ: إنَّهُ مَجَازٌ. وَقَالَ ابْنُ سِينَا وَالْفَلَاسِفَةُ، وَأَبُو هَاشِمٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ مَذْهَبًا ثَالِثًا أَنَّ مَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ اُشْتُرِطَ بَقَاؤُهُ فِي كَوْنِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً وَإِلَّا فَلَا، كَمَا فِي الْمَصَادِرِ السَّيَّالَةِ مِثْلِ الْكَلَامِ وَأَنْوَاعِهِ، وَنَسَبَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فِي النِّهَايَةِ إلَى الْأَكْثَرِينَ وَيَحْتَاجُ إلَى تَثَبُّتٍ، فَإِنَّ الرَّازِيَّ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْبَحْثِ، وَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدُ نَقْلِهِمْ هَذَا فَقَدْ عَلِمْت، لَكِنَّ الْإِمَامَ فِي جَوَابِ الْمُعَارَضَةِ صَرَّحَ بِاخْتِيَارِهِ وَمَنَعَ الْإِجْمَاعَ فَقَالَ: قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ عِنْدَنَا حُصُولٌ بِتَمَامِهِ إنْ أَمْكَنَ، أَوْ حُصُولُهُ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ

أَجْزَائِهِ، وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّفْصِيلِ مَمْنُوعَةٌ، هَذَا لَفْظُهُ فِي الْمُسَوَّدَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَقِيلَ: إنَّ مَا يُعْدَمُ عَقِبَ وُجُودِ مُسَمَّاهُ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالِاغْتِسَالِ وَالتَّوَضُّؤِ فَإِنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَيْهِ بَعْدَ حَقِيقَةٍ، وَمَا يَدُومُ بَعْدَ وُجُودِ الْمُسَمَّى كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، فَإِذَا عُدِمَ الْمُسَمَّى جَمِيعُهُ كَانَ مَجَازًا. وَنَقَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْصِيلًا آخَرَ، وَقَالَ: إنَّهُ الْحَقُّ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ مَعْنَى فِي الْمَحِلِّ، وَاشْتَقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمًا فَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَطْرَأْ عَلَى الْمَحِلِّ مَا يُنَاقِضُهُ وَيُضَادُّهُ بَقِيَ صِدْقُ الْمُشْتَقِّ كَالْقَاتِلِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ، فَأَمَّا إذَا طَرَأَ عَلَى الْمَحِلِّ مَا يُضَادُّهُ، وَاشْتَقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمَ الْمُشْتَقِّ الْأَوَّلِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَصْدُقُ الْمُشْتَقُّ الْأَوَّلُ كَاللَّوْنِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَيَاضُ يُسَمَّى أَبْيَضَ، فَإِذَا اسْوَدَّ لَا يُقَالُ فِي حَالَةِ السَّوَادِ: إنَّهُ أَبْيَضُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِجَلْدِ الزَّانِي وَقَطْعِ السَّارِقِ، وَلَوْ كَانَ بَقَاءُ وَجْهِ الِاشْتِقَاقِ شَرْطًا لَمَا أَمْكَنَنَا امْتِثَالُ الْأَمْرِ، لِأَنَّ حَالَةَ الْجَلْدِ وَالْقَطْعِ لَيْسَ بِزَانٍ وَلَا سَارِقٍ حَقِيقَةً، فَلَا يَقَعُ الِامْتِثَالُ بِالْأَمْرِ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ فِي مَسْأَلَةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ قَوْلٌ خَامِسٌ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ إطْلَاقِهِ عَقِبَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ فَيَسُوغُ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ فَلَا، وَمِنْ كَلَامِ أَبِي الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ سَادِسٌ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يَطُولُ زَمَنُهُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَبَيْنَ مَا يَقْصُرُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْخَامِسِ، وَكَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ شِبْهَ الْفَرْقِ، وَأَجَابَ عَنْ الْجَمِيعِ، فَتَحَصَّلْنَا عَلَى سَبْعِ مَذَاهِبَ، يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمُمْكِنِ وَغَيْرِهِ. التَّفْصِيلُ بَيْنَ طُرُوُّ مَا يُنَاقِضُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ عَقِبَهُ أَوْ بَعْدَهُ. التَّفْصِيلُ

بَيْنَ طُولِ الزَّمَانِ وَقِصَرِهِ، الْوَقْفُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْأَوَّلِ يَقُولُ بِصِدْقِ الْمُشْتَقِّ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ قَائِمًا بِالْمُشْتَقِّ مِنْهُ وَلَا فِي وَقْتٍ مَا، وَأَمَّا الْمُخَالِفُ فِي هَذِهِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنْ قَامَ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ بِالشَّيْءِ فَهُوَ صَادِقٌ حَقِيقَةً حِينَئِذٍ، وَإِذَا انْقَضَى وَلَمْ يَقُمْ بِهِ فَهُوَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ عَكْسُهُ.

تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ [اسْمُ الْفَاعِلِ حَقِيقَةً فِي الْحَالِ] مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حَقِيقَةً فِي الْحَالِ أَيْ: حَالَ التَّلَبُّسِ بِالْفِعْلِ لَا حَالَ النُّطْقِ بِهِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الضَّارِبِ وَالْمَضْرُوبِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الضَّرْبِ، وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، لِأَنَّهُمَا طَرَفَا النِّسْبَةِ فَهُمَا مَعَهُ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ. وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ نَحْوَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» أَنَّ " قَتِيلًا " حَقِيقَةً وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ سُمِّيَ " قَتِيلًا " بِاعْتِبَارِ مُشَارَفَتِهِ الْفِعْلَ لَا تَحْقِيقَ لَهُ. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ بَعْدَ وُجُودِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ فَأَمَّا حَالَةُ الشُّرُوعِ قَبْلَ وُجُودِ ذَلِكَ كَالتَّسَاوُمِ مِنْ التَّابِعِينَ قَبْلَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَالْأَكْلُ حِينَ أَخْذِ اللُّقْمَةِ قَبْلَ وُجُودِ مُسَمَّى الْأَكْلِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يُسَمَّى فَاعِلًا إلَّا مَجَازًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً بَعْدَ وُجُودِ مَا يُسَمَّى بَيْعًا وَأَكْلًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي الْإِطْلَاقِ تَمَامُ الْفِعْلِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: الْمُرَادُ بِالْحَالِ مَا قَارَنَ وُجُودُ لَفْظِهِ لِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ مَعْنَاهُ، كَقَوْلِك: هَذَا زَيْدٌ يَكْتُبُ، فَيَكْتُبُ مُضَارِعٌ بِمَعْنَى الْحَالِ وَوُجُودُ لَفْظِهِ مُقَارِنٌ لِوُجُودِ بَعْضِ

الْكِتَابَةِ لَا لِجَمِيعِهَا، لَا مَا يَعْتَقِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْحَالَ هُوَ الْمُقَارِنُ وُجُودُ مَعْنَاهُ لِوُجُودِ لَفْظِهِ، لِأَنَّ مُدَّةَ وُجُودِ اللَّفْظِ لَا تَتَّسِعُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْحَالِ عَنْ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْجَمِيعِ لِاتِّصَالِ أَجْزَاءِ الْكَلِمَةِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبِلِ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رَدَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ: سُمِّيَا مُتَبَايِعَيْنِ لِشُرُوعِهِمَا فِي تَقْرِيرِ الثَّمَنِ وَالْمُبَادَلَةِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُسَمَّيَانِ مُتَبَايِعَيْنِ بَلْ مُتَسَاوِمَيْنِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ كُنَّا مُتَبَايِعَيْنِ، وَكَانَا مُتَسَاوِمَيْنِ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّبَايُعُ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَهُ مَدْلُولَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْلُبَ الدَّلَالَةَ عَلَى الزَّمَانِ، فَلَا يَشْعُرُ بِتَجَدُّدٍ وَلَا حُدُوثٍ نَحْوُهُ قَوْلُهُمْ: سَيْفُهُ قَطُوعٌ، وَزَيْدٌ صَارِعُ مِصْرَ، أَيْ: شَأْنُهُ ذَلِكَ، فَهَذَا حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ الْمَجَازَ يَصِحُّ نَفْيُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي السَّيْفِ: لَيْسَ بِقَطُوعٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقْصَدَ الْفِعْلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْفَاعِلُ كَأَفْعَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ فَإِنَّهُ يُوصَفُ فِي الْأَزَلِ بِالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ حَقِيقَةً، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ حَادِثَةٌ وَإِنْ كَانَ يَتَغَيَّرُ فَهُوَ مَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ.

وَكَانَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يَقُولُ: مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَنْطِقِيِّينَ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، حَقِيقَةً أَيْضًا لِقَوْلِهِمْ: إذَا قُلْنَا: كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ، فَمَعْنَاهُ كُلُّ مَا هُوَ إنْسَانٌ فِي الْحَالِ أَوْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ حَيَوَانٌ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إنَّ الْحُكْمَ عَلَى مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَمُسَمَّى الْإِنْسَانِ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، لِأَنَّا لَمَّا أَطْلَقْنَا اللَّفْظَ مَا أَرَدْنَا بِهِ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَهَذَا مُرَادُنَا بِقَوْلِنَا: إنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ حَقِيقَةٌ، أَيْ: إذَا أُرِيدَ مِنْهُ الْحَالُ الَّتِي فِيهَا كَذَلِكَ وَإِنْ أُطْلِقَ الْإِنْسَانُ مَثَلًا عَلَى النُّطْفَةِ أَوْ الطِّينِ بِاعْتِبَارِ مَا سَيَصِيرُ إلَيْهِ فَهَذَا مَجَازٌ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مُسَمَّى الْإِنْسَانِ لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُسَمَّاهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأُرِيدَ تِلْكَ الْخَارِجَةُ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ فِيهِ الْخِلَافُ عَنْ ابْنِ سِينَا. [التَّنْبِيهُ] الثَّالِثُ أَنَّ فِي نَقْلِ الْخِلَافِ عَنْ ابْنِ سِينَا وَأَبِي هَاشِمٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَرًا، بَيَّنَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ. أَمَّا ابْنُ سِينَا فَلَا يُوجَدُ لَهُ مَوْضُوعٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا فِي الْعَرَبِيَّةِ حَتَّى يُؤْخَذَ خِلَافُهُ مِنْهُمَا؛. نَعَمْ، قَالَ: إنَّ الِاصْطِلَاحَ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ أَنَّ قَوْلَنَا: كُلُّ " ج ب " أَنَّا لَا نَعْنِي بِهِ مَا هُوَ " ج " دَائِمًا. أَوْ فِي الْحَالِ أَوْ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ " ج " سَوَاءٌ كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَاضِي أَوْ الْمُسْتَقْبَلُ أَوْ الْحَالُ دَائِمًا أَوْ غَيْرَ دَائِمٍ، فَهَذَا مَا اُصْطُلِحَ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا إذَا قِيلَ: الضَّارِبُ مُتَحَرِّكٌ، لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الضَّارِبِ فِي الْحَالِ، بَلْ عَلَى مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الضَّارِبُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الصِّدْقُ فِي الْمَاضِي أَوْ الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ الْحَالِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاصْطِلَاحَاتِ لَا مُنَاقَشَةَ فِيهَا. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ

الِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ إلَّا إذَا ادَّعَى صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ الْمُوَافَقَةَ، وَابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَنْطِقِيِّينَ يَدَّعُونَ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الرَّازِيَّ فِي كُتُبِهِ الْمَنْطِقِيَّةِ قَدْ وَافَقَ ابْنُ سِينَا فِي هَذَا الِاصْطِلَاحِ، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ فَفِيهِ بَحْثٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّالِفَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ صِدْقُ الْمُشْتَقِّ بِدُونِ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ مِنْهُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي صِدْقِ الْمُشْتَقِّ أَنْ يَقُومَ بِهِ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ؟ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ: إنَّ الضَّارِبَ لَا يَصْدُقُ حَقِيقَةً إلَّا فِي حَالِ صُدُورِ الضَّرْبِ مِنْ الضَّارِبِ، وَأَبُو هَاشِمٍ يَقُولُ: يَكْفِي فِي صِدْقِ الضَّارِبِ حَقِيقَةً أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ وُجِدَ فِي الْوُجُودِ وَانْقَضَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُجِدَ أَصْلًا فَلَا يَقُولُ بِصِدْقِ الضَّارِبِ حَقِيقَةً، فَيَلْزَمُهُ التَّنَاقُضُ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَا نُقِلَ عَنْهُ أَوَّلًا صُورَتُهُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ، لَكِنَّ الْإِمَامَ جَعَلَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ. [التَّنْبِيهُ] الرَّابِعُ أَطْلَقُوا الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَجْرِي فِي الصِّفَاتِ الْقَارَّةِ الْمَحْسُوسَةِ كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، لِأَنَّا عَلَى قَطْعٍ بِأَنَّ اللُّغَوِيَّ لَا يُطْلِقُ عَلَى الْأَبْيَضِ بَعْدَ اسْوِدَادِهِ أَنَّهُ أَبْيَضُ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ: لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ نَائِمٌ بِاعْتِبَارِ النَّوْمِ السَّابِقِ، وَادَّعَى الْآمِدِيُّ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الضَّرْبِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُنْقَضِيَةِ، فَإِطْلَاقُ الْمُشْتَقِّ عَلَى مَحِلِّهَا مِنْ بَابِ الْأَحْكَامِ، فَلَا يَبْعُدُ إطْلَاقُهُ حَالَ خُلُوِّهِ عَنْ مَفْهُومِهِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ أَيْضًا: مَحِلُّهُ إذَا كَانَ الْمُشْتَقُّ مَحْكُومًا بِهِ، كَقَوْلِك: زَيْدٌ مُشْرِكٌ أَوْ زَانٍ أَوْ سَارِقٌ، فَإِنْ كَانَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ كَقَوْلِك السَّارِقُ تُقْطَعُ يَدُهُ، فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ مُطْلَقًا فِيمَنْ اتَّصَفَ بِهِ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ قَالَ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَشْكَلَ الْقَطْعُ وَالْجَلْدُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَزْمِنَةَ: الْمَاضِي، وَالْحَالُ، وَالِاسْتِقْبَالُ، إنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ زَمَنِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ، فَتَكُونُ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَنَظَائِرُهَا مَجَازَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فِي زَمَانِنَا، لِأَنَّهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ زَمَنِ الْخِطَابِ عِنْدَ النُّزُولِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مُخَلِّصَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إلَّا بِمَا سَبَقَ. قَالَ: فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْكُمْ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ بِشِرْكِ وَاحِدٍ وَلَا زِنَاهُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ بِالْقَتْلِ وَالْجَلْدِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ يَعُمُّ مُتَعَلِّقَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ، وَكَانَ يَسْتَشْكِلُ ذَلِكَ، وَكَانَ مَنْ فِي زَمَانِهِ مِنْ الْفُضَلَاءِ يَتَخَبَّطُونَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُوَفَّقُوا لِلصَّوَابِ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ مُنْدَفِعٌ بِدُونِ هَذَا فَإِنَّ الْمَجَازَ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَهُ إلَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ بَعْدَ وُرُودِ هَذِهِ النُّصُوصِ يَتَنَاوَلُهُمْ، وَتَثْبُتُ تِلْكَ الْأَحْكَامُ فِيهِمْ. وَالْحَقُّ: أَنَّ هَاهُنَا شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إطْلَاقُ اللَّفْظِ وَإِرَادَةُ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِزَمَانٍ، كَقَوْلِنَا: الْخَمْرُ حَرَامٌ، فَهَذَا اللَّفْظُ صَادِقٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْخَمْرَةُ مَوْجُودَةً أَمْ لَا. وَإِطْلَاقُ الْخَمْرِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ حَقِيقَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ غَيْرَ مَعْنَاهُ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالَةِ اتِّصَافِهِ بِالْخَمْرِيَّةِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَلَا مَجَازَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: الْقَاتِلُ مَقْتُولٌ، وَنَحْوُهُ، وَمِنْهُ

قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] وَقَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ، وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشِّرْكِ وَنَحْوِهَا حَاضِرًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَلَمْ يُقْصَدْ بِالزَّانِي إلَّا مَنْ اُتُّصِفَ بِالزِّنَى حِينَ زِنَاهُ، وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا. الثَّانِي: إطْلَاقُهُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَهُوَ مَجَازٌ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ السُّبْكِيُّ: وَإِنَّمَا الْوَهْمُ سَرَى لِلْقَرَافِيِّ قَوْلُهُ: بِأَنَّ الْمَاضِيَ وَالْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ بِحَسَبِ زَمَنِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ مَا قَالَهُ مِنْ الْإِشْكَالِ، وَلَا يُنْجِيهِ مَا أَجَابَ بِهِ، وَالْقَاعِدَةُ صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا وَلَكِنْ لَمْ يَفْهَمُوهَا حَقَّ فَهْمِهَا قَالَ: وَهَاهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَنَحْوَهُمَا إنَّمَا دَلَّ عَلَى شَخْصٍ مُتَّصِفٍ بِالْمَصْدَرِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ، فَضَارِبٌ مَدْلُولُهُ شَخْصٌ مُتَّصِفٌ بِضَرْبٍ صَادِرٍ مِنْهُ، وَلَا تَعَرُّضَ لَهُ لِزَمَانٍ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الزَّمَانِ الْأَعَمُّ مِنْ الْحَالِ فَلَأَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى الْحَالِ الْأَخَصُّ مِنْهُ أَوْلَى، فَكَيْفَ يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِ؟ وَأَعْنِي بِالْحَالِ هُنَا زَمَنَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنَّمَا الْتَبَسَ عَلَى بَعْضِ الْمُبْتَدِئِينَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِنَا: زَيْدٌ ضَارِبٌ أَنَّهُ ضَارِبٌ فِي الْحَالِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا لِدَلَالَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَيْهِ. وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّك تَقُولُ: هَذَا حَجَرٌ، وَتُرِيدُ إنْسَانًا فَيُفْهَمُ مِنْهُ الْحَالُ

أَيْضًا مَعَ أَنَّ الْحَجَرَ وَالْإِنْسَانَ لَا دَلَالَةَ لَهُمَا عَلَى الزَّمَانِ. فَإِنْ قُلْت: اسْمُ الْفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَنٍ، فَاسْمُ الْفَاعِلِ دَالٌّ عَلَى الزَّمَانِ بِالِالْتِزَامِ. قُلْت الْمُعْتَبَرُ فِي دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ اللُّزُومُ الذِّهْنِيُّ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ هَاهُنَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ لَا يَضُرُّ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مُطْلَقُ الزَّمَانِ، وَإِذَا كُنَّا نَقُولُ: إنَّ الْيَوْمَ وَغَدًا وَأَمْسَ وَالزَّمَانَ وَالْآنَ أَسْمَاءٌ مَعَ أَنَّهَا لَا مَدْلُولَ لَهَا غَيْرَ الزَّمَانِ، فَمَا ظَنُّك بِمَا يَسْتَلْزِمُهُ؟ وَاَلَّذِي مَنَعْنَا وُجُودَهُ فِي الِاسْمِ هُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى الزَّمَانِ كَمَا يَدُلُّ الْفِعْلُ عَلَيْهِ، وَأَعْنِي بِهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زَمَنٍ مَاضٍ غَيْرِ زَمَانِ الْخِطَابِ أَوْ مُقَارِنٍ لَهُ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ عَنْهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ الْفِعْلُ وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ. فَإِنْ قُلْت: " ضَرَبَ " دَلَّ عَلَى زَمَانٍ مَاضٍ غَيْرِ زَمَنِ الْخِطَابِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنَّ زَمَنَ الْخِطَابِ مُسْتَقْبَلٌ عَنْهُ، وَيَضْرِبُ وَاضْرِبْ بِالْعَكْسِ، وَتَضْرِبُ إذَا جَعَلْته لِلْحَالِ دَلَّ عَلَى زَمَانٍ مَاضٍ، وَهُوَ زَمَنُ الْخِطَابِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْعَالِ دَالٌّ عَلَى زَمَانَيْنِ زَمَنِ الْخِطَابِ وَزَمَنٍ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا فِي الْحَاضِرِ مُتَّحِدَيْنِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ لَا بِمَادَّتِهِ وَلَا بِصُورَتِهِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْيَوْمَ وَأَمْسِ وَغَدًا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ بِمَادَّتِهِ، وَأَخْذُهُ فِي حَدِّ الْفِعْلِ أَنْ يَدُلَّ بِبِنْيَتِهِ لِيُحْتَرَزَ عَنْ ذَلِكَ مَدْخُولٌ بِمَا حَرَّرْنَاهُ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى زَمَنِ الْخِطَابِ أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّ قَوْلَنَا: إطْلَاقُ اسْمِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى الْحَالِ حَقِيقَةً لَيْسَ بِهَذَا الْمَعْنَى خِلَافًا لِمَنْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ مَدْلُولَ اسْمِ الْفَاعِلِ شَخْصٌ مُتَّصِفٌ بِالْفِعْلِ كَمَا قَدَّمْنَا حَاضِرًا كَانَ أَوْ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا، يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَنِ الْخِطَابِ، وَهَذَا الْمَدْلُولُ

مُرَكَّبٌ بِقَيْدِ الِاتِّصَافِ بِالْفِعْلِ لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَحَدُ جُزْئَيْ الْمَدْلُولِ، فَمَتَى لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وُجُودٌ فِيهِ فِي زَمَنٍ مَا، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ حُصُولِ مَدْلُولِهِ، وَمَتَى اتَّصَفَ بِالْفِعْلِ فِي زَمَنٍ بَقِيَ ذَلِكَ الزَّمَنُ الْمَدْلُولُ حَاصِلًا بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ فِي مَدْلُولِهِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ حُصُولِهِ بِاعْتِبَارِ تَوَقُّعِ مَحْصُولِهِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا وُضِعَ لِلْمُرَكَّبِ مِنْ جُزْأَيْنِ مَوْجُودَيْنِ بِالْفِعْلِ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِهِ مَجَازٌ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَيْسَ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتِ الْخِطَابِ، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتِ حُصُولِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلِاشْتِقَاقِ. وَإِنَّمَا تَطَرَّقَتْ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى مَوْضُوعِهِ وَعَلَى غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، فَمَوْضُوعُهُ هُوَ التَّرْكِيبُ وَقْتَ التَّرْكِيبِ، فَإِنْ أُرِيدَ، كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِيهِ سَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَمْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ مَجَازًا سَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ أَمْ غَيْرَهُ. وَالْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ حَالَةَ اقْتِرَانِ الْفِعْلِ بِالشَّخْصِ هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي الْمَدْلُولِ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا شَرْطٌ لِضَرُورَةِ التَّرْكِيبِ، فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ الْحَالُ، وَلَيْسَ مُعْتَبَرًا لِكَوْنِ الزَّمَانِ مَأْخُوذًا فِي مَوْضُوعِهِ، وَلَكِنْ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمُرَكَّبِ وَحَقِيقَةُ الْمُرَكَّبِ عَقْلًا تَسْتَدْعِي وَقْتَ التَّرْكِيبِ. فَكَانَ ذَلِكَ الزَّمَانُ شَرْطًا لِوُجُودِ الْمَدْلُولِ الصَّحِيحِ لِلِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْفَاعِلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَالِ حَقِيقَةٌ أَيْ: مَقْصُودٌ بِهِ الْحَالُ الَّذِي وُجِدَ مَدْلُولُهُ فِيهَا، وَهِيَ حَالَ قِيَامِ الْمَعْنَى بِهِ، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَاعِدَةُ الِاشْتِقَاقِ وَاسْتِدْعَاؤُهُ وُجُودَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ مُرَكَّبٌ وَالْمُشْتَقَّ مِنْهُ مُفْرَدٌ، وَالْمُرَكَّبُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُفْرَدِ. وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا وَقْتُ الْخِطَابِ فَغَلِطَ وَمَعْنَى

قَوْلِهِمْ: إنَّ إطْلَاقَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ مَجَازٌ، أَيْ إذَا قَصَدَ تِلْكَ الْحَالَةَ، وَإِنْ كَانَ الْإِطْلَاقُ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا. وَمَعْنَى قَوْلِنَا: قَصَدَ بِهِ تِلْكَ الْحَالَ، أَيْ قَصَدَ مَدْلُولَهُ الْكَائِنَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَأَمَّا الْحَالُ، فَلَيْسَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ مَوْضُوعًا لَهُ. الثَّالِثُ: قَدْ عَرَفْت أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ إنْ أُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ وَقْتُ حُصُولِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَانَ حَقِيقَةً، وَإِلَّا كَانَ مَجَازًا وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا وَاقِعًا جُزْءَ كَلَامٍ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُ الْمُفْرَدِ يُوصَفُ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَإِنَّك إذَا ذَكَرْت الْأَسْمَاءَ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَتَرْكِيبٍ وَأَرَدْت بِهَا حَقَائِقَهَا كَانَتْ حَقِيقَةً وَإِلَّا مَجَازًا. وَإِذَا وَقَعَ جُزْءُ الْكَلَامِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ طَلَبًا أَوْ خَبَرًا، فَإِنْ كَانَ طَلَبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] اقْتَضَى طَلَبَ قَتْلٍ مُسْتَقْبَلٍ لِأَشْخَاصِ الْمُتَّصِفِينَ بِالشِّرْكِ حِينَ الْقَتْلِ، سَوَاءٌ كَانُوا مَوْجُودِينَ حَالَةَ الْخِطَابِ أَمْ حَادِثِينِ بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْرِكُ بَعْدُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، لِأَنَّهُ مَا قُصِدَ بِهِ إلَّا مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالشِّرْكِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَجَازًا؟ وَلَا يَدْخُلُ مَنْ أَشْرَكَ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلَا مَنْ ظُنَّ أَنَّهُ مُشْرِكٌ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يُسَمَّى مُشْرِكًا حَقِيقَةً، بَلْ مَجَازًا لِأَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ سُؤَالَ الْقَرَافِيِّ لَا وَقْعَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: إنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمَحْكُومُ بِهِ يُقَالُ لَهُ: إنَّ قَوْلَهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] مَعْنَاهُ الَّذِينَ هُمْ مُشْرِكُونَ، فَقَدْ وَقَعَ اسْمُ الْفَاعِلِ مَحْكُومًا بِهِ، وَقَوْلُهُ: إنَّ مُتَعَلِّقَ الْحُكْمِ لَيْسَ يُرَادُ، يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُك: الْقَاتِلُ يُقْتَلُ أَوْ الْكَافِرُ يُقْتَلُ، وَأَرَدْت بِهِ مَعْهُودًا حَاضِرًا، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً حَتَّى يَكُونَ الْقَتْلُ قَائِمًا بِهِ مِنْ حِينِ الْخِطَابِ وَهُوَ مِمَّا اقْتَضَتْهُ الْقَاعِدَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ. هَذَا حُكْمُ

مسألة الاشتقاق من المعنى القائم بالشيء

الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا، فَإِنْ كَانَ مَاضِيًا وَاسْمُ الْفَاعِلِ نَكِرَةً غَيْرَ عَامَّةٍ، كَقَوْلِك: قَتَلْت كَافِرًا، فَصِدْقُهُ بِوُجُودِ تِلْكَ الصِّفَةِ فِي الْمَاضِي حَالَةَ الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مُضَافَةً إلَيْهَا " كُلَّ " كَقَوْلِك: قَتَلْتُ كُلَّ كَافِرٍ، اقْتَضَتْ تَعْمِيمَ الْقَتْلِ لِكُلِّ كَافِرٍ فِي الْمَاضِي، وَهَلْ الْكَافِرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي فَيَكُونُ مَخْصُوصًا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ أَلْبَتَّةَ؟ فِي الدَّلَالَةِ فِيهِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ الِاحْتِمَالَيْنِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي شَخْصٍ مُتَّصِفٍ بِحَدَثٍ حَالَ قِيَامِهِ بِهِ، وَمَجَازٌ فِيمَا سَيَتَّصِفُ بِهِ، وَكَذَا فِيمَا انْقَضَى اتِّصَافُهُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، فَالِاعْتِبَارُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِزَمَانِ الِاتِّصَافِ لَا بِزَمَانِ الْإِطْلَاقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ أَوْ بِهِ أَوْ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ حَيْثُ وُجِدَ فِي قَضِيَّةٍ فِعْلِيَّةٍ مُقَيَّدًا بِزَمَانِ فِعْلِهَا، وَفِي قَضِيَّةٍ اسْمِيَّةٍ إنْ قُيِّدَتْ تَقَيَّدَتْ، وَإِنْ أُطْلِقَتْ حُمِلَتْ عَلَى الْحَالِ بِاسْمِ فَاعِلٍ كَانَ الْمَحْكُومُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ أَوْ الْجَامِدَةِ. [مَسْأَلَةٌ الِاشْتِقَاقُ مِنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالشَّيْءِ] ِ] فِي الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالشَّيْءِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يُشْتَقَّ لِمَحِلِّهِ مِنْهُ اسْمٌ؟ قَالَ الرَّازِيَّ: إنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الْمَعْنَى اسْمٌ كَأَنْوَاعِ الرَّوَائِحِ وَالْآلَامِ اسْتَحَالَ أَنْ يُشْتَقَّ لِمَحِلِّهِ مِنْهُ اسْمٌ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ اسْمٌ فَفِيهِ مَقَامَانِ: أَحَدُهَا: هَلْ يَجِبُ أَنْ يُشْتَقَّ اسْمٌ لَهَا مِنْهَا؟ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَئِمَّتِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ وُجُوبُهُ، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَمَّا قَالُوا:

إنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ كَلَامَهُ فِي جِسْمٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا لَهُمْ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يُشْتَقَّ مِنْ ذَلِكَ اسْمُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْتَقَّ لِمَحِلِّهِ مِنْهُ اسْمٌ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَحِلِّ مِنْهُ اسْمٌ؟ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا: لَا، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ نَعَمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْكَلَامِ. ثُمَّ إنَّ الْأَشَاعِرَةَ أَطْلَقُوا عَلَى اللَّهِ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ الْكَرِيمَةِ، وَهُوَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ، وَلَا يُطْلِقُونَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ يُطْلِقُونَ اسْمَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى اللَّهِ بِاعْتِبَارِ خَلْقِهِ لِلْكَلَامِ فِي اللَّوْحِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، فَإِذَنْ اسْمُ الْمُتَكَلِّمِ صَادِقٌ عَلَى اللَّهِ، وَلَمْ يَقُمْ بِذَاتِ اللَّهِ الْكَلَامُ، وَيُسَمَّى مُتَكَلِّمًا، وَمَا قَامَ بِهِ لَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا. هَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ، ثُمَّ إنَّهُ مَالَ إلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ قِيَامُهُ بِمَنْ لَهُ الِاشْتِقَاقُ. إذْ الْكَيُّ وَالْحِدَادُ وَنَحْوُهُمَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ أُمُورٍ يَمْتَنِعُ قِيَامُهَا بِمَنْ لَهُ الِاشْتِقَاقُ. وَرُدَّ مَا قَالَهُ بِأَنَّ الْأَصْحَابَ إنَّمَا ادَّعَوْا ذَلِكَ فِي الْمُشْتَقَّاتِ مِنْ الْمَصَادِرِ الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ الْمَعَانِي وَمَا ذَكَرَهُ مُشْتَقٌّ مِنْ الزَّوَائِدِ وَأَسْمَاءِ الْأَعْيَانِ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَجْسَامٌ، وَالْكَلَامُ فِي الْمَعَانِي لَا فِي الْأَجْسَامِ، وَهَذَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْمَسْأَلَةِ بِالْمَصَادِرِ ذَاتِ الْمَعَانِي.

وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: إنَّ النَّقْصَ بِهَذِهِ إنَّمَا وَرَدَ عَلَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ: إنَّ الْمَعْنَى إذَا لَمْ يَقُمْ بِالْمَحِلِّ لَمْ يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَمْ تَقُمْ بِمَحَالِّهَا، وَقَدْ اُشْتُقَّ مِنْهَا أَسْمَاءٌ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا لَبْسَ فِي عَدَمِ قِيَامِهَا بِمَحَالِّ الْأَسْمَاءِ، وَلَا كَانَتْ الْمَعَانِي يَصِحُّ قِيَامُهَا بِالْمَحَالِّ الَّتِي أُخِذَتْ لَهَا مِنْهَا الْأَسْمَاءُ فَإِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى غَيْرِ مَحَالِّهَا الْتَبَسَ الْأَمْرُ فِيهِ. قَالَ: وَلَوْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا هِيَ النِّسَبُ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِالْمَحَالِّ، فَمِنْ النِّسْبَةِ أُخِذَتْ الْأَسْمَاءُ لَا مِنْ الْمُنْتَسَبِ إلَيْهِ، كَانَ لَهُ وَجْهٌ. قُلْت: وَكَأَنَّ كَلَامَ الْأَصْحَابِ عَلَى إطْلَاقِهِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ: ظَنَّ مَنْ لَمْ يُحَصِّلْ عِلْمَ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَصَفُوا الرَّبَّ تَعَالَى بِكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا، وَزَعَمُوا أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ الْقَوْمِ، بَلْ حَقِيقَةَ مُعْتَقَدِهِمْ: أَنَّ الْكَلَامَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ كَخَلْقِهِ الْجَوَاهِرَ وَأَعْرَاضَهَا، فَلَا يَرْجِعُ إلَى حَقِيقَتِهِ وُجُودُ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْكَلَامِ، فَمَحْصُولُ أَصْلِهِمْ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ، وَلَيْسَ قَائِلًا آمِرًا نَاهِيًا، وَإِنَّمَا يَخْلُقُ أَصْوَاتًا فِي جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ دَالٍّ عَلَى إرَادَتِهِ. اهـ. وَعَلَى هَذَا فَتَنْسَلِخُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ هَذَا الطِّرَازِ، وَلْنُنَبِّهْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هَكَذَا مِنْ بَحْثِ اللُّغَاتِ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ، ثُمَّ لَا يُمْكِنُهُمْ اطِّرَادُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَإِلَّا لَكَانَ جَهْلًا بِالْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَخُرُوجًا عَنْ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا

مسألة دلالة الأسماء المشتقة

أَلْجَأَهُمْ إلَى الْقَوْلِ بِهِ هُنَا أَنَّ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ عِنْدَهُمْ مُسْتَحِيلٌ، وَاللَّفْظِيَّ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَاتُهُ مَحِلًّا لِلْحَوَادِثِ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَكَلِّمٌ، فَاحْتَاجُوا إلَى أَنْ قَالُوا: سُمِّيَ مُتَكَلِّمًا، لِكَوْنِهِ يَخْلُقُ الْكَلَامَ فِي جِسْمٍ، أُخِذَ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا جَوَازُ اشْتِقَاقِ الْفَاعِلِ لِشَيْءٍ وَالْفِعْلُ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ، وَالْحَقُّ: أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُورَدَ الْمَسْأَلَةُ هَكَذَا. فَائِدَةٌ قَدْ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِهِمْ لَا يُشْتَقُّ اسْمُ الْفَاعِلِ لِشَيْءٍ وَالْفِعْلُ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ: مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا، فَوَكَّلَ مَنْ يَفْعَلُهُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ فَلَا يُسَمَّى فَاعِلًا، وَكَذَا لَوْ وُكِّلَ بِالْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ، لَسْت بِبَائِعٍ وَلَا مُطَلِّقٍ هَلْ يَحْنَثُ؟ [مَسْأَلَةٌ دَلَالَةُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ] الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِيَّاتِ الذَّوَاتِ الَّتِي قَامَتْ تِلْكَ الْمَعَانِي بِهَا، بَلْ عَلَى اتِّصَافِهَا بِالْمَصْدَرِ، فَإِذَنْ قَوْلُنَا: " أَسْوَدُ " يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مَا لَهُ السَّوَادُ. أَيْ: الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ جِسْمٌ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ مِنْ اللَّفْظِ، بَلْ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ أَنَّ السَّوَادَ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمٍ فَدَلَّ عَلَى الْجِسْمِيَّةِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لَا بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ، فَنَقُولُ: " ضَارِبٌ " يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الضَّرْبِ بِذَاتٍ، وَأَمَّا أَنَّهَا إنْسَانٌ أَوْ حَيَوَانٌ أَوْ غَيْرُهُمَا فَلَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مَسْأَلَةٌ قَالَ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ ": الْمُشْتَقَّاتُ بِالِاسْتِقْرَارِ تَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ وَزِيَادَةٍ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ فَائِدَةُ الِاشْتِقَاقِ نَحْوَ أَحْمَرَ يَدُلُّ عَلَى الْحُمْرَةِ وَعَلَى الشَّخْصِ، وَكَذَلِكَ ضَارِبٌ يَدُلُّ عَلَى الضَّرْبِ وَعَلَى الشَّخْصِ، وَلِهَذَا قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: إنَّ الْفِعْلَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ وَزِيَادَةٍ وَهُوَ الزَّمَانُ، وَخِلَافُ الْكُوفِيِّينَ يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ هَذَا الْأَصْلَ.

مباحث الترادف

[مَبَاحِثُ التَّرَادُفِ] ِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مُرَادَفَةِ الْبَهِيمَةِ، وَهِيَ حَمْلُهَا اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى ظَهْرِهَا وَرِدْفِهَا. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ الدَّالَّةُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ. وَاحْتُرِزَ بِالْمُفْرَدَةِ عَنْ دَلَالَةِ الِاسْمِ وَالْحَدِّ، فَإِنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَا مُتَرَادِفَيْنِ، لِأَنَّ الْحَدَّ مُرَكَّبٌ. وَخَرَجَ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ الْمُتَزَايِلَانِ كَالسَّيْفِ وَالصَّارِمِ، فَإِنَّ مَدْلُولَهُمَا وَاحِدٌ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: [الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى فِي وُقُوعِهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَاقِعٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْ لُغَتَيْنِ وَبِحَسَبِ الشَّرْعِ، كَالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ عِنْدَنَا، وَبِحَسَبِ الْعُرْفِ.

الثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، لِأَنَّ وَضْعَ اللَّفْظَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ عِيٌّ يَجِلُّ الْوَاضِعُ عَنْهُ، وَكُلُّ مَا اُدُّعِيَ فِيهِ التَّرَادُفُ، فَإِنَّ بَيْنَ مَعْنَيْهِمَا تَوَاصُلًا لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الِاشْتِقَاقَ الْأَكْبَرَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِهِ " فِقْهِ اللُّغَةِ " وَحَكَاهُ عَنْ شَيْخِهِ ثَعْلَبٍ، وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي " الْمُخَصَّصِ ": كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّرِيِّ يَعْنِي ابْنَ السِّرَاجِ يَحْكِي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى ثَعْلَبٍ مَنْعَهُ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْعُهُ سَمَاعًا أَوْ قِيَاسًا، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَاعًا فَإِنَّ كُتُبَ الْعُلَمَاءِ بِاللُّغَةِ وَنُقَلَهَا طَافِحَةٌ بِهِ فِي تَصْنِيفِهِ كِتَابَ " الْأَلْفَاظِ ". فَإِنْ قَالَ: فِي كُلِّ لَفْظَةٍ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْأُخْرَى كَمَا فِي مَضَى وَذَهَبَ، قِيلَ: نَحْنُ نُوجِدُ لَهُ مَا لَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ تَقُولَ: إنَّهُ لَا زِيَادَةَ مَعْنَى فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا دُونَ الْأُخْرَى وَذَلِكَ نَحْوُ الْكِتَابَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَك: ضَرَبَك وَمَا ضَرَبَ إلَّا إيَّاكَ، وَجِئْتنِي وَمَا جَاءَنِي إلَّا أَنْتَ. وَنَحْوُهُ يُفْهَمُ مِنْ كُلِّ لَفْظَةٍ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْأُخْرَى مِنْ الْغَيْبَةِ وَالْخِطَابِ وَالْإِضْمَارِ وَالْمَوْضِعِ مِنْ الْإِعْرَابِ لَا زِيَادَةَ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا جَازَ فِي شَيْءٍ وَشَيْئَيْنِ وَثَلَاثَةٍ جَازَ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَصَنَّفَ الزَّجَّاجُ كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ التَّرَادُفَ وَكِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ اشْتِقَاقَ الْأَسْمَاءِ، وَصَنَّفَ أَبُو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ مُصَنَّفًا آخَرَ مَنَعَ فِيهِ التَّرَادُفَ وَسَمَّاهُ " الْفُرُوقَ ". قَالَ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُبَرِّدُ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]

قَالَ: فَعَطَفَ مِنْهَاجًا عَلَى شِرْعَةٍ لِأَنَّ الشِّرْعَةَ لِأَوَّلِ الشَّيْءِ وَالْمِنْهَاجَ لِعَظِيمِهِ وَمُتَّسَعِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِمْ: شَرَعَ فُلَانٌ فِي كَذَا إذَا ابْتَدَأَهُ، وَأَنْهَجَ الْبَلَاءَ فِي الثَّوْبِ إذَا اتَّسَعَ فِيهِ. قَالَ أَبُو هِلَالٍ: وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ حَتَّى تَضَامَّهُ عَلَامَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِلَّا أَشْكَلَ، فَالْتَبَسَ عَلَى الْمُخَاطَبِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّ فِيهِ تَكْثِيرًا لِلُّغَةِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ الْحَرَكَاتُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. قَالُوا: فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ عِنْدَهُ الشَّيْءُ قِيلَ فِيهِ: " مَفْعَلُ " كَمِرْحَمٍ وَمِحْرَبٍ، وَإِذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْفِعْلِ قِيلَ: " فَعُولٌ " كَصَبُورٍ وَشَكُورٍ، فَإِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْفِعْلُ قِيلَ: " فَعَّالٌ " كَعَلَّامٍ وَجَبَّارٍ، وَإِذَا كَانَ عَادَةً لَهُ قِيلَ: " مِفْعَالٌ " كَمِعْوَانٍ وَمِعْطَافٍ، وَمَنْ لَا يُحَقِّقُ الْمَعَانِيَ يَظُنُّ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ لَا تَتَعَاقَبُ، حَتَّى قَالَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ: فِي جَوَازِ تَعَاقُبِهَا إبْطَالُ حَقِيقَةِ اللُّغَةِ وَإِفْسَادُ الْحُكْمِ فِيهَا، لِأَنَّهَا إذَا تَعَاقَبَتْ خَرَجَتْ عَنْ حَقَائِقِهَا، وَوَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَعْنَى الْآخَرِ، فَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ لَفْظَانِ مُخْتَلِفَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمُحَقِّقُونَ يَأْبَوْنَهُ. هَذَا كَلَامُهُ. وَمِمَّنْ اخْتَارَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْجُوَيْنِيُّ فِي " الْيَنَابِيعِ "، وَقَالَ: أَكْثَرُ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ الْمُتَرَادِفِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ اللَّفْظَانِ مَوْضُوعَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لَكِنَّ وَجْهَ الْخِلَافِ خَفِيٌّ. وَالثَّالِثُ: يَقَعُ فِي اللُّغَةِ لَا فِي الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ فِي

مسألة هل وقع في القرآن ترادف

الْمَحْصُولِ " فَقَالَ فِي آخِرِ مَسْأَلَةِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ بَعْدَمَا ذَكَرَ وُقُوعَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ: وَأَمَّا التَّرَادُفُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ، لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. اهـ. هَذَا وَالْإِمَامُ نَفْسُهُ مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ مُتَرَادِفَانِ، وَالسُّنَّةَ وَالتَّطَوُّعَ، ثُمَّ الْخِلَافُ فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ. أَمَّا اللُّغَتَانِ فَلَا يُنْكِرُهُمَا أَحَدٌ، قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ. قُلْت: وَنَصَّ عَلَيْهِ الْعَسْكَرِيُّ، وَهُوَ مِمَّنْ يُنْكِرُ أَصْلَ التَّرَادُفِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " فَعَلَ " وَ " أَفْعَلَ " بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا لَا يَكُونَانِ عَلَى بِنَاءٍ وَاحِدٍ، إلَّا أَنْ يَجِيءَ ذَلِكَ فِي لُغَتَيْنِ، وَأَمَّا فِي لُغَةٍ فَمُحَالٌ، فَقَوْلُك: سَقَيْت الرَّجُلَ يُفِيدُ أَنَّك أَعْطَيْته مَا يَشْرَبُهُ أَوْ صَبَبْته فِي حَلْقِهِ، وَأَسْقَيْته يُفِيدُ أَنَّك جَعَلْت لَهُ سَقْيًا أَوْ حَظًّا مِنْ الْمَاءِ وَقَوْلُك: شَرِقَتْ الشَّمْسُ يُفِيدُ خِلَافَ غَرَبَتْ، وَأَشْرَقَتْ يُفِيدُ أَنَّهَا صَارَتْ ذَاتَ إشْرَاقٍ. انْتَهَى. [مَسْأَلَةٌ هَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ تَرَادُفٌ] إذَا قُلْنَا بِوُقُوعِهِ فِي اللُّغَةِ، فَهَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ؟ نُقِلَ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَنْعُ، كَذَا رَأَيْته فِي أَوَّلِ " شَرْحِ الْإِرْشَادِ " لِأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ دِهَاقٍ الشَّهِيرِ بِابْنِ الْمِرْآةِ. فَقَالَ: ذَهَبَ

مسألة في سبب الترادف

الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ إلَى مَنْعِ تَرَادُفِ اسْمَيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} [الحشر: 24] إنَّهُ بِمَعْنَى الْمُعَدِّلِ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْت وَبَعْضُ ... الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي فَمَعْنَاهُ يَمْضِي وَيَقْطَعُ مَا قَدَّرْت مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَصَفَهُ بِحَصَافَةِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ. اهـ. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُبَرِّدِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ أَبْدَى لِكُلِّ مَعْنًى، وَالصَّحِيحُ: الْوُقُوعُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ} [النحل: 36] وَفِي مَوْضِعٍ [أَرْسَلْنَا] وَهُوَ كَثِيرٌ. [مَسْأَلَةٌ فِي سَبَبِ التَّرَادُفِ] وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ وَاضِعَيْنِ وَهُوَ السَّبَبُ الْأَكْثَرُ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَيَلْتَبِسُ، وَإِمَّا مِنْ وَاضِعٍ وَاحِدٍ وَلَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا: التَّوْسِعَةُ، لِتَكْثِيرِ الطُّرُقِ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ الْمَعَانِي الْمَطْلُوبَةِ، وَلِهَذَا يَجْتَنِبُ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ اللَّفْظَةَ الَّتِي فِيهَا الرَّاءُ لِلُثْغَتِهِ حَتَّى كَأَنَّ الرَّاءَ لَيْسَتْ عِنْدَهُ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَمِنْهَا: تَيْسِيرُ النَّظْمِ لِلرَّوِيِّ، وَالنَّثْرِ لِلزِّنَةِ

مسألة الترادف خلاف الأصل

وَالتَّجْنِيسِ وَالْمُطَابِقَةِ. [مَسْأَلَةٌ التَّرَادُفُ خِلَافُ الْأَصْلِ] التَّرَادُفُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَإِذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ كَوْنِهِ مُتَرَادِفًا أَوْ مُتَبَايِنًا فَحَمْلُهُ عَلَى الْمُتَبَايِنِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْقَصْدَ الْإِفْهَامُ فَمَتَى حَصَلَ بِالْوَاحِدِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْأَكْثَرِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ تَعْرِيفُ الْمُعَرَّفِ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمَشَقَّةَ فِي حِفْظِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ فِي " الْمَحْصُولِ " حَكَى خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُتَرَادِفَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّرَادُفِ، وَذَكَرَ الْحُجَّةَ السَّابِقَةَ لِكُلٍّ مِنْ الْمَقَالَيْنِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ لِاتِّحَادِهِمَا.

وَالْحَقُّ: أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي لُغَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ مَعْنًى وَاحِدٍ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَاقْتَضَى كَلَامُ " الْمَحْصُولِ " وُجُودَ خِلَافٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَصْلِ الْغَالِبُ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْخِلَافُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْقِيَاسُ فَيُمْكِنُ قَوْلُهُ فِي التَّرَادُفِ مِنْ وَاضِعٍ وَاحِدٍ لَا مِنْ وَاضِعَيْنِ. مَسْأَلَةٌ إطْلَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَرَادِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ الْمُتَرَادِفَانِ يَصِحُّ إطْلَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِمَعْنَى الْمُتَرَادِفَيْنِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي حَالِ التَّرْكِيبِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي " الْمُنْتَهَى " وَالْبَيْضَاوِيُّ أَيْ: إذَا صَحَّ النُّطْقُ بِأَحَدِهِمَا فِي تَرْكِيبٍ يَلْزَمُ أَنْ يَصِحَّ النُّطْقُ فِيهِ بِالْآخَرِ، اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ " الْمَحْصُولِ "، يَجِبُ صِحَّةُ إقَامَتِهِ مَقَامَهُ وَفِيهِ ثَلَاثُ مَذَاهِبَ: أَصَحُّهَا: عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ اللُّزُومُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّرْكِيبِ إنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، فَإِذَا صَحَّ النُّطْقُ مَعَ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ وَجَبَ بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَصِحَّ مَعَ اللَّفْظِ الْآخَرِ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: إنَّهُ الْأَظْهَرُ فِي أَوَّلِ النَّظَرِ، وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ التَّرْكِيبَ مِنْ عَوَارِضِ الْمَعَانِي دُونَ الْأَلْفَاظِ، فَإِذَا صَحَّ تَأَلُّفُ الْمَعْنَى مَعَ الْمَعْنَى فَلَا نَظَرَ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِأَيِّ لَفْظَةٍ كَانَتْ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِحَّ التَّأْلِيفُ لَا يَجُوزُ، كَمَا فِي صَلَّى وَدَعَا، فَإِنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ قَالُوا: إنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ

مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ أَحَدُ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: صَلَّى عَلَيْهِ فَتَرَكَّبَ " صَلَّى " مَعَ لَفْظَةِ " عَلَى " فِي طَلَبِ الْخَيْرِ لِلْمَدْعُوِّ لَهُ، وَلَوْ رَكَّبْتهَا مَعَ " دَعَا " فَقُلْت: دَعَا عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ، وَانْعَكَسَ الْمَعْنَى لِلشَّرِّ. قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْ صَلَّى وَدَعَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ، وَالصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ لَيْسَتْ بِالدُّعَاءِ بَلْ هِيَ الْمَغْفِرَةُ، فَمَعْنَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى زَيْدٍ غَفَرَ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ التَّعَدِّيَةَ مُخْتَلِفَةٌ، فَأَتَى فِي الصَّلَاةِ بِعَلَى مُبَالَغَةً فِي اسْتِعْلَاءِ الْفِعْلِ عَلَى الْمَفْعُولِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَاخْتَارَهُ فِي " الْحَاصِلِ " وَ " التَّحْصِيلِ "، وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": إنَّهُ الْحَقُّ، لِأَنَّ صِحَّةَ الضَّمِّ قَدْ تَكُونُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَصِحُّ قَوْلُك: خَرَجْت مِنْ الدَّارِ، مَعَ أَنَّك لَوْ أَبْدَلْت لَفْظَةَ " مِنْ " وَحْدَهَا بِمُرَادِفِهَا بِالْفَارِسِيَّةِ لَمْ يَجُزْ. قَالَ: وَإِذَا قُلْنَا ذَلِكَ فِي لُغَتَيْنِ لَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ. وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَصِحُّ وَإِلَّا فَلَا، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْهِنْدِيُّ، وَقَالَ: هَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ لَمْ يُلْفَ صَرِيحًا لَكِنْ يُلْفَى ضِمْنًا فِي كَلَامِهِمْ. وَقَالَ النَّقْشَوَانِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّ اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ فِيهَا تَفْصِيلٌ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ إلَّا مُجَرَّدَ الْفَهْمِ قَامَ أَحَدُ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ قَافِيَةَ الْقَصِيدَةِ وَرَوِيَّ الشِّعْرِ وَأَنْوَاعَ الْجِنَاسِ فَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْبُرِّ دُونَ الْقَمْحِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ فِي " الْمَحْصُولِ " نَصَبَ الْخِلَافَ فِي وُجُوبِ إقَامَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا

مَقَامَ الْآخَرِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَمُرَادُهُ بِالْوُجُوبِ اللُّزُومُ، بِمَعْنَى أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ صِحَّةِ انْضِمَامِ الْمَعَانِي صِحَّةُ انْضِمَامِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، وَاخْتَارَ أَنَّ جَوَازَ تَبْدِيلِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ نَقَلَ عَنْ الْإِمَامِ اخْتِيَارَ الْمَنْعِ مُطْلَقًا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَكَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي " الْمُنْتَهَى " يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ حَيْثُ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَعْنَى، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِهِ فَلَا يَجُوزُ قَطْعًا، وَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَلَامُهُ فِي " الْمُخْتَصَرِ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي تَبْدِيلِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمُرَكَّبَةِ دُونَ الْبَعْضِ، وَلِهَذَا مَثَّلَ بِ " خداي أَكْبَرُ ". قَالَ: وَأُجِيبَ، بِالْفَرْقِ بِاخْتِلَاطِ اللُّغَتَيْنِ، فَأَرْشَدَ إلَى أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ قَاصِرَةٌ عَلَى تَرْجَمَةِ بَعْضِ الْمُرَكَّبِ لَا كُلِّهِ أَمَّا تَبْدِيلُ أَلْفَاظِ الْمُتَكَلِّمِ كُلِّهَا أَلْفَاظًا مِنْ غَيْرِ لُغَتِهِ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ فَلْيُتَفَطَّنْ لَهُ. فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَتَّجِهُ جَوَازُ تَبْدِيلِ الْجَمِيعِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْمَنْعِ عَلَى قَوْلٍ إذَا بَدَّلَ الْبَعْضَ؟ . قُلْت: لِأَنَّ تَبْدِيلَ الْبَعْضِ جَمْعٌ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ، فَرُبَّمَا خَلَطَ عَلَى السَّامِعِ، فَيُخِلُّ بِالْفَهْمِ بِخِلَافِ تَبْدِيلِ الْجَمِيعِ. وَأَوْضَحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ: أَحَدُ الْمُتَرَادِفَيْنِ إمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا. الْحَالَةُ الْأُولَى: الْإِفْرَادُ وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي قِيَامِ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ؟

قُلْت: مِنْهُمْ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " الْمُنْتَهَى ". اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُفْرَدَ ذُو التَّرَادُفِ لَهُ أَحْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ عِنْدَ تَعْدَادِ الْمُفْرَدَاتِ حَيْثُ لَا إعْرَابَ وَلَا بِنَاءَ كَقَوْلِهِ: أَسَدٌ، عَيْنٌ، حِنْطَةٌ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي النُّطْقِ بِأَيِّ اللَّفْظَيْنِ شَاءَ بِلَا إشْكَالٍ مِنْ لَيْثٍ أَوْ مُقْلَةٍ أَوْ بُرٍّ. الثَّانِي: أَنْ يَتَكَلَّمَ زَيْدٌ بِالْمُفْرَدِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَحْكِيَهُ فَيَقُولُ: قَالَ زَيْدٌ: أَسَدٌ، وَيَكُونُ إنَّمَا قَالَ: لَيْثٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يَأْمُرَك زَيْدٌ بِأَنْ تَقُولَ: لَيْثٌ، فَتَقُولُ: أَسَدٌ فَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ مِنْ قِسْمِ الْمُفْرَدِ، وَلِلنِّزَاعِ فِيهَا مَجَالٌ عِنْدَ تَعَيُّنِ حِكَايَةِ اللَّفْظِ لَا. سِيَّمَا إنْ مَنَعْنَا النَّقْلَ بِالْمَعْنَى، وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازُ بِمُرَادِفِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَعَلَّهُ خَاصٌّ بِحِكَايَةِ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ فِي صُورَةِ الْأَمْرِ يَحْتَمِلُ الِامْتِثَالَ بِالْمُرَادِفِ وَإِلَّا قُلْت: قَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إذَا قَالَ الْقَاضِي لَهُ: قُلْ: بِاَللَّهِ، فَقَالَ: بِالرَّحْمَنِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ نُكُولًا وَفِي الْمُكْرَهِ لَوْ قَالَ لَهُ: قُلْ أَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَ: بَائِنٌ، إنَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا، وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْمُفْرَدِ مَمْنُوعٌ. الْمُرَكَّبُ وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ فَلَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ النُّطْقَ فَيَنْطِقُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَيْسَ، ذَلِكَ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً وَيُبَدِّلُ بِأَلْفَاظِ الْمُتَكَلِّمِ كُلِّهَا أَلْفَاظًا مِنْ غَيْرِ لُغَتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يُبَدِّلَ كُلَّهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَرَادِفَةٍ مِنْ لُغَتِهَا مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: حَضَرَ الْأَسَدُ. فَيُقَالُ: قَالَ زَيْدٌ: جَاءَ اللَّيْثُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ، لِأَنَّ صَاحِبَ " الْمَحْصُولِ " مِمَّنْ اخْتَارَ أَنَّهُ لَا يُقَامُ أَحَدُ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ مَعَ جَزْمِهِ بِجَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى بِغَيْرِ الْمُتَرَادِفِ فَضْلًا عَنْ الْمُتَرَادِفِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، كَأَنْ يَقُولَ زَيْدٌ: قُلْ: جَاءَ الْأَسَدُ، فَيَقُولُ: حَضَرَ اللَّيْثُ، أَوْ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْعَجَمِيَّةِ، فَيَحْتَمِلُ الْمَنْعُ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمَقْصُودَ اللَّفْظُ، وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازُ إلَّا حَيْثُ تَعَبَّدْنَا بِاللَّفْظِ، كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهَا. الْخَامِسُ: أَنْ يُبَدِّلَ بَعْضَ أَلْفَاظِ الْمُرَكَّبِ دُونَ بَعْضٍ كَأَنْ يَقُولَ حَضَرَ الْأَسَدُ مَكَانَ حَضَرَ اللَّيْثُ وَكَذَلِكَ " خداي أَكْبَرُ " فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ. هَذَا كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ. وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ إقَامَةِ كُلٍّ مِنْ الْمُتَرَادِفَيْنِ مُخْتَلِفَيْ اللُّغَةِ مَقَامَ الْآخَرِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَلْفَاظُ كَعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ النَّظَرُ فِي أَنَّ التَّعَبُّدَ هَلْ وَقَعَ بِلَفْظَةٍ؟ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ الْمَانِعَ إذْ ذَاكَ مِنْ إقَامَةِ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ مُخْتَلِفَيْ اللُّغَةِ مَقَامَ الْآخَرِ لَيْسَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ، بَلْ لِمَا وَقَعَ مِنْ التَّعَبُّدِ بِجَوْهَرِ لَفْظِهِ كَالْخِلَافِ فِي أَنَّ لَفْظ النِّكَاحِ هَلْ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَأَنْظَارِهِ؟ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ " فِي بَابِ النِّكَاحِ لِلْأَلْفَاظِ سِتَّ مَرَاتِبَ: الْأَوَّلُ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَلَفْظُهُ مُتَعَيِّنٌ. الثَّانِي: مَا تَعَبَّدْنَا بِلَفْظِهِ وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ الْأَكْبَرُ مَعْنَاهُ كَالتَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ.

مسألة اللغات ما عدا العربية سواء

الثَّالِثُ: لَفْظُ النِّكَاحِ، تَرَدَّدُوا هَلْ الْمَرْعِيُّ فِيهِ التَّعَبُّدُ وَإِنَّمَا تَعَيَّنَتْ أَلْفَاظُهُ لِحَاجَةِ الْإِشْهَادِ؟ وَيَلْزَمُ عَلَى الثَّانِي أَنَّ أَهْلَ قُطْرٍ لَوْ تَوَاطَئُوا عَلَى لَفْظٍ فِي إرَادَةِ النِّكَاحِ يَنْعَقِدُ بِهِ. الرَّابِعُ: الطَّلَاقُ. الْخَامِسُ: الْعُقُودُ سِوَى النِّكَاحِ. السَّادِسُ: مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولٍ كَالْإِبْرَاءِ وَالْفَسْخِ. [مَسْأَلَةٌ اللُّغَاتُ مَا عَدَا الْعَرَبِيَّةَ سَوَاءٌ] ٌ] اللُّغَاتُ مَا عَدَا الْعَرَبِيَّةَ سَوَاءٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَمِنْ فُرُوعِهَا أَنَّ مَنْ لَمْ يُطَاوِعْهُ لِسَانُهُ عَلَى التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ تَرْجَمَ. قَالَ فِي " الْحَاوِي ": إذَا لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ وَأَحْسَنَ الْفَارِسِيَّةَ وَالسُّرْيَانِيَّة فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُكَبِّرُ بِالْفَارِسِيَّةِ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ اللُّغَاتِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ. وَالثَّانِي: بِالسُّرْيَانِيَّةِ لِشَرَفِهَا بِإِنْزَالِ كِتَابٍ لَهَا. وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ أَحْسَنَ التُّرْكِيَّةَ وَالْفَارِسِيَّةَ فَهَلْ تَتَعَيَّنُ الْفَارِسِيَّةُ أَوْ يَتَخَيَّرُ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ أَحْسَنَ التُّرْكِيَّةَ وَالْهِنْدِيَّةَ يَتَخَيَّرُ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الشَّاشِيُّ: وَهَذَا التَّخْرِيجُ فَاسِدٌ، فَإِنَّ اللُّغَاتِ بَعْدَ الْعَرَبِيَّةِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْعَرَبِيَّةُ بِذَلِكَ تَعَبُّدًا.

مسألة ترادف الحد والمحدود

[مَسْأَلَةٌ تَرَادُفُ الْحَدِّ وَالْمَحْدُودِ] قِيلَ: الْحَدُّ وَالْمَحْدُودُ مُتَرَادِفَانِ وَالصَّحِيحُ: تَغَايُرُهُمَا، لِأَنَّ الْمَحْدُودَ يَدُلُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَالْحَدُّ يَدُلُّ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى أَجْزَائِهَا، فَالِاعْتِبَارَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْحَدُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ إنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ، وَنَفْسُهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى، فَلَفْظُ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ الَّذِي وَقَعَ الْحَدُّ بِهِ هُوَ الْإِنْسَانُ قَطْعًا، وَمَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ هُوَ غَيْرُ الْإِنْسَانِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْحَدَّ وَالْمَحْدُودَ إنْ لَمْ يَتَّحِدَا فِي الذَّاتِ كَذَبَ الْحَدُّ وَلَمْ يَكُنْ حَدًّا، وَإِنْ اتَّحَدَا صَدَقَ الْحَدُّ، وَلَيْسَ هُوَ الْمَحْدُودَ، لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ: يَجِبُ اتِّحَادُ الْخَبَرِ بِالْمُبْتَدَأِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ هُوَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ كَلَامًا أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ قَوْلَك: زَيْدٌ زَيْدٌ إذَا لَمْ يُقَدَّرْ زَيْدٌ الثَّانِي بِمَعْنًى يَزِيدُ عَلَى الْأَوَّلِ كَانَ مُهْمَلًا، وَالْفَائِدَةُ فِي الْخَبَرِ مَعَ الِاتِّحَادِ تَنْزِيلُ الْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ، فَإِنَّ " هَذَا " اسْمُ إشَارَةٍ، فَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مُشَارٍ إلَيْهِ، سَوَاءٌ زَيْدٌ وَغَيْرُهُ فَلَمَّا حَمَلْنَاهُ عَلَى زَيْدٍ جَاءَتْ الْفَائِدَةُ. [مَسْأَلَةٌ الْإِتْبَاعُ] مِنْ كَلَامِهِمْ الْإِتْبَاعُ وَهُوَ أَنْ تَتْبَعَ الْكَلِمَةُ الْكَلِمَةَ عَلَى وَزْنِهَا أَوْ رَوِيِّهَا إتْبَاعًا وَتَوْكِيدًا.

قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَقَدْ شَارَكَ الْعَجَمُ الْعَرَبَ فِي هَذَا، وَهُوَ يُشْبِهُ أَسْمَاءَ الْمُتَرَادِفِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا اسْمَانِ وُضِعَا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، وَيُشْبِهُ أَسْمَاءَ التَّوْكِيدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْأَوَّلِ غَيْرَ أَنَّ التَّابِعَ وَحْدَهُ لَا يُفِيدُ، بَلْ شَرْطُ إفَادَتِهِ تَقَدُّمُ الْمَتْبُوعِ عَلَيْهِ، وَصَنَّفَ فِيهِ ابْنُ خَالَوَيْهِ كِتَابًا سَمَّاهُ " الْإِتْبَاعَ وَالْأَلْبَابَ " وَأَبُو الطَّيِّبِ عَبْدُ الْوَاحِدِ اللُّغَوِيُّ أَيْضًا، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُمْ. قِيلَ: إنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ وَالصَّحِيحُ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ التَّابِعَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَتْبُوعُ إلَّا بِتَبَعِيَّةِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا قُطِعَ عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا. بِخِلَافِ الْمُتَرَادِفِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْآخَرُ وَحْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: قُلْت لِأَبِي الْمَكَارِمِ: مَا قَوْلُكُمْ فِي جَامِعٍ تَابِعٍ؟ قَالَ: إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ نَتِدُ بِهِ كَلَامَنَا أَيْ: نُؤَكِّدُ بِهِ. قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: وَلَمْ يَسْمَعْ الْإِتْبَاعَ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: كَثِيرٌ بَتِيرٌ عَمِيرٌ بَرِيرٌ بَجِيرٌ بَدِيرٌ، وَقِيلَ: مُجِيرٌ بِالْمِيمِ، فَأَمَّا الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فَكَثِيرٌ. قَالُوا: حَسَنٌ بَسَنٌ مَسَنٌ، وَجَارَ بَارَ حَارَ. وَسَمَّى أَبُو الطَّيِّبِ كِتَابَهُ " بِالْإِتْبَاعِ وَالتَّوْكِيدِ " قَالَ: وَإِنَّمَا قَرَنَّا الْإِتْبَاعَ بِالتَّوْكِيدِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ إتْبَاعٍ تَوْكِيدًا، وَكُلُّ تَوْكِيدٍ إتْبَاعًا فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُمَا وَاحِدًا، وَأَجَازَ أَكْثَرُهُمْ الْفَرْقَ، فَجَعَلُوا الْإِتْبَاعَ مَا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْوَاوُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: عَطْشَانُ

نَطْشَانُ، وَشَيْطَانُ لَيْطَانُ، وَالتَّوْكِيدُ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَاوُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: هُوَ فِي حَلٍّ وَبَلٍّ، وَأَخَذَ فِي كُلِّ حَسَنٍ وَسَنٍ. قَالَ: وَنَحْنُ نَذْهَبُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إلَى أَنَّ إتْبَاعَ مَا لَا يَخْتَصُّ بِمَعْنًى يُمْكِنُ إفْرَادُهُ، وَالتَّوْكِيدُ مَا اخْتَصَّ بِمَعْنًى وَجَازَ إفْرَادُهُ بِهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُمْ: هَذَا جَائِعٌ فَائِعٌ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ إتْبَاعٌ، ثُمَّ يَقُولُونَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْإِنْسَانِ جُوعًا وَبُوعًا، فَيُدْخِلُونَ الْوَاوَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ إتْبَاعٌ، إذْ كَانَ مُحَالًا أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مَرَّةً إتْبَاعًا وَمَرَّةً غَيْرَ إتْبَاعٍ، فَقَدْ وَضَحَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لَيْسَ بِالْوَاوِ. اهـ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ التَّابِعَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى زِنَةِ الْمَتْبُوعِ بِخِلَافِ التَّوْكِيدِ. قَالَهُ الْآمِدِيُّ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ الِاسْتِقْرَاءِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إلَّا كَذَلِكَ. قَالَ الْآمِدِيُّ: التَّابِعُ قَدْ لَا يُفِيدُ مَعْنًى أَصْلًا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: سَأَلْت أَبَا حَاتِمٍ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: بَسَنٌ فِي قَوْلِهِمْ: حَسَنٌ بَسَنٌ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّابِعَ يُفِيدُ التَّقْوِيَةَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْهُ عَبَثًا. فَإِنْ قُلْت: فَصَارَ كَالتَّأْكِيدِ، لِأَنَّهُ أَيْضًا إنَّمَا يُفِيدُ التَّقْوِيَةَ قُلْت: التَّأْكِيدُ يُفِيدُ مَعَ التَّقْوِيَةِ نَفْيَ احْتِمَالِ الْمَجَازِ. وَقَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ النَّحْوِيُّ فِي " الْغُرَّةِ ": اُخْتُلِفَ فِي الْإِتْبَاعِ

فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ التَّأْكِيدِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ كَأَكْتَعَ وَأَبْصَعَ مَعَ أَجْمَعَ، فَكَمَا لَا يَنْطِقُ بِأَكْتَعَ بِغَيْرِ أَجْمَعَ، فَكَذَا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَعَ مَا قَبْلَهَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرَّرْت بَعْضَ حُرُوفِهَا فِي مِثْلِ حَسَنٌ بَسَنٌ، كَمَا قِيلَ: فِي أَكْتَعَ وَأَبْصَعَ مَعَ أَجْمَعَ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّأْكِيدَ غَيْرُ الْإِتْبَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَرْقِ فَقِيلَ: الْإِتْبَاعُ مَا لَمْ يَحْسُنْ فِيهِ وَاوُ الْعَطْفِ كَقَوْلِك: حَسَنٌ بَسَنٌ، وَالتَّأْكِيدُ يَحْسُنُ، فِيهِ نَحْوُ حِلَّ وَبِلَّ، وَقِيلَ الْإِتْبَاعُ يَكُونُ لِلْكَلِمَةِ، وَلَا مَعْنَى لَهَا غَيْرَ التَّبَعِيَّةِ. فَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يُسَمَّى تَابِعٌ تَابِعًا. قُلْت: وَقِيلَ: التَّأْكِيدُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ تَقْوِيَةُ مَدْلُولِ اللَّفْظِ السَّابِقِ كَيْفَ كَانَ، وَالتَّابِعُ إنَّمَا يُذْكَرُ بَعْدَ الِاسْمِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: إنَّ التَّابِعَ لَمْ يُوضَعْ لِمُسَمًّى فِي نَفْسِهِ، وَيَشْهَدُ لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ الدَّهَّانِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ شَيْءٌ نَتِدُ بِهِ كَلَامَنَا، أَيْ: نُقَوِّيهِ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّأْكِيدِ إلَّا هَذَا. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ فِي كِتَابِ " فَائِتِ الْجَمْهَرَةِ ": سَمِعْت الْمُبَرِّدَ وَثَعْلَبًا يَقُولَانِ: الْإِتْبَاعُ لَا يَكُونُ بِحَرْفِ النَّسَقِ، إنَّمَا الْإِتْبَاعُ أَنْ يَقُولَ: حِلٌّ بَلْ وَشَيْطَانُ لَيْطَانُ فَأَمَّا قَوْلُ الْعَبَّاسِ:

مسألة التأكيد واقع في اللغة

لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسَلٍ، وَهِيَ لِشَارِبٍ حِلٌّ وَبِلٌّ، أَيْ حَلَالٌ وَمُبَاحٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَلَالٍ مُبَاحًا لِأَنَّ أَكْلَ الرُّطَبِ حَلَالٌ، وَلَيْسَ بِمُبَاحٍ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ أَوْ يَسْتَوْهِبَهُ اهـ وَهَذَا فَرْقٌ غَرِيبٌ. [مَسْأَلَةٌ التَّأْكِيدُ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ] التَّأْكِيدُ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ، وَحَكَى الطُّرْطُوشِيُّ فِي الْعُمْدَةِ عَنْ قَوْمٍ إنْكَارَهُ قَالَ: وَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ مُكَابِرٌ، إذْ لَوْلَا وُجُودُهُ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ تَأْكِيدًا فَائِدَةٌ، فَإِنَّ الِاسْمَ لَا يُوضَعُ إلَّا لِمُسَمًّى مَعْلُومٍ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَأَنْكَرَتْ الْمَلَاحِدَةُ الثَّانِيَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ " الْمَحْصُولِ " وَغَيْرِهِ أَنَّ خِلَافَهُمْ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُمْ حَكَمُوا بِكَوْنِهِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِنَوْعٍ مِنْ الْقُصُورِ عَنْ تَأْدِيَةِ مَا فِي النَّفْسِ، فَاحْتِيجَ إلَى التَّأْكِيدِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، وَضَلُّوا مِنْ حَيْثُ جَهِلُوا، لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَمِنْوَالِ كَلَامِهِمْ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ. [هَلْ التَّأْكِيدُ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: [الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى [هَلْ التَّأْكِيدُ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ] إذَا ثَبَتَ وُقُوعُهُ لُغَةً فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ

مسألة التأكيد على خلاف الأصل

إلَّا مَا أَفَادَهُ الْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ سَمَّى التَّأْكِيدَ مَجَازًا فَيُقَالُ لَهُ: إذَا كَانَ التَّأْكِيدُ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ نَحْوَ عَجِّلْ عَجِّلْ، وَنَحْوُهُ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَجَازًا كَانَ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ عَلَى، مَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِذَا بَطَلَ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَجَازِ بَطَلَ حَمْلُ الثَّانِي عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِثْلُهُ. [مَسْأَلَةُ التَّأْكِيدُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ [التَّأْكِيدُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ] أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَلَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدِّدَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ حَمْلِهِ عَلَى التَّأْسِيسِ أَوْ التَّأْكِيدِ فَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً. [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ أَنَّهُ يَكْتَفِي فِي تِلْكَ الْفَائِدَةِ بِأَيِّ مَعْنًى كَانَ، وَشَرَطَ الطُّرْطُوشِيُّ كَوْنَهَا مِنْ مُقْتَضَى اللِّسَانِ فَحَذَا بِهَا حَذْوَ اللَّفْظِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى فَائِدَةٍ يُخْرِجُهَا الْفُقَهَاءُ لَيْسَتْ مِنْ مُقْتَضَى لِسَانِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَضْعُ لُغَةٍ عَلَيْهِمْ، وَمَا قَالَهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ لَيْسَ مِنْ بَابِ اللَّفْظِ حَتَّى يَلْتَزِمَ فِيهِ أَحْكَامَ اللَّفْظِ. [أَقْسَامُ التَّأْكِيدِ] [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ [أَقْسَامُ التَّأْكِيدِ] يَنْقَسِمُ إلَى لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ، فَاللَّفْظِيُّ يَجِيءُ لِخَوْفِ النِّسْيَانِ أَوْ لِعَدَمِ الْإِصْغَاءِ، أَوْ لِلِاعْتِنَاءِ، وَهُوَ تَارَةً بِإِعَادَةِ اللَّفْظِ وَتَارَةً يَقْوَى بِمُرَادِفِهِ، وَيَكُونُ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ.

وَزَعَمَ الرَّافِعِيُّ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ أَعْلَى دَرَجَاتِ التَّأْكِيدِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيَنْبَغِي فِيهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الِاحْتِيَاطُ بِإِيصَالِ الْكَلَامِ إلَى فَهْمِ السَّامِعِ إنْ فُرِضَ ذُهُولٌ أَوْ غَفْلَةٌ. وَالثَّانِي: إيضَاحُ الْقَصْدِ إلَى الْكَلَامِ وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّ لِسَانَهُ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ، وَيُمَثِّلُهُ النَّحْوِيُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} [الفجر: 21] {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] وَجَعْلُهُمْ صَفًّا صَفًّا تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا مَرْدُودٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَأْكِيدٍ قَطْعًا بَلْ هُوَ تَأْسِيسٌ، وَالْمُرَادُ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ، وَدَكًّا بَعْدَ دَكٍّ، وَكَذَلِكَ أَلْفَاظُهُ إذَا كُرِّرَتْ فَكُلٌّ مِنْهَا بِنَاءٌ عَلَى حِدَتِهِ، وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَوِيُّ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُفْرَدِ كَالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ وَجَمْعَاءَ وَكَتْعَاءَ، أَوْ بِالِاثْنَيْنِ كَكِلَا وَكِلْتَا، أَوْ بِالْجَمْعِ كَكُلِّ وَأَجْمَعِينَ، وَجَمْعٍ وَكَتْعٍ. وَكُلُّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لِلتَّجَزُّؤِ، وَالنَّفْسُ وَالْعَيْنُ لِلْمُتَشَخِّصِ غَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالْجُمَلِ كَكَأَنَّ وَإِنَّ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَفَائِدَتُهُ: تَمْكِينُ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ السَّامِعِ وَرَفْعُ التَّجَاوُزَاتِ الْمُتَوَهَّمَةِ، فَإِنَّ التَّجَوُّزَ يَقَعُ فِي اللُّغَةِ كَثِيرًا فَيُطْلَقُ الشَّيْءُ عَلَى أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: وَرَدَ الْبَرْدُ إذَا وَرَدَتْ أَسْبَابُهُ، وَيُطْلَقُ اسْمُ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ نَحْوُ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] قَيَّدَ بِالْكَمَالِ لِيَخْرُجَ احْتِمَالُ تَوَهُّمِ بَعْضِ الْحَوْلِ الثَّانِي، وَالتَّوْكِيدُ يُحَقِّقُ أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ رَافِعًا لِاحْتِمَالِ التَّخْصِيصِ فِي نَحْوِ: قَامَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَلِلْمَجَازِ فِي نَحْوِ، جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ، فَهَذِهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ، فَكَيْفَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّقْوِيَةُ؟ قُلْت: إنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَرْفُوعَ تَارَةً يَكُونُ اللَّفْظُ مُتَرَدَّدًا فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ عَلَى

السَّوَاءِ وَتَارَةً يَكُونُ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا، وَرَفْعُ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ، لِأَنَّ تَرَدُّدَ اللَّفْظِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَحَدِهِمَا، كَمَا أَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَخَصِّ، فَدَفْعُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ تَأْسِيسٌ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّأْكِيدُ يُقَوِّي ذَلِكَ الظَّاهِرَ. وَهَاهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَثْبَتَ ابْنُ مَالِكٍ قِسْمًا ثَالِثًا، وَهُوَ مَا لَهُ شَبَهٌ بِالْمَعْنَوِيِّ وَشَبَهٌ بِاللَّفْظِيِّ، وَإِلْحَاقُهُ بِهِ أَوْلَى، كَقَوْلِكَ: أَنْتَ بِالْخَيْرِ حَقِيقٌ قَمِينٌ. وَنُوزِعَ فِي هَذَا الْمِثَالِ، وَلَا نِزَاعَ لِإِجْمَاعِ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ مِنْ التَّوْكِيدِ مَرَرْت بِكُمْ أَنْتُمْ. الثَّانِي: هَلْ أَنَّهُ يُوجِبُ رَفْعَ احْتِمَالِ الْمَجَازِ أَوْ يُرَجِّحُهُ؟ يَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ قَوْلَانِ، فَفِي " التَّسْهِيلِ " أَنَّهُ رَافِعٌ، وَكَلَامُ ابْنِ عُصْفُورٍ وَغَيْرِهِ يُخَالِفُهُ وَهُوَ الْحَقُّ، وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي " الْبُرْهَانِ ": وَمِمَّا زَالَ فِيهِ النَّاقِلُونَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَيَقْتَضِيهِ أَنَّ صِيغَةَ الْعُمُومِ مَعَ الْقَرَائِنِ تَبْقَى مُتَرَدِّدَةً، وَهَذَا - وَإِنْ صَحَّ يُحْمَلُ عَلَى تَوَابِعِ الْعُمُومِ كَالصِّيَغِ الْمُؤَكِّدَةِ. اهـ. . فَقَدْ صُرِّحَ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَرْفَعُ احْتِمَالَ الْخُصُوصِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ (فَأَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إلَّا أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ) فَدَخَلَهُ التَّخْصِيصُ مَعَ تَأْكِيدِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] إنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَهَلْ يَجْرِي ذَلِكَ فِي التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ؟ ظَاهِرُ كَلَامِ " الْإِيضَاحِ الْبَيَانِيِّ " نَعَمْ وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ النُّحَاةُ أَنَّهُ

لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: قَامَ زَيْدٌ زَيْدٌ، فَإِنَّمَا يُفِيدُ تَقْرِيرَ الْكَلَامِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ، لَا رَفْعَ التَّجَوُّزِ. وَحَكَى الرُّمَّانِيُّ فِي " شَرْحِ أُصُولِ ابْنِ السَّرَّاجِ "، الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] : مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ التَّمْكِينِ، وَقَدْ يَكُونُ لِرَفْعِ الْمَجَازِ، إذْ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ: هُمْ فِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِي غَيْرِهَا، فَأُزِيلَ هَذَا بِالتَّأْكِيدِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي يَدْخُلُونَهَا مُخَلَّدُونَ فِيهَا، وَلَا يُنْقَلُونَ عَنْهَا إلَى جَنَّةٍ أُخْرَى الثَّالِثُ: أَنَّ التَّوْكِيدَ اللَّفْظِيَّ أَكْثَرُ مَا يَقَعُ مَرَّتَيْنِ كَقَوْلِهِ: أَلَا حَبَّذَا حَبَّذَا حَبَّذَا، وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَذَكَرُوا أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا تَجْتَمِعُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ هَذَا أَثْقَلُ لِاتِّحَادِ اللَّفْظِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: اتَّفَقَ الْأُدَبَاءُ عَلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ إذَا وَقَعَ بِالتَّكْرَارِ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ يَعْنِي بِالْأَصْلِ، وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ التَّأْكِيدُ بِمَرَّتَيْنِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى فِي الْمُرْسَلَاتِ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] أَيْ بِهَذَا، فَلَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَلَا تَأْكِيدَ، وَكَذَلِكَ {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] وَنَحْوُهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ السُّبْكِيُّ فِي " شَرْحِ الْكَافِيَةِ "، لَمْ تَتَجَاوَزْ الْعَرَبُ فِي تَأْكِيدِ الْأَفْعَالِ ثَلَاثًا كَمَا فَعَلُوا فِي تَأْكِيدِ الْأَسْمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17] فَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثَةٍ: مَهِّلْ وَأَمْهِلْ وَرُوَيْدٍ، وَكُلُّهَا لِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَكَادُ يُكَرِّرُونَ الْفِعْلَ مَعَ تَأْكِيدِهِ بِالنُّونِ خَفِيفَةً وَلَا شَدِيدَةً، لِأَنَّ تَكْرِيرَهُ مَعَ الْخَفِيفَةِ مَرَّتَيْنِ كَالتَّلَفُّظِ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَمَعَ الشَّدِيدَةِ كَالتَّلَفُّظِ بِهِ سِتَّ مَرَّاتٍ. اهـ. لَكِنْ فِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ فِي الْإِتْبَاعِ أَنَّهُ سَمِعَ خَمْسَةً مَعَ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ: كَانَتْ عَادَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُكَرِّرَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ يَعِظُ بِهِ، وَيَنْصَحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

وَسَبْعًا، لِيُرَكِّزَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَغْرِزَهُ فِي صُدُورِهِمْ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.» ثُمَّ لَا يَشُكُّ أَنَّ الثَّلَاثَةَ فِي عَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْمَرَّةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، ثُمَّ مُرَادُ الشَّيْخِ التَّأْكِيدُ اللَّفْظِيُّ، أَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَنَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ أَلْفَاظَهُ الصِّنَاعِيَّةَ كُلَّهَا تُجْمَعُ، وَفَرَّقُوا بِمَا سَبَقَ. الرَّابِعُ: أَنَّ التَّأْكِيدَ نَظِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ وَحِينَئِذٍ فَيَأْتِي فِيهِ شُرُوطُهُ السَّابِقَةُ مِنْ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِيهِ وَمَحِلِّهَا وَاتِّصَالِهِ بِالْمُؤَكَّدِ، لَكِنْ جَوَّزَ النَّحْوِيُّونَ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب: 51] . الْخَامِسُ: إنَّ كَوْنَ التَّوْكِيدِ يَرْفَعُ التَّجَوُّزَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَاعِلِ، فَإِذَا قُلْت: جَاءَ زَيْدٌ اُحْتُمِلَ مَجِيئُهُ بِنَفْسِهِ وَمَجِيءُ جَيْشِهِ، فَإِذَا قُلْت: نَفْسُهُ، انْتَفَى الثَّانِي. أَمَّا التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ نَحْوَ ضَرَبْت ضَرْبًا، فَنَصَّ ثَعْلَبٌ فِي أَمَالِيهِ " وَابْنُ عُصْفُورٍ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ الصَّغِيرِ " وَالْأَبْذَوِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْمَجَازِ، وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ بِنَفْسِهِ، وَهَكَذَا احْتَجَّ بِهَا أَصْحَابُنَا الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُعْتَزِلَةُ فِي إثْبَاتِ كَلَامِ اللَّهِ، وَهُوَ غَلَطٌ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ إنَّمَا يَرْفَعُ التَّجَوُّزَ عَنْ الْفِعْلِ نَفْسِهِ لَا عَنْ الْفَاعِلِ فَإِذَا قُلْت: قَامَ زَيْدٌ قِيَامًا، فَالْأَصْلُ قَامَ زَيْدٌ قَامَ زَيْدٌ، فَإِنْ أَرَدْت تَأْكِيدَ الْفَاعِلِ أَتَيْت بِالنَّفْسِ، وَهَاهُنَا إنَّمَا أَكَّدَ الْفِعْلَ، وَلَوْ قَصَدَ تَأْكِيدَ الْفَاعِلِ لَقَالَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ نَفْسُهُ مُوسَى، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ إذَنْ عَلَيْهِمْ. السَّادِسُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ التَّرَادُفِ وَالتَّأْكِيدِ: أَنَّ الْمُؤَكِّدَ يُقَوِّي الْمُؤَكَّدَ، وَهُوَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِنَا: جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ، بِخِلَافِ التَّرَادُفِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى بِمُجَرَّدِهِ، وَالتَّأْكِيدُ تَقْوِيَةُ مَدْلُولِ مَا ذُكِرَ بِلَفْظٍ آخَرَ مُسْتَقِلٍّ لِيَخْرُجَ التَّابِعُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّابِعِ قَدْ سَبَقَ.

مباحث المشترك

[مَبَاحِثُ الْمُشْتَرَكِ] ِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ يَحْذِفُونَ " فِيهِ " إمَّا لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ جُعِلَ لَقَبًا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " شَرْحِ الْمُفَصَّلِ ": وَهُوَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ دَلَالَةً عَلَى السَّوَاءِ عِنْدَ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّلَالَتَانِ مُسْتَفَادَتَيْنِ مِنْ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ أَوْ مِنْ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، أَوْ اُسْتُفِيدَتْ إحْدَاهُمَا مِنْ الْوَضْعِ وَالْأُخْرَى مِنْ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، فَهَلْ هُوَ مُمْتَنِعٌ أَوْ مُمْكِنٌ؟ وَبِتَقْدِيرِ إمْكَانِهِ، فَهَلْ هُوَ وَاقِعٌ أَوْ لَا فَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعٌ بِحَسَبِ الِانْقِسَامِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى كُلٍّ مِنْهَا فَرِيقٌ، فَأَحَالَهُ ثَعْلَبٌ وَأَبُو زَيْدٍ الْبَلْخِيّ وَالْأَبْهَرِيُّ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي كِتَابِ " النُّكَتِ " وَصَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ "، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَنُسِبَ لِأَبِي دَاوُد الظَّاهِرِيِّ، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ فِي الْحَدِيثِ.

وَنَقَلَ عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي زَمَانِهِ إنْكَارَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِضِدَّيْنِ، فَإِنْ خَصُّوهُ بِهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ، وَقَدْ صَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، فَقَالَ: يَمْتَنِعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَقَطْ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ " التَّحْصِيلِ " بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَاضِعٍ وَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُرَادُ الْإِمَامِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْعَبَثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى فَاعِلَيْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِ أَحَدِهِمَا عِلْمُ الْآخَرُ بِهِ. وَقِيلَ: يَمْتَنِعُ فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ وَاضِعٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ فِي لُغَتَيْنِ مِنْ وَاضِعَيْنِ. حَكَاهُ الصَّفَّارُ فِي " شَرْحِ سِيبَوَيْهِ ". وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ أَصْلٌ فِي الْوَضْعِ وَالْمُتَعَيِّنُ كَالْمُتَبَايِنِ وَالْمُتَرَادِفِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمُتَبَايِنَةِ أَوْ الْمُتَرَادِفَةِ فِي حَقِّ الْوَضْعِ، وَالتَّعَيُّنُ كَالْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ، فَتَحَصَّلْنَا عَلَى تِسْعَةِ مَذَاهِبَ. وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ، وَقَالَ: لَيْسَ إلَّا قَوْلَانِ الْوُقُوعُ وَعَدَمُهُ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ هَاهُنَا هُوَ الْوُجُوبُ بِالْغَيْرِ، إذْ لَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ بِالذَّاتِ، وَالْمُمْكِنُ الْوَاقِعُ هُوَ الْوُجُوبُ بِالْغَيْرِ. اهـ. وَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ مَنْقُولٌ، وَقَوْلُ الْوُجُوبِ كَمَا قَالَهُ شَارِحُ " الْمَحْصُولِ ": إنَّ الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَاتِ، وَقَوْلُ الْوُقُوعِ مَعَ الْإِمْكَانِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ اتِّفَاقًا مَعَ إمْكَانِهِ كَوُقُوعِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ. وَالْمُخْتَارُ: جَوَازُهُ عَقْلًا وَوُقُوعُهُ سَمْعًا.

مسألة العلم بكون اللفظ مشتركا

قَالَ سِيبَوَيْهِ: " وَيْلٌ لَهُ " دُعَاءٌ وَخَبَرٌ، وَالصَّحِيحُ وُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا فِي " الْقُرْءِ " وَ " الصَّرِيمِ " وَ {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] فَلَا وَجْهَ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. وَمَنَعَ قَوْمٌ الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ، وَيَرُدُّهُ " عَسْعَسَ " فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ، إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ إدْخَالِ الْغَايَةِ وَعَدَمِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ الشَّرْعِيَّةِ: قَالَ الرَّازِيَّ: وَالْحَقُّ: الْوُقُوعُ لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعَانٍ شَرْعِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ فِيهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَقَالَ تِلْمِيذُهُ الْحُوبِيُّ: فِي " الْيَنَابِيعِ ": أَمَّا فِي لُغَتَيْنِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، فَإِنَّ الشَّهْرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِزَمَانِ مَا بَيْنَ الاستهلالين، وَفِي الْفَارِسِيَّةِ لِلْبَلَدِ، وَهُوَ مَكَانٌ مَا بَيْنَ حَدَّيْنِ، وَأَمَّا فِي لُغَةٍ وَاحِدَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَصْلٌ وَالْآخَرَ فَرْعٌ كَالْعَيْنِ فِي الْعُضْوِ أَصْلٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ اُشْتُقَّ مِنْهُ فِعْلٌ، تَقُولُ: عَانَهُ أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ، وَالذَّهَبُ سُمِّيَ بِهِ لِعِزَّتِهِ كَعِزَّةِ الْعَيْنِ وَسَمَّى الْفَوَّارَةَ عَيْنًا لِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْهَا كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ مَنْبَعُ النُّورِ، وَالْمَاءُ عَزِيزٌ كَنُورِ الْعَيْنِ، وَمِنْهُ مَا وُضِعَ لِمَعْنًى جَامِعٍ لِشَيْئَيْنِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَظَنَّ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْءُ مِنْ ذَلِكَ [مَسْأَلَةٌ الْعِلْمُ بِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا] مَسْأَلَةٌ الْعِلْمُ بِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا يَحْصُلُ إمَّا بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ مَا يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ كَوْنُهُ مُشْتَرَكًا، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ بِأَنْ يُوجَدَ فِي كُلٍّ مِنْ

مسألة في حقيقة وقوع المشترك

الْمَعْنَيَيْنِ طَرِيقٌ مِنْ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِحُسْنِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُوَ طَلَبُ الْفَهْمِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ عِنْدَ تَرَدُّدِ الذِّهْنِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَرَدَّهُ الْإِمَامُ، فَإِنَّ الِاسْتِفْهَامَ قَدْ يَكُونُ لِمَعَانٍ شَتَّى غَيْرَ الِاشْتِرَاكِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ ظَاهِرًا وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ. [مَسْأَلَةٌ فِي حَقِيقَةِ وُقُوعِ الْمُشْتَرَكِ] وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَكْثَرُ يَقَعُ مِنْ وَاضِعَيْنِ بِأَنْ يَضَعَ أَحَدُهُمَا لَفْظًا لِمَعْنًى، ثُمَّ يَضَعُهُ الْآخَرُ لِمَعْنًى آخَرَ، كَالسُّدْفَةِ فِي لُغَةِ نَجْدٍ الظُّلْمَةُ، وَفِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ الضَّوْءُ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي " الصِّحَاحِ "، وَلَا حَاجَةَ لِقَيْدِ الْتِبَاسِ الْوَاضِعَيْنِ كَمَا قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ " زَاعِمًا أَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مُنْفَرِدٌ، إذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ، لِأَنَّهُ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِمَعْنَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ وَاضِعَاهُ مَعْرُوفَيْنِ. الثَّانِي: وَاضِعٌ وَاحِدٌ وَلَهُ فَوَائِدُ. مِنْهَا: غَرَضُ الْإِبْهَامِ عَلَى السَّامِعِ حَيْثُ يَكُونُ التَّصْرِيحُ سَبَبًا لِمَفْسَدَةٍ، وَمِنْهَا: اسْتِعْدَادُ الْمُكَلَّفِ لِلْبَيَانِ، هَكَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ الْمُبَرِّدِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ إنْكَارُ وُقُوعِهِ مِنْ وَاضِعٍ وَاحِدٍ، وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنِ الْحُوبِيِّ.

مسألة المشترك خلاف الغالب

[مَسْأَلَةٌ الْمُشْتَرَكُ خِلَافُ الْغَالِبِ] وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالْمُرَادُ بِالْأَصْلِ هُنَا الْغَالِبُ، فَإِذَا جَهِلْنَا كَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَالْغَالِبُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، فَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ لِلِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ مُفْرَدَةٌ، وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ التَّفَاهُمُ فِي الْخِطَابِ دُونَ الِاسْتِفْسَارِ وَقَبُولُهُ دُونَهُ مَعْلُومٌ. فَإِنْ قُلْت: إنَّ الِاشْتِرَاكَ أَغْلَبُ، لِأَنَّ الْحُرُوفَ كُلَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بِشَهَادَةِ النُّحَاةِ، وَالْمَاضِي مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالدُّعَاءِ، وَالْمُضَارِعُ بَيْنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَالْأَسْمَاءُ فِيهَا الِاشْتِرَاكُ كَثِيرٌ، فَإِذَا ضَمَمْتهَا إلَى الْقِسْمَيْنِ كَانَ الِاشْتِرَاكُ أَكْثَرَ. أُجِيبَ بِأَنَّ أَغْلَبَ الْأَلْفَاظِ أَسْمَاءٌ وَالِاشْتِرَاكُ فِيهَا قَلِيلٌ. [مَسْأَلَةٌ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ] ُ أَصْلٌ] قَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ أَصْلٌ فِي الْوَضْعِ وَالتَّعْيِينِ كَالْمُتَبَايِنِ وَالْمُتَرَادِفِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي تِلْكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْمُتَبَايِنَةِ أَوْ الْمُتَرَادِفَةِ فِي حَقِّ الْوَضْعِ وَالتَّعْيِينِ كَالْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ وُضِعَ لِلْإِفْهَامِ، وَالْمُشْتَرَكُ إلَى الْإِبْهَامِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْإِفْهَامِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلًا فِي وَضْعِ الْإِفْهَامِ؟ وَلَنَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى السَّوِيَّةِ فِي الْمَعَانِي، وَالِاسْتِعْمَالُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ، وَلَا إبْهَامَ مَعَ الْقَرِينَةِ الْمُمَيِّزَةِ.

مسألة المشترك له مفهومان فصاعدا

[مَسْأَلَةٌ الْمُشْتَرَكُ لَهُ مَفْهُومَانِ فَصَاعِدًا] الْمُشْتَرَكُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْهُومَيْنِ فَصَاعِدًا فَمَفْهُومَاهُ إمَّا أَنْ يَتَبَايَنَا، أَيْ: لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الصِّدْقِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْقُرْءِ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَسَوَاءٌ تَبَايَنَا بِالتَّضَادِّ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ وَضْعَهُ لِلضِّدَّيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَوَاصَلَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا جُزْءًا لِلْآخَرِ أَوْ لَازِمًا لَهُ وَالْأَوَّلُ كَالْإِمْكَانِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَالثَّانِي كَالْكَلَامِ، فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّفْسَانِيِّ وَاللِّسَانِيِّ مَعَ أَنَّ اللِّسَانِيَّ دَلِيلٌ عَلَى النَّفْسَانِيِّ، وَالدَّلِيلُ يَسْتَلْزِمُ مَدْلُولَهُ. [مَسْأَلَةٌ تَجَرُّدُ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْقَرِينَةِ] الْمُشْتَرَكُ إمَّا أَنْ يَتَجَرَّدَ عَنْ الْقَرِينَةِ فَمُجْمَلٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُرَجِّحِ إنْ مَنَعْنَا حَمْلَ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، وَكَذَا إنْ قُرِنَ بِهِ مَا يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْكُلِّ وَكَانَتْ مَعَانِيهِ مُتَنَافِيَةً فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَنَافِيَةً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَرِينَةِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ إعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَفْهُومَاتِهِ، فَيُصَارُ إلَى التَّرْجِيحِ وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْمَانِعَةَ قَاطِعَةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْمُعَارَضَةَ، وَلَئِنْ قُلْت: فَلَا مُعَارَضَةَ هُنَا، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا. قَالَهُ الْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ " مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ الْمُشْتَرَكُ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَقَدْ يُمَثَّلُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء: 43] فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ إرَادَةَ نَفْسِ الصَّلَاةِ وَمَوَاضِعِهَا، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] قَرِينَةٌ لِإِرَادَةِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] قَرِينَةٌ لِإِرَادَةِ

اقتران القرينة بالمشترك

مَوَاضِعِهَا، وَيُسَمِّيهِ أَهْلُ الْبَدِيعِ الِاسْتِخْدَامَ. [اقْتِرَانُ الْقَرِينَةِ بِالْمُشْتَرَكِ] وَإِمَّا أَنْ تَقْتَرِنَ بِهِ قَرِينَةٌ، وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ تُوجِبَ تِلْكَ الْقَرِينَةُ اعْتِبَارَ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، مِثْلَ إنِّي رَأَيْت عَيْنًا بَاصِرَةً، فَتَعَيَّنَ حَمْلُ ذَلِكَ اللَّفْظِ عَلَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ قَطْعًا. الثَّانِي: أَنْ تُوجِبَ اعْتِبَارَ أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ، فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ إعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. كَقَوْلِهِ: رَأَيْت عَيْنًا صَافِيَةً، وَالصَّفَاءُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَارِيَةِ وَالْبَاصِرَةِ وَالشَّمْسِ. الثَّالِثُ: أَنْ تُوجِبَ تِلْكَ الْقَرِينَةُ إلْغَاءَ الْبَعْضِ، فَيَنْحَصِرُ الْمُرَادُ فِي الْبَاقِي، أَيْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْبَاقِي إنْ كَانَ وَاحِدًا نَحْوَ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» . الرَّابِعُ: أَنْ تُوجِبَ إلْغَاءَ الْكُلِّ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَجَازِهِ بِحَسَبِ تِلْكَ

مسألة في حكم المشترك بالنسبة إلى معنييه أو معانيه

الْحَقَائِقِ، فَإِذَا كَانَ ذَا مَجَازَاتٍ كَثِيرَةٍ وَتَعَارَضَتْ فَهِيَ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ بَعْضُهَا رَاجِحٌ، فَإِنْ رَجَحَ بَعْضُهَا فَالْحَقَائِقُ إمَّا مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ بَعْضُهَا أَجْلَى، فَإِنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً حُمِلَ عَلَى الْمَجَازِ الرَّاجِحِ، وَإِلَّا حُمِلَ عَلَى الْأَجْلَى إنْ كَانَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الْمَجَازِ الرَّاجِحَ. [مَسْأَلَةٌ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرَك بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ] مَسْأَلَةٌ [فِي حُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ] اعْلَمْ أَنَّ مَعَانِيَ الْمُشْتَرَكِ إمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالضِّدَّيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ إذَا فَرَّعْنَا عَلَى جَوَازِ الْوَضْعِ لَهُمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَعْنَيَيْهِ قَطْعًا، وَكَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِيهِمَا بِلَا خِلَافٍ كَذَا قَالُوا، لَكِنْ حَكَى صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ وَهُوَ غَرِيبٌ. مِثَالُ النَّقِيضَيْنِ: لَفْظَةُ " إلَى " عَلَى رَأْيِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ إدْخَالِ الْغَايَةِ وَعَدَمِهِ. وَمِثَالُ الضِّدَّيْنِ: صِيغَةُ " افْعَلْ " عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا حَقِيقَةً فِي الطَّلَبِ وَفِي التَّهْدِيدِ، فَإِنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَا الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ لَمْ يَثْبُتَا، لِأَنَّهُمَا وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي التَّحْرِيمِ لَكِنْ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَفُكُّ قَيْدَ الزَّوْجِيَّةِ بِخِلَافِ الظِّهَارِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُجْمَلًا فَيُطْلَبُ الْبَيَانُ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَكَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ وَالصَّرِيحِ، لَكِنْ هَاهُنَا الْحَقِيقَةُ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ، وَالصَّرِيحُ أَوْلَى مِنْ الْكِنَايَةِ، قَالَ: وَلَوْلَا الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِآيَةِ الْقُرْءِ فِي الْعِدَّةِ أَحَدُ الْجِنْسَيْنِ مِنْ طُهْرٍ أَوْ حَيْضٍ لَحَمَلْنَاهَا عَلَيْهِمَا لِوُقُوعِ اسْمِ الْقُرْءِ عَلَيْهِمَا، لَكِنْ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُهُمَا تَوَقَّفَ فِي الدَّلِيلِ لِكَاشِفٍ عَنْ الْمُرَادِ. وَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْإِجْمَاعِ عَنْ الْمَنْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ. وَأَغْرَبَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: يَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ، وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ مَرَّاتٍ جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ غَيْرَ مَا اسْتَعْمَلَهُ فِي الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا تَكَلَّمَ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً. ثُمَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاطِنَ ثَلَاثَةٍ: اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَفِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَفِي مَجَازَيْهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَهُ مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْمُتَنَاوِلَاتِ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: الْجَوَازُ وَنُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ "، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} [الأحزاب: 56] فَالِاسْمُ وَاحِدٌ، وَاخْتَلَفَ الْمُرَادُ بِهِ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةً، وَمِنْ الْمُؤْمِنِينَ دُعَاءً، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارًا، وَكَذَلِكَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ عِلْمَهُ وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ إقْرَارَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء: 43] يَعْنِي وَضْعَهَا لِلْجِنْسِ، وَمَوْضِعَهَا وَفِعْلَهَا

لِلسَّكْرَانِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " قَالَ: وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَكْرَارِهَا وَالتَّكَلُّمِ بِهَا فِي وَقْتَيْنِ لِعِلْمِ كُلِّ عَاقِلٍ أَنَّهُ يَصِحُّ قَصْدُهُ مِنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِ: لَا تَنْكِحْ مَا نَكَحَ أَبُوك إلَى نَهْيِهِ عَنْ الْعَقْدِ، وَعَنْ الْوَطْءِ جَمِيعًا، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " عَنْ مَذَاهِبِ الْمُحَقِّقِينَ وَجَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ ": قَالَ الْقَاضِي وَهُوَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا - أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَقُولَ: الْعَيْنُ مَخْلُوقَةٌ وَنَعْنِي جَمِيعَ مَحَامِلِهَا، وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " " وَالْقَوَاطِعِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": إنَّهُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَكَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فِي " الْعُيُونِ " عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَحَمَلُوا مَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ الْإِنَاءِ، عَلَى الْكَرْعِ وَالشُّرْبِ مِنْ الْإِنَاءِ، وَحَمَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْكَرْعِ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ لِمَذْهَبِهِمْ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الدُّعَاءُ عَلَى الْغَيْرِ وَالْخَبَرُ عَلَى حَالِ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ نَحْوَ: " الْوَيْلُ لَهُ " فَهَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَخَبَرٌ عَنْهُ وَلَهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْجَمِيعِ هَلْ هُوَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمَجَازِ؟ قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَاللَّائِقُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ، وَلِهَذَا حُمِلَتْ عَلَى

التَّجَرُّدِ عَلَى الْجَمِيعِ. وَنَقَلَ صَاحِبُ " التَّلْخِيصِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَهُوَ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْمَعْنَيَيْنِ، هَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا إرَادَةٌ وَاحِدَةٌ أَمْ إرَادَتَانِ؟ وَقَالَ الْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْإِرَادَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِمُرَادٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَتَحَقَّقُ إرَادَةُ الْمُرَادَيْنِ إلَّا بِإِرَادَتَيْنِ. وَفَصَّلَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّمَا يُرِيدُهَا وَجَمِيعٌ أَرَادَ بِهِ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُحْدِثًا فَإِنَّمَا يُرِيدُهُمَا جَمِيعًا بِإِرَادَتَيْنِ غَيْرِ مُتَضَادَّتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ يُرِيدَهُمَا بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ لَاسْتَحَالَ أَنْ يُرَادَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ. وَشَرَطَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّائِغِ النَّحْوِيُّ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ " كَوْنَ الْمُشْتَرَكِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى يَعُمُّ مَدْلُولَيْهِ، وَهُوَ الصَّرِيحُ فِي الِاشْتِرَاكِ، كَاللَّمْسِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْمَسُّ مُطْلَقًا وَالْوِقَاعُ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ فَيَنْبَغِي امْتِنَاعُهُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا لَوْ قُلْت: رَأَيْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا أَخَاك، وَأَرَدْتَ بِرَأَيْتَ زَيْدًا أَبْصَرْتُهُ، وَبِهِ مَعَ مَا بَعْدَهُ عَلِمْتُ، أَوْ رَأَيْتُ زَيْدًا وَالطَّائِرَ. تُرِيدُ فِي الطَّائِرِ ضَرَبْت رِئَتَهُ، وَفِي زَيْدٍ الْإِبْصَارَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ هَذَا بِاتِّفَاقٍ لِعَدَمِ الصَّرَاحَةِ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: الْمَنْعُ: وَنَصَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَالْكَرْخِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَفَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُمْ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَحَكَاهُ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: كَانَ الْكَرْخِيُّ يَحْكِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ جَوَّزَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " زَعَمَ ابْنُ الْجُبَّائِيُّ، وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَنَّهُ مَتَى أُرِيدَ بِهَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْرَارِهَا وَالتَّكَلُّمِ بِهَا فِي وَقْتَيْنِ يُرَادُ بِهَا فِي أَحَدِهِمَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ الْمَعْنَى الْآخَرُ. اهـ. وَمُرَادُهُ بِابْنِ الْجُبَّائِيُّ أَبُو هَاشِمٍ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. قَالَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ ": وَشَرَطَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمَنْعِ شُرُوطًا أَرْبَعَةً: اتِّحَادُ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْعِبَارَةُ، وَالْوَقْتُ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَيْنِ، لَا يَنْتَظِمُهُمَا فَائِدَةٌ وَاحِدَةٌ، فَمَتَى انْخَرَمَ شَرْطٌ جَازَ أَنْ يُرَادَا. وَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " عَنْهُ، لَكِنْ أَفَادَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " أَنَّ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ وَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي كِتَابِ " الْبَغْدَادِيَّاتِ " إلَى الْجَوَازِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ. وَفِي غَيْرِهِ إلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ فِي سَبَبِ الْمَنْعِ، فَقِيلَ: أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَصْدِ، أَيْ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَقْصِدَ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ جَمِيعَ مَفْهُومَاتِهِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَلَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقْصِدَ بِاللَّفْظِ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَيَكُونَ خَالَفَ الْوَضْعَ اللُّغَوِيَّ وَابْتَدَأَ بِوَضْعٍ جَدِيدٍ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظًا، وَيُرِيدَ بِهِ مَا شَاءَ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، إذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِي ذَلِكَ.

وَقِيلَ: سَبَبُهُ الْوَضْعُ الْحَقِيقِيُّ: أَيْ: أَنَّ الْوَاضِعَ لَمْ يَضَعْ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَهُمَا عَلَى الْجَمِيعِ بَلْ عَلَى الْبَدَلِ، فَلَا يُصَحِّحُ إطْلَاقَهُ بِطُرُقِ الْحَقِيقَةِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَضْعِ اللَّفْظِ لِمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُمَا عَلَى الْجَمِيعِ. وَالْمُشْتَرَكُ إنَّمَا وُضِعَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْبَدَلِ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْجَمِيعِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ جَمِيعُ مَحَامِلِهِ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ إذَا اتَّصَلَ بِقَرِينَةٍ مُشْعِرَةٍ بِذَلِكَ. وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالسُّهْرَوَرْدِي فِي " التَّنْقِيحَاتِ " وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، مُحْتَمِلٌ لَهُمَا. وَ [الْمَذْهَبُ] الثَّالِثُ: لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْجَمِيعِ إذَا تَجَرَّدَ عَنْهُ الْقَرَائِنُ، وَيَجُوزُ مَعَ الْقَرِينَةِ " الْمُتَّصِلَةِ " وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ ". وَ [الْمَذْهَبُ] الرَّابِعُ: الْفَرْقُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ: وَالْفَرْقُ: أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ، فَيَجُوزُ إرَادَةُ مَدْلُولَاتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَرُدَّ بِأَنَّ النَّفْيَ لَا يَرْفَعُ إلَّا مَا يَقْتَضِي الْإِثْبَاتَ، وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَإِنَّمَا هُوَ احْتِمَالٌ أَنَّهُ أَبْدَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ "، وَتَبِعَهُ فِي " الْمَحْصُولِ ". وَقِيلَ: إنَّ الْمَاوَرْدِيَّ حَكَاهُ وَجْهًا لِأَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ مَوَالِي فُلَانٍ يَتَنَاوَلُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]

يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ وَالْعَقْدَ، إنْ قُلْنَا: إنَّهُ مُشْتَرَكٌ. وَ [الْمَذْهَبُ] الْخَامِسُ: يَجُوزُ فِي الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ اعْتَدِّي بِالْأَقْرَاءِ دُونَ الْمُفْرَدِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي حُكْمِ تَعْدِيدِ الْأَفْرَادِ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ، وَهَذَا مُفَرَّعٌ عَلَى جَوَازِ تَثْنِيَةِ الْمُشْتَرَكِ وَجَمْعِهِ. وَقَدْ مَنَعَهُ أَكْثَرُ النُّحَاةِ وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ مَالِكٍ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْأَكْثَرُ أَنَّ جَمْعَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُفْرَدِ، فَإِنْ جَازَ سَاغَ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: بَلْ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْمُفْرَدِ، وَذُكِرَ فِي " شَرْحِ الْمُفَصَّلِ " أَنَّ تَثْنِيَتَهُ شَاذَّةٌ، وَأَنَّ الْأَكْثَرَ الْمُسْتَعْمَلَ خِلَافُهُ. [الْمَذْهَبُ] السَّادِسُ: أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي الْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى كَالنِّكَاحِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ، وَاللَّمْسُ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ وَالْمَسَّ بِالْيَدِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقٌ بِالْآخَرِ يَجُوزُ إرَادَتُهُمَا وَالْحَمْلُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِالْآخَرِ لَمْ تَجُزْ إرَادَتُهُمَا وَالْحَمْلُ عَلَيْهِمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ " وَهُوَ غَرِيبٌ. [الْمَذْهَبُ] السَّابِعُ: الْوَقْفُ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَبَّهَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي إرَادَتِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ، وَأَنَّهُ مَتَى أُرِيدَ بِهِمَا الْمَعْنَيَانِ وَكُرِّرَا فِي وَقْتَيْنِ أُرِيدَ بِهِ فِي أَحَدِهِمَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ الْأُخْرَى فَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: إذَا جَوَّزْنَا الِاسْتِعْمَالَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى السَّامِعِ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى جَمِيعِ الْمَعَانِي، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] فَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمُلَامَسَةِ الْمُوَاقَعَةَ، فَقَالَ: أَحْمِلُهُ عَلَى الْجَسِّ بِالْيَدِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْوِقَاعِ مَجَازًا، يَعْنِي وَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَفِي الْحَقِيقَتَيْنِ أَوْلَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَلِهَذَا حَمَلْنَا آيَةَ اللَّمْسِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَعَلَى الْجَسِّ بِالْيَدِ، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُمَا عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَاضِي صَرِيحًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحَقُّ أَنَّ فِي النَّقْلِ عَنْهُمَا فِي هَذَا خَلَلًا، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي " الْمَنَاقِبِ " عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَالْبَيْضَاوِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْجَمْعِ الْمُنْكِرِ عَنْ الْجُبَّائِيُّ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ، فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَلْزَمُ تَعْطِيلُ النَّصِّ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَلَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ تَفْهِيمُ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، فَيَصِيرُ انْتِفَاءُ الْقَرِينَةِ الْمُخَصِّصَةِ قَرِينَةَ تَعْمِيمٍ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ الثَّانِي: الْمَنْعُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ التَّدْبِيرِ: إنَّهُ الْأَشْبَهُ فَقَالَ: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ مَعَانِيهِ، وَلَا يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى جَمِيعِهَا، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَإِنَّمَا هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي " تَقْوِيمِ الْأَدِلَّةِ ". قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوَالٍ أَعْتَقُوهُ وَمَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ مَعْنَى الْوَلَاءَيْنِ مُخْتَلِفٌ، فَيُرَادُ بِالْوَصِيَّةِ لِلْأَعْلَى الْجَزَاءُ، وَلِلْأَسْفَلِ زِيَادَةُ الْإِنْعَامِ، وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ: إنْ نَكَحْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ. اهـ.

وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ. وَالثَّالِثُ: التَّوَقُّفُ لَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ إلَّا بِدَلِيلٍ وَيَصِيرُ مُجْمَلًا. وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي كَمَا سَنَذْكُرُهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِفِيَّةِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ. اهـ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ " وَ " تَفْسِيرُهُ ": لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلْجَمِيعِ، بَلْ لِآحَادِ مُسَمَّيَاتٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَادِّعَاءُ إشْعَارِهَا بِالْجَمِيعِ بَعِيدٌ. قَالَ نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ جَمِيعَ الْمَحَامِلِ، وَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَذَا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَا. اهـ. وَالرَّابِعُ: إنْ كَانَ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ فَهُوَ مُجْمَلٌ، أَوْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَجَبَ بِهِ الْحَمْلُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَنْ الْحَنَابِلَةِ فِي " الْكِفَايَةِ ". هَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تُعَيِّنُ مُرَادَ اللَّافِظِ، فَإِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ بِوَاحِدٍ مِنْهَا نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَانِي مُنَافَاةٌ بَقِيَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا إلَى الْمُرَجَّحِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَانِيهِ مُتَسَاوِيَةً، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُحْمَلُ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ وَحُكِيَ فِي " الْمَحْصُولِ " عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ يَتَعَارَضُ الدَّلِيلُ الْمَانِعُ مِنْ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ، وَالْقَرِينَةُ الْمُوجِبَةُ تَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، فَيَعْتَبِرُ بَيْنَهُمَا التَّرْجِيحَاتِ، قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِأَنْ يُقَالَ: الْمُتَكَلِّمُ تَكَلَّمَ بِهِ مَرَّاتٍ، وَأَرَادَ بِكَمْ مَرَّةٍ مَعْنًى مِنْ مَعَانِيهِ، وَالدَّلِيلُ الْمَانِعُ لَا يَنْفِي ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ": إنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا حُمِلَ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يُعَيِّنْ وَجَبَ الْوَقْفُ حَتَّى يُعْلَمَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ الْمُرَادُ بِهِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.

تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ فِي تَحْرِيرِ النَّقْلِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ اشْتَهَرَ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ، وَقَالَ: لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ صَرِيحٌ فِيهِ، وَإِنَّمَا اسْتَنْبَطُوا هَذَا مِنْ نَصِّهِ فِيمَا إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوَالٍ أَعْلَى وَأَسْفَلَ أَوْ وَقَفَ عَلَى مَوَالِيهِ، فَإِنَّهُ يُصْرَفُ لِلْجَمِيعِ، وَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ لَا يَصِحُّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ اسْمَ الْمَوَالِي مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ، وَأَنَّ مَوْضُوعَهُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمُولِيَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُحْكَى عَنْهُ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا شَرِكَةَ بَيْنَ مَعَانِيهَا، وَإِنَّمَا الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ قُلْت: وَهَذَا نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي " الْكِفَايَةِ " عَنْ شَيْخِهِ الشَّرِيفِ عِمَادِ الدِّينِ وَأَنَّ تَنَاوُلَ الِاسْمِ لَهُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ عَلَى جِهَةِ التَّوَاطُؤِ وَهِيَ الْمُوَالَاةُ وَالْمُنَاصَرَةُ، ثُمَّ نَازَعَ فِيهِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ مِنْ " الْمَطْلَبِ " بِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي التَّصْحِيحَ وَصَرْفَ الرِّيعِ وَالْوَصِيَّةَ إلَيْهِمَا، وَالسُّؤَالُ إنَّمَا يُتَّجَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ. اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَوَالِيَهُ جَمْعٌ مُضَافٌ، فَالتَّعْمِيمُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا مِنْ جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ، لَكِنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي مَوَاضِعَ يَدُلُّ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، مِنْهَا: أَنَّهُ احْتَجَّ فِي " الْأُمِّ " عَلَى اسْتِحْبَابِ الْكِتَابَةِ فِيمَا إذَا جَمَعَ الْعَبْدُ بَيْنَ الْأَمَانَةِ وَالْقُوَّةِ عَلَى الْكَسْبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]

فَفَسَّرَ الْخَيْرَ بِالْأَمْرَيْنِ. قَالَ: وَأَظْهَرُ مَعَانِي الْخَيْرِ قُوَّةُ الْعَبْدِ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ: الِاكْتِسَابُ مَعَ الْأَمَانَةِ، فَأُحِبُّ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ إذَا كَانَ هَكَذَا. اهـ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ نَصَّ فِي " الْأُمِّ " فِي لَفْظَةِ " عِنْدَ " الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ إفَادَةِ الْحُضُورِ وَالْمِلْكِ فِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» . قَالَ: وَكَانَ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبِيعَ الْمَرْءُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَبِيعَ بِحَضْرَتِهِ، فَيَرَاهُ الْمُشْتَرِي كَمَا يَرَاهُ الْبَائِعُ عِنْدَ تَبَايُعِهِمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبِيعَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مَا لَيْسَ يَمْلِكُ تَعْيِينَهُ فَلَا يَكُونُ مَوْضُوعًا مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ يُؤْخَذُ بِهِ، وَلَا فِي مِلْكِهِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يُعَيِّنُهُ، وَعَنَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ. وَمِنْهَا: حَمْلُهُ اللَّمْسَ فِي الْآيَةِ كَمَا سَبَقَ عَنْ الْقُشَيْرِيّ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يُحْمَلْ الشَّفَقُ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، بَلْ اعْتَبَرَ فِي آخِرِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ غَيْبُوبَةَ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ تَعْيِينُهُ بِالْأَحْمَرِ، فَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ بِالِاشْتِرَاكِ. وَأَمَّا [النَّقْلُ عَنْ] الْقَاضِي فَأَنْكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَيْضًا: قَالَ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ الْوَقْفَ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَمَنْ يَقِفُ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ كَيْفَ يَجْزِمُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ بِالِاسْتِغْرَاقِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي كُتُبِهِ إحَالَةُ الِاشْتِرَاكِ أَصْلًا، وَأَنَّ مَا يُظَنُّ مِنْ الْأَسْمَاءِ

تنبيه الخلاف في حمل المشترك على معانيه

الْمُشْتَرَكَةِ هِيَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ. قُلْت: وَمِمَّنْ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ الْإِبْيَارِيُّ وَتَابَعَهُ الْقَرَافِيُّ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يُنْكِرُ وَضْعَهَا لِلْعُمُومِ وَلَا يُنْكِرُ اسْتِعْمَالَهَا وَكَلَامُنَا فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَرَّعَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِصِيَغِ الْعُمُومِ، عَلَى أَنَّ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي " التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ صِحَّةَ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ، أَيْ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا بِالظَّاهِرِ أَمْ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِمَا؟ قِيلَ: بَلْ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِمَا لِمَوْضِعِ احْتِمَالِهِمَا لِلْقَصْدِ تَارَةً إلَيْهِمَا وَتَارَةً إلَى أَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ سَبِيلُ كُلِّ مُحْتَمَلٍ مِنْ الْقَوْلِ، وَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ فِي الْأَصْلِ لِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ. اهـ. وَزَادَ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " تَلْخِيصِ التَّقْرِيبِ " فَإِنَّا نَقُولُ: إذَا احْتَمَلَ إرَادَةَ الْمَعْنَيَيْنِ وَاحْتَمَلَ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ بِأَحَدِهِمَا فَيَتَوَقَّفُ فِي مَعْنَى اللَّفْظِ عَلَى قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ وَالتَّخْصِيصِ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَنَحْنُ عَلَى نُصْرَةِ نَفْيِ صِيغَةِ الْعُمُومِ؟ انْتَهَى. فَظَهَرَ أَنَّ الصَّوَابَ فِي النَّقْلِ عَنْ الْقَاضِي: الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ التَّوَقُّفُ. [تَنْبِيه الْخِلَافَ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعَانِيهِ] التَّنْبِيهُ الثَّانِي إنَّ الْخِلَافَ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعَانِيهِ إنَّمَا هُوَ فِي الْكُلِّيِّ الْعَدَدِيِّ أَيْ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَهُ يَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ بِالْمُطَابَقَةِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ بِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُلِّيُّ الْمَجْمُوعَ أَيْ بِجَعْلِ مَجْمُوعِ الْمَعْنَيَيْنِ مَدْلُولًا مُطَابِقًا كَدَلَالَةِ الْخَمْسَةِ عَلَى آحَادِهَا، وَلَا الْكُلِّيِّ الْبَدَلِيِّ أَيْ: بِجَعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مَدْلُولًا مُطَابِقًا عَلَى الْبَدَلِ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ " التَّحْصِيلِ ".

وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " شَرْحِ الْبَزْدَوِيُّ ": إنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا أُرِيدَ بِالْمُشْتَرَكِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ، وَأَمَّا إرَادَةُ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ جُزْءًا لِمَعْنًى بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يُصَيِّرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ الْمَعْنَى بِتَمَامِهِ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": إنَّهُ رَآهُ فِي تَصْنِيفٍ آخَرَ لِصَاحِبِ " التَّحْصِيلِ " أَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْكُلِّيِّ الْمَجْمُوعُ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَالْعَامِّ. التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ جَعَلَ النَّقْشَوَانِيُّ فِي " التَّلْخِيصِ " مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ. قَالَ: فَأَمَّا الْمُفْرَدُ الْمُنَكَّرُ إذَا لَمْ يُكَرَّرُ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا سَوَاءٌ كَانَ مُثْبَتًا أَوْ مَنْفِيًّا، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يَقْتَضِي التَّوْحِيدَ، فَإِنْ تَكَرَّرَ بِقَوْلِهِ: اعْتَدِّي قُرْءًا وَقُرْءًا فَقَدْ جَوَّزَ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِمَا حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا مُعَرَّفًا " بِأَلْ " مُكَرَّرًا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ وَكَانَتْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا بِخُصُوصٍ وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْقَرِينَةُ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، الشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الْحَمْلَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فِي هَذَا الْوَقْتِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَجَعْلُهُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ مَمْنُوعٌ بَلْ نَقُولُ: جَوَازُ الْخِطَابِ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ هَلْ يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْحَمْلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيَانِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَلَا يَجُوزُ وُرُودُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ.

التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ. إذَا قُلْنَا بِالْحَمْلِ فَهَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْعُمُومِ أَوْ الِاحْتِيَاطِ؟ فِيهِ طَرِيقَتَانِ: إحْدَاهُمَا: وَعَلَيْهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وَابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهُ كَالْعَامِّ، وَأَنَّ نِسْبَةَ الْمُشْتَرَكِ إلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ كَنِسْبَةِ الْعَامِّ إلَى أَفْرَادِهِ، وَالْعَامُّ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْقَرَائِنِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْجَمِيعِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَكَذَا الْمُشْتَرَكُ، وَضَعَّفَهُ النَّقْشَوَانِيُّ، لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ اللَّفْظَ حِينَئِذٍ مُتَوَاطِئًا لَا مُشْتَرَكًا. قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَمْ يُرِيدُوا الْعُمُومَ، وَأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ جِهَةِ النَّاقِلِ عَنْهُمْ لَمَّا رَأَى فِي كُتُبِهِمْ حَمْلَ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ ظَنَّ أَنَّهُمْ أَلْحَقُوهُ بِالْعَامِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَنَازَعَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَوْهِيمِ الْأَئِمَّةِ. قَالَ: وَمَا اسْتَبْعَدَ النَّقْلُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ كَالْعَامِّ فِي مَعْنَى اسْتِغْرَاقِهِ لِمَدْلُولَاتِهِ وَوُجُوبِ الْحَمْلِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ الْمُخْتَلِفَةِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ عَنْ الْقَرَائِنِ، فَهُوَ كَالْعَامِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّ الْأَفْرَادَ الدَّاخِلَةَ تَحْتَ الْمُشْتَرَكِ مِثْلُ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعَامِّ حَتَّى يَلْزَمَ التَّوَاطُؤُ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَعَلَيْهَا الْإِمَامُ الرَّازِيَّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ. وَتَقْدِيرُهَا أَنَّ لِلسَّامِعِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً: إمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ فَيَلْزَمُ التَّعْطِيلُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ وَقْتِ الْحَاجَةِ، أَوْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا فَيَلْزَمُ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ، لَمْ يَبْقَ إلَّا

الْحَمْلُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَهُوَ أَحْوَطُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَدْلُولَاتِ اللَّفْظِ بِأَسْرِهَا، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْعَمَلِ بِالْخِطَابِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَحَدُهُمَا عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَجْمُوعُ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ جَرَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: إنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ لِلْإِرَادَةِ حَمَلْنَاهُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، لَا لِأَنَّهُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَضْعًا، بَلْ لِأَنَّ اللَّفْظَ دَلَّ عَلَى أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَتَعَيَّنْ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِالْجَمِيعِ. قَالَ: وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ وُجُوبًا أَوْ كَرَاهَةً، وَلَوْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ الْقُرْءِ لِلطُّهْرِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ، وَلَا عَلَى تَعْيِينِهِ لِلْحَيْضِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ لَوَجَبَ أَنْ تَتَرَبَّصَ الْمَرْأَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ تَعْلِيقُ الْوُجُوبِ بِالْقُرْءِ، وَإِنَّمَا الْمُبْهَمُ تَعَيُّنُ الْمُرَادِ مِنْهُمَا، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ وُجُوبِ التَّرَبُّصِ وَالْحَلِّ لِلْأَزْوَاجِ إلَّا بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَقُولُ: إنْ صَحَّ أَنَّ الشَّفَقَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا لِلْإِرَادَةِ وَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاةُ الْعِشَاءِ إلَّا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ آخِرِهِمَا وَهُوَ الْبَيَاضُ، وَمَنْ رَجَّحَ الْحَمْلَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِهِ لِلْإِرَادَةِ بِخُصُوصِهِ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ يُعْمَلُ عَلَى تَقْدِيرِ الِاشْتِرَاكِ بِالْأَمْرَيْنِ مَعَ أَنَّ عَدَمَ تَعَيُّنِ الْمُرَادِ يُوجِبُ الْإِجْمَالَ، وَالْإِجْمَالُ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا قُلْت قُلْت: هَذَا صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ تَعَلُّقُ الْمُبَيَّنِ مِنْ وَجْهٍ كَمَا لَوْ قَالَ: ائْتِنِي بِعَيْنٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُبَيَّنًا مِنْ وَجْهٍ كَالنَّهْيِ عَنْ الْقَزْعِ مَثَلًا، وَكَانَ الِامْتِثَالُ مُمْكِنًا فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ فِي التَّكْلِيفِ الْمُبَيَّنِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ بِالْعَمَلِ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَصَارَ هَذَا كَقَوْلِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ أَنَّهُ يُخْتَنُ فِي فَرْجَيْهِ مَعًا. وَالْخِتَانُ إنَّمَا هُوَ فِي فَرْجٍ، فَأَحَدُ الْفَرْجَيْنِ خَتْنُهُ، وَالْآخَرُ خَتْنُهُ وَلَمَّا

استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه

كَانَ وُجُوبُ الْخِتَانِ أَمْرًا مُبِينًا لَا إجْمَالَ فِيهِ وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ مُمْكِنٌ بِالْخِتَانِ فِيهِمَا أَوْجَبُوهُ. قُلْت: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى أَنَّهُ كَالْعَامِّ حَقِيقَةً، كَيْفَ وَأَفْرَادُهُ مَحْصُورَةٌ؟ وَقَدْ حَمَلُوهُ عَلَى مَفْهُومِيَّةِ حَالَةِ الْإِفْرَادِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ وَلَا إضَافَةٍ، بَلْ أَجْرَوْهُ فِي الْأَفْعَالِ حَيْثُ مَثَّلُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} [الأحزاب: 56] وَقَوْلِهِ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وَمَعْلُومُ الْفِعْلِ لَا عُمُومَ لَهُ. [التَّنْبِيهُ] الْخَامِسُ أَنَّ الْقُرْءَ عَلَى الصَّحِيحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً، طَلُقَتْ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً، وَقَدْ يُقَالُ: لَا، طَلُقَتْ فِي الطُّهْرِ وَاحِدَةً، وَفِي الْحَيْضِ أُخْرَى حَمْلًا لِلْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ وَجَوَابُهُ أَنَّ قَصْدَ الْمُطَلِّقِ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَقَعَ فِي بِدْعَةٍ وَهُوَ جَمْعُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ فَلَا تُوقِعُهُ فِي بِدْعَةٍ أَشَدَّ مِنْهَا، وَهُوَ الْوُقُوعُ فِي الْحَيْضِ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى مُقَيَّدِ الشَّرْعِ. [اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ] الْمَوْطِنُ الثَّانِي فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مِثْلَ أَنْ يُطْلِقَ النِّكَاحَ، وَيُرِيدَ بِهِ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ جَمِيعًا، وَفِيهِ الْحَالَانِ السَّابِقَانِ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ وَالْحَمْلِ. أَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ " الرَّوْضَةِ " جَوَازُ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ،

وَكَأَنَّ الرَّافِعِيَّ لَمْ يَقِفْ عَلَى النَّقْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُسْتَبْعَدٌ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ " وَغَلِطَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ الْمَنْعَ وَإِنَّمَا مَنَعَ الْحَمْلَ لَا الِاسْتِعْمَالَ كَمَا سَنُحَقِّقُهُ عَنْهُ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَجَرَى عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ، فَجَوَّزَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَحَمَلَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الرِّفْعَةِ نَصَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي " الْأُمِّ " عِنْدَ الْكَلَامِ فِيمَا إذَا عَقَدَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ السَّابِقَ مِنْهُمَا، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ مِنْ " الْمَطْلَبِ ". وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: إنَّهُ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مُفَاوَضَةٍ لَهُ فِي آيَةِ اللَّمْسِ: هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْجَسِّ بِالْيَدِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْوِقَاعِ مَجَازًا. قُلْت: وَكَذَلِكَ نَصُّهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْعُبُورِ فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] ، وَقَالَ: أَرَادَ مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ، وَحَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى الصَّلَاةِ وَعَلَى مَوَاضِعِهَا، وَدَلَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَوْلُهُ: {حَتَّى تَعْلَمُوا} [النساء: 43] ، وَعَلَى مَوَاضِعِهَا قَوْلُهُ: إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ " فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَأَمَّا نَصُّهُ فِي " الْبُوَيْطِيِّ " عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ عُتَقَاءُ وَلَهُمْ عُتَقَاءُ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِينَ مَعَ أَنَّهُمْ مَوَالِيهِ، وَالْآخَرُونَ مَجَازًا بِالسَّبَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُ الْوَلَدِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَلَيْسَ ذَلِكَ

لِأَجْلِ مَنْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، بَلْ لِأَنَّ مَسْأَلَتَنَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالْقَرِينَةُ هُنَا عَيَّنَتْ الْحَقِيقَةَ، أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّ وَلَاءَ مَوَالِيهِمْ لَهُمْ دُونَهُ. أَمَّا الثَّانِيَةُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالتَّعْمِيمُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَقْرَبُ مِنْهُ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ "، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَالْكَرْخِيِّ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَصْلٌ وَالْمَجَازَ مُسْتَعَارٌ، فَلَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الثَّوْبِ عَلَى اللَّابِسِ مِلْكًا وَعَارِيَّةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَنَقَضَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي الدَّارِ، فَدَخَلَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا حَنِثَ. قَالَ: تَنَاوَلَ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ. قَالَ: لَوْ قَالَ: الْيَوْمَ الَّذِي يَدْخُلُ فُلَانٌ الدَّارَ فَعَبْدُهُ حُرٌّ، فَدَخَلَ لَيْلًا وَنَهَارًا حَنِثَ. وَقَالُوا فِي " السِّيَرِ الْكَبِيرِ ": لَوْ أَخَذَ الْأَمَانَ لِبَنِيهِ دَخَلَ بَنُوهُ وَبَنُو بَنِيهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِنَا فِي الْأُولَى عَدَمُ الْحِنْثِ، لِأَنَّهُ لَا قَرِينَةَ عَلَى إرَادَةِ الْأَشْهَرِ فَخَالَفْنَا الْقَاعِدَةَ لِهَذَا، وَفِي الثَّانِيَةِ مُوَافَقَتُهُمْ، لِأَنَّهُ نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ " التَّتِمَّةِ " لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ بِاللَّيْلِ. وَيَلْغُوا الْيَوْمُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ، وَإِنَّمَا سَمَّى الْوَقْتَ بِغَيْرِ اسْمِهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ عَدَمُ الدُّخُولِ كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَلَمْ يُحَكِّمُوا بَقِيَّةَ الْمَذَاهِبِ السَّابِقَةِ فِي الْحَقِيقَتَيْنِ وَلَا يَبْعُدُ مَجِيئُهَا. وَأَمَّا الْحَمْلُ فَالْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْجَوَازُ طَرْدًا لِأَصْلِهِ هُنَاكَ وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فَسَبَقَ عَنْهُ هُنَاكَ الْإِجْمَالُ، وَأَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إلَّا بِقَرِينَةٍ.

وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ ": وَقَدْ عَظُمَ نَكِيرُ الْقَاضِي عَلَى مَنْ يَرَى الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا، وَقَالَ فِي تَحْقِيقِ إنْكَارِهِ: اللَّفْظَةُ إنَّمَا تَكُونُ حَقِيقَةً إذَا انْطَبَقَتْ عَلَى مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي أَصْلِ اللِّسَانِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مَجَازًا إذَا تُجُوِّزَ بِهَا عَنْ مُقْتَضَى الْوَضْعِ، وَيَحِيلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُحَالَ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. قُلْت: مِنْ هُنَا نُقِلَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ مَعًا كَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَلَمْ يُرِدْ الْقَاضِي ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي " التَّقْرِيبِ " بِجَوَازِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي مَنَعَهُ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَقَوْلُ الْقَاضِي هُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ يَرْجِعُ إلَى اشْتِقَاقِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي " شَرْحِ التَّلْقِينِ ": اسْتَدْرَكَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى الْقَاضِي هَذَا، وَقَالَ: إنَّمَا يُمْنَعُ فِي حَقِّ مَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ فِي خِطَابِهِ حَقِيقَةُ الْحَقِيقَةِ وَحَقِيقَةُ الْمَجَازِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَصْدُ إرْسَالَ اللَّفْظَةِ عَلَى جَمِيعِ مَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ دُونَ الْقَصْدِ إلَى حَقَائِقَ أَوْ مَجَازٍ، فَإِنَّ هَذَا يَصِحُّ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيهِ. وَحَقَّقَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ مَذْهَبَ الْقَاضِي، فَقَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُطْلِقَ الْمُطْلِقُ لَفْظَ اللَّمْسِ، وَيُرِيدُ بِهِ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، فَيَقُولُ: اللَّمْسُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَهُوَ يَعْنِيهِمَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِتَجْوِيزِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَفِي هَذَا أَصْلٌ يَدِقُّ عَلَى الْفَهْمِ، وَهُوَ أَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ لَوْ خَطَرَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ اللَّفْظَ حَقِيقَةً وَيَسْتَعْمِلَهُ مَجَازًا لَمْ يُتَصَوَّرْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَقْتَضِي قَصْرَهَا، وَالتَّجَوُّزَ يَقْتَضِي تَعْدِيَتَهَا عَنْ أَصْلِ

وَضْعِهَا، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ بِاللَّفْظِ الْمُسَمَّيَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضِ الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً وَتَجَوُّزًا، فَهَذَا هُوَ الْجَائِزُ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: يَعْنِي بِهَذَا أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، حَتَّى يَكُونَ الْأَسَدُ فِي الْبَهِيمِيَّةِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَأَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ تَعْدِيَةٍ فِي حَالِ مَا تُرِيدُ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ مَجَازًا مَعَ التَّعْدِيَةِ، فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ. قَالَ: وَمَا أَوْهَمَهُ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَنَّ لِلْقَاضِي خِلَافًا فِي الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ وَهْمٌ، لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ: كُلُّ لَفَظَّةٍ تُنْبِئُ عَنْ مَعْنَيَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَلَا تَجُوزُ إرَادَتُهُمَا بِاللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ كَلَفْظِ " افْعَلْ " عِنْدَ مُنْكِرِي الصِّيغَةِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالنَّهْيِ، فَلَا يَصِحُّ إرَادَةُ هَذِهِ الْمَعَانِي بِاللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ لِتَنَاقُضِهَا. قُلْت: هَذَا إنَّمَا قَالَهُ الْقَاضِي شَرْطًا لِلْجِوَارِ، وَهُوَ أَنَّهُ حَيْثُ يَصِحُّ الْجَمْعُ كَمَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَتَيْنِ لَا مَنْعَ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا. وَقَالَ فِي " التَّقْرِيبِ " وَلَخَّصَهُ الْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ ": اعْلَمْ أَنَّ إرَادَةَ الْجَمْعِ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ لَا يَخْطِرُ لَهُ التَّعَرُّضُ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَلَكِنْ يَقْتَصِرُ عَلَى إرَادَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِوَجْهِ الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً وَتَجَوُّزًا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ صَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ خَاصَّةً، لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَرَابِعٌ حَكَاهُ الْقَاضِي أَيْضًا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ فِيهِ حَتَّى يَبِينَ الْمُرَادُ.

تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ إذَا قُلْنَا بِالْحَمْلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ قِيَامِ قَرِينَةِ الْمَجَازِ لَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ، إذْ قَالَ: وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إذَا تَسَاوَيَا فِي الِاسْتِعْمَالِ، لَكِنْ إذَا عَرِيَ عَنْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَجَازِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ، وَقِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَةِ الْمَجَازِ لَا يَنْفِي عَنْ اللَّفْظِ إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ، هَذَا لَفْظُهُ وَهُوَ الْحَقُّ. قَالَ: وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي اللَّفْظِ الَّذِي اشْتَرَكَ فِي عُرْفِ اسْتِعْمَالِهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا. وَقَالَ ابْنُ حَاتِمٍ الْأَزْدِيُّ صَاحِبُ الْقَاضِي: إذَا كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا حَقِيقَةً لِشَيْءٍ وَمَجَازًا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ وَرَدَ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُطْلَقًا، وَبِالْقَرِينَةِ عَلَى الْمَجَازِ، أَمْ تَتَوَقَّفُ الدَّلَالَةُ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِدَلِيلٍ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُصْرَفُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِدَلِيلٍ. اهـ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَاللَّفْظُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ بِاعْتِبَارَيْنِ. وَزَعَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ اللَّفْظَ حِينَئِذٍ مَجَازٌ قَطْعًا، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي كِتَابِ " الْمَجَازِ " عَنْ بَعْضِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا ظَهَرَ قَصْدُ

الْمَجَازِ بِقَرِينَةٍ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ الْحَقِيقَةِ، أَوْ قَصْدُهُمَا مَعًا، أَمَّا إذَا قَصَدَ الْحَقِيقَةَ فَقَطْ فَالْحَمْلُ عَلَيْهَا فَقَطْ بِلَا نِزَاعٍ، أَوْ الْمَجَازَ فَقَطْ اخْتَصَّ بِهِ بِلَا نِزَاعٍ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ قَصْدٌ، فَلَا مَدْخَلَ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى مَجَازِهِ بِقَرِينَةٍ، وَلِهَذَا قَالُوا فِيمَا إذَا قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي وَنَظَائِرُهُ: أَنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ أَوْصَى لِإِخْوَةِ فُلَانٍ وَكَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا إخْوَةً وَأَخَوَاتٍ. قَالَ الْإِمَامُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ مِنْ " النِّهَايَةِ ": مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْوَصِيَّةِ الْإِخْوَةُ دُونَ الْأَخَوَاتِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لِلْجَمِيعِ وَكَذَا كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ السَّابِقُ، وَقَدْ أَفَادَ حَالَةً أُخْرَى، وَهِيَ مَا إذَا تَسَاوَيَا فِي الِاسْتِعْمَالِ بِأَنْ يَكْثُرَ الْمَجَازُ كَثْرَةً تُوَازِي الْحَقِيقَةَ فَيَتَسَاوَيَانِ فِيهِمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَيَحْصُلُ أَنَّ الصُّوَرَ أَرْبَعٌ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَةِ الْمَجَازِ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ الْحَقِيقَةِ. ثَانِيهَا: أَنْ تَدُلَّ عَلَى إرَادَتِهِمَا جَمِيعًا. ثَالِثُهَا: أَنْ لَا تَكُونَ قَرِينَةٌ، وَلَكِنْ لِلْمَجَازِ شُهْرَةٌ وَازَى بِهَا الْحَقِيقَةَ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِي الْكُلِّ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا: الْحَمْلُ عَلَيْهَا رَابِعُهَا: حَالَةُ الْإِطْلَاقِ مَعَ عَدَمِ شُهْرَةِ الْمَجَازِ فَلَا يُحْمَلُ فِيهِمَا عَلَى الْمَجَازِ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الْخِلَافَ مَدْفُوعٌ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَإِذَا ضَمَمْت الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى الْمُشْتَرَكِ خَرَجَ مِنْهُ مَذَاهِبُ: ثَالِثُهَا: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَيَمْتَنِعُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي، وَتُفَارِقُ هَذِهِ الْحَالَةُ مَا قَبْلَهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ يُحْمَلُ عَلَى مَعْنَيَيْهِ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ، وَالْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا إلَّا إذَا سَاوَى الْمَجَازُ الْحَقِيقَةَ لِشُهْرَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَرَابِعُهَا: عَكْسُهُ وَهُوَ الْمَنْعُ فِي الْحَقِيقَتَيْنِ قَطْعًا، وَتُرَدَّدُ فِي الْحَقِيقَةِ

وَالْمَجَازِ، وَإِلَيْهِ صَارَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، فَإِنَّهُ قَطَعَ بِالْجَمْعِ فِي الْحَقِيقَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ: هُوَ عِنْدَنَا كَالْمُشْتَرَكِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْمِيمُ مِنْهُ أَقْرَبَ قَلِيلًا. التَّنْبِيهُ الثَّانِي احْتَجَّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ " لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ» . مِنْ جِهَةِ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تَوَجَّهَتْ إلَى صَبِّ الذَّنُوبِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي يَغْمُرُ النَّجَاسَةَ وَاجِبٌ فِي إزَالَتِهَا، فَتَنَاوُلُ الصِّيغَةِ لَهَا اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، فَتَنَاوُلُ الصِّيغَةِ لَهُ اسْتِعْمَالٌ فِي النَّدْبِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِيهِ، فَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا. وَذَكَرَ الْإِبْيَارِيُّ مِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُعَلَّقَ الْأَمْرُ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، وَالْآخَرُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَإِنَّ {أَتِمُّوا} [البقرة: 187] يَقْتَضِي وُجُوبَ إتْمَامِ الْحَجِّ، وَاسْتِحْبَابَ إتْمَامِ الْعُمْرَةِ إنْ قُلْنَا بِعَدَمِ وُجُوبِهَا. التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ احْتَجُّوا عَلَى الْحَقِيقَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} [الأحزاب: 56] فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ اللَّهِ الرَّحْمَةُ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ، وَاسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْفِعْلَ مُتَعَدِّدٌ لِتَعَدُّدِ الضَّمَائِرِ، فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ لَفْظَ يُصَلِّي، فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ مِنْ مَوْضِعِ النِّزَاعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّعَدُّدَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى لَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ، لِأَنَّ سِيَاقَهَا

إنَّمَا هُوَ لِإِيجَابِ اقْتِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا بُدَّ، مِنْ اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ فِي الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ النَّبِيَّ وَالْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو اُدْعُوا لَهُ لَكَانَ رَكِيكًا، فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. أَمَّا حَقِيقَةً، فَالدُّعَاءُ إيصَالُ الْخَيْرِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وَ] مِنْ لَوَازِمِهِ الرَّحْمَةُ، لَيْسَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا مَجَازًا فَكَإِرَادَةِ الْخَيْرِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَلِيقُ بِالْمَقَامِ، ثُمَّ إنْ اخْتَلَفَ ذَلِكَ الْمَعْنَيَانِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَوْصُوفِ يَضُرُّ، وَلَيْسَ مِنْ الِاشْتِرَاكِ بِحَسَبِ الْمَوْضِعَ، وَكَذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ بِآيَةِ السُّجُودِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الِانْقِيَادَ فِي الْجَمِيعِ، أَوْ وَضْعَ الْجَبْهَةِ، وَلَا يَسْتَحِيلُ فِي الْحَادِثِ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ حَاصِلَةٌ لِهَذَا. الْمَوْطِنُ الثَّالِثُ: فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازَيْهِ إذَا خَرَجَتْ الْحَقِيقَةُ عَنْ الْإِرَادَةِ مِثْلُ أَنْ تَقُولَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي، وَتُرِيدُ بِهِ السَّوْمَ وَشِرَاءَ الْوَكِيلِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. صَرَّحَ بِهِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَالْهِنْدِيُّ وَالْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ "، وَشُرِطَ لِلْجَوَازِ أَنْ لَا تَكُونَ تِلْكَ الْمَجَازَاتُ مُتَنَافِيَةً كَالتَّهْدِيدِ وَالْإِبَاحَةِ إذَا قُلْنَا: إنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي الْإِيجَابِ مَجَازٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْجُمْهُورُ لِلْحَمْلِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ، وَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ إذَا تَسَاوَى الْمَجَازَانِ وَيَكُونُ، مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ. وَيَجِبُ هُنَا طَرْدُ قَوْلِ الْإِجْمَالِ فِي الْحَقِيقَتَيْنِ بَلْ أَوْلَى، وَبِهِ صَرَّحَ فِي " الْمَحْصُولِ " فِي تَفَارِيعِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ: وَتَصِيرُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُجْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْمَجَازَاتِ ضَرُورَةً، وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى جَمِيعِهَا بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَجْمُوعِ مَعَانِيهِ سَوَاءٌ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً أَوْ مَجَازِيَّةً، وَبِهِ صَرَّحَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي بَابِ الْمُجْمَلِ مَعَ أَنَّهُمَا هُنَا رَجَّحَا خِلَافَهُ فِي الْحَقِيقَتَيْنِ،

وَالْإِمَامُ مَشَى عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ حَيْثُ مَنَعَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي أَوَاخِرِ " الْعُدَّةِ " وَبَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ": إذَا كَانَ الِاسْمُ لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ وَوَرَدَ الْخِطَابُ بِهِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْحَقِيقَةُ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَجَازٌ وَاحِدٌ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مَحْصُورًا كَلَفْظِ الْأَمْرِ انْبَنَى عَلَى الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ فَهَذَا أَوْلَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا وَإِنْ قُلْنَا: يَجُوزُ ثُمَّ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْمَعَانِي تَضَادٌّ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ رَبِّهِ: حُمِلَ عَلَى أَحَدِهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُحْمَلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِدَلِيلٍ، إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَضَادٌّ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ عَلَى الْجَمِيعِ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ كَانَ مَجَازُهُ غَيْرَ مَحْصُورٍ كَلَفْظِ الدَّابَّةِ فَإِنْ دَلَّ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ دَلِيلٌ صِرْنَا إلَيْهِ، وَإِلَّا انْبَنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. مَسْأَلَةٌ مُفَرَّعَةٌ عَلَى امْتِنَاعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. الْخِطَابُ الَّذِي لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، وَمُوجِبُ الْمَجَازِ ثَابِتٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، هَلْ يَقْتَضِي إسْنَادُهُ إلَى ذَلِكَ الْمَجَازِ، حَتَّى يَكُونَ مُرَادًا مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابِ، وَيَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْتَمِلَ ذَلِكَ الْخِطَابُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنْ لَا يَلْزَمَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّا نُفَرِّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَمْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؟

فَاخْتَارَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَالرَّازِيَّ فِي " الْمَحْصُولِ " أَنَّ مُوجِبَ الْمَجَازِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِالْخِطَابِ، وَاخْتَارَ الْبَصْرِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ يَدُلُّ، وَنُسِبَ إلَى الْكَرْخِيِّ، مِثَالٌ: لَفْظُ الْمُلَامَسَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْجَسِّ بِالْيَدِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْوِقَاعِ، فَقَدْ ثَبَتَ مُوجِبُ الْمَجَازِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، وَثُبُوتُ مَعْنًى هَاهُنَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِالْخِطَابِ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً بِالْخِطَابِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَصَارَ النِّزَاعُ فِي أَنَّ ثُبُوتَ مُوجِبِ الْمَجَازِ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ يَمْنَعُ إجْرَاءَ الْخِطَابِ عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى رَأْيٍ، وَلَا يُمْنَعُ عَلَى الْآخَرِ. وَأَوْضَحَهُمَا الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي " الْعُمْدَةِ " فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالدَّلِيلِ، فَإِنْ كَانَ لَفْظُ النَّصِّ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ قَطَعْنَا بِأَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ إنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ دَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ النَّصِّ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ لَمْ يَجِبْ أَنْ نَقْطَعَ بِذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ، فَإِنْ دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قُضِيَ بِهِ، وَإِلَّا حُكِمَ بِثُبُوتِهِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ. مِثَالُهُ: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ إقَامَتُهَا، وَكَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] يَتَنَاوَلُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ قُطِعَ بِأَنَّهَا مُرَادَةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ فِي التَّشَهُّدِ كَانَ قَوْلُنَا: (صَلَاةٌ) يَتَنَاوَلُهَا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرَادًا بِقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] وَإِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ سِوَى ذَلِكَ، ثَابِتُ وُجُوبِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا إبْطَالُ مَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ: إنَّ اللَّمْسَ هُوَ بِالْيَدِ بِأَنْ يُقَالَ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجِمَاعَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ النَّقْضُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا وَإِذَا صَارَ مُرَادًا بِهَا بَطَلَ، أَوْ يُرَادُ بِهَا اللَّمْسُ بِالْيَدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَوْنَ الْجِمَاعِ مُرَادًا لَا يَمْنَعُ كَوْنَ اللَّمْسِ مُرَادًا.

مسألة اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين

وَالثَّانِي: أَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْحُكْمِ لِلْجِمَاعِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] أَنَّ ثُبُوتَ الْوَطْءِ مُرَادٌ بِهِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْعَقْدِ مُرَادًا بِهِ. تَنْبِيهٌ [حَمْلُ الْمُتَوَاطِئِ عَلَى مَعَانِيهِ] وَأَمَّا الْمُتَوَاطِئُ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَعَانِيهِ؟ قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ " لَا عُمُومَ فِيهِ إجْمَاعًا، وَصَرَّحَ فِي الْمَحْصُولِ " فِي بَابِ الْمُجْمَلِ " بِأَنَّهُ مُجْمَلٌ، وَأَلْحَقَهُ بِالْمُشْتَرَكِ عَلَى رَأْيِهِ، وَمَثَّلَهُ. بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . وَأَمَّا الْمُشَكَّكُ فَقَالَ ابْنُ الصَّائِغِ النَّحْوِيُّ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ ": مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ فِي الْمُشْتَرَكِ رُبَّمَا يُجَوِّزُهُ فِي الْمُشَكَّكِ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَفْرَادَهُ مُتَفَاوِتَةٌ، فَيَنْبَغِي الْحَمْلُ عَلَى الْأَقْوَى رِعَايَةً لِتِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُمَا. [مَسْأَلَةٌ اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ وَاخْتِلَافُ الْمَعْنَيَيْنِ] تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَقْسَامَ أَرْبَعَةٌ: اخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الْأَلْفَاظُ، لِأَنَّ بِذَلِكَ تَنْفَصِلُ الْمَعَانِي وَلَا تَلْتَبِسُ، وَاخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ التَّرَادُفُ، وَعَكْسُهُ

الِاشْتِرَاكُ، وَبَقِيَ قِسْمٌ آخَرُ أَهْمَلَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَهُوَ اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ وَاخْتِلَافُ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ بَابُ الْأَضْدَادِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْخَشَّابِ فِي بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ: الضِّدُّ مَعْنَاهُ: الْمِلْءُ، يُقَالُ: ضَدَدْت الْإِنَاءَ أَضُدُّهُ ضَدًّا: إذَا مَلَأْتُهُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الضِّدَّيْنِ يَشْغَلُهُ الْحَيِّزُ عَنْ الْآخَرِ قَدْ مُلِئَ دُونَهُ، قَالَ: وَقَدْ صَنَّفَ اللُّغَوِيُّونَ فِيهَا كُتُبًا كَالْأَصْمَعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَحْسَنُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيُّ، وَمِمَّنْ أَنْكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ثَعْلَبٍ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ الْأَكْثَرُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ تَقَعُ لِلشَّيْءِ وَخِلَافِهِ، كَوَجَدْت اُسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى غَضِبْتُ، وَبِمَعْنَى حَزِنْتُ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ جَازَ وُقُوعُهَا لِلشَّيْءِ وَضِدِّهِ، لِكَوْنِ الضِّدِّ ضَرْبًا مِنْ الْخِلَافِ. انْتَهَى. هَكَذَا نَسَبَ ابْنُ الْخَشَّابِ الْجَوَازَ لِلْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي كِتَابِ " إفْسَادِ الْأَضْدَادِ ": ذَهَبَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ الْمَوْثُوقُ بِعِلْمِهِمْ. وَاَلَّذِي كَانَ عَلَيْهِ شَيْخَا الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرَّدِ وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ ثَعْلَبٍ دَفْعُ أَنْ تَكُونَ الْعَرَبُ وَضَعَتْ اسْمًا وَاحِدًا لِلشَّيْءِ وَضِدِّهِ إلَّا مَا وَضَعَتْ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ نَحْوَ " لَوْنٍ " فَإِنَّهُ لِمَعْنًى يَنْطَلِقُ عَلَى السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي: إنَّ الْأَضْدَادَ وَاقِعَةٌ فِي اللُّغَةِ، لَكِنْ تَتَدَاخَلُ اللُّغَاتُ لَا أَنَّهَا اجْتَمَعَتْ عَلَى وَضْعِهَا قَبِيلَةٌ وَاحِدَةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَلْ قَبَائِلُ ثُمَّ فَشَتْ اللُّغَاتُ، وَتَدَاخَلَتْ بِالْمُلَاقَاةِ وَالْمُجَاوَرَةِ، فَنُقِلَتْ إلَى كُلٍّ لُغَةُ صَاحِبِهِ. وَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى التَّوَاطُؤِ، فَيَقُولُ فِي " الصَّرِيمِ ": إنَّمَا سُمِّيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ صَرِيمًا لِانْصِرَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَالضَّوْءُ

وَالظُّلْمَةُ إنَّمَا سُمِّيَا " سُدْفَةً " مِنْ قَوْلِك: أَنَا فِي سُدْفِك أَيْ مُسْتَتِرٌ بِك، وَهَذَا فِي الظُّلْمَةِ وَاضِحٌ، وَفِي الضَّوْءِ لِأَنَّهَا تُقَالُ فِي الظُّلْمَةِ الَّتِي يُخَالِطُهَا مُقَدِّمَةُ ضَوْءٍ. وَتَقُولُ فِي مِثْلِ " الْجَلَلِ ": إنَّهُ الْعَظِيمُ بِحَقِّ الْإِثْبَاتِ وَعَلَى الصَّغِيرِ بِالسَّلْبِ، كَقَوْلِهِمْ: ب، وَنَائِمٌ، وَأَعْجَمْتُ الْكِتَابَ، وَرَجُلٌ مُبَطَّنٌ أَيْ خَمِيصُ الْبَطْنِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ اجْتِمَاعُ الْأَضْدَادِ فِي الشِّعْرِ إيطَاءً. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ الْإِشْبِيلِيُّ تِلْمِيذُ الشَّلَوْبِينَ: الْحَقُّ أَنَّ التَّضَادَّ فِي اللُّغَةِ مَوْجُودٌ عَلَى مَا صَوَّرْته مِنْ التَّدَاخُلِ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ دُونَ تَدَاخُلٍ، وَلَكِنْ بِتَوَاضُعٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ بِحَسَبِ قَصْدَيْنِ أَوْ وَقْتَيْنِ وَإِنَّمَا الْمُحَالُ أَنْ يَقْصِدَ الْوَاضِعُ وَضْعَ لَفْظٍ لِمَعْنَيَيْنِ ضِدَّيْنِ أَوْ غَيْرَيْنِ مُلْتَبِسًا لِذَلِكَ غَيْرَ مُبَيِّنٍ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي وَضْعَ اللُّغَةِ وَيُبْطِلُ حِكْمَةَ الْمُخَاطَبَةِ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي " الْمُخَصَّصِ ": أَمَّا فِي اتِّفَاقِ اللَّفْظَيْنِ وَاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ قَصْدًا فِي الْوَضْعِ وَلَا أَصْلًا، لَكِنَّهُ مِنْ تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ، أَوْ يَكُونُ لَفْظُهُ يُسْتَعْمَلُ لِمَعْنًى، ثُمَّ يُسْتَعَارُ لِشَيْءٍ، فَيَكْثُرُ وَيَغْلِبُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَكَانَ أَحَدُ شُيُوخِنَا يُنْكِرُ الْأَضْدَادَ الَّتِي حَكَاهَا أَهْلُ اللُّغَةِ، وَأَنْ تَكُونَ لَفْظَةً لِشَيْءٍ وَضِدِّهِ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إنْكَارُهُ لِذَلِكَ مِنْ حُجَّةٍ سَمَاعًا أَوْ قِيَاسًا، فَلَا حُجَّةَ لَهُ مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ، بَلْ الْحُجَّةُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فِي الْمُرَادِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ كَأَبِي زَيْدٍ وَغَيْرِهِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ قَدْ حَكَوْا ذَلِكَ وَصَنَّفُوا فِيهِ الْكُتُبَ، فَإِنْ قَالَ: الْحُجَّةُ مِنْ الْجِهَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الضِّدَّ بِخِلَافِ ضِدِّهِ، فَإِذَا اشْتَرَكَتَا فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يَخُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِلَفْظٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ أَلْبَسَ وَأَشْكَلَ، فَصَارَ الضِّدُّ شَكْلًا وَالشَّكْلُ ضِدًّا، وَهَذَا إلْبَاسٌ. قِيلَ لَهُ: هَلْ يَجُوزُ عِنْدَك أَنْ

يَجِيءَ فِي اللُّغَةِ لَفْظَانِ مُتَّفِقَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؟ فَإِنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعَ مَا ثَبَتَ جَوَازُهُ، وَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى مَنْعِ هَذَا ثَبَتَ جَوَازُ اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ لِلشَّيْءِ وَخِلَافِهِ، وَإِذَا جَازَ وُقُوعُهَا لِلشَّيْءِ وَخِلَافِهِ جَازَ وُقُوعُهَا لِلشَّيْءِ وَضِدِّهِ. إذْ الضِّدُّ ضَرْبٌ مِنْ الْخِلَافِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خِلَافٌ ضِدًّا. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى جِوَازِ وُقُوعِ اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قَوْله تَعَالَى فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46] فَلَا يَكُونُ الطَّمَعُ هَذَا إلَّا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الَّذِي يُطْمَعُ فِيهِ، وَيَقَعُ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآخِرَةِ شَكٌّ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ لَا يَشُكُّ فِي الْمَغْفِرَةِ. انْتَهَى.

مباحث الحقيقة والمجاز

[مَبَاحِثُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ] قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْحَقِيقَةُ مِنْ قَوْلِنَا: حَقَّ الشَّيْءُ إذَا وَجَبَ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الشَّيْءِ الْمُحَقِّ وَهُوَ الْمُحْكَمُ. تَقُولُ: ثَوْبٌ مُحَقَّقُ النَّسْجِ، أَيْ: مُحْكَمٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ لَا مِنْ الْحَقِّ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمَجَازُ بَاطِلًا. وَتُطْلَقُ الْحَقِيقَةُ وَيُرَادُ بِهَا ذَاتُ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتُهُ، كَمَا يُقَالُ حَقِيقَةُ الْعَالِمِ: مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَحَقِيقَةُ الْجَوْهَرِ: الْمُتَمَيِّزُ، وَهَذَا مَحَلُّ نَظَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ. تُطْلَقُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ» وَلَيْسَ غَرَضَنَا هُنَا. وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْمُسْتَعْمَلُ فِي أَصْلِ مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مُرَادُنَا، وَقَدْ مَنَعَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا: حَقِيقَةً يَنْطَبِقُ عَلَى مَا عَدَا هَذَا،

لِأَنَّ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ الْمَجَازُ، حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَزَيَّفَهُ بِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تَمْنَعُ، وَقَدْ بَيَّنَّا لِلْحَقِيقَةِ فِيهَا اسْتِعْمَالَاتٍ، وَلِأَنَّ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ الْمَجَازُ فِيهِ. فَقَوْلُنَا: الْمُسْتَعْمَلُ خَرَجَ بِهِ اللَّفْظُ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ وَقَوْلُنَا: مَا وُضِعَ لَهُ أَخْرَجَ الْمَجَازَ إنْ قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ، فَإِنْ قُلْنَا: مَوْضُوعٌ قُلْنَا: وُضِعَ أَوَّلًا. وَهَلْ إطْلَاقُهَا بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ إلَى أَنَّهُ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ " فَعِيلَةٌ " مِنْ الْحَقِّ إمَّا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَيْ: الثَّابِتِ، وَلِهَذَا دَخَلَتْ التَّاءُ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ: الْمُثْبَتِ، وَعَلَى هَذَا فَدُخُولُ التَّاءِ فِيهَا لِنَقْلِ الِاسْمِ مِنْ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ الْمَحْضَةِ. وَالْحَقُّ: أَنَّهَا إنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ فَهِيَ عَلَى بَابِهَا لِلتَّأْنِيثِ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّاءُ لِنَقْلِ الِاسْمِيَّةِ. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: هِيَ عِنْدِي لِلتَّأْنِيثِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِتَقْدِيرِ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ قَبْلَ الِاسْمِيَّةِ صِفَةَ مُؤَنَّثٍ غَيْرَ مُجْرَاةٍ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهُوَ الْكَلِمَةُ، ثُمَّ نُقِلَتْ إلَى الِاعْتِقَادِ الْمُطَابِقِ، ثُمَّ مِنْ الِاعْتِقَادِ إلَى اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ تَحْقِيقًا لِذَلِكَ الْوَضْعِ، فَظَهَرَ أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ لَيْسَ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، بَلْ مَجَازًا وَاقِعًا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ إطْلَاقُ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ

مسألة وجوب العمل بالحقيقة

تَرْجِيحُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي " الْمُحْكَمِ ": الْحَقِيقَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا أُقِرَّ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ، وَالْمَجَازُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُولِ " عَنْ ابْنِ جِنِّي، وَقَالَ: إنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ لِخُرُوجِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ وَارِدٍ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ كَالْمُصَرِّحِ بِأَنَّ الْمُرَادَ اللُّغَوِيَّةُ فَقَطْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ لَا الْمَعْنَى، ثُمَّ تَعْدَادُ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ وَجَعْلُهُ مَجَازًا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ. وَلِمَ لَا يَكُونُ نُقِلَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ إلَى الْمَقْصُودِ، وَالْعَلَاقَةُ مَوْجُودَةٌ؟ ثُمَّ إنَّ دَعْوَى الْمَجَازِ فِي لَفْظَيْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهَا صِفَتَانِ عُرْفِيَّتَانِ [مَسْأَلَةٌ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ] وَحُكْمُ الْحَقِيقَةِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَةٍ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ الْمَجَازِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَأَنَّهُ لَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِي الْعَامِّ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصَّصِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ احْتِمَالَ وُجُودِ الْمُخَصَّصِ أَقْوَى؛ إذْ مَا مِنْ عَامٍّ إلَّا وَقَدْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. لَكِنْ صَرَّحَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ.

أقسام الحقيقة

وَيُقَوِّيهِ إذَا قُلْنَا: إنَّ الْمَجَازَ غَالِبٌ فِي اللُّغَاتِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ": أَمَّا الْحَقَائِقُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا تُحْمَلُ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا حَتَّى يُنْظَرَ هَلْ هُنَاكَ مَا يُعْدَلُ بِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا إذَا عُدِلَتْ عَنْ مُقْتَضَاهَا حُمِلَتْ عَلَى الْمَجَازِ، وَقِيلَ الْعُمُومُ إذَا حُمِلَ عَلَى الْخُصُوصِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمَجَازِ. [أَقْسَامُ الْحَقِيقَةِ] [أَقْسَامُ الْحَقِيقَةِ] وَتَنْقَسِمُ الْحَقِيقَةُ إلَى لُغَوِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ إمَّا وَضْعُ اللُّغَةِ، وَهِيَ اللُّغَوِيَّةُ كَالْأَسَدِ لِلْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ أَوَّلًا، وَهُوَ إمَّا وَضْعُ الشَّارِعِ، وَهِيَ الشَّرْعِيَّةُ كَالصَّلَاةِ، لِلْأَرْكَانِ وَقَدْ كَانَتْ فِي اللُّغَةِ لِلدُّعَاءِ أَوَّلًا، وَهِيَ الْعُرْفِيَّةُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا الْأَصْلِيِّ إلَى غَيْرِهِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلْتَتَنَبَّهْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ اللُّغَوِيَّةَ أَصْلُ الْكُلِّ، فَالْعُرْفُ نَقَلَهَا عَنْ اللُّغَةِ إلَى الْعُرْفِ، وَالشَّرْعُ نَقَلَهَا عَنْ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَضْعَ فِي اللُّغَوِيَّةِ غَيْرُ الْوَضْعِ فِي الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ تَعْلِيقُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ مَعْنًى لَمْ يُعْرَفْ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ الْوَضْعِ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ فَبِمَعْنَى غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْمَعْنَى السَّابِقِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ

عَنْ الشَّارِعِ أَنَّهُ وَضَعَ لَفْظَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الشَّارِعِ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِإِزَاءِ تِلْكَ الْمَعَانِي حَيْثُ صَارَتْ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ مَهْجُورَةً، وَكَذَلِكَ الْعُرْفُ، فَإِنَّ أَهْلَهُ لَمْ يَضَعُوا لَفْظَ الْقَارُورَةِ مَثَلًا لِلظَّرْفِ مِنْ الزُّجَاجِ عَلَى جِهَةِ الِاصْطِلَاحِ، كَمَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَضَعْ لَفْظَ الزَّكَاةِ لِقَطْعِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ. بَلْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ شَرْعِيَّةً وَعُرْفِيَّةً بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ أَنْ يَسْبِقَهُ تَعْرِيفٌ بِتَوَاضُعِ الِاسْمِ، وَمِنْ هَاهُنَا مَنَعَ بَعْضُهُمْ إدْخَالَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَدِّ لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْوَضْعِ فِيهَا فَإِنَّ الِاصْطِلَاحَ غَيْرُ غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنْ خَصَصْنَا الْوَضْعَ بِالِاصْطِلَاحِ خَرَجَتْ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعُرْفِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ نَخُصَّهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا، وَالْحُدُودُ تُصَانُ عَنْهُ، فَيَنْبَغِي إفْرَادُهَا بِحَدٍّ كَأَنْ يُقَالَ: الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّخَاطُبُ، لَكِنْ هَذِهِ مُضَايَقَةٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ لِلشَّرْعِ وَضْعًا كَاللُّغَةِ فَإِنَّ الْوَضْعَ تَعْلِيقُ لَفْظٍ بِإِزَاءِ مَعْنًى، وَهُوَ يَشْمَلُهُمَا لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي سَبَبِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَفِي اللُّغَةِ إعْلَامُ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ، وَفِي الشَّرْعِ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، لِيَرْفَعَ الْوَضْعَ السَّابِقَ إنْ كَانَ. وَإِذَا عَلِمْت هَذَا فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَنَقُولُ: أَمَّا اللُّغَوِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا جُلُّ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهُمْ الْمُثْبِتُونَ لِلنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ وَالْعُرْفِيِّ، أَوْ كُلُّهَا عِنْدَ آخَرِينَ، وَهُمْ النَّافُونَ لَهُ، فَيَقُولُونَ: إنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ بِحُرُوفِ اللُّغَةِ وَنَظْمِهَا، وَالْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ نُطْقِ الشَّرْعِ هُوَ الْمَقْصُودُ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي إمْكَانِهَا وَوُقُوعِهَا فِي الْمَعْنَى الْوَاحِدِ. وَأَمَّا الْمُفِيدُ لِلشَّيْءِ وَخِلَافِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ فَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ الِاشْتِرَاكِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمْكِنُ النِّزَاعُ فِي الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ بِأَنْ يُقَالَ: إنَّهَا انْتَسَخَتْ، وَصَارَتْ الْأَلْفَاظُ بِأَسْرِهَا شَرْعِيَّةً أَوْ عُرْفِيَّةً لِكَثْرَةِ النَّقْلِ وَالتَّغْيِيرِ فِي انْتِقَالَاتِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ تَتَبُّعُ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ إنْ وَجَدْنَاهَا فِي أَلْفَاظِ الْخِطَابِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْهَا فَالْحَقَائِقُ الْعُرْفِيَّةُ. وَأَمَّا مَا يُنْقَلُ مِنْ وَاضِعِي اللُّغَاتِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا تَغَيَّرَتْ وَانْتَسَخَتْ فَلَا يُخَاطِبُنَا الشَّرْعُ بِهَا، وَالْجَوَابُ: هَذَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى الْوُقُوفِ لِنَقْلِ اللُّغَةِ فِي مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَبِالصَّلَاةِ لِمَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ، وَهُوَ صَائِمٌ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْعُرْفِيَّةُ فَتَنْقَسِمُ إلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، فَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ طَائِفَةً مَخْصُوصَةً سُمِّيَتْ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ عَامَّةَ النَّاسِ سُمِّيَتْ عَامَّةً. وَقَدْ أَوْضَحَ مَعْنَى الْعُرْفِيَّةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ فِي " التَّقْرِيبِ ": مَعْنَى وَصْفِ الِاسْمِ بِأَنَّهُ عُرْفِيٌّ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ إطْلَاقِهِ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوْ غَيْرِهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عُرْفِيٌّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ اُبْتُدِئَ وَضْعُهُ لِمَا جَرَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ عُرْفِيَّةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ مُجَرَّدَةٌ مُبْتَدَأَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبِيلُ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ ابْتَدَأَهَا وَوَضَعَهَا غَيْرُ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِضُرُوبِ الْعَلَامَاتِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ مَعْنَاهُ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَجَازُ، وَتَسْمِيَتُهُ مَجَازًا أَحَقُّ وَأَوْلَى. انْتَهَى. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَالِاعْتِبَارَاتُ فِي الْعُرْفِ إنَّمَا هُوَ بِعُرْفِ مَنْ

هُوَ لَهُ دُونَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا: إنَّ الْعُرْفَ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ يَقُومُ مَقَامَ ابْتِدَاءِ الْمُوَاضَعَةِ فَإِذَا اخْتَصَّ ابْتِدَاءُ الْمُوَاضَعَةِ بِأَهْلِهَا فَكَذَلِكَ الْعُرْفُ. اهـ. مَسْأَلَةٌ [إمْكَانُ الْعُرْفِيَّةِ] وَلَا خِلَافَ فِي إمْكَانِ الْعُرْفِيَّةِ، وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَلَا نِزَاعَ فِي وُجُودِ الْخَاصَّةِ مِنْهَا لِاسْتِقْرَاءِ كَلَامِ ذَوِي الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا أَهْلُ اللُّغَةِ، كَالْقَلْبِ وَالنَّقْضِ وَالْجَمْعِ وَالْفَرْقِ. وَأَمَّا الْعُرْفِيَّةُ الْعَامَّةُ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهَا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْوُقُوعِ قَالَهُ الْهِنْدِيُّ، وَتَابَعَ فِيهِ فِي " الْمَحْصُولِ " وَاسْتَغْرَبَ شَارِحُهُ الْأَصْفَهَانِيُّ هَذَا الْخِلَافَ، وَقَالَ: إنَّمَا الْمَعْرُوفُ الْخِلَافُ فِي الشَّرْعِيَّةِ. قُلْت: حَكَى الْخِلَافَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا انْتِقَالَ الِاسْمِ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ بِالْعُرْفِ إنَّمَا أَجَازُوا ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ اللُّغَوِيُّ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنْ تَعَلَّقَ لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَى مَعْنًى آخَرَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ حِينَئِذٍ إلَى التَّكْلِيفِ. اهـ. فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي وَأَتْبَاعِهِ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ رَابِعٌ، فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوا النَّقْلَ الْعُرْفِيَّ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ قَدْ وُضِعَ لِمَعْنًى عَامٍّ ثُمَّ تَخَصَّصَ بِالْعُرْفِ الْعَامِّ

لِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ، كَلَفْظِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ خَصَّصَهَا الْعُرْفُ الْعَامُّ بِذَاتِ الْحَوَافِرِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ قَدْ وُضِعَ لِمَعْنًى، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا لَهُ بِهِ نَوْعُ مُنَاسَبَةٍ وَمُلَابَسَةٍ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ كَالْغَائِطِ، وَالْأَوَّلُ نُقِلَ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَالثَّانِي إلَى الْمَجَازِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَسْمَاءُ الْعُرْفِيَّةُ مُنْحَصِرَةٌ فِي هَذَيْنِ، وَلَا يُنْبِئُ الْعُرْفُ عَنْ الْوَضْعِ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِ الْأَسَامِي، وَلَوْ صُرِفَ إلَى أَصْلِ الْوَضْعِ لَلَزِمَ تَسْمِيَةُ جُمْلَةِ اللُّغَةِ عُرْفِيَّةً، وَلَا يُنْبِئُ عَنْ تَجْدِيدِ الْوَضْعِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ هَذَا سَبِيلُ كُلِّ لُغَةٍ سَبَقَهَا أُخْرَى، وَإِنَّمَا تُنْبِئُ عَمَّا يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ عُرْفًا مِنْ الْمَجَازَاتِ أَوْ يَغْلِبُ تَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الْمُقْتَضَيَاتِ، وَكَذَا قَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": التَّصَرُّفُ الْوَاقِعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ عَنْ أَهْلِ الْعُرْفِ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِهِمَا فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ وَذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ أَقْسَامِ الْعُرْفِيَّةِ أَنْ يُوضَعَ اللَّفْظُ لِشَيْءٍ فِي اللُّغَةِ لَكِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ فِيهَا، فَيَسْتَعْمِلُهُ الْعُرْفُ فِي غَيْرِهِ كَعَسَى، فَإِنَّهُ وُضِعَ أَوَّلًا لِلْفِعْلِ الْمَاضِي، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيهِ قَطُّ، بَلْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْإِنْشَاءِ بِوَضْعِ الْعُرْفِ، فَصَارَتْ الْعُرْفِيَّةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِيمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ فِي اللُّغَةِ أَصْلًا إذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ اللُّغَوِيُّ أَيْضًا، أَوْ كَانَ لَهُ وَضْعٌ فِي اللُّغَةِ، وَاسْتُعْمِلَ فِيهِ، لَكِنْ هُجِرَ كَالْغَائِطِ، أَوْ لَمْ يُهْجَرْ، وَلَكِنْ قَصَرَهُ الْعُرْفُ عَلَى بَعْضِ مَوْضُوعَاتِهِ كَالدَّابَّةِ. وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ مِنْ مُهِمَّاتِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ أَحْكَمَ شَرْحَهَا. وَيَتَعَلَّقُ بِهَا مَبَاحِثُ:

الْأَوَّلُ: فِي تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِالِاسْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهِيَ اللَّفْظَةُ الَّتِي اُسْتُفِيدَ وَضْعُهَا لِلْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، كَذَا قَالَهُ فِي " الْمَحْصُولِ " وَسَبَقَهُ إلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ". وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: مَا كَانَ مَعْنَاهُ ثَابِتًا بِالشَّرْعِ، وَالِاسْمُ مَوْضُوعٌ لَهُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: هُوَ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ الشَّرْعِ وَاللَّفْظِ مِنْ اللُّغَةِ، وَمَرَّةً يُسْتَفَادُ الْمَعْنَى مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ وَاللَّفْظِ فِي الشَّرْعِ، وَالْكُلُّ أَسَامِي شَرْعِيَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي الشَّرْعِ، وَقِيلَ الِاسْمُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَارَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ الشَّرْعِيَّيْنِ إلَّا بِالتَّبَعِ. وَهَلْ الْمُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ مِمَّا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، أَوْ سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِلْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ أَمْ لَا؟ وَالظَّاهِرُ: الْأَوَّلُ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الَّذِي أَرَادَ بِهِ الشَّارِعُ مَعْنًى يَصِحُّ إطْلَاقُ ذَلِكَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةً لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَى أَنْ نَقُولَ: إنَّهُ تَجَوَّزَ بِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُرَادَةِ، كَإِطْلَاقِ الصَّلَاةِ عَلَى الدُّعَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] لَا نَقُولُ إنَّهُ مَجَازٌ بِحَسَبِ الصَّلَاةِ ذَاتِ الْأَرْكَانِ، بَلْ هُوَ الدُّعَاءُ، وَهَذَا حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ، وَإِذَا أَمْكَنَتْ فَمَا الدَّاعِي لِلْمَجَازِ الشَّرْعِيِّ.

أقسام الحقيقة الشرعية

[أَقْسَامُ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ] ِ] وَأَقْسَامُهَا أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مَعْلُومَيْنِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوا ذَلِكَ الِاسْمَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا غَيْرَ مَعْلُومَيْنِ لَهُمْ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَعْلُومًا لَهُمْ وَالْمَعْنَى غَيْرَ مَعْلُومٍ. الرَّابِعُ: عَكْسُهُ، وَالْمَنْقُولَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَخَصُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. ثُمَّ مِنْ الْمَنْقُولَةِ مَا نُقِلَ إلَى الدِّينِ وَأُصُولِهِ كَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَتُخَصُّ بِالدِّينِيَّةِ، وَمَا نُقِلَ إلَى فُرُوعِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَخْتَصُّ بِالْفَرْعِيَّةِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْبَهُ وُقُوعُهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَلَفْظِ الرَّحْمَنِ لِلَّهِ، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَالثَّانِي: كَأَوَائِلِ السُّوَرِ، وَالثَّالِثُ: كَلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالرَّابِعُ كَلَفْظِ الْأَبِّ وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] قَالَ عُمَرُ: مَا الْأَبُّ؟ اهـ. وَالنِّزَاعُ فِي الْكُلِّ عَلَى السَّوَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ " فَتَابَعُوهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ الشَّرْعِيِّ بِمَا سَبَقَ، وَهُوَ مَاشٍ عَلَى مَذْهَبِهِمْ الْآتِي وَأَمَّا عَلَى أَصْلِنَا فَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ

بَلْ الشَّرْطُ كَمَا قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ: كَوْنُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ يَعْلَمُهَا أَهْلُ اللُّغَةِ، لِاسْتِحَالَةِ نَقْلِ الشَّرْعِ لَفْظَةً لُغَوِيَّةً إلَى مَعْنَى مَجَازِ لُغَةٍ، وَلَا يَعْرِفُهُمَا أَهْلُ اللُّغَةِ. الثَّانِي: فِي إمْكَانِهَا عَقْلًا، وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ " وَالْآمِدِيَّ فِي " الْإِحْكَامِ " الْإِجْمَاعَ عَلَى إمْكَانِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْوُقُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَفِي " شَرْحِ الْعُمَدِ " لِأَبِي الْحُسَيْنِ عَنْ قَوْمٍ إنْكَارُ إمْكَانِهَا، فَقَالَ: وَقَدْ أَبَى قَوْمٌ جَوَازَ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ تَعْلِيلُهُمْ، فَعِلَّةُ بَعْضِهِمْ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ إمْكَانِ ذَلِكَ، وَعِلَّةُ الْآخَرِينَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَنَعُوا مَنْ حَسَّنَهُ. اهـ. وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ أَيْضًا ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " فَقَالَ: وَأَمَّا إمْكَانُ نَقْلِ الْأَسَامِي، أَوْ نَقْلِهَا مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ فَقَدْ جَوَّزَهُ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَمَنَعَهُ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ، وَبِنَاءُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ نَقْلَهَا مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ لَا يُؤَدِّي إلَى قَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَعِنْدَهُ يُؤَدِّي. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ إمْكَانُهُ فَهُوَ حَسَنٌ وَلَيْسَ بِقَبِيحٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَثَابَةِ النَّسْخِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهَا وَتَبْدِيلُهَا بِاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حَسَنًا، فَلَأَنْ يَحْسُنَ ذَلِكَ فِي الْأَسَامِي أَوْلَى. وَقِيلَ: وَإِنْ جَازَ عَقْلًا لَكِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ؛ لِأَنَّهُ قَبِيحٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى إسْقَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالنَّسْخِ، ذَكَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ. الرَّابِعُ: إنَّهُ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ وَقَعَ أَوْ لَا؟ فِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاقِعَةٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ الدِّينِيَّةُ وَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأُصُولِ

الدِّينِ كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْفَرْعِيَّةُ وَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفُرُوعِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ": وَهُوَ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْإِمَامِ أَبِي نَصْرِ بْنِ الْقُشَيْرِيّ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَصْحَابِنَا، فَقَالَ: وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَمْ يَنْقُلْ الشَّرْعُ شَيْئًا مِنْ الْأَسَامِي اللُّغَوِيَّةِ، بَلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَّمَ الْخَلْقَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِلَى هَذَا مَيْلُ الْقَاضِي. اهـ. وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرُّوذِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فَقَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ بِالشَّرْعِ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ عَنْ مَعَانِيهَا فِي اللُّغَةِ إلَى مَعَانٍ سِوَاهَا إلَّا أَبَا حَامِدٍ الْمَرُّوذِيَّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْأَسَامِيَ كُلَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهَا فِي اللُّغَةِ قَبْلَ الشَّرْعِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ، وَقَدْ صَارَ بِالشَّرْعِ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ اسْمًا لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ الْآنَ أَيْضًا بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ أَسْمَاءٌ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا كَانَ مَفْعُولًا مِنْهَا فِي اللُّغَةِ قَبْلَ الشَّرْعِ عِنْدَنَا، وَهِيَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ ثَابِتَةٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهَا لَا يَحْتَسِبُ بِهَا إلَّا إذَا أَتَى عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي عَلَّقَتْهَا الشَّرِيعَةُ بِهَا. اهـ. وَكَذَلِكَ حَكَاهُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ فِي جُزْءٍ جَمَعَهُ فِي بَيَانِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. فَقَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ، هَلْ نَقَلَتْ الشَّرِيعَةُ أَسْمَاءَ اللُّغَةِ عَنْ مَوْضُوعَاتِهَا إلَى غَيْرِهَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا نَقَلَتْ، وَإِنَّ مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانَ، فَإِنَّهُ لُغَةً التَّصْدِيقُ، وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الشَّرِيعَةِ لِلطَّاعَاتِ: كُلُّهَا إيمَانٌ، وَذَلِكَ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالْوُضُوءُ، فَجَمْعُهُ مَنْقُولٌ عَنْ اللُّغَةِ.

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: إنَّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا لُغَوِيَّةٌ، وَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ، وَأَنْ لَا إيمَانَ إلَّا بِتَصْدِيقٍ، وَأَنْ لَا تَصْدِيقَ إلَّا بِإِيمَانٍ، وَقَالَ: إنَّ الصَّلَاةَ لُغَةً: الدُّعَاءُ، وَالْحَجَّ: الْقَصْدُ، وَالزَّكَاةَ: النَّمَاءُ، وَالْوُضُوءَ: النَّظَافَةُ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَتَى بِفِعْلِهَا عَنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. وَفَرَّقَ أَبُو الْحَسَنِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، فَقَالَ: كُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا، وَقَالَ: إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ وَالْمُتَابَعَةُ لِلَّهِ فِي طَاعَاتِهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ بِالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَقَالَ: إنَّ الْمُنَافِقَ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَسْلِمٌ فِي الظَّاهِرِ غَيْرُ مُصَدِّقٍ فِي الْبَاطِنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. اهـ. [النَّافُونَ لِلْحَقِيقَةِ] ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّافُونَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهَا مُقَرَّةٌ عَلَى حَقَائِقِ اللُّغَاتِ، لَمْ تُنْقَلْ وَلَمْ يُزَدْ فِي مَعْنَاهَا، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَقَرَّتْ وَزِيدَ فِي مَعْنَاهَا فِي الشَّرْعِ، وَنَقَلَاهُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ. قُلْت: وَهُوَ مَا نَصَّهُ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَقْلِ الِاسْمِ عَنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا هُوَ إبَانَةُ مَوْضِعِ مَا أُرِيدَ بِإِيقَاعِهِ فِيهِ، فَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ مَعَانِيهَا الدُّعَاءُ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِالشَّرْعِ عَنْ مَعْنَاهُ، بَلْ أَتَى بِوَضْعِهِ الَّذِي جُعِلَ فِيهِ، فَقِيلَ: نَدْعُو عَلَى صِفَةِ كَذَا، وَلَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَى الِاسْمِ بِذَلِكَ. اهـ.

وَيَخْرُجُ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالِاسْمِ فَرْضٌ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ عَنْ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا، فَلَا يَمْتَنِعُ، وَقَدْ سَبَقَ نَقْلُهُ صَرِيحًا فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَائِلَهُ يَطْرُدُهُ هُنَا. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَاقِعَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُعْتَزِلَةِ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَصَحَّحَهُ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهَا حَقَائِقُ وَضَعَهَا الشَّارِعُ مُبْتَكَرَةً لَمْ يُلَاحَظْ فِيهَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ أَصْلًا، وَلَيْسَ لِلْعَرَبِ فِيهَا تَصَرُّفٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. قَالُوا: وَتَارَةً يُصَادِفُ الْوَضْعُ الشَّرْعِيُّ عَلَاقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَيَكُونُ اتِّفَاقِيًّا غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إلَيْهِ، وَتَارَةً لَا يُصَادِفُهُ، وَقَالُوا: نَقَلَ الشَّارِعُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مُسَمَّيَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، وَابْتِدَاءً وَضْعَهَا لِهَذِهِ الْمَعَانِي، فَلَيْسَتْ حَقَائِقَ لُغَوِيَّةً، وَلَا مَجَازَاتٍ عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ بِأَنْ يَكُونَ اُسْتُعِيرَ لَفْظُهَا لِلْمَدْلُولِ الشَّرْعِيِّ لِعَلَاقَةٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ فِي " الْمَحْصُولِ "، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرَ أَنَّ الشَّرْعَ نَقَلَهَا نَقْلًا كُلِّيًّا، فَإِنَّ مَعَانِيَ اللُّغَةِ لَا تَخْلُو مِنْهَا، وَلَا اسْتَعْمَلَهَا اسْتِعْمَالًا كُلِّيًّا، وَإِلَّا لَتَبَادَرَ الذِّهْنُ إلَى حَقَائِقِهَا اللُّغَوِيَّةِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا فِي حَقِيقَتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، بَلْ فِي مَجَازِهَا اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِيقَةِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْمَجَازِ، وَمِنْ مَجَازِهَا: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ أَجْزَائِهِ، وَالصَّلَاةُ

كَذَلِكَ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ جُزْءٌ مِنْهَا، بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، قَالَ: فَلَمْ يَخْرُجْ اسْتِعْمَالُهُ عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي ذَيْلِ الْمَسْأَلَةِ: وَهُوَ مِمَّنْ صَحَّحَ الْوُقُوعَ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهَا مَجَازَاتٌ شَرْعِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ: أَنَّهَا حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ، ثُمَّ حَقَّقَ، وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ فِيهَا مَعْنَى اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَخْلُو عَنْ الدُّعَاءِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَخْرَسُ نَادِرٌ، وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ فَقَدْ يَخْلُو فِي بَعْضِ الْمَرْضَى عَنْ مُعْظَمِ الْأَفْعَالِ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ لَا بَأْسَ بِهِ اهـ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الشَّارِعَ تَجَوَّزَ، وَوَضَعَ اللَّفْظَ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَضْعًا حَقِيقِيًّا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ثَبَتَ مِنْهَا قَصْرُ التَّسْمِيَةِ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لُغَةً: الدُّعَاءُ، وَقَصَرَهُ الشَّرْعُ عَلَى دُعَاءٍ مَخْصُوصٍ، وَثَبَتَ أَيْضًا إطْلَاقُهَا عَلَى الْأَفْعَالِ مِنْ السُّجُودِ وَنَحْوِهِ تَوَسُّعًا وَاسْتِعَارَةً مِنْ الدُّعَاءِ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ خَاضِعٌ، فَكَذَلِكَ السَّاجِدُ، فَالْمُثْبِتُ لِلنَّقْلِ إنْ أَرَادَ الْقَصْرَ أَوْ التَّجَوُّزَ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ فَبَاطِلٌ، وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ، وَقَالَ الْقَصْرُ وَالتَّجَوُّزُ لَا تَغْيِيرَ فِيهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَقْصُرُ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَتْهُ لَهُ، وَيَصِيرُ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً مَهْجُورَةً كَمَا فِي {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا تَحْرِيمُ الْوَطْءِ وَهُوَ مَجَازٌ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الزِّيَادَةُ عَلَى وَضْعِهِمْ تَغْيِيرٌ، فَكَذَلِكَ النَّقْصُ مِنْهُ، لِتَعَدِّيهِ إلَى غَيْرِهِ. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ: أَنَّ الْمَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِيَّةَ مُسَمَّيَاتٌ لَمْ تَكُنْ مَعْهُودَةً مِنْ

قَبْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَسَامِي تُعْرَفُ بِهَا تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتُ، وَعِنْدَ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَذَا وُضِعَ ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ فِي الْجَوَابِ: جَعْلُهُ عُرْفِيًّا عَلَى مِثَالِ أَهْلِ الْعُرْفِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الشَّارِعَ يَضَعُ الشَّرْعِيَّاتِ أَبَدًا عَلَى وَزْنِ الْعُرْفِيَّاتِ حَتَّى تَكُونَ الطِّبَاعُ أَقْبَلَ عَلَيْهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ أُطْلِقَ وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ التَّقْرِيرُ، وَفِيمَا قُلْنَاهُ تَقْرِيرٌ مِنْ وَجْهٍ، وَعِنْدَ هَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْإِيمَانِ عَنْ الصَّلَاةِ، وَبِالصَّلَاةِ عَنْ الْإِيمَانِ، إنَّمَا كَانَ لِنَوْعِ تَعَلُّقٍ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ دَلِيلُ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَفِي اللُّغَةِ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِأَحَدِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ عَنْ الْآخَرِ. وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْخِلَافِ الثَّانِي أَنَّهُ هَلْ يَحْتَاجُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ إلَى عَلَاقَةٍ أَمْ لَا؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَحْتَاجُ، وَعَلَى الثَّانِي نَعَمْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ " الْحَاوِي ": وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الشَّرْعَ لَاحَظَ فِيهَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ. قُلْت: وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ، قَالَهُ ابْنُ اللَّبَّانِ فِي تَرْتِيبِ الْأُمِّ ". ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ فِي وُقُوعِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ هَلْ وَقَعَ النَّقْلُ فِيهَا مُطْلَقًا سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِأُصُولِ الدِّينِ كَالْإِيمَانِ أَوْ فُرُوعِهِ أَوْ إنَّمَا وَقَعَ فِي فُرُوعِهِ فَقَطْ؟ فَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي التَّسْمِيَةِ، فَخَصُّوا اللَّفْظَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفُرُوعِ بِالشَّرْعِيِّ،

وَبِالْأُصُولِ بِالدِّينِيِّ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى أَنَّ النَّقْلَ إنَّمَا وَقَعَ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَقَطْ، وَهُوَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " وَابْنُ الصَّبَّاغِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفَرْعِيَّةَ مَحَلُّ وِفَاقٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الدِّينِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ فَحَكَى الْخِلَافَ فِي الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَطْعَ بِالْمَنْعِ فِي الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي " الْقَوَاطِعِ ": وَصُورَةُ الْخِلَافِ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ: الْأَوَّلُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مِنْ النَّاس مَنْ نَفَى النَّقْلَ مُطْلَقًا فِي الدِّينِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ كَالْقَاضِي، وَمَنْ أَثْبَتَهُ مُطْلَقًا كَالْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الدِّينِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، فَأَثْبَتَ الشَّرْعِيَّةَ وَنَفَى الدِّينِيَّةَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِعَكْسِهِ، فَالْقَاضِي يَقُولُ: إنَّهَا مُقَرَّةٌ عَلَى حَقَائِقِهَا فِي اللُّغَةِ لَمْ تُنْقَلْ وَلَمْ يُزَدْ فِيهَا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: كَذَلِكَ زِيدَ فِي الِاعْتِدَادِ بِمَدْلُولَاتِهَا أُمُورٌ أُخْرَى. وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ يَقُولُ: إنَّهَا مُقَرَّةٌ عَلَى مَجَازَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: نُقِلَتْ عَنْ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ نَقْلًا بِالْكُلِّيَّةِ إلَى مَعَانٍ أُخْرَى شَرْعِيَّةٍ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ النَّقْلِ إلَى الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ يَقُولَانِ: اسْتَعْمَلَهَا الشَّارِعُ مَجَازَاتٍ ثُمَّ اُشْتُهِرَتْ فَصَارَتْ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً، لِغَلَبَتِهَا فِيمَا نُقِلَتْ إلَيْهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الرَّازِيَّ، وَلِهَذَا نَقَلَ الْهِنْدِيُّ عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَا كَانَ لُغَوِيًّا كَمَا فِي الْحَقَائِقِ الْعُرْفِيَّةِ دُونَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ مَنْقُولًا عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَفَى النَّقْلَ جُمْلَةً، وَأَمَّا

مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي النَّقْلِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ مَجَازًا لُغَوِيًّا. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: عِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مَجَازَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَضْعِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ أُفِيدَ بِهَا مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ، وَهِيَ حَقَائِقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَضْعِ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَضَعْهَا إلَّا لِتِلْكَ الْمَعَانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِاعْتِبَارَيْنِ. وَتَوَقَّفَ الْآمِدِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا. تَنْبِيهَانِ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ هَذَا الْخِلَافُ يَضْمَحِلُّ إذَا حُقِّقَ الْأَمْرُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ يُسْتَفَادُ مِنْهَا فِي الشَّرْعِ زِيَادَةٌ عَلَى أَصْلِ وَضْعِ اللُّغَةِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُصَيِّرُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ مَوْضُوعَةً كَالْوَضْعِ الِابْتِدَائِيِّ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ، أَوْ هِيَ مُبْقَاةٌ عَلَى الشَّرْعِ، أَوْ هِيَ مُبْقَاةٌ عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا تَصَرَّفَ فِي شُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا؟ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فِيهَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مِنْ " تَعْلِيقِهِ " كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْأَسْمَاءُ الَّتِي نَقَلَهَا الشَّارِعُ مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا زَادَ فِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ، فَأَبْقَاهَا الشَّارِعُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَزَادَ الْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. وَالثَّانِي: مَا نَقَصَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالْحَجِّ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ، وَفِي الشَّرْعِ: الْقَصْدُ إلَى بَيْتِهِ الْحَرَامِ.

الثَّالِثُ: مَا نَقَصَ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ وَزَادَ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ كَالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكُ، وَفِي الشَّرْعِ: إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ مَعَ شُرُوطٍ وَالنِّيَّةِ وَغَيْرِهَا. [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي إذَا أَثْبَتْنَا النَّقْلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ الشَّارِعُ بِالِاسْمِ الشَّرْعِيِّ، وَنَعْنِي بِهِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُ عَنَى بِبَيَانٍ مُتَقَدِّمٍ، أَوْ مُقَارَنٍ، إنْ مَنَعْنَا تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، أَوْ بَيَانٍ مُتَأَخِّرٍ إنْ جَوَّزْنَاهُ. الْبَحْثُ الْخَامِسُ فِي تَبَيُّنِ الْمُرَادِ بِالدِّينِيِّ وَالشَّرْعِيِّ: قَسَّمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ اللَّفْظَ إلَى دِينِيٍّ وَشَرْعِيٍّ فَالْأَسْمَاءُ الدِّينِيَّةُ ثَلَاثَةٌ: الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْفِسْقُ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الشَّرْعِ فِي غَيْرِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَغَرَضُهُمْ أَنَّ الشَّرْعَ اسْتَعْمَلَهَا فِي غَيْرِ مَا اسْتَعْمَلَهَا الْوَاضِعُ اللُّغَوِيُّ؛ وَلِهَذَا أَثْبَتُوا الْوَاسِطَةَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ عِنْدَهُمْ أَسْمَاءٌ لُغَوِيَّةٌ نُقِلَتْ فِي الشَّرْعِ عَنْ أَصْلِ وَضْعِهَا إلَى أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ، كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ، فَزَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إنَّمَا حَدَثَتْ فِي الشَّرْعِ، نُقِلَتْ إلَيْهَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مِنْ اللُّغَةِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِ الدِّينِيَّةِ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي " الْقَرِيبِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " " وَالْبُرْهَانُ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَفِي " الْمَحْصُولِ " عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ تَخْتَصُّ بِأَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالدِّينِيَّةُ بِأَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ كَالْمُؤْمِنِ وَالْفَاسِقِ، وَقَضِيَّتُهُ:

أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ دَاخِلٌ فِي الشَّرْعِيِّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْفِسْقُ فِي الشَّرْعِيَّةِ، وَيَخْرُجُ عَنْ الدِّينِيَّةِ، وَأَنَّ أَسْمَاءَ الْفَاعِلِينَ كُلَّهَا دِينِيَّةٌ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُصَلِّي وَالْمُزَكِّي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُمَا تَابِعَانِ لِلصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُمَا شَرْعِيَّانِ، وَالْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ أَصْلٌ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَهُمَا مِنْ الدِّينِيَّةِ. وَالصَّوَابُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا عَمَلِيَّةٌ، وَهِيَ الشَّرْعِيَّةُ، أَوْ اعْتِقَادِيَّةٌ وَهِيَ الدِّينِيَّةُ. الْبَحْثُ السَّادِسُ: أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: مَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَمَا فِي كَلَامِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلَامِ الشَّارِعِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَشَرِّعَةِ فَلَيْسَتْ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً بَلْ عُرْفِيَّةً، وَلَيْسَتْ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي شَيْءٍ، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ غَيْرَ الْقَاضِي عَضُدِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الْبَحْثُ السَّابِعُ: أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَرْجَمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ هَلْ هِيَ وَاقِعَةٌ أَمْ لَا كَمَا فِي " الْمَحْصُولِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرْجَمَهَا بِالْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " الْمُنْتَهَى "، وَالْبَيْضَاوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ "، وَهُوَ الصَّوَابُ، لِيَشْمَلَ كُلًّا مِنْ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَجَازَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ الْبَحْثَ جَارٍ فِيهِمَا وِفَاقًا وَخِلَافًا. الْبَحْثُ الثَّامِنُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ نَشَأَتْ فِي

الِاعْتِزَالِ، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، أَيْ جَعَلُوا الْفِسْقَ مَنْزِلَةً مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ، وَالْفَاسِقُ مُوَحِّدٌ وَمُصَدِّقٌ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ، وَنُقِلَ فِي الشَّرْعِ إلَى مَنْ يَرْتَكِبُ شَيْئًا مِنْ الْمَعَاصِي. فَمَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْهَا خَرَجَ عَنْ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَبْلُغْ الْكُفْرَ، ثُمَّ أَجَازَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَبْقَى عَلَى مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ، وَأَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَنْقُولَةٌ، قَالَ: وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ النَّقْلِ أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَ الْإِيمَانَ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ إلَى الشَّرْعِيِّ بِأَنَّهُ نَقَلَ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَنَحْوَهُمَا إلَى مَعَانٍ أُخْرَى قَالَ: فَمَا بَالُ الْإِيمَانِ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْخِلَافِ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ فِي ظُهُورِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِنَقْلِ الْأَسَامِي لَا يُفْضِي إلَى تَفْسِيقِ الصَّحَابَةِ، وَلَا إلَى خُرُوجِ الْفَاسِقِ إلَى الْإِيمَانِ، وَعِنْدَهُمْ يُفْضِي إلَى ذَلِكَ الْبَحْثُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا وَهُوَ أَصْلُهُ أَنَّهُ هَلْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَاسِطَةٌ وَهُوَ الْفِسْقُ أَمْ لَا؟ فَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُثْبِتُونَهُ، وَأَثْبَتَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ قَائِلِينَ بِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَلَا

كَافِرٍ، أَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ فَبِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَلِأَنَّ الْإِيمَانَ فِعْلُ الْوَاجِبِ الَّذِي مِنْهُ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ أَخَلَّ بِهِ فَرَأَوْا أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالتَّسْمِيَةِ وَقَعَ مِنْ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَعْنًى لَمْ تُرِدْهُ الْعَرَبُ، وَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ النَّافِيَةِ لِلْإِيمَانِ عَنْ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، نَحْوَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ التَّصْدِيقِ. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ فَيُؤَوِّلُونَهُ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ وَغَيْرِهِ، وَمَنَعُوا كَوْنَ الشَّرْعِ غَيْرَ اللُّغَةِ، بَلْ التَّصْدِيقُ بَاقٍ فِيهِ، وَقَالُوا: صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ مُطِيعٌ بِإِيمَانِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْفَرْعِيَّةِ، كَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا بَاطِلَةٌ قَالَ: إنَّهُ مَا أَتَى بِمَا يُسَمَّى صَلَاةً فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] وَمَنْ صَحَّحَهَا قَالَ: دُعَاءُ الشَّرْعِ غَيْرُ دُعَاءِ اللُّغَةِ، وَكَذَا الْبَاقِي. وَاسْتَشْكَلَ الْإِمَامُ فِي الْمَعَالِمِ " عَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَاعِدَةَ: أَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَاعْتِقَادٍ، فَيَنْبَغِي إذَا انْتَفَى الْعَمَلُ أَنْ يَنْتَفِيَ الْإِيمَانُ، قَالَ: وَهُوَ سُؤَالٌ صَعْبٌ، وَلِأَجْلِهِ طَرَدَتْ الْمُعْتَزِلَةُ مَذْهَبَهُمْ فَسَلَبُوا الْإِيمَانَ عَنْهُ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِ تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ " وَأَجَابَ عَنْهَا: بِأَنَّ لِلْإِيمَانِ أَصْلًا مَتَى نَقَصَ عَنْهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: يَنْقُصُ لَمْ يَزُلْ الِاسْمُ، وَلَكِنْ يَزْدَادُ بَعْدُ إيمَانًا إلَى إيمَانِهِ، فَإِنْ نَقَصَتْ الزِّيَادَةُ الَّتِي بَعْدَ الْأَصْلِ لَمْ يَنْقُصْ الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ، وَذَلِكَ كَنَخْلَةٍ تَامَّةٍ ذَاتِ أَغْصَانٍ وَوَرَقٍ، فَكُلَّمَا قُطِعَ مِنْهَا غُصْنٌ

لَمْ يَزُلْ عَنْهَا اسْمُ الشَّجَرَةِ، وَكَانَتْ دُونَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ اسْمُهَا، وَهِيَ شَجَرَةٌ نَاقِصَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنْ اسْتِكْمَالِهَا التَّامَّةَ الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُجَرَّدَةً عَنْ الْقَرِينَةِ مُحْتَمِلَةً الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَالشَّرْعِيَّ فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟ فَمَنْ أَثْبَتَ النَّقْلَ قَالَ: إنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى عُرْفِ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ كُلَّ مُتَكَلِّمٍ يُحْمَلُ لَفْظُهُ عَلَى عُرْفِهِ، وَقِيَاسُهُ قَوْلُ الْقَاضِي: حَمْلُهَا عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، لَكِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى أَصْلِهِ هُنَا. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: قَوْلُ الْقَاضِي: إنَّهُ مُجْمَلٌ يُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ فِي حُجَّةِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ قَوْلٌ آخَرُ بِإِثْبَاتِهَا، وَإِلَّا فَالْإِجْمَالُ مَعَ اتِّحَادِ جِهَةِ الدَّلَالَةِ مُحَالٌ، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَيْنَ لَهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ؟ فَإِنَّهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ النِّسْبَةِ إلَى الْمُسَمَّيَيْنِ. قُلْت: وَبِهَذَا الْأَخِيرِ صَرَّحَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُونَ لَوْ ثَبَتَ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى مُوجِبِ اللُّغَةِ أَوْ الشَّرْعِ؟ قُلْنَا: يَجِبُ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَا هُوَ لَهَا فِي اللُّغَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَا هُوَ فِي الشَّرْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْأَمْرَيْنِ، فَيَجِبُ لِتَجْوِيزِ ذَلِكَ الْوَقْفِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ. وَقَالَ السُّهْرَوَرْدِيّ: تَرَدَّدَ الْقَاضِي بَيْنَ نَفْيِ الْكَمَالِ وَالصِّحَّةِ لَيْسَ لِاعْتِرَافِهِ بِاللُّغَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ لِأَنَّهُ يَرَى الْإِضْمَارَ، وَلَا تَعَيُّنَ لِأَحَدِ الْإِضْمَارَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: مَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَمَا فِي

كَلَامِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَهَذَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الشَّرْعِيَّةِ، إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلَامِ الشَّارِعِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرْعِيَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ لَا حَاجَةَ لَهُمْ فِيهَا إلَى الْقَرِينَةِ كَمَا هُوَ حُكْمُ الْحَقَائِقِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا هَلْ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ إلَّا بِالشَّرْعِ، أَوْ هُوَ ظَاهِرٌ قَبْلَ وُرُودِ الْبَيَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَبَنَوْا عَلَيْهِمَا أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ هَلْ جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ كَمَا جَاءَ بِبَيَانِ الْحُكْمِ، أَوْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَالشَّرْعُ اخْتَصَّ بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ؟ فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: إنَّ الشَّرْعَ أَحْدَثَ الِاسْمَ كَالْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي قَالَ: إنَّ الِاسْمَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْبَيَانُ مِنْ الشَّرْعِ. وَقَالَ أَيْضًا: اخْتَلَفُوا فِي اسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ هَلْ جَاءَ بِبَيَانِ الشَّرْعِ كَمَا جَاءَ بِبَيَانِ الْحُكْمِ، كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَالشَّرْعُ اخْتَصَّ بِبَيَانِ الْحُكْمِ؟ عَلَى ثَلَاثِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَحْدَثُ الْأَسْمَاءِ شَرْعًا كَالْأَحْكَامِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ، فَجَعَلَهُ مُسْتَحْدَثًا بِالشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ مُخْتَصٌّ بِوُرُودِ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا الْأَسْمَاءُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَوْ وَرَدَتْ شَرْعًا لَصَارُوا مُخَاطَبِينَ بِمَا لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِمُجْمَلَةٍ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَافَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّهَا أَسْمَاءٌ قَدْ كَانَ لَهَا فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، فَكَانَ حَقِيقَتُهَا مَا نَقَلَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ، وَمَجَازُهَا مَا قَرَّرَهَا الشَّرْعُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْحَقِيقَةِ، فَعَلَى هَذَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ الدُّعَاءِ هُوَ مُسَمًّى فِي اللُّغَةِ صَلَاةً.

مَسْأَلَةٌ كَمَا زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ بَعْضَ الْأَسْمَاءِ اسْتَعْمَلَهُ الشَّارِعُ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، زَعَمَ آخَرُونَ أَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ كَلِمَاتٌ لَيْسَتْ بِصِيَغٍ عَرَبِيَّةٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُعَرَّبِ - بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا - مَا أَصْلُهُ عَجَمِيٌّ ثُمَّ، عُرِّبَ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ عَلَى نَحْوِ اسْتِعْمَالِهَا لِكَلَامِهَا، فَقِيلَ: مُعَرَّبٌ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْعَجَمِيِّ وَالْعَرَبِيِّ، وَهُوَ عَكْسُ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَعْنَى بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ، وَفِي وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى إثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَنْ أَثْبَتَهَا وَجَعَلَهَا مَجَازَاتٍ لُغَوِيَّةٍ، لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُ عَرَبِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَيْسَ هَذَا الْخِلَافُ مَعَ مَنْ يَقُولُ فِي الشَّرِيعَةِ أَسْمَاءٌ مَنْقُولَةٌ مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ بَلْ ذَاكَ فَنٌّ آخَرُ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ اللُّغَةِ ": وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ. قُلْت: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي الْبَابِ الْخَامِسِ، فَقَالَ: وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ مَنْ لَوْ أَمْسَكَ عَنْ بَعْضِ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ لَكَانَ الْإِمْسَاكُ أَوْلَى لَهُ، فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: إنَّ فِي الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا وَأَعْجَمِيًّا، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ إلَّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَوَجَدْنَا قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ قَبْلِ

ذَلِكَ مِنْهُ تَقْلِيدًا، وَتَرْكًا لِلْمَسْأَلَةِ لَهُ عَنْ حُجَّةٍ، وَمَسْأَلَةِ غَيْرِهِ مِمَّنْ خَالَفَهُ، وَبِالتَّقْلِيدِ أَغْفَلَ مَنْ أَغْفَلَ مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُمْ. اهـ. وَقَدْ نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ "، ثُمَّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْعَرَبِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِأَسْرِهِمْ ثُمَّ نَصَرَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُثْبِتِينَ لَهُ كِبَارٌ، فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ كَلَامِهِمْ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": لَعَلَّ قَائِلَهُ أَرَادَ أَنَّ فِيهِ مَا يَجْهَلُ مَعْنَاهُ بَعْضُ الْعَرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ لَمَّا سَمِعَ {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] : لَا أَدْرَى مَا الْأَبُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنْت أَدْرِي مَعْنَى {افْتَحْ بَيْنَنَا} [الأعراف: 89] حَتَّى سَمِعْت أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ: تَعَالَ أُفَاتِحْك إلَى الْقَاضِي. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ لِوَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ عَرَبِيًّا. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرَادَ أَعْجَمِيًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي كَلَامِ الْعَجَمِ، فَحَوَّلَتْهَا الْعَرَبُ إلَى لُغَتِهِمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ فِي غَرِيبِهِ "، فَنَقَلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَّهُ قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ لِسَانًا سِوَى الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْقَوْلَ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ. مِثْلَ: " سِجِّيلٍ " " وَمِشْكَاةٍ " " وَالْيَمِّ " " وَ " الطُّورِ " وَ " أَبَارِيقَ " وَ " إسْتَبْرَقٍ " وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ: وَهَؤُلَاءِ أَعْلَمُ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَلَكِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى مَذْهَبٍ، وَذَهَبَ هُوَ إلَى غَيْرِهِ، وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي الْأَصْلِ، فَقَالَ أُولَئِكَ عَلَى الْأَصْلِ، ثُمَّ لَفَظَتْ بِهِ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، فَعَرَّبَتْهَا فَصَارَ عَرَبِيًّا بِتَعْرِيبِهَا إيَّاهُ، فَهِيَ عَرَبِيَّةٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَعْجَمِيَّةُ الْأَصْلِ، فَهَذَا الْقَوْلُ يُصَدِّقُ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا. اهـ. وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ النَّحْوِيُّ: جَمِيعُهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَرْبَابِ اللِّسَانِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا أَعْجَمِيَّاتٌ تَلَقَّتْهَا الْعَرَبُ وَعَمِلَتْ بِهَا، وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مَلْآنُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ: " إبْرَاهِيمَ "، " وَإِسْحَاقَ "، " وَيَعْقُوبَ "، " وَجِبْرِيلَ "، " وَيُوسُفَ "، " وَيُونُسَ "، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ " كِتَابِهِ " فِيمَا لَا يَنْصَرِفُ، وَفِي النَّسَبِ وَالْأَمْثِلَةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ، فَإِنَّهُ مُجْمِعٌ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ مَلْآنُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَعْلَامُ أَعْجَمِيَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ أَعْجَمِيَّةٌ، وَفِي الْقُرْآنِ عَرَبِيَّةٌ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْأَعْجَمِيَّةِ مُعَرَّبَةٌ فَصِيحَةٌ، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةً وَاحِدَةً أَعْجَمِيَّةً لَا تُعْرِبُهَا الْعَرَبُ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْأَعْلَامِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَشَيْخُهُ الْإِبْيَارِيُّ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ الْأَعْلَامِ كَاللِّجَامِ وَالْفِرِنْدِ. أَمَّا فِيهَا فَلَا، وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ صَرْفِ نَحْوِ إبْرَاهِيمَ لِلْعَجَمِيَّةِ وَالْعَلَمِيَّةِ.

تَنْبِيهٌ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُقُوعِ الْمُعَرَّبِ فِي اللُّغَةِ، وَأَطْلَقُوا هَذَا إطْلَاقًا، وَذَكَرَ حَازِمٌ فِي " مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ " تَقْسِيمًا حَسَنًا، فَقَالَ: إنْ كَانَ اللَّفْظُ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْمًا أَوْ فِعْلًا أَوْ حَرْفًا، فَإِنْ كَانَ فِعْلًا أَوْ حَرْفًا، فَلَا يَجُوزُ إيقَاعُهُ أَلْبَتَّةَ فِيمَا أُجْرِيَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى قَوَانِينِ الْعَرَبِ وَمَجَارِي كَلَامِهَا، وَإِنْ كَانَ اسْمًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِمُسَمَّاهُ اسْمٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَلَا يَخْلُوَا إمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْمَانِ الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ عَلَمَيْنِ عَلَى الْمُسَمَّى أَوْ نَكِرَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَا عَلَمَيْنِ جَازَ تَعْرِيبُ الْعَجَمِيِّ، وَإِنْ كَانَا نَكِرَتَيْنِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ؛ إذْ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عَرَبِيٍّ أَنْ يُعَرِّبَ غَيْرَ الْأَعْلَامِ. وَأَعْنِي بِالتَّعْرِيبِ: أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا أَجْرَى مِنْ الْكَلَامِ عَلَى قَوَانِينِ كَلَامِ الْعَرَبِ بِأَنْ يُلْحِقَهُ لَوَاحِقَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسَمَّى اسْمٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَجَائِزٌ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الِاسْمَ الَّذِي لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ حَيْثُ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الِاسْمُ مِنْ وَضْعِ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ كَانَ وَاقِفًا فِي بَعْضِ أَلْسُنِ الْعَجَمِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْمُ يَعْرِفُهُ أَهْلُ زَمَانِ مَنْ يُرِيدُ اسْتِعْمَالَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً أَوْ نَكِرَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْرَ الْعَلَمِ الَّذِي لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ لَا يَجُوزُ تَعْرِيبُهُ مَعَ وُجْدَانِ الْبَدَلِ مِنْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ عَرَّبَتْ أَسْمَاءً أَعْجَمِيَّةً نَكِرَاتٍ، فَذَلِكَ شَيْءٌ مَقْصُورٌ عَلَيْهَا، وَلَعَلَّهُمْ أَيْضًا إنَّمَا عَرَّبُوهَا، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَيَكُونُ وَجْهُ تَعْرِيبِهِمْ إيَّاهَا الْوَجْهَ الَّذِي اسْتَنْسَبُوا مَعَهُ لِلْمُحْدَثِ أَنْ يُعَرِّبَ النَّكِرَةَ حَيْثُ لَا يَجِدَ بَدَلًا مِنْهَا.

فَأَمَّا الْعَلَمُ فَسَائِغٌ لِلْمُحْدَثِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا يُعَرِّبُ مِنْ كَلَامِهِ وَجَدَ بَدَلًا مِنْهُ أَمْ لَا. فَائِدَةٌ قَالَ الثَّعَالِبِيُّ فِي " فِقْهِ اللُّغَةِ ": فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَسْمَاءٍ قَائِمَةٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ: " التَّنُّورُ "، " الْخَمِيرُ "، " الرُّمَّانُ "، " اللَّبَنُ "، " الدِّينَارُ " " الدِّرْهَمُ ". فَصْلٌ فِي أَسْمَاءٍ تَفَرَّدَتْ بِهَا الْفُرْسُ دُونَ الْعَرَبِ وَاضْطُرَّتْ الْعَرَبُ إلَى تَعْرِيبِهَا أَوْ تَرْكِهَا كَمَا هِيَ. فَمِنْهَا مِنْ الْأَوَانِي: " الْكُوزُ "، " الْجَرَّةُ "، " الْإِبْرِيقُ "، " الطَّشْتُ "، " الْخُوَانُ "، " الطَّبَقُ "، " الْقَصْعَةُ "، " السُّكْرُجَةُ ". وَمِنْ الْمَلَابِسِ: " السُّمُورُ "، " السِّنْجَابُ "، " الْخَزُّ "،

المعرب واقع في السنة أيضا

الدِّيبَاجُ "، " السُّنْدُسُ "، " النَّاصِحُ "، " الرَّاجِحُ ". وَمِنْ الْجَوَاهِرِ: " الْيَاقُوتُ "، " الْفَيْرُوزَجُ "، " الْبَلُّورُ ". وَمِنْ الْمَأْكُولَاتِ: " السَّمِيدُ "، " الجردق "، " الدرمك "، " الْكَعْكُ "، " السِّكْبَاجُ "، " الزيرياج "، " الطباهج "، " الْجَرْدَانُ "، " الزماورد "، " الفالوذج "، " اللَّوْزِينَجُ "، " الْجُوزَيَنْجُ "، " السكنجبين "، " الْخَلَنْجَيِينُ ". وَمِنْ الْأَقَاوِيَّةِ وَالرَّيَاحِينِ: " الْقِرْفَةُ "، " الدَّارَصِينُ "، " الْفُلْفُلُ "، " الكراويا "، " الزَّنْجَبِيلُ "، " الخولنجان "، " السَّوْسَنُ "، " الْمَرْكُوشُ "، " الْيَاسَمِينُ "، " الْجُلَّنَارُ "، " الْكَافُورُ "، وَ " الصَّنْدَلُ "، " الْقُرُنْفُلُ ". [الْمُعَرَّبُ وَاقِعٌ فِي السُّنَّةِ أَيْضًا] مَسْأَلَةٌ الْمُعَرَّبُ وَاقِعٌ فِي السُّنَّةِ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيهِ

كَابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ " بَابَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ، وَأَسْنَدَ فِيهِ عَنْ «أُمِّ خَالِدٍ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَبِي، وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنه سنه» . قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: هِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: الْقَتْلُ» . قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: هِيَ لُغَةُ الْحَبَشَةِ. فُرُوعٌ عَلَى جَوَازِ النَّقْلِ: الْأَوَّلُ: النَّقْلُ خِلَافُ الْأَصْلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ احْتِمَالِ النَّقْلِ وَبَقَائِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فَيَكُونُ الْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى. الثَّانِي: قَدْ سَبَقَ انْقِسَامُ الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ الْمُتَبَايِنَةِ وَالْمُتَوَاطِئَةِ

وَالْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُشَكَّكَةِ فَهَلْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ فِي الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ: أَمَّا الْمُتَبَايِنَةُ فَلَا شَكَّ فِيهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَكَذَلِكَ الْمُتَوَاطِئَةُ كَالصَّلَاةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَفْرُوضَةِ وَالنَّافِلَةِ وَصَلَاةِ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ، وَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرْضِ وَالنَّقْلِ. وَزَعَمَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ أَنَّ إطْلَاقَ الصَّلَاةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ الْأُخْرَى وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْمُومِئِ بِالظَّهْرِ وَنَحْوِهِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ يُمْكِنُ جَعْلُهُ مَدْلُولَ اللَّفْظِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ وَاقِعًا بِالتَّحَرُّمِ وَالتَّحَلُّلِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُهَا؟ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ؛ إذْ التَّوَاطُؤُ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ " التَّحْصِيلِ " نَحْوَهُ. وَأَمَّا الْمُشْتَرَكَةُ فَالْأَشْبَهُ وُقُوعُهَا أَيْضًا فَإِنَّ إطْلَاقَ الطَّهُورِ عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَعَلَى مَا يُدْفَعُ بِهِ لَيْسَ اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا؛ إذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعْنًى مُشْتَرَكٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولَ اللَّفْظِ، كَذَا قَالَ الْهِنْدِيُّ، وَهُوَ مُعْتَرَضٌ بِمِثْلِ مَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ.

وَأَمَّا الْمُشَكَّكَةُ: فَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ كَالْفَاسِقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ فَعَلَ الْكَبِيرَةَ الْوَاحِدَةَ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى فِعْلِ الْكَبَائِرِ الْمُتَعَدِّدَةِ، فَإِنَّ تَنَاوُلَهُ لِلثَّانِي بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَأَمَّا الْمُتَرَادِفُ: فَالْأَظْهَرُ وُقُوعُهُ أَيْضًا خِلَافًا لِلرَّازِيِّ كَالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ عِنْدَنَا وَالتَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَالْمَنْدُوبِ، هَذَا كُلُّهُ نَقْلٌ فِي الْأَسْمَاءِ، وَهِيَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدِهِمَا: مَا وَضَعَهُ بِإِزَاءِ الْمَاهِيَّاتِ الْجَعْلِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَأَمْثَالِهَا. وَالثَّانِي: الْأَسْمَاءُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْأَفْعَالِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ: الْمَصْدَرُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ وَاسْمُ الْمَفْعُولِ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَأَسْمَاءُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. فَاسْمُ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَاسْمُ الْمَفْعُولِ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَيَقْرُبُ مِنْهُ: أَنْتِ حَرَامٌ، وَأَنْتَ حُرٌّ، وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيِّ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ الطَّلَاقُ وَهَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَلَا يَبْعُدُ جَرَيَانُ مِثْلِهِ فِي الْعِتْقِ، وَفِي الضَّمَانِ ذَكَرُوا فِي صِيغَةِ: أَنَا ضَامِنٌ وَكَفِيلٌ وَقَبِيلٌ، وَفِي قَبِيلٍ وَجْهٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يَطَّرِدُ فِي الْحَمِيلِ. وَأَمَّا الْحُرُوفُ فَلَمْ يُنْقَلْ مِنْهَا شَيْءٌ، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُمَا.

أقسام الفعل

وَالْحَقُّ: أَنَّهُ كَالْأَفْعَالِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ نَقْلَ مُتَعَلِّقِ مَعَانِي الْحُرُوفِ مِنْ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ إلَى الشَّرْعِيَّةِ مُسْتَلْزِمٌ لِنَقْلِهَا أَيْضًا، وَفِي " نَعَمْ " بَحْثٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ السُّؤَالَ هَلْ هُوَ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ؟ وَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَلَمْ يُوجَدْ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَيُوجَدُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِمَصَادِرِهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَصْدَرُ شَرْعِيًّا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ كَانَ الْفِعْلُ الدَّالُّ عَلَيْهِ شَرْعًا كَصَلَّى وَزَكَّى، وَإِنْ كَانَ لُغَوِيًّا كَانَ الْفِعْلُ أَيْضًا لُغَوِيًّا كَأَكْثَرِ الْأَفْعَالِ. [أَقْسَامُ الْفِعْلِ] [أَقْسَامُ الْفِعْلِ] وَالْفِعْلُ يَنْقَسِمُ إلَى مَاضٍ وَأَمْرٍ وَمُضَارِعٍ. فَأَمَّا الْمُضَارِعُ: فَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الشَّرْعِ فِي شَيْءٍ أَصْلًا إلَّا فِي لَفْظَةِ " أَشْهَدُ " فِي الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهَا تَعَيَّنَتْ وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَكَذَلِكَ فِي اللِّعَانِ سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّهُ يَمِينٌ أَوْ شَهَادَةٌ، أَوْ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَجُوزُ فِي الْيَمِينِ: أُقْسِمُ بِاَللَّهِ وَأَشْهَدُ، وَلَا يَتَعَيَّنُ. وَأَمَّا الْمَاضِي: فَيُعْمَلُ بِهِ فِي الْإِنْشَاءَاتِ كَالْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ. وَأَمَّا فِعْلُ الْأَمْرِ: فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ فِي الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ، فَكَذَا يُعْمَلُ بِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُعْمَلُ بِالْمَاضِي عَلَى الصَّحِيحِ. الثَّالِثُ: صِيَغُ الْعُقُودِ كَبِعْتُ وَطَلَّقْت لَا شَكَّ فِي كَوْنِهَا وُضِعَتْ فِي اللُّغَةِ لِلْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كَذَلِكَ كَمَا إذَا صَدَرَ عَنْ إنْسَانٍ بَيْعٌ أَوْ طَلَاقٌ أَوْ غَيْرُهُمَا، ثُمَّ قَالَ: بِعْتُ أَوْ طَلَّقْتُ وَمُرَادُهُ

الْإِخْبَارُ عَمَّا نَصَّ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِاسْتِحْدَاثِ أَحْكَامٍ لَمْ تَكُنْ قَبْلُ، فَهَلْ هِيَ إخْبَارَاتٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بَاقِيَةٌ عَلَى الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ، أَوْ إنْشَاءَاتٌ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهَا إلَى الْإِنْشَاءَاتِ الْمَخْصُوصَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ عَلَى الثَّانِي وَنُسِبَ الْأَوَّلُ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَأَنْكَرَهُ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ السُّرُوجِيُّ فِي " الْغَايَةِ "، وَقَالَ: الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا إنْشَاءَاتٌ. قُلْت: وَمَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْبَدِيعِ ": إنَّهُ الْحَقُّ حِينَئِذٍ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِ أَحْكَامِهَا عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ يَثْبُتُ مَعَ آخِرِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهَا أَوْ عَقِبَهُ، وَنَسَبَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ " الْقَوْلَ بِأَنَّهَا إخْبَارَاتٌ لِاخْتِبَارِ أَئِمَّةِ النَّظَرِ مِنْ الْخِلَافِيِّينَ. قَالُوا: وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ إمَّا مُطْلَقًا كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْ إلَى مَجَازَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، وَلَا يَتَأَتَّى عَلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَتَحْرِيرُ الْقَوْلِ بِالْإِخْبَارِ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِك: بِعْت، الْإِخْبَارُ عَمَّا فِي قَلْبِك، فَإِنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ هُوَ التَّرَاضِي، وَوُضِعَتْ لَفْظَةُ بِعْت لِلدَّلَالَةِ عَلَى الرِّضَى، فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ بِهَا عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ بِتَقْدِيرِ وُجُودِهَا قُبَيْلَ اللَّفْظِ لِلضَّرُورَةِ، وَغَايَةُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ النَّقْلِ. وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا إنْشَاءٌ قَالُوا: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا نُقِلَتْ عَنْ مَعْنَى الْإِخْبَارِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَوُضِعَتْ لِإِيقَاعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهَا صِيَغٌ يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ مَدْلُولَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ، فَاعْتَبَرَ الشَّرْعُ

المجاز

إيقَاعَهَا مِنْ جِهَتِهِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ تَصْحِيحًا لِهَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَابِعَةً، وَلِهَذَا كَانَ جَعْلُهُ إنْشَاءً لِلضَّرُورَةِ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِكَوْنِهِ إخْبَارًا لَمْ يُجْعَلْ إنْشَاءً بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُطَلَّقَةِ وَالْمَنْكُوحَةِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا قَالَ: قَصَدْت الْأَجْنَبِيَّةَ. تَنْبِيهٌ كَذَا فَرَضُوا الْخِلَافَ فِي الْعُقُودِ، وَيُلْتَحَقُ بِهِ الْحُلُولُ كَفَسَخْتُ وَطَلَّقْت، فَالطَّلَاقُ إنْشَاءٌ لَا يَقُومُ الْإِقْرَارُ مَقَامَهُ، وَلَكِنْ يُؤَاخَذُ ظَاهِرًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْإِقْرَارَ بِالطَّلَاقِ عَلَى صِيغَتِهِ حَتَّى يَنْفُذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَصِيرُ إنْشَاءً حَتَّى يَنْفُذَ بَاطِنًا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْشَاءَ يَتَنَافَيَانِ، فَذَلِكَ إخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ، وَهَذَا إحْدَاثٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ. [الْمَجَازُ] ُ الْمَجَازُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْجَوَازِ، وَالْجَوَازُ فِي الْأَمَاكِنِ حَقِيقَةٌ وَهُوَ الْعُبُورُ، يُقَالُ: جُزْت الدَّارَ أَيْ عَبَرْتهَا، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي، وَمِنْهُ الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَصْدَرِ، وَنُقِلَ مِنْهُ إلَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ الْجَائِزُ

لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَلَاقَةِ. ثُمَّ نُقِلَ مِنْهُ إلَى الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، وَهُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنًى غَيْرِ مَوْضُوعٍ لَهُ أَوَّلًا يُنَاسِبُ الْمُصْطَلَحَ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ إنْ قُلْنَا: الْمَجَازُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ، فَإِنْ قُلْنَا: مَوْضُوعٌ، فَلْنَقُلْ بِوَضْعٍ ثَانٍ. وَخَرَجَ الْحَقِيقَةُ؛ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، وَأَشَارَ بِالْقَيْدِ الْآخَرِ إلَى شُمُولِ الْحَدِّ كُلَّ مَجَازٍ مِنْ شَرْعِيٍّ وَعُرْفِيٍّ عَامٍّ وَخَاصٍّ وَلُغَوِيٍّ، وَأَنَّ الْعَلَاقَةَ شَرْطٌ، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّ انْتِقَالَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ. وَكَلَامُ ابْنِ سِيدَهْ السَّابِقُ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ اسْتِعْمَالًا فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ فِي " الْبَصَائِرِ ": الْمَجَازُ طَرِيقُ الْمَعْنَى بِالْقَوْلِ، تَقُولُ: جَازَ يَجُوزُ جَوَازًا وَمَجَازًا، وَإِنْ جَعَلْته مَصْدَرًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ الْجَوَازُ كَالسُّلُوكِ فَكَأَنَّهُ سُلُوكُ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُسَمَّى مَجَازًا، لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُجَاوِزُونَ بِهِ عَنْ أَصْلِ الْوَضْعِ تَوَسُّعًا مِنْهُمْ، كَتَسْمِيَةِ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ أَسَدًا وَالْبَلِيدِ حِمَارًا.

فصل اختلفوا في أن المجاز موضوع أم لا

[فَصْلٌ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَجَازَ مَوْضُوعٌ أَمْ لَا] اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَجَازَ مَوْضُوعٌ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: مَوْضُوعٌ كَالْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ بِوَضْعٍ أَصْلِيٍّ، وَالْمَجَازُ بِوَضْعٍ طَارٍ، وَقِيلَ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ، بَلْ الْمَوْضُوعُ طَرِيقُهُ دُونَ لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ فِي وَضْعِهِمْ الْحَقِيقَةَ غُنْيَةً عَنْ وَضْعِ الْمَجَازِ، وَلَكِنْ وَضَعُوا الْمَجَازَ تَوْسِعَةً لِلنَّاسِ فِي الْكَلَامِ، وَقِيلَ: لَمْ يَضَعُوا لَفْظَهُ وَلَا طَرِيقَهُ؛ لِأَنَّهُ عِلَّةٌ لَهُ، وَمَتَى كَانَتْ الْعِلَّةُ مَوْضُوعَةً كَانَ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، كَالْعِلَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً كَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيهَا مَنْصُوصًا فَيَفْسُدُ بَابُ الْمَجَازِ، وَهُوَ خِلَافُ إجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْكَلَامَ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، لَكِنَّ الْمَجَازَ عُرِفَ بِالتَّأَمُّلِ فِي أَشْعَارِهِمْ، وَهَذَا الْخِلَافُ حَكَاهُ صَاحِبُ " الْمِيزَانِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. تَنْبِيهٌ الْوَضْعُ فِي الْمَجَازِ خِلَافُ الْوَضْعِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَعَلُّقُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً لَهُ، وَأَمَّا الْوَضْعُ فِي الْمَجَازِ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ، فَالْمُرَادُ بِهِ كَمَا قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": أَنْ يَكُونَ نَوْعُ ذَلِكَ الْمَجَازِ مَنْقُولًا عَنْ الْعَرَبِ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، كَاسْتِعْمَالِهِمْ الْكُلَّ فِي الْجُزْءِ وَعَكْسِهِ، هَكَذَا جَعَلَ هَذَا الْخِلَافَ هُوَ الْخِلَافُ الْآتِي فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ النَّقْلُ وَفِيهِ نَظَرٌ كَمَا سَبَقَ، وَقِيلَ: الْخِلَافُ فِيهِ يَلْتَفِتُ عَلَى تَفْسِيرِ الْوَضْعِ بِأَنَّهُ التَّعْيِينُ مُطْلَقًا، أَوْ التَّعْيِينُ الَّذِي بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَوْضُوعٌ لَا بِمَعْنَى تَوَقُّفِ الِاسْتِعْمَالِ بَعْدَ الْمُنَاسَبَةِ بِإِذْنِ الْوَاضِعِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى وَضْعِ الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا كَانَ وَضْعًا غَيْرَ أَوْلَى.

مَسْأَلَةٌ إذَا قُلْنَا: إنَّهُ مَوْضُوعٌ، انْقَسَمَ كَالْحَقِيقَةِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، لُغَوِيٍّ وَشَرْعِيٍّ وَعُرْفِيٍّ، فَالشَّرْعِيُّ وَالْعُرْفِيُّ يَجِيءُ فِيهِمَا الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ. وَأَمَّا اللُّغَوِيُّ فَالْمَجَازُ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْثُ قَالَ: لَا مَجَازَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ شَمِلَتْ جَمِيعَ الْمُسَمَّيَاتِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّجَوُّزِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ ": وَالظَّنُّ بِالْأُسْتَاذِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يُسَمُّوهُ بِذَلِكَ بَلْ اسْمُهُ مَعَ قَرِينَةٍ حَقِيقَةٌ فَمَمْنُوعٌ، فَإِنَّ كُتُبَهُمْ مَشْحُونَةٌ بِتَلْقِيبِهِ مَجَازًا، وَلَوْ صَحَّ كَوْنُ الْمَجْمُوعِ حَقِيقَةً لَمْ يَقْدَحْ فِي تَسْمِيتِهِمْ الِاسْمَ بِانْفِرَادِهِ مَجَازًا، وَقِيلَ: الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ؛ إذْ هُوَ لَا يُنْكِرُ اسْتِعْمَالَ الْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ وَأَمْثَالِهِ، بَلْ يَشْتَرِطُ فِي ذَلِكَ الْقَرِينَةَ، وَيُسَمِّيهِ حِينَئِذٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ يُنْكِرُ تَسْمِيَتَهُ مَجَازًا قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": لَعَلَّ الْأُسْتَاذَ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ ثُبُوتَ الْحَقِيقَةِ، وَلَا يُظَنُّ بِالْأُسْتَاذِ إنْكَارُ الِاسْتِعَارَاتِ مَعَ كَثْرَتِهَا، ثُمَّ قَالَ فِي بَابِ التَّأْوِيلِ: " مَسْأَلَةٌ " قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: الظَّاهِرُ هُوَ الْمَجَازُ، وَالنَّصُّ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَرُبَّ مَجَازٍ هُوَ نَصٌّ، كَقَوْلِنَا: الْخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ، وَالتَّحْرِيمُ لَا يَتَعَلَّقُ

بِالْخَمْرِ حَقِيقَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35] بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ} [الأحزاب: 35] مَجَازٌ فِي حِفْظِ الْفَرْجِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَقْصُودِهِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: الظَّاهِرُ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فَهْمُ مَعْنًى مِنْهُ اهـ. . فَلْيُنْظَرْ فِي مُطَابَقَةِ هَذَا النَّقْلِ لِلْمَنْقُولِ مِنْهُ هُنَا. وَرَأَيْت بِخَطِّ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ كَجٍّ حَكَى عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ إنْكَارَ الْمَجَازِ كَقَوْلِ الْأُسْتَاذِ، وَهُوَ غَرِيبٌ، عَكْسُ مَقَالَةِ تِلْمِيذِهِ ابْنِ جِنِّي، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ تِلْمِيذَهُ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ جِنِّي أُعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ، وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ فِي كِتَابِ " الْخَصَائِصِ " عَكْسَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: أَنَّ الْمَجَازَ غَالِبُ اللُّغَاتِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ جِنِّي، وَقَالَ: فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ أَحَالَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَنَا: شَرِبْت مَاءَ الْبَحْرِ، وَهَذَا مَنْعٌ مِنْهُ لِوُقُوعِ الْمَجَازِ. قُلْت: الَّذِي مَنَعَهُ سِيبَوَيْهِ حَقِيقَةً لِامْتِنَاعِ تَصَوُّرِهِ ذَلِكَ، أَمَّا إذَا أُرِيدَ الْبَعْضُ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ.

تَنْبِيهٌ لَمْ يُبَيِّنُوا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَلْ هُوَ فِي الْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ، أَوْ فِي الْجَوَازِ كَمَا هُوَ فِي الْمُشْتَرَكِ وَالْمُرَادِفِ؟ وَظَاهِرُ دَلِيلِ الْأُسْتَاذِ أَنَّهُ فِي الِامْتِنَاعِ لِاحْتِجَاجِهِ فَإِنَّهُ مُخِلٌّ بِالتَّفَاهُمِ، وَهَذَا يُنَاسِبُ الْمَنْعَ. مَسْأَلَةٌ بَالَغَ ابْنُ جِنِّي فَادَّعَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى اللُّغَةِ الْمَجَازُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ، وَقَالَ تِلْمِيذُ ابْنِ جِنِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَتَّوَيْهِ: الْكُلُّ مَجَازٌ وَهُمَا شَاذَّانِ، وَعِبَارَةُ ابْنِ جِنِّي: وَأَكْثَرُ اللُّغَةِ لِمَنْ تَأَمَّلَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَذَلِكَ عَامَّةُ الْأَفْعَالِ نَحْوَ قَامَ زَيْدٌ وَقَعَدَ عَمْرٌو، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ جَمِيعُ الْقِيَامِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَهُوَ جِنْسٌ، وَالْجِنْسُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ؟ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَضْعِ الْكُلِّ مَوْضِعَ الْبَعْضِ لِلِاتِّسَاعِ وَالْمُبَالَغَةِ وَتَشْبِيهِ الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ، وَحُكِيَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ. وَغَرَضُ ابْنِ جِنِّي مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ الْقَدِيمِ نَحْوَ خَلْقِ اللَّهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَنَحْوَهُ. قَالَ: لِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ خَالِقًا لِأَفْعَالِنَا، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا لَكَانَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَفْعَالِنَا، وَيَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ بِقِيَامِ زَيْدٍ مَجَازٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ الْحَالَةُ الَّتِي عَلِمَ عَلَيْهَا قِيَامَ عَمْرٍو، وَلَسْنَا نُثْبِتُ لَهُ تَعَالَى عِلْمًا؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - عَالِمٌ بِنَفْسِهِ إلَّا

مسألة المجاز في القرآن

مَعَ ذَلِكَ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَتْ حَالَةُ عِلْمِهِ بِجُلُوسِ عَمْرٍو هِيَ حَالَةُ عِلْمِهِ بِقِيَامِ زَيْدٍ. قَالَ: وَكَذَلِكَ ضَرَبْتُ عَمْرًا مَجَازٌ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى بَعْضِهِ. قُلْت: وَقَدْ اسْتَدْرَكَ بِهَذَا الْمَرْكَبِ الصَّعْبِ إلَى أُمُورٍ قَبِيحَةٍ تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْهَا. [مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ فِي الْقُرْآنِ] ِ] وَوَقَعَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] {لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: 11] وَقَدْ صَنَّفَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ كِتَابًا حَافِلًا فِي ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] هَذَا مِنْ مَجَازِ اللُّغَةِ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: سَنُجْرِي عَلَيْك رِزْقَك. إنَّا نَشْتَغِلُ بِك. وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، وَنَسَبَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " إلَى الْحَشْوِيَّةِ.

قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَحُكِيَ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ إذَا أَنْكَرَ الْمَجَازَ فِي اللُّغَةِ، فَلَأَنْ يُنْكِرَهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى، لِأَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ. قُلْت: وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " شَرْحِ الْإِرْشَادِ " عَنْ الْأُسْتَاذِ وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِيمَا حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ، وَحَكَوْهُ عَنْ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَابْنِهِ، وَحَكَاهُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ عَنْ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ". وَحَكَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ عَنْ أَبِي مُسْلِمِ بْنِ يَحْيَى الْأَصْفَهَانِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ: إنَّهُ حَكَاهُ فِي كِتَابِهِ " الْأُصُولِ " عَنْ أَصْحَابِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَامِدٍ فِي أُصُولِهِ " لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ، لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ خِلَافُهُ. وَقِيلَ: إنَّمَا أَنْكَرَتْ الظَّاهِرِيَّةُ مَجَازَ الِاسْتِعَارَةِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ أَبِي الْفَتْحِ الْمَرَاغِيّ.

وَشُبْهَتُهُمْ: أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَعْدِلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا إذَا ضَاقَتْ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَيَسْتَعِيرُ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَوْ وَجَبَ خُلُوُّ الْقُرْآنِ مِنْ الْمَجَازِ لَوَجَبَ خُلُوُّهُ مِنْ التَّوْكِيدِ وَتَثْنِيَةِ الْقَصَصِ وَالْإِشَارَاتِ إلَى الشَّيْءِ دُونَ النَّصِّ، وَلَوْ سَقَطَ الْمَجَازُ مِنْ الْقُرْآنِ ذَهَبَ شَطْرُ الْحُسْنِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَجَازَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ مَمْنُوعٌ، بَلْ قَدْ يُرَادُ بِهِ امْتِحَانُ الْعُلَمَاءِ وَإِتْعَابُ خَوَاطِرِهِمْ وَحَدُّ فِكْرِهِمْ بِاسْتِخْرَاجِهِ، وَطَلَبِ مَعَانِيهِ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ وَإِكْرَامِ مَنَازِلِهِمْ كَمَا فِي الْخِطَابِ بِالْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَشَابِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي فِيهَا أَمَارَةُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ خَفِيٍّ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ الْمَجَازِ فِي اللُّغَةِ إثْبَاتُهُ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ فُورَكٍ: مَنْ أَنْكَرَ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ، فَقَدْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ؛ لِأَنَّ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ مَجَازًا وَحَقِيقَةً، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ عَلَى لُغَتِهِمْ، وَمَنْ نَازَعَ فِي إعْطَاءِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُ مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ، فَقَدْ نَازَعَ فِي اللَّفْظِ مَعَ تَسْلِيمِ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَاسْتَدَلَّ ابْنُ سُرَيْجٍ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] فَقَالَ: الصَّلَوَاتُ لَا تُهْدَمُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَوَاضِعَ الصَّلَوَاتِ، وَعَبَّرَ بِالصَّلَوَاتِ عَنْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَنْهُ جَوَابٌ. قُلْت: ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ " أَنَّ الصَّلَوَاتِ بُيُوتٌ تُبْنَى فِي الْبَرَارِيِ لِلنَّصَارَى يُصَلُّونَ فِيهَا فِي أَسْفَارِهِمْ تُسَمَّى صلوتا، فَعُرِّبَتْ

صَلَوَاتٍ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] إنَّمَا أَرَادَ هَذِهِ الْبُيُوتَ عَلَى مَا يُرْوَى فِي التَّفْسِيرِ. هَذَا كَلَامُهُ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَعَلَيْهِ فَلَا حُجَّةَ عَلَى دَاوُد إذْ لَا مَجَازَ حِينَئِذٍ. وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْقُرْآنِ نَفْسُ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ فَلَا مَجَازَ فِيهِ، أَوْ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ، فَلَا شَكَّ فِي اشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ: الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْحَقُّ، وَهُوَ مَا بِهِ الشَّيْءُ حَقُّ فِي نَفْسِهِ وَيُقَابِلُهُ الْمَجَازُ، وَيَكُونُ تَقَابُلُهُمَا تَقَابُلَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِ الْمَجَازِ عَنْهُ، وَقَدْ يُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَبِالْمَجَازِ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ قَطْعًا. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: الْمُخَالِفُ فِي وُقُوعِهِ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُخَالِفَ فِي أَنَّ مَا فِيهِمَا لَا يُسَمَّى مَجَازًا أَوْ فِي أَنَّ مَا فِيهَا مَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ رَجَعَ الْخِلَافُ إلَى اللَّفْظِ؛ لِأَنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَضَعُوا لَفْظَ الْمَجَازِ لِمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِيمَا لَمْ يُوضَعْ لِإِفَادَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْضُوعٌ فِي لُغَتِهِمْ لِلْمَمَرِّ وَالطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى اصْطِلَاحًا مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي تَحَقَّقَ الْخِلَافُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ غَرَضَنَا بِإِثْبَاتِ الْمَجَازِ يَرْجِعُ إلَى كَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِمْ وُجُودُهُ فِي لُغَتِهِمْ بِمَا لَا تُنْكِرُهُ الْأَكَابِرُ.

مسألة عن إنكار وقوع المجاز

[مَسْأَلَةٌ عَنْ إنْكَار وُقُوعِ الْمَجَازِ] مَسْأَلَةٌ [عَنْ ابْنِ دَاوُد إنْكَارُ وُقُوعِ الْمَجَازِ] حَكَى الْإِمَامُ الرَّازِيَّ عَنْ ابْنِ دَاوُد إنْكَارَ وُقُوعِهِ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا وَاسْتَنْكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ. قُلْت: هُوَ لَازِمٌ مِنْ إنْكَارِهِ فِي اللُّغَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مَجَازٍ إلَّا بَعْدَ وُرُودِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْحَاصِلُ: خَمْسَةُ مَذَاهِبَ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا. الْمَنْعُ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ. الْمَنْعُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ دُونَ مَا عَدَاهُمَا. الْوُقُوعُ مُطْلَقًا. وَالْخَامِسُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَسَيَأْتِي. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَبِيعُوا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ» وَأَرَادَ بِالصَّاعِ مَا فِيهِ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ، وَقَوْلُهُ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَقَوْلُهُ: وَقَدْ رَكِبَ فَرَسَ أَبِي طَلْحَةَ: «إنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا» وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ: أَمَّا بَيَانُ الْمَجَازِ مِنْ

التَّحْقِيقِ مِثْلَ «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْفَرَسِ: وَجَدْتُهُ بَحْرًا» . وَاَلَّذِي يَجُوزُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ وَالْحَقِيقَةِ أَنَّ مَشْيَهُ حَسَنٌ، كَقَوْلِك: عِلْمُ اللَّهِ مَعَنَا وَفِينَا. وَقَدْ صَنَّفَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ مُجَلَّدًا فِي مَجَازَاتِ الْآثَارِ كَمَا صَنَّفَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي مَجَازِ الْقُرْآنِ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ كَذَا فَرَضُوا الْخِلَافَ فِي الْوُقُوعِ وَهُوَ مُقْتَضَى الْجَزْمِ بِالْجَوَازِ، لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ فِي " كِتَابِهِ ": وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَجَازِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا، وَتَمَحَّلُوا لِلْمَجَازَاتِ فِي الْقُرْآنِ حَقَائِقَ بِوَجْهِ تَعَبُّدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ: إنَّهُ كَذِبٌ، أَنَّهُمْ إمَّا أَنْ يُرِيدُوا بِهِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِلِاسْتِقْرَاءِ بِوُجُودِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِالْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَاطَبَنَا بِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ الْخُصُوصَ فِيهِ. الثَّانِي مُرَادُنَا بِوُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى نَحْوِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْذَبَةِ، لَا الْمَجَازِ الْبَعِيدِ الْمُسْتَكْرَهِ. وَقَدْ تَوَسَّعَ فِيهِ قَوْمٌ فَضَلُّوا. قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ: مِنْ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ أَعْنِي الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ ضَلَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالضَّلَالَاتِ فِي تَأْوِيلِ أَكْثَرِ الْآيَاتِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ وُجُودِ الْمَجَازِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ غَلِطَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي تَأْوِيلِ كَثِيرٍ مِنْهُ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّ الْقَدَرِيَّةَ قَدْ رَكِبُوا هَذَا فَحَمَلُوا آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ هِيَ حَقَائِقُ عَلَى الْمَجَازَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] قَالُوا: لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ سُرْعَةِ إيجَادِهِ لِأَفْعَالِهِ، وَقَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] إنَّ هَذَا مَجَازٌ نَحْوَ امْتَلَأَ الْحَوْضُ، وَقَالَ: قُطْنِيٌّ، وَأَنْكَرُوا أَيْضًا قَوْلَ جَهَنَّمَ: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] وقَوْله تَعَالَى فِيهَا: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج: 17] وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْنَاهُ مَصِيرُ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى إلَيْهَا، وَهَذِهِ تَأْوِيلَاتٌ اسْتَنْبَطُوهَا عَلَى قَوَاعِدِهِمْ الْفَاسِدَةِ، وَلَيْسَ فِي وُجُودِ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ تَأْوِيلَ الْحَقَائِقِ عَلَى الْمَجَازِ. وَقَوْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْحَقِيقَةِ فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: الْحَيَاةُ شَرْطٌ فِي النُّطْقِ يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا الْحَيَاةَ فِي وَقْتِ نُطْقِهَا، فَ {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] . وَالْقَلَانِسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْحَيَاةَ فِي الْكَلَامِ وَأَجَازَ وُجُودَ الْكَلَامِ فِي الْجَمَادَاتِ بِأَنْ يُخْلَقَ فِيهَا الْكَلَامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الْخِطَابِ بِالْمَجَازِ وَجْهٌ زَائِدٌ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالْحَقِيقَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَسَاوَى الْحَقِيقَةُ

وَالْمَجَازِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ عِنْدَ الْحَكِيمِ، ثُمَّ يَعْدِلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْمَجَازِ عَادِلٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْمَوْضُوعَةِ، وَيَقْصِدُ إلَى مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ الْحَكِيمُ إلَّا لِغَرَضٍ زَائِدٍ. وَمِنْ فَوَائِدِهِ التَّعْرِيضُ بِزِيَادَةِ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي فِكْرًا وَنَظَرًا كَمَا يَقُولُ فِي الْخِطَابِ بِالْمُتَشَابِهِ، وَمِنْهَا كَوْنُ الْكَلَامِ أَدْخَلَ فِي الْفَصَاحَةِ وَأَبْلَغَ وَأَوْجَزَ. فَائِدَةٌ فِي تَحْرِيرِ النَّقْلِ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ فِي نَفْيِ الْمَجَازِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّاوُدِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَوْسُومِ بِ " أُصُولِ الْفَتْوَى "، وَهَذَا الْكِتَابُ عُمْدَةُ الظَّاهِرِيَّةِ فِيمَا صَحَّ عَنْ دَاوُد وَابْنِهِ، فَقَالَ مَا نَصُّهُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَجَازَاتِ وَالِاسْتِعَارَاتِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْحَقِيقَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَجَازِ وَالتَّوَسُّعِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الْمَجَازِ وَالتَّوَسُّعِ فَهُوَ مَرْدُودٌ إلَيْهِمَا دُونَ رَدِّهِ إلَى الظَّاهِرِ وَالْحَقِيقَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ أَلْبَتَّةَ وَالِاسْتِعَارَةُ بِوَجْهٍ، وَجَمِيعُهُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنْ مُوَافِقِيهِ إلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد فِي آخَرِينَ، وَكَانَ يَقُولُ: الْمُسْتَعِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْآخِذُ مَا لَيْسَ لَهُ، فَإِذَا سَمَّى الرَّجُلُ لَفْظَةً فِي الْقُرْآنِ مُسْتَعَارَةً، فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا قَدْ وُضِعَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ الْأَصْلِيَّةَ الَّتِي جَعَلَتْ الْأُخْرَى مُسْتَعَارَةً مِنْهَا لَنْ تَخْلُوَ أَنْ تَكُونَ إنَّمَا صَارَتْ أَصْلِيَّةً لِخَاصِّيَّةٍ فِيهَا مَوْجُودَةٍ فِي عَيْنِهَا، أَوْ لِأَنَّ اللُّغَةَ جَاءَتْ بِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَمَا تِلْكَ الْعِلَّةُ الَّتِي أَوْجَبَتْ ذَلِكَ الِاسْمَ لَهَا، وَلَمْ يَجِدْ مُدَّعٍ إلَى تَصْحِيحِهَا سَبِيلًا؟ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا صَارَتْ أَصْلِيَّةً؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ

تَكَلَّمَتْ بِهَا، فَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَلِمَةِ الَّتِي سَمَّتْهَا مُسْتَعَارَةً، فَيَجِبُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَلَّا يُزَالَ اسْمُ الِاسْتِعَارَةِ عَنْهَا، فَتَصِيرَ أَصْلِيَّةً قَائِمَةً بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] ؟ وَقَوْلُهُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ؟ قِيلَ: لِهَذِهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ اللُّغَةِ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الْقَرْيَةِ يَقَعُ عَلَى جَمَاعَةِ الرِّجَالِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59] وَإِلَّا لَقَالَ: أَهْلَكْنَاهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْأَلْ الْقَرْيَةَ وَالْبِنَاءَ يُخْبِرَاك عَنْ صِدْقِنَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزَةً فِي أَمْرِ يَعْقُوبَ وَوَلَدِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا ادَّعَاهُ خُصُومُنَا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ " أَيْ أَهْلَهَا، وَأَنَّ قَرْيَةً اسْمٌ لِلْبُنْيَانِ وَالْأَرْضِ، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِحَالَةُ سُؤَالِ الْأَرْضِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ سُؤَالَ النَّاسِ، وَيَكُونُ هَذِهِ حَقِيقَةً فِي مَعْنَاهَا لَا اسْتِعَارَةً. اهـ. مُلَخَّصًا. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ " الْإِحْكَامِ ": اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَجَازِ فَقَوْمٌ أَجَازُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَوْمٌ مَنَعُوا مِنْهُ، وَاَلَّذِي نَقُولُ: أَنَّ الِاسْمَ إذَا تَيَقَّنَّا بِدَلِيلِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ طَبِيعَةٍ أَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ إلَى مَعْنًى آخَرَ وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] وَلَهُ أَنْ يُسَمِّيَ مَا شَاءَ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْ دَلِيلًا عَلَى نَقْلِ الِاسْمِ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ إلَى مَعْنًى آخَرَ فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ مَنْقُولٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] فَكُلُّ خِطَابٍ خَاطَبَنَا اللَّهُ بِهِ أَوْ رَسُولُهُ، فَهُوَ عَلَى مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ إلَى مَعْنًى، فَإِذَا وَجَدْنَا ذَلِكَ نَقَلْنَاهُ إلَيْهِ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، فَكُلُّ كَلِمَةٍ نَقَلَهَا اللَّهُ مِنْ مَوْضُوعِهَا

فِي اللُّغَةِ إلَى مَعْنًى آخَرَ، فَإِنْ تَعَبَّدْنَا بِهَا قَوْلًا وَعَمَلًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مَجَازًا بَلْ حَقِيقَةً، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ إلَى مَعْنًى قَدْ تَعَبَّدْنَا بِهِ دُونَ أَنْ نُسَمِّيَهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ فَهَذَا هُوَ الْمَجَازُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] فَإِنَّمَا تَعَبَّدَنَا - تَعَالَى - بِأَنْ نَذِلَّ لِلْأَبَوَيْنِ وَنَرْحَمَهُمَا، وَلَنْ يُلْزِمَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - قَطُّ أَنْ نَنْطِقَ، وَلَا يَدِينَنَا بِأَنَّ لِلذُّلِّ جَنَاحًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ افْتَرَضَ عَلَيْنَا تَسْمِيَتَهَا هَذِهِ بِأَعْيَانِهَا. قَالَ: وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ الْمَجَازَ بِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ يَبْعُدَانِ عَنْهُ، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْت، وَلَيْسَ نَقْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - الِاسْمَ عَمَّا كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَّقَهُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ مَا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ كَذِبًا، بَلْ الْكَذِبُ مَا لَمْ يَنْقُلْهُ تَعَالَى، بَلْ مَا نَقَلَهُ هُوَ الْحَقُّ نَفْسُهُ. وَقَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وَقَدْ ذَكَرَ رَجُلٌ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُعْرَفُ بِابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ أَنَّ لِلْحِجَارَةِ عَقْلًا، وَلَعَلَّ تَمْيِيزَهُ يَقْرُبُ مِنْ تَمْيِيزِهَا، فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ قَوْمًا زَاغُوا عَنْ الْحَقِّ بِالْأَنْعَامِ، وَصَدَقَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا. قَالَ هَذَا الْجَاهِلُ: مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ لِلْحِجَارَةِ تَعَقُّلًا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} [البقرة: 74] الْآيَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهَا عَقْلًا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَمِنْ الْعَجَبِ اسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْشَى اللَّهَ إلَّا ذُو عَقْلٍ وَكَيْفَ يَكُونُ لَهَا تَمْيِيزٌ وَعَقْلٌ، وَاَللَّهُ شَبَّهَ قُلُوبَ الْكُفَّارِ بِالْحِجَارَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَعْقِلُ الْحَقَّ وَلَا تُذْعِنُ لَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَحْكَامِ لَا

مسألة في السبب الداعي إلى المجاز

يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ مَا أَمْكَنَ، فَإِنَّهَا لَا تَلِيقُ إلَّا بِوَاعِظٍ أَوْ خَطِيبٍ أَوْ شَاعِرٍ يَنْتَحِي السَّجْعَ لِإِيقَاعِهِ فِي الْقُلُوبِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ إذَا بَيَّنَ حُكْمًا لِمَعْجُوزٍ مَثَلًا فَيَبْعُدُ مِنْهُ التَّجَوُّزُ، وَهُوَ تَشَدُّقٌ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ. نَعَمْ، لَا يَبْعُدُ فِي الِاسْتِعَارَةِ إذَا ذُكِرَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَوَصْفُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِيُعَظِّمَ وَقْعَهُ فِي الصَّدْرِ. [مَسْأَلَةٌ فِي السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى الْمَجَازِ] فِي السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى الْعُدُولِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ وَلَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا: التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِ: سَلَامٌ عَلَى الْمَجْلِسِ الْعَالِي. وَمِنْهَا: التَّحْقِيرُ لِذِكْرِ الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] وَمِنْهَا: الْمُبَالَغَةُ فِي بَيَانِ الْعِبَارَةِ عَلَى الْإِيجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] . وَمِنْهَا: تَفْهِيمُ الْمَعْقُولِ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ لِتَلْطِيفِ الْكَلَامِ، وَزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ، وَيُسَمَّى اسْتِعَارَةً تَخَيُّلِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] .

وَمِنْهَا: زِيَادَةُ بَيَانِ حَالِ الْمَذْكُورِ، نَحْوُ رَأَيْت أَسَدًا، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الشَّجَاعَةِ لِمَنْ حَكَمْت عَلَيْهِ فِي قَوْلِك: رَأَيْت إنْسَانًا كَالْأَسَدِ شَجَاعَتُهُ. وَمِنْهَا: تَكْثِيرُ الْفَصَاحَةِ؛ لِأَنَّ فَهْمَ الْمَعْنَى مِنْهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَرِينَةٍ، وَفِي ذَلِكَ غُمُوضٌ يَحُوجُ إلَى حَرَكَةِ الذِّهْنِ، فَيَحْصُلُ مِنْ الْفَهْمِ شَبِيهُ لَذَّةِ الْكَسْبِ، وَكَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِالِالْتِزَامِ أَحْسَنُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالْمُطَابَقَةِ لِمَا فِي دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ تَصَرُّفُ الذِّهْنِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَجَازِ لَفْظٌ حَقِيقِيٌّ إنْ قُلْنَا: لَا يَسْتَلْزِمُهُ، أَوْ أَنْ يَجْهَلَ الْمُتَكَلِّمُ أَوْ الْمُخَاطَبُ لَفْظَهُ الْحَقِيقِيَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ حَشِيشَ الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ، وَأَرَادُوا الْأَخْضَرَ، وَإِلَّا فَفِي اللُّغَةِ أَنَّ الرَّطْبَ يُقَالُ لَهُ: خَلَا، وَالْيَابِسُ حَشِيشٌ فَكَأَنَّ الْفُقَهَاءَ آثَرُوا تَسْمِيَةَ الرَّطْبِ حَشِيشًا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى أَفْهَامِ الْعَامَّةِ، وَلِجَهْلِهِمْ مَعْنَى الْخَلَا، وَبِهَذَا يَغْلُظُ مِنْ غَلَّطَهُمْ، أَوْ لِثِقَلِ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ عَلَى اللِّسَانِ كَالْخِنْفِقِيقِ اسْمٌ لِلدَّاهِيَةِ، أَوْ تَيْسِيرُ التَّجْنِيسِ وَالْجَمْعِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ. تَنْبِيهٌ اتَّفَقَ الْأُدَبَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ أَبْلَغُ مِنْ الْحَقِيقَةِ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: وَلَيْسَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ تَارَةً يُفِيدُ زِيَادَةً فِي الْمَعْنَى نَفْسِهِ لَا تُفِيدُهَا الْحَقِيقَةُ، بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْمَعْنَى.

فَلَيْسَ قَوْلُنَا: رَأَيْتُ زَيْدًا يُفِيدُ زِيَادَةً فِي مُسَاوَاتِهِ الْأَسَدَ عَنْ قَوْلِنَا: رَأَيْت رَجُلًا مُسَاوِيًا لِلْأَسَدِ فِي الشَّجَاعَةِ، بَلْ قَوْلُنَا: إنَّ الْمَجَازَ أَبْلَغُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَفَادَ تَأْكِيدَ مُسَاوَاةٍ لَمْ تُفِدْهَا الْحَقِيقَةُ. قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الِانْتِقَالَ فِيهِ مِنْ اللُّزُومِ إلَى اللَّازِمِ، فَيَكُونُ إثْبَاتُ الْمَعْنَى بِهِ كَادِّعَاءِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ، وَدَعْوَى الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ أَبْلَغُ مِنْ دَعْوَاهُ بِلَا دَلِيلٍ. اهـ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ أَصْلُهَا التَّشْبِيهُ، وَأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ أَتَمُّ مِنْهُ فِي الْمُشَبَّهِ، وَالِاسْتِعَارَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ قَوْلُنَا: رَأَيْت أَسَدًا يُفِيدُ لَهُ شَجَاعَةً أَكْثَرَ مِمَّا يُفِيدُهَا قَوْلُك: رَأَيْتُ رَجُلًا كَالْأَسَدِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذَا لَا يَرِدُ عَلَى مِثَالِهِ، وَإِنَّمَا يَرِدُ عَلَى إطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَجَازِ زِيَادَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ بِالْمِثَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ يَقْتَضِي أَنَّ الْبَلَاغَةَ تَارَةً تَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَتَارَةً فِي الْمَجَازِ وَهُوَ الْحَقُّ، فَلَا يَنْبَغِي إطْلَاقُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ يَكُونُ لَهَا مِنْ الْبَلَاغَةِ مَا لَيْسَ فِي الْمَجَازِ وَبِالْعَكْسِ، وَيَكُونُ مُرَادُ مَنْ أَطْلَقَ: أَنَّ الْمَجَازَ أَبْلَغُ مِنْ الْحَقِيقَةِ: أَنَّ مَجَازَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ أَبْلَغُ مِنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَأَمَّا مَجَازُ لَفْظٍ، وَحَقِيقَةُ لَفْظٍ آخَرَ فَلَا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا انْتِسَابٌ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَحَلِّهِ لَهُ حُكْمٌ فَتَفَطَّنْ لَهُ. وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا التَّبْرِيزِيُّ فِي " شَرْحِ الْحَمَاسَةِ ": أَكْثَرُ كَلَامِهِمْ الِاسْتِعَارَاتُ، جَيِّدُهَا أَحْسَنُ مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا فِي الِاسْتِحْسَانِ، فَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ فَتُقَدَّمُ الْحَقِيقَةُ عَلَى الْمَجَازِ، فَحَصَلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ.

مسألة المجاز خلاف الأصل

[مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ] ِ] وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ: وَالْأَصْلُ هُنَا بِمَعْنَى الرَّاجِحِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ لِلْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَإِلَى الْعَلَاقَةِ، وَإِلَى النَّقْلِ إلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، وَالْحَقِيقَةُ تَحْتَاجُ إلَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا عَدَلَ إلَيْهِ لِلْفَوَائِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَآحَادُهَا غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ. وَالضَّابِطُ: أَنْ يُنْظَرَ إلَى أَصْلِ وَضْعِ اللَّفْظِ وَتَحَقُّقِهِ، فَإِذَا حَصَلَ فَانْظُرْ هَلْ بَقِيَ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ أَوْ لَا؟ وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْحَقِيقَةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ فَإِمَّا لِعَلَاقَةٍ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ: إمَّا أَنْ يَشْتَهِرَ حَتَّى يَكُونَ أَسْبَقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ الْأَصْلِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الِاشْتِهَارِ اسْتِعْمَالَ الْعُرْفِ فَهُوَ الْمَجَازُ الْعُرْفِيُّ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْعَ فَهُوَ الشَّرْعِيُّ، وَهَذَانِ الِاسْمَانِ أَوْلَى بِهِمَا مِنْ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِمَا حَقِيقَتَانِ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، وَهُوَ الَّذِي عَدَلَ عَنْهُ لَا لِعَلَاقَةٍ فَهُوَ الْمَنْقُولُ وَالْمُرْتَجَلُ كَمَا سَبَقَ. [مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ يَحْتَاجُ إلَى الْعَلَاقَةِ أَوْ الْقَرِينَةِ] ِ] الْمَجَازُ يَحْتَاجُ إلَى الْعَلَاقَةِ وَإِلَى الْقَرِينَةِ فَالْعَلَاقَةُ هِيَ الْمُجَوِّزَةُ لِلِاسْتِعْمَالِ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْحَمْلِ. فَأَمَّا الْقَرِينَةُ فَلَا بُدَّ لِلْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ تَمْنَعُ مِنْ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ عَقْلًا أَوْ حِسًّا أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا، وَهِيَ إمَّا خَارِجَةٌ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ وَالْكَلَامِ، فَالْمُتَكَلِّمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]

فَاَللَّهُ - تَعَالَى - لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْصِيَةِ، أَوْ مِنْ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ} [الكهف: 29] فَإِنَّ السِّيَاقَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} [الكهف: 29] يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلتَّخْيِيرِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَرِينَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ الْقَرِينَةُ دَاخِلَةٌ فِي مَفْهُومِ الْمَجَازِ، وَهُوَ رَأْيُ الْبَيَانِيِّينَ أَوْ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ وَاعْتِبَارِهِ، وَهُوَ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ؟ . وَأَمَّا الْعَلَاقَةُ فَلَا بُدَّ فِي التَّجَوُّزِ مِنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الِاشْتِرَاكِ فِي أَمْرٍ مَا، وَإِلَّا لَجَازَ إطْلَاقُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى مَا عَدَاهُ، فَجِنْسُ الْعَلَاقَةِ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَشَخْصُهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا رَأَيْنَاهُمْ أَطْلَقُوا الشُّجَاعَ عَلَى رَجُلٍ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إطْلَاقِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرَ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَنْوَاعِ، أَيْ: إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا اسْمَ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ يَكْفِينَا هَذَا فِي إطْلَاقِ كُلِّ لَازِمٍ عَلَى مَلْزُومِهِ؟ أَوْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ إطْلَاقِ اللَّوَازِمِ عَلَى الْمَلْزُومَاتِ مِنْ السَّمَاعِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ اللَّازِمِ بِعَيْنِهِ وَاللُّزُومِ بِعَيْنِهِ. وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُكْتَفَى بِالْعَلَاقَةِ الَّتِي نَظَرَ الْعَرَبُ إلَيْهَا كَإِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ الْمُسَبَّبُ عَلَى السَّبَبِ أَوْ لَا يَتَعَدَّى عَلَاقَةَ السَّبَبِ إلَى عَلَاقَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ سَاوَتْهَا مَا لَمْ تَفْعَلْ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ وَهَذَا هُوَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمَجَازَ هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى السَّمْعِ وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَضْعُ أَمْ لَا؟ فَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الْأَوَّلَ، فَهُوَ يُجَوِّزُ إطْلَاقَ اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ لِاسْتِعْمَالِهِمْ مَا هُوَ نَظِيرُهُ أَوْ دُونَهُ، وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " وَالرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمَا

الثَّانِيَ، وَتَوَقَّفَ الْآمِدِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ ": الْإِنْصَافُ أَنَّ الْمَجَازَ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ مُفْرَدَةً احْتَاجَ إلَى النَّقْلِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي الْحَاصِلَةِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَلْفَاظِ مِثْلُ طَلَعَ فَجْرٌ وَعَلَا، وَشَابَتْ لِمَّةُ رَأْسِهِ، وَأَشْبَاهُهُ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى النَّقْلِ لِمَا عُلِمَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْعُلَمَاءِ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ أَمْثَالَ ذَلِكَ، فِي تَصَانِيفِهِمْ وَخَطِّهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ، فَظَهَرَ أَنَّ الْخِلَافَ مَخْصُوصٌ بِالْأَنْوَاعِ، لَا فِي جُزْئِيَّاتِ الْمَجَازِ الْمُشَخَّصَةِ، إنْ أَوْهَمَهُ كَلَامُ بَعْضِهِمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَضَعَ الْعَرَبُ نَوْعَ التَّجَوُّزِ بِالْكُلِّ إلَى الْجُزْءِ، وَبِالسَّبَبِ إلَى الْمُسَبَّبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْوَاعِ. وَأَمَّا وَضْعُهَا التَّعْبِيرَ بِهَذَا الْكُلِّ الْمُعَيَّنِ أَوْ التَّجَوُّزِ بِهَذَا الْمُسَبَّبِ الْمُعَيَّنِ إلَى هَذَا السَّبَبِ فَلَا يَشْتَرِطُهُ أَحَدٌ قَطْعًا، وَلَمْ تَزَلْ الْأُدَبَاءُ فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ يَكْتَفُونَ بِمُجَرَّدِ الْعَلَاقَةِ مِنْ غَيْرِ فَحْصٍ عَنْ الْوَضْعِ. وَيَتَحَصَّلُ صُوَرٌ: أَحَدُهَا: آحَادُ الْعَلَاقَاتِ أَعْنِي إذَا وُجِدَتْ عَلَاقَةٌ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الْعَرَبِ التَّجَوُّزُ بِهَا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِهَا؟ هَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ وَالْقَرَافِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ " وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ " شُرَّاحِ ابْنِ الْحَاجِبِ " مِنْهُمْ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ هَذَا الْقِسْمِ. الثَّانِيَةُ: الْعَلَاقَةُ الَّتِي ثَبَتَ عَنْ الْعَرَبِ اعْتِبَارُهَا، وَتَجَوَّزَتْ بِسَبَبِهَا إلَى لَفْظَةٍ هَلْ لَنَا أَنْ نَتَجَوَّزَ بِتِلْكَ الْعَلَاقَةِ بِعَيْنِهَا لِلَفْظَةٍ أُخْرَى؟ كَمَا إذَا ثَبَتَ عَنْهُمْ إطْلَاقُ الْأَسَدِ عَلَى الشُّجَاعِ لِلشَّجَاعَةِ، فَهَلْ لَنَا أَنْ نُطْلِقَ عَلَيْهِ اللَّيْثَ كَذَلِكَ؟ وَهُوَ مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ شُرَّاحُ " الْمُخْتَصَرِ ".

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ تَحْتَ الْعَلَاقَةِ أَنْوَاعٌ تَحْتَ كُلِّ نَوْعٍ جِهَاتٌ، فَهَلْ يَكُونُ أَنْوَاعُ الْجُزْئِيَّاتِ مُلْحَقَةً بِمَا فَوْقَهَا حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهَا النَّقْلُ قَطْعًا أَوْ بِمَا تَحْتَهَا حَتَّى يَكُونَ مَحَلَّ الْخِلَافِ؟ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ. مِثَالٌ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ مِنْ الْعَلَاقَةِ الْمُشَابَهَةَ فِي صِفَةٍ ظَاهِرَةٍ فَإِذَا ثَبَتَ عَنْهُمْ التَّجَوُّزُ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ كَصِفَةِ الشَّجَاعَةِ فِي لَفْظِ الْأَسَدِ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ فَأَرَدْنَا أَنْ نَتَجَوَّزَ بِصِفَةِ الْكَرْمِ فِي لَفْظِ الْبَحْرِ لِلْجَوَادِ فَالْأَقْرَبُ إلْحَاقُهُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ. الرَّابِعَةُ: إنْ ثَبَتَتْ بِاعْتِبَارِ نَوْعِ الْعَلَاقَةِ الْخَاصِّ بِالنَّقْلِ وَالتَّجَوُّزِ فِي لَفْظَةٍ بِعَيْنِهَا كَإِطْلَاقِ الْأَسَدِ عَلَى شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لِلشَّجَاعَةِ، فَهَلْ لَنَا إطْلَاقُ الْأَسَدِ عَلَى عَمْرٍو كَذَلِكَ قَطْعًا أَوْ نُلْحِقُهَا بِالثَّانِيَةِ فِي الْخِلَافِ؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَطْعًا. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ النَّقْلَ وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ فِي نَوْعِ الْعَلَاقَةِ أَعْنِي النَّوْعَ الْأَصْلِيَّ، وَغَيْرُ شَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ فِي مُشَخِّصَاتِ اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ مَجَازًا فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ. وَقَالَ صَاحِبُ " اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَجَازُ يَقْتَضِي الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فِي الْمَعْنَى، فَكُلُّ لَفْظٍ جُعِلَ مَجَازًا فِي غَيْرِهِ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُشَارَكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى كَالْأَسَدِ اُسْتُعِيرَ لِلشُّجَاعِ وَالْحِمَارِ لِلْبَلِيدِ، وَالْعِتْقِ لِلطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي شَرْطٍ آخَرَ، وَهُوَ كَمَالُ الْمَعْنَى فِي الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ، هَلْ هُوَ شَرْطٌ أَمْ لَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْعُدُولُ عَنْ الْحَقِيقَةِ مُفِيدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ تَسَاوِيهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَرَطٌ فِي كَمَالِ الْبَلَاغَةِ فِي الِاسْتِعَارَةِ نَفْسِهَا فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": الْحَقِيقَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى النَّقْلِ عَنْ وَاضِعِ اللُّغَةِ كَالنُّصُوصِ فِي بَابِ الشِّعْرِ، وَأَمَّا الْمَجَازُ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّمَاعُ، بَلْ يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى الَّذِي اعْتَبَرَهُ

أَهْلُ اللُّغَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَهُ، وَكَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمَجَازَ هَلْ لَهُ عُمُومٌ أَمْ لَا؟ وَفَرَّعَ عَلَيْهِ امْتِنَاعَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا وَعَارِيَّةً. ثُمَّ حَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي اعْتَبَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي الْمَجَازِ هُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ اشْتِرَاكٌ فِي الْمَعْنَى، وَذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ أَبْلَغُ وَأَبْيَنُ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الرُّمَّانِيُّ. قَالَ: وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا هَذَا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْحَقِيقَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ، لَهَا وَالْمَيْلُ إلَى الْمَجَازِ فِيهِ نَوْعُ إيهَامٍ وَتَلْبِيسٍ، لَا يَجُوزُ إلَّا لِفَائِدَةٍ لَا تُوجَدُ فِي الْحَقِيقَةِ. قَالَ: وَهَذَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] مَعْنَاهُ امْتَثِلْ بِمَا تُؤْمَرُ، فَقَدْ اسْتَعَارَ قَوْلَهُ: " اصْدَعْ " مَكَانَ، قَوْلِهِ: " امْتَثِلْ " وَالصَّدْعُ هُوَ الشَّقُّ، وَالِامْتِثَالُ هُوَ التَّأْثِيرُ فَإِنَّ الشَّقَّ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الشُّقُوقِ، وَالِامْتِثَالُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا أَنَّ تَأْثِيرَ الشَّقِّ فِي الشُّقُوقِ أَبْيَنُ مِنْ تَأْثِيرِ الِامْتِثَالِ فِي الْمُمْتَثَلِ، فَكَانَ فِي الْمَجَازِ زِيَادَةُ بَيَانٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلشُّجَاعِ مِنْ النَّاسِ: أَسَدٌ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ الشَّجَاعَةُ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَسَدِ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ أَشْجَعُ الْحَيَوَانِ، وَكَذَا اسْتِعَارَةُ الْحِمَارِ لِلْبَلِيدِ. وَزَعَمَ عَلِيٌّ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ لَفْظِ الطَّلَاقِ كِنَايَةً عَنْ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ وَالطَّلَاقُ دُونَهُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ الَّذِي هُوَ

أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ: هَذَا ابْنِي أَنَّهُ يُعْتَقُ، وَيَصِيرُ قَوْلُهُ: هَذَا أَبِي أَبْلَغُ فِي إفَادَةِ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ قَبْلَ قَوْلِهِ بِزَمَانٍ كَثِيرٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُهَا إلَّا فِي الْحَالِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يُعْرَفُ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَأَمَّا الِاسْتِعَارَةُ فِي الْكَلَامِ لِضَرْبٍ مِنْ التَّوَسُّعِ، وَلِتَظْهَرَ بَرَاعَةُ الْمُتَكَلِّمِ، وَحُسْنُ بَصِيرَتِهِ فِي الْكَلَامِ وَاقْتِدَارُهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ أَفَادَتْ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَا يُفِيدُهُ التَّصْرِيحُ وَيَدُلُّ؛ لِأَنَّ مَا قَالُوهُ لَيْسَ بِشَرْطِ اسْتِعَارَتِهِمْ لَفْظَ الْمَسِّ لِلْوَطْءِ وَالْقُرْبَانِ لِلدُّخُولِ، وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ الْجِمَاعِ، وَأَمَّا إذَا قَالَ لِغُلَامِهِ الْأَكْبَرِ مِنْهُ: هَذَا أَبِي فَإِنَّمَا لَمْ يَصْلُحْ عِنْدَنَا مَجَازًا عَنْ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَصْلُحُ مَجَازًا إذَا كَانَ حَقِيقَةً، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَغْوٌ وَهَذَيَانٌ. وَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّ السَّبَبَ فِي الْجُمْلَةِ يُوجِبُ الْعِتْقَ، فَإِنَّمَا يُوجِبُ فِي مَحَلٍّ يُتَصَوَّرُ فِيهِ السَّبَبُ لَا فِيمَا لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، فَلَيْسَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ مَجَازًا. اهـ. مُلَخَّصًا. مَسْأَلَةٌ شَرَطَ قَوْمٌ فِي الْعَلَاقَةِ أَنْ تَكُونَ ذِهْنِيَّةً، أَيْ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُتَجَوَّزُ يَتَبَادَرُ لَهُ الْفَهْمُ عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ فِي " الْمَعَالِمِ "، وَالصَّحِيحُ: خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَجَازَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ عَارِيَّةٌ عَنْ اللُّزُومِ الذِّهْنِيِّ.

التجوز بالمجاز عن المجاز

[التَّجَوُّزُ بِالْمَجَازِ عَنْ الْمَجَازِ] مَسْأَلَةٌ [التَّجَوُّزُ بِالْمَجَازِ عَنْ الْمَجَازِ] يُتَجَوَّزُ بِالْمَجَازِ عَنْ الْمَجَازِ خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ، ذَكَرَهُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ الْمَجَازُ الْمَأْخُوذُ عَنْ الْحَقِيقَةِ بِمَثَابَةِ الْحَقِيقَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجَازٍ آخَرَ، فَيُتَجَوَّزُ بِالْمَجَازِ الْأَوَّلِ عَنْ الثَّانِي لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي. وَلَهُ أَمْثِلَةٌ. مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] فَإِنَّهُ مَجَازٌ عَنْ مَجَازٍ، فَإِنَّ الْوَطْءَ تَجَوَّزَ عَنْهُ السِّرُّ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ غَالِبًا فِي السِّرِّ فَلَمَّا لَازَمَهُ سُمِّيَ سِرًّا، وَتَجَوَّزَ بِالسِّرِّ عَنْ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ، فَالْمُصَحِّحُ لِلْمَجَازِ الْأَوَّلِ الْمُلَازَمَةُ، وَالْمُصَحِّحُ لِلْمَجَازِ الثَّانِي التَّعْبِيرُ بِاسْمِ الْمُسَبَّبِ الَّذِي هُوَ السِّرُّ عَنْ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ، كَمَا سُمِّيَ عَقْدُ النِّكَاحِ نِكَاحًا، لِكَوْنِهِ سَبَبًا فِي النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَ الْعَقْدُ سِرًّا؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي السِّرِّ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ، فَهَذَا مَجَازٌ عَنْ مَجَازٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُصَحِّحِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] لَا تُوَاعِدُوهُنَّ عَقْدَ نِكَاحٍ. وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] إذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَجَازٌ عَنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِمَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَنْ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْقَوْلِ عَنْ الْقَوْلِ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ السَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ؛ لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللِّسَانِ مُسَبَّبٌ عَنْ تَوْحِيدِ الْجِنَانِ.

مسألة يجيء المجاز بمراتب

[مَسْأَلَةٌ يَجِيءُ الْمَجَازُ بِمَرَاتِبَ] َ] قَدْ يَجِيءُ الْمَجَازُ بِمَرَاتِبَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26] ؛ لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ اللِّبَاسِ، بَلْ إنَّمَا هُوَ الْمَاءُ الْمُنْبِتُ لِلزَّرْعِ الْمُتَّخَذِ مِنْهُ الْغَزْلُ الْمَنْسُوجُ مِنْهُ اللِّبَاسُ، وَصَارَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَظِيمِ الشَّانِ ... صَارَ الثَّرِيدُ فِي رُءُوسِ الْعِيدَانِ فَسَمَّى السُّنْبُلَ فِي رُءُوسِ الْعَصْفِ ثَرِيدًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ ثَرِيدًا بَعْدَ أَنْ يُحْصَدَ، ثُمَّ يُدْرَسَ، ثُمَّ يُصَفَّى، ثُمَّ يُطْحَنَ، ثُمَّ يُخْبَزَ ثُمَّ يُثْرَدَ. وَسَمَّى ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيُوسِيُّ هَذَا، وَأَمْثَالَهُ مَجَازَ الْمَرَاتِبِ، وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ مَسَائِلِ الْمَجَازِ.

فصل في سرد أنواع علاقات المجاز

[فَصْلٌ فِي سَرْدِ أَنْوَاعِ عَلَّاقَات الْمَجَاز] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ السَّبَبِيَّةُ] فَصْلٌ فِي سَرْدِ أَنْوَاعِ الْعَلَاقَةِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ: السَّبَبِيَّةُ: وَهِيَ إطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَإِنْ شِئْت، فَقُلْ: إطْلَاقُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ فَاعِلِيَّةً أَوْ قَابِلِيَّةً أَوْ صُورِيَّةً أَوْ. غَائِيَّةً. مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُمْ: نَزَلَ السَّحَابُ أَيْ الْمَطَرُ، فَإِنَّ السَّحَابَ فِي الْعُرْفِ سَبَبٌ فَاعِلِيٌّ فِي الْمَطَرِ كَمَا يُقَالُ: النَّارُ تُحْرِقُ الثَّوْبَ، وَمِنْهُ إطْلَاقُ اسْمِ النَّظَرِ عَلَى الرُّؤْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] أَيْ لَهُ رَائِيَةٌ، وَنَحْوُ نَظَرْت إلَى فُلَانٍ أَيْ رَأَيْته؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِعْلُ الْفَاعِلِ، وَهُوَ سَبَبُ الرُّؤْيَةِ. وَمِثَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ: سَالَ الْوَادِي، فَإِنَّ السَّائِلَ هُوَ الْمَاءُ، وَالْوَادِي سَبَبٌ قَابِلٌ لِسَيْلِ الْمَاءِ فِيهِ هَكَذَا مِثْلُهُ فِي " الْمَحْصُولِ "، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْوَادِيَ لَيْسَ جُزْءًا لِلْمَاءِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا قَابِلًا لَهُ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ. وَمِثَالُ الثَّالِثِ: إطْلَاقُ الْيَدِ عَلَى الْقُدْرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]

وَالْيَدُ صُورَةٌ خَاصَّةٌ يَتَأَتَّى بِهَا الْإِقْدَارُ عَلَى الشَّيْءِ، فَشَكْلُهَا مَعَ الْإِقْدَارِ كَشَكْلِ السَّرِيرِ مَعَ الِاضْطِجَاعِ، وَهُوَ سَبَبٌ صُورِيٌّ، فَتَكُونُ الْيَدُ كَذَلِكَ، فَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْقُدْرَةِ إطْلَاقٌ لِاسْمِ السَّبَبِ الصُّورِيِّ عَلَى السَّبَبِ. وَوَجْهُ كَوْنِ صُورَةِ الْيَدِ سَبَبًا لِلْقُدْرَةِ أَنَّهَا لَوْ خُلِقَتْ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا لَنَقَصَ فِعْلُهَا وَبَطَلَ، فَبِتِلْكَ الصُّورَةِ تَتِمُّ قُدْرَةُ الْيَدِ عَلَى مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُرَادُ الْقُدْرَةَ، فَلِمَ ثُنِّيَتْ وَجُمِعَتْ، وَالْقُدْرَةُ وَاحِدَةٌ؟ . وَأُجِيبَ: بِأَنَّهَا جُمِعَتْ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقَاتِهَا، فَاسْتَقَرَّ لَهَا مَا صَدَرَ عَنْهَا مِنْ الْآثَارِ الْعَدِيدَةِ. وَيَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ آثَارَهَا قِسْمَانِ: إمَّا؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ لِأَنَّ آثَارَهَا الْجَوَاهِرُ وَالْأَعْرَاضُ أَوْ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَقَدْ انْعَكَسَ هَذَا الْمِثَالُ عَلَى الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَأَتْبَاعِهِ، وَقَالُوا: كَتَسْمِيَةِ الْيَدِ قُدْرَةً. قَالَ الْقَرَافِيُّ: صَوَابُهُ كَتَسْمِيَةِ الْقُدْرَةِ بِالْيَدِ، فَإِنَّ الْيَدَ سَبَبُ الْقُدْرَةِ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ هِيَ سَبَبُ الْيَدِ؛ إذْ لَا تُوضَعُ إلَّا بِهَا، فَإِنَّ مِنْ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمَعْنَى بِالْيَدِ هُنَا إنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُسَوِّغُ لِلتَّصَرُّفِ لَا الْجَارِحَةُ. وَاعْتَرَضَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَيْضًا بِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَيْسَتْ صُورَةَ الْيَدِ، بَلْ لَازِمَةٌ لِصُورَةِ الْيَدِ، وَجَوَابُهُ: أَنَّهَا صُورَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ. وَمِثَالُ الرَّابِعِ: تَسْمِيَةُ الْعَصِيرِ خَمْرًا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} [الأعراف: 26] وَقَوْلُهُ: رَعَيْنَا الْغَيْثَ أَيْ النَّبَاتَ الَّذِي سَبَبُهُ الْغَيْثُ، قَالَ الشَّاعِرُ: إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا

العلاقة الثانية المسببية

وَهُوَ الْمَطَرُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ غَائِيٌّ لِلْمَطَرِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» أَيْ مَنْ اُحْتُضِرَ، وَقَوْلُهُ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَجَعَلَ مِنْهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ تَسْمِيَةَ الْفَجْرِ خَيْطًا فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] قَالَ: لِأَنَّهُ يَمْتَدُّ مِنْ الْجَنُوبِ إلَى الشِّمَالِ كَامْتِدَادِ الْخَيْطِ عَلَى الْأُفُقِ أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي الْجَنُوبِ وَالْآخَرُ فِي الشِّمَالِ، وَتَشْبِيهُ سَوْدَاءِ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ بِخَيْطٍ طَرَفُهُ فِي الْأُفُقِ، وَأَعْلَاهُ مِصْعَدٌ فِي السَّمَاءِ وَوَصَفَهُ بِالسَّوَادِ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَحِلُّ، فَيَصِيرُ مَكَانَهُ سَوَادُ اللَّيْلِ فَوُصِفَ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53] وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ؛ إذْ لَا يَصِحُّ تَشْبِيهُ اللَّيْلِ الْمُطْبِقِ لِلْآفَاقِ بِالْخَيْطِ، وَلَا يَصِحُّ تَشْبِيهُ طَرَفِهِ الْمُلْتَصِقِ بِبَيَاضِ الْفَجْرِ بِبَيَاضِ الْخَيْطِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَشْبِيهَ بِخِلَافِ الْفَجْرِ الثَّانِي. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ أَقْوَى مِنْ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهَا حَالَ كَوْنِهَا ذِهْنِيَّةً عِلَّةُ الْعِلَلِ، وَحَالُ كَوْنِهَا خَارِجِيَّةً مَعْلُولُهَا فَقَدْ حَصَلَ لَهَا الْعَلَاقَتَانِ. [الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةُ الْمُسَبَّبِيَّةُ] ُ: وَهِيَ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُسَبَّبِ، عَلَى السَّبَبِ كَتَسْمِيَتِهِمْ الْمَرَضَ الْمُهْلِكَ مَوْتًا

العلاقة الثالثة المشابهة

لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَعَلَهُ فِي الْعِبَادِ سَبَبًا لِلْمَوْتِ، وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّهُمَا مُسَبَّبَانِ عَنْهُ، وَمِنْهُ أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ نَبَاتًا، فَذُكِرَ النَّبَاتُ وَأُرِيدَ بِهِ الْغَيْثُ؛ لِأَنَّ الْغَيْثَ سَبَبٌ لِلنَّبَاتِ، وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] وَاعْلَمْ أَنَّ التَّجَوُّزَ بِلَفْظِ السَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُعَيَّنَ يَسْتَدْعِي مُسَبَّبًا مُعَيَّنًا كَالزِّنَى بَعْدَ الْإِحْصَانِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي مُسَبَّبًا مُعَيَّنًا وَهُوَ الرَّجْمُ، وَالْمُسَبَّبُ الْمُعَيَّنُ لَا يَسْتَدْعِي سَبَبًا مُعَيَّنًا، بَلْ سَبَبًا مَا كَإِبَاحَةِ الدَّمِ، فَإِنَّهَا تَقْتَضِي سَبَبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ إمَّا الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَوْ الزِّنَى بَعْدَ الْإِحْصَانِ، أَوْ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَا يَقْتَضِي وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ بِعَيْنِهِ، وَمَا اقْتَضَى الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ أَقْوَى مِمَّا يَقْتَضِي الْمُطْلَقَ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْمُعَيَّنِ يَقْتَضِي الْمُطْلَقَ وَزِيَادَةً، وَهِيَ التَّعْيِينُ، فَكَانَ أَوْلَى كَالضَّرْبِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْأَلَمَ جَزْمًا بِخِلَافِ الْأَلَمِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الضَّرْبَ عَلَى التَّعْيِينِ لِجَوَازِ أَنْ يَخْلُفَهُ سَبَبٌ آخَرُ، فَكَانَ فَهْمُ الْمُسَبَّبِ مِنْ اسْمِ السَّبَبِ فَوْقَ فَهْمِ السَّبَبِ مِنْ اسْمِ الْمُسَبَّبِ، فَكَانَ أَبْلَغَ إفَادَةً لِلْمَقْصُودِ، وَهَكَذَا يَقُولُ: إطْلَاقُ اسْمِ اللُّزُومِ عَلَى اللُّزُومِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، وَكَذَا إطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ إطْلَاقَ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ أَوْلَى مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ لِمَا بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مِنْ الِاتِّصَالِ وَالْمُنَاسَبَةِ. [الْعَلَاقَةُ الثَّالِثَةُ الْمُشَابَهَةُ] ُ: وَهِيَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مُشَبَّهِهِ، إمَّا فِي الصُّورَةِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ

عَلَى الْمَنْقُوشِ فِي الْحَائِطِ بِصُورَتِهِ، وَإِمَّا فِي الْمَعْنَى كَالصِّفَةِ الظَّاهِرَةِ لِلْحَقِيقَةِ، كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ عَلَى الشُّجَاعِ، فَلَا يَجُوزُ فِي الْحَقِيقَةِ كَاسْتِعَارَةِ لَفْظِ الْأَسَدِ لِلرَّجُلِ الْأَبْخَرِ؛ إذْ هِيَ صِفَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ أَشْهَرَ صِفَاتِ الْمَحَلِّ، وَمِنْ هَاهُنَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْعَلَاقَةِ أَمْرًا ذِهْنِيًّا كَمَا سَبَقَ، وَنَحْنُ إنْ اشْتَرَطْنَا الظُّهُورَ، فَلَا نَشْرِطُ كَوْنَهُ ذِهْنِيًّا. وَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْمُشَابَهَةُ فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ الظَّاهِرَةِ مَعًا فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه: 88] فَإِنَّ الْعَلَاقَةَ مَجْمُوعُ الشَّكْلِ وَالْخُوَارِ، وَإِمَّا بِدُونِ أَدَاةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] أَيْ: مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ فِي الْحُرْمَةِ وَتَحْرِيمِ الْمُنَاكَحَةِ، وَقَوْلُهُمْ: أَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْكَافِرِ كَافِرًا؛ إذْ حَقِيقَةُ الْكُفْرِ سَتْرُ جُرْمٍ بِجُرْمٍ وَتَغْطِيَتُهُ لِئَلَّا تَرَاهُ الْعُيُونُ، وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ وَاحِدًا، وَالْإِيمَانُ وَاقِعٌ لِلْبَصِيرَةِ عَنْ إدْرَاكِ الْحَقِّ شُبِّهَ بِمَا يَمْنَعُ الْإِبْصَارَ مِنْ الْمَحْسُوسَاتِ. وَقِيلَ: فِي قَوْله تَعَالَى: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] أَيْ: الزُّرَّاعَ لِكُفْرِهِمْ الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ وَيُسَمَّى الْمَجَازُ الَّذِي عَلَاقَتُهُ الْمُشَابَهَةُ اسْتِعَارَةً، فَالِاسْتِعَارَةُ أَخَصُّ مِنْ الْمَجَازِ، وَخَصَّ الْإِمَامُ الِاسْتِعَارَةَ بِالْمُتَشَابِهِ الْمَعْنَوِيِّ لَا الصُّورِيِّ وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ، وَحَكَى عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْمَجَازَ وَالِاسْتِعَارَةَ مُتَرَادِفَانِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَجَازَ مُنْحَصِرٌ فِي الْمُشَابَهَةِ.

وَاخْتَلَفُوا هَلْ الْمُعْتَبَرُ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ لَفْظَيْ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ فِي بَعْضِ مَا وُضِعَ اسْمُ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ لَا بَيْنَ ذَاتَيْهِمَا، أَوْ الْمُعْتَبَرُ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ ذَاتَيْهِمَا فِي الْمَعْنَى اللَّازِمِ الْمَشْهُورِ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمُشَابَهَةِ، وَفِي مَعْنَى اسْمِهَا لُغَةً؟ وَهَذَا الْقَوْلُ صَحَّحَهُ صَاحِبُ " الْمِيزَانِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَشَرَطَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الرُّمَّانِيُّ فِي " إعْجَازِ الْقُرْآنِ " أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ أَبْلَغَ حَتَّى يَكُونَ لِلِاسْتِعَارَةِ فَائِدَةٌ. قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَالصَّحِيحُ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْغَالِبَ، وَسَبَقَ فِي كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَقَالَ الْحَاجَوِيُّ فِي " رِسَالَاتِهِ ": شَرَطُوا فِي صِحَّةِ الْمَجَازِ كَوْنَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ مَشْهُورًا فِي الْأَصْلِ كَالشَّجَاعَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ مَشْهُورَةٌ لِلْأَسَدِ وَالْبَلَادَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ مَشْهُورَةٌ لِلْحِمَارِ، وَالْأَقْرَبُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ حَتَّى تَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ أَسَدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَخَرُ صِفَةً مَشْهُورَةً لِلْأَسَدِ. مَسْأَلَةٌ اللَّفْظُ الْمُسْتَعَارُ إذَا اُسْتُعِيرَ مِنْ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ إلَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ، فَالْعَامِلُ اللَّفْظُ الْمُسْتَعَارُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْمِ الْمُسْتَعَارِ لَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِاسْمِهِ صَرِيحًا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ صَاحِبُ " الْمِيزَانِ " مِنْهُمْ: وَفُرُوعُ الشَّافِعِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي قَامَ لَفْظُ الْمُسْتَعَارِ مَقَامَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَآتِهِ أَنْتِ بَائِنٌ:

العلاقة الرابعة التضاد

إنَّهُ رَجْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَجَازًا عَنْ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَالَ بِأَنَّ الْعَتَاقَ يَقَعُ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ كَقِيَامِ لَفْظِ الطَّلَاقِ مَقَامَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى لَفْظِ الْعَتَاقِ، وَهَذَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي الِاسْتِعَارَةِ مُعْتَبَرَةٌ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى مِنْ أَصْحَابِنَا فِي تَعْلِيقِهِ ": الْخِلَافُ لِلَّفْظِ إذَا جُعِلَ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِهِ، فَالْمَذْكُورُ حَقِيقَةً هُوَ الْمَنْوِيُّ الْمُكَنَّى عَنْهُ دُونَ الْمَلْفُوظِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِلشُّجَاعِ: يَا أَسَدُ، وَلِلْبَلِيدِ: يَا حِمَارُ كَانَ الْمُنَادَى هُوَ الْآدَمِيَّ دُونَ السَّبُعِ وَالْبَهِيمَةِ، وَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَعْتَقْتُك، وَنَوَى الطَّلَاقَ كَانَ الصَّادِرُ حَقِيقَةً هُوَ الطَّلَاقَ، وَكَانَتْ الْإِبَانَةُ لَيْسَتْ تَصَرُّفًا مَوْضُوعًا شَرْعًا إنَّمَا الْمَوْضُوعُ هُوَ الطَّلَاقُ، غَيْرَ أَنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ لَفْظٌ آخَرُ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى، ثُمَّ الْمُتَصَرِّفُ هُوَ الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ دُونَ مَا عَنْهُ الِاسْتِعَارَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نِيَّةَ الطَّلَاقِ لَا بُدَّ مِنْهَا حَتَّى لَوْ قَالَ: أَبَنْتُكِ بَيْنُونَةَ النِّكَاحِ، أَوْ قَطَعْت نِكَاحَك، لَمْ يَعْمَلْ دُونَ النِّيَّةِ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ خَرَجَ عَنْ الْإِجْمَالِ، أَعْنِي إجْمَالَ جِهَاتِ الْبَيْنُونَةِ. [الْعَلَاقَةُ الرَّابِعَةُ التَّضَادُّ] ُّ: وَهِيَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ ضِدِّهِ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ فِي الْمُتَقَابِلَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] أَطْلَقَ عَلَى الْجَزَاءِ سَيِّئَةً مَعَ أَنَّهُ عَدْلٌ لِكَوْنِهِ ضِدَّهَا، وَفِي هَذَا رَدُّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ

العلاقة الخامسة الكلية

قَوْلُهُ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . وَفِيهِ رَدُّ الْأَوَّلِ إلَى لَفْظِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمُعَاقَبَةٍ، وَمِنْهُ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] وَيَجُوزُ جَعْلُهُ مِنْ الْمُشَابَهَةِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ " الْمَثَلِ السَّائِرِ " مِنْ هَذَا الْقِسْمِ قَوْلَهُمْ، الْجَوْنُ لِلْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ، وَهُوَ وَهَمٌ؛ لِأَنَّ هَذَا اشْتِرَاكٌ كَالنَّاهِلِ، لِلرَّيَّانِ وَالظَّمْآنِ لَا أَنَّهُ مَجَازٌ، وَإِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فَالسَّابِقُ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَلَاقَةَ فِي إطْلَاقِ اسْمِ أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَيْسَ هُوَ اللُّزُومَ الذِّهْنِيَّ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى امْتِنَاعِ إطْلَاقِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَنْزِيلِ الْمُقَابِلِ مَنْزِلَةَ الْمُنَاسِبِ بِوَاسِطَةِ تَمْلِيحٍ أَوْ تَهَكُّمٍ كَمَا فِي إطْلَاقِ الشُّجَاعِ عَلَى الْجَبَانِ، أَوْ تَفَاؤُلٍ كَمَا فِي إطْلَاقِ الْبَصِيرِ عَلَى الْأَعْمَى، أَوْ مُشَاكَلَةٍ كَمَا فِي إطْلَاقِ السَّيِّئَةِ عَلَى جَزَاءِ السَّيِّئَةِ. [الْعَلَاقَةُ الْخَامِسَةُ الْكُلِّيَّةُ] ُ: وَهِيَ إطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح: 7] أَيْ، أَنَامِلَهُمْ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضَعُ أُصْبُعَهُ فِي أُذُنِهِ، وَقَوْلُهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] أَيْ أَعْيُنٌ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ بِالْعَيْنِ لَا بِالْوَجْهِ، وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ جِنِّي قَوْلَك: مَا فَعَلَ زَيْدٌ؟ فَيُقَالُ الْقِيَامُ، وَالْقِيَامُ إنَّمَا هُوَ جِنْسٌ

العلاقة السادسة الجزئية

يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إنَّ الْقِيَامَ دَالٌّ عَلَى الْمَصْدَرِ فَلَا يَدُلُّ بِمُطْلَقِهِ عَلَى أَنْوَاعِ الْقِيَامِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا غَيْرُ. وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي فِي الْقِيَامِ الِاسْتِغْرَاقُ فَلَا مُشَاحَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا، وَإِنْ أَرَادَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ تَعْرِيفَ الْمَصْدَرِ، فَهَذَا مَوْضِعُ النَّقْدِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى قِيَامٍ مَا، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: إنَّهُ بَعْضُ الْقِيَامِ وَلَا كُلُّهُ، فَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ مَا أَرَادَ مِنْ إدْخَالِهِ فِي بَابِ الْمَجَازِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ: الْقِيَامُ أُرِيدَ بِهِ الْمَجَازُ بَلْ الْحَقِيقَةُ، وَهَذَا النَّوْعُ يُقَالُ لَهُ: إطْلَاقُ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ، وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ. وَعِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَتُسَمَّى قَاصِرَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي الْمَجَازِ يَجِبُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَالْجُزْءُ لَيْسَ غَيْرَ الْكُلِّ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَيْنَهُ؛ لِأَنَّ الْغَيْرَيْنِ مَوْجُودَانِ يَجُوزُ وُجُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ، وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْكُلِّ بِدُونِ الْجُزْءِ، فَلَا يَكُونُ غَيْرَهُ، فَعِنْدَهُ اللَّفْظُ إنْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَيْ: فِي مَعْنًى خَارِجٍ عَمَّا وُضِعَ لَهُ فَمَجَازٌ، وَإِلَّا فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي عَيْنِهِ فَحَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةٌ قَاصِرَةٌ. [الْعَلَاقَةُ السَّادِسَةُ الْجُزْئِيَّةُ] ُ: وَهِيَ إطْلَاقُ الْجُزْءِ وَإِرَادَةُ الْكُلِّ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَمْلِكُ كَذَا رَأْسًا مِنْ

العلاقة السابعة إطلاق ما بالفعل على ما بالقوة

الْغَنَمِ أَوْ ذَبَحَ كَذَا رَأْسًا مِنْ الْبَقَرِ، وَكَاسْتِعْمَالِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ الْجَارِيَةُ فِي الْجَاسُوسِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» وَقَدْ فَرَّعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى هَذَا مَسْأَلَةَ إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَنَحْوِهِمَا، لَكِنَّ الْأَصَحَّ جَعْلُهُ مِنْ بَابِ السِّرَايَةِ، وَإِذَا تَعَارَضَ هَذَا، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يَسْتَلْزِمُ الْجُزْءَ وَلَا عَكْسَ، فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْأَوَّلِ أَقْوَى، وَهَذَا وَاضِحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى إطْلَاقِ الْأَعَمِّ عَلَى الْكُلِّ، أَمَّا فِي إطْلَاقِ الْجُزْءِ الْخَاصِّ بِالشَّيْءِ كَالنَّاطِقِ مَثَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِنْسَانِ فَلَا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ فَيَحْتَاجُ فِي تَعْلِيلِ أَوْلَوِيَّةِ الْأَوَّلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْجُزْءِ إلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْكُلَّ يَسْتَلْزِمُ الْجُزْءَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كُلٌّ، وَأَمَّا الْجُزْءُ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الْكُلَّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ، بَلْ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَمَا بِالذَّاتِ يَكُونُ أَوْلَى وَأَقْدَمَ مِمَّا بِالْعَرَضِ. قَالَهُ الْهِنْدِيُّ. [الْعَلَاقَةُ السَّابِعَةُ إطْلَاقُ مَا بِالْفِعْلِ عَلَى مَا بِالْقُوَّةِ] ِ] تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ الْمُسْتَعِدِّ لِأَمْرٍ بِاسْمِ ذَلِكَ الْأَمْرِ كَتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الدَّنِّ بِالْمُسْكِرِ وَإِطْلَاقُ الْكَاتِبِ عَلَى الْعَارِفِ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِ لَهَا وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ: إطْلَاقَ مَا بِالْفِعْلِ عَلَى مَا بِالْقُوَّةِ.

العلاقة الثامنة المجاورة

[الْعَلَاقَةُ الثَّامِنَةُ الْمُجَاوَرَةُ] ُ: وَهِيَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يُجَاوِرُهُ، كَإِطْلَاقِ لَفْظِ الرَّاوِيَةِ عَلَى الْقِرْبَةِ الَّتِي هِيَ ظَرْفٌ لِلْمَاءِ، فَإِنَّ الرَّاوِيَةَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْبَعِيرِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْقِرْبَةِ لِمُجَاوَرَتِهِ لَهَا، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: جَرَى الْمِيزَابُ، وَكَالْغَائِطِ لِلْفَضْلَةِ الْمُسْتَقْذَرَةِ؛ لِأَنَّهَا تُجَاوِرُ الْمَكَانَ الْمُطْمَئِنَّ غَالِبًا، كَقَوْلِهِ: فَشَكَكْت بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ ... لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحَرَّمِ أَرَادَ بِثِيَابِهِ نَفْسَهُ. [الْعَلَاقَةُ التَّاسِعَةُ اعْتِبَارُ مَا كَانَ عَلَيْهِ] ِ] : تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ كَتَسْمِيَةِ الْمُعْتَقِ عَبْدًا وَالْآدَمِيِّ مُضْغَةً وقَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] إذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا الْقِسْمَ حَقِيقَةٌ، وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الضَّارِبَ الْحَقِيقِيَّ هَلْ هُوَ مَنْ اتَّصَفَ بِإِيجَادِ الضَّرْبِ أَوْ مَنْ هُوَ آخِذٌ فِي إيجَادِهِ؟ وَقَدْ سَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ الِاشْتِقَاقِ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ بِكَوْنِهِ حَقِيقَةً لَمْ يُرِدْ تَحْقِيقَ الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، أَمَّا إذَا أُرِيدَ جَعْلُهُ ضَارِبًا بَعْدَ ضَرْبِهِ بِتَخَيُّلِ ضَرْبٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَهُوَ مَجَازٌ قَطْعًا. وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْطَ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَلَبِّسًا الْآنَ بِضِدِّهِ فَلَا يُقَالُ لِلشَّيْخِ: إنَّهُ طِفْلٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَلَا لِلثَّوْبِ الْأَسْوَدِ: إنَّهُ أَبْيَضُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ إطْلَاقُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لِكُفْرٍ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ.

العلاقة العاشرة اعتبار ما يئول إليه

[الْعَلَاقَةُ الْعَاشِرَةُ اعْتِبَارُ مَا يَئُولُ إلَيْهِ] ِ] : تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ، إمَّا بِالْفِعْلِ كَإِطْلَاقِ الْخَمْرِ عَلَى الْعِنَبِ، أَوْ بِالْقُوَّةِ كَإِطْلَاقِ الْمُسْكِرِ عَلَى الْخَمْرِ إنْ بَقِيَتْ. قِيلَ: وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ آيِلًا بِنَفْسِهِ لِيَخْرُجَ الْعَبْدُ، فَإِنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ حُرٌّ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ، وَفِي " تَعْلِيقِ الْخِلَافِ " لِإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ: إنَّمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْمَآلُ مَقْطُوعًا بِوُجُودِهِ كَالْقِيَامَةِ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَالْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْ نُزُولِهِ، فَيَبْطُلُ تَأْوِيلُ الْحَنَفِيَّةِ: فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ عَلَى أَنَّهُ سَيَبْطُلُ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَفْسَخَهُ. وَذَكَرَ ابْنُ يَحْيَى فِي تَعْلِيقِهِ " نَحْوَهُ، فَقَالَ: إذَا كَانَ الْمَآلُ مَقْطُوعًا بِهِ نَحْوُ {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] أَوْ غَالِبًا لَا نَادِرًا كَتَأْوِيلِ الْحَنَفِيَّةِ. وَهَاهُنَا تَنْبِيهَاتٌ أَحَدُهَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ اكْتَفَى عَنْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ بِالسَّابِعَةِ أَعْنِي بِعَلَاقَةِ الِاسْتِعْدَادِ وَهُوَ ظَاهِرُ تَمْثِيلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْإِمَامِ فِي " الْمَحْصُولِ ". وَالْحَقُّ: تَغَايُرُهُمَا:؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِدَّ لِلشَّيْءِ قَدْ لَا يَئُولُ إلَيْهِ، بَلْ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَمَا أَنَّ الْعَصِيرَ قَدْ لَا يَئُولُ إلَى الْخَمْرِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهَا وَلِغَيْرِهَا.

الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِمَا؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا سَيَئُولُ إلَيْهِ تَارَةً يُقَدَّرُ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ أَوْ سَتَكُونُ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ، وَيُتَخَيَّلُ ذَلِكَ فَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ، وَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْمُسَمَّى بِالْمُشَابَهَةِ فِي الصِّفَةِ، وَتَارَةً لَا يُتَخَيَّلُ ذَلِكَ، بَلْ يُطْلَقُ ذَلِكَ الِاسْمُ لِكَوْنِهِ كَانَ، أَوْ سَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَخَيُّلِ هَذِهِ الصِّفَةِ مَوْجُودَةً، وَهُوَ مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ وَبَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا أَعْنِي بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، فَالْأُولَى أَوْلَى، لِكَوْنِهِ وَصْفًا بِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ؛ لِأَنَّهُ وُصِفَ بِمَا وَقَعَ بِخِلَافِ هَذِهِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْأُولَى هَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ؟ وَاتَّفَقُوا فِي الثَّانِيَةِ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُعْتَبَرُ فِي الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ حُصُولُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى الْمَجَازِيِّ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ عَلَى حَالَةِ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ إلَى زَمَانِ وُقُوعِ النِّسْبَةِ، وَفِي الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ حُصُولُهُ فِي الزَّمَانِ اللَّاحِقِ، وَيَمْتَنِعُ فِيهِمَا حُصُولُهُ فِي زَمَانِ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُسَمَّى مِنْ أَفْرَادِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، فَفِي مِثْلِ: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وَ {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] وُضِعَ الْكَلَامُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةُ الْيُتْمِ حَاصِلَةً لَهُمْ وَقْتَ إيتَاءِ الْمَالِ إيَّاهُمْ، وَحَقِيقَةُ الْخَمْرِ حَاصِلَةٌ لَهُ حَالَ الْعَصِيرِ، فَلَوْ حَصَلَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى وَضْعِ الْكَلَامِ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مَجَازًا بَلْ حَقِيقَةً، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُصُولُ فِي زَمَانٍ سَابِقٍ، لِيَكُونَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، أَوْ لَاحِقٍ لِيَكُونَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاسْمِ، وَأَمَّا فِي الْفِعْلِ إذَا أُطْلِقَ الْمُسْتَقْبَلُ وَأُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي أَوْ عَكْسُهُ، فَالْمُرَادُ بِاللَّفْظِ نَفْسُ الْفِعْلِ، وَبِالزَّمَانِ زَمَانُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ بِهَيْئَتِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: يُكْتَبُ مَجَازًا عَنْ كُتُبٍ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ بِمَعْنَى حُصُولِ

العلاقة الحادية عشرة المجاز بالزيادة

الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى أَوْ جَوْهَرِ الْحُرُوفِ وَهُوَ الْحَدَثُ حَاصِلٌ لِلْمُسَمَّى فِي زَمَانٍ سَابِقٍ عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْفِعْلِ أَعْنِي الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ، إذْ لَوْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَكَانَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَإِذَا قُلْنَا: كَتَبَ زَيْدٌ مَجَازًا عَنْ يَكْتُبُ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ بِمَعْنَى حُصُولِ الْفِعْلِ الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى أَنَّ الْحَدَثَ حَاصِلٌ لَهُ فِي زَمَانٍ لَاحِقٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ الزَّمَانِ الْمَاضِي الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ بِهَيْئَتِهِ، إذْ لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لَكَانَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَالزَّمَانُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ الْمُسَمَّى فِي الصُّورَتَيْنِ مُغَايِرٌ لِلزَّمَانِ الَّذِي وُضِعَ لَفْظُ الْفِعْلِ لَهُ لِحُصُولِ الْحَدَثِ فِيهِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مَدْلُولُهُ الْمُسَمَّى الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَجَازِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا الْمَدْلُولُ الْمَجَازِيُّ هُوَ الْحَدَثُ الْمُقَارَنُ بِزَمَانٍ سَابِقٍ أَوْ لَاحِقٍ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ الْمَاضِي بِالْمُضَارِعِ، وَعَكْسُهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ غَيْرِ الْحَاصِلِ بِالْحَاصِلِ فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، وَتَشْبِيهُ الْمَاضِي بِالْحَاضِرِ فِي كَوْنِهِ نُصْبَ الْعَيْنِ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لَفْظُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ. [الْعَلَاقَةُ الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ الْمَجَازُ بِالزِّيَادَةِ] ِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وَهَلْ الزَّائِدُ كَافٌ أَوْ " مِثْلِ "؟ وَجْهَانِ. حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " الْإِرْشَادِ ": هَلْ الْمَجَازُ الزَّائِدُ عَنْ الْآيَةِ لَا غَيْرُ أَوْ الْكَلِمَةُ الَّتِي وَصَلَتْهَا الزِّيَادَةُ؟ وَجْهَانِ. وَسَيَأْتِي عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ فَقَطْ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَصْلِيَّةً لَلَزِمَ

العلاقة الثانية عشرة المجاز بالنقصان

إثْبَاتُ الْمِثْلِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَرُدَّ بِدَعْوَى الْأَصَالَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ مِثْلِ الْمِثْلِ، وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ مِثْلِ الْمِثْلِ نَفْيُ الْمِثْلِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مِثْلٌ، إذْ الْمُمَاثَلَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَيْسَ شَيْءٌ كَمِثْلِهِ، فَشَيْءٌ اسْمُ لَيْسَ، وَهُوَ الْمُبْتَدَأُ وَكَمِثْلِهِ خَبَرٌ، فَالشَّيْءُ الَّذِي هُوَ الْمَوْضُوعُ قَدْ نُفِيَ عَنْهُ الْمِثْلُ الَّذِي هُوَ الْمَحْمُولُ، فَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ لَا مَنْفِيٌّ فَيَكُونُ ثَابِتًا، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ مَنْفِيَّةً، وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ مِثْلُ مِثْلِهَا، وَلَازِمُهُ نَفْيُ مِثْلِهَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَنْفِيٌّ عَنْهَا. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ "، قِيلَ: إنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، أَوْ الْمِثْلَ زَائِدٌ قَالَ: وَنَرَى الْقَاضِي يَمِيلُ إلَى ذَلِكَ وَيَعُدُّهُ مِنْ الْمَجَازِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": قَدْ اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ كَوْنِ هَذَا مَجَازًا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّ الْكَلِمَةَ تَصِيرُ بِالزِّيَادَةِ مَجَازًا، وَقَالَ قَوْمٌ إنَّ نَفْسَ الزِّيَادَةِ تَكُونُ مَجَازًا دُونَ جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ؛ لِأَنَّ الْكَافَ هِيَ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَالْمِثْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ الْوَاحِدَ لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ، وَمَا لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ، وَالْكَافُ لَا تُفِيدُ إلَّا بِانْضِمَامِهَا إلَى الْمِثْلِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَجَازًا. انْتَهَى. وَقَالَ الْعَبْدَرِيّ فِي " الْمُسْتَوْفَى "، وَابْنُ الْحَاجِّ فِي " تَنْكِيتِهِ " عَلَى الْمُسْتَصْفَى ": الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ بَلْ فِيهَا ضَرْبٌ مِنْ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي نَفْيِ مِثْلِ الْمِثْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ مِثْلَهُ، وَالزِّيَادَةُ حَقِيقِيَّةٌ. [الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ الْمَجَازُ بِالنُّقْصَانِ] ِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33]

أَيْ: أَهْلَ اللَّهِ. قَالَ الْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ ": وَهُوَ مِثَالٌ سَدِيدٌ، وَقَوْلُهُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فَإِنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مَجَازًا، وَقَالَ: لَا نَقُولُ أُقِيمَتْ الْقَرْيَةُ مَقَامَ أَهْلِهَا، بَلْ حُذِفَ مِنْ الْخِطَابِ ذِكْرُ الْأَهْلِ لِدَلَالَةِ بَقِيَّةِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ، وَالْإِضْمَارُ وَالْحَذْفُ لَيْسَا مِنْ الْمَجَازِ، فَإِنَّ الْمَجَازَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، حَكَاهُ الْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ "، وَقَالَا: مَيْلُ الْقَاضِي إلَى أَنَّهُ يُسَمَّى مَجَازًا، قَالَ: وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالْخِلَافُ فِيهِ سَهْلٌ، وَكَذَا قَالَ إلْكِيَا: الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى. وَحَاصِلُ الْخِلَافِ: أَنَّ الْمُضْمَرَ هَلْ هُوَ سَبَبُ التَّجَوُّزِ أَوْ مَحَلُّ التَّجَوُّزِ؟ وَطَرِيقَةُ الْبَيَانِيِّينَ تَقْتَضِي الثَّانِيَ. قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ إذَا تَغَيَّرَ بِسَبَبِهِ حُكْمٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا، فَلَوْ قُلْت: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَعَمْرٌو، وَحَذَفْت الْخَبَرَ لَمْ يُوصَفْ بِالْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ إلَى تَغْيِيرِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ مَا بَقِيَ مِنْ الْكَلَامِ. انْتَهَى. وَالتَّمْثِيلُ بِالْآيَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ الْأَبْنِيَةُ، وَهِيَ لَا تُسْأَلُ: وَقِيلَ إنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ الْمُجْتَمِعِينَ فِيهَا، وَقِيلَ: بَلْ الْقَرْيَةُ حَقِيقَةٌ فِي النَّاسِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 48] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58]

وَلِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْقَرِّ، وَهُوَ الْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَرَأْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْته، وَمِنْهُ الْقِرَى، وَهِيَ الضِّيَافَةُ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ لَهَا. وَقِيلَ إنَّهَا مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ، لَا مِنْ الْحَذْفِ. وَقِيلَ: لَا مَجَازَ أَصْلًا، وَلَا حَذْفَ بَلْ السُّؤَالُ حَقِيقِيٌّ لَهَا، وَيَكُونُ مُعْجِزَةً؛ لِأَنَّهُ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ. وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الرِّسَالَةِ " وَنَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ وَجَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ الدَّالِّ لَفْظِهِ عَلَى بَاطِنِهِ دُونَ ظَاهِرِهِ، فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ يَحْكِي قَوْلَ إخْوَةِ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82] فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ قَبْلَهَا لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُخَاطِبُونَ أَبَاهُمْ بِمَسْأَلَةِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِ الْعِيرِ؛ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ وَالْعِيرَ لَا يُنْبِئَانِ عَنْ صِدْقِهِمْ. اهـ كَلَامُهُ. وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ جَعْلُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ الْإِفْرَادِيَّ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَجَمِيعُ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَتَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، فَالْقَرْيَةُ فِي الْقَرْيَةِ، وَالسُّؤَالُ فِي السُّؤَالِ، وَكَذَا الْآيَةُ الْأُخْرَى، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمَحْذُوفُ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْمَحْذُوفُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ أَلْبَتَّةَ، وَالزَّائِدُ كَذَلِكَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي شَيْءٍ، وَمَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً، وَلَا مَجَازًا، فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مِنْ مَجَازِ التَّرْكِيبِ لَا الْإِفْرَادِ وَاخْتَارَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ

السُّؤَالَ لِتَرْكِيبِ لَفْظَةٍ مَعَ لَفْظَةٍ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْإِجَابَةِ، فَحَيْثُ رَكَّبَتْهُ مَعَ مَا لَا يَصْلُحُ، فَقَدْ عَدَلَتْ عَنْ التَّرْكِيبِ الْأَصْلِيِّ إلَى تَرْكِيبٍ آخَرَ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ إلَّا هَذَا، وَكَذَلِكَ حُرُوفُ الزِّيَادَةِ وَضَعَتْهَا لِتُرَكِّبَهَا مَعَ مَعْنًى، فَإِذَا رَكَّبَتْهَا لَا مَعَ مَعْنًى، فَهُوَ مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ. وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَجَازَ فِي الْمَذْكُورِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُغَيِّرُ حُكْمَ إعْرَابِهِ؛ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ مَعَ ذِكْرِ الْأَهْلِ مَجْرُورَةٌ، وَعِنْدَ حَذْفِهَا مَنْصُوبَةٌ، وَكَذَلِكَ " مِثْلِ " مَجْرُورَةٌ بِزِيَادَةِ الْكَافِ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْأَصْلِ النَّصْبَ، فَإِنَّمَا وَقَعَ الْمَجَازُ فِي الْجَرِّ وَالنَّصْبِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَيَانِ، وَشَرَطُوا فِي مَجَازِ الْحَذْفِ أَنْ يَتَغَيَّرَ حُكْمُ إعْرَابِ الْكَلِمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَمْ يَكُنْ مَجَازًا، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ حَذْفٌ، وَمِثَالُهُ: قَوْله تَعَالَى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96] فَإِنَّ الْمُقَدَّرَ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ، فَالْمَذْكُورُ هُنَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ إعْرَابِهِ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا. الثَّانِي: أَنَّ تَعْرِيفَ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ صَادِقٌ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُلْحَظْ لَك؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] مَوْضُوعٌ لِسُؤَالِهَا مُسْتَعْمَلٌ فِي سُؤَالِ أَهْلِهَا، فَكَانَ مَجَازًا، وَلَيْسَ هُوَ مَجَازًا فِي التَّرْكِيبِ، فَإِنَّ مَجَازَ التَّرْكِيبِ مِثْلُ قَوْلِك: أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضُوعِهِ، فَمُقْتَضَاهُ إسْنَادُ الْإِثْبَاتِ إلَى الرَّبِيعِ، وَلَكِنَّا عَلِمْنَا بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ اللَّهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَجَازِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ أَنَّ اللَّفْظَةَ الزَّائِدَةَ وَحْدَهَا أَوْ النَّاقِصَةَ وَحْدَهَا مَجَازٌ، وَلَا نَعْنِي بِمَجَازِ التَّرْكِيبِ إلَّا إسْنَادَ الْفِعْلِ إلَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا جَاءَ الْمَجَازُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ حَتَّى لَوْ فُرِضَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ كَافِرٍ يَعْتَقِدُ حَقِيقَتَهُ لَمْ يَكُنْ مَجَازًا.

العلاقة الثالثة عشرة التعليق الحاصل بين المصدر واسم المفعول أو الفاعل

[الْعَلَاقَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ التَّعْلِيقُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ أَوْ الْفَاعِلِ] ِ، فَمِنْ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ قَوْله تَعَالَى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] أَيْ: مَخْلُوقَةٌ وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] أَيْ مِنْ مَعْلُومِهِ: فَسُمِّيَ الْمَعْلُومُ عِلْمًا لِمَا بَيْنَ الْمَعْلُومِ وَالْعِلْمِ مِنْ التَّعَلُّقِ، وَلَفْظَةُ " مِنْ " تَقْتَضِي أَنَّ الْعِلْمَ نَفْسَهُ لَيْسَ مُرَادًا فَإِنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، وَعِلْمُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ، وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] أَيْ: سَاتِرًا {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] أَيْ آتِيًا عَلَى قَوْلٍ، وَمِنْ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفَاعِلِ رَجُلٌ عَدْلٌ وَصَوْمٌ أَيْ عَادِلٌ وَصَائِمٌ، وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِمْ: قُمْ قَائِمًا أَيْ قِيَامًا وَاسْكُتْ سَاكِتًا أَيْ سُكُوتًا. [الْعَلَاقَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ إطْلَاقُ اسْمِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ] ِ:، كَالْمَسِّ عَلَى الْجِمَاعِ. الْعَلَاقَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: عَكْسُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} [الروم: 35] أَيْ يَدُلُّ، وَالدَّلَالَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْكَلَامِ [الْعَلَاقَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ تَسْمِيَةُ الْحَالِّ بِاسْمِ الْمَحَلِّ] ِّ، كَالْغَائِطِ، وَقَوْلُهُمْ: لَا فُضَّ فُوك، أَيْ:

العلاقة الثامنة عشرة إطلاق المنكر وإرادة المعرف

أَسْنَانُك، وَقَوْلُهُ: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] . الْعَلَاقَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: عَكْسُهُ، كَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107] أَيْ فِي الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَحَلِّ رَحْمَتِهِ، وَكَإِطْلَاقِ اللِّسَانِ عَلَى الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} [الروم: 22] وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء: 84] ، وَقَدْ اجْتَمَعَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ، فَإِنَّ الزِّينَةَ حَالَّةٌ فِي الثِّيَابِ، وَالْمَسْجِدُ مَحَلُّ الصَّلَاةِ، فَفِي الْأَوَّلِ إطْلَاقُ الْحَالِّ وَإِرَادَةُ الْمَحَلِّ وَالثَّانِي إطْلَاقُ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةُ الْحَالِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ. [الْعَلَاقَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ إطْلَاقُ الْمُنَكَّرِ وَإِرَادَةُ الْمُعَرَّفِ] ِ: مِثْلُ {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] عِنْدَ مَنْ يَقُولُ كَانَتْ مُعَيَّنَةً. الْعَلَاقَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ عَكْسُهُ، مِثْلُ {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء: 154] عِنْدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ دُخُولُ أَيِّ بَابٍ كَانَ. [الْعَلَاقَةُ الْعِشْرُونَ إطْلَاقُ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ وَإِرَادَةُ الْجِنْسِ] ِ: نَحْوُ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ. [الْعَلَاقَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ إطْلَاقُ النَّكِرَةِ وَإِرَادَةُ الْجِنْسِ] ِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] وَقَوْلُهُ {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] عِنْدَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ اسْمَ جِنْسٍ كَالصِّفَةِ.

العلاقة الثانية والعشرون إطلاق اسم المقيد على المطلق

[الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ] ِ: كَقَوْلِ الْقَاضِي شُرَيْحٍ أَصْبَحْت وَنِصْفُ النَّاسِ عَلَيَّ غَضْبَانُ، فَإِنَّهُ أَرَادَ بِالنِّصْفِ الْبَعْضَ. الْعَلَاقَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ عَكْسُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] عِنْدَ مَنْ يَقُولُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إطْلَاقُ اسْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ هُوَ الْكُلُّ، وَالْخَاصُّ هُوَ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُطْلَقَ جُزْءٌ مِنْ الْمُقَيَّدِ. اهـ. وَهَذَا سَهْوٌ مِنْهُ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي إطْلَاقِ الْخَاصِّ، وَإِرَادَةُ الْعَامِّ الَّذِي أَرَادَ بِهِ الْإِمَامُ إطْلَاقَ الْجُزْءِ وَإِرَادَةَ الْكُلِّ. [الْعَلَاقَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ تَسْمِيَةُ الْبَدَلِ بِاسْمِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ] ُ: كَتَسْمِيَةِ الدِّيَةِ بِالدَّمِ فِي قَوْلِهِمْ: أَكَلَ فُلَانٌ دَمَ فُلَانٍ أَيْ: دِيَتَهُ.

العلاقة الخامسة والعشرون عكسه كتسمية الأداء بالقضاء

[الْعَلَاقَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ عَكْسُهُ كَتَسْمِيَةِ الْأَدَاءِ بِالْقَضَاءِ] ِ: فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 103] أَيْ أَدَّيْتُمْ، هَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ. [الْعَلَاقَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ الْقَلْبُ] ُ: كَقَوْلِهِمْ: خَرَقَ الثَّوْبُ الْمِسْمَارَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76] عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. [الْعَلَاقَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ التَّشْبِيهُ] ُ: كَقَوْلِهِمْ تَعَالَى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ النُّحَاةِ وَتَبِعَهُمْ صَاحِبُ " الِارْتِشَافِ ". وَالْحَقُّ: أَنَّ التَّشْبِيهَ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ. [الْعَلَاقَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَلْبُ التَّشْبِيهِ] ِ: كَقَوْلِهِ: يَكُونُ مِزَاجُهَا عَسَلًا وَمَاءً. [الْعَلَاقَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ الْكِنَايَةُ] ُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] وَفِي هَذَا أَيْضًا نِزَاعٌ. [الْعَلَاقَةُ الثَّلَاثُونَ التَّعْرِيضُ] ُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف: 67]

العلاقة الحادية والثلاثون الانقطاع من الجنس

[الْعَلَاقَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ الِانْقِطَاعُ مِنْ الْجِنْسِ] ِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34] . [الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ وُرُودُ الْمَدْحِ فِي صُورَةِ الذَّمِّ وَعَكْسُهُ] ُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وَقَالُوا: مَا أَشْعَرَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ، وَأَخْزَاهُ اللَّهُ مَا أَفْصَحَهُ. [الْعَلَاقَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَعَكْسُهُ] ُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] وَقَوْلِهِ {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] . [الْعَلَاقَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ وُرُودُ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُحَالِ فِي صُورَةِ الْمُمْكِنِ] ِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} [الإسراء: 79] . وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: لَعَلَّ مَنَايَانَا تَحَوَّلْنَ أَبْؤُسَا [الْعَلَاقَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ] ُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 4] {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 5]

العلاقة السادسة والثلاثون إضافة الشيء إلى ما ليس له

وَالْغُثَاءُ مَا احْتَمَلَهُ السَّيْلُ مِنْ الْحَشِيشِ، وَالْأَحْوَى الشَّدِيدُ الْخُضْرَةِ مِنْ النِّعْمَةِ. [الْعَلَاقَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى مَا لَيْسَ لَهُ] ُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33] . [الْعَلَاقَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ وَوَصْفُهُ لِغَيْرِهِ] ِ، كَقَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَلَيْلُهُ قَائِمٌ. [الْعَلَاقَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ تَجَاهُلُ الْعَارِفِ] ِ، وَتَجَنَّبَ السَّكَّاكِيُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِوُقُوعِهِ فِي التَّنْزِيلِ، وَسَمَّاهُ سِيَاقَ الْمَعْلُومِ مَسَاقَ الْمَجْهُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ الرُّسُلِ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] ذَكَرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ عَشْرَةَ الْأَخِيرَةَ أَبُو إِسْحَاقَ النَّهَاوِيُّ مِنْ النَّحْوِيِّينَ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ "، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأُصُولِيُّونَ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ فِيهَا فِي التَّرْكِيبِ لَا فِي الْإِفْرَادِ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ مَنْ سَاقَ الْجَمْعَ مَسَاقًا وَاحِدًا. [مَسْأَلَةٌ يَقَعُ الْمَجَازُ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَالتَّرْكِيبِ] ِ] الْمَجَازُ إمَّا أَنْ يَقَعَ فِي مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ أَوْ فِي تَرْكِيبِهَا، فَالْأَوَّلُ كَإِطْلَاقِ الْأَسَدِ عَلَى الشُّجَاعِ، وَهُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ الْأُصُولِيُّ، وَيُسَمَّى لُغَوِيًّا وَلَفْظِيًّا، وَأَنْكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَمَنْ مَعَهُ كَمَا سَبَقَ. وَالثَّانِي: حَيْثُ تَكُونُ الْمُفْرَدَاتُ حَقَائِقَ، إنَّمَا وَقَعَ التَّجَوُّزُ بِاعْتِبَارِ

تعريف المجاز

الْإِسْنَادِ، فَإِنْ أُسْنِدَ إلَى مَا لَيْسَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ - كَسَبَ زَيْدٌ أَبَاهُ إذَا كَانَ سَبَبًا لَهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ الْبَيَانِيُّون فِيهِ، وَيُسَمَّى عَقْلِيًّا وَحُكْمِيًّا، فَإِذَا وَصَفْنَا الْمُفْرَدَ بِالْمَجَازِ كَقَوْلِنَا: الْيَدُ مَجَازٌ فِي النِّعْمَةِ كَانَ حُكْمًا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ، وَمَتَى وَصَفْنَا الْجُمْلَةَ بِذَلِكَ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْقُولِ. وَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ وُجْهَاتٍ: [تَعْرِيفُ الْمَجَازِ] [تَعْرِيفُ الْمَجَازِ] الْأَوْلَى: فِي حَدِّهِ: اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ وَالسَّكَّاكِيُّ: هُوَ الْكَلَامُ الْمُفَادُ بِهِ خِلَافُ مَا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيلِ إفَادَةً لِلْخِلَافِ لَا بِوَاسِطَةِ الْوَضْعِ. فَخَرَجَ " بِالْمُفَادِ بِهِ " خِلَافُ مَا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، الْحَقِيقَةُ وَ " بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيلِ ": الْكَذِبُ. وَبِالْأَخِيرِ الْمَجَازُ اللُّغَوِيُّ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إسْنَادُ الْفِعْلِ إلَى شَيْءٍ يَلْتَبِسُ بِاَلَّذِي هُوَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَجَازَ هَلْ هُوَ نَفْسُ اللَّفْظِ أَوْ الْإِسْنَادُ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَنْشَأُ مِنْ الْحَدَّيْنِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ الْكَلَامُ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ الْإِسْنَادُ، وَلِهَذَا صَرَّحَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " بِأَنَّهُ الْإِسْنَادُ نَفْسُهُ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، لَكِنْ صَرَّحَ الشَّيْخُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ " دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ "

وجود المجاز

بِأَنَّ الْمُسَمَّى بِالْمَجَازِ الْكَلَامُ لَا الْإِسْنَادُ، وَعَلَيْهِ جَرَى السَّكَّاكِيُّ فِي " الْمِفْتَاحِ " وَلِهَذَا يَقُولُ فِي جَمِيعِ الْبَابِ: إسْنَادُ حَقِيقَةٍ، وَإِسْنَادُ مَجَازٍ كَمَا قَالَ غَيْرُهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا عَلَى هَذَا نَقِيسُهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، لِاشْتِمَالِ الْإِسْنَادِ عَلَى مَا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْعَقْلُ نَفْسُهُ، قِيلَ: وَالْخِلَافُ فِي الْعِبَارَةِ لَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الَّذِي يَنْسُبُهُ إلَيْهِ الْكَلَامُ إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْإِسْنَادَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَسْتَلْزِمُ الْإِسْنَادَ الَّذِي يُوصَفُ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَلِاسْتِلْزَامِهِ ذَلِكَ جَازَ الْإِطْلَاقُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إطْلَاقَهُمَا عَلَى الْإِسْنَادِ أَوْضَحُ. [وُجُودُ الْمَجَازِ] [وُجُودُ الْمَجَازِ] الثَّالِثَةُ: هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ أَمْ لَا؟ وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْبَيَانِيِّينَ عَلَى إثْبَاتِهِ وَوَافَقَهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ، وَأَنْكَرَهُ السَّكَّاكِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، أَمَّا ابْنُ الْحَاجِبِ فَقَالَ: إنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَإِسْنَادُ السُّرُورِ إلَى الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِمَجَازٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ إسْنَادُهُ إلَيْهَا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إلَى مَا هُوَ لَهُ عَادَةً حَقِيقَةٌ، وَالْمَجَازُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُفْرَدِ أَيْ فِي الْفِعْلِ. وَأَمَّا السَّكَّاكِيُّ فَقَالَ: إنَّهُ رَاجِعٌ إلَى اسْتِعَارَةٍ بِالْكِنَايَةِ، فَقَوْلُهُمْ: أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ، اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ، عَنْ الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ بِوَاسِطَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ عَلَى قَاعِدَةِ الِاسْتِعَارَةِ، وَنِسْبَةُ الْإِنْبَاتِ إلَيْهِ قَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ، وَهَكَذَا يَصْنَعُ فِي بَقِيَّةِ الْأَمْثِلَةِ.

وَاحْتَجَّ الْمُنْكِرُ بِأَنَّ الْمُسْنَدَ وَالْمُسْنَدَ إلَيْهِ إمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَا فِي مَوْضُوعِهِمَا فَيَكُونُ الِاسْتِعْمَالُ حَقِيقِيًّا، أَوْ يُسْتَعْمَلَ أَحَدُهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فَالْإِسْنَادُ لِلْمَعْنَى لَا لِلَّفْظِ، فَاللَّفْظُ مَجَازٌ، وَالْإِسْنَادُ حَقِيقَةٌ، وَإِسْنَادُ مَدْلُولِ الْمَجَازِ لِمَدْلُولِ الْمَجَازِ أَوْ لِمَدْلُولِ الْحَقِيقَةِ حَقِيقَةٌ. مِثَالُهُ: أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِك. فَالْإِحْيَاءُ مَجَازٌ أَوْ عَنْ السُّرُورِ وَالِاكْتِحَالُ مَجَازٌ عَنْ الرُّؤْيَةِ، وَإِسْنَادُ السُّرُورِ إلَى الرُّؤْيَةِ حَقِيقَةٌ، فَالْإِسْنَادُ دَائِمًا لِلْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى نِسْبَةُ شَيْءٍ فَلَا يَخْتَلِفُ. وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ عَنْ هَذَا بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّا فِي مَجَازِ التَّرْكِيبِ لَا نُلَاحِظُ الْمَعْنَى أَصْلًا، بَلْ مُجَرَّدُ اللَّفْظِ هَلْ وُضِعَ لِيُرَكَّبَ مَعَ هَذَا اللَّفْظِ أَوْ لَا؟ فَمَا وُضِعَ لِيُرَكَّبَ مَعَ اللَّفْظِ فَهُوَ مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّ السُّؤَالَ مُغَالَطَةٌ؛ لِأَنَّا ادَّعَيْنَا أَنَّ تَرْكِيبَ لَفْظِ الْإِحْيَاءِ مَعَ لَفْظِ الِاكْتِحَالِ مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ، وَأَنْتُمْ أَثْبَتُّمْ تَرْكِيبَ لَفْظِ السُّرُورِ مَعَ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ. اهـ. قِيلَ: وَهُمَا فَاسِدَانِ، أَمَّا قَوْلُهُ فِي مَجَازِ التَّرْكِيبِ لَا نُلَاحِظُ الْمَعْنَى فَمَمْنُوعٌ، وَأَيُّ مَجَازٍ لَا يُلَاحَظُ فِيهِ الْمَعْنَى؟ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ وَالْمَجَازُ بِنَوْعَيْهِ شَرْطُهُ الْعَلَاقَةُ، وَهِيَ مَعْنًى؟ وَأَمَّا الثَّانِي: فَنَقُولُ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ تَرْكِيبِ لَفْظِ الْإِحْيَاءِ وَالِاكْتِحَالِ، وَلَفْظِ السُّرُورِ وَالرُّؤْيَةِ؟ وَكُلُّ مَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمُسَاوِيهِ وَالْإِحْيَاءُ وَالِاكْتِحَالُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ مُسَاوِيَانِ لِلسُّرُورِ وَالرُّؤْيَةِ. وَمِمَّنْ أَنْكَرَ مَجَازَ التَّرْكِيبِ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ " وَ " أَمَالِيهِ " وَاسْتَبْعَدَهُ فِي " الصَّغِيرِ " وَرَدَّ عَلَى عَبْدِ الْقَاهِرِ فِي قَوْلِهِ فِي نَحْوِ: أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِك أَنَّ الْمَجَازَ فِي الْإِسْنَادِ. قَالَ مَا مَعْنَاهُ:؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مُعْتَوِرَانِ شَيْئًا بِحَسَبِ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَالْأَسَدِ يَكُونُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا

بِاعْتِبَارِ الْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ وَالرَّجُلِ الشُّجَاعِ، وَأَمَّا إسْنَادُ الْإِحْيَاءِ إلَى الِاكْتِحَالِ، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا فِي التَّرْكِيبِ، وَلِعَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْ يَقُولَ: نَظِيرُ الْأَسَدِ إنْ أَخَذْت الْإِحْيَاءَ مُسْنَدًا إلَى شَيْءٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ لَهُ جِهَتَانِ: جِهَةٌ يُسْنَدُ فِيهَا إلَى مَا هُوَ لَهُ، وَجِهَةٌ يُنْسَبُ إلَى غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ، وَإِنْ أَخَذْت الْإِحْيَاءَ، بِقَيْدِ إسْنَادِهِ إلَى الِاكْتِحَالِ، فَنَظِيرُهُ الْأَسَدُ بِقَيْدِ إرَادَةِ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، لَيْسَ لَهُ إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمَجَازَ فِي التَّرْكِيبِ مِثْلُ: أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِك: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّك إذَا رَدَدْت الْمُفْرَدَاتِ إلَى مَا هِيَ مَجَازٌ عَنْهُ لَمْ يَبْقَ فِي التَّرْكِيبِ مَجَازٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَطَرِيقُ رَدِّهَا إلَى مَا هِيَ مَجَازٌ عَنْهُ أَنَّ أَحْيَانِي مَجَازٌ عَنْ سَرَّنِي، وَاكْتِحَالِي مَجَازٌ عَنْ رُؤْيَتِي، وَطَلْعَتُك مَجَازٌ عَنْ وَجْهِك، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ فِي مِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَحْيَا الْأَرْضَ شَبَابُ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّكَ وَإِنْ رَدَدْت الْمُفْرَدَاتِ إلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بَقِيَ الْمَجَازُ فِي الْإِسْنَادِ؛ لِأَنَّ إحْيَاءَهَا فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْت: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِلَافُ لَيْسَ فِي جَوَازِهِ وَلَا فِي وُقُوعِهِ بِدَلِيلِ الْأَمْثِلَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ عَقْلِيًّا أَوْ لُغَوِيًّا، أَيْ: فِي أَنَّ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَجَازِ هَلْ هُوَ حُكْمٌ عَقْلِيٌّ أَوْ لَفْظٌ وَضْعِيٌّ؟ وَسَنَذْكُرُهُ، وَقَدْ عَكَسَ أَبُو الْمُطَرِّفِ بْنُ عَمِيرَةَ فِي كِتَابِ " الشُّبُهَاتِ " قَوْلَ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَقَالَ: الْمَجَازُ قَطُّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي التَّرْكِيبِ وَلَا يَكُونُ فِي الْمُفْرَدِ. نَعَمْ، عِنْدَ التَّعْلِيمِ بِالْمِثَالِ قَدْ يُجَاءُ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ فَيُقَالُ، كَمَا يُقَالُ لِلشُّجَاعِ: هُوَ أَسَدٌ، وَلِلْبَلِيدِ: هُوَ حِمَارٌ، وَالنَّحْوِيُّ يَقُولُ: إعْرَابُ الْفَاعِلِ الرَّفْعُ وَالْمَفْعُولِ النَّصْبُ، كَمَا

يَقُولُ: زَيْدٌ إذَا جَعَلْته فَاعِلًا، وَزَيْدًا إذَا جَعَلْته مَفْعُولًا، فَكَانَ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا قِيلَ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا أَنْ يُقَالَ فِي الْإِعْرَابِ الْإِفْرَادِيِّ، وَفِي هَذَا التَّرْكِيبِيُّ أَوْ الْإِسْنَادِيُّ، وَالْإِعْرَابُ حَقِيقَةً إنَّمَا هُوَ فِي هَذَا، وَانْظُرْ أَمْثِلَتَهُمْ فِي الْإِسْنَادِيِّ، وَفِي الْإِفْرَادِيِّ تَجِدْهَا وَاحِدَةً. [الْمَجَازُ التَّرْكِيبِيُّ عَقْلِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ] الرَّابِعَةُ: إذَا أَثْبَتْنَا الْمَجَازَ التَّرْكِيبِيَّ، فَهَلْ هُوَ لُغَوِيٌّ أَمْ عَقْلِيٌّ؟ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ عَقْلِيٌّ وَلَمْ يُسَمُّوهُ مَجَازًا لِكَوْنِهِ وُضِعَ لِمَعْنًى، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ جِهَتَانِ جِهَةُ الْحَقِيقَةِ وَجِهَةُ الْمَجَازِ كَمَا فِي الْمَجَازِ الْمُفْرَدِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ صِيَغَ الْأَفْعَالِ فِيهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَوْضُوعَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، وَكَذَا صِيَغُ الْفَاعِلِ فَلَا مَجَازَ فِيهِ إلَّا فِي نِسْبَةِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ إلَى أُولَئِكَ الْفَاعِلِينَ، وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ لَا وَضْعِيٌّ، وَكَذَلِكَ لَا نُسَمِّيهِ مَجَازًا لُغَوِيًّا لِعَدَمِ رُجُوعِهِ إلَى الْوَضْعِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ فِي الْمُفْرَدِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجِهَتَيْنِ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ وَجِهَةِ الْمَجَازِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ لَا صُنْعَ لَهُ بَعْدَ وَضْعِ الْمُفْرَدِ لَا يُسْنَدُ إلَيْهِ، بَلْ يَكِلُ ذَلِكَ إلَى خِبْرَةِ الْمُتَكَلِّمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إسْنَادَ الْوَشْيِ إلَى الرَّبِيعِ لَا الْقَادِرِ فِي قَوْلِك: خَيْطٌ أَحْسَنُ مِنْ وَشْيِ الرَّبِيعِ لَيْسَ مُسْتَفَادًا مِنْ اللُّغَةِ؟ وَقِيلَ: بَلْ هُوَ لُغَوِيٌّ؛ لِأَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ وَضَعَ الْمُفْرَدَ لِيُرَكِّبَهُ مَعَ مَا يُنَاسِبُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ، وَالْمُنَاسَبَةُ مَعْلُومَةٌ بِطُرُقِهَا، وَحَجَرَ أَيْضًا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْحَذْفِ وَالذِّكْرِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لُغَوِيٌّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَرَبَ هَلْ وَضَعَتْ الْمُرَكَّبَاتِ أَوْ لَا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ.

مسألة المجاز قد يكون بالأصالة أو التبعية

الثَّانِي: فِي مَدْلُولِ نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إلَى فَاعِلِهَا، فَنَقُولُ: الْفِعْلُ تَارَةً يُرَادُ بِهِ وُقُوعُهُ مِنْ فَاعِلِهِ حَقِيقَةً، أَوْ قُدْرَةُ الْفَاعِلِ، كَقَوْلِنَا: خَلَقَ اللَّهُ زَيْدًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ فِعْلٍ نُسِبَ إلَى اللَّهِ، وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ وُقُوعُهُ مِنْ فَاعِلِهِ حُكْمًا كَقَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - هُوَ الْفَاعِلُ، وَلَكِنَّ الْقِيَامَ مَنْسُوبٌ فِعْلُهُ لِزَيْدٍ حُكْمًا، وَتَارَةً يُرَادُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَافِهِ بِهِ كَقَوْلِنَا: مَرِضَ زَيْدٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا تَسَبُّبَ فِيهِ، كَبَرْدِ الْمَاءِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْإِسْنَادُ فِيهَا حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ لَهَا، وَلَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى الْإِسْنَادِ إلَى الْمُوجِدِ، وَالْإِسْنَادُ لِغَيْرِ الْمُوجِدِ لَا يُنَافِي الْحَقِيقَةَ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إلَّا مَا وَضَعَتْ الْعَرَبُ بِإِزَائِهِ، وَالْعَرَبُ تَقْصِدُ النِّسْبَةَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ تَبَادُرِ الذِّهْنِ إلَى الْإِسْنَادِ مِنْ غَيْرِ الْمُوجِدِ، إنَّمَا الْمَجَازُ التَّرْكِيبِيُّ النِّسْبَةُ لِغَيْرِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَمَعْنَى نِسْبَةِ الشَّيْءِ لِغَيْرِ فَاعِلِهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، وَلَا بِمَعْنَى اتِّصَافِهِ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَأَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ، فَإِنَّ الرَّبِيعَ لَيْسَ بِمُنْبِتٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، وَلَا مُتَّصِفٍ بِذَلِكَ فِي وَضْعِ الْعَرَبُ، إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ: إنْ فَرَّعْنَا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ الْمُرَكَّبَاتِ مَوْضُوعَةٌ فَالْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ لُغَوِيٌّ؛ لِأَنَّهُ إسْنَادٌ لِغَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً فَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ عَقْلِيٌّ لَا مَدْخَلَ لِلُّغَةِ فِيهِ، فَمِنْ هُنَا جَاءَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمَجَازَ التَّرْكِيبِيَّ عَقْلِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ. [مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ قَدْ يَكُونُ بِالْأَصَالَةِ أَوْ التَّبَعِيَّةِ] ِ] الْمَجَازُ الْوَاقِعُ فِي الْكَلَامِ قَدْ يَكُونُ بِالْأَصَالَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّبَعِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ لَا يَدْخُلُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:

الْحُرُوفُ] أَحَدُهَا: الْحَرْفُ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ، قَالَ الْإِمَامُ فَإِنْ ضُمَّ إلَى مَا يَنْبَغِي ضَمُّهُ إلَيْهِ كَانَ حَقِيقَةً، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ لَا فِي الْمُفْرَدِ، وَخَالَفَهُ النَّقْشَوَانِيُّ مُدَّعِيًا أَنَّ الْحُرُوفَ لَهَا مُسَمًّى فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضُوعِهِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ كَانَ الِاسْتِعْمَالُ عِنْدَ ضَمِّهِ إلَى غَيْرِهِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ الضَّمِّ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ لِعَلَاقَةٍ كَانَ مَجَازًا مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] فَإِنَّ الصَّلْبَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ، وَكَذَلِكَ جُذُوعُ النَّخْلِ، وَلَمْ يَقَعْ الْمَجَازُ إلَّا فِي حَرْفِ " فِي " فَإِنَّهَا لِلظَّرْفِيَّةِ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ هُنَا لِغَيْرِ الظَّرْفِيَّةِ قَالَ: لَوْ لَمْ يَدْخُلْ الْمَجَازُ فِي الْحَرْفِ بِالذَّاتِ لَمَا دَخَلَتْ فِيهِ الْحَقِيقَةُ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَطْلَقَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي كِتَابِ " الْمَجَازِ " دُخُولَهُ فِي الْحُرُوفِ. وَمَذْهَبُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ نِيَابَةُ بَعْضِ الْحُرُوفِ عَنْ بَعْضٍ، وَخَالَفَهُمْ الْبَصْرِيُّونَ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّضْمِينِ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَجَازِ. [الْأَفْعَالُ وَالْمُشْتَقَّاتُ] الثَّانِي: الْأَفْعَالُ وَالْمُشْتَقَّاتُ؛ لِأَنَّهُمَا يَتْبَعَانِ أُصُولَهُمَا وَأَصْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْمَصْدَرُ، فَإِنْ كَانَا حَقِيقَةً كَانَا كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ الْإِمَامُ، وَنَاقَشَهُ النَّقْشَوَانِيُّ أَيْضًا.

فَقَالَ: قَوْلُكُمْ هُنَا: لَا يَدْخُلُ الْمَجَازُ فِي الْفِعْلِ إلَّا بِوَاسِطَةِ دُخُولِهِ فِي الْمَصْدَرِ يُنَاقِضُ قَوْلَكُمْ: اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَقِّ بَعْدَ زَوَالِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ مَجَازٌ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: كَوْنُ الْمَجَازِ لَا يَدْخُلُ فِي الْفِعْلِ إلَّا بِوَاسِطَةِ دُخُولِهِ فِي الْمَصْدَرِ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِنَا: الْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ. قَالَ: وَقَدْ يَدْخُلُ الْمَجَازُ فِي الْأَفْعَالِ فَإِنَّ الْمَاضِيَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] وَعَكْسُهُ نَحْوُ إنْ قَامَ عَمْرٌو، وَهَذَا مَجَازٌ فِي الْمَاضِي مَعَ عَدَمِ دُخُولِهِ فِي الْمَصْدَرِ. قُلْت: وَكَذَا اسْتِعْمَالُ ظَنَّ بِمَعْنَى تَيَقَّنَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] وَعَلِمَ بِمَعْنَى ظَنَّ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] وَمِنْ مِثْلِهِ قَوْلٌ لِأَبِي الطَّيِّبِ. إنَّ الْكَرِيمَ إذَا أَقَامَ بِبَلْدَةٍ ... سَالَ النِّضَارُ بِهَا وَسَالَ الْمَاءُ وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَيْ سَالَ الذَّهَبُ إلَى أَنْ مَلَأَ الْبِطَاحَ وَالْبَرَارِيَ وَالْأَوْدِيَةَ إلَى أَنْ مَلَأَ الْأَنْهُرَ فَمَنَعَ الْمَاءَ مِنْ أَنْ يَسْتَقِرَّ. وَيَنْبَنِي عَلَى تَصَوُّرِ الْمَجَازِ فِي الْأَفْعَالِ أَنَّا لَوْ جَمَعْنَا اسْمَيْنِ بِفِعْلٍ نَحْوِ ضَرَبَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، هَلْ يَجُوزُ مَعَ إرَادَةِ " يَضْرِبُ " الْإِيلَامُ وَالسَّفَرُ أَمْ لَا؟ [الْأَسْمَاءُ الْعَامَّةُ] الثَّالِثُ: الْأَسْمَاءُ الْعَامَّةُ الَّتِي تَسْتَغْرِقُ كُلَّ مُسَمًّى بِأَصْلِ الْوَضْعِ نَحْوُ

الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ وَالْمَعْلُولِ وَالْمَدْلُولِ، فَإِنَّهُ فِي أَيِّ شَيْءٍ اُسْتُعْمِلَ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ، وَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فَلَا يَقْبَلُ الْمَجَازَ؛ إذْ جَمِيعُ الْمُسَمَّيَاتِ دَلَّتْ عَلَيْهَا حَقِيقَةً، فَكَيْفَ يُتَجَوَّزُ بِهَا إلَى غَيْرِ مَدْلُولِهَا الْأَصْلِيِّ؟ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُمَا. [الْعَلَمُ] الرَّابِعُ: الْعَلَمُ؛ لِأَنَّ الْأَعْلَامَ لَمْ تُنْقَلْ لِعَلَاقَةٍ. كَذَا أَطْلَقَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ وَالْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ ". وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ الْمَجَازَ يَدْخُلُ فِي كُلِّ اسْمٍ أَفَادَ مَعْنًى فِي الْمَنْقُولِ إلَيْهِ غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَهُ فِي الِاسْمِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِنَا: الْبَحْرُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ ثُمَّ نَقَلْنَاهُ إلَى الْعَالَمِ لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ، فَأَفَادَنَا فِي حَقِيقَتِهِ كَثْرَةَ الْمَاءِ، وَفِي مَجَازِهِ كَثْرَةَ الْعِلْمِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ، فَأَمَّا زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْأَعْلَامِ، فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَجْسَامِ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ، فَلَوْ اسْتَعْمَلْنَا اسْمَ زَيْدٍ فِي غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُسَمَّى زَيْدًا لَمْ يُفِدْنَا ذَلِكَ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَهُ فِي حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْيَانِ فَلَمْ يُتَصَوَّرْ دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهَا، وَقَيَّدَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فِي " النِّهَايَةِ " بِالْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ، وَكَذَا قَالَ الْجَارْبُرْدِيُّ: الَّذِي يَدُورُ فِي خَلَدِي أَنَّ الْمُرَادَ الْأَعْلَامُ الْمَنْقُولَةُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَنْقُولَةِ وَالْمُرْتَجَلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الْأَعْلَامَ الْمَوْضُوعَةَ بِوَضْعِ

أَهْلِ اللُّغَةِ حَقَائِقُ لُغَوِيَّةٌ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُمَا: سَوَاءٌ كَانَ الْعَلَمُ مُرْتَجَلًا أَوْ مَنْقُولًا لِغَيْرِ عَلَاقَةٍ، فَإِنْ نُقِلَ لِعَلَاقَةٍ كَمَنْ سَمَّى وَلَدَهُ بِالْمُبَارَكِ لِمَا ظَنَّهُ فِيهِ مِنْ الْبَرَكَةِ فَكَذَلِكَ بِدَلِيلِ صِدْقِهِ عَلَيْهِ مَعَ زَوَالِهَا، وَصَارَ ابْنُ فُورَكٍ إلَى أَنَّهَا حَقَائِقُ عُرْفِيَّةٌ فَقَالَ فِي " كِتَابِهِ ": وَجُمْلَةُ أَسْمَاءِ الْأَلْقَابِ مَنْقُولَةٌ عَنْ أُصُولِهَا وَمَوْضُوعِهَا إلَى غَيْرِهِمَا عَلَى طَرِيقِ الِاصْطِلَاحِ لِيَجْعَلُوهَا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَخَصَّ بِهَا وَأَشْهَرَ مِنْ غَيْرِهَا حَتَّى إذَا ذُكِرَ بِهِ لَمْ يَدُلَّ إلَّا عَلَيْهِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إنَّ قَوْلَهُمْ: زَيْدٌ الِاسْمُ الْجَامِعُ لِلْأَوْصَافِ لِمَا كَانَ قُصِدَ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْعَلَمُ الْخَاصُّ لَهُ مِنْ سَائِرِ مُسَمَّيَاتِ جِنْسِهِ. اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " الْخِلَافَ فِي دُخُولِ الْمَجَازِ فِي الْأَعْلَامِ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ " الْمِيزَانِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالَ: الْأَعْلَامُ هَلْ يَدْخُلُهَا الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ؟ قَالَ: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الدُّخُولِ، وَكَذَا قَالَهُ ابْنُ لُقْمَانَ الْكُرْدِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْفُصُولِ " ذَهَبَ عَامَّتُهُمْ إلَى أَنَّ الْأَعْلَامَ يَدْخُلُ فِيهَا الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، وَمِنْ هُنَا قَالَ ابْنُ السَّاعَاتِيِّ: إنَّ كُلَّ كَلَامٍ عَرَبِيٍّ مُسْتَعْمَلٍ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، إذْ الْأَعْلَامُ عَرَبِيَّةٌ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَعْلَامِ الَّتِي لَمْ تُوضَعْ إلَّا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الذَّوَاتِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَلَا يَدْخُلُهَا الْمَجَازُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَبَيْنَ الْأَعْلَامِ الْمَوْضُوعَةِ لِلصِّفَةِ كَالْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِ؛ إذْ لَا يُرَادُ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّفَةِ مَعَ أَنَّهُ وُضِعَ لَهَا فَيَكُونُ [مَجَازًا] وَعَلَى هَذَا جَرَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " فَقَالَ: الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ لَا يَدْخُلَانِ فِي أَسْمَاءِ الْأَلْقَابِ وَيَدْخُلَانِ فِي أَسْمَاءِ الِاشْتِقَاقِ.

قَالَ بَعْضُ شَارِحِي " الْمَحْصُولِ ": إنَّمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الْعَلَاقَةِ فِي الْمَجَازِ، فَإِنَّ الْمَجَازَ عِنْدَهُ مَا اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، فَمَا ذَكَرَهُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى مَذْهَبِهِ لَا غَيْرُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَأْخَذُهُ فِي هَذَا عَدَمَ اعْتِبَارِ الْعَلَاقَةِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَيْنَ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثِ، بَلْ جَعَلَ الْكُلَّ مَجَازًا؛ إذْ يَصْدُقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَقَالَ بَعْضُ نُفَاةِ الْمَجَازِ: تَصَوُّرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُحَالٌ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ وَضْعُ سَابِقٍ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ يَطْرَأُ الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَ بِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَلَا يُعْرَفُ تَجَرُّدُ اللَّفْظِ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ، وَإِنَّ تَجَرُّدَهُ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ كَتَجَرُّدِ الْحَرَكَةِ عَنْ الْمُتَحَرِّكِ. نَعَمْ إنَّمَا يَتَجَرَّدُ، وَهِيَ حِينَئِذٍ لَيْسَتْ لَفْظًا وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى تَقْدِيرِ أَلْفَاظٍ لَا حُكْمَ لَهَا، وَثُبُوتُهَا فِي الرَّسْمِ مَسْبُوقٌ بِالنُّطْقِ بِهَا، فَإِنَّ الْخَطَّ يَسْتَلْزِمُ اللَّفْظَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ. قَالُوا: وَيَسْتَلْزِمُ أَمْرًا فَاسِدًا، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَجَرَّدَ الْوَضْعُ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ جَازَ أَنْ يُوضَعَ لِلْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي مَعْنَاهُ الْأَوَّلِ فَيَكُونَ مَجَازًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْقَائِلِينَ: إنَّ الْأَعْلَامَ لَا يَدْخُلُهَا الْمَجَازُ نَحْوُ قَوْلِنَا: أَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَزَيْدٌ زُهَيْرٌ شِعْرًا، وَهَذَا لَا يَرِدُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْآنَ فِي أَنَّ الْعَلَمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَدْلُولِهِ لَيْسَ بِمَجَازٍ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْعَلَمَ فِي غَيْرِ مَدْلُولِهِ كَاسْتِعْمَالِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَبِي يُوسُفَ وَاسْتِعْمَالِ زُهَيْرٍ فِي زَيْدٍ، وَكَذَلِكَ اشْتَرَيْت سِيبَوَيْهِ وَتُرِيدُ كِتَابَهُ، فَقَدْ يُقَالُ: كَيْفَ يَجُوزُ ذَلِكَ وَالْمَجَازُ فِيهِ غَيْرُ الْعَلَمِ؟ وَالْعَلَمُ إذَا لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمَجَازُ نَاشِئًا عَنْهُ؟ وَأَجَابَ التَّبْرِيزِيُّ فِي كَلَامِهِ عَلَى " الْمَحْصُولِ " بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ خَرَجَتْ عَنْ الْعَلَمِيَّةِ

مسألة الحقيقة لا تستلزم المجاز

الثَّانِي: أَنَّهُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَصَرَّحَ بِهِ النُّحَاةُ: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أَبُو يُوسُفَ مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزَيْدٌ مِثْلُ زُهَيْرٍ، وَاشْتَرَيْت كِتَابَ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ تَحَصَّلْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذَاهِبَ، وَيَجِبُ تَخْصِيصُ مَحَلِّ الْخِلَافِ بِالْأَعْلَامِ الْمُجَدَّدَةِ دُونَ الْمَوْضُوعَةِ بِوَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهَا حَقَائِقُ لُغَوِيَّةٌ. [مَسْأَلَةٌ الْحَقِيقَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ] َ] قَالُوا: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ؛ إذْ الْوَضْعُ لَا يَسْتَلْزِمُ الثَّانِي، وَالْأَصْلُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَرْعَ، وَلَيْسَ كُلُّ الْحَقِيقَةِ تَكُونُ فِي غَيْرِهَا عَلَاقَةً فِيهَا مُسَوِّغَةً لِلتَّجَوُّزِ، بَلْ الْحَقِيقَةُ يَكُونُ لَهَا مَجَازٌ كَالْبَحْرِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَالْفَرَسِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَمِنْ حُكْمِ هَذَا أَنَّهُ إذَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فَهَلْ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَا يُعْدَلُ بِهِ عَنْهَا إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلِيلٍ؟ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مِنْ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ هَلْ يَسْتَلْزِمُ ثَانِيًا كَمَا فَرَّعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ؟ إذْ الْحَقِيقَةُ فِيهَا قَيْدُ الْأَوَّلِيَّةِ. ثُمَّ رَأَيْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ " حَكَى عَنْ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَجَازٍ، وَمَا لَا مَجَازَ لَهُ فَلَا يُقَالُ: إنَّ لَهُ حَقِيقَةً، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى حِكَايَتِهِمْ الْإِجْمَاعَ فِيمَا سَبَقَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَجَازِ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ أَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَةُ قَدْ وُجِدَتْ وَاسْتُعْمِلَتْ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: نَعَمْ وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ فُورَكٍ. قَالَ: كَمَا أَنَّ لِكُلِّ فَرْعٍ أَصْلًا، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ "، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَغَيْرُهُمْ، فَكُلُّ مَجَازٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُهَا، وَالْفَرْعُ يَسْتَلْزِمُ الْأَصْلَ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَ يَسْتَدْعِي أَوَّلًا. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ: الْمَنْعُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّاعَاتِيِّ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي " الْمِرْصَادِ "؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فَفَائِدَةُ الْوَضْعِ التَّهَيُّؤُ لِلِاسْتِعْمَالِ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ بَعْدَ وَضْعِهِ وَقَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ لَا حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ حِينَئِذٍ غَيْرُهُ لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ مَجَازًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمَجَازَ يَفْتَقِرُ إلَى سَبْقِ وَضْعٍ أَوَّلَ، لَا إلَى سَبْقِ حَقِيقَةٍ، وَكَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْحَقُّ أَنَّ الْمَجَازَ يَسْتَلْزِمُ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ، بِإِزَاءِ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي، وَالْحَقِيقَةُ لَيْسَتْ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ بَلْ الْمُسْتَعْمَلَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ، وَاخْتَلَفَ كَلَامُ الرَّازِيَّ فِي مُنْتَخَبِهِ " وَأَوَّلَهُ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ بِأَنَّهُ حَيْثُ قَالَ: لَا يَسْتَلْزِمُ، أَرَادَ بِهِ الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ، وَحَيْثُ يُقَالُ: يَسْتَلْزِمُهُ، أَرَادَ بِهِ الْوَضْعَ، فَإِنَّا لَمْ نَعْرِفْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ مَوْضُوعَةٌ بِإِزَاءِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إلَّا بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَا نَعْرِفُ عَيْنَ الْوَاضِعِ مِنْ تَوَقُّفٍ أَوْ مُصْطَلَحٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُفْرَدِ لَا الْمُرَكَّبِ.

مسألة هل يتجوز بالمجاز عن المجاز

وَالْمَانِعُونَ تَمَسَّكُوا بِأَنَّ الرَّحْمَنَ مَجَازٌ فِي الْبَارِي تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ الْمَوْصُوفِ بِالتَّعَطُّفِ، وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ إلَّا فِي اللَّهِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: عَلِيٌّ رَحْمَانُ الْيَمَامَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَيْضًا، وَمَعْنَاهُ: مُنْعِمُ الْيَمَامَةِ، وَبِأَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَنُّتٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي الِاسْتِعْمَالَ فِي حَقِّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ، غَايَتُهُ أَنَّهُ يُعَلِّلُ الْوَاقِعَ، وَهُوَ تَأَكُّدُ الِاسْتِعْمَالِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، إذْ لَا اعْتِدَادَ بِالِاسْتِعْمَالِ إذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ أَصْلِ الْوَضْعِ مُضَادًّا لَهُ مُنَافِيًا إيَّاهُ وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يُتَجَوَّزُ بِالْمَجَازِ عَنْ الْمَجَازِ] هَلْ مِنْ شَرْطِ الْمَجَازِ أَنْ يُتَجَوَّزَ بِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ أَمْ يَجُوزُ أَنْ يُتَجَوَّزَ عَنْ الْمَجَازِ؟ هَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأُصُولِيُّونَ. وَسَبَقَ عَقْدُ مَسْأَلَةٍ فِيهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا فِيهِ خِلَافٌ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِيمَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنْ نَوَى صَرِيحَ الطَّلَاقِ أَوْ الظِّهَارِ أَوْ الْعِتْقِ صَحَّ، وَإِنْ نَوَى كِنَايَةً بِأَنْ أَرَادَ لَفْظَ التَّحْرِيمِ، فَيُجْعَلُ قَائِمًا مَقَامَ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْحَرَامُ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ يُكَنَّى عَنْهُ فَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ كِنَايَةٌ فِيهَا لَمْ يَجِبْ هُنَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ يَكُونُ لَهَا كِنَايَةٌ لِضَعْفِهَا، وَإِنَّمَا الْكِنَايَةُ عَنْ الصَّرِيحِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ.

مسألة المجاز فرع للحقيقة

وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ، هَذَا التَّصْوِيرُ؛ لِأَنَّهُ يَنْوِي بِاللَّفْظِ مَعْنَى لَفْظٍ آخَرَ لَا صُورَةَ اللَّفْظِ، وَإِذَا كَانَ الْمَنْوِيُّ الْمَعْنَى فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: نَوَى التَّحْرِيمَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: نَوَى أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. [مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ فَرْعٌ لِلْحَقِيقَةِ] ِ] الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ بِالِاتِّفَاقِ أَيْ فَرْعٌ لَهَا بِمَعْنَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْأَصْلُ الرَّاجِحُ الْمُقَدَّمُ فِي الِاعْتِبَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْخَلَفِ انْعِدَامُ الْأَصْلِ لِلْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ الْوُجُودِ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ الْخَلَفِيَّةِ هَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ أَوْ فِي حَقِّ الْحُكْمِ؟ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ مَقْصُودًا فِيهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ، وَذَهَبَ صَاحِبَاهُ إلَى أَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ حُكْمِ ذَلِكَ، يَعْنِي أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُوجِبًا حَقِيقَةً، ثُمَّ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ لِمَعْنًى، فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِنَا؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ الْكَلَامِ. وَلِأَنَّ الْمَجَازَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ صِحَّةُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْبُلَغَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظٌ وَأُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ هَلْ يُشْتَرَطُ إمْكَانُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِهَذَا اللَّفْظِ أَوْ لَا؟ فَعِنْدَنَا يُشْتَرَطُ فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لَا يَصِحُّ الْمَجَازُ. وَعِنْدَهُ: لَا: بَلْ يَكْفِي صِحَّةُ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ احْتِرَازًا مِنْ إلْغَاءِ الْكَلَامِ. وَنَكْتُبُهَا: أَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَنَا إذَا كَانَ مُحَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِيقَةِ لَغْوٌ، وَعِنْدَ

أَبِي حَنِيفَةَ يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: مِنْهَا: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلْعَبْدِ الْأَكْبَرِ مِنْهُ سِنًّا: هَذَا ابْنِي فَحَقِيقَتُهُ مُسْتَحِيلَةٌ إذْ يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ ابْنَهُ، فَهَلْ يُنَزَّلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَيُقَالُ: الْمُرَادُ مِثْلُ ابْنِي فِي الْحُرِّيَّةِ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ لِهَذَا اللَّفْظِ، أَوْ لَا يُنَزَّلُ عَلَيْهِ بَلْ يَلْغُو؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْأَوَّلِ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ بِالثَّانِي، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عِنْدَ الْإِمْكَانِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ بِنَسَبِهِ بَالِغًا وَكُذِّبَ الْمُقِرُّ، فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ جَزْمًا، وَفِي ثُبُوتِ الْعِتْقِ وَجْهَانِ لِلْإِمْكَانِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَقَالُوا: لَوْ حَلَفَ لِيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ فَإِنَّ يَمِينَهُ تَنْعَقِدُ عَلَى الْأَصَحِّ لِإِمْكَانِ الْبِرِّ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصْعَدُ السَّمَاءَ لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِيهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. لَكِنْ خَالَفُوهُ فِيمَا لَوْ قَالَ: لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ وَلَا مَاءَ فِيهَا، فَقَالُوا: يَحْنَثُ عَلَى الْأَصَحِّ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَكَانَ يَنْبَغِي تَصْحِيحُ عَدَمِ الِانْعِقَادِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الْبِرُّ غَيْرُ مُمْكِنٍ. لَنَا أَنَّ الْمَجَازَ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْ الْمَوْضُوعِ لَهُ إلَى لَازِمِهِ، فَاللَّازِمُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونُ اللَّازِمُ خَلَفًا وَفَرْعًا لِلْمَوْضُوعِ لَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ الْأَوَّلِ لِتَوَقُّفِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ عَلَيْهِ، فَاَلَّذِي ثَبَتَ بِهَذَا اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ مَثَلًا، فَلَفْظُ: هَذَا ابْنِي خَلَفٌ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي ثَبَتَ بِهَذَا اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ كَثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ مَثَلًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَفْظُ هَذَا ابْنِي خَلَفٌ عَنْ لَفْظِ: هَذَا حُرٌّ، فَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُفِيدُهُ الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْ الْمُتَكَلِّمِ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُفِيدُ عَيْنَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَقِيلَ: بَلْ أَرَادَ أَنَّ لَفْظَ: هَذَا ابْنِي إنْ أُرِيدَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ خَلَفٌ عَنْ لَفْظِ: هَذَا ابْنِي إذَا أُرِيدَ بِهِ الْبُنُوَّةُ.

مسألة العبرة بالحقيقة

وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى الصَّاحِبَيْنِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ بِهَذَا قَوْلُهُمْ: هَذَا أَسَدٌ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ، لِمَا تَحَقَّقَ أَنَّ الْهَيْكَلَ الْمَخْصُوصَ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ مُحَالٌ، وَقَدْ أَطْبَقَ عَلَى صِحَّتِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ نَظِيرَ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا أَسَدٌ لَيْسَ مُسْتَعَارًا بِجُمْلَتِهِ، بَلْ أَسَدٌ مُسْتَعَارٌ، وَهَذَا اسْتِعَارَةٌ لَهُ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَهَذَا ابْنِي بِجُمْلَتِهِ مُسْتَعَارٌ فِي حَقِّ إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ. [مَسْأَلَةٌ الْعِبْرَةُ بِالْحَقِيقَةِ] ِ] إذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُسْتَعْمَلَةً، وَالْمَجَازُ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ، أَوْ كَانَا مُسْتَعْمَلَيْنِ، وَالْحَقِيقَةُ أَغْلَبُ اسْتِعْمَالًا فَالْعِبْرَةُ بِالْحَقِيقَةِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُهُ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَا فِي الِاسْتِعْمَالَيْنِ سَوَاءً، فَالْعِبْرَةُ بِالْحَقِيقَةِ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ: بَلْ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ فِي " الْوَاضِحِ "، فَقَالَ: وَأَمَّا إذَا كَانَ يُفِيدُ مَجَازًا مُتَعَارَفًا وَحَقِيقَةً مُتَعَاَرَفَةً، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ: يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقِيلَ: بَلْ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": الْقَوْلُ إذَا كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُتَعَارَفَةٌ فِيهِ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ، كَقَوْلِهِ: لَا أَشْرَبُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، فَحَقِيقَتُهُ الْعُرْفِيَّةُ الْكَرْعُ، وَمَجَازُهُ أَنْ يَغْتَرِفَ مِنْهُ فَيَشْرَبَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى وُجُوبِ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِقُوَّتِهَا وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ.

قَالَ: وَاَلَّذِي أَقُولُهُ: أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْقَوْلِ حُكْمُ الْحَقَائِقِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْوَضْعِ، وَحَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي بِحُكْمِ الْعُرْفِ الطَّارِئِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ وَالْعُرْفِ وَتَسْمِيَتُهُ مَجَازًا خَطَأٌ. اهـ. وَكَذَلِكَ حَكَى الْخِلَافَ أَيْضًا الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْمَحْصُولِ " فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ الْبَابِ التَّاسِعِ بِالْمُسَاوَاةِ، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِهِ ": إنَّهُ الْحَقُّ. وَإِنْ هُجِرَتْ الْحَقِيقَةُ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا تُرَادُ فِي الْعُرْفِ، فَالْعِبْرَةُ بِالْمَجَازِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِثَمَرِهَا لَا بِخَشَبِهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحَقِيقَةَ؛ لِأَنَّهَا قَدْ أُمِيتَتْ بِحَيْثُ لَا تُرَادُ فِي الْعُرْفِ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا إذَا غَلَبَ الْمَجَازُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَالْحَقِيقَةُ تُتَعَاهَدُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْحَقِيقَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا رَاجِحَةٌ بِحَسَبِ الْأَصْلِ وَكَوْنُهَا مَرْجُوحَةً أَمْرٌ عَارِضٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: الْمَجَازُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ رَاجِحًا فِي الْحَالِ ظَاهِرًا فِيهِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي " شَرْحِ التَّنْقِيحِ ": وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فِي " الْمَعَالِمِ " وَالْبَيْضَاوِيُّ فِي " الْمِنْهَاجِ " اسْتِوَاءَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ رَاجِحٌ عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ، فَالْحَقِيقَةُ بِالْأَصْلِ وَالْمَجَازُ بِالْغَلَبَةِ

فَيَتَعَادَلَانِ وَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ تَعَادُلِ الْمُرَجِّحَيْنِ، وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَعُزِيَ ذَلِكَ إلَى الشَّافِعِيِّ. قُلْت: وَيَشْهَدُ لَهُ الْمِثَالُ، فَإِنَّهُمْ مَثَّلُوا الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ الْفُرَاتِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ مِنْهُ، وَلَا يَحْنَثُ بِالشُّرْبِ مِنْ الْأَوَانِي الْمَمْلُوءَةِ مِنْهُ، وَعِنْدَنَا يَحْنَثُ بِالِاغْتِرَافِ مِنْهُ كَمَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عِنْدَنَا كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ أَلْفَاظِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. قَالُوا: وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ السَّابِقِ وَهُوَ أَنَّ الْمَجَازَ هَلْ هُوَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ فِي الْحُكْمِ؟ فَإِنْ كَانَ الْمَجَازُ خَلَفًا فِي حَقِّ الْمُتَكَلِّمِ لَا تَثْبُتُ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ، فَيُجْعَلُ اللَّفْظُ عَامِلًا فِي حَقِيقَتِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. هَذَا تَحْرِيرُ التَّصْوِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالنَّقْلِ وَالتَّمْثِيلِ، فَاعْتَمِدْهُ وَاطْرَحْ مَا عَدَاهُ. وَجَعَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ " مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا صَدَرَ ذَلِكَ مِمَّنْ لَا عُرْفَ لَهُ وَلَا قَرِينَةَ، فَإِنْ صَدَرَ ذَلِكَ مِنْ الشَّارِعِ حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ قَطْعًا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ حُمِلَ عَلَيْهَا. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمَجَازَ إنْ تَرَجَّحَ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ كَالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ إنْ صَدَرَ مِنْ الشَّرْعِ، وَعَلَى الْعُرْفِيَّةِ إنْ صَدَرَ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَرَجَّحَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَنْتَهِ إلَى حَدِّ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ أَوْ انْتَهَى إلَيْهِ وَلَكِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْعِ أَوْ الْعُرْفِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِالْقَرِينَةِ أَوْ النِّيَّةِ.

وَهَاهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْآمِدِيَّ ذَكَرَ فِي بَابِ الْمُجْمَلِ أَنَّ مَا لَهُ مَوْضُوعٌ شَرْعِيٌّ وَلُغَوِيٌّ قِيلَ: هُوَ مُجْمَلٌ، وَأَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ. وَفَرَّقَ الْغَزَالِيُّ بَيْنَ حَالَةِ الْإِثْبَاتِ فَكَذَلِكَ، أَوْ النَّفْيِ فَمُجْمَلٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ الْمَجَازِ الرَّاجِحِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى، لَكِنَّ كَلَامَ الْأَصْفَهَانِيِّ السَّابِقَ يَأْبَاهُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " بَعْدَ أَنْ حَكَى الْخِلَافَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُتَعَارَفِ، وَلَكِنْ لَا أُسَمِّيهِ مَجَازًا، بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ كَالْغَائِطِ، وَرَأَيْت فِي " شَرْحِ الْوَسِيطِ " لِلشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ الرِّفْعَةِ فِي بَابِ الْإِيلَاءِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: مَحَلُّ هَذَا الْخِلَافِ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا فِي جَانِبِ النَّفْيِ فَيُعْمَلُ بِالْمَجَازِ الرَّاجِحِ جَزْمًا؛ لِأَنَّا إنْ نَظَرْنَا إلَى الْمَجَازِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْحَقِيقَةِ فَسَلْبُهَا يَقْتَضِي سَلْبَ سَائِرِ الْأَفْرَادِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا يُرَجَّحُ فِي الِاسْتِعْمَالِ. قَالَ: وَلِهَذَا جَزَمَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ لَفْظَيْ الْجِمَاعِ وَالْإِيلَاءِ صَرِيحَانِ وَإِنْ حَكَوْا الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: لَا أُبَاشِرَنَّك وَلَا أَقْرَبَنَّك لِمُلَاحَظَةِ أَصْلِ الْحَقِيقَةِ، وَالرُّجْحَانُ فِي لَا أُجَامِعُك دُونَهُمَا. اهـ. وَفِيهِ بُعْدٌ عَنْ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ. الثَّانِي: مَثَّلَ فِي " الْمَعَالِمِ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى الْعِتْقَ، هَلْ يَكُونُ كِنَايَةً فَتُعْتَقُ بِهِ؟ ؛ لِأَنَّ مَادَّةَ " ط ل ق " حَقِيقَتُهَا فِي الْخَلِيَّةِ وَحِلِّ الْقَيْدِ سَوَاءٌ مِنْ النِّكَاحِ وَالرِّقِّ فَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي عِتْقِهَا

بِالْوَضْعِ، لَكِنَّهَا مَرْجُوحَةٌ لِاشْتِهَارِهَا فِي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ حِلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ مَجَازٌ رَاجِحٌ ثُمَّ أَوْرَدَ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يُصْرَفَ إلَى الْمَجَازِ الرَّاجِحِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، طَلُقَتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. وَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ لِمَنْكُوحَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ عَنَى بِهَذَا اللَّفْظِ الْحَقِيقَةَ الْمَرْجُوحَةَ وَهُوَ إزَالَةُ مُطْلَقِ الْقَيْدِ وَجَبَ أَنْ يَزُولَ مُسَمَّى الْقَيْدِ، وَإِذَا زَالَ هَذَا الْمُسَمَّى فَقَدْ زَالَ الْقَيْدُ الْمَخْصُوصُ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْمَجَازَ الرَّاجِحَ فَقَدْ زَالَ قَيْدُ النِّكَاحِ، فَلَمَّا كَانَ يُفِيدُ الزَّوَالَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ اسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ. قَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ وَالسُّؤَالُ لَازِمٌ؛ إذْ الْكَلَامُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ، فَقَوْلُهُ: إنْ نَوَى حُمِلَ عَلَى السُّؤَالِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ " الْمَعَالِمِ " لَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ، بَلْ هُوَ مُبَايِنٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَصْلُحُ لِلْإِيقَاعِ، وَهَذَا مَبْحَثٌ فِي أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ أَوَّلًا وَهُوَ بَحْثٌ صَحِيحٌ مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِاسْتِوَاءِ الْحَقِيقَةِ الْمَرْجُوحَةِ وَالْمَجَازِ الرَّاجِحِ إلَّا إنْ قِيلَ: إنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ نَقَلَهُ إلَى حِلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَصَارَ فِيهِ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً أَوْ عُرْفِيَّةً، وَارْتَفَعَ عَنْ هَذَا الْمَجَازِ الرَّاجِحِ بِذَلِكَ كَسَائِرِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ. وَمَسْأَلَةُ التَّعَارُضِ فِيمَا إذَا لَمْ يَصِلْ الْمَجَازُ إلَى هَذَا الْحَدِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَمَاتُهُ، وَالْحَقِيقَةُ هُنَا لَمْ تَمُتْ، لَكِنَّ سِيَاقَ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَعَالِمِ " أَنَّهُ يَنْوِي الْحَقِيقَةَ، وَهُوَ مُطْلَقُ الْقَيْدِ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إنَّمَا قَالُوا يَنْوِي الْعِتْقَ، وَهُوَ

إزَالَةُ قَيْدٍ خَاصٍّ وَهُوَ مِلْكُ الْيَمِينِ، وَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ. فَخَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ الْمَرْجُوحَةِ وَالْمَجَازِ الرَّاجِحِ، فَيَبْطُلُ الْيَمِينُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ. وَلَا نَدْرِي مَا يَقُولُ الْأَصْحَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا نَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْأَمَةِ إزَالَةَ مُطْلَقِ الْقَيْدِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْعِتْقِ بِخُصُوصِهِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: تُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ إزَالَةِ الْأَعَمِّ إزَالَةُ الْأَخَصِّ. وَبَعْدُ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّمْثِيلُ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً أَوْ عُرْفِيَّةً فِي حِلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَهُمَا مُقَدَّمَتَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ قَطْعًا. مَسْأَلَةٌ [قِلَّةُ اسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ] قَدْ يَقِلُّ اسْتِعْمَالُ الْحَقِيقَةِ فِي مَعْنَاهَا فَتَصِيرُ بِحَيْثُ إذَا أُطْلِقَتْ لَا يُفْهَمُ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَتْ حَقِيقَةً فِيهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ، فَتُلْحَقُ بِالْمَجَازِ كَالْغَائِطِ لِلْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ، فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ ثُمَّ هُجِرَ، وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ مَجَازًا فِيهِ فَيَصِيرُ بِحَيْثُ إذَا أُطْلِقَ فُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ فَيُلْتَحَقُ بِالْحَقَائِقِ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي مَعَانِيهَا تَابِعٌ لِاخْتِيَارِ الْوَاضِعِ وَالْمُسْتَعْمِلِ، لَا لِأَنْفُسِهَا. وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ قَوْمٍ مَنَعُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ تُغَيَّرَ الْحَقِيقَةُ عَنْ دَلَالَتِهَا لَا بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي مَجَازِهَا، وَلَا بِقِلَّتِهِ فِيهَا وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَا مَنَعُوا أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَجَازُ عَنْ دَلَالَتِهِ بِأَنْ يَصِيرَ يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِلَا قَرِينَةٍ. قَالُوا:؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ قَلْبَ دَلَالَةِ الِاسْمِ وَمَعْنَاهُ، وَالْأَدِلَّةُ لَا تَنْقَلِبُ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ.

تعدد وجوه المجاز

قَالَ الْقَاضِي. وَهَذَا بَاطِلٌ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ وَضْعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ عَنْ عِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ بِالْمُوَاطَأَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اُتُّفِقَ عَلَى تَسْمِيَةِ كُلِّ مُسَمًّى بِغَيْرِ اسْمِهِ لَدُلَّ عَلَيْهِ، كَدَلَالَةِ الْيَوْمِ عَلَى مَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُوجِبُ قَلْبَ الْأَدِلَّةِ فَذَلِكَ فِي الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أَمَّا مَا ثَبَتَ بِالْمُوَاطَأَةِ وَالْمُوَاضَعَةِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صَيْرُورَةِ الْمَجَازِ حَقِيقَةً، وَالْحَقِيقَةِ مَجَازًا إنَّمَا نُجَوِّزُهُ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَاسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ نُزُولِهِ فَلَا، وَإِلَّا لَانْسَدَّ عَلَيْنَا طَرِيقُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِمُرَادِ خِطَابِهِ، وَيَتَطَرَّقُ الْوَهْمُ إلَى الْحَقَائِقِ. اهـ. وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا. [تَعَدُّدُ وُجُوهِ الْمَجَازِ] مَسْأَلَةٌ [تَعَدُّدُ وُجُوهِ الْمَجَازِ] إذَا تَعَذَّرَتْ الْحَقِيقَةُ وَتَعَدَّدَتْ وُجُوهُ الْمَجَازِ، وَكَانَ بَعْضُهَا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقٍ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": هَذِهِ إذَا كَانَتْ الْمَجَازَاتُ بَيْنَهَا تَنَافٍ فِي الْحَمْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَمَنَعَ مِنْ الْحَمْلِ عَلَيْهَا مَانِعٌ، وَأَحَدُهَا أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى الْأَقْرَبِ مِنْهُمَا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا لِتَنَاوُلِ ذَلِكَ الْوَجْهِ الْعَامِّ لَهَا، وَعَدَمُ الْمُنَافِي يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَقْرَبِ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْأَقْرَبِ مَحْذُورَ التَّخْصِيصِ مَعَ إمْكَانِ التَّعْمِيمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَدَّدَتْ وُجُوهُ الْمَجَازِ، وَوَقَعَ التَّنَافِي فِي الْحَمْلِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَحْذُورُ. وَمِثَالُ مَا إذَا تَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَتَعَدَّدَتْ وُجُوهُ الْمَجَازِ مَعَ التَّنَافِي: مَا إذَا دَخَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَتَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَيْهَا، كَمَا فِي لَا عَمَلَ إلَّا بِنِيَّةٍ

مَثَلًا، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ مُتَعَذِّرَةٌ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَدَّرَ: لَا صِحَّةَ عَمَلٍ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَدَّرَ لَا كَمَالَ عَمَلٍ فَهَذَانِ وَجْهَانِ مِنْ الْمَجَازِ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى أَحَدِهِمَا مُنَافَاةٌ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا: لَا صِحَّةَ لَزِمَ انْتِفَاءُ الْكَمَالِ، وَإِذَا قُلْنَا: لَا كَمَالَ لَمْ يَلْزَمْ انْتِفَاءُ الصِّحَّةِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الصِّحَّةِ أَقْرَبُ إلَى انْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْكَمَالِ. قُلْت: وَمِنْ الْمُرَجِّحَاتِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ وَتَعَدُّدِ الْمَجَازِ فِيهَا مَا تَحَقَّقَتْ عَلَاقَتُهُ، فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا لَمْ تَتَحَقَّقْ عَلَاقَتُهُ: مِثَالُهُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» . فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ حَمَلُوهُ عَلَى الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمَا بَائِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالشَّافِعِيَّةُ حَمَلُوهُ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُمَا الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَجَازٌ، لَكِنَّ مَجَازَ الشَّافِعِيَّةِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَلَاقَةَ مُتَحَقِّقَةٌ بِخِلَافِ إطْلَاقِ الْفِعْلِ، وَإِرَادَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ صُدُورُ الْبَيْعِ. الثَّانِي: الِاتِّفَاقُ عَلَى مَجَازِيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَمْ لَا؟ فَكَانَ رَاجِحًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

الواسطة بين الحقيقة والمجاز

[الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ] مَسْأَلَةٌ [الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ] وَلَنَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. قَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ النَّحْوِيُّ فِي كِتَابِ " النِّهَايَةِ ": وَهُوَ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ لِشَيْءٍ وَضَعَ الْوَاضِعُ مِثْلَهُ لِعَيْنِهِ كَالْأَعْلَامِ لِلشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ. وَقَالَ الْأُصُولِيُّونَ: اللَّفْظُ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا كَاللَّفْظِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُمَا الِاسْتِعْمَالُ، وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَكَالْأَعْلَامِ الْمُتَجَدِّدَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُسَمَّيَاتِهَا، فَإِنَّهَا أَيْضًا لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ؛ لِأَنَّ مُسْتَعْمِلَهَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، إمَّا لِأَنَّهُ اخْتَرَعَهَا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ وَضْعٍ كَالْمُرْتَجَلَةِ أَوْ نَقَلَهَا عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ كَالْمَنْقُولَةِ، وَلَيْسَتْ مَجَازًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُنْقَلْ لِعَلَاقَةٍ. قَالَهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " وَ " الْمَحْصُولِ " أَمَّا الْأَعْلَامُ الْمَوْضُوعَةُ بِوَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَهِيَ حَقَائِقُ لُغَوِيَّةٌ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَنْقُولَةِ وَالْمُرْتَجَلَةِ خِلَافًا لِلْهِنْدِيِّ حَيْثُ خَصَّهَا بِالْمَنْقُولَةِ، وَقَدْ سَبَقَتْ. مَسْأَلَةٌ كَمَا أَنَّهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ، كَذَلِكَ فِيهَا مَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ إمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَعْنَيَيْنِ أَوْ مَعْنًى وَاحِدٍ بِحَسَبِ وَضْعَيْنِ كَلُغَوِيٍّ وَعُرْفِيٍّ مَثَلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ وَضْعٍ وَاحِدٍ لِاجْتِمَاعِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.

فصل في الحقيقة

[فَصْلٌ فِي الْحَقِيقَةِ] ِ] الْحَقِيقَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى النَّقْلِ عَنْ وَاضِعِ اللُّغَةِ كَالنُّصُوصِ فِي بَابِ الشَّرْعِ. حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " عَنْ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ وَلَمْ يُخَالِفْهُ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَطْرُقُهُ الْخِلَافُ فِي الْمَجَازِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَمَّا الْمَجَازُ فَيُعْرَفُ إمَّا بِالنَّصِّ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ، وَالنَّصُّ بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ، وَيَنْقُلُ ذَلِكَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَارِضِ فِي " نُكَتِهِ ": وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا نَصَّ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ قَالُوهُ نَقْلًا عَنْ الْعَرَبِ فَهُوَ حُجَّةٌ، أَوْ إجْمَاعٌ بِإِجْمَاعِهِمْ كَذَلِكَ. اهـ. وَقَدْ تَصَدَّى لِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " بِأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ ": وَقِيلَ: يُعْرَفُ بِالضَّرُورَةِ بِثَلَاثَةِ طُرُقٍ: بِأَنْ يُصَرِّحَ أَهْلُ اللُّغَةِ بِاسْمِهِ، بِأَنْ يَقُولُونَ: هَذَا اللَّفْظُ مَجَازٌ فِي الْمَعْنَى الْفُلَانِيِّ، أَوْ بِحَدِّهِ بِأَنْ يَقُولُونَ: هُوَ مَوْضُوعٌ فِيهِ بِوَضْعٍ ثَانٍ، أَوْ بِخَاصَّتِهِ كَمَا يُقَالُ: اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الْعَلَاقَةِ، وَهَذَا قَالَهُ فِي " الْمَحْصُولِ ". وَيُمْكِنُ رُجُوعُ الثَّالِثِ إلَى الْقِسْمِ النَّظَرِيِّ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْعَلَامَاتِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْقِسْمَ الْعَبْدَرِيُّ وَابْنُ الْحَاجِّ فِي كَلَامِهِمَا عَلَى " الْمُسْتَصْفَى ": وَقَالَا: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَجَازِ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّصَفُّحِ لِلِسَانِ الْعَرَبِ. اهـ. وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ خِلَافُهُ. فَمِنْ خَوَاصِّ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ أَقْوَاهَا: تَبَادُرُ الذِّهْنِ إلَى فَهْمِ الْمَعْنَى بِغَيْرِ قَرِينَةٍ

لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ. يَعْنِي أَنَّ مَنْ عَلِمَ الْوَضْعَ وَسَمِعَ اللَّفْظَ بَادَرَ إلَى حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ. وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا: لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ عَمَّا إذَا بَدَرَ الْفَهْمُ إلَى الْمَعْنَى لِأَجْلِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الْوَضْعِ كَقَرَائِنَ احْتَفَتْ بِهِ أَوْ غَلَبَةِ اسْتِعْمَالٍ لَا تَنْتَهِي إلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مَنْقُولًا إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَرُبَّمَا يَتَبَادَرُ الْفَهْمُ إلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِهِ، وَيَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْنًى آخَرَ لَمْ يَتَبَادَرْ الْفَهْمُ إلَيْهِ، وَلَمْ يَحْضُرْ السَّامِعَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَلَا تَكُونُ الْمُبَادَرَةُ إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِصَاصِ الْحَقِيقَةِ بِهِ. قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَهُوَ حَسَنٌ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ إيرَادُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَى طَرْدِ هَذِهِ الْعَلَامَةِ، الْمَجَازَ الْمَنْقُولَ وَالْمَجَازَ الرَّاجِحَ، وَعَلَى عَكْسِهَا الْمُشْتَرَكُ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولَاتِهِ مَعَ عَدَمِ التَّبَادُرِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَنْقُولَ إنَّمَا يَتَبَادَرُ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَجَازًا، وَأَمَّا الْمَجَازُ الرَّاجِحُ فَنَادِرٌ، وَالتَّبَادُرُ فِي الْأَغْلَبِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الْحَقِيقَةِ، وَتَخَلُّفُ الْمَدْلُولِ عَلَى الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ لَا يَقْدَحُ فِيهِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَالتَّعْرِيفُ بِالْعَلَامَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الِانْعِكَاسُ. وَمِنْهَا. عَدَمُ احْتِيَاجِهِ إلَى الْقَرِينَةِ، وَلَا يَرُدُّ الْمُشْتَرَكُ حَقِيقَتَيْنِ، فَإِنَّهُ لِعَارِضِ الِاشْتِرَاكِ لَا لِذَاتِهِ. وَمِنْ خَوَاصِّ الْمَجَازِ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يَسْتَحِيلُ تَعَلُّقُهُ بِهِ؛ إذْ الِاسْتِحَالَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لَهُ، فَيَكُونَ مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أَيْ: أَهْلَهَا كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ. وَاسْتَشْكَلَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ بِالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ نَحْوُ {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] فَإِنَّهُ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَجَازًا لُغَوِيًّا، فَإِنْ

أَرَادَ بِاسْتِحَالَةِ التَّعَلُّقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ فَبَاطِلٌ. قُلْت: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَجَازَ الْعَقْلِيَّ لُغَوِيٌّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي الْمَعْنَى الْمَنْسِيِّ بِأَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى لَهُ أَفْرَادٌ فَيَتْرُكُ أَهْلُ الْعُرْفِ اسْتِعْمَالَهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَفْرَادِ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مَنْسِيًّا، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَنْسِيِّ، فَيَكُونُ مَجَازًا عُرْفِيًّا كَالدَّابَّةِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ فَتَرَكَ بَعْضُ أَهْلِ الْبُلْدَانِ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْحِمَارِ بِحَيْثُ نُسِيَ، فَإِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ. وَمِنْهَا: صِحَّةُ نَفْيِ اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَتَسْمِيَةِ الْجَدِّ أَبًا. حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ " عَنْ الْكَرْخِيِّ، وَكَقَوْلِك: لِلْبَلِيدِ لَيْسَ بِحِمَارٍ. وَقُلْنَا: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِلْبَلِيدِ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، فَقَدْ نَفَيْت الْحَقِيقَةَ لَكِنْ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا بِعَكْسِ الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ عَلَامَتَهَا عَدَمُ صِحَّةِ النَّفْيِ؛ إذْ لَا يُقَالُ لِلْبَلِيدِ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ عِنْدَ قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ وَتَشْبِيهِهِ بِالْحِمَارِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى: 13] . وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَقِيقَةَ يَجِبُ اطِّرَادُهَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا مَعْنَاهَا إلَّا لِمَانِعٍ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّا إذَا سَمَّيْنَا إنْسَانًا بِضَارِبٍ لِوُقُوعِ الضَّرْبِ مِنْهُ أَوْ مَحَلًّا بِأَنَّهُ أَسْوَدُ لِحُلُولِ السَّوَادِ فِيهِ وَجَبَ أَنْ يُسَمَّى كُلُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الضَّرْبُ بِأَنَّهُ ضَارِبٌ، وَكُلُّ مَنْ مَاحَلَهُ السَّوَادُ وَاتَّصَفَ بِهِ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ، وَإِلَّا لَانْتَقَضَ قَوْلُنَا: إنَّهُ سُمِّيَ ضَارِبًا لِوُقُوعِ الضَّرْبِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَجَازِ. فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ اطِّرَادُهُ، بَلْ يُقَرُّ حَيْثُ وَرَدَ، فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا اسْتَعْمَلَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِيهِ أَوْ فِي نَظِيرِهِ، فَكَمَا يُسْتَدَلُّ بِالِاطِّرَادِ عَلَى الْحَقِيقَةِ يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ الِاطِّرَادِ عَلَى

الْمَجَازِ كَالنَّخْلَةِ لِلْإِنْسَانِ الطَّوِيلِ، فَلَا يُقَالُ لِكُلِّ طَوِيلٍ: نَخْلَةٌ كَذَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ بَرْهَانٍ. وَقَيَّدَهُ الْهِنْدِيُّ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْوُجُوبُ أَيْ يَجِبُ كَوْنُ الْحَقِيقَةِ جَارِيَةً عَلَى الِاطِّرَادِ لِئَلَّا يَرِدَ الْمَجَازُ الْمُطَّرِدُ نَقْضًا عَلَى طَرْدِهِ، فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ مُطَّرِدًا، لَكِنَّهُ لَا يَجِبُ طَرْدُهُ بِدَلِيلِ عَدَمِ اطِّرَادِ مِثْلِهِ فِي الْمَجَازِ. وَثَانِيهِمَا: بِشَرْطِ عَدَمِ الْمَانِعِ أَيْ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً إنْ لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ أَوْ عَقْلِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ، لِئَلَّا يَرِدَ مِثْلُ السَّخِيِّ وَالْفَاضِلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - نَقْضًا عَلَى عَكْسِهِ، اهـ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ عَلَامَةَ الْحَقِيقَةِ الِاطِّرَادُ دُونَ الْمَجَازِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْهُ فِي " التَّلْخِيصِ "، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ سَدِيدٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي كَبِيرَ مَعْنًى، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَقَائِقِ نَتْبَعُ أَصْلَ الْوَضْعِ، وَفِي الْمَجَازُ نَتْبَعُ اسْتِعْمَالَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ كُلُّ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ الضَّرْبُ ضَارِبًا بِالِاتِّبَاعِ لَا بِالْقِيَاسِ. وَحَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ بَعْضِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ نَفْسَ الِاطِّرَادِ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ اطِّرَادِ الِاسْمِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَاطِّرَادُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ اطِّرَادُهُ فَلَا يَمْنَعُ مَانِعٌ مِنْ اطِّرَادِهِ. وَقِيلَ: لَيْسَ الِاطِّرَادُ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ مِنْ الْمَجَازِ مَا قَدْ يَطَّرِدُ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ وَنَحْوِهِ.

وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَقَائِقَ تُقَاسُ عَلَيْهَا قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنْ لَا قِيَاسَ فِي اللُّغَةِ أَصْلًا، فَلَا يُسَمَّى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الضَّرْبُ ضَارِبًا قِيَاسًا، وَلَكِنْ تَوْقِيفًا، وَلَوْ ثَبَتَ الِاطِّرَادُ فِي الْمَجَازِ نَقْلًا طَرَدْنَاهُ. وَمِنْهَا: أَنَّا إذَا وَجَدْنَا لَفْظَةً صَالِحَةً لِمَعْنَيَيْنِ وَجَمْعُهَا بِحَسَبِهِمَا مُخْتَلِفٌ عَلِمْنَا أَنَّهَا مَجَازٌ فِي أَحَدِهِمَا، سَوَاءٌ عَلِمْنَا أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْآخَرِ أَمْ لَا. ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ. فَقَالَ: إنْ تَخْتَلِفْ صِيغَةُ الْجَمْعِ عَلَى الِاسْمِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي أَحَدِهِمَا وَسَبَقَهُ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَمِثْلُهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَجَمْعُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى " أَوَامِرُ "، وَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى الْفِعْلِ جُمِعَ عَلَى " أُمُورٍ " وَخَالَفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَصَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجَمْعِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا إلَّا أَنْ يَدَّعِي فِيهِ اسْتِقْرَاءً، فَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِهِ حِينَئِذٍ، وَقَدْ يَتَّحِدُ الْجَمْعُ مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كَالْحُمُرِ جَمْعُ حِمَارٍ، وَالْأُسُدُ جَمْعٌ لِلرَّجُلِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ مَعَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِمَا كَالْيَدِ، فَإِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي النِّعْمَةِ وَالْجَارِحَةُ عَلَى قَوْلٍ، وَجَمْعُ النِّعْمَةِ عَلَى أَيَادٍ، وَجَمْعُ الْجَارِحَةِ عَلَى أَيْدٍ. قِيلَ: وَعَلَى مَنْ اعْتَبَرَ هَذِهِ الْعَلَامَةَ سُؤَالٌ، فَإِنَّهُ إذَا اعْتَبَرْنَا اخْتِلَافَ الْجَمْعِ وَجَعْلَهُ مَعَ اتِّحَادِ الْمُفْرَدِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى، فَهَلَّا فُعِلَ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَصْدَرِ مَعَ اتِّحَادِ الْفِعْلِ مِثْلُ شَعَرَ، فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالنَّظْمِ، وَمَصْدَرُهُ، فِي النَّظْمِ شِعْرٌ وَفِي الْعِلْمِ شُعُورٌ، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْفِعْلِ فِي الْحَرَكَاتِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَصْدَرِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ اخْتِلَافُ أَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى

أَنَّ الْآخَرَ مَجَازٌ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ وَالْفِعْلَ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَحَدَهُمَا فَرْعُ الْآخَرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ فَرْعَ الْفِعْلِ أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ. بِخِلَافِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فَرْعَ الْمُفْرَدِ بَلْ بِمَثَابَةِ تَكْرَارِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: شَعَرَ مَجَازٌ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ لِاخْتِلَافِ الْمَصْدَرِ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ مَجَازٌ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْجَمْعِ. وَقَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى " الْمُنْتَخَبِ ": وَالْحَقُّ أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَمْعِ لَا يَدُلُّ مُطْلَقًا إلَّا بِزِيَادَةِ قَيْدٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَثَلًا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ إذَا أُطْلِقَ عَلَى الصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى أَوَامِرَ، فَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى الْفِعْلِ جُمِعَ عَلَى أُمُورٍ فَخُولِفَ بِهِ جَمْعَ الْحَقِيقَةِ، فَقَدْ عُدِلَ بِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ، وَمَا عُدِلَ بِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ يَكُونُ مَجَازًا، وَهَذَا إنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِلتَّمْثِيلِ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ لَا يُجْمَعُ عَلَى أَوَامِرَ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا هُوَ جَمْعُ آمِرَةٍ كَفَاطِمَةَ وَفَوَاطِمَ، وَتَسْمِيَةُ الصِّيغَةِ أَمْرًا مَجَازٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَقِيقَةَ يُشْتَقُّ مِنْهَا الصِّفَةُ، وَالْمَجَازُ لَا يُشْتَقُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الطَّلَبِ حِينَئِذٍ يُشْتَقُّ مِنْهُ فَيُقَال: أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا فَهُوَ آمِرٌ، وَبِمَعْنَى الْبَيَانِ وَالصِّفَةِ مَجَازٌ لَا يَتَصَرَّفُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَخَالَفَهُمْ ابْنُ بَرْهَانٍ بِأَنَّهُ رُبَّ مَجَازٍ يُشْتَقُّ مِنْهُ إذَا وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ كَالْغَائِطِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: تَغَوَّطَ الرَّجُلُ يَتَغَوَّطُ تَغَوُّطًا، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فِي الْفَضْلَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: الْفِعْلُ " شَأَنَ " حَقِيقَةٌ ثُمَّ لَا يُقَالُ: شَأَنَ يَشْأَنُ فَهُوَ شَائِنٌ، وَرُبَّ مَجَازٍ يَتَصَرَّفُ. وَكَذَلِكَ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ "، رُبَّ حَقِيقَةٍ لَا يَصْدُرُ عَنْهَا الِاشْتِقَاقُ، وَهُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَصْدَرًا، وَرُبَّ مَجَازٍ وَرَدَ التَّجَوُّزُ بِنُعُوتٍ صَادِرَةٍ

عَنْهُ، فَكُلُّ مَا حَلَّ مَحَلَّ الْمَصَادِرِ وَضْعًا وَاسْتِعْمَالًا فَالْأَغْلَبُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ النُّعُوتُ، وَهَذَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَهْلِ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الْأَفْعَالِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِ لِلْمَصَادِرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُتَجَوَّزَ فِي الْمَصْدَرِ أَوَّلًا ثُمَّ يُشْتَقَّ مِنْهُ الْفِعْلُ. اهـ. وَأَوْرَدَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": الرَّائِحَةَ فَإِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي مُسَمَّاهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُشْتَقُّ مِنْهَا اسْمُ الْفَاعِلِ لِمَحَلِّهَا وَهُوَ مَمْنُوعٌ بَلْ يُقَالُ لِلْجِسْمِ الَّذِي فِيهِ مُتَرَوَّحٌ. وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّ " ظَنَّ ": بِمَعْنَى أَيْقَنَ مَجَازٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُشْتَقَّ مِنْهُ اسْمُ فَاعِلٍ فَيُقَالُ: ظَانٌّ. وَمِنْهَا: الْتِزَامُ تَقْيِيدٍ فِي مَعْنَى مَعَ اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ كَجَنَاحِ الذُّلِّ وَنَارِ الْحَرْبِ وَرَحَى الْحَرْبِ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّتِهِ وَالْتِهَابِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْتِزَامُ التَّقْيِيدِ دَالًّا عَلَى التَّجَوُّزِ؛ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ الْأَصْلُ فِيهَا الْإِطْلَاقُ؛ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ لَهُ مَعْنًى يَخُصُّهُ مَعْلُومٌ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْيِيدِ بِالْقَرِينَةِ، فَجُعِلَ الْتِزَامُ التَّقَيُّدِ دَلِيلَ الْمَجَازِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالِالْتِزَامِ الْمَنْعَ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ اسْتِقْرَاءُ كَلَامِهِمْ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": وَفِيهِ نَظَرُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا نِسْبِيٌّ وَالْآخَرُ غَيْرُ نِسْبِيٍّ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِ الْمُسَمَّيَيْنِ مُتَوَقِّفًا عَلَى إطْلَاقِهِ عَلَى الْمُسَمَّى الْآخَرِ، فَالتَّوَقُّفُ مَجَازٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَلْفُوظًا بِهِ كَقَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] ، أَوْ مُقَدَّرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} [يونس: 21] إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِمَكْرِهِمْ ذِكْرٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مَذْكُورٌ مَعْنًى، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ هَذَا التَّقْرِيرَ، فَيَظُنُّ بُطْلَانَ الْقَاعِدَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْغَيْرِ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنًى وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ لَهُ تَعَلُّقٌ فَيَكُونُ مَجَازًا فِيهِ، كَالْقُدْرَةِ إذَا أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ الْمَقْدُورُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْمَقْدُورُ كَإِطْلَاقِهَا عَلَى النَّبَاتِ الْحَسَنِ الْعَجِيبِ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُنَبِّهُهُ عَلَى حُسْنِ النَّبَاتِ: اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ أَيْ: إلَى مَقْدُورِهِ وَهُوَ النَّبَاتُ هُنَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ؛ إذْ النَّبَاتُ لَا مَقْدُورَ لَهُ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ، وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِيهَا وَيَكُونَ لَهُ بِحَسَبِ إحْدَى حَقِيقَتَيْهِ مُتَعَلِّقٌ دُونَ الْأُخْرَى. وَرَدَّهُ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا بِأَنَّ عَدَمَ التَّعَلُّقِ فِي الْمَجَازِ هُنَا لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْمَجَازِ، بَلْ لِأَنَّهُ نُقِلَ إلَى النَّبَاتِ وَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُ، فَلَوْ نُقِلَ إلَى شَيْءٍ لَهُ مُتَعَلِّقٌ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ عَلَى الْإِرَادَةِ قُدْرَةً مَجَازًا لَكَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُؤَكَّدُ بِالْمَصْدَرِ وَبِأَسْمَاءِ التَّوْكِيدِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ، فَإِنَّهُ لَا يُوَكَّدُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَتَمَدَّحَ بِذِكْرِهِ، وَقَالَ: هُوَ مِنْ الْفُرُوقِ الْمَغْفُولِ عَنْهَا. قُلْت: قَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " قَالَ، فَلَا يَقُولُونَ: أَرَادَ الْجِدَارَ إرَادَةً وَلَا قَالَتْ الشَّمْسُ وَطَلَعَتْ قَوْلًا، وَكَذَلِكَ وُرُودُ الْكَلَامِ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَالَ: وَلِهَذَا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] حَقِيقَةً لَا عَلَى مَعْنَى التَّكْوِينِ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ حَيْثُ أَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] يُفِيدُ الْحَقِيقَةَ، وَأَنَّهُ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ وَكَلَّمَهُ بِنَفْسِهِ لَا كَلَامًا قَامَ بِغَيْرِهِ. اهـ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ إنَّمَا يَرْفَعُ التَّجَوُّزَ عَنْ الْحَدِيثِ لَا عَنْ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةُ تَكْلِيمِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَك أَنْ تُورِدَ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

بَكَى الْحُرُّ مِنْ رُوحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامِ الْمَطَارِقِ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَصَدَ فِيهِ الْمُبَالَغَةَ بِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الْحَقِيقَةِ فَأَكَّدَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَئِمَّةِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ تَأْكِيدُ الْمَجَازِ إلَّا فِي هَذَا الْبَيْتِ الْوَاحِدِ، وَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى عَجَّتْ لَوْ كَانَتْ غَافِلَةً. قُلْت: وَأَنْشَدَ ابْنُ بَرْهَانٍ: قَرَعْت طَنَابِيبَ الْهَوَى يَوْمَ عَالِجٍ ... وَيَوْمَ اللِّوَى حَتَّى قَسَرْت الْهَوَى قَسْرَا وَقَالَ: فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ لَا يَرْفَعُ الْمَجَازَ.

فصل في ذكر تعارض ما يخل بالفهم

[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ تَعَارُضِ مَا يُخِلُّ بِالْفَهْمِ] فِي ذِكْرِ تَعَارُضِ مَا يُخِلُّ بِالْفَهْمِ وَهِيَ عَشَرَةٌ: مِنْهَا مَا يَرْجِعُ لِعَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ. وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْمَجَازُ وَالِاشْتِرَاكُ وَالنَّقْلُ وَالْإِضْمَارُ وَالتَّخْصِيصُ. وَمِنْهَا: مَا يَرْجِعُ لِغَيْرِ ذَلِكَ إمَّا لِلْحُكْمِ كَالنَّسْخِ أَوْ لِلتَّرْكِيبِ كَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَوْ لِلْوَاقِعِ كَالْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ أَوْ لِلُّغَةِ كَتَغْيِيرِ الْإِعْرَابِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضُوا لِلْخَمْسَةِ السَّابِقَةِ فَقَطْ لِرُجُوعِهَا إلَى اللَّفْظِ وَاحْتَجُّوا عَلَى الْحَصْرِ بِأَنَّهُ إذَا انْتَقَى احْتِمَالُ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ، كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ الْإِضْمَارِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَدْلُولَ اللَّفْظِ، وَإِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ الْمَجَازِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَدْلُولَهُ الْحَقِيقِيَّ، وَإِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا وُضِعَ لَهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ خَلَلٌ فِي الْفَهْمِ أَلْبَتَّةَ. وَأُورِدَ عَلَى الْحَصْرِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: احْتِمَالُ النَّسْخِ، فَإِنَّ السَّامِعَ إذَا جَوَّزَ عَلَى حُكْمِ اللَّفْظِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَلَا يَجْزِمُ بِثُبُوتِهِ. الثَّانِي: احْتِمَالُ التَّقْيِيدِ. الثَّالِثُ: احْتِمَالُ الِاقْتِضَاءِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي» لِمَا عُلِمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ مَرْفُوعٍ لِوُقُوعِهِ فِي الْأُمَّةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ

يَكُونَ مُرَادُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَيْئًا آخَرَ لِئَلَّا يَلْزَمَ كَذِبُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنْ ظَاهِرِ الْكَلَامِ، فَقَدْ نَشَأَ الْخِلَافُ فِي فَهْمِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ غَيْرِ الِاحْتِمَالَاتِ الْخَمْسَةِ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ النَّسْخَ دَاخِلٌ فِي التَّخْصِيصِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي الْأَزْمَانِ، وَالْأَمْرُ لَا يَقْتَضِي بِصِيغَتِهِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ أَبَدًا. وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنَّ النَّسْخَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَحْكَامِ لَا الْأَلْفَاظِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تُنْسَخُ التِّلَاوَةُ وَلَيْسَتْ مَعْنًى. قُلْنَا: نَسْخُهَا أَيْضًا عَدَمُ جَوَازِ تِلَاوَةِ ذَلِكَ الْمَنْسُوخِ. قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ التَّخْصِيصِ، وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الِاقْتِضَاءَ رَاجِعٌ لِلْإِضْمَارِ عَلَى رَأْيِ جَمْعٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ نَظَرًا إلَى الْعَقْلِ أَوْ الشَّرْعِ أَوْ إلَيْهِمَا لَا نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْإِضْمَارِ فَنَقُولُ: إنَّ الْخَلَلَ النَّاشِئَ مِنْ احْتِمَالِ الِاقْتِضَاءِ، مِثْلُهُ النَّاشِئُ مِنْ احْتِمَالِ الْإِضْمَارِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ مُغْنِيًا عَنْ ذَلِكَ. وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ فَالْعَوَارِضُ الْمُخِلَّةُ بِالْفَهْمِ تَرْجِعُ إلَى احْتِمَالِ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ عَلَى ذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّقْلَ وَالْإِضْمَارَ وَالتَّخْصِيصَ يَرْجِعُ لِلْمَجَازِ، فَإِنَّ الْمَجَازَ يَكُونُ بِالنُّقْصَانِ، وَالْعَامُّ إذَا خُصَّ يَكُونُ مَجَازًا فِي الْبَاقِي عَلَى الصَّحِيحِ. فَإِذَنْ الْمُرَادُ بِالْمَجَازِ الْأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ لَا الْمُقَابِلُ لِلْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ، فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمُحْتَمَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ فَيَنْدَرِجَانِ تَحْتَ مُطْلَقِهِ. وَعَلَى هَذَا فَالْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ فَلَا شَكَّ أَنَّ أَنْوَاعَ الْمَجَازِ لَا تَنْحَصِرُ فِي خَمْسَةٍ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّوَسُّعُ، وَاقْتُصِرَ عَلَى هَذَيْنِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِغَلَبَتِهِمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ سَبَقَ خِلَافٌ فِي أَنَّ الْإِضْمَارَ لَيْسَ بِمَجَازٍ، وَالتَّخْصِيصُ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ فِعْلُ الْمُخَصَّصِ وَلَيْسَ بِلَفْظٍ حَتَّى يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى مَوْضِعِ الْمَسْأَلَةِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُخِلًّا بِالْفَهْمِ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ حَاصِلٌ مَعَ تَجْوِيزِهَا، إنَّمَا الْمُمْتَنِعُ الْقَطْعُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخِلٌّ بِالْفَهْمِ عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَتِهِ مَعَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ كَإِرَادَةِ الْمَجَازِ مَعَ عَدَمِهَا، فَإِنَّهُ يُخِلُّ بِالْفَهْمِ وَيُوقِعُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِضْمَارَ وَالتَّخْصِيصَ نَوْعَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ فَكَيْفَ جَعَلَهُمَا مُقَابِلَيْنِ لَهُ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّوَسُّعُ وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَيْنِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِغَلَبَتِهِمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ سَبَقَ خِلَافٌ فِي أَنَّ الْإِضْمَارَ لَيْسَ بِمَجَازٍ، وَالتَّخْصِيصُ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ فِعْلُ الْمُخَصَّصِ، وَلَيْسَ بِلَفْظٍ حَتَّى يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْحَقِيقَةِ أَوْ الْمَجَازِ، ثُمَّ التَّعَارُضُ الَّذِي يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ بَيْنَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الْخَمْسَةِ يَقَعُ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ، وَهَذِهِ؛ لِأَنَّ التَّعَارُضَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعَارِضُ نَفْسَهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الْخَمْسَةِ إنَّمَا يُعَارِضُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخِيرَةَ فِيهَا فَتُضْرَبُ الْخَمْسَةُ فِي الْأَرْبَعَةِ فَحَصَلَ عِشْرُونَ وَجْهًا مِنْ التَّعَارُضِ، لَكِنَّ الْعِدَّةَ مُكَرَّرَةٌ فَيَجِبُ حَذْفُهَا بِنَفْيِ عَشَرَةٍ تُكَرَّرُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعَةِ فَيَحْصُلُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، ثُمَّ مِنْ تَعَارُضِ النَّقْلِ مَعَ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ صَارَتْ سَبْعَةً، ثُمَّ مِنْ تَعَارُضِ الْمَجَازِ مَعَ الْبَاقِينَ وَجْهَانِ صَارَتْ تِسْعَةً ثُمَّ مِنْ تَعَارُضِ الْمَجَازِ مَعَ التَّخْصِيصِ وَجْهٌ وَاحِدٌ فَصَارَ الْمَجْمُوعُ عَشَرَةً.

وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: تَجُوزُ ثُمَّ إضْمَارٌ وَبَعْدَهُمَا ... نَقْلٌ تَلَاهُ اشْتِرَاكٌ فَهُوَ يَخْلُفُهُ وَأَرْجَحُ الْكُلِّ تَخْصِيصٌ وَآخِرُهُمْ ... نَسْخٌ فَمَا بَعْدَهُ قِسْمٌ يَخْلُفُهُ وَالضَّابِطُ: تَقَدُّمُ التَّخْصِيصِ فَالْإِضْمَارِ فَالْمَجَازِ فَالنَّقْلِ فَالِاشْتِرَاكِ، وَالتَّخْصِيصُ يُرَجَّحُ عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ رَاجِحٌ عَلَى الْإِضْمَارِ وَالْمَجَازِ، فَإِنَّ فِيهِ عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلَيْنِ، وَعَلَى النَّقْلِ لِتَوَقُّفِ النَّقْلِ عَلَى مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ، وَعَلَى الِاشْتِرَاكِ لِإِخْلَالِهِ بِالْفَهْمِ. الْأَوَّلُ: التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقْلِ يَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ مُفْرَدًا قَبْلَ النَّقْلِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَهُ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ وَبَعْدَهُ لِلْعُرْفِيِّ أَوْ الشَّرْعِيِّ الَّذِي نُقِلَ إلَيْهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاشْتِرَاكِ يَكُونُ مَعْنَاهُ مُتَعَدِّدًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَالْمُجْمَلِ. مِثَالُهُ: لَفْظُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي النَّمَاءِ، وَفِي الْقَدْرِ الْمُخْرَجِ مِنْ النِّصَابِ، فَيُحْتَمَلُ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا أَوْ فِي الْأَصْلِ لِلنَّمَاءِ وَاسْتُعْمِلَتْ فِي الثَّانِي بِطَرِيقِ النَّقْلِ، فَحَمْلُهَا عَلَيْهِ أَوْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَجَّحَ الِاشْتِرَاكُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي نَسْخَ وَضْعٍ سَابِقٍ بِخِلَافِ النَّقْلِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى وُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ، وَالِاخْتِلَافِ فِي النَّقْلِ، وَأَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ. الثَّانِي: التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، فَالْمَجَازُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ الْمُشْتَرَكِ بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَكْثَرِ أَوْلَى، وَإِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ مَعَ الْقَرِينَةِ، فَيَكُونُ مَجَازًا وَدُونَهَا فَيَكُونُ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَأَمَّا الْآمِدِيُّ فَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ فِي مَبَاحِثِ الْأَمْرِ: تَرْجِيحُ الِاشْتِرَاكِ.

وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ تَصْوِيرُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ وَالْمَجَازِ، فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اسْتِوَاءِ حَالَاتِهِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ الْمَعَانِي، وَالْمَجَازُ إنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ دَلَالَتُهُ فِي أَحَدِهِمَا ضَعِيفَةً وَالْأُخْرَى قَوِيَّةً، وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَصِيرُ مَنْقُولًا إذَا يُطْلَبُ دَلَالَتُهُ الْأُولَى وَارْتَفَعَتْ. وَأُجِيبَ بِتَصَوُّرِ ذَلِكَ فِي لَفْظٍ اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَيَيْنِ، وَلَمْ يُعْلَمْ تَسَاوِي دَلَالَتِهِ عَلَيْهِمَا وَلَا رُجْحَانُهَا فِي أَحَدِهِمَا، فَيُحْتَمَلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ بِطَرِيقِ النَّقْلِ، أَوْ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا وَمَجَازًا فِي الْآخَرِ عَلَى السَّوَاءِ. الثَّالِثُ: الْإِضْمَارُ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَرِينَةِ إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ إرَادَةُ الْمَعْنَى الْإِضْمَارِيِّ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى الْقَرِينَةِ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ؛ إذْ لَيْسَ الْبَعْضُ مِنْهُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ الرَّابِعُ: التَّخْصِيصُ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ خَيْرٌ مِنْ الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ، وَالْخَيْرُ مِنْ الْخَيْرِ خَيْرٌ، فَكَانَ التَّخْصِيصُ خَيْرًا مِنْ الِاشْتِرَاكِ، وَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ أَضْعَفُ الْخَمْسَةِ. الْخَامِسُ: الْمَجَازُ خَيْرٌ مِنْ النَّقْلِ، لِاسْتِلْزَامِ النَّقْلِ نَسْخَ الْأَوَّلِ وَتَغْيِيرَ الْوَضْعِ، كَدَعْوَى الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَنْقُولَةٌ إلَى الْأَفْعَالِ، وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ، وَهُوَ أَوْلَى. السَّادِسُ: الْإِضْمَارُ أَوْلَى مِنْ النَّقْلِ؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ مُسَاوٍ لِلْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ أَوْلَى مِنْ النَّقْلِ. السَّابِعُ: التَّخْصِيصُ خَيْرٌ مِنْ النَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنْ النَّقْلِ. وَعُلِمَ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ أَنَّ النَّقْلَ أَضْعَفُ مِنْ الثَّلَاثَةِ بَعْدُ. الثَّامِنُ: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِضْمَارِ وَالْمَجَازِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ قِيلَ:

الْمَجَازُ أَوْلَى لِكَثْرَتِهِ، وَبِهِ جَزَمَ فِي " الْمَعَالِمِ " وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيُّ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، وَاخْتَارَهُ فِي " الْمَحْصُولِ " وَتَبِعَهُ فِي " الْمِنْهَاجِ " لِاحْتِيَاجِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى قَرِينَةٍ تَمْنَعُ مِنْ فَهْمِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَكَمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْمَجَازِ كَذَلِكَ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْمُضْمَرِ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ هَذَيْنِ نَوْعَا مَجَازٍ، فَيَنْبَغِي ذِكْرُهُ فِي تَرْجِيحِ أَنْوَاعِ بَعْضِ الْمَجَازِ عَلَى بَعْضٍ. التَّاسِعُ: التَّخْصِيصُ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَتَعَيَّنُ بِخِلَافِ الْمَجَازِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَتَعَيَّنُ، وَمِنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَجَازَ أَضْعَفُ مِنْ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ. الْعَاشِرُ: التَّخْصِيصُ خَيْرٌ مِنْ الْإِضْمَارِ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْمَجَازِ وَالْمَجَازُ مُسَاوٍ لِلْإِضْمَارِ عَلَى مَا فِي " الْمَحْصُولِ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَهَذَا خِطَابٌ خَاصٌّ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا اقْتَصُّوا حَصَلَتْ الْحَيَاةُ لَهُمْ بِدَفْعِ شَرِّ هَذَا الْقَاتِلِ الَّذِي صَارَ عَدُوًّا لَهُمْ، أَوْ هُوَ عَامٌّ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ مُضْمَرَةٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا مَشْرُوعِيَّتَهُ كَانَ أَنْفَى لِلْقَتْلِ فِيهَا بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مِثَالٌ، وَإِلَّا فَالرَّاجِحُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي. فُرُوعٌ أَحَدُهَا: الِاشْتِرَاكُ خَيْرٌ مِنْ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَا إبْطَالَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَافِ النَّسْخِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ نَسْخُ

مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى إبَاحَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ إنْ كَانَ الْقُرْآنُ مُتَأَخِّرًا، أَوْ نَسْخُهُ إنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا أَوْ لَا سَبِيلَ إلَى التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ مِنْ الْآخَرِ حَتَّى يُصَارَ إلَيْهِ. ثَانِيهَا: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فَالْمَعْنَوِيُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَطَّلُ فِيهِ النَّصُّ بِحَالٍ بِخِلَافِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ يَتَعَطَّلُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: رَجَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا كَانَ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى الْمُشْتَرَكِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَلَيْسَ بِصَوَابٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ الْمَجَازَ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ فَقَدْ تُقَدَّمُ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِسَبْقِ الذِّهْنِ إلَى فَهْمِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ اللَّفْظِ عِنْدَ الْعَالِمِ بِالْوَضْعِ وَافْتِقَارِ الْمَعْنَى الْآخَرِ إلَى الْقَرِينَةِ الْحَامِلَةِ عَلَيْهِ. ثَالِثُهَا: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ كَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ عَلَمَيْنِ أَوْ بَيْنَ عَلَمٍ وَمَعْنًى أَوْ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ كَانَ جَعْلُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ عَلَمَيْنِ أَوْ مَعْنَيَيْنِ أَوْلَى، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ يُدَّعَى الِاشْتِرَاكُ فِي الْأَعْلَامِ، وَالِاشْتِرَاكُ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْحَقَائِقِ، وَالْأَعْلَامُ لَيْسَتْ بِحَقَائِقَ كَمَا سَبَقَ. رَابِعُهَا: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُشَكَّكِ فَالْمُشَكَّكُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُتَوَاطِئَ مِنْ وَجْهٍ، وَالْمُتَوَاطِئُ رَاجِحٌ عَلَى الْمُشْتَرَكِ، وَالْمُشَابِهُ لِلرَّاجِحِ رَاجِحٌ، وَلِأَنَّ اخْتِلَالَ الْفَهْمِ فِيهِ أَقَلُّ. خَامِسُهَا: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمُتَوَاطِئِ وَبَيْنَ الْمُشَكِّكِ فَالْمُتَوَاطِئُ أَوْلَى. سَادِسُهَا: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ احْتِمَالِ النَّسْخِ وَاحْتِمَالِ التَّخْصِيصِ، فَفِي تَقْدِيمِ أَيِّهِمَا أَوْلَى، قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ " تَأْلِيفُهُ. قَالَ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى النَّسْخِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَكْثَرِ ذَلِكَ إلَى حَمْلِهِ عَلَى التَّخْصِيصِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى النَّسْخِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْكِتَابِيَّاتِ وَغَيْرِهِنَّ فَلَمَّا جَاءَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ فِي تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ. وَخَرَّجَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: النَّسْخُ كَمَا قَالُوا، وَالثَّانِي: التَّخْصِيصُ، ثُمَّ قَطَعَ بِأَنَّ ذَلِكَ خُصُوصٌ وَعُمُومٌ لَمَّا عَدِمَ الدَّلِيلَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى النَّسْخِ. اهـ.

فصل في الترجيحات بين أفراد المجاز

[فَصْلٌ فِي التَّرْجِيحَاتِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمَجَازِ] فِي التَّرْجِيحَاتِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمَجَازِ إذَا كَانَ لِلْمَجَازِ عَلَاقَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ وَاحْتُمِلَ التَّجَوُّزُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ أَنَّ أَوْلَاهَا إطْلَاقُ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ جَعْلُ التَّخْصِيصِ جُزْءًا مِنْ الْمَجَازِ، وَالتَّخْصِيصُ مِنْ الْمَجَازِ هُوَ كَذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَحْسَنَ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الِاسْتِعَارَةُ فَلْتَكُنْ أَقْوَاهَا، وَلِقُوَّتِهَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ، ثُمَّ يَلِيهَا الْإِضْمَارُ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْفَهْمِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَمْرٍ مَحْذُوفٍ لَا مَذْكُورٍ، وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ لَمْ يُوجِبْ بِمُجَرَّدِهِ خَلَلًا، فَكَانَ قَوِيًّا، وَبَقِيَّةُ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَالُوا: إنَّ إطْلَاقَ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ أَحْسَنُ مِنْ الْعَكْسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالُوا فِي بَابِ التَّرْجِيحِ: إنَّ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ اجْتَمَعَ فِيهَا السَّبَبُ وَالْمُسَبَّبُ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهَا أَوْلَى فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ. وَإِنْ تَعَارَضَ مَجَازَانِ، وَأَحَدُهُمَا تَحَقَّقَتْ عَلَاقَتُهُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الَّذِي لَمْ تَتَحَقَّقْ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ حَمَلُوهُ عَلَى الْمُسَاوِمَيْنِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمَا بَائِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالشَّافِعِيَّةُ حَمَلُوهُ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُمَا الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَجَازٌ، وَمَجَازُ الشَّافِعِيَّةِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَلَاقَةَ فِيهِ مُتَحَقِّقَةٌ فِيهِ بِخِلَافِ إطْلَاقِ الْفِعْلِ وَإِرَادَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ صُدُورُ الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: الِاتِّفَاقُ عَلَى مَجَازِيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَمْ لَا؟ فَرُجِّحَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

فصل في الصريح والكناية والتعريض

[فَصْلٌ فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ] فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْقَذْفِ. [الصَّرِيحُ] فَأَمَّا الصَّرِيحُ فَفِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ بِحَيْثُ يَسْبِقُ إلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ، بِعْت وَاشْتَرَيْت مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ الْحَقُّ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَصْرُ صَرْحًا لِظُهُورِهِ وَارْتِفَاعِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ. وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ هُوَ مَا انْكَشَفَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُبَيَّنُ وَالْمُحْكَمُ. [الْكِنَايَةُ] وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: اسْمٌ لِمَا اسْتَتَرَ فِيهِ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ كَقَوْلِهِ فِي الْبَيْعِ: جَعَلْته لَك بِكَذَا، وَفِي الطَّلَاقِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ

وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُجْمَلُ، وَنَحْوُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَنَّيْت وَكَنَوْتُ قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي لَأَكْنُو عَنْ قُدُورٍ بِغَيْرِهَا ... وَأُعْرِبُ أَحْيَانًا بِهَا وَأُصَارِحُ وَعِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ: أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى شَيْءٍ لُغَةً، وَيُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْمَذْكُورِ لِمُلَازَمَةٍ بَيْنَهُمَا خَاصَّةٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إمَّا قُبْحُ ذِكْرِ الصَّرِيحِ نَحْوُ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] أَوْ إخْفَاءُ الْمُكَنَّى عَنْهُ عَنْ السَّامِعِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ الْكِنَايَةُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: مَجَازٌ. وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ يَقْتَضِيهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْكَشَّافِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ} [البقرة: 235] الْكِنَايَةُ: أَنْ يَذْكَرَ الشَّيْءَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَالتَّعْرِيضُ: أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَكَلَامُ غَيْرِهِ مِنْ الْبَيَانِيِّينَ يَقْتَضِي أَنَّهَا حَقِيقَةٌ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ أَيْضًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: الْكَلِمَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا مَعْنَاهَا وَحْدَهُ، أَوْ مَعْنَاهَا وَغَيْرُ مَعْنَاهَا مَعًا، وَالْأَوَّلُ الْحَقِيقَةُ فِي الْمُفْرَدِ، وَالثَّانِي الْمَجَازُ فِي الْمُفْرَدِ، وَالثَّالِثُ: الْكِنَايَةُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أَرَادَ هُنَا بِالْحَقِيقَةِ التَّصْرِيحَ بِهَا بِقَرِينَةِ جَعْلِهَا فِي مُقَابَلَةِ الْكِنَايَةِ. وَتَصْرِيحُهُ فِيمَا بَعْدُ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْكِنَايَةَ يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِهِمَا حَقِيقَتَيْنِ، وَيَفْتَرِقَانِ بِالتَّصْرِيحِ وَعَدَمِهِ. وَجَزَمَ الْجَاجَرْمِيُّ فِي رِسَالَتِهِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمَجَازِ،؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَالْكِنَايَةُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَوْضُوعِهِ غَيْرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مَعْنًى

ثَانٍ، فَإِذَا قُلْت: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ، فَإِنَّك تُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ حَقِيقَةَ طُولِ النِّجَادِ دَلِيلًا عَلَى طُولِ الْقَامَةِ، فَقَدْ اسْتَعْمَلْت اللَّفْظَ فِي مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ لَكِنَّ غَرَضَك مَعْنًى ثَانٍ يَلْزَمُ الْأَوَّلَ، وَهُوَ طُولُ الْقَامَةِ، وَإِذَا شُرِطَ فِي الْكِنَايَةِ اعْتِبَارُ الْمَوْضُوعِ الْأَصْلِيِّ لَمْ تَكُنْ مَجَازًا. وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت لِزَوْجَتِك: أَنْتِ بَائِنٌ، فَقَدْ اسْتَعْمَلْت لَفْظَ الْبَيْنُونَةِ فِي مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ انْقِطَاعُ الْوَصْلَةِ غَيْرَ أَنَّ مَقْصُودَك الطَّلَاقُ، وَلِهَذَا قَالُوا: تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْكِنَايَةِ، وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْمَجَازِ. اهـ. وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ، وَهُوَ فِيهِ مُتَابِعٌ لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي نِهَايَةِ " الْإِيجَازِ ": وَاللَّفْظَةُ إذَا أُطْلِقَتْ وَكَانَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، غَيْرَ مَعْنَاهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا مَقْصُودًا أَيْضًا لِيَكُونَ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْكِنَايَةُ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَجَازُ، فَالْكِنَايَةُ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، فَقَوْلُنَا: طَوِيلُ النِّجَادِ اُسْتُعْمِلَ لَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ مَعْنَاهُ بَلْ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ طُولِ الْقَامَةِ. قَالَ: وَلَيْسَتْ الْكِنَايَةُ مِنْ الْمَجَازِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَقْصُودَ بِمَعْنَى اللَّفْظِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُعْتَبَرًا، وَإِذَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِيمَا نُقِلَتْ اللَّفْظَةُ عَنْ مَوْضُوعِهَا، فَلَا تَكُونُ مَجَازًا، فَإِذَا قُلْت: فُلَانٌ كَثِيرُ الرَّمَادِ فَإِنَّك تُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ حَقِيقَةَ كَثْرَةِ الرَّمَادِ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ جَوَادًا، فَأَنْتَ اسْتَعْمَلْت هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي مَعَانِيهَا الْأَصْلِيَّةِ غَيْرَ مُنْكِرٍ أَنَّ فِي إفَادَةِ كَوْنِهِ كَثِيرَ الرَّمَادِ مَعْنًى ثَانِيًا يَلْزَمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْجُودُ، وَإِذَا وَجَبَ فِي الْكِنَايَةِ اعْتِبَارُ مَعَانِيهَا الْأَصْلِيَّةِ لَمْ تَكُنْ مَجَازًا. انْتَهَى. وَيَشْهَدُ لِتَغَايُرِهِمَا مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: إنَّ الْكِنَايَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِيهَا النِّيَّةُ دُونَ الْقَرَائِنِ مَعَ أَنَّ الْمَجَازَ تُؤَثِّرُ فِيهِ الْقَرِينَةُ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْكِنَايَةُ تَارَةً تَكُونُ حَقِيقَةً وَتَارَةً تَكُونُ مَجَازًا إلَّا

أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْإِشْعَارُ بِمَا كَنَّى بِهَا عَنْهُ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَالْكِنَايَةُ أَعَمُّ لِانْقِسَامِهَا إلَيْهِمَا، فَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَصْفَانِ لِلَّفْظِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَالِاسْتِعْمَالُ غَيْرُ الدَّلَالَةِ، فَافْهَمْ هَذَا. فَائِدَةٌ ظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ " الْكَشَّافِ " أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْكِنَايَةِ إمْكَانُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 77] أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ الِاسْتِهَانَةِ وَالسَّخَطِ، وَأَنَّ النَّظَرَ إلَى فُلَانٍ بِمَعْنَى الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ كِنَايَةٌ إذَا أُسْنِدَ إلَى مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ، وَمَجَازٌ إذَا أُسْنِدَ إلَى مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. [التَّعْرِيضُ] وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَهُوَ لُغَةً: ضِدُّ التَّصْرِيحِ. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْكَلَامَ مَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَقْصُودِهِ، وَتَحْصُلُ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِ مَقْصُودِهِ إلَّا أَنَّ إشْعَارَهُ بِخِلَافِ الْمَقْصُودِ أَتَمُّ وَأَرْجَحُ. وَأَصْلُهُ مِنْ عَرْضِ الشَّيْءِ وَهُوَ جَانِبُهُ كَأَنَّهُ يَحُومُ بِهِ حَوْلَهُ وَلَا يُظْهِرُهُ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ: أَنَّ الْكِنَايَةَ أَنْ تَذْكُرَ الشَّيْءَ بِذِكْرِ لَوَازِمِهِ، كَقَوْلِك: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، وَالتَّعْرِيضُ أَنْ تَذْكُرَ كَلَامًا مُحْتَمِلًا لِمَقْصُودِك، إلَّا أَنَّ قَرَائِنَ أَحْوَالِك تُؤَكِّدُ حَمْلَهُ عَلَى غَيْرِ مَقْصُودِك.

قِيلَ: وَالتَّعْرِيضُ أَخَصُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ مُطْلَقًا لَا يَصْدُقُ عَلَى الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لَكِنْ يَلُوحُ بِهِ إلَى غَرَضٍ آخَرَ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَهُوَ يُشْبِهُ الْكِنَايَةَ إذَا قُصِدَ بِهَا الْحَقِيقَةُ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهَا مُرَادَةٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَهُوَ إنَّمَا يُرَادُ مِنْهُ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ إشْعَارُهَا بِالْمَقْصُودِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمُجَرَّدَ لَا يَكْفِي فِيهَا، فَمِنْ الْكِنَايَةِ الْمَسُّ وَالْإِفْضَاءُ، وَالدُّخُولُ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ، وَمِنْ التَّعَرُّضِ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] أَيْ أَنَّ كَبِيرَ الْأَصْنَامِ غَضِبَ أَنْ تُعْبَدَ هَذِهِ الْأَصْنَامُ الصِّغَارُ فَكَسَّرَهَا، فَكَذَلِكَ اللَّهُ يَغْضَبُ لِعِبَادَةِ مَنْ دُونَهُ، فَكَلَامُ إبْرَاهِيمَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ضَرَبَهُ مَثَلًا لِمَقْصُودِهِ مِنْ التَّعْرِيضِ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّمْثِيلِ، وَيَكُونُ التَّعْرِيضُ مِمَّا لَا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ بَلْ ضَرَبَ الْمَثَلُ هَذَا، وَمِنْهُ مَا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَيُشَارُ بِهِ إلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّعْرِيضِ. هَذَا حَدُّهُ بِاصْطِلَاحِ الْبَيَانِيِّينَ. وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدْ ذَكَرُوا الْكِنَايَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَجَازٌ، فَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ مُرِيدًا الطَّلَاقَ، فَهُوَ مَجَازٌ وَيُسَمِّيهِ الْفَقِيهُ كِنَايَةً، فَلَوْ أَرَادَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِكَوْنِهِ لَازِمًا لِلطَّلَاقِ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ نَظَرٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ إلَّا فِي بَابِ اللِّعَانِ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا الصَّرِيحَ وَالْكِنَايَةَ وَالتَّعْرِيضَ أَقْسَامًا، وَذَكَرُوا فِي الْخِطْبَةِ التَّصْرِيحَ وَالتَّعْرِيضَ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْكِنَايَةَ. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: إنَّ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا كِنَايَةٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْكِنَايَةِ مَا اسْتَتَرَ الْمُرَادُ بِهِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَعَانِيهَا غَيْرُ مُسْتَتِرَةٍ، بَلْ ظَاهِرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ لَكِنَّهَا شَابَهَتْ الْكِنَايَةَ مِنْ جِهَةِ الْإِبْهَامِ، وَلِهَذَا اُشْتُرِطَتْ فِيهَا النِّيَّةُ لِيَزُولَ الْإِبْهَامُ، وَتَتَعَيَّنَ الْبَيْنُونَةُ عَنْ وَصْلَةِ النِّكَاحِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ مَفْهُومَاتِهَا اللُّغَوِيَّةَ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ

مُسْتَتِرَةٍ، فَهَذَا لَا يُنَافِي الْكِنَايَةَ، وَاسْتِتَارُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا كَمَا فِي جَمِيعِ الْكِنَايَاتِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ مَا أَرَادَهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا ظَاهِرٌ لَا اسْتِتَارَ فِيهِ فَمَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَلَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ إلَّا بِبَيَانٍ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ الْمَحَلِّ مُبْهَمَةٌ مُسْتَتِرَةٌ؟ وَلَمْ يُفَسِّرُوا الْكِنَايَةَ إلَّا بِمَا اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا إرَادَةَ اللَّازِمِ ثُمَّ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إلَى الْمَلْزُومِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَقِيقَةَ الْمَهْجُورَةَ وَالْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ كِنَايَةً لِمُجَرَّدِ اسْتِتَارِ الْمُرَادِ.

أدوات المعاني

[أَدَوَاتُ الْمَعَانِي] وَإِنَّمَا احْتَاجَ الْأُصُولِيُّ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ مَعَانِيهَا. قَالَ ابْنُ السَّيِّدِ النَّحْوِيُّ يُخْبِرُ عَمَّنْ تَأَمَّلَ غَرَضَهُ وَمَقْصِدَهُ فَإِنَّ الطَّرِيقَةَ الْفِقْهِيَّةَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى عِلْمِ الْأَدَبِ، مُؤَسَّسَةٌ عَلَى أُصُولِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ مَثَلَهَا وَمَثَلَهُ قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ: فَإِنْ لَا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلَبَانِهَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ ": رَأَيْت أَصْحَابَنَا الْفُقَهَاءَ يُضَمِّنُونَ كُتُبَهُمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ حُرُوفًا مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي، وَمَا أَدْرِي مَا الْوَجْهُ فِي اخْتِصَاصِهِمْ إيَّاهَا دُونَ غَيْرِهَا، فَذَكَرْت عَامَّةَ الْمَعَانِي رَسْمًا وَاخْتِصَارًا. اهـ. وَأَقُولُ: تَنْقَسِمُ حُرُوفُ الْمَعَانِي إلَى مَا هُوَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى حَرْفَيْنِ وَمَا هُوَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَمِنْ الْأَوَّلِ: الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ: وَفِيهَا مَذَاهِبُ:

أَحَدُهَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا فِي الْفِعْلِ كَالْفَاءِ، وَلَا فِي الْمَنْزِلَةِ كَثُمَّ، وَلَا فِي الْأَحْوَالِ كَ حَتَّى، وَإِنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ كَالتَّثْنِيَةِ، فَإِذَا قُلْت: مَرَرْت بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَهُوَ كَقَوْلِك: مَرَرْت بِهِمَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي مَرَرْت بِرَجُلٍ وَحِمَارٍ: لَمْ يَجْعَلْ الرَّجُلَ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِك إيَّاهُ يَكُونُ بِهَا أَوْلَى مِنْ الْحِمَارِ، كَأَنَّك قُلْت: مَرَرْت بِهِمَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَأَ بِشَيْءٍ قَبْلَ شَيْءٍ. انْتَهَى. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ، وَأَنَّهَا كَالتَّثْنِيَةِ لَا تَرْتِيبَ فِيهَا وَلَا مَعِيَّةَ، فَلِذَلِكَ تَأْتِي بِعَكْسِ التَّرْتِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى: 3] وَالْمَعِيَّةُ، نَحْوُ اخْتَصَمَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَلِلتَّرْتِيبِ، نَحْوُ {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وَلَمْ تُوضَعْ لِشَيْءٍ بِخُصُوصِهِ، بَلْ لِمَا يَعُمُّهَا مِنْ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ. وَفَهِمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْهُ تَعَيُّنَ إرَادَةِ الْجَمْعِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو لَا تَفْهَمُ الْعَرَبُ مَجِيئَهُمَا مَعًا بَلْ يُحْتَمَلُ الْمَعِيَّةُ وَالتَّرْتِيبُ. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ هَذَا خِلَافُ مُرَادِهِمْ، وَإِنَّمَا عَنَوْا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي أُسْنِدَ إلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمَا مَعًا بِالزَّمَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ.

وَنَقَلَ الْفَارِسِيُّ وَالسِّيرَافِيُّ فِي " شَرْحِ سِيبَوَيْهِ " وَالسُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُمْ إجْمَاعَ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَيْهِ قِيلَ: وَنَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ " كِتَابِهِ "، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " عَنْ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: هُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَسْرِهِمْ وَمُعْظَمِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قُلْت: وَهُوَ الَّذِي صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي أَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: ثُمَّ أَوْلَادِي، فَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ كَ " ثُمَّ " لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشَارِكَ كَمَا فِي " ثُمَّ ". وَنَصَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: إذَا مِتُّ فَسَالِمٌ وَغَانِمٌ وَخَالِدٌ أَحْرَارٌ، وَكَانَ الثُّلُثُ لَا يَفِي إلَّا بِأَحَدِهِمْ: فَإِنَّهُ يُقْرَعُ، فَلَوْ اقْتَضَتْ الْوَاوُ التَّرْتِيبَ لَعَتَقَ سَالِمٌ وَحْدَهُ. وَمِنْ حُجَجِهِمْ قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ: {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [المؤمنون: 37] اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْخَشَّابِ وَابْنُ مَالِكٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد

وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» فَلَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَسَاوَتْ " ثُمَّ " وَلَمَا فُرِّقَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ: إذَا تَأَمَّلْت الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ فِي التَّنْزِيلِ وَجَدْتهَا كُلَّهَا جَامِعَةً لَا مُرَتَّبَةً، وَكَذَا فِي غَيْرِ التَّنْزِيلِ. قَالَ: وَمَا أَحْسَنَ مَا سَمَّى النَّحْوِيُّونَ الْحَرَكَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الْوَاوِ وَهِيَ بَعْضُهَا عِنْدَهُمْ بِالضَّمَّةِ؛ لِأَنَّ الضَّمَّ الْجَمْعُ، فَكَانَ مَا هُوَ مِنْ الضَّمِّ لِلْجَمْعِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّرْتِيبِ. قَالَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ إمْسَاسِ الْأَلْفَاظِ أَشْبَاهَ الْمَعَانِي، وَهُوَ بَابٌ شَرِيفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ جِنِّي فِي " الْخَصَائِصِ " وَغَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ الْعَطْفُ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ. صَحَّ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ. مِنْهُمْ ثَعْلَبٌ وَالْفَرَّاءُ وَهِشَامٌ وَأَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ، وَمِنْ الْبَصْرِيِّينَ قُطْرُبٌ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الرَّبَعِيُّ وَابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ. حَكَاهُ عَنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ النُّحَاةِ، وَعُزِيَ لِلشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ

الْقُرْآنِ "، وَبَعْضُهُمْ أَخَذَهُ مِنْ لَازِمِ قَوْلِهِ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ. وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَيْسَ مَدْرَكُهُ فِي ذَلِكَ كَوْنَهَا لِلتَّرْتِيبِ بَلْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا هَذَا وَجْهٌ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَأَغْرَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالِابْتِدَاءِ بِفِعْلِ مَا بُدِئَ بِذِكْرِهِ فِي الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ انْتَهَى. وَكَذَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنْ " الْحَاوِي " عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، وَكَذَا الصَّيْدَلَانِيُّ فِي " شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ "، فَقَالَ: وَقَوْلُنَا: إنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ التَّرْتِيبَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالْفَرَّاءِ وَغُلَامِ ثَعْلَبٍ. انْتَهَى. وَعِبَارَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْأَسَالِيبِ ": وَصَارَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَتَكَلَّفُوا نَقْلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ فِي " الْبُرْهَانِ ": إنَّهُ الَّذِي اُشْتُهِرَ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ ". وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ مَعَ التَّشْرِيكِ. قُلْت: وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ " الْوَدَائِعِ "، وَاعْتَمَدَهُ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ، وَعِبَارَتُهُ: وَوَاوُ النَّسَقِ تَدُلُّ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ مُتَوَالِيًا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ. هَذَا لَفْظُهُ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ " كَوْنَهَا لِلتَّرْتِيبِ عَنْ ثَعْلَبٍ وَأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ غُلَامِهِ، وَفِي ذَلِكَ، نَظَرٌ فَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ: قَالَ

لِي أَبُو عُمَرَ وَغُلَامُ ثَعْلَبٍ: الْوَاوُ عِنْدَ الْعَرَبِ لِلْجَمْعِ، وَلَا دَلَالَةَ عِنْدَهُمْ فِيهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": ادَّعَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ، وَنَسَبُوهُ لِلشَّافِعِيِّ، حَكَى عَنْ بَعْضِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَأَمَّا عَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَعَلَى أَنَّهَا لِلْجَمْعِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ التَّرْتِيبُ بِقَرَائِنَ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَصِحَّ هَذَا النَّقْلُ عَنْ الشَّافِعِيِّ بَلْ الْوَاوُ عِنْدَهُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا نُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ مِنْ إيجَابِهِ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ، وَلَمْ يُوجِبْهُ مِنْ الْوَاوِ بَلْ لِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ قَطْعُ النَّظِيرِ عَنْ النَّظِيرِ، وَإِدْخَالُ الْمَمْسُوحِ بَيْنَ الْمَغْسُولَيْنِ، وَالْعَرَبُ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا إذَا أَرَادَتْ التَّرْتِيبَ. قُلْت: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَاوَ عِنْدَهُ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ لُغَةً وَتُفِيدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا بَلْ تَمَسَّكَ بِمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّفَا يَقُولُ: «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا» وَعَلَى هَذَا فَإِذَا تَرَدَّدْنَا فِيهِ وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى الْمَحْمَلِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى اللُّغَوِيِّ، وَبِهَذَا يَجْتَمِعُ كَلَامُهُ، وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَيَزُولُ الِاسْتِشْكَالُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي مُصَنَّفِهِ " الْمُفْرَدِ " فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ وَالزَّاهِدِ وَابْنِ جِنِّي وَابْنِ بَرْهَانٍ وَالرَّبَعِيِّ مِنْ اقْتِضَائِهَا التَّرْتِيبَ

فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَكُتُبُهُمْ تَنْطِقُ بِضِدِّ ذَلِكَ. نَعَمْ، لَمَّا ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الرَّبَعِيُّ فِي " شَرْحِ كِتَابِ الْجَرْمِيِّ " أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ قَالَ: هَذَا مَذْهَبُ النَّحْوِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ إلَّا الشَّافِعِيَّ، وَلِقَوْلِهِ وَجْهٌ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ: حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا لِلْجَمْعِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي " شَرْحِ الْكَافِيَةِ ": زَعَمَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ، وَعُلَمَاءُ الْكُوفَةِ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ النَّحْوِيُّ عَنْ قُطْرُبٍ وَالرَّبَعِيِّ وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: - {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] وَبِقَوْلِهِ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] ثُمَّ رُدَّ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلتَّرْتِيبِ بِقَوْلِهِ: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] قَالَ: وَالنُّذُرُ قَبْلَ الْعَذَابِ بِدَلِيلِ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] . وَمِنْ حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِالتَّرْتِيبِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ وَأُسْلِمُ؟ قَالَ: أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ، فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمِلَ قَلِيلًا وَأُوجِرَ كَثِيرًا» . وَأَسْنَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا نَدِمْت عَلَى شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ عَمِلْت بِهِ مَا نَدِمْت عَلَى الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَنْ لَا أَكُونَ مَشَيْت، لِأَنِّي سَمِعْت «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ حِينَ ذَكَرَ إبْرَاهِيمُ وَأُمِرَ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] فَبَدَأَ

بِالرِّجَالِ قَبْلَ الرُّكْبَانِ» . قَالَ: فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ عِنْدَهُ التَّرْتِيبَ، انْتَهَى. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ» فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهَاهُ؛ لِأَنَّ الْأَدَبَ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ فِي ضَمِيرٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] وَلَمْ يَقُلْ: وَصَدَقَا بَلْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهَا لِلْجَمْعِ لَا لِلتَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ هَذَا الضَّمِيرِ وَهُوَ " هُمَا " بِمَنْزِلَةِ التَّثْنِيَةِ فِي الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَّفِقَةِ فِي قَوْلِك: الزَّيْدَانِ وَالْعَمْرَانِ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ أَصْلَ التَّثْنِيَةِ الْعَطْفُ، وَحُكْمُ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ حُكْمُ التَّثْنِيَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا تَرْتِيبٌ فِي الْمَعْنَى وَلَا تَقْدِيمُ احْتِفَالٍ فِي اللَّفْظِ. وَأَمَّا وُجُوبُ التَّرْتِيبِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277] حَيْثُ رَتَّبَ الْعَمَلَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ بِدُونِهِ، فَلَمْ يُسْتَفَدْ ذَلِكَ مِنْ الْوَاوِ بَلْ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112] . الثَّالِثُ: أَنَّهَا لِلْجَمْعِ تُفِيدُ الْمَعِيَّةَ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَانَتْ مَجَازًا وَنُسِبَ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِغَيْرِ كَوْنِ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِاقْتِرَانٍ، وَلَا تَرْتِيبٍ، وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِمَا فِيمَا إذَا عَقَدَ

رَجُلٌ لِغَيْرِهِ نِكَاحَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّهُمَا قَالَا: إذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَإِنْ أَجَازَ نِكَاحَهُمَا مَعًا بَطَلَ فِيهِمَا، وَإِنْ أَجَازَ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ نِكَاحَ الْأُخْرَى بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ قَالَ: أَجَزْت نِكَاحَ فُلَانَةَ وَفُلَانَةَ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَجَازَ نِكَاحَهُمَا مَعًا، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ تُفِيدُ الْمَعِيَّةَ كَمَا لَوْ أَجَازَ نِكَاحَهُمَا مَعًا. وَمِنْ قَوْلِهِمَا فِيمَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَطَالِقٌ: تَقَعُ الثَّلَاثُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاحِدَةٌ، وَرُبَّمَا نُسِبَ هَذَا الْمَذْهَبُ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَلِمَالِكٍ حَيْثُ قَالَا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ تَقَعُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ الْمُقَارَنَةَ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ حَيْثُ يَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] حَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْفَرَّاءِ وَاحْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ. قَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ: وَيُشْبِهُ إنْ صَحَّ هَذَا عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى يُفِيدُ التَّرْتِيبَ إذَا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يَصْلُحُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ لَوْ أَفَادَ ذَلِكَ لَأَفَادَهُ، وَإِنْ صَحَّ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ لَا يَتَغَيَّرُ كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ مَا يَقْتَضِيهِ " ثُمَّ "، وَالْفَاءُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ بُعْدٌ فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْمَرَاغِيُّ: نَظَرْت فِي كِتَابِ الْفَرَّاءِ فَمَا أَلْفَيْت فِي شَيْءٍ مِنْهَا هَذَا، ثُمَّ فِيهِ دَلَالَةٌ لَوْ صَحَّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا الْجَمْعُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا التَّرْتِيبُ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ. الْخَامِسُ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ إنْ دَخَلَتْ بَيْنَ أَجْزَاءِ بَيْنِهَا ارْتِبَاطٌ اقْتَضَتْ التَّرْتِيبَ، كَآيَةِ الْوُضُوءِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ هِيَ أَجْزَاءُ فِعْلٍ وَاحِدٍ مَأْمُورٍ بِهِ

وَهُوَ الْوُضُوءُ، فَدَخَلَتْ الْوَاوُ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ لِلرَّبْطِ، فَأَفَادَتْ التَّرْتِيبَ، وَإِنْ دَخَلَتْ بَيْنَ أَفْعَالٍ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهَا نَحْوُ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لَا تُفِيدُهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مُوسَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَرَجَّحَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ. السَّادِسُ: إنَّمَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ دُونَ عَطْفِ الْجُمَلِ. حَكَاهُ ابْنُ الْخَبَّازِ مِنْ النُّحَاةِ عَنْ شَيْخِهِ. السَّابِعُ: أَنَّهَا لِلْعَطْفِ وَالِاشْتِرَاكِ، وَلَا تَقْتَضِي بِأَصْلِهَا جَمْعًا وَلَا تَرْتِيبًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهَا. حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي " تَعْلِيقِهِ " عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. قَالَ: وَكَانَ سَيِّئَ الرَّأْيِ فِي قَوْلِ التَّرْتِيبِ وَفِي قَوْلِ الْجَمْعِ. قَالَ: وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ هَذَا، وَقَالَ: الْقَائِلُ قَائِلَانِ، قَائِلٌ بِالْجَمْعِ وَقَائِلٌ بِالتَّرْتِيبِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ لَا يَجُوزُ. اهـ. وَنَقَلْته مِنْ فَوَائِدِ رِحْلَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِخَطِّهِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْخِلَافِيَّةِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَاوِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَقْتَضِي الْجَمْعَ وَالثَّانِي: تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَالثَّالِثُ: لَا تَقْتَضِي وَاحِدًا مِنْهَا، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ فَقَطْ. الثَّامِنُ: وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْوَاوُ لَهَا ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ: حَقِيقَةٌ مَجَازٌ وَمُخْتَلَفٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.

فَالْحَقِيقَةُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الْعَطْفِ لِلْجَمْعِ وَالِاشْتِرَاكِ، كَقَوْلِك: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو. وَالْمَجَازُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ بِمَعْنَى " أَوْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . وَالْمُخْتَلَفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي التَّرْتِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهَا تَكُونُ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي التَّرْتِيبِ مَجَازًا، وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهَا تَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَوْضِعٍ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ حُمِلَتْ عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ الْجَمْعِ لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ. وَحَيْثُ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ وَاحْتِمَالُ تَأْخِيرِ الْمَعْطُوفِ كَثِيرٌ وَتَقَدُّمُهُ قَلِيلٌ، وَالْمَعِيَّةُ احْتِمَالٌ رَاجِحٌ. هَذَا كَلَامُهُ فِي الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ. أَمَّا الَّتِي بِمَعْنَى " مَعَ " فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ، قَالَ الْهِنْدِيُّ: فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ تَقْتَضِي الْجَمْعَ بِصِفَةِ الْمَعِيَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: جَاءَ الْبَرْدُ وَالطَّيَالِسَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الْوَاوِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ لَا تُوجَدُ فِي سَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَهِيَ أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْجَمْعِ أَعَمُّ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الْعَطْفِ. بَيَانُهُ: أَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْجَمْعِ، وَتَخْلُو عَنْ الْعَطْفِ، كَوَاوِ الْمَفْعُولِ مَعَهُ وَوَاوِ الْقَسَمِ؛ لِأَنَّهَا نَائِبَةٌ عَنْ الْبَاءِ وَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ، وَالشَّيْءُ إذَا لَاصَقَ الشَّيْءَ بَعْدُ جَامَعَهُ، وَوَاوُ الْحَالِ لَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبْ اللَّبَنَ لِلْجَمْعِ دُونَ الْعَطْفِ. قِيلَ: وَقَوْلُهُمْ: الْوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ فِيهِ تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ اسْمٌ لَيْسَتْ حَرْفًا، وَإِنَّمَا الْعَطْفُ " وَ " وَحْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي " شَرْحِ الْإِيضَاحِ ": إنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ مَحَلُّهُ مَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ صُدُورُهُ مِنْ وَاحِدٍ، فَأَمَّا نَحْوُ اخْتَصَمَ

زَيْدٌ وَعَمْرٌو، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَذَكَرَ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ " مُحْتَجًّا عَلَى الْقَائِلِينَ بِالتَّرْتِيبِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهَا. فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا قَالَ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ ": إنَّ الْوَاوَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْجُمَلِ فَلَيْسَ لَهَا فَائِدَةٌ إلَّا التَّحْسِينُ اللَّفْظِيُّ. وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ " بِالْفَاءِ وَثُمَّ فَإِنَّك لَوْ قُلْت: قَامَ زَيْدٌ فَخَرَجَ، أَوْ ثُمَّ خَرَجَ عَمْرٌو، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ الْمُفْرَدِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا يُشْعِرُ بِالتَّعْقِيبِ، وَلَا مُهْلَةَ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِالتَّعْقِيبِ وَالْمُهْلَةِ. إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُفْرَدَاتِ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي إعْرَابٍ بِعَامِلٍ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. الثَّانِيَةُ قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ: جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ؛ لِأَنَّك أُمِرْت بِمُجَالَسَتِهِمَا مَعًا وَتَقُولُ أَيْضًا هَذَا وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنَّهُمَا جَمِيعًا أَهْلُ الْمُجَالَسَةِ، فَإِنْ أَرَدْت وَجَالِسْ أَحَدَهُمَا لَمْ تَكُنْ عَاصِيًا، وَعَلَى هَذَا أَخَذَ مَالِكٌ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَوْلُ مَالِكٍ مُمْكِنٌ إنْ عُضِّدَ بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ.

الفاء من أدوات المعاني

[الْفَاءُ مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي] وَمِنْهَا الْفَاءُ: وَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَزِيَادَةٍ، وَهِيَ التَّعْقِيبُ أَيْ: أَنَّ الْمَعْطُوفَ بَعْدَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ بِلَا مُهْلَةٍ أَيْ: فِي عَقِبِهِ وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ: إنَّ مَعْنَاهَا التَّفَرُّقُ عَلَى مُوَاصَلَةٍ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُحْكَى عَنْ الزَّجَّاجِ وَأَخَذَهَا ابْنُ جِنِّي فِي لُمَعِهِ ". وَمَعْنَى التَّفَرُّقِ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْجَمْعِ كَالْوَاوِ، وَمَعْنَى عَلَى مُوَاصَلَةٍ أَيْ: أَنَّ الثَّانِيَ لَمَّا كَانَ يَلِي الْأَوَّلَ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ زَمَانِيٍّ كَانَ مُوَاصِلًا لَهُ. وَاسْتَدَلَّ الْفَارِسِيُّ فِي " الْإِيضَاحِ " عَلَى ذَلِكَ بِوُقُوعِهَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ، نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. يُرِيدُ أَنَّ الْجَوَابَ يَلِي الشَّرْطَ عَقِبَهُ بِلَا مُهْلَةٍ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ مَعْنَاهُ قَرُبَ هَلَاكُهَا. وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ: أَيْ أَرَدْنَا إهْلَاكَهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ مَجْهُولًا عِنْدَ النَّاسِ قُدِّرَ كَالْعَدَمِ، وَلَمَّا حَصَلَ الْهَلَاكُ اعْتَقَدُوا وُجُودَهُ فَحَسُنَ دُخُولُ الْفَاءِ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ عَاطِفَةً، وَإِنَّمَا هِيَ سَبَبِيَّةٌ، وَالْفَاءُ السَّبَبِيَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّعْقِيبُ، فَإِنَّك تَقُولُ: أَكْرَمْت زَيْدًا أَمْسِ، فَأَكْرَمَنِي الْيَوْمَ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ

ظَاهِرٌ، وَعَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْله تَعَالَى: {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] ثُمَّ التَّرْتِيبُ إمَّا فِي الزَّمَانِ نَحْوُ {خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} [الانفطار: 7] وَلِهَذَا كَثُرَ كَوْنُ تَابِعِهَا مُسَبَّبًا، نَحْوُ ضَرَبْته فَهَلَكَ، أَوْ فِي الذِّكْرِ، وَهُوَ عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ هُوَ، نَحْوُ {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ} [هود: 45] أَوْ مُتَأَخِّرٌ عَمَّا قَبْلَهُ فِي الْإِخْبَارِ نَحْوُ: بِسَقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهَا تَأْتِي لِغَيْرِ التَّرْتِيبِ، وَهَذَا مَعَ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْوَاوَ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ عَجِيبٌ، وَهُوَ يُوقِعُ خَلَلًا فِي ذَلِكَ النَّقْلِ، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ هَذَا فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] الْمَعْنَى ثُمَّ تَدَلَّى فَدَنَا، وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ إذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا، أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْت أَيَّهُمَا شِئْت فَقُلْت: دَنَا فَقَرُبَ أَوْ قَرُبَ فَدَنَا، وَشَتَمَنِي فَأَسَاءَ، أَوْ أَسَاءَ فَشَتَمَنِي؛ لِأَنَّ الشَّتْمَ وَالْإِسَاءَةَ وَاحِدٌ. وَنُوقِشَ بِأَنَّ الْقَلْبَ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُسَبَّبًا وَسَبَبًا مِنْ وَجْهَيْنِ، فَيَكُونُ التَّرْتِيبُ حَاصِلًا قَدَّمْت أَوْ أَخَّرْت، فَقَوْلُكَ: دَنَا فَقَرُبَ. الدُّنُوُّ عِلَّةُ الْقُرْبِ، وَالْقُرْبُ غَايَتُهُ. فَإِذَا قُلْت: دَنَا فَقَرُبَ، فَمَعْنَاهُ لَمَّا دَنَا حَصَلَ الْقُرْبُ، وَإِذَا عَكَسْت فَقُلْت: قَرُبَ فَدَنَا، فَمَعْنَاهُ قَرُبَ فَلَزِمَ مِنْهُ الدُّنُوُّ، وَلَا يَصِحُّ فِي قَوْلِك: ضَرَبْته فَبَكَى؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ لَيْسَ غَايَتَهُ الْبُكَاءُ بَلْ الْأَدَبُ، أَوْ شَيْءٌ آخَرُ، وَكَذَلِكَ أَعْطَيْته فَشَنَّعَا. وَقَالَ الْجَرْمِيُّ: لَا تُفِيدُ الْفَاءُ التَّرْتِيبَ فِي الْبِقَاعِ وَلَا فِي الْأَمْطَارِ بِدَلِيلِ

قَوْلِهِ: بَيْنَ الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: نَصَّ الْفَارِسِيُّ فِي " الْإِيضَاحِ " عَلَى أَنَّ " ثُمَّ " أَشَدُّ تَرَاخِيًا مِنْ الْفَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ لَهَا تَرَاخٍ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَمْ يَدَّعِ أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ إلَّا الْمُتَأَخِّرُونَ. قُلْت: وَهِيَ عِبَارَةُ أَبِي بَكْرِ بْنِ السَّرَّاجِ فِي أُصُولِهِ "، فَقَالَ: وَ " ثُمَّ " مِثْلُ الْفَاءِ إلَّا أَنَّهَا أَشَدُّ تَرَاخِيًا، وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ فِي الْفَاءِ تَرَاخِيًا جَمًّا؛ لِأَنَّ أَشَدَّ " أَفْضَلُ لِلتَّفْضِيلِ " وَلَا يَقَعُ التَّفْضِيلُ إلَّا بَيْنَ مُشْتَرِكَيْنِ فِي مَعْنًى، ثُمَّ يَزِيدُ الْمُفَضَّلُ عَلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَا تَرَاخِيَ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ فِيمَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ عَدَّ تَعْقِيبَ الْفَاءِ وَتَرْتِيبَهَا تَرَاخِيًا فَذَلِكَ تَسَاهُلٌ فِي الْعِبَارَةِ وَتَسَامُحٌ. ثُمَّ شَرَعَ فِي تَأْوِيلِ عِبَارَةِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّ " أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ " قَدْ لَا يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي مُسْتَقَرِّ أَهْلِ النَّارِ. قُلْت: وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا فَقَدْ صَرَّحَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ، فَقَالَ فِي الْفَاءِ: إنَّ أَصْلَهَا الْإِتْبَاعُ، وَلِذَلِكَ لَا تَعْرَى عَنْهُ مَعَ تَعَرِّيهَا عَنْ الْعَطْفِ فِي جَوَازِ الشَّرْطِ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّرَاخِي الْيَسِيرُ. اهـ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى التَّرَاخِي فِيهَا وَإِنْ لَطُفَ فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ التَّعْقِيبِ تَرَاخِي الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ بِزَمَانٍ وَإِنْ قَلَّ بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُقَارَنًا، وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لَهُ، وَأَنْتَ إذَا عَلِمْت تَفْسِيرَنَا التَّعْقِيبَ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ زَالَ الْإِشْكَالُ. وَقَدْ جَوَّزُوا " دَخَلْت الْبَصْرَةَ فَالْكُوفَةَ "، وَبَيْنَ الدُّخُولَيْنِ تَرَاخٍ وَمُهْلَةٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 4] {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 5]

فَإِنَّ بَيْنَ الْإِخْرَاجِ وَالْإِحْوَاءِ وَسَائِطَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ: الِاتِّصَالُ يَكُونُ حَقِيقَةً وَيَكُونُ مَجَازًا، فَإِذَا كَانَ حَقِيقَةً فَلَا تَرَاخِيَ فِيهِ وَإِذَا كَانَ مَجَازًا فَفِيهِ تَرَاخٍ بِلَا شَكٍّ، كَقَوْلِك: دَخَلْت الْبَصْرَةَ فَالْكُوفَةَ وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْفَاءُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ دُخُولِ الْكُوفَةِ اتَّصَلَ بِدُخُولِ الْبَصْرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ. وَقَدْ يَكُونُ التَّرَاخِي بَيْنَهُمَا قَلِيلًا فَيَكُونُ كَالْمُسْتَهْلِكِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ لِعِلَّتِهِ، فَتَدْخُلُ الْفَاءُ كَذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ وَجْهُ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» وَبِظَاهِرِهِ تَمَسَّكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فِي إيجَابِ عِتْقِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: " فَيُعْتِقَهُ " مَعْنًى. وَقَالَ الْأَئِمَّةُ: فَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ بِذَلِكَ الشِّرَاءِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا يُقَالُ: أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ. أَيْ: بِهَذَا الْإِطْعَامِ؛ إذْ لَوْ كَانَ الْإِشْبَاعُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِهِ، لَا يُقَالُ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ حُكْمًا لِلشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ، وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةٌ، فَكَانَ مُنَافِيًا لَهُ، وَالْمُنَافِي لِحُكْمِ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّهُ بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لَهُ وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَصِيرُ مُتَمَلَّكًا، وَالْمِلْكُ فِي الْوَقْتِ إكْمَالٌ لِعِلَّةِ الْعِتْقِ فَيَصِيرُ الْعِتْقُ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ، وَإِذَا صَارَ مُضَافًا إلَيْهِ يَصِيرُ بِهِ مُعْتَقًا، وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْتَاقٍ آخَرَ.

ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي كَوْنِهَا لِلتَّعْقِيبِ بَيْنَ الْعَاطِفَةِ وَالْوَاقِعَةِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ وَسَبَقَ فِي كَلَامِ الْفَارِسِيِّ الِاسْتِدْلَال بِجَوَابِ الشَّرْطِ، فَاقْتَضَى أَنَّهُ مَحَلُّ وِفَاقٍ. وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي " الْعَوْنِيِّ ": الْمَعْنَى الْخَاصُّ بِالْفَاءِ التَّعْقِيبُ فَلَا تَكُونُ عَاطِفَةً إلَّا مُعَقِّبَةً، وَقَدْ تَكُونُ مُعَقِّبَةً غَيْرَ عَاطِفَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14] وَالْفَاءُ فِي هَذَا وَشَبَهِهِ عَاطِفَةٌ مُعَقِّبَةٌ، وَنَظِيرُهُ فِي الْكَلَامِ: جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو، وَأَمَّا الْمُعَقِّبَةُ غَيْرُ الْعَاطِفَةِ كَالْوَاقِعَةِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَعْقُبُ الشَّرْطَ، وَلَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ؛ إذْ لَوْ عُطِفَ عَلَيْهِ لَكَانَ شَرْطًا أَيْضًا لَا جَوَابًا انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: هِيَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لِلتَّعْقِيبِ فِي الْعَطْفِ، وَأَمَّا فِي الْجَوَابِ فَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ أَيْضًا. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61] وَلِأَنَّك تَقُولُ: إذَا دَخَلْت مَكَّةَ فَاشْتَرِ لِي عَبْدًا، فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ. انْتَهَى. وَلِهَذَا اخْتَارَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهَا رَابِطَةٌ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ لَا غَيْرُ، وَأَنَّ التَّعْقِيبَ غَيْرُ لَازِمٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَيُسْحِتَكُمْ} وَقَوْلُهُ {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَلَيْسَ فِيهَا جَزَاءٌ عَقِبَ شَرْطِهِ. وَحَمَلَهُ الْأَوَّلُونَ عَلَى الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الْإِسْحَاتَ لَمَّا تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ عَقِبَهُ. وَمَا نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ يُبَايِنُهُ مُبَايَنَةً ظَاهِرَةً مَا نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي أُصُولِهِ " فَإِنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ: إنَّ الْفَاءَ إنْ كَانَتْ لِلْجَزَاءِ فَلَا

خِلَافَ أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ كَقَوْلِك: جَاءَنِي فَضَرَبْته وَشَتَمَنِي فَحَدَدْته. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَتْ لِلْعَطْفِ فَقِيلَ: كَالْأَوَّلِ وَقِيلَ كَالْوَاوِ. اهـ. لَكِنْ الْخِلَافُ فِي الْجَزَاءِ ثَابِتٌ، وَجَعَلُوا مِنْ فَوَائِدِهِ الْخِلَافَ فِي وُجُوبِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» فَإِنْ جَعَلْنَاهُ لِلتَّعْقِيبِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وَإِلَّا فَلَا. وَأَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ كَوْنَهَا لِلتَّعْقِيبِ إذَا وَقَعَتْ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَدَافَعَ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] فَإِنَّ الْفَاءَ هُنَا لِلتَّعْقِيبِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَا مُهْلَةٍ، وَإِذَا كَانَ الْكَائِنُ الْحَادِثُ عَقِبَ قَوْلِهِ: " كُنْ " مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَا مُهْلَةٍ اقْتَضَى ذَلِكَ حَدَثُ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ " كُنْ ". وَاشْتَدَّ نَكِيرُ الْقَاضِي فِي كَوْنِ الْفَاءِ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فِي مِثْلِ هَذَا، وَرَأَى أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ فِي الْعَطْفِ فَقَطْ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَأَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ الْبُدَاءَةُ بِالْوَجْهِ ثَبَتَ التَّرْتِيبُ فِي الْبَاقِي؛ إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. قِيلَ: وَأَصْلُ الْفَاءِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمَعْلُولِ لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ، وَالْمَعْلُولُ يَعْقُبُ الْعِلَّةَ، وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَعْلُولٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدٌ فِي بَابِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الباء من أدوات المعاني

[الْبَاءُ مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي] الْبَاءُ وَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ أَيْ إلْصَاقِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَاتِّصَالُهُ بِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ: قَوْلُهُمْ: الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ إنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَدَّى إلَى الِاسْتِحَالَةِ لِأَنَّهَا تَجِيءُ بِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ نَفْسِهِ كَقَوْلِنَا: أَلْصَقْت بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ كَلَامِهِمْ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلْمُتَعَلِّمِ: اُنْظُرْ إلَى قَوْلِك: أَلْصَقْته بِكَذَا، وَتَأَمَّلْ الْمُلَابَسَةَ الَّتِي بَيْنَ الْمُلْصَقِ وَالْمُلْصَقِ بِهِ تَعْلَمْ أَنَّ الْبَاءَ أَيْنَمَا كَانَتْ الْمُلَابَسَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا شَبِيهَةٌ بِهَذِهِ الْمُلَابَسَةِ الَّتِي تَرَاهَا فِي قَوْلِك: أَلْصَقْته بِهِ. انْتَهَى. وَتَجِيءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، نَحْوُ ضَرَبْت بِالسَّيْفِ، وَكَتَبْت بِالْقَلَمِ. وَبِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ، كَاشْتَرَيْت الْفَرَسَ بِسَرْجِهِ، وَجَاءَ زَيْدٌ بِسِلَاحِهِ. وَبِمَعْنَى الظَّرْفِ، نَحْوُ جَلَسْت بِالسُّوقِ. وَتَكُونُ لِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ، نَحْوُ مَرَرْت بِزَيْدٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْمُلَابَسَةِ فَيَشْتَرِكُ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ، وَهُوَ أَوْلَى دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ. قَالَ: وَأَظُنُّ أَنَّ ابْنَ جِنِّي أَشَارَ إلَى هَذَا، وَقِيلَ: إنَّهَا حَيْثُ دَخَلَتْ عَلَى الْآلَةِ فَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْإِلْصَاقِ فَقِيلَ: تُفِيدُ التَّعْمِيمَ فِيهِ فَعَلَى هَذَا لَا إجْمَالَ

فِي قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] بَلْ تُفِيدُ تَعْمِيمَ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَقِيلَ: إنَّمَا تُفِيدُ إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِبَعْضِ الْمَفْعُولِ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مُجْمَلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّ مَسْحَ أَيِّ بَعْضٍ مِنْ الرَّأْسِ وَاجِبٌ. وَقِيلَ: تَقْتَضِي الْإِلْصَاقَ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا وَلَا تَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ تَعْمِيمًا وَلَا تَبْعِيضًا، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ "، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إنْ دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ أَفَادَتْ التَّبْعِيضَ؛ لِأَنَّ الْإِلْصَاقَ الَّذِي هُوَ التَّعَدِّي مَفْهُومٌ مِنْ دُونِهَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِدُخُولِهَا فَائِدَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ فَإِنَّ فَائِدَتَهُ الْإِلْصَاقُ وَالتَّعْدِيَةُ. اخْتِيَارُ صَاحِبِ " الْمَحْصُولِ " وَ " الْمِنْهَاجِ " وَغَيْرِهِمَا أَعْنِي أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ اقْتَضَتْ التَّبْعِيضَ، وَنَسَبَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ إلَى الشَّافِعِيِّ أَخْذًا مِنْ آيَةِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ وَهَمٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَدْرَكًا آخَرَ كَمَا سَبَقَ فِي الْوَاوِ. وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ بِأَنَّا نُفَرِّقُ بِالضَّرُورَةِ بَيْنَ قَوْلِنَا: مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ وَبِالْحَائِطِ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: مَسَحْت الْمِنْدِيلَ وَالْحَائِطَ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ لِلتَّبْعِيضِ وَالثَّانِيَ لِلشُّمُولِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ آخَرُ يَرْجِعُ إلَى الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ، وَهُوَ أَنَّ مَسَحْت يَدِي بِالْمِنْدِيلِ سِيقَ لِإِفَادَةِ مَمْسُوحٍ وَمَمْسُوحٍ بِهِ، وَالْبَاءُ إنَّمَا جِيءَ بِهَا لِتُفِيدَ إلْصَاقَ الْمَمْسُوحِ بِهِ الَّتِي هِيَ الْآلَةُ بِمَسْحِ الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ الْيَدُ. وَقَوْلُهُ: مَسَحْت الْمِنْدِيلَ وَالْحَائِطَ إنَّمَا سِيقَ إلْصَاقُ الْمَسْحِ بِالْمَمْسُوحِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِعَوْدِ الْفَرْقِ إلَى التَّبْعِيضِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَبْعِيضَ فِي الْكَلَامِ؟

وَقِيلَ: إنْ دَخَلَتْ الْبَاءُ عَلَى آلَةِ الْمَسْحِ نَحْوُ مَسَحْت بِالْحَائِطِ وَبِالْمِنْدِيلِ فَهِيَ لِلْكُلِّ، وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْمَحَلِّ نَحْوُ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] لَا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْآلَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمُنْفَعِلِ فِي وُصُولِ أَثَرِهِ إلَيْهِ، وَالْمَحَلُّ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي فَلَا يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْآلَةِ بَلْ يَكْفِي فِيهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ. وَأَنْكَرَ ابْنُ جِنِّي وَصَاحِبُ " الْبَسِيطِ " مَجِيئَهَا لِلتَّبْعِيضِ، وَقَالَا: لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ النُّحَاةِ. قُلْت: أَثْبَتَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ مَالِكٍ، وَقَالَ: ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ فِي " التَّذْكِرَةِ " وَنُقِلَ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَتَبِعَهُمْ فِيهِ الْأَصْمَعِيُّ وَالْعُتْبِيُّ. انْتَهَى، وَكَذَا ابْنُ مَخْلَدٍ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ " وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ: مَسَحْت بِالْحَائِطِ، وَتَيَمَّمْت بِالتُّرَابِ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْعَبْدَرِيُّ فِي " شَرْحِ الْإِيضَاحِ " قَالَ: وَوَجْهُهُ عِنْدِي أَنَّ الْبَاءَ الدَّالَّةَ عَلَى الْآلَةِ لَا يَلْزَمُ فِيهَا أَنْ يُلَابِسَ الْفِعْلُ جَمِيعَهَا، وَلَا يَكُونَ الْعَمَلُ بِهَا كُلِّهَا بَلْ بِبَعْضِهَا. وَالْحَقُّ: أَنَّ التَّبْعِيضَ الْأَوَّلَ بِالْقَرِينَةِ لَا بِالْوَضْعِ، وَلَيْسَتْ الْحُجَّةُ بَلْ هِيَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي الِاسْتِيعَابِ، فَهِيَ مُجْمَلَةٌ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَلَوْ شَعْرَةً. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: التَّبْعِيضُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ الْبَاءِ بَلْ مِنْ طَرِيقِ الِاتِّفَاقِ، وَهُوَ يُحَصِّلُ الْغَرَضَ مِنْ الْفِعْلِ بِتَبْعِيضِ الْآلَةِ بَلْ ظَاهِرُ الْحَقِيقَةِ يُغَطِّي الْجَمِيعَ. أَلَا تَرَاك: إذَا قُلْت مَسَحْت رَأْسَ الْيَتِيمِ، فَحَقِيقَتُهُ إنْ تَمَّ الْمَسْحُ بِجَمِيعِهِ، وَإِذَا

أَمَرَّ بِبَعْضِهِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: بِبَعْضِ رَأْسِهِ فَلَوْ كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ لَا يَسْتَوِي ذِكْرُ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ وَهُوَ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ؟ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْبَاءُ مَوْضُوعَةٌ لِإِلْصَاقِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ كَقَوْلِك: مَسَحْت يَدَيَّ بِالْمِنْدِيلِ، وَكَتَبْت بِالْقَلَمِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّبْعِيضِ إذَا أَمْكَنَ حَذْفُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] أَيْ بَعْضِ رُءُوسِكُمْ قَالَ: وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَجَازٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. انْتَهَى. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ: ظَنَّ ظَانُّونَ أَنَّهُ لِلتَّبْعِيضِ مَصْدَرٌ يَسْتَقِلُّ بِدُونِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِمْ: أَخَذْت زِمَامَ النَّاقَةِ إذَا أَخَذَهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَأَخَذْت بِزِمَامِهَا إذَا أَخَذْت طَرَفَهُ. وَلَيْسَتْ الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ أَصْلًا، وَهَذَا خَطَأٌ فِي أَخْذِ الزِّمَامِ، وَلَكِنْ مِنْ الْمَصَادِرِ مَا يَقْبَلُ الصِّلَاتِ كَقَوْلِهِمْ: شَكَرْت لَهُ وَنَصَحْت لَهُ، وَأَمَّا التَّبْعِيضُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ مَأْخُوذٌ مِنْ صِفَةِ الْمَصْدَرِ فَمَصْدَرُ الْمَسْحِ لَا يَصِيرُ إلَى الِاسْتِيعَابِ كَمَصْدَرِ الضَّرْبِ بِخِلَافِ الْغُسْلِ. انْتَهَى. قِيلَ: وَمِمَّا يَقْطَعُ النِّزَاعَ فِي كَوْنِهَا لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لِامْتِنَاعِ دُخُولِهَا عَلَى بَعْضٍ لِلتَّكْرَارِ وَالتَّأْكِيدِ فِيمَا دَخَلَتْهُ بِكُلٍّ لِلتَّنَاقُضِ، فَكَانَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: مَسَحْت بِبَعْضِ رَأْسِي؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَعْضِ بَعْضِ رَأْسِي، وَلَا أَنْ تَقُولَ: مَسَحْت بِرَأْسِي كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ، وَكُلٌّ لِتَأْكِيدِ الْجَمْعِ، وَجَمْعُهُمَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ تَنَاقُضٌ.

تَنْبِيهٌ جَعَلُوهَا لِلتَّبْعِيضِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَلَمْ يَجْعَلُوهَا لِلتَّبْعِيضِ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] وَفَرَّقُوا بِأَنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ بَدَلٌ، وَلِلْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، فَقِيلَ لَهُمْ: إنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ فِي الْإِجْزَاءِ فَتُحْكَمُ وَلَا يُفِيدُكُمْ فِي الْفَرْقِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ صُورَةَ الْبَدَلِ لِصُورَةِ أَصْلِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَهُوَ فِي عُضْوَيْنِ وَالْوُضُوءُ فِي أَرْبَعَةٍ، وَبِأَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِيعَابُ. أَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الْخُفَّ وَلِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّخْفِيفِ حَتَّى جَازَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ. نُكْتَتَانِ فِي الْبَاءِ يَغْلَطُ الْمُصَنِّفُونَ فِيهَا: الْأُولَى أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَهَا مَعَ فِعْلِ الْإِبْدَالِ عَلَى الْمَتْرُوكِ فَيَقُولُونَ: لَوْ أُبْدِلَتْ ضَادًا بِطَاءٍ. وَالصَّوَابُ: الْعَكْسُ فَإِذَا قُلْت أَبْدَلْت دِينَارًا بِدِرْهَمٍ فَمَعْنَاهُ اعْتَضْت دِينَارًا عِوَضَ دِرْهَمٍ، فَالدِّينَارُ هُوَ الْحَاصِلُ لَك الْمُعَوِّضُ وَالدِّرْهَمُ هُوَ الْخَارِجُ عَنْك الْمُعَوَّضُ بِهِ، وَهَذَا عَكْسُ مَا فَهِمَهُ النَّاسُ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا جَاءَ كَلَامُ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَضْحَكُ مِنِّي أُخْتُ ذِي النَّحْيَيْنِ ... أَبْدَلَهُ اللَّهُ بِلَوْنِ لَوْنَيْنِ سَوَادِ وَجْهٍ وَبَيَاضِ عَيْنَيْنِ

أَلَا تَرَى كَيْفَ أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى الْمُعَوَّضِ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِلَوْنِ، وَنَصَبَ لَوْنَيْنِ وَهُوَ الْمُعَوِّضُ؟ وَقَالَ: تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} [البقرة: 108] وَ {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] أَيْ: يَسْتَبْدِلْ بِكُمْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} [القلم: 32] فَحَذَفَ بِهَا أَيْ: بِالْجَنَّةِ الَّتِي طِيفَ بِهَا. وَقَالَ: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا} [الكهف: 81] أَيْ: يُبْدِلَهُمَا بِهِ. وَقَدْ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ لِدَلَالَةِ فِعْلِ الْإِبْدَالِ عَلَى الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] أَيْ بِسَيِّئَاتِهِمْ. وَهَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ فِي جُمُوعِ التَّكْسِيرِ مِنْ شَرْحِ التَّسْهِيلِ ". وَكَتَبَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ التَّبْرِيزِيُّ عَلَى الْحَاشِيَةِ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَنَّةَ عِوَضٌ لَا مُعَوَّضٌ. وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ كَلَامُ الْمُصَنَّفِينَ حَيْثُ أَدْخَلُوا الْبَاءَ عَلَى الْمَأْخُوذِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ فِعْلُ الْإِبْدَالِ لَكِنْ الْأَكْثَرُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَصَحِيحٌ عَرَبِيٌّ. قُلْت: الدَّعْوَةُ مَعَ فِعْلِ الْإِبْدَالِ، وَفِي جَرَيَانِ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مُعَاوَضَةٍ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَطَّرِدْ فِيهِ، فَقَدْ جَاءَ {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] فَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى الْمَتْرُوكِ وَجَاءَ عَكْسُهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء: 74] وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْسُنُ رَدُّ التَّبْرِيزِيِّ بِالْآيَةِ.

اللام من أدوات المعاني

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إنَّ الضَّمِيرَ فِي " يُقَاتِلْ " عَائِدٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ مَفْعُولٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَكَانَ الْمَعْنَى فِي دُخُولِ الْبَاءِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ الشِّرَاءِ أَنَّ " اشْتَرَيْت " وَ " بِعْت " كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَعْمَلٌ بِمَعْنَى الْآخَرِ لَكِنَّ الْأَكْثَرَ فِي " بِعْت " الْإِخْرَاجُ عَنْ الْمِلْكِ، وَفِي " اشْتَرَيْت " الْإِدْخَالُ. الثَّانِيَةُ إدْخَالُهُمْ الْبَاءَ مَعَ فِعْلِ الِاخْتِصَاصِ عَلَى الْمُخْتَصِّ، وَالصَّوَابُ: إدْخَالُهَا عَلَى الْمُخْتَصِّ بِهِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ إفْرَادُ بَعْضِ الشَّيْءِ عَمَّا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ بِالْجُمْلَةِ فَإِذَا قُلْت: اخْتَصَّ زَيْدٌ بِالْمَالِ. فَمَعْنَاهُ أَنَّ زَيْدًا مُنْفَرِدٌ عَنْ غَيْرِهِ بِالْمَالِ فَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، وَالْمَالُ مُخْتَصٌّ بِهِ. وَالْمُخْتَصُّ أَبَدًا هُوَ الْمُنْفَرِدُ الْمُحْتَوِي أَبَدًا عَلَى الشَّيْءِ فَهُوَ كَالظَّرْفِ لَهُ، وَالْمُخْتَصُّ بِهِ أَبَدًا هُوَ الْمَأْخُوذُ كَالْمَظْرُوفِ. فَلَوْ قُلْت: اخْتَصَّ الْمَالُ بِزَيْدٍ تُرِيدُ مَا أَرَدْته بِالْمِثَالِ السَّابِقِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّك فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ حَصَرْت الْمَالَ فِي زَيْدٍ، وَفِي الثَّانِي حَصَرْت زَيْدًا فِي الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ صِفَةٌ غَيْرُ الِاحْتِوَاءِ عَلَى الْمَالِ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُرَادِ فَإِنَّ زَيْدًا قَدْ يَكُونُ لَهُ صِفَاتٌ مِنْ دِينٍ وَعِلْمٍ وَغَيْرِهِمَا. وَبِهَذَا يَظْهَرُ حُسْنُ عِبَارَةِ التَّسْهِيلِ: " وَخُصَّ الْجَرُّ بِالِاسْمِ " عَلَى عِبَارَةِ الْخُلَاصَةِ: " وَالِاسْمُ قَدْ خُصِّصَ بِالْجَرِّ ". [اللَّامُ مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي] اللَّامُ حَقِيقَةٌ فِي الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِك: الْمَالُ لِزَيْدٍ، وَقَوْلُهُمْ: لِلْمِلْكِ مَجَازٌ مِنْ

وَضْعِ الْخَاصِّ مَوْضِعَ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ اخْتِصَاصٌ، وَلَيْسَ كُلُّ اخْتِصَاصٍ مِلْكًا. فَإِذَا قِيلَ: هِيَ لِلِاخْتِصَاصِ دَخَلَ فِيهِ الْمِلْكُ وَغَيْرُهُ، كَقَوْلِك: السَّرْجُ لِلدَّابَّةِ، وَالْبَابُ لِلْمَسْجِدِ. أَيْ: هُمَا مُخْتَصَّانِ بِهِمَا، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ، وَجَعَلَهَا الْجُرْجَانِيُّ حَقِيقَةً فِي الْمِلْكِ، وَمَتَى اُسْتُعْلِمَتْ فِي غَيْرِهِ فَبِقَرِينَةٍ. وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ مَعْنًى عَامٌّ لِجَمِيعِ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهَا وَبِأَيِّ مَعْنًى اُسْتُعْمِلَتْ لَا تَخْلُو مِنْهُ. قَالَ ابْنُ يَعِيشَ: إنَّمَا قُلْنَا: أَصْلُهَا الِاخْتِصَاصُ لِعُمُومِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَالِكٍ مُخْتَصٌّ بِمِلْكِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي " الْمُفَصَّلِ " غَيْرَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهَا لِلْمِلْكِ. وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ: قَالَ الْحُذَّاقُ: اللَّامُ تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمِلْكُ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْعَبْدُ: سَيِّدٌ لِي قَبْلَ الْعِتْقِ، وَمَوْلًى لِي بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ السَّيِّدُ: عَبِيدٌ لِي، التَّنْزِيلُ {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ} [غافر: 16] وَفِيهِ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [الأنبياء: 81] {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]

قَالَ: فَمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ التَّمَلُّكُ قِيلَ: اللَّامُ مَعَهُ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَا صَحَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ التَّمَلُّكُ وَأُضِيفَ إلَيْهِ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ قِيلَ: اللَّامُ مَعَهُ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَاللَّامُ فِيهِ عِنْدَهُمْ لَامُ الْمِلْكِ. وَفَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ الْمِلْكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَالِاخْتِصَاصِ فَقَالَ: الْمَالُ إنْ أُضِيفَ إلَى مَنْ يَعْقِلُ كَانَتْ لِلْمِلْكِ، وَإِلَّا فَإِنْ شَهِدَتْ الْعَادَةُ لَهُ بِهِ فَلِلِاسْتِحْقَاقِ، كَالسَّرْجِ لِلدَّابَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ بِهِ بَلْ كَانَتْ مِنْ شَهَادَةِ الْعَادَةِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ لِلِاخْتِصَاصِ، فَالْمِلْكُ أَخَصُّ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ أَخَصُّ مِنْ الِاخْتِصَاصِ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي الْفَرْقِ أَحْسَنُ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ» لِلِاخْتِصَاصِ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ لِلْمِلْكِ لَتَنَافَى مَعَ قَوْلِهِ: (فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ) . وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِفْرَادِ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّ اللَّامَ تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِالْمِلْكِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ تَجَرَّدَتْ وَأَمْكَنَ الْحَمْلُ عَلَى الْمِلْكِ حُمِلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ وُجُوهِ الِاخْتِصَاصِ، وَإِنْ وَصَلَ بِهَا وَذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ مِنْ الِاخْتِصَاصِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ الْحَمْلُ عَلَى الْمِلْكِ، كَقَوْلِنَا: الْحَبْلُ لِلْفَرَسِ حُمِلَ عَلَيْهِ. وَتَأْتِي لِلتَّعْلِيلِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء: 165] ، وَلِلْعَاقِبَةِ، نَحْوُ {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ مَجَازٌ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّحْقِيقُ أَنَّهَا لَامُ الْعِلَّةِ، وَالتَّعْلِيلُ فِيهَا وَارِدٌ عَلَى طَرِيقِ

الْمَجَازِ لَا الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ هِشَامٍ فِي " الْمُغْنِي ": أَنْكَرَ الْبَصْرِيُّونَ لَامَ الْعَاقِبَةِ. قُلْت: فِي كِتَابِ " الْمُبْتَدِئِ " فِي النَّحْوِ لِابْنِ خَالَوَيْهِ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} [القصص: 8] فَهِيَ لَامُ كَيْ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَلَامُ الصَّيْرُورَةِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. انْتَهَى. وَنَقَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْغُرَّةِ " عَنْ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ تَقْدِيرَهُ " لِئَلَّا يَكُونَ ". وَفِي " أَمَالِي الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ: الْمُفَرِّقُ بَيْنَ لَامِ الصَّيْرُورَةِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} [القصص: 8] وَلَامُ التَّعْلِيلِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان: 49] أَنَّ لَامَ التَّعْلِيلِ تَدْخُلُ عَلَى مَا هُوَ غَرَضٌ لِفَاعِلِ الْفِعْلِ، وَيَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى الْفِعْلِ، وَلَيْسَ فِي لَامِ الصَّيْرُورَةِ إلَّا التَّرْتِيبُ فَقَطْ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ: كُلُّ لَامٍ نَسَبَهَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِنَفْسِهِ فَهِيَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ، لِاسْتِحَالَةِ الْغَرَضِ مَكَانَ الْمُخْبِرِ فِي لَامِ الصَّيْرُورَةِ. قَالَ: فَعَلْت هَذَا بَعْدَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ غَرَضٌ لِي.

وَمِنْ الثَّانِي (أَنْ) الْمَفْتُوحَةُ السَّاكِنَةُ تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ لِتَخَلُّصِهِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَتَلِي الْمَاضِيَ فَلَا تُغَيِّرُهُ عَنْ مَعْنَاهُ نَحْوُ سَرَّنِي أَنْ ذَهَبَ زَيْدٌ. وَاخْتُلِفَ هَلْ هِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُضَارِعِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُؤَوَّلَةٌ بِالْمَصْدَرِ؟ وَالصَّرِيحُ: أَنَّهَا غَيْرُهَا وَإِلَّا لَزِمَ انْصِرَافُ الْمَاضِي مَعَهَا إلَى الِاسْتِقْبَالِ، كَمَا أَنَّ " إنْ " الشَّرْطِيَّةَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْمَاضِي لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُضَارِع قَلَبَتْ الْمَاضِيَ إلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَخْلِيصِهَا الْمُضَارِعَ إلَى الِاسْتِقْبَالِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النُّحَاةِ. وَزَعَمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَتَبِعَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا تَكُونُ غَيْرَ مُخَلِّصَةٍ لِلِاسْتِقْبَالِ بَلْ تَكُونُ لِلْحَالِ، وَاحْتَجُّوا بِذَلِكَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] فَقَوْلُهُ: {أَنْ نَقُولَ} حَالٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا تَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ. وَتَابَعَهُمْ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ. وَقَالَ فِي كِتَابِ " التَّسْدِيدِ ": إنَّ الْقَوْلَ بِتَخْلِيصِهَا لِلِاسْتِقْبَالِ قَوْلٌ ضَعَّفَهُ النُّحَاةُ، وَهَذَا عَجِيبٌ. وَاحْتَجَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ: " أَنْ " مَفْتُوحَةٌ عَلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ " أَنْ " وَمَا تَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ مَصَادِرِهَا فَكَمَا أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَخُصُّ زَمَانًا بِعَيْنِهِ فَكَذَلِكَ مَا كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ وَتَضَمَّنَ مَعْنَاهُ.

قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: وَكَلَامُ سِيبَوَيْهِ فِي هَذَا قَوْلُهُ: " أَنْ " الْمَفْتُوحَةُ تَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ " أَنْ " وَمَا تَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ مَصَادِرِهَا وَبَاقِي الْكَلَامِ لِأَبِي الْمَعَالِي، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ " أَنْ " مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ فِي حُكْمٍ مَا، أَنْ يُشْبِهَهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. وَغَرَضُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ " أَنْ " مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ اسْمٍ يَجْرِي بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ، كَقَوْلِك: أَعْجَبَنِي أَنْ قُمْت، وَيُعْجِبُنِي أَنْ تَقُومَ فَالْأَوَّلُ مَاضٍ وَالثَّانِي مُسْتَقْبَلٌ. فَإِنْ أَرَدْت الْحَالَ قُلْت: يُعْجِبُنِي أَنَّك تَقُومُ، فَجِئْت بِهَا مُثْقَلَةً، وَإِذَا قُلْت: يُعْجِبُنِي قِيَامُك احْتَمَلَ الْأَزْمِنَةَ الثَّلَاثَةَ، وَلِأَجْلِ الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ جِيءَ بِأَنْ وَالْفِعْلِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْقَاضِي وَمُتَابِعُوهُ فَأَجَابَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ الصَّفَّارِ أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ خِلَافَ الْكَلَامِ لُغَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: امْتَلَأَ الْحَوْضُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَجَعَلَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَلَامًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ هُنَا مُتَجَوَّزًا فِيهِ: فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا عَلَّقَ إرَادَتَهُ عَلَى الشَّيْءِ أَنْ يُعَلِّقَهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ فَجَعَلَ تَعْلِيقَ الْإِرَادَةِ عَلَى الشَّيْءِ قَوْلًا؛ لِأَنَّهَا يَكُونُ عَنْهَا الشَّيْءُ كَمَا يَكُونُ عَنْ الْأَمْرِ، فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ إثْبَاتُ خَلْقِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعْلِيقَ حَادِثٌ. وَفِيهِ كَلَامٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا لِلْحَالِ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ كَمَا فِي مَرَرْت بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدٌ بِهِ غَدًا، فَإِنَّ مَعْنَاهُ مُقَدَّرٌ (إلَّا أَنَّ الصَّيْدَ بِهِ غَدًا) وَذَلِكَ لَا يُنَافِي قَوْلَ النُّحَاةِ: أَنَّهَا تُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمَاضِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا} [البروج: 8] قَالُوا: فَوُقُوعُ الْمَاضِي قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا

تَكُونُ لِغَيْرِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُقْتَلُوا عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ، وَبِذَلِكَ وَرَدَ خَبَرُهُمْ فِي حَدِيثِ الْفَتَى وَالرَّاهِبِ وَالْمَلِكِ فَذُكِرَا بِفِعْلٍ قَبْلَهَا بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالثَّانِي بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ لِيَعُمَّ الْأَزْمِنَةَ الثَّلَاثَةَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَنَدْمَانَ يَزِيدُ الْكَأْسَ طِيبًا ... سَقَيْت إذَا تَغَوَّرَتْ النُّجُومُ وَتَجِيءُ [أَنْ] لِلتَّعْلِيلِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت الدَّارَ بِفَتْحِ أَنْ وَقَعَ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ نَحْوِيًّا؛ لِأَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْعِلَّةِ، وَقَدْ نَاظَرَ فِيهِ الْكِسَائِيُّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ، فَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهَا بِمَعْنَى " إذْ " مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17] وَقَوْلُهُ: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 91] وَهُوَ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ. وَخَالَفَهُمْ الْبَصْرِيُّونَ وَأَوَّلُوا عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: إسْلَامُهُمْ وَلَكِنْ قَبْلَهَا لَامُ الْعِلَّةِ مَقْدِرَةٌ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ انْتِصَارُ السُّرُوجِيِّ فِي " الْغَايَةِ " لِمُحَمَّدٍ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ مَلْحُوظٌ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا لِلتَّعْلِيلِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِيقَاعَ فِي الْحَالِ. تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ وَالْفِعْلِ وَالْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: دَلَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى الْمُضِيِّ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ. الثَّانِي: دَلَالَةُ " أَنْ " وَالْفِعْلِ عَلَى إمْكَانِ الْفِعْلِ دُونَ وُجُوبِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ.

الثَّالِثُ: تَحْصِيرُ " أَنْ " بِمَعْنَى الْحُدُوثِ دُونَ احْتِمَالِ مَعْنًى زَائِدٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ قَوْلَك: كَرِهْت قِيَامَك قَدْ يَكُونُ لِصِفَةٍ فِي ذَلِكَ الْقِيَامِ، وَقَوْلُك: كَرِهْت أَنْ قُمْت يَقْتَضِي أَنَّك كَرِهْت نَفْسَ الْقِيَامِ. الرَّابِعُ: امْتِنَاعُ الْإِخْبَارِ عَنْ " أَنْ " وَالْفِعْلِ فِي نَحْوِ قَوْلِك: أَنْ قُمْت خَيْرٌ مِنْ أَنْ قَعَدْت بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ. قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ. الْخَامِسُ: " أَنْ " وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ، قَالَهُ صَاحِبُ " الْبَسِيطِ " مِنْ النُّحَاةِ كَذَا نَقَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَإِنَّمَا قَالَ صَاحِبُ " الْبَسِيطِ " ذَلِكَ فِي " أَنَّ " الْمُشَدَّدَةَ لَا الْمُخَفَّفَةَ، فَفُرِّقَ بَيْنَ عَجِبْت مِنْ انْطِلَاقِك وَعَجِبْت مِنْ أَنَّك مُنْطَلِقٌ بِمَا ذُكِرَ. ثُمَّ مَا قَالَهُ فِي الْمَصْدَرِ يُخَالِفُ قَوْلَ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الظِّهَارِ فِي مَسْأَلَةِ: إنْ وَطِئْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي، وَلَمْ يَكُنْ ظِهَارٌ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِهِ ظِهَارٌ لِإِقْرَارِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: " أَنْ " مَعَ الْفِعْلِ تُعْطِي اسْتِئْنَافًا لَيْسَ فِي الْمَصْدَرِ فِي أَغْلَبِ أَمْرِهَا. وَقَدْ تَجِيءُ فِي مَوَاضِعَ لَا يُلَاحَظُ فِيهَا الزَّمَانُ، وَتَفْتَرِقَانِ فِي الْأَحْكَامِ فِي أُمُورٍ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُؤَكَّدُ بِأَنْ وَالْفِعْلِ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ؛ لِأَنَّهُ مُبْهَمٌ، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ فَكَانَ الْمَصْدَرُ الْمُصَرَّحُ بِهِ أَشْيَاءَ بِمَا أَكَّدَ، فَقَالَ: ضَرَبْت زَيْدًا ضَرْبًا، وَلَا تَقُولُ: ضَرَبْت زَيْدًا أَنْ ضَرَبْت. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَصْدَرَ الصَّرِيحَ قَدْ يَقَعُ حَالًا، وَقَدْ لَا يَقَعُ، وَ " أَنْ " وَالْفِعْلُ الْمُنْسَبِكُ مِنْهُمَا الْمَصْدَرُ لَا يَقَعُ حَالًا أَلْبَتَّةَ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ مَنَابَ الْمَفْعُولَيْنِ فِي بَابِ ظَنَنْت

من أدوات المعاني إن

وَيَنُوبُ " أَنْ " مَعَ الْفِعْلِ مَنَابَهُمَا، فَلَا تَقُولُ: ظَنَنْت قِيَامَك، وَتَقُولُ: ظَنَنْت أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ. قَالَهُ الصَّفَّارُ، وَإِنَّمَا جَازَ مَعَ " أَنْ " لِلطُّولِ. قَالَ: وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ ظَنَنْت قِيَامَ زَيْدٍ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي أَيْ: وَاقِفًا. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُحْذَفُ مَعَهُ حَرْفُ الْجَرِّ فَلَا تَقُولُ: عَجِبْت ضَرْبَك تُرِيدُ مِنْ ضَرْبِك، وَيُحْذَفُ مَعَ " أَنْ "، ذَكَرَهُ الصَّفَّارُ أَيْضًا. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَصْدَرَ يَقَعُ قَبْلَهُ كُلُّ فِعْلٍ، وَلَا يَقَعُ قَبْلَ " أَنْ " إلَّا أَفْعَالُ الظَّنِّ وَالشَّكِّ وَنَحْوِهَا دُونَ أَفْعَالِ التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهَا تُخَلِّصُ الْفِعْلَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَلَيْسَ فِيهَا تَأْكِيدٌ كَمَا فِي " أَنْ "، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فِعْلِ التَّحْقِيقِ نِسْبَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَصْدَرَ يُضَافُ إلَيْهِ فَيُقَالُ: جِئْت مَخَافَةَ ضَرْبِك، وَلَا يُضَافُ إلَى " أَنْ " فَلَا يُقَالُ: مَخَافَةَ أَنْ تَضْرِبَ، وَمَا سُمِعَ مِنْهُ فَإِنَّهُ عَلَى حَذْفِ التَّنْوِينِ تَخْفِيفًا، وَالْمَصْدَرُ عِنْدَهُ مَنْصُوبٌ. قَالَهُ ابْنُ طَاهِرٍ. وَزَيَّفَهُ الصَّفَّارُ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي كَلَامِهِمْ حَذْفُ التَّنْوِينِ تَخْفِيفًا، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مَلَكَ أَنْ يَنْتَفِعَ حَتَّى لَا يُعِيرَ، وَالْمُسْتَأْجِرُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى إنَّهُ يُؤَجِّرُ يَقْتَضِي فَرْقًا آخَرَ. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي إنْ] [إنْ] تَجِيءُ لِلشَّرْطِ نَحْوُ {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ نَحْوُ إنْ قَامَ زَيْدٌ.

أو من أدوات المعاني

وَنَقَلَ فِي " الْمُحَقَّقِ " نَحْوَ إنْ مَاتَ زَيْدٌ زُرْتُك، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] . وَقَوْلُهُ: كَمْ شَامِتٍ بِي إنْ هَلَكْت ... وَقَائِلٍ لِلَّهِ دَرُّهُ إلَّا أَنَّهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَلَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا كَانَ زَمَنَ وُقُوعِهِ مُبْهَمًا، وَلِهَذَا دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ} [آل عمران: 158] فَإِنْ عُلِمَ زَمَنُ وُقُوعِهِ فَلَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: إنْ احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأْتِنِي فَإِنَّ احْمِرَارَهُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَوَقْتُهُ مَعْلُومٌ بِالتَّقْرِيبِ. وَالْمُتَلَخِّصُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ " إنْ " وَ " إذَا " يَشْتَرِكَانِ فِي عَدَمِ الدُّخُولِ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ إلَّا لِنُكْتَةٍ، نَحْوُ {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81] وَتَنْفَرِدُ " إنْ " بِالْمَشْكُوكِ فِيهِ وَالْمَوْهُومِ، وَتَنْفَرِدُ " إذَا " بِالْمَجْزُومِ بِهِ، وَهَلْ تَدْخُلُ عَلَى الْمَظْنُونِ؟ خِلَافٌ. وَتَجِيءُ لِلنَّفْيِ إنْ تَلَاهَا " إلَّا " نَحْوُ {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] أَوْ " لَمَّا " نَحْوُ {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أَوْ غَيْرُهُمَا، نَحْوُ {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68] وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ ادَّعَى مُلَازَمَتَهُ لِ " إلَّا " وَ " لَمَّا ". [أَوْ مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي] [أَوْ] لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ شَاكًّا كَانَ أَوْ إبْهَامًا تَخْيِيرًا كَانَ أَوْ إبَاحَةً

فَإِنْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ أَفَادَا ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَا جُمْلَتَيْنِ أَفَادَ حُصُولَ مَضْمُونِ أَحَدِهِمَا، وَلِذَلِكَ يُفْرَدُ ضَمِيرُهُمَا نَحْوُ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو قَامَ، وَلَا تَقُلْ: قَامَا. بِخِلَافِ الْوَاوِ فَتَقُولُ: زَيْدٌ وَعَمْرٌو قَامَا، وَلَا تَقُلْ: قَامَ. وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا تُفْرِدُ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ، وَوُجُوهُ الْإِفْرَادِ تَخْتَلِفُ فَتَتَقَارَبُ تَارَةً، وَتَتَبَاعَدُ أُخْرَى حَتَّى تُوهِمَ أَنَّهَا قَدْ تَضَادَّتْ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ تَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ، وَقَدْ وُضِعَتْ لِلْخَبَرِ وَالطَّلَبِ، فَأَمَّا فِي الْخَبَرِ فَمَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ قِيَامُ الشَّكِّ، فَقَوْلُك: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو قَامَ، أَصْلُهُ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَامَ. ثُمَّ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ شَاكًّا لَا يَدْرِي أَيُّهُمَا الْقَائِمُ، فَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنْ يَحْمِلَهُ السَّامِعُ عَلَى جَهْلِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ غَيْرَ شَاكٍّ، وَلَكِنَّهُ أُبْهِمَ عَلَى السَّامِعِ لِغَرَضٍ. وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ الشَّكَّ، وَالثَّانِي التَّشْكِيكَ وَالْإِبْهَامَ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] . وَكَذَلِكَ جَاءَتْ فِي خَبَرِ اللَّهِ، نَحْوُ {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَقَعُ الْإِبْهَامُ مِنْ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ مِنْهُ الْبَيَانُ؟ قُلْت: إنَّمَا خُوطِبُوا عَلَى قَدْرِ مَا يَجْرِي فِي كَلَامِهِمْ، وَلَعَلَّ الْإِبْهَامَ عَلَى السَّامِعِ لِعَجْزِهِ عَنْ بُلُوغِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: الْقَصْدُ مِنْ الْإِبْهَامِ فِي الْخَبَرِ تَهْوِيلُ الْأَمْرِ عَلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ إطْلَاقِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَحَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ

الْمَعْنَى هُوَ مِنْ صِنَاعَةِ الْحُذَّاقِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إخْرَاجِهَا إلَى مَعْنَى الْوَاوِ. وَبِالْجُمْلَةِ، الْإِخْبَارُ بِالْمُبْهَمِ لَا يَخْلُو، عَنْ غَرَضٍ إلَّا أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ الشَّكُّ، فَمِنْ هُنَا ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ " أَوْ " لِلشَّكِّ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا إلَّا تَبَادُرَ الذِّهْنِ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ وَضْعَ الْكَلَامِ لِلْإِبْهَامِ عَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ " أَوْ " لَمْ تُوضَعْ لِلتَّشْكِيكِ، وَإِلَّا فَالشَّكُّ أَيْضًا مَبْنِيٌّ يُقْصَدُ إبْهَامُهُ بِأَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ إخْبَارَ الْمُخَاطَبِ بِأَنَّهُ شَاكٌّ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ وَلَا التَّشْكِيكَ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْكَلَامِ ابْتِدَاءً. وَقَدْ يَحْسُنُ دُخُولُ " أَوْ " بَيْنَ أَشْيَاءَ يَتَنَاوَلُهَا الْفِعْلُ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيُرَادُ بِالْخَبَرِ إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فِي وَقْتِهِ، كَقَوْلِك: إذَا قِيلَ لَك: مَا كُنْت تَأْكُلُ مِنْ الْفَاكِهَةِ؟ قُلْت: آكُلُ التِّينَ أَوْ الْعِنَبَ أَوْ الرُّمَّانَ. أَيْ إفْرَادُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، وَلَمْ تُرِدْ الشَّكَّ وَلَا الْإِبْهَامَ هَذَا شَأْنُهَا فِي الْخَبَرِ. وَأَمَّا فِي الطَّلَبِ أَعْنِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فَتَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا لِلْإِفْرَادِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إذَا اخْتَارَهُ وَلَا يَتَجَاوَزُهُ، وَالْآخَرُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ اخْتِيَارُ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرَ مَحْظُورٍ عَلَيْهِ الْآخَرُ، وَسَمَّوْا الْأَوَّلَ تَخْيِيرًا وَالثَّانِيَ إبَاحَةً وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ وَإِلَّا فَلِلْإِبَاحَةِ. فَالْأَوَّلُ: نَحْوُ خُذْ مِنْ مَالِي دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا حَيْثُ يَكُونُ مَقْصُودُهُ أَنْ

يَأْخُذُوا وَاحِدًا فَقَطْ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ لِمَا يَقْتَضِيهِ حَظْرُ مَالِ غَيْرِهِ عَنْهُ إلَّا بِسَبَبٍ تُصَحَّحُ بِهِ إبَاحَتُهُ لَهُ، وَالسَّبَبُ هُنَا تَخْيِيرُ الْمَأْمُورِ بِاجْتِنَابِهِ، فَقَدْ أَبَاحَهُ بِالتَّخْيِيرِ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ. فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ كَانَ هُوَ الْمُبَاحَ، وَيَبْقَى الْآخَرُ عَلَى حَظْرِهِ، وَكَذَلِكَ كُلْ سَمَكًا أَوْ لَبَنًا لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْجَمْعِ. وَالثَّانِي: نَحْوُ جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ، أَيْ: جَالِسْ هَذَا الْجِنْسَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَلَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ تَعَلَّمْ فِقْهًا أَوْ نَحْوًا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: تَقُولُ: جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ أَوْ زَيْدًا، كَأَنَّك قُلْت: جَالِسْ أَحَدَ هَؤُلَاءِ، وَلَمْ تُرِدْ إنْسَانًا بِعَيْنِهِ، فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّهُمْ أَهْلٌ أَنْ يُجَالَسَ، كَأَنَّك قُلْت: جَالِسْ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ النَّاسِ. وَتَقُولُ: كُلْ خُبْزًا أَوْ لَحْمًا أَوْ تَمْرًا فَكَأَنَّك قُلْت: كُلْ أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الَّذِي قَبْلَهُ. انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ " أَوْ " مِنْ حَيْثُ هِيَ تَدُلُّ عَلَى الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ مِثْلُ " إمَّا ". وَيَنْفَصِلُ التَّخْيِيرُ عَنْ الْإِبَاحَةِ بِالْقَرِينَةِ وَسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَهِيَ تُسَاوِي " إمَّا " فِي التَّخْيِيرِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْمَنْطِقِيُّونَ: مُنْفَصِلَةً مَانِعَةَ الْجَمْعِ، وَفِي الْإِبَاحَةِ: مُنْفَصِلَةً مَانِعَةَ الْخُلُوِّ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ إنْ كَانَا أَصْلُهُمَا عَلَى الْمَنْعِ فَلِلتَّخْيِيرِ، وَإِلَّا فَلِلْإِبَاحَةِ إنَّمَا أَخَذُوهُ مِنْ أَمْثِلَتِهِمْ. حَتَّى مَثَّلُوا الْأَوَّلَ بِ خُذْ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا، وَالثَّانِي يُجَالِسُ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ. وَلَيْسَ هَذَا بِمُطَّرِدٍ فَقَدْ تَقُولُ لَهُ: جَالِسْ أَحَدَهُمَا وَتَقْصِدُ الْمَنْعَ مِنْ الْجَمْعِ. وَقَدْ يَأْذَنُ لَهُ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَيَرْضَى بِالْجَمْعِ. وَإِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ فِي الْفَرْقِ الْقَرَائِنُ كَمَا ذَكَرْنَا وَلِذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ " أَوْ "

فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ لِلتَّخْيِيرِ، وَيُسَمُّونَهَا الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ بِالْآيَةِ عِنْدَهُمْ، وَلَا حَاجَةَ لِلتَّكَلُّفِ عَنْ ذَلِكَ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ التَّخْيِيرَ وَالْإِبَاحَةَ قِسْمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِبَاحَةِ هِيَ التَّخْيِيرُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْجَمْعُ فِي الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ لِلْقَرِينَةِ الْعُرْفِيَّةِ لَا لِمَدْلُولِ اللَّفْظِ، كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ صُحْبَةِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ وَصْفُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ: مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ فِي الطَّلَبِ التَّخْيِيرُ، وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ فَطَارِئَةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ فِيهِ خَارِجَةً عَنْ وَضْعِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا بِالْمُجَالَسَةِ كَانَ مُمْتَثِلًا، وَلَمَّا كَانَتْ مُجَالَسَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي مُجَالَسَةِ الْآخَرِ سَاغَ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَبَحْت لَك مُجَالَسَةَ هَذَا الضَّرْبِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَى بِالْوَاوِ، فَقَالَ: جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَتَمَثَّلْ إلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. فَاعْرِفْ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ السِّيرَافِيِّ: " أَوْ " الَّتِي لِلْإِبَاحَةِ مَعْنَاهَا مَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ، وَالتَّسْوِيَة؟ نُسِبَتْ لِلْإِبَاحَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُضَارَعَةِ، وَلِهَذَا قَالُوا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا قِيَامُك وَقُعُودُك، وَسَوَاءٌ عَلَيَّ قِيَامُك أَوْ قُعُودُك. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْجُرْجَانِيِّ فِي كِتَابِ " الْعَوَامِلِ ": " أَوْ " تُوجِبُ الشَّرِكَةَ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ، وَالْوَاوُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ. قَالَ: وَحَيْثُ أُرِيدَ بِهَا الْإِبَاحَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِنْسًا مَخْصُوصًا فَلَا يَصِحُّ كُلْ السَّمَكَ أَوْ اشْرَبْ اللَّبَنَ، أَوْ اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا إلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِمَا أَنَّهُمَا مَثَلَانِ فِي الشُّرْبِ وَاسْتِحْقَاقِ الضَّرْبِ. وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى اتِّحَادِ الْجِنْسِ. وَكَذَلِكَ كُلْ صَيْحَانِيًّا أَوْ بَرْنِيًّا قَالَ: وَإِذَا أَمْعَنْت النَّظَرَ لَمْ تَجِدْ " أَوْ " زَائِلَةً عَنْ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ كَوْنُهَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ. انْتَهَى.

وَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ اسْتِحْضَارِ أَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ مُبَاحَيْنِ لَا مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ. إذَا عَلِمْت مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فِي قَوْلِهِمْ: جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ وَفِيمَا خُيِّرَ فِيهِ بَيْنَ مُبَاحَيْنِ أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الْآخَرِ، فَبِإِزَاءِ ذَلِكَ النَّهْيِ التَّضَمُّنِيِّ، التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْإِيقَاعِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَحْظُورَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي مَعْنَى الْآخَرِ فِي الْحَظْرِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: لَا تَأْتِ زِنًى أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ تَرْكُ طَاعَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُفْرَدَيْنِ وَمُجْتَمِعَيْنِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: حَظَرْت عَلَيْك طَاعَةَ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ النَّاسِ؛ إذْ كَانَ تَرْكُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْمَعْنَى تَرْكَ طَاعَةِ الْآخَرِ، كَمَا كَانَتْ الْإِبَاحَةُ فِي مُجَالَسَةِ الْحَسَنِ أَوْ ابْنِ سِيرِينَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ: لَوْ قَالَ: " أَوْ لَا تُطِعْ كَفُورًا " لَانْقَلَبَ الْمَعْنَى، فَصَحِيحٌ وَذَلِكَ. أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ أَوْ التَّخْيِيرِ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا قَالَ: " أَوْ لَا تُطِعْ كَفُورًا " صَارَتْ فِي أَثْنَاءِ قَضِيَّتَيْنِ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا الَّتِي تَلِي " أَوْ " غَيْرُ الْأُولَى الَّتِي قَبْلَهَا، فَتَخْرُجُ بِذَلِكَ إلَى مَعْنَى " بَلْ " إذَا كَانَتْ " بَلْ " لَا تَرِدُ فِي أَثْنَاءِ قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَتْ " أَوْ " بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَضْرَبَ عَنْ النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الْآثِمِ وَانْتَقَلَ إلَى النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الْكَفُورِ. وَهَذَا قَلْبٌ لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ الْآيَةِ مِنْ تَرْكِ طَاعَتِهِمَا أَوْ مُنْفَرِدَيْنِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ النَّهْيَ إذَا دَخَلَ عَلَى " أَوْ " الَّتِي لِلْإِبَاحَةِ حُظِرَ الْكُلُّ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا كَمَا فِي: لَا تَتَعَلَّمْ الشِّعْرَ أَوْ أَحْكَامَ النُّجُومِ، فَهِيَ نَهْيٌ جَمْعًا وَإِفْرَادًا كَمَا كَانَ لَهُ فِي الْأَمْرِ فِي الْإِبَاحَةِ فِعْلُهُمَا جَمْعًا وَإِفْرَادًا، وَإِذَا دَخَلَ عَلَى " أَوْ " الَّتِي لِلتَّخْيِيرِ كَقَوْلِك: لَا تَأْخُذْ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا فَالْأَشْبَهُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَحَدِهِمَا. قَالُوا: فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ نَظَرٌ هَلْ يَكُونُ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا؟ قَالَ: ابْنُ الْخَشَّابِ: وَجْهُ النَّظَرِ أَنَّ التَّخْيِيرَ الَّذِي كَانَ فِي الْأَمْرِ هَلْ هُوَ

بَاقٍ فِي النَّهْيِ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ النَّفْيِ مِنْ الْإِيجَابِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ يَتَنَاوَلُ النَّفْيُ الْكَلَامَ الْمُوجِبَ فَيَنْفِيهِ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ تَنَازَعَهَا الْعُلَمَاءُ وَقَصَدْت فِيهَا رَأْيَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ النَّهْيُ حُكْمُهُ فِي تَنَاوُلِ الْمَأْمُورِ بِهِ حُكْمُ تَنَاوُلِ النَّفْيِ الْمُوجِبِ، فَإِنْ كَانَ التَّخْيِيرُ الَّذِي كَانَ فِي الْأَمْرِ بَاقِيًا مَعَ النَّهْيِ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ الْمَنْهِيُّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاقِيًا فَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي " أُصُولِهِ ": " أَوْ " تَتَنَاوَلُ وَاحِدًا مِمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَا جَمِيعَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] فَهَذَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا فِي النَّفْيِ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] وَقَوْلُهُ: {أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ لَا عَلَى تَعَيُّنِ الْجَمْعِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمَنَّ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا: إنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلَامِ أَيِّهِمَا وَقَعَ. وَحَكَى السِّيرَافِيُّ فِي " شَرْحِ سِيبَوَيْهِ " أَنَّ الْمُزَنِيّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت أَحَدًا إلَّا كُوفِيًّا أَوْ بَصْرِيًّا. فَقَالَ: مَا أَرَاهُ إلَّا حَانِثًا. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالَ: خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 146] إلَى قَوْلِهِ {إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] وَكُلُّ ذَلِكَ مَا كَانَ مُبَاحًا خَارِجًا بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ التَّحْرِيمِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ لَا أَقْبَلَ هَدِيَّةً

إلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ» فَالْقُرَشِيُّ وَالثَّقَفِيُّ جَمِيعًا مُسْتَثْنَيَانِ، فَرَجَعَ الْمُزَنِيّ إلَى قَوْلِهِ. وَيَرِدُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ فِي النَّفْيِ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] يَعْنِي أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيمَانِ بِدُونِ الْعَمَلِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ أَيْ: أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ النَّفْسَ الَّتِي لَمْ تُقَدِّمْ الْإِيمَانَ وَلَا كَسَبَتْ الْخَيْرَ فِي الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نُفِيَ الْإِيمَانُ كَانَ نَفْيُ كَسْبِ الْخَيْرِ فِي الْإِيمَانِ تَكْرَارًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْعُمُومِ أَيْ: النَّفْسُ الَّتِي لَمْ تَجْمَعْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. تَنْبِيهٌ " أَوْ ": لَهَا اسْتِعْمَالَانِ فِي التَّخْيِيرِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفَاهُ عِنْدَ الْمَأْمُورِ وَلَا يُؤْمَرُ فِيهِ بِاجْتِهَادٍ، كَآيَةِ الْكَفَّارَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فَإِنَّ الْإِمَامَ يَتَخَيَّرُ فِي الْأَسِيرِ تَخَيُّرَ اجْتِهَادٍ وَمَصْلَحَةٍ لَا تَشَهٍّ.

وَقَدْ تَدْخُلُ " أَوْ " لِلتَّبْعِيضِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ عَنْ جَمَاعَةٍ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ الْقَوْلَ الْآخَرَ، كَقَوْلِك: أَجْمَعَ الْقَوْمُ، فَقَالُوا: حَارِبُوا أَوْ صَالِحُوا أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ حَارِبُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ صَالِحُوا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135] وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْفِرَقِ فِرْقَةٌ تُخَيِّرُ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ جُمْلَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ قَالُوا، ثُمَّ فَصَّلَ مَا قَالَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي عُقُوبَةِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الْآيَةَ وَأَنْكَرَ غَيْرُهُ التَّخْيِيرَ فِي الْآيَةِ. وَاخْتَارَ السِّيرَافِيُّ أَنَّ " أَوْ " فِيهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ لِلتَّفْصِيلِ وَتَرْتِيبِ اخْتِيَارِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ عَلَى أَصْنَافِ الْمُحَارَبِينَ كَالْآيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى أَنَّ بَعْضًا وَهُمْ الَّذِينَ قَتَلُوا يُقَتَّلُونَ، وَبَعْضًا وَهُمْ الَّذِينَ أَخَذُوا تُقَطَّعُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَدْ تُسْتَعَارُ " أَوْ " إذَا وَقَعَ بَعْدَهَا مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ، نَحْوُ لَأَلْزَمَنَّكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي، وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ: إنَّهَا بِمَعْنَى " إلَى " لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ يَمْتَدُّ إلَى وُقُوعِ الثَّانِي، أَوْ يَمْتَدُّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَى وَقْتِ وُقُوعِ الثَّانِي بَعْدَهُ فَيَنْقَطِعُ امْتِدَادُهُ. وَقَدْ مَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] أَيْ: حَتَّى تَقَعَ تَوْبَتُهُمْ أَوْ تَعْذِيبُهُمْ. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، وَ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] اعْتِرَاضٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكُ أَمْرِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يُهْلِكَهُمْ أَوْ

لو حرف امتناع لامتناع من أدوات المعاني

يَهْزِمَهُمْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ. فَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْخُلَ تِلْكَ - بِالنَّصْبِ - كَانَ بِمَعْنَى " حَتَّى ". وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْعَطْفِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْفِيٌّ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ إذْ لَا امْتِنَاعَ فِي الْعَطْفِ الْمُثْبَتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ وَبِالْعَكْسِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ " أَوْ " فِي قَوْله تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] عَاطِفَةٌ مُقَيِّدَةٌ لِلْعُمُومِ أَيْ: عَدَمُ الْجُنَاحِ مُقَيَّدٌ بِانْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ. أَعْنِي الْمُجَامَعَةَ وَتَقْرِيرَ الْمَهْرِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا كَانَ الْجُنَاحُ. أَيْ: وَجَبَ الْمَهْرُ، فَيَكُونُ {تَفْرِضُوا} مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى {تَمَسُّوهُنَّ} . وَلَا حَاجَةَ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مِنْ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ " أَنْ " عَلَى مَعْنَى إلَى أَنْ تَفْرِضُوا، أَوْ حَتَّى تَفْرِضُوا. أَيْ: إذَا لَمْ تُوجَدْ الْمُجَامَعَةُ فَعَدَمُ الْجُنَاحِ يَمْتَدُّ إلَى تَقْرِيرِ الْمَهْرِ. [لَوْ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي] [لَوْ] لَوْ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ. هَذِهِ عِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمْهُورُ غَيْرَهُ أَنَّهُ امْتَنَعَ الثَّانِي لِامْتِنَاعِ الْأَوَّلِ، نَحْوُ لَوْ جِئْتنِي لَأَكْرَمْتُك انْتَفَى الْإِكْرَامُ لِانْتِفَاءِ الْمَجِيءِ فَلَا يَكُونُ فِيهَا تَعَرُّضٌ لِلْوُقُوعِ إلَّا بِالْمَفْهُومِ.

وَالثَّانِي: عَكْسُهُ. أَيْ: أَنَّهُ امْتَنَعَ الْأَوَّلُ لِامْتِنَاعِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا صَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَصَاحِبُهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي " الْبُرْهَانِ "؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبٌ لِلثَّانِي، وَانْتِفَاءُ السَّبَبِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُسَبَّبِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَخْلُفَهُ سَبَبٌ آخَرُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمُسَبَّبُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسَبَّبِ سَبَبٌ سِوَاهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْمُسَبَّبِ انْتِفَاءُ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ حُكْمٍ بِدُونِ سَبَبٍ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: امْتَنَعَ الْأَوَّلُ لِامْتِنَاعِ الثَّانِي أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] كَيْفَ سِيقَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى انْتِفَاءِ التَّعَدُّدِ لِانْتِقَاءِ الْفَسَادِ لَا؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْفَسَادِ لِامْتِنَاعِ التَّعَدُّدِ؟ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَفْهُومَ. وَلِأَنَّ نَفْيَ الْآلِهَةِ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فَسَادُ الْعَالَمِ. قِيلَ: وَقَدْ خَرَقَ إجْمَاعَ النَّحْوِيِّينَ وَبَنَاهُ عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ، وَالسَّبَبُ يَقْتَضِي الْمُسَبَّبَ لِذَاتِهِ، فَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ السَّبَبِ عَدَمُ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ، فَقَدْ يَتَخَلَّفُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، وَعَدَمُ مَانِعٍ، وَعَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ شَرْطٌ فِي انْتِفَاءِ الْمُسَبَّبِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ، لَكِنَّ السَّبَبَ الْآخَرَ مَوْجُودٌ. ثُمَّ كَيْفَ يُصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] ؟ فَإِنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ السَّمَاعِ وَعَدَمُ الْخَيْرِ فِيهِ لَا الْعَكْسُ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ: بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ وَالتَّعْلِيلِ، وَبِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَتَقُولُ: لَمَّا كَانَ الْمَجِيءُ عِلَّةً لِلْإِكْرَامِ بِحَسَبِ الْوُجُودِ فَانْتِفَاءُ الْإِكْرَامِ لِانْتِفَاءِ الْمَجِيءِ انْتِفَاءُ الْمَعْلُولِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يُعْلَمْ انْتِفَاءُ الْإِكْرَامِ فَقَدْ يُسْتَدَلُّ مِنْهُ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَجِيءِ اسْتِدْلَالًا بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ، وَكَذَا فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ تَقُولُ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ: انْتِفَاءُ الْفَسَادِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ.

أَيْ: التَّعَدُّدُ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ يُعْلَمُ مِنْ انْتِفَاءِ التَّعَدُّدِ انْتِفَاءُ الْفَسَادِ، فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ نَظَرَ إلَى اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي نَظَرَ إلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي. وَعَلَى عِبَارَةِ الْأَكْثَرِينَ فَالْجُمْلَتَانِ بَعْدَهَا لَهُمَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: إمَّا أَنْ تَكُونَا مُوجِبَتَيْنِ نَحْوُ لَوْ زُرْتنِي لَأَكْرَمْتُك فَيَقْتَضِي امْتِنَاعَهُمَا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَا مَنْفِيَّتَيْنِ نَحْوُ لَوْ لَمْ تَزُرْنِي لَمْ أُكْرِمْك فَيَقْتَضِي وُجُودَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ " لَوْ " لَمَّا كَانَ مَعْنَاهَا الِامْتِنَاعَ لِامْتِنَاعٍ، وَقَدْ دَخَلَ الِامْتِنَاعُ عَلَى النَّفْيِ فِيهِمَا فَامْتَنَعَ النَّفْيُ، وَإِذَا امْتَنَعَ النَّفْيُ صَارَ إثْبَاتًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مُوجَبَةً وَالْأُخْرَى مَنْفِيَّةٌ وَتَحْتَهُ صُورَتَانِ يُعْلَمُ حُكْمُهُمَا مِنْ الَّتِي قَبْلَهُمَا. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ مَوَاضِعَ ظَنَّ أَنَّ جَوَابَهَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111] ، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان: 27] وَقَوْلُ عُمَرَ: " نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ. أَمَّا لَوْ جَرَيْنَا عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ لَلَزِمَ مِنْهُ عَكْسُ الْمُرَادِ. ثُمَّ تَفَرَّقَ الْمُعْتَرِضُونَ الَّذِينَ رَأَوْا لُزُومَ هَذَا السُّؤَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ إلَى أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الِامْتِنَاعَ بِوَجْهٍ بَلْ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ وَالتَّعَلُّقِ فِي الْمَاضِي كَمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّلَوْبِينَ وَابْنِ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيِّ وَابْنِ عُصْفُورٍ وَغَيْرِهِمْ، وَتَابَعَهُمْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} [الأنفال: 23]

قَالَ: فَلَوْ أَفَادَتْ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّهُ مَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وَمَا أَسْمَعَهُمْ، وَالثَّانِيَةَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَسْمَعَهُمْ وَلَا تَوَلَّوْا لَكِنْ عَدَمُ التَّوَلِّي خَيْرٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وَمَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا. قَالَ: فَعَلِمْنَا أَنَّ كَلِمَةَ " لَوْ " لَا تُفِيدُ إلَّا الرَّبْطَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَقَالَيْنِ، وَقَالَ: إنَّهَا تُفِيدُ امْتِنَاعَ الشَّرْطِ خَاصَّةً وَلَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى امْتِنَاعِ الْجَوَابِ وَلَا عَلَى ثُبُوتِهِ إلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ عَدَمُهُ، وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ مَالِكٍ. وَسَلَكَ الْقَرَافِيُّ طَرِيقًا عَجِيبًا فَقَالَ: " لَوْ " كَمَا تَأْتِي لِلرَّبْطِ تَأْتِي لِقَطْعِ الرَّبْطِ فَتَكُونُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُحَقَّقٍ أَوْ مُتَوَهَّمٍ وَقَعَ فِيهِ قَطْعُ الرَّبْطِ فَتَقْطَعُهُ أَنْتَ لِاعْتِقَادِك بُطْلَانَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا زَوْجًا لَمْ يَرِثْ، فَتَقُولُ أَنْتَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ زَوْجًا لَمْ يَحْرُمْ الْإِرْثُ أَيْ لِكَوْنِهِ ابْنَ عَمٍّ، وَادَّعَى أَنَّ هَذَا يُتَخَلَّصُ بِهِ عَنْ الْإِشْكَالِ، وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ ادِّعَاءِ أَنَّ " لَوْ " بِمَعْنَى " أَنْ " لِسَلَامَتِهِ مِنْ ادِّعَاءِ النَّقْلِ وَمِنْ حَذْفِ الْجَوَابِ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ: فَإِنَّ كَوْنَ " لَوْ " مُسْتَعْمَلًا لِقَطْعِ الرَّبْطِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَصِرْ إلَيْهِ أَحَدٌ مَعَ مُخَالَفَتِهِ الْأَصْلَ. بِخِلَافِ ادِّعَاءِ أَنَّهَا بِمَعْنَى " أَنَّ " أَوْ " أَنْ " وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، فَقَدْ صَارَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ. وَالظَّاهِرُ: عِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ لِمُوَافَقَتِهَا غَالِبَ الِاسْتِعْمَالَاتِ. وَأَمَّا الْمَوَاضِعُ الَّتِي نَقَضُوا بِهَا عَلَيْهِمْ فَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهَا وَرُجُوعُهَا إلَى قَاعِدَتِهِمْ. أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى:

فَالْمَعْنَى مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَامْتِنَاعُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ صَادِقٌ بِعَدَمِ وِجْدَانِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ إذْ الْمُرَادُ لَامْتَنَعَ إيجَابُهُمْ لِهَذَا التَّقْدِيرِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَقَوْلُهُمْ يَلْزَمُ نَفَادُ الْكَلِمَاتِ عِنْدَ انْتِفَاءِ كَوْنِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا، وَهُوَ الْوَاقِعُ فَيَلْزَمُ النَّفَادُ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ النَّفَادَ إنَّمَا يَلْزَمُ انْتِفَاؤُهُ لَوْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ فِي الْعَقْلِ أَنَّهُ مُقْتَضٍ لِلِانْتِفَاءِ. أَمَّا إذَا كَانَ مِمَّا يَتَصَوَّرُهُ الْعَقْلُ مُقْتَضِيًا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى، فَمَعْنَى " لَوْ " فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْمُقْتَضَى لَمَا وُجِدَ الْحُكْمُ لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ فَكَيْفَ يُوجَدُ؟ وَلَيْسَ الْمَعْنَى: لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ فَوُجِدَ لِامْتِنَاعِ وُجُودِ الْحُكْمِ بِلَا مُقْتَضٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَاسْتَقَرَّ فِي الْعِبَادِ وَلَمْ يَحْصُلْ النَّفَادُ لَكِنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ مَا اعْتَمَدُوا الْبِحَارَ لِعَدَمِ وُجُودِهَا. وَأَمَّا الْأَثَرُ فَلِمَا سَبَقَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ عَارَضَ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، وَبِأَنَّ الْمَنْفِيَّ وَهُوَ مَعْصِيَتُهُ لَا يَنْشَأُ عَنْ خَوْفٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِصْيَانِ لَهُ سَبَبَانِ الْخَوْفُ وَالْإِجْلَالُ؟ وَقَدْ اجْتَمَعَا فِي صُهَيْبٍ فَلَوْ قُدِّرَ فِيهِ عَدَمُ الْخَوْفِ لَمْ يَعْصِهِ، فَكَيْفَ وَعِنْدَهُ مَانِعٌ آخَرُ وَهُوَ الْإِجْلَالُ فَالْقَصْدُ نَفْيُ الْمَعْصِيَةِ بِكُلِّ حَالٍ، كَمَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ فُلَانٌ جَاهِلًا لَمْ يَقُلْ هَذَا، فَكَيْفَ وَهُوَ عَالِمٌ؟ أَوْ يُقَالُ: لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ، فَكَيْفَ يَعْصِي اللَّهَ وَهُوَ يَخَافُهُ؟ وَإِذَا لَمْ يَعْصِهِ مَعَ عَدَمِ الْخَوْفِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَعْصِيَهُ مَعَ وُجُودِهِ. وَيُحْكَى أَنَّ الشَّلَوْبِينَ سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ فَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَلَوْ أَصْبَحَتْ لَيْلَى تَدِبُّ عَلَى الْعَصَا ... لَكَانَ هَوَى لَيْلَى جَدِيدًا أَوَائِلُهْ

يُرِيدُ أَنَّ حُبَّهَا مَطْبُوعٌ فِي جِبِلَّتِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ كَتَغَيُّرِ الْمُحِبِّينَ، فَكَذَلِكَ جِبِلَّةُ صُهَيْبٍ مَطْبُوعَةٌ عَلَى الْخَيْرِ فَلَوْ لَمْ يَخَفْ لَمْ يَعْصِ لِجِبِلَّتِهِ الْفَاضِلَةِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْك بَعْدَ هَذَا اسْتِعْمَالُ مِثْلِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ فِي بَقِيَّةِ الْمَوَاضِعِ الْمُعْتَرَضِ بِهَا. وَالضَّابِطُ: أَنْ تَقُولَ: يُؤْتَى بِهَا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ عَلَى تَقْدِيرٍ لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ لِتُفِيدَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عَلَى خِلَافِهِ الَّذِي يُنَاسِبُهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ مُطْلَقًا. ثُمَّ يُرَدُّ عَلَى الْقَائِلِ بِالرَّبْطِ وَأَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعٍ أَلْبَتَّةَ غَالِبُ، الِاسْتِعْمَالَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] فَإِنَّ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي فَلَمْ أَشَأْ أَوْ لَمْ أَشَأْ حَقَّ الْقَوْلِ وقَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: 43] أَيْ: فَلَمْ يُرِكَهُمْ لِذَلِكَ {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف: 176] {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ - وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 48 - 81] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96] {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42] {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} [التوبة: 42] وَغَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ، وَمِنْ الْحَدِيثِ: «لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا

لولا من أدوات المعاني

لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» «وَلَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. [لَوْلَا مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي] [لَوْلَا] لَوْلَا: مِنْ حَقِّ وَضْعِهَا أَنْ تُدْرَجَ فِي صِنْفِ الثُّلَاثِيِّ وَلَكِنْ الْمُشَاكَلَةُ أَوْجَبَتْ ذِكْرَهَا هُنَا، وَيَمْتَنِعُ بِهَا الشَّيْءُ لِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَأَصْلُهَا " لَوْ " وَ " لَا " فَلَمَّا رُكِّبَا حَدَثَ لَهُمَا مَعْنًى ثَالِثٌ غَيْرُ الِامْتِنَاعِ الْمُفْرَدِ وَغَيْرُ النَّفْيِ. وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ " لَوْ " يَمْتَنِعُ بِهَا الشَّيْءُ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، فَفِيهَا امْتِنَاعَانِ، وَ " لَا " نَافِيَةٌ، وَالنَّفْيُ إذَا دَخَلَ عَلَى الْمَنْفِيِّ صَارَ إثْبَاتًا، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ بُرْجَانَ عَنْ الْخَلِيلِ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ بِمَعْنَى " هَلَّا " إلَّا فِي قَوْلِهِ: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143]

من لابتداء الغاية من أدوات المعاني

[مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي] مِنْ] مِنْ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَهِيَ مُنَاظِرَةٌ لِ " إلَى " فِي الِانْتِهَاءِ، وَالْغَايَةُ إمَّا مَكَانًا نَحْوُ {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] وَعَلَامَتُهَا: أَنْ تَصْلُحَ أَنْ تُقَارِنَهَا " إلَى " لَفْظًا نَحْوُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ مَعْنًى نَحْوُ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَزَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو، وَاتَّفَقَ النُّحَاةُ عَلَى كَوْنِهَا لِابْتِدَاءِ غَايَةِ الْمَكَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّمَانِ. فَقَالَ: سِيبَوَيْهِ: إنَّهَا لَا تَكُونُ لَهُ، فَقَالَ: وَأَمَّا " مِنْ " فَتَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الْأَمَاكِنِ وَأَمَّا " مُنْذُ " فَتَكُونُ لِلِابْتِدَاءِ فِي الْأَزْمَانِ وَالْأَحْيَانِ، وَلَا تَدْخُلُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبَتِهَا، وَاخْتَارَهُ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ. وَكَلَامُ سِيبَوَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَقْتَضِي أَنَّهَا تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الزَّمَانِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ مَا يُضْمَرُ فِيهِ الْفِعْلُ الْمُسْتَعْمَلُ إظْهَارُهُ بَعْدَ حَرْفٍ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ: مِنْ لَدٌّ شَوْلًا فَإِلَى إتْلَائِهَا نَصَبَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ زَمَانًا، وَالشَّوْلُ لَا يَكُونُ زَمَانًا وَلَا مَكَانًا، فَيَجُوزُ فِيهَا الْجَرُّ نَحْوُ مِنْ لَدُنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا، فَلَمَّا أَرَادَ الزَّمَانَ حُمِلَ الشَّوْلُ عَلَى مَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ زَمَانًا إذَا عَمِلَ فِي الشَّوْلِ، كَأَنَّك قُلْت:

مِنْ لَدُنْ كَانَتْ شَوْلًا. هَذَا نَصُّهُ. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ غَايَةِ الزَّمَانِ. وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ وَابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ وَابْنُ مَالِكٍ وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَلَمَّا كَثُرَتْ ارْتَابَ الْفَارِسِيُّ، وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِيمَا جَاءَ مِنْ هَذَا فَإِنْ كَثُرَ قِيسَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا تُؤَوَّلُ. قَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَكْثُرْ كَثْرَةً تُوجِبُ الْقِيَاسَ بَلْ لَمْ يَجُزْ إلَّا هَذَا فَلِذَلِكَ تُؤَوَّلُ جَمِيعُهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ " أَيْ " مِنْ تَأْسِيسِ أَوَّلِ يَوْمٍ انْتَهَى. وَهُوَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] وَفِي الْحَدِيثِ: «مِنْ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ» وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ (وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ لِي مَا قِيلَ) ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَمَعَ الْكَثْرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِضْمَارِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَالْقِيَاسُ عَلَى " إلَى " فَإِنَّهَا لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ زَمَانًا وَمَكَانًا، وَ " مِنْ " مُقَابَلَتِهَا فَتَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي ابْتِدَاءِ غَايَةِ الْأَمْكِنَةِ وَيَتَجَوَّزُ بِهَا عَنْ ابْتِدَاءِ غَايَةِ الْأَزْمِنَةِ وَهُوَ حَسَنٌ يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. وَذَكَرَ السَّكَّاكِيُّ فِي " الْمِفْتَاحِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي " مِنْ ": لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مُتَعَلِّقَ مَعْنَاهَا ابْتِدَاءً الْغَايَةُ لَا أَنَّ مَعْنَاهَا

ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ اسْمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْمِ إلَّا اسْمٌ، وَهُوَ عَجِيبٌ. [تَبْيِينُ الْجِنْسِ] وَتَكُونُ لِتَبْيِينِ الْجِنْسِ، وَضَابِطُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَهَا عَامٌّ، وَيَتَأَخَّرَ عَنْهَا خَاصٌّ، كَقَوْلِك: ثَوْبٌ مِنْ صُوفٍ، وَخَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْلُ صَاحِبِ " الْكِتَابِ " هَذَا بَابُ عِلْمِ مَا الْكَلِمُ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَ كَمَا تَكُونُ عَرَبِيَّةً تَكُونُ غَيْرَ عَرَبِيَّةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّ هَذَا الْقِسْمَ إلَى التَّبْعِيضِ. [التَّبْعِيضُ] وَتَجِيءُ لِلتَّبْعِيضِ نَحْوُ {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} [غافر: 78] {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] . وَضَابِطُهَا: أَنْ يَصْلُحَ فِيهِ بَعْضٌ مُضَافًا إلَى الْبَعْضِ، وَمِثْلُهُ شَرِبْت مِنْ الْمَاءِ. وَحَكَى ابْنُ الدَّهَّانِ عَنْ بَعْضِهِمْ اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْبَعْضِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] فَإِنْ كَانَ أَحَدُ

الْقِسْمَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ بَطَلَ الشَّرْطُ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَكَذَلِكَ، وَمِنْهُ زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو؛ لِأَنَّك تُرِيدُ تَفْضِيلَهُ عَلَى بَعْضٍ وَلَا يَعُمُّ، وَلَوْ كَانَتْ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ لَاقْتَضَى ذَلِكَ انْتِهَاءَ مَا بَيْنَهُمَا. وَقَالَ: الْمُبَرِّدُ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ غَايَةِ التَّفْضِيلِ؛ لِأَنَّ عَمْرًا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي اُبْتُدِئَ مِنْهُ فَضْلُ زَيْدٍ فِي الزِّيَادَةِ، وَكَذَا قَالَ فِي التَّبْعِيضِ، وَتَبِعَهُ الْجُرْجَانِيُّ. وَقَالَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي مَاذَا مِنْ هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ؟ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَصْلَهَا ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَالْبَاقِي رَاجِعٌ إلَيْهَا، وَحَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ فِي " شَرْحِ الْإِيضَاحِ " عَنْ الْمُبَرِّدِ. وَمَعْنَاهُ فِي التَّبْعِيضِ أَنَّ ابْتِدَاءَ أَخْذِك كَانَ مِنْ الْمَالِ، وَقَطَعَ بِهِ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ، وَقَالَ: لَا تَنْفَكُّ " مِنْ " عَنْ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ التَّبْعِيضُ وَبَيَانُ الْجِنْسِ بِقَرِينَةٍ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَمِنْ الْمَجَازِ. وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ صَاحِبِ " الْمُفَصَّلِ " أَيْضًا، وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " الْمَحْصُولِ " عَنْ " شَرْحِ سِيبَوَيْهِ " لِابْنِ السَّرَّاجِ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ صَحِيحٌ فَإِنَّ كُلَّ تَبْعِيضٍ ابْتِدَاءُ غَايَةٍ، وَلَيْسَ كُلُّ ابْتِدَاءِ غَايَةٍ تَبْعِيضًا، وَجَرَى عَلَيْهِ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ، وَأَنْكَرَ مَجِيئَهَا لِلتَّبْعِيضِ. قَالَ: وَإِنَّمَا وُضِعَتْ لِلِابْتِدَاءِ عَكْسُ " إلَى "، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ التَّبْيِينَ إلَى ذَلِكَ، فَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] : إنَّ الْمُرَادَ ابْتِدَاءُ اجْتِنَابِهِمْ الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ مَغْمُورٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَغَيْرُ مَقْصُودٍ، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَجِيءُ إلَّا بِتَمَحُّلٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي التَّبْيِينِ وَرُدَّ الْبَاقِي إلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ، فَإِنَّ قَوْلَك: سِرْت مِنْ الدَّارِ إلَى السُّوقِ بَيَّنَتْ مَبْدَأَ السَّيْرِ وَكَذَا الْبَاقِي، وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": إنَّهُ الْحَقُّ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَصْلَ وَضْعِهَا لِلتَّبْعِيضِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِإِطْبَاقِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَالرَّابِعُ: وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ وَالْغَايَةِ جَمِيعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعِهِ حَقِيقَةٌ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] فَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: " مِنْ " لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ حَتَّى لَا يَجِبَ أَنْ يَعْلَقَ التُّرَابُ بِالْيَدِ، بَلْ الْوَاجِبُ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَقْلُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ حَتَّى لَوْ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ وَالْحَجَرِ الصَّلْدِ يَكْفِيهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ابْتَدَأَ بِالْأَرْضِ، وَلَوْ مَسَحَ عَلَى حَيَوَانٍ أَوْ الثِّيَابِ لَا يَكْفِيهِ. وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لِلتَّبْعِيضِ حَتَّى يَجِبَ أَنْ يَعْلَقَ التُّرَابُ بِالْيَدَيْنِ، وَحَمْلُهُ عَلَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفِعْلُ كَقَوْلِك: هَذَا الْمَكَانُ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ، وَهَاهُنَا الْفِعْلُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] . وَمَنْ جَعَلَ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ، وَالْمَسْحُ مِنْ الْآيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّعِيدِ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ قَوْلِهِ: {مِنْهُ} [المائدة: 6] عَلَى أَنَّهُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَكَذَا صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ أَضَافَ إلَيْهَا مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ انْتِهَاءُ الْغَايَةِ وَمُثِّلَ بِقَوْلِهِمْ: رَأَيْتُ مِنْ دَارِي الْهِلَالَ مِنْ ذَلِكَ السَّحَابِ. قَالَ: ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ انْتَهَى. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: تَقُولُ: رَأَيْته مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَجُعِلَتْ غَايَتُهُ لِرُؤْيَتِك. أَيْ: مَحَلًّا لِلِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ.

الـ تكون حرفا إذا دخلت على الجامد وتكون اسما إذا دخلت على المشتق

[الـ تَكُونُ حَرْفًا إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَامِدِ وَتَكُونُ اسْمًا إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُشْتَقِّ] (الـ) : تَكُونُ حَرْفًا إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَامِدِ، وَتَكُونُ اسْمًا إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُشْتَقِّ فَتَكُونُ بِمَعْنَى الَّذِي كَالضَّارِبِ. وَاحْتُجَّ عَلَى أَنَّهَا اسْمٌ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا. وَخَالَفَ الْمَازِنِيُّ وَقَالَ: حَرْفٌ بِدَلِيلِ تَخَطِّي الْعَامِلِ فِي قَوْلِك: مَرَرْت بِالْقَائِمِ، وَلَوْ كَانَتْ اسْمًا، لَكَانَتْ فَاصِلَةً بَيْنَ حَرْفِ الْجَرِّ وَمَعْمُولِهِ، وَالِاسْمُ لَا يَتَخَطَّاهُ الْعَامِلُ، وَتَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهُ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِعَوْدِ الضَّمِيرِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَبَا عَلِيٍّ قَالَ: فِي " الْإِيضَاحِ " وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنْ الَّذِي. ثُمَّ اللَّامُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقْصَدَ بِهَا تَعْرِيفُ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْعَهْدُ، وَيَنْقَسِمُ إلَى ذِكْرِيٍّ، وَهُوَ تَقْدِيمُهُ فِي اللَّفْظِ نَحْوُ {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] وَإِلَى ذِهْنِيٍّ نَحْوُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَقَوْلُهُ: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] وَقَدْ اجْتَمَعَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36] فَالْأُولَى لِلذِّهْنِيِّ وَالثَّانِيَةُ لِلذِّكْرِيِّ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقْصَدَ بِهَا تَعْرِيفُ مَا كَانَ مَنْكُورًا بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الشَّخْصِ وَالْعُمُومِ، كَقَوْلِك: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ» . الثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحَقِيقَةُ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهَا بِوَاحِدٍ، وَتُعْرَفُ بِأَنَّهَا إذَا نُزِعَتْ لَا يَحْسُنُ مَوْضِعَهَا " كُلٌّ " كَقَوْلِهِ، تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] أَيْ: جَعَلْنَا مَبْدَأَ كُلِّ حَيٍّ هَذَا الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ الْمَاءُ، فَهَذَا النَّوْعُ التَّعْرِيفُ قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى مِنْ النَّكِرَةِ، وَلِهَذَا وُصِفَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةٍ مَعْقُولَةٍ مُتَّحِدَةٍ فِي الذِّهْنِ بِاعْتِبَارِ وَضْعِهِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى تَعَدُّدٍ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ لَا بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعِهِ، وَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى الْوُجُودِ أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ. وَيَتَعَيَّنُ فِي بَعْضِ الْمُحَالِ إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ مِثْلُ: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ. وَالْحَدُّ لِلذِّهْنِيِّ لَكِنْ صِحَّتُهُ عَلَى الْوُجُودِ شَرْطٌ فِيهِ، وَهُوَ فِي بَعْضِهَا اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ، نَحْوُ أَكَلْت الْخُبْزَ وَشَرِبْت الْمَاءَ، لِبُطْلَانِ إرَادَةِ الْجِنْسِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحَقِيقَةُ بِاعْتِبَارِ كُلِّيَّةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَتُعْرَفُ بِأَنَّهَا إذَا نُزِعَتْ حَسُنَ أَنْ يَخْلُفَهَا فِي مَوْضِعِهَا لَفْظُ " كُلٍّ " عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، وَصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ مَصْحُوبِهَا مَعَ كَوْنِهِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2 - 3]

فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ كُلَّ إنْسَانٍ وَقَدْ اسْتَثْنَى مِنْهُ الَّذِينَ آمَنُوا. وَذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ عَلَامَةً ثَالِثَةً وَهِيَ جَوَازُ وَصْفِ مَصْحُوبِهَا بِالْجَمْعِ مَعَ كَوْنِهِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ، كَقَوْلِهِمْ: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الْحُمْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ وقَوْله تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى} [النور: 31] . وَرَدَّهُ شَيْخُنَا ابْنُ هِشَامٍ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ " أَلْ " فِيهِمَا لَيْسَتْ لِعُمُومِ الْإِفْرَادِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قِيَامُ " كُلٍّ " مَقَامَهَا، بَلْ هِيَ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ أَيْ: تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الطِّفْلَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، كَجُنُبٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا} [غافر: 67] وَلَيْسَ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ. قُلْت: وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» وَسَوَاءٌ كَانَ الشُّمُولُ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ كَالسَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَارَةً تَكُونُ لِلْجِنْسِ وَتَارَةً لِلْعَهْدِ، وَأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيهِمَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْبَيَانِ وَالنَّحْوِ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْعَهْدِ، وَلِهَذَا يَحْمِلُونَهَا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ أَقْرَبُ إلَى التَّحَقُّقِ مِنْ الْجِنْسِ، وَمَتَى كَانَ هُنَاكَ عَهْدٌ ذِكْرَى فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الْخَارِجِيِّ بِشَخْصِهِ، وَلَا عَلَى الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ

في للوعاء

هُوَ هُوَ، فَإِنَّهُ الْحَقِيقَةُ إذَا أُرِيدَ بِهَا شَيْءٌ بِعَيْنِهِ مَجَازًا حُمِلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالْكَمَالِ فِيهَا، وَالْمَقَامُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْبَسِيطِ " أَقْوَى تَعْرِيفٍ لِ " لَامِ " الْحُضُورُ ثُمَّ الْعَهْدُ ثُمَّ الْجِنْسُ. وَزَعَمَ السَّكَّاكِيُّ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ تَكُونُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ لَا غَيْرُ، وَرَدَّ الْبَاقِيَ إلَيْهِ، وَبَنَاهُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ: إنَّ اللَّامَ مَوْضُوعَةٌ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ لَا غَيْرُ. وَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ الْفَرْقُ بَيْنَ لَامِ الْجِنْسِ وَلَامِ الْعُمُومِ. وَفَرَّقَ ابْنُ عُصْفُورٍ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا إنْ أَحْدَثَتْ فِي الِاسْمِ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ كَانَتْ لِلْجِنْسِ، نَحْوُ دِينَارٍ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ دِينَارٍ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَإِذَا عَرَّفْته دَلَّ عَلَى الشُّمُولِ بِخِلَافِ قَوْلِك: لَبَنٌ، فَإِنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى جِنْسِ اللَّبَنِ. فَإِذَا قُلْت: اللَّبَنُ بِ " أَلْ " عَرَفْت الْجِنْسَ وَلَمْ تُصَيِّرْهُ جِنْسًا، بَلْ دَخَلَتْ لِتُعَرِّفَ الْجِنْسَ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ " أَلْ " فِيمَا يَتَعَلَّقُ فِي الدِّينَارِ وَاللَّبَنِ عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنَّهَا إنْ دَخَلَتْ عَلَى كُلِّيٍّ فَلِلْجِنْسِ أَوْ عَلَى جُزْئِيٍّ فَلِلْعَهْدِ، أَوْ عَلَى كُلٍّ فَلِلْعُمُومِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي الِاسْمِ إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّيِّ لِصِدْقِهِ عَلَى الْآحَادِ عَلَى الْبَدَلِ. وَذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ مِنْ أَقْسَامِهَا تَعْرِيفَ الْحُضُورِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ قَسِيمًا بَلْ هُوَ قِسْمٌ مِنْ الْأَوَّلِ. [فِي لِلْوِعَاءِ] ِ إمَّا حَقِيقَةً وَهِيَ اشْتِمَالُ الظَّرْفِ عَلَى مَا يَحْوِيهِ، كَقَوْلِك:

الْمَالُ فِي الْكِيسِ، وَإِمَّا مَجَازًا كَقَوْلِك: فُلَانٌ يَنْظُرُ فِي الْعِلْمِ، وَالدَّارُ فِي يَدِهِ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] فَقَالَ: الْمُبَرِّدُ: بِمَعْنَى " عَلَى "، وَقَالَ الْحُذَّاقُ: عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّ الْجِذْعَ يَصِيرُ مُسْتَقَرًّا لِهَذَا الْفِعْلِ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْأُدَبَاءِ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الظَّرْفِيَّةِ الْمُحَقَّقَةِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهَا سِوَى الزَّمَخْشَرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْمُحَقَّقِ وَالْمُقَدَّرِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فَهِيَ لِلْمُشْتَرَكِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَإِلَّا فَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُحَقَّقِ مَجَازٌ فِي الْمُقَدَّرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَضْعُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ الْمُحَقَّقِ. قَالَ: الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ فِي حُكْمِ الْمَقْرُورِ بِهِ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَوْ عِنْدِي ثَوْبٌ فِي مِنْدِيلٍ: إنَّ إقْرَارَهُ يَتَنَاوَلُ الثَّوْبَ دُونَ الْمِنْدِيلِ وَزَعَمَ الْعِرَاقِيُّ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِهِمَا. وَأَجْمَعَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِعَبْدٍ لِي فِي دَارٍ، أَوْ فَرَسٍ فِي إصْطَبْلٍ، أَوْ سَرْجٍ عَلَى دَابَّةٍ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالظَّرْفِ، وَأَنْكَرَ قَوْمٌ مَجِيئَهَا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَأَثْبَتَهُ آخَرُونَ مِنْهُمْ ابْنُ مَالِكٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

عن معناها المجاوزة للشيء والانصراف إلى غيره

{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» أَيْ: قَتْلُ النَّفْسِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ، وَقِيلَ بِرُجُوعِهَا إلَى الظَّرْفِ مَجَازًا. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهَا بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ مَعْنَى الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَهَا مَجَازًا وَعُنِيَ الْمَجَازُ فِي ظَرْفِيَّةِ الْمَعْنَى مَثَلًا فَهُوَ مَجَازٌ رَجَّحَهُ عَلَى مَجَازٍ آخَرَ، وَهُوَ مَجَازُ السَّبَبِيَّةِ، فَإِنْ وُجِدَ لَهُ مُرَجِّحٌ عُمِلَ بِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: لَمَّا كَانَ الْمُسَبَّبُ مُتَعَلِّقًا بِالسَّبَبِ جُعِلَ السَّبَبُ ظَرْفًا لِمُتَعَلِّقِ الْمُسَبَّبِ لَا لِنَفْسِ الْمُسَبَّبِ، فَلِذَلِكَ يُفِيدُ الظَّرْفُ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ. وَقَالَ: مَنْ لَا يَفْهَمُ الْقَاعِدَةَ يَجْهَلُ كَوْنَ " فِي " دَالًّا عَلَى السَّبَبِيَّةِ. [عَنْ مَعْنَاهَا الْمُجَاوَزَةُ لِلشَّيْءِ وَالِانْصِرَافُ إلَى غَيْرِهِ] ِ، نَحْوُ عَدَلْت عَنْ زَيْدٍ أَيْ: انْصَرَفْت عَنْهُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْقَوَاطِعِ ": تَكُونُ بِمَعْنَى " مِنْ " إلَّا فِي مَوَاضِعَ خَاصَّةٍ. قَالُوا: " مِنْ " تَكُونُ لِلِانْفِصَالِ وَالتَّبْعِيضِ وَ " عَنْ " لَا تَقْتَضِي الْفَصْلَ

لن تنصب المضارع وتخلصه للاستقبال

فَيُقَالُ: أَخَذْت مِنْ مَالِ فُلَانٍ، وَيُقَالُ: أَخَذْت عَنْ عَمَلِ فُلَانٍ. وَقَدْ اخْتَصَّتْ الْأَسَانِيدُ بِالْعَنْعَنَةِ، وَكَلِمَةُ " مِنْ " لَا تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِهَا، وَقَالُوا: " مِنْ " لَا تَكُونُ إلَّا حَرْفًا، وَ " عَنْ " تَكُونُ اسْمًا وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ. [لَنْ تَنْصِبُ الْمُضَارِعَ وَتُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ] ِ نَحْوُ لَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، وَهِيَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مُطْلَقِ النَّفْيِ، وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي " الْكَشَّافِ " أَنَّهَا تُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ، وَوَافَقَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ، وَفِي " الْأُنْمُوذَجِ " تَأْبِيدَهُ، وَوَافَقَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّرْسِيُّ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: حَمَلَهُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَيَظُنُّ كَثِيرٌ تَفَرُّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، لَكِنْ جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي كِتَابِهِ " الْعَوْنِيِّ " بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ التَّأْبِيدَ عِبَارَةً عَنْ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ بَلْ عَنْ الزَّمَنِ الطَّوِيلِ، وَاقْتَضَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ مُوَافَقَةَ الزَّمَخْشَرِيِّ أَيْضًا وَأَنَّ ذَلِكَ مَوْضُوعُ اللُّغَةِ وَلَوْ عَلَى هَذَا الْمَنْفِيِّ بِمُجَرَّدِهِ لِتَضَمُّنِ أَنَّ مُوسَى لَا يَرَاهُ أَبَدًا وَلَا فِي الْآخِرَةِ لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ مِنْ خَارِجٍ عَلَى ثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ رُدَّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّأْبِيدِ لَمْ يُقَيَّدْ مَنْفِيُّهَا بِالْيَوْمِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] وَلَكِنْ ذَكَرَ التَّأْبِيدَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] تَكْرَارٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.

لا تأتي مزيدة وغير مزيدة

[لَا تَأْتِي مَزِيدَةً وَغَيْرَ مَزِيدَةٍ] ٍ فَالْمَزِيدَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29] . وَشَرَطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ فِي زِيَادَتِهَا قَصْدَ تَأْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي انْطَوَى عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] بِدَلِيلِ حَذْفِهَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. يَعْنِي أَنَّهَا تَوْكِيدٌ لِلنَّفْيِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ " مَنَعَك "، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: تُزَادُ فِي الْكَلَامِ الْمُوجِبِ الْمَعْنَى إذَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مَنْفِيٌّ فِي الْمَعْنَى. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَيُطَالَبُ بِإِبْرَازِ مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ " لِئَلَّا يَعْلَمَ ". قَالَ: وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: اسْتَقَرَّ الْكَلَامُ أَيْضًا بِمَعْنَى النَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْقَصْدُ إكْرَامَ الْمُؤْمِنِ لِيَعْلَمَ الْكُفَّارُ هَوَانَهُمْ، فَهُمْ الْآنَ غَيْرُ عَالِمِينَ بِهَوَانِهِمْ، فَقَدْ تَضَمَّنَ سِيَاقُ الْخِطَابِ الْإِشْعَارَ بِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ عَنْهُمْ وَحَرْفُ " لَا " لِلنَّفْيِ. قُلْت: أَمَّا الْأُولَى فِي {لِئَلَّا يَعْلَمَ} فَزَائِدَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَنَصَّ عَلَيْهَا سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَيَدُلُّ لَهَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ " لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ " وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ " لَأَنْ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ " وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ تَفْسِيرٌ لِزِيَادَتِهَا. وَأَمَّا " لَا " الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: {أَنْ لَا يَقْدِرُونَ} فَكَذَلِكَ زِيدَتْ تَوْكِيدًا لِلنَّفْيِ الْمَوْجُودِ بِمَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ. وَغَيْرُ الْمَزِيدَةِ إمَّا نَاهِيَةٌ فِي عَوَامِلِ الْأَفْعَالِ الْجَازِمَةِ وَإِمَّا نَافِيَةٌ.

قَالَ صَاحِبُ الْبُرْهَانِ: وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَظْنُونِ حُصُولُهُ بِخِلَافِ " لَنْ " فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَشْكُوكِ حُصُولُهُ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ النَّفْيُ بِ لَنْ آكَدُ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ، " لَا " لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ " كَإِنَّ " لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عُمْدَتَهُ فِي إعْمَالِ " لَا " عَمَلَ " إنَّ " وَأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ النَّقِيضَ عَلَى النَّقِيضِ، وَقَدْ اُسْتُنْكِرَ ذَلِكَ مِنْهُ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ " إنَّ " دَاخِلَةٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ فَأَكَّدَتْهُ، وَ " لَا " لَمْ تَدْخُلُ عَلَى نَفْيٍ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهَا لِنَفْيٍ مُؤَكَّدٍ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهَا تُرَجِّحُ ظَرْفَ النَّفْيِ الْمُحْتَمِلِ فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ رُجْحَانًا " قَوِيًّا " أَكْثَرَ مِنْ تَرْجِيحِ " مَا " وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بِنَاءُ الِاسْمِ مَعَهَا لِيُفِيدَ نِسْبَةَ الْعُمُومِ. وَهِيَ إمَّا تَتَنَاوَلُ الْأَفْعَالَ وَتَكُونُ عَاطِفَةً، وَفِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ، نَحْوُ قَامَ زَيْدٌ لَا عَمْرٌو، فَلَا تَعْمَلُ فِي لَفْظِهَا شَيْئًا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] فَأَمَّا قَوْلُهُ {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة: 31] فَقَالُوا: الْمَعْنَى لَمْ يُصَدِّقْ وَلَمْ يُصَلِّ، وَإِمَّا أَنْ تَتَنَاوَلَ الْأَسْمَاءَ، فَإِمَّا أَنْ تَلِيَ الْمَعَارِفَ أَوْ النَّكِرَاتِ، فَاَلَّتِي تَلِي النَّكِرَاتِ إنْ أُرِيدَ بِنَفْيِهَا نَفْيُ الْجِنْسِ بُنِيَتْ مَعَ اسْمِهَا، وَإِنْ أُرِيدَ نَفْيُ الْوِحْدَةِ فَهِيَ الْعَامِلَةُ عَمَلَ لَيْسَ، وَبِهَذَا تَقُولُ: لَا رَجُلَ فِيهَا بَلْ رَجُلَانِ. وَاَلَّتِي تَلِي الْمَعَارِفَ لَا تَعْمَلُ فِيهَا شَيْئًا وَيَلْزَمُهَا التَّكْرَارُ، نَحْوُ لَا زَيْدٌ فِيهَا وَلَا عَمْرٌو. وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ: وَهِيَ عَكْسٌ " بَلْ "؛ لِأَنَّ " بَلْ " أَضْرَبْت بِهَا عَنْ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي فَثَبَتَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ لِلْأَوَّلِ لِلثَّانِيَّ، وَ " لَا " بَدَّلَتْ

من أدوات المعاني مع

مَعَهَا بِإِثْبَاتِ الْمَعْنَى لِلْأَوَّلِ فَانْتَفَى بِهَا عَنْ الثَّانِي، وَلِهَذَا لَمْ يُعْطَفْ بِهَا بَعْدَ النَّفْيِ فَتَقُولُ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَا عَمْرٌو؛ لِأَنَّك لَمْ تُثْبِتْ لِلْأَوَّلِ شَيْئًا فَتَنْفِيه بِهَا عَنْ الثَّانِي. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي مَعَ] مَعَ: لِلْمُقَارَنَةِ وَالضَّمِّ، فَلَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَ طَلْقَةٍ أَوْ مَعَهَا طَلْقَةٌ تَقَعُ ثِنْتَانِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مَعَ دِرْهَمٍ أَوْ مَعَهُ دِرْهَمٌ، فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: دِرْهَمٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَعَ دِرْهَمٍ لِي أَوْ مَعَهُ دِرْهَمٌ لِي، وَقَالَ الدَّارَكِيُّ: مَعَ الْهَاءِ دِرْهَمَانِ وَمَعَ حَذْفِهَا دِرْهَمٌ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": هِيَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَقَوْلُهُ: رَأَيْت زَيْدًا مَعَ عَمْرٍو اقْتَضَى ذَلِكَ اجْتِمَاعَهُمَا فِي رُؤْيَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": هِيَ لِلِاشْتِرَاكِ مَعَ الِاقْتِرَانِ فِي الزَّمَانِ. تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو مَعًا. أَيْ: فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَاهُ مِنْ دَلَالَتِهِمَا عَلَى الِاتِّحَادِ فِي الْوَقْتِ نَقَلُوهُ عَنْ ثَعْلَبٍ أَيْضًا لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " عَلَى أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي الِاتِّحَادَ فِي الزَّمَانِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّهَا إذَا قُطِعَتْ عَنْ الْإِضَافَةِ نُوِّنَتْ وَتَسَاوَيَا جَمِيعًا فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ " قِيلَ: مَعْنَى " مَعَ " الْمُصَاحَبَةُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَكُلُّ أَمْرَيْنِ لَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مُصَاحَبَةٌ وَاشْتِرَاكٌ إلَّا فِي حُكْمٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْوَاوُ الَّتِي بِمَعْنَى " مَعَ " إلَّا بَعْدَ فِعْلٍ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا

من أدوات المعاني بل

لِتَصِحَّ الْمَعِيَّةُ وَكَمَالُ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي بِهِ الِاشْتِرَاكُ فِي زَمَانِ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكِ. وَتُسْتَعْمَلُ أَيْضًا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الَّذِي بِهِ الِاشْتِرَاكُ، وَالِاجْتِمَاعُ دُونَ زَمَانِ ذَلِكَ. فَالْأَوَّلُ: فِي أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَالْعِلَاجِ نَحْوَ دَخَلْت مَعَ زَيْدٍ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف: 36] وَقَوْلُهُ: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا} [يوسف: 12] {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} [يوسف: 66] وَالثَّانِي: يَكْثُرُ فِي الْأَفْعَالِ الْمَعْنَوِيَّةِ نَحْوَ آمَنْت مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَتُبْت مَعَ التَّائِبِينَ وَفَهِمَتْ الْمَسْأَلَةَ مَعَ مَنْ فَهِمَهَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] أَيْ بِالْعِنَايَةِ وَالْحِفْظِ {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] يَعْنِي الَّذِينَ شَارَكُوهُ فِي الْإِيمَانِ، وَاَلَّذِي وَقَعَ بِهِ الِاجْتِمَاعُ وَالِاشْتِرَاكُ فِي الْأَحْوَالِ. وَقَدْ ذَكَرَ الِاحْتِمَالَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157] فَقِيلَ: إنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعِيَّةِ. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي بَلْ] بَلْ: حَرْفُ إضْرَابٍ عَنْ الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتٌ لِلثَّانِي وَتُسْتَعْمَلُ بَعْدَ النَّفْيِ وَالْإِيجَابِ، وَيَأْتِي بَعْدَهَا الْمَنْفِيُّ كَمَا يَأْتِي الْمُوجَبُ.

قَالُوا: وَهِيَ أَعَمُّ فِي الِاسْتِدْرَاكِ بِهَا مِنْ " لَكِنْ " تَقُولُ فِي الْمُوجَبِ: قَامَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو، وَفِي الْمَنْفِيِّ: مَا قَامَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة: 66] {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 67] {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ - بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون: 62 - 63] وَمِثَالُ الْمَنْفِيِّ بَعْدَهَا {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} [الطور: 33] {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات: 29] . وَقِيلَ: هِيَ لِلْإِعْرَاضِ عَمَّا قَبْلَهَا أَيْ جَعْلُهُ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهَا " لَا " صَارَ نَصًّا فِي نَفْيِ الْأَوَّلِ نَحْوَ جَاءَ زَيْدٌ لَا بَلْ عَمْرٌو. ثُمَّ إنْ تَلَاهَا جُمْلَةٌ كَانَتْ بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ إمَّا الْإِبْطَالِيُّ نَحْوُ {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] أَيْ: بَلْ هُمْ، وَإِمَّا الِانْتِقَالِيُّ أَيْ: الِانْتِقَالُ بِهَا مِنْ غَرَضٍ إلَى غَرَضٍ آخَرَ. وَزَعَمَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ " وَابْنُ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَقَعُ فِي التَّنْزِيلِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، مِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166] فَاسْتَدْرَكَ بِبَيَانِ عُدْوَانِهِ وَخَرَجَ مِنْ قِصَّةٍ إلَى أُخْرَى، وَهِيَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ لَا عَاطِفَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ: إذَا قُلْت جَاءَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَجُزْ لَك أَنْ تُقَدِّرَ " لَكِنْ " حَرْفًا عَاطِفًا جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ، وَإِنْ شِئْت اعْتَقَدْتهَا حَرْفَ ابْتِدَاءٍ يُسْتَأْنَفُ عِنْدَهَا الْكَلَامُ، وَهَكَذَا إذَا جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ فَإِنْ اعْتَقَدْتهَا عَاطِفَةً فَلَا وَقْفَ عَلَى مَا قَبْلَهَا دُونَهَا؛ إذْ لَا تَقِفُ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَتَبْتَدِئُ بِالْمَعْطُوفِ، وَإِنْ اعْتَقَدْتهَا حَرْفَ ابْتِدَاءٍ فَلَكَ الْخِيَارُ فِي الْوَقْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَوَصْلِهِ. انْتَهَى.

من أدوات المعاني من وما

وَإِنْ تَلَاهَا مُفْرَدٌ فَهِيَ عَاطِفَةٌ ثُمَّ إنْ تَقَدَّمَهَا أَمْرٌ، أَوْ إيجَابٌ، كَاضْرِبْ زَيْدًا بَلْ عُمْرًا، أَوْ قَامَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو، فَهِيَ تَجْعَلُ مَا قَبْلَهَا كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِمَا بَعْدَهَا. وَإِنْ تَقَدَّمَهَا نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا عَلَى حَالَتِهِ وَجَعْلِ ضِدِّهِ لِمَا بَعْدَهَا، نَحْوَ مَا قَامَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو، وَلَا يَقُومُ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو. وَأَجَازَ الْمُبَرِّدُ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ مَعْنَى النَّفْيِ وَالنَّهْيِ لَا بَعْدَهَا، فَإِذَا قُلْت: مَا رَأَيْت زَيْدًا بَلْ عَمْرًا بَلْ مَا رَأَيْت عَمْرًا؛ لِأَنَّك إذَا أَضْرَبْت عَنْ مُوجَبٍ فِي رَأَيْت زَيْدًا بَلْ عَمْرًا أَضْرَبْت إلَى مُوجَبٍ، فَكَذَلِكَ تُضْرِبُ عَنْ مَنْفِيٍّ إلَى مَنْفِيٍّ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَإِذَا تَحَقَّقَ مَعْنَى الْإِضْرَابِ بِطَلَبِ شَبَهِهِ، وَحَقِيقَتُهُ تَرْكُ الشَّيْءِ وَالْأَخْذُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الثَّانِي. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي مِنْ وَمَا] [مَنْ وَمَا] قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، أَصْلُهُمَا وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْعَرَبَ خَصَّتْ " مَنْ " بِأَهْلِ التَّمْيِيزِ أَوْ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ، وَ " مَا " بِمَنْ سِوَاهُمْ. قَالَ: وَقَدْ تَقُومُ إحْدَاهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى فِي مَعْنَاهَا، وَلَا يُصَارُ إلَيْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 3] {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] . وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: " مَا " تَقَعُ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ وَعَلَى صِفَاتِ مَنْ يَعْقِلُ، وَقَدْ تَقَعُ عَلَى مُبْهَمِ مَنْ يَعْقِلُ، وَيَتَفَاوَتُ ذَلِكَ بِحَسَبِ ظُهُورِ الْإِبْهَامِ أَوْ صِفَاتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] وَقَالَ: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2] وَتَصَوُّرُ الْإِبْهَامِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى

من أدوات المعاني بلى

أَظْهَرُ، وَإِنَّمَا التَّحْقِيقُ فِي هَذَا عَلَى الصِّفَةِ فَأَمَّا قَوْلُهُ {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس: 6] فَهِيَ وَاقِعَةٌ عَلَى الصِّفَةِ فَإِنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً وَصِفَاتٍ فَإِذَا كَنَّيْت عَنْ الِاسْمِ فَبِمَنْ، وَإِذَا كَنَّيْت عَنْ الصِّفَةِ فَبِمَا، فَكَأَنَّ الْأَصْلَ هُنَا: وَالسَّمَاءِ وَخَالِقِهَا وَبَانِيهَا فَأُوقِعَتْ " مَا " مَكَانَ الْخَالِقِ وَالْبَارِئِ مِنْ الصِّفَاتِ. وَلَوْ قِيلَ: السَّمَاءُ وَمَنْ بَنَاهَا لَقُلْنَا كَانَ الْأَصْلُ وَالسَّمَاءُ وَاَلَّذِي بَنَاهَا فَأَوْقَعَ " مَنْ " فِي مَكَانِ اسْمِهِ - تَعَالَى - وَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ قَالَ: إنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ فَإِنَّهَا حَرْفٌ، وَالْحَرْفُ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ ضَمِيرٌ، وَقَدْ عَادَ هُنَا الضَّمِيرُ عَلَى " مَا " مِنْ قَوْلِهِ: بَنَاهَا. وَمِنْ الثُّلَاثِيِّ فَأَكْثَرَ. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي بَلَى] : بَلَى وَهِيَ جَوَابٌ لِلنَّفْيِ سَوَاءٌ كَانَ النَّفْيُ عَارِيًّا مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوَ بَلَى لِمَنْ قَالَ: مَا قَامَ زَيْدٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] فَجَاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِإِيجَابِ النَّارِ لِمَنْ مَاتَ كَافِرًا فَقَالَ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] الْآيَةَ أَوْ مَقْرُونَةً بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ رَبُّهُمْ فَرَدُّوا النَّفْيَ الَّذِي بَعْدَ أَلْفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَإِذَا رَدُّوا نَفْيَ الشَّيْءِ ثَبَتَ إيجَابُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَقُّ " بَلَى " أَنْ تَجِيءَ بَعْدَ نَفْيِ غَلَبَةِ تَقْرِيرٍ، وَهَذَا الْقَيْدُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ النَّفْيِ غَلَبَةَ تَقْرِيرٍ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ بَلْ الْكُلُّ أَطْلَقُوا بِأَنَّهَا جَوَابُ النَّفْيِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ: إنَّهَا حَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّفْيِ ثُمَّ حُمِلَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعَرَبِ، وَأَجَابَهُ بِ نَعَمْ، وَوَقَعَ ذَلِكَ

فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ نَفْسِهِ أَجَابَ التَّقْرِيرَ بِ نَعَمْ اتِّبَاعًا لِبَعْضِ الْعَرَبِ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ الطَّرَاوَةِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: رُبَّمَا نَاقَضَتْهَا " نَعَمْ " وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا تُنَاقِضُهَا قَلِيلًا بَلْ هِيَ مُنَاقِضَةٌ لَهَا دَائِمًا؛ لِأَنَّ " نَعَمْ " تَصْدِيقٌ لِمَا قَبْلَهَا وَبَلَى رَدٌّ لَهُ، وَلِهَذَا قِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: نَعَمْ كَفَرُوا. وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ سِيبَوَيْهِ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ خَرُوفٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: دُخُولُ " نَعَمْ " هُنَا لَا وَجْهَ لَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ الْجَوْهَرِيُّ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ؟ نَعَمْ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَامَ زَيْدٌ وَيُرِيدُ أَنَّهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ " نَعَمْ " مُنَاقِضَةً " لِ بَلَى " وَكَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةِ يَقْتَضِي جَوَازَ وُقُوعِ نَعَمْ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَ " بَلَى " هِيَ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِمَا اُسْتُفْهِمَ عَنْهُ مَنْفِيًّا، وَلَا تَقْتَضِي نَفْيَهُ وَجَحْدَهُ، وَنَعَمْ تَصْلُحُ لِلْإِقْرَارِ بِهِ كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْأَنْصَارِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ عَاتَبَهُمْ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَتَصْلُحُ أَيْضًا لِجَحْدِهِ فَلِذَلِكَ لَا تُسْتَعْمَلُ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ: إنَّهَا إنَّمَا تَقْتَضِي جَحْدَهُ وَأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا بِهِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] لَكَفَرُوا فَقَوْلُهُ خَطَأٌ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. انْتَهَى. وَقَالَ الشَّلَوْبِينُ: لَا يَمْتَنِعُ فِي الْآيَةِ أَنْ يَقُولُونَ: نَعَمْ لَا عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي قَوْلِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] تَقْرِيرٌ، وَالتَّقْرِيرُ

من أدوات المعاني لكن

خَبَرٌ مُنَجَّزٌ فَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُ " نَعَمْ " كَمَا يَأْتِي بَعْدَ الْخَبَرِ الْمُوجَبِ وَتَكُونُ " نَعَمْ " لَيْسَتْ جَوَابًا عَلَى جَوَابِ التَّصْدِيقِ، وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الَّذِي مَنَعُوهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ، وَإِذَا كَانَتْ جَوَابًا فَإِنَّمَا يَكُونُ تَصْدِيقًا لِمَا بَعْدَ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ. وَاَلَّذِي جَوَّزَهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى التَّصْدِيقِ لَا الْجَوَابِ كَمَا فِي قَوْلِك: نَعَمْ لِمَنْ قَالَ: قَامَ زَيْدٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَصَارَتْ الْأَجْوِبَةُ ثَلَاثَةً " نَعَمْ " تَصْدِيقٌ لِلْكَلِمِ السَّابِقِ مِنْ الْإِثْبَاتِ، وَ " لَا " لِرَدِّ الْإِثْبَاتِ وَ " بَلَى " لِرَدِّ النَّفْيِ، وَلَا يُجَابُ بَعْدَ النَّفْيِ، بِنَعَمْ؛ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ عَلَى ضِدِّهِ فَإِنْ وَرَدَتْ بَعْدَ نَفْيٍ فَلَيْسَتْ جَوَابًا وَلَكِنَّهَا تَصْدِيقٌ لِلَفْظِهِ الَّذِي جَاءَ عَلَى النَّفْيِ. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي لكن] لَكِنْ: مُخَفَّفَةُ النُّونِ حَرْفٌ عَاطِفٌ، مَعْنَاهُ: الِاسْتِدْرَاكُ، أَيْ: التَّدَرُّكُ، وَفَسَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِرَفْعِ التَّوَهُّمِ النَّاشِئِ مِنْ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِثْلُ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو. إذَا تَوَهَّمَ الْمُخَاطَبُ عَدَمَ مَجِيءِ عَمْرٍ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مُخَالَطَتِهِ وَمُلَابَسَتِهِ بَيْنَهُمَا. وَفِي الْمِفْتَاحِ " أَنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ زَيْدًا جَاءَك دُونَ عَمْرٍو، وَبِالْجُمْلَةِ وَضَعَهَا لِلِاسْتِدْرَاكِ وَمُغَايَرَةِ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا، فَإِذَا

من أدوات المعاني لكن

عُطِفَ بِهَا مُفْرَدٌ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا مَنْفِيًّا لِتَحْصِيلِ الْمُغَايَرَةِ، وَإِذَا عُطِفَ بِهَا جُمْلَةٌ فَهِيَ تَحْتَمِلُ الْإِثْبَاتَ فَيَكُونُ مَا قَبْلَهَا مَنْفِيًّا، وَتَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَيَكُونُ مَا قَبْلَهَا مُثْبَتًا. فَحَصَلَ اخْتِلَافُ الْكَلَامَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْأَوَّلَ أَمْ الثَّانِيَ. قَالَ النَّحْوِيُّونَ: وَهِيَ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ نَظِيرُ " بَلْ " أَيْ: فِي الْوُقُوعِ بَعْدَ النَّفْيِ وَالْإِيجَابِ، كَمَا أَنَّهَا فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ نَقِيضُ " لَا " حَيْثُ تَخْتَصُّ " لَا " بِمَا بَعْدَ الْإِيجَابِ وَ " لَكِنْ " بِمَا بَعْدَ النَّفْيِ. وَإِنَّمَا تَعْطِفُ بَعْدَ النَّفْيِ نَحْوَ مَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو. فَإِنْ جَاءَتْ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ كَانَتْ عِنْدَهُمْ لِتَرْكِ قَضِيَّةٍ تَامَّةٍ إلَى قَضِيَّةٍ أُخْرَى تَامَّةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْأُولَى كَقَوْلِك: جَاءَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَأْتِ، وَهِيَ فِي النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ " بَلْ " لَكِنْ " بَلْ " أَعَمُّ مِنْهَا فِي الِاسْتِدْرَاكِ، وَمَوْضُوعُهَا مُخَالَفَةُ مَا قَبْلَهَا لِمَا بَعْدَهَا مِنْ الْإِيجَابِ وَالنَّفْيِ. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي لكن] (لَكِنَّ) وَأَمَّا مُشَدَّدَةُ النُّونِ النَّاصِبَةُ لِلِاسْمِ الرَّافِعَةُ لِلْخَبَرِ فَمَعْنَاهَا الِاسْتِدْرَاكُ أَيْضًا. وَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ: إنَّ " لَكِنَّ " لَا تَدَارُكَ فِيهَا وَإِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِيَثْبُتَ مَا بَعْدَ النَّفْيِ فَإِنَّمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي أَثَرٍ ذَكَرَهُ " بَلْ " وَرَأَى أَنَّ " بَلْ " كَأَنَّهَا يُتَدَارَكُ بِهَا نِسْيَانٌ أَوْ غَلَطٌ، فَفَرَّقَ بَيْنَ " لَكِنَّ " وَبَيْنَ " بَلْ " بِنَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ دَلِيلٌ عَنْهَا لَا أَنَّ لَكِنَّ لَيْسَتْ لِلِاسْتِدْرَاكِ. فَتَفَطَّنْ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ دَقَائِقِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ.

من أدوات المعاني على للاستعلاء

[مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ] عَلَى: لِلِاسْتِعْلَاءِ حِسًّا نَحْوُ {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] أَوْ مَعْنًى نَحْوُ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وَنَحْوُ لِزَيْدٍ عَلَيَّ كَذَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالدَّيْنَ يَعْلُوهُ وَيَرْكَبُ فِي الْمَعْنَى، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّهَا لَتُسْتَعْمَلُ لِلْإِيجَابِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " نَحْوُ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَإِنَّمَا قَبِلْنَا تَفْسِيرَهَا الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمَهَا وَحِفْظَهَا. وَتُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] . قِيلَ: وَهُوَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ بِمَعْنَى الْبَاءِ إجْمَاعًا مَجَازٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ وَهُوَ الشَّرْطُ لَا يُمْكِنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الشَّرْطَ فَإِذَا قُلْت: بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَلْفٍ فَالْمَعْنَى بِأَلْفٍ، وَكَذَا فِي الطَّلَاقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " عَلَى " فِي الطَّلَاقِ لِلشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الشَّرْطَ فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، فَإِذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا يَجِبُ ثُلُثُ الْأَلْفِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهَا لِلشَّرْطِ وَأَجْزَاءُ الشَّرْطِ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَشْرُوطِ، وَيَجِبُ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْبَاءِ عِنْدَهُمَا فَتَكُونُ الْأَلْفُ عِوَضًا لَا شَرْطًا.

من أدوات المعاني عند

[مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي عِنْد] عِنْدَ: لِلْحَضْرَةِ وَلِلْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ فَلَهُ عِنْدِي أَلْفٌ، إقْرَارٌ بِالْعَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ إشْعَارٌ بِالضَّمَانِ، بَلْ قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ مُشْعِرٌ بِالْأَمَانَةِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَنَّهَا كَانَتْ وَدِيعَةً تَلِفَتْ أَوْ رَدَدْتهَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي إذَا] إذَا: ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ غَالِبًا نَحْوُ قُمْت إذَا قَامَ زَيْدٌ. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: وَزَعَمَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمَاضِي كَ " إذْ " وَخَالَفَ الْجَمَاعَةُ. وَهَذَا مِنْهُ عَجِيبٌ فَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّحْوِيِّينَ إلَى ذَلِكَ وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] . وَقَوْلُهُ: وَنَدْمَانَ يَزِيدُ الْكَأْسَ طِيبًا ... سَقَيْت إذَا تَغَوَّرَتْ النُّجُومُ بَلْ صَارَ جَمَاعَةٌ إلَى مَجِيئِهَا لِلْحَالِ بَعْدَ الْقَسَمِ نَحْوَ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] فَإِذَا هُنَا مُجَرَّدَةٌ عَنْ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ فِي الشَّرْطِ لَا بُدَّ

مِنْ ذِكْرِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ مُتَقَدِّمٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَلَوْ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ لَصَارَ الْمَعْنَى إذَا يَغْشَى اللَّيْلُ اقْسِمْ، وَكَانَ الْقَسَمُ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، لَكِنَّ الْأَقْوَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ اللَّيْلِ أَيْ: وَقْتَ غَشَيَانِهِ وَمَا مَنَعُوا بِهِ تَعْلِيقَ الْقَسَمِ بِغَشَيَانِ اللَّيْلِ، وَتَقْيِيدُهُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ بِعَيْنِهِ يَقْتَضِي مَنْعَ كَوْنِهِ حَالًا مِنْ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا يُفِيدُ تَقْيِيدَ الْقَسَمِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ. وَعَلَى هَذَا بَنِي أَصْحَابُنَا مَا لَوْ قَالَ: إذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَضَى زَمَنٌ فَلَمْ يُطَلِّقْ وَقَعَ، وَبَنَوْهُ عَلَى أَنَّ " إذَا " لِلْوَقْتِ وَأَنَّهَا تَنْفَكُّ عَنْ الشَّرْطِ. وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا لِلْوَقْتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] قَالُوا: وَلِهَذَا دَخَلَتْ عَلَى الِاسْمِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ بَلْ هِيَ فِي الْآيَةِ لِلشَّرْطِ، وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِالْجَوَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14] وَالشَّمْسُ مَرْفُوعَةٌ بِالْفَاعِلِيَّةِ وَرَافِعُهَا تَفْسِيرُهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ " كُوِّرَتْ "؛ لِأَنَّ " إذَا " تَطْلُبُ الْفِعْلَ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ " " إذَا " عِنْدَ نُحَاةِ الْكُوفَةِ تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ تَارَةً وَلِلشَّرْطِ أُخْرَى فَتُجَازِي إنْ أُرِيدَ بِهَا الشَّرْطُ، وَلَا يُجَازَى بِهَا إنْ أُرِيدَ بِهَا الْوَقْتُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ لِلْوَقْتِ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ لِلشَّرْطِ لَا تَخْلُو عَنْ الْوَقْتِ. وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ: عِنْدَ نُحَاةِ الْكُوفَةِ تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ وَالشَّرْطِ عَلَى السَّوَاءِ فَيُجَازَى بِهَا عَلَى اعْتِبَارِ سُقُوطِ الْوَقْتِ عَنْهَا كَأَنَّهَا حَرْفُ شَرْطٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي " إذْ " مَا يُجَازَى بِهَا فَتَكُونُ حَرْفًا. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَتَصِيرُ مِثْلَ " إنْ ".

وَقَالَ ابْنُ عَمْرُونٍ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ ": إذَا دَخَلَتْهَا " مَا " يُجَازَى بِهَا فِي الْأَخْبَارِ بِدُونِ " مَا " لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تُزِيلُ إبْهَامَهَا، فَإِذَا كَفَّتْهَا " مَا " عَنْ الْإِضَافَةِ بَقِيَ إبْهَامُهَا فَجُوزِيَ بِهَا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي اللُّبَابِ " إنَّمَا لَمْ يُجَازَ بِهَا فِي الْأَخْبَارِ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، مِثْلُ إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ، وَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَوَقْتُهُ مُتَعَيِّنٌ لِمَا يُضَافُ، وَبَابُ الشَّرْطِ الْإِبْهَامُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ " إذَا " وَ " مَتَى " أَنَّ الْوَقْتَ فِي " مَتَى " لَازِمٌ لِلْمَجَازَاتِ دُونَ " إذَا " عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَالْمُبَرِّدِ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ. وَالْخِلَافُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ. فَلَوْ نَوَى بِهَا آخِرَ عُمُرِهِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ. قَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فِي الشَّرْطِ لَمَا صُدِّقَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ نَوَى بِهَا مَجَازَ كَلَامِهِ، وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي مِثْلِهِ لَا يُصَدَّقُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي كِتَابِ الْخُلْعِ لَوْ قَالَ: إذَا أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ اُشْتُرِطَ إعْطَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الصِّيغَةِ، وَلِهَذَا أَلْحَقُوا بِهَا " إنْ " فِي ذَلِكَ. قَالَ الشَّيْخُ فِي الْمُهَذَّبِ " كَذَا ذَكَرَ الْأَصْحَابُ، وَعِنْدِي أَنَّ " إذَا " حُكْمُهَا حُكْمُ " مَتَى " وَأَيّ وَقْتٍ فِي اقْتِضَاءِ التَّرَاخِي، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: مَتَى الْقِتَالُ؟ جَازَ أَنْ يَقُولَ: إذَا شِئْت، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: مَتَى شِئْت، بِخِلَافِ " إنْ " فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنْ شِئْت. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مِنْ دَلَالَةِ " إذَا " عَلَى الزَّمَانِ صَحِيحٌ لَكِنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ " مَتَى " فَرْقٌ؛ لِأَنَّ " مَتَى " عَامَّةً تَقْتَضِي الدَّلَالَةَ عَلَى كُلِّ زَمَانٍ بِخِلَافِ " إذَا ".

من أدوات المعاني غير

وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي عُمُومِهَا قِيلَ: إذَا قُلْت: إذَا قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو. كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ " كُلَّمَا " وَقِيلَ: إنَّمَا يَلْزَمُ قِيَامَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا تَقْتَضِي تَكْرَارًا. قَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ كَسَائِرِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إذَا وَجَدْت أُوَارَ الْحُبِّ فِي كَبِدِي ... أَقْبَلْت نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَنْبَرِدُ فَإِنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْعُمُومِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَتَى وَجَدْت. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي غَيْرُ] غَيْرُ: اسْمٌ لَازِمٌ لِلْإِضَافَةِ فِي الْمَعْنَى، وَيَجُوزُ قَطْعُهُ عَنْهَا إنْ فُهِمَ مَعْنَاهَا وَتَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا كَلِمَةُ " لَيْسَ ". قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ فِي الْمُغْنِي " وَقَوْلُهُمْ: لَا غَيْرَ لَحْنٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ مَسْمُوحٌ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: جَوَابًا بِهِ تَنْجُو اعْتَمِدْ فَوَرَبِّنَا ... لَعَنْ عَمَلٍ أَسْلَفْتَ لَا غَيْرَ تُسْأَلُ وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي بَابِ الْقَسَمِ مِنْ شَرْحِ التَّسْهِيلِ " وَكَأَنَّ الشَّيْخَ تَابَعَ السِّيرَافِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: الْحَذْفُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ إذَا كَانَتْ " إلَّا " وَ " غَيْرُ " بَعْدَ لَيْسَ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ لَيْسَ غَيْرُهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْجَحْدِ لَمْ يَجُزْ الْحَذْفُ، وَلَا يَتَجَاوَزُ بِذَلِكَ مَوْرِدَ السَّمَاعِ. انْتَهَى. وَقَدْ سُمِعَ كَمَا ذَكَرْنَا وَهِيَ عَكْسُ " لَا " فَإِنَّ شَرْطَ " غَيْرَ " أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا صَادِقًا عَلَى مَا بَعْدَهَا. تَقُولُ: مَرَرْت بِرَجُلٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَلَا يَجُوزُ

غَيْرِ امْرَأَةٍ بِخِلَافِ " لَا " النَّافِيَةِ فَإِنَّهَا بِالْعَكْسِ. وَالْأَصْلُ فِي " غَيْرَ " أَنْ تَكُونَ صِفَةً، وَقَدْ يُسْتَثْنَى بِهَا. قَالَ الرُّمَّانِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالَتَيْنِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ صِفَةً لَمْ تُوجِبْ شَيْئًا لِلِاسْمِ الَّذِي بَعْدَهَا، وَلَمْ تَنْفِ عَنْهُ، نَحْوَ جَاءَنِي رَجُلٌ رَشِيدٌ غَيْرُ زَيْدٍ، فَوَصَفْتَ بِهَا وَلَمْ تَنْفِ عَنْ زَيْدٍ الْمَجِيءَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مَجِيئُهُ وَأَنْ لَا يَقَعَ. وَإِذَا كَانَتْ اسْتِثْنَاءً فَإِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا إيجَابًا كَانَ مَا بَعْدَهَا نَفْيًا أَوْ نَفْيًا فَإِيجَابًا. وَإِذَا كَانَتْ صِفَةً وُصِفَ بِهَا الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَإِذَا كَانَتْ اسْتِثْنَاءً فَلَا تَأْتِي إلَّا بَعْدَ جَمْعٍ أَوْ مَعْنَاهُ. وَكَذَا قَالَ الشَّلَوْبِينُ: إنَّهَا إذَا كَانَتْ صِفَةً لَمْ تُوجِبْ شَيْئًا لِلِاسْمِ الَّذِي بَعْدَهَا وَلَمْ تَنْفِ عَنْهُ. وَفِيمَا قَالَاهُ نَظَرٌ، وَفِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ خِلَافُهُ. وَقَدْ أَجَازَ فِي قَوْلِك: مَرَرْت بِرَجُلٍ غَيْرِك ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاحِدًا خِلَافَك. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وَاحِدٌ صِفَتُهُ مُخَالِفَةٌ لِصِفَتِك، فَالْإِبْهَامُ فِيهِ أَقَلُّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْتَ مَعَ غَيْرِك، وَهَذَا الثَّالِثُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ غَيْرُ طَلْقَةٍ أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثٌ. وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا: كُلُّ امْرَأَةٍ غَيْرِك طَالِقٌ يَقَعُ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ إلَّا أَنْ يَعْزِلَهَا بِالنِّيَّةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْبُرْهَانِ " إذَا قُلْت مَا جَاءَنِي غَيْرُ زَيْدٍ احْتَمَلَ أَنْ تُرِيدَ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاءَ مَعَهُ إنْسَانٌ آخَرُ، وَأَنْ تُرِيدَ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاءَ

من أدوات المعاني كيف

غَيْرُهُ لَا هُوَ، وَلَا يَصِحُّ مَا جَاءَنِي غَيْرُ زَيْدٍ لَا عَمْرٍو، كَمَا لَمْ يَجُزْ مَا جَاءَنِي، إلَّا زَيْدٌ لَا عَمْرٌو؛ لِأَنَّ " غَيْرَ " فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ حَرْفُ النَّفْيِ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] . [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي كَيْفَ] كَيْفَ: إنْ وَقَعَ بَعْدَهَا مُفْرَدٌ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، نَحْوُ كَيْفَ زَيْدٌ؟ فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ اُخْتُلِفَ فِي إعْرَابِهَا، فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إلَى أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ؛ لِأَنَّهَا فِي تَقْدِيرِ الظَّرْفِ، وَلِذَلِكَ يُقَدَّرُ بِ عَلَى أَيِّ حَالٍ فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ زَيْدٌ قَائِمٌ؟ فَتَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ زَيْدٌ قَائِمٌ؟ وَمَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالسِّيرَافِيِّ وَابْنِ جِنِّي أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَضَعَّفَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ بِأَنَّ الْحَالَ خَبَرٌ وَ " كَيْفَ " اسْتِفْهَامٌ، فَلَا يَصِحُّ وُقُوعُهَا خَبَرًا. قَالَ ابْنُ الصَّائِغِ: وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ فَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي الْحَالِ: أَنَّهَا خَبَرٌ قَسِيمُ الْإِنْشَاءِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ " كَيْفَ " ظَرْفٌ؛ إذْ لَيْسَتْ زَمَانًا وَلَا مَكَانًا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تُفَسَّرُ بِقَوْلِك: عَلَى أَيِّ حَالٍ؟ لِكَوْنِهَا سُؤَالًا عَنْ الْأَحْوَالِ سُمِّيَتْ ظَرْفًا، وَلِأَنَّهَا فِي تَأْوِيلِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَاسْمُ الظَّرْفِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا مَجَازًا، ثُمَّ هِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ أَيْ: لِلسُّؤَالِ عَنْ الْحَالِ خَاصَّةً، وَهَلْ يُلْحَظُ فِيهَا مَعْنَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ يَسْتَدْعِي وُجُودَ ذَلِكَ؟ وَلِهَذَا قِيلَ: يَقُول خَلِيلِي كَيْفَ صَبْرُك بَعْدَنَا ... فَقُلْت وَهَلْ صَبْرٌ فَيُسْأَلُ عَنْ كَيْفَ وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت. أَنَّهَا

من أدوات المعاني كل

تَطْلُقُ [إنْ] شَاءَتْ أَمْ لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَشَاءَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. قَالَ الْبَغَوِيّ: وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شِئْت. قُلْت: وَهَذَا مِنْهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ " كَيْفَ ". قِيلَ: إنَّهَا فِي الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ أَيِّ الِاسْتِفْهَامِيَّة، وَلِهَذَا يُفَسِّرُونَ كَيْفَ شِئْت بِأَيِّ حَالَةٍ شِئْت، فَاسْتُعِيرَتْ لِأَيِّ الْمَوْصُولَةِ بِجَامِعِ الْإِبْهَامِ عَلَى مَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ شِئْتهَا مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ سَلَبَ عَنْهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَاسْتُعْمِلَتْ اسْمًا لِلْحَالِ، كَمَا حَكَى قُطْرُبٌ: اُنْظُرْ إلَى كَيْفَ تَصْنَعُ؟ أَيْ: إلَى حَالِ صُنْعِهِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ كَيْفَ مَنْصُوبَةً بِنَزْعِ الْخَافِضِ. وَذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهَا تَأْتِي شَرْطًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لِلْحَالِ، وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ. وَمُرَادُهُمْ الشَّرْطُ فِي الْمَعْنَى لَا الْعَمَلِ وَهُوَ الْجَزْمُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُجْزَمُ بِهَا إلَّا إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهَا " مَا " نَحْوَ كَيْفَ تَصْنَعْ أَصْنَعْ. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي كُلٌّ] كُلٌّ: تُلَازِمُ الْإِضَافَةَ مَعْنًى، وَلَا يَلْزَمُ إضَافَتُهَا لَفْظًا إذَا وَقَعَ تَوْكِيدًا وَنَعْتًا، وَإِضَافَتُهَا مَنْوِيَّةٌ عِنْدَ تَجَرُّدِهَا عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ الْمَحْذُوفُ مَعْرِفَةً بَقِيَ " كُلٌّ " عَلَى تَعْرِيفِهِ، فَلَا تُبَاشِرُهُ اللَّامُ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ فِي قِرَاءَةِ {إنَّا كُلًّا فِيهَا} شَاذٌّ، وَإِنْ أُضِيفَ إلَى نَكِرَةٍ رُوعِيَ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ وَغَيْرِهِ الْمُضَافُ إلَيْهِ، وَإِنْ أُضِيفَ إلَى مَعْرِفَةٍ جَازَ مُرَاعَاةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَمُرَاعَاةُ لَفْظِ " كُلٍّ ".

من أدوات المعاني كلما

[مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي كُلَّمَا] أَمَّا كُلَّمَا: فَهِيَ مُضَافَةٌ إلَى " مَا " وَهِيَ مَصْدَرِيَّةٌ لَكِنَّهَا نَائِبَةٌ بِصِلَتِهَا عَنْ ظَرْفِ زَمَانٍ كَمَا يَنُوبُ عَنْ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ، وَالْمَعْنَى: كُلُّ وَقْتٍ، وَلِذَا تُسَمَّى " مَا " هَذِهِ الْمَصْدَرِيَّةَ الظَّرْفِيَّةَ أَيْ: النَّائِبَةَ عَنْ الظَّرْفِ لَا أَنَّهَا ظَرْفٌ فِي نَفْسِهَا، فَكُلٌّ مِنْ " كُلَّمَا " مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِإِضَافَتِهِ إلَى شَيْءٍ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الظَّرْفِ ثُمَّ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ أَنَّ " كُلَّمَا " لِلتَّكْرَارِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ " مَا "؛ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ يُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ، فَإِذَا قُلْت: أَصْحَبُك مَا ذَرَّ لِلَّهِ شَارِقٌ فَإِنَّمَا تُرِيدُ الْعُمُومَ " فَكُلٌّ " أَكَّدَتْ الْعُمُومَ الَّذِي أَفَادَتْهُ " مَا " الظَّرْفِيَّةُ لَا أَنَّ لَفْظَ " كُلَّمَا " وُضِعَ لِلتَّكْرَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ " كُلٌّ " تَوْكِيدًا لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ مَا الظَّرْفِيَّةِ، فَإِذَا قُلْت: كُلَّمَا جِئْتنِي أَكْرَمَتْك فَالْمَعْنَى أُكْرِمُك فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ جِيئَاتِك إلَيَّ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: إنَّ التَّكْرَارَ مِنْ عُمُومِ " مَا " مَمْنُوعٌ فَإِنَّ " مَا " الْمَصْدَرِيَّةَ لَا عُمُومَ لَهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نِيَابَتِهَا عَنْ الْعُمُومِ دَلَالَتُهَا عَلَى الْعُمُومِ، وَإِنْ اُسْتُفِيدَ عُمُومٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ " مَا " إنَّمَا هُوَ مِنْ التَّرْكِيبِ بِجُمْلَتِهِ. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي بَعْد] بَعْدُ: تَقَعُ لِلتَّرْتِيبِ وَتَحْتَمِلُ الْفَوْرَ وَالتَّرَاخِيَ قَالَهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ ". [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي إلَى] إلَى: لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ زَمَانًا وَمَكَانًا، وَلَا يَأْتِي فِيهَا خِلَافُ " مِنْ " فِي

الزَّمَانِ. وَعِبَارَةُ الرَّاغِبِ: حَرْفٌ يُحَدُّ بِهِ النِّهَايَةُ مِنْ الْجَوَانِبِ السِّتَّةِ، وَهَلْ يَدْخُلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا أَمْ لَا أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ لِلْغَايَةِ فَيَدْخُلُ، وَإِلَّا فَلَا؟ خِلَافٌ. وَنُسِبَ الثَّالِثُ إلَى سِيبَوَيْهِ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. قُلْت: وَرَأَيْته مَجْزُومًا بِهِ لِابْنِ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْوَدَائِعِ بِمَنْصُوصِ الشَّرَائِعِ " فِي بَابِ الْوُضُوءِ قَالَ: وَمَنْ أَوْجَبَ إدْخَالَ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ، وَقِيلَ: يَدْخُلُ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ الْمُنْتَهَى إلَيْهِ كَمَا يَدْخُلُ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ الْمُبْتَدَأِ مِنْهُ. حَكَاهُ النِّيلِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ ": جَاءَتْ وَمَا بَعْدَهَا دَاخِلٌ، وَجَاءَتْ وَمَا بَعْدَهَا خَارِجٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ بِالِاشْتِرَاكِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ بِظُهُورِ الدُّخُولِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ بِظُهُورِ انْتِفَاءِ الدُّخُولِ وَعَلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ. انْتَهَى. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سِيبَوَيْهِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ تَقْتَرِنَ بِمَنْ فَتَقْتَضِيَ التَّحْدِيدَ، وَلَا يَدْخُلُ الْحَدُّ فِي الْمَحْدُودِ، نَحْوُ بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَى تِلْكَ، فَلَا يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ تَحْدِيدًا، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى " مَعَ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] وَأَنْكَرَ ابْنُ خَرُوفٍ هَذَا عَلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: لَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ هَذَا وَلَا حَرْفًا وَلَا هُوَ

مَذْهَبُهُ، وَاَلَّذِي قَالَهُ فِي بَابِ عِدَّةِ الْكَلِمِ: وَأَمَّا " إلَى " فَمُنْتَهَى الِابْتِدَاءِ تَقُولُ: مِنْ مَكَانِ كَذَا إلَى كَذَا، وَكَذَلِكَ " حَتَّى " وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي بَابِهَا بِمَعْنَى " حَتَّى " وَلَهَا فِي الْفِعْلِ حَالٌ لَيْسَ لِ " إلَى " تَقُولُ لِلرَّجُلِ: إنَّمَا أَنَا إلَيْك أَيْ: إنَّمَا أَنْتَ مَطْلُوبِي وَغَايَتِي، وَلَا تَكُونُ " حَتَّى " هُنَا فَهَذَا أَمْرُ " إلَى " وَأَصْلُهَا وَإِنْ اتَّسَعَتْ، وَهِيَ أَعَمُّ فِي الْكَلَامِ مِنْ " حَتَّى " تَقُولَ: قُمْت إلَيْهِ بِجَعْلِهِ مُنْتَهَاك مِنْ مَكَانِك وَلَا تَقُولُ: حَتَّاهُ. انْتَهَى. وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهَا لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَإِنْ اتَّسَعَ فِيهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغَايَةُ لَا تُدْخِلُ شَيْئًا وَلَا تُخْرِجُهُ، بَلْ إنْ كَانَ صَدْرُ الْكَلَامِ مُتَنَاوَلًا قَبْلَ دُخُولِ حَرْفِ الْغَايَةِ يَكُونُ دَاخِلًا وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ: وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ دُخُولِهِ فِي الْمَحْدُودِ لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ مَعْنَى " إلَى " وَإِنَّمَا فَائِدَةُ " إلَى " التَّنْبِيهُ عَنْ أَنَّهَا مَا اُبْتُدِئَ بِهِ فَبِمِنْ، وَأَمَّا دُخُولُ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ فِيهِ وَعَدَمُهُ فَبِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: لَا تُفِيدُ إلَّا انْتِهَاءَ الْغَايَةِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى الدُّخُولِ أَوْ عَدَمِهِ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الدَّلِيلِ. وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ " إلَى " لِلنِّهَايَةِ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ عَلَى أَوَّلِ الْحَدِّ وَأَنْ يَتَوَغَّلَ فِي الْمَكَانِ لَكِنْ تَمْتَنِعُ الْمُجَاوَزَةُ؛ لِأَنَّ النِّهَايَةَ غَايَةٌ، وَمَا كَانَ بَعْدَهُ شَيْءٌ لَمْ يُسَمَّ غَايَةً. قُلْت: وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " حَيْثُ قَالَ: وَدَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ مِمَّا يُغْسَلُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا حَدَّيْنِ لِلْغَسْلِ، وَأَنْ يَكُونَا دَاخِلَيْنِ فِي الْغَسْلِ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَيْلٌ

لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَسْلٌ. انْتَهَى. وَتَجِيءُ بِمَعْنَى " مَعَ " فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَالتَّقْدِيرُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] أَيْ: لَا تُضِيفُوهَا إلَى أَمْوَالِكُمْ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَمَنْ أَوْجَبَ غَسْلَهَا قَالَ بِمَعْنَى " مَعَ " وَعَلَى قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ: هِيَ عَلَى بَابِهَا وَلَا تُفِيدُ انْتِهَاءَ الْغَسْلِ إلَى الْمَرَافِقِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ لَفْظَ الْيَدِ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ فَالْمَرَافِقُ دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَةِ الْيَدِ، وَإِذَا جَاءَتْ إلَى التَّحْدِيدِ بِبَعْضِ الشَّيْءِ دَخَلَ الْمَحْدُودُ إلَيْهِ فِي الْحَدِّ، كَقَوْلِك: بِعْتُك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَإِنَّ الشَّجَرَةَ تَدْخُلُ، فَعَلَى هَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِهَا بِمَعْنَى " مَعَ ". وَقِيلَ: دَخَلَتْ الْمَرَافِقُ فِي الْغَسْلِ لِأَنَّ الْمَرَافِقَ مُنْتَهَى الذِّرَاعِ، فَلَزِمَ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ الذِّرَاعِ وُجُوبُ غَسْلِ الْمَرَافِقِ، وَقِيلَ: إنَّهَا غَايَةٌ لِلْإِسْقَاطِ لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ. وَذَكَرُوا لِهَذَا الْكَلَامِ تَفْسِيرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْغَايَةِ كَالْيَدِ فَإِنَّهَا اسْمٌ

من أدوات المعاني حتى

لِلْمَجْمُوعِ إلَى الْإِبْطِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْغَايَةِ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الِامْتِدَادَ حَاصِلٌ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: " اغْسِلُوا " وَغَايَةُ لَكِنْ لِأَجْلِ إسْقَاطِ مَا وَرَاءَ الْمِرْفَقِ عَنْ حُكْمِ الْغَسْلِ. الثَّانِي: أَنَّهُ غَايَةٌ لِلْإِسْقَاطِ وَمُتَعَلِّقٌ بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ مُسْقِطِينَ إلَى الْمَرَافِقِ فَتَخْرُجُ عَنْ الْإِسْقَاطِ، فَتَبْقَى دَاخِلَةً تَحْتَ الْغَسْلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِظُهُورِ أَنَّ الْجَارَ وَالْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ، وَأَثَارَ بَعْضُهُمْ هُنَا بَحْثًا، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قَرَنَ بِالْكَلَامِ غَايَةً أَوْ اسْتِثْنَاءً أَوْ شَرْطًا لَا يُعْتَبَرُ بِالْمُطْلَقِ لَمْ يَخْرُجْ بِالْقَيْدِ عَنْ الْإِطْلَاقِ بَلْ يُعْتَبَرُ مَعَ الْقَيْدِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَالْفِعْلُ مَعَ الْغَايَةِ كَلَامٌ وَاحِدٌ لِلْإِيجَابِ إلَيْهَا لَا لِلْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ فَلَا يَثْبُتَانِ إلَّا بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ مَعَ الْغَايَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: مَجِيئُهَا بِمَعْنَى " مَعَ " لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا قَالَ: بِعْتُك بِشَرْطِ الْخِيَارِ إلَى اللَّيْلِ، إنَّ اللَّيْلَ لَا يَدْخُلُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ الشَّيْخُ فِي الْمُهَذَّبِ ": وَتَرِدُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، نَحْو فُلَانٌ خَارِجٌ إلَى شَهْرٍ أَيْ: أَنَّ ابْتِدَاءَ خُرُوجِهِ إلَى شَهْرٍ، وَفُرِّعَ عَلَيْهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ فَلَا تَطْلُقُ إلَّا بَعْدَ شَهْرٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ، وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْمُتَوَلِّي. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي حَتَّى] حَتَّى: لِلْغَايَةِ كَ [إلَى] وَهِيَ عَاطِفَةٌ وَجَارَةٌ، وَفِيهَا مَذَاهِبُ:

أَحَدُهَا: أَنْ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَعُزِيَ لِأَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ مِنْهُمْ ابْنُ جِنِّي. قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ النَّحَّاسِ، فِي كِتَابِ الْكَافِي ": اعْلَمْ أَنَّ حَتَّى فِيهَا مَعْنَى الْغَايَةِ، وَإِنْ عَطَفْت بِهَا، وَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ. انْتَهَى. يُرِيدُ أَنَّ الْعَاطِفَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى الْغَايَةِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ تَقْتَضِيهِ " حَتَّى " مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا لِلْغَايَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا لِلْعَطْفِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَاخِلٌ سَوَاءٌ الْجَارَّةُ وَالْعَاطِفَةُ، وَبِهِ جَزَمَ الْجُرْجَانِيُّ فِي الْمُقْتَصَدِ " وَغَيْرِهِ، وَسَنَذْكُرُ عِبَارَتَهُ، وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ " وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنْ يَقْتَضِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَ الْفِعْلُ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ كُلِّهِ، فَلَوْ انْقَطَعَ الْأَكْلُ عِنْدَ الرَّأْسِ لَا يَكُونُ فِعْلُ الْآكِلِ آتِيًا عَلَى السَّمَكَةِ كُلِّهَا، وَلِهَذَا امْتَنَعَ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى نِصْفِهَا. وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِهَذَا مَا إذَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى خُرُوجِهِ، كَصُمْتُ الْأَيَّامَ حَتَّى يَوْمَ الْفِطْرِ بِنَصَبِ الْيَوْمِ وَجَرِّهِ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا بَعْضًا لِمَا قَبْلَهَا دَخَلَ، نَحْوَ سَبَقَنِي النَّاسُ حَتَّى الْعَبِيدِ، وَإِلَّا فَلَا، نَحْوُ قَرَأَتْ الْقُرْآنَ حَتَّى الصَّبَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ

مسألة حتى العاطفة هل تقتضي الترتيب

فِي الْمُقْتَضَبِ " وَالْفَرَّاءِ فِي الْمَعَانِي " وَابْنِ الْوَرَّاقِ فِي الْفُصُولِ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجَارَّةُ يَأْتِي فِيهَا الْخِلَافُ الَّذِي فِي " إلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا قَرِينَةٌ تَقْتَضِي دُخُولَ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا أَوْ عَدَمَ دُخُولِهِ حُمِلَتْ عَلَى الدُّخُولِ، بِخِلَافِ " إلَى " فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ حَمْلًا عَلَى الْغَالِبِ فِي الْبَابَيْنِ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَاطِفَةً فَمَا بَعْدَهَا دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهَا قَطْعًا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِمَّا قَبْلَهَا جِيءَ بِهِ لِتَعْظِيمِهِ أَوْ لِتَحْقِيرِهِ. وَزَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ دُخُولِ مَا بَعْدَ " حَتَّى " وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَاطِفَةِ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي أُصُولِهِ " لَا الْخَافِضَةِ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهَا مَشْهُورٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: " حَتَّى " مَعَ الْجُثَثِ بِمَعْنَى " مَعَ " وَمَعَ الْمَصَادِرِ وَظُرُوفِ الزَّمَانِ بِمَعْنَى " إلَى " تَقُولُ: انْتَظَرْتُك حَتَّى اللَّيْلِ وَحَتَّى قُدُومِ عَمْرٍو بِمَعْنَى " إلَى " فِيهِمَا، وَنَحْوُ بِعْتُك الدَّارَ حَتَّى بَابِهَا أَيْ: مَعَ، وَكَلَّمْت، الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدٍ أَيْ: مَعَ. [مَسْأَلَةٌ حَتَّى الْعَاطِفَةُ هَلْ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ] َ؟] اُخْتُلِفَ فِي الْعَاطِفَةِ هَلْ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ؛ فَأَثْبَتَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ مُعْطٍ حَيْثُ قَالَا: إنَّهَا كَالْفَاءِ، بَلْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ تُوهِمُ أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهَا بِمَعْنَى الْفَاءِ لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ التَّعْقِيبِ وَالْغَايَةِ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ " هِيَ مِثْلُ " ثُمَّ " فِي التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ مَعْطُوفِهَا جُزْءًا مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيَصِحُّ جَعْلُهُ غَايَةً لَهُ، فَعُلِمَ مِنْهُمَا مُخَالَفَتُهُ لِلْأَوَّلِ فِيمَا أَوْجَبَ الْمُهْلَةَ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ قُوَّةٍ، كَ قَدِمَ الْحَجَّاجُ حَتَّى الْمُشَاةُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّهَا كَالْوَاوِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ " هِيَ فِي عَدَمِ التَّرْتِيبِ كَالْوَاوِ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: حَفِظْت حَتَّى سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْبَقَرَةُ أَوَّلَ مَحْفُوظِك أَوْ مُتَوَسِّطَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ» وَلَا فَرْقَ فِي تَعَلُّقِ الْقَضَاءِ بِالْمَقْضِيَّاتِ، وَإِنَّمَا التَّرْتِيبُ فِي كَوْنِهَا أَيْ: وُجُودِهَا. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ " هِيَ فِي عَدَمِ التَّرْتِيبِ كَالْوَاوِ، وَقَالَ ابْنُ أَيَازٍ: التَّرْتِيبُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ " حَتَّى " لَيْسَ عَلَى تَرْتِيبِ الْفَاءِ وَثُمَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا يُرَتِّبَانِ أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي الْوُجُودِ وَهِيَ تُرَتِّبُ تَرْتِيبَ الْغَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِذَكَرِ الْكُلِّ قَبْلَ الْجُزْءِ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ أَنَّهَا لِلْغَايَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْ الشَّيْءِ. وَطَرَفُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّحْقِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ إذْ أَخَذْته مِنْ أَعْلَاهُ فَأَدْنَاهُ غَايَتُهُ وَهُوَ الْمُحَقَّرُ، وَإِنْ أَخَذْته مِنْ أَدْنَاهُ فَأَعْلَاهُ غَايَتُهُ وَهُوَ الْمُعَظَّمُ، وَلِهَذَا أَيْضًا لَمْ يَكُنْ مَا بَعْدَ " حَتَّى " وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا إلَّا بَعْضًا وَجُزْءًا مِنْهُ. تَقُولُ: جَاءَ الْقَوْمُ حَتَّى زَيْدٌ، وَلَا تَقُولُ حِمَارٌ. وَكَذَلِكَ لَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ حَتَّى الْقَوْمُ،

لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ بِضْعًا لِشَيْءٍ وَجُزْءًا مِنْهُ. وَلَا جَاءَ زَيْدٌ حَتَّى عَمْرٌو كَذَلِكَ أَيْضًا، وَلِلْمُسَاوَاةِ، وَكُلُّ هَذَا لَا يَمْتَنِعُ فِي الْوَاوِ. وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ " حَتَّى " لِلْغَايَةِ إمَّا فِي نَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ، نَحْوُ عَلَيْك النَّاسُ حَتَّى النِّسَاءُ، وَاخْتُطِفَتْ الْأَشْيَاءُ حَتَّى مَثَاقِيلُ الدُّرِّ، ثُمَّ قَالُوا: إنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ بَلْ تَكُونُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ كَالْوَاوِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مُشْكِلٌ. فَإِنْ قُلْت: الْغَايَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْوَاقِعُ لَيْسَ هُوَ هَذَا، بَلْ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَوَّلَ، وَمَا بَعْدَهُ أَوْ الْأَخِيرُ، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا تَكُونُ لِلتَّرْتِيبِ. قُلْت: لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلتَّرْتِيبِ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ الْقُوَّةِ أَوْ الضَّعْفِ فَائِدَةٌ، وَلَوْ لَمْ تَقْتَضِ التَّأْخِيرَ عَقْلًا وَعَادَةً لَمْ يَحْسُنْ ذَلِكَ، فَإِنْ قُلْت: فَائِدَتُهُ إفَادَةُ الْعُمُومِ، قُلْت: الْعُمُومُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَفْهُومِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي " حَتَّى " الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ قَدْ تَكُونُ لِلْغَايَةِ وَلِمُجَرَّدِ السَّبَبِيَّةِ وَالْمُجَازَاةِ وَلِلْعَطْفِ الْمَحْضِ أَيْ: التَّشْرِيكِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ غَايَتِهِ وَسَبَبِيَّتِهِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فَإِنَّ الْقَتْلَ يَصْلُحُ لِلِامْتِدَادِ، وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ يَصْلُحُ مُنْتَهًى لَهُ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] أَيْ تَسْتَأْذِنُوا، فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ بَيْتِ الْغَيْرِ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ، وَالِاسْتِئْذَانُ يَصْلُحُ مُنْتَهًى لَهُ. وَجَعَلَ حَتَّى هَذِهِ دَاخِلَةً عَلَى الْفِعْلِ نَظَرًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَإِلَّا فَالْفِعْلُ

من أدوات المعاني إذن

مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ " أَنْ " فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى الِاسْمِ، هَذَا إذَا احْتَمَلَ صَدْرُ الْكَلَامِ الِامْتِدَادَ وَالْآخَرُ الِانْتِهَاءَ إلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ. فَإِنْ صَلَحَ الصَّدْرُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلثَّانِي كَانَتْ بِمَعْنَى " كَيْ " فَتُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ وَالْمُجَازَاةَ، نَحْوُ أَسْلَمْت حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِذَلِكَ فَهِيَ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى غَايَةٍ أَوْ مُجَازَاةٍ. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي إذَنْ] إذَنْ: لِلْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ: تَقُولُ لِمَنْ قَالَ: أَنَا أَزُورُك: إذَنْ أُكْرِمَك، وَتَأْتِي صِلَةً إذَا كَانَتْ مُتَوَسِّطَةً. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إنِّي - إذَنْ - صَائِمٌ) خَبَرٌ عَنْ صِيَامٍ مُتَقَدِّمٍ لَا عَنْ صِيَامٍ ابْتَدَأَهُ لِوَقْتِهِ. وَحَاوَلُوا بِهَذَا الرَّدَّ عَلَى مَنْ حَاوَلَ إنْشَاءَ الصَّوْمِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَدَافَعُوا بِهَذَا التَّأْوِيلِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَرَى لِمَا قَالُوهُ وَجْهًا. أَمَّا كَوْنُهَا هَاهُنَا مُلْغَاةً فَصَحِيحٌ؛ لِأَنَّهَا حَالَتْ بَيْنَ حَرْفِ " أَنْ " وَاسْمِهَا وَبَيْنَ الْخَبَرِ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَقَدَ الصَّوْمَ الْآنَ أَوْ سَبَقَ بَلْ قَوْلُهُ: صَائِمٌ اسْمُ فَاعِلٍ يَحْتَمِلُ الْحَالَ. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي مَتَى] مَتَى: شَرْطٌ يُجْزَمُ بِهِ الْمُضَارِعُ، مِثْلُ مَتَى تَخْرُجْ أَخْرُجْ، وَهِيَ لَازِمَةٌ

من أدوات المعاني إلا

لِلظَّرْفِيَّةِ لَا تَتَجَرَّدُ عَنْهَا بِخِلَافِ " إذَا " فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا " إذَا " مُتَمَحِّضًا لِلشَّرْطِ بِوَاسِطَةِ وُقُوعِهِ فِي بَيْتٍ شَاذٍّ جَازِمًا لِلْمُضَارِعِ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا " مَتَى " مُتَمَحِّضًا لِلشَّرْطِ مَعَ دَوَامِ ذَلِكَ فِيهِ. وَحَقُّهُ فِي اللُّغَةِ التَّكْرَارُ، وَاصْطَلَحَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، كَقَوْلِك: إذَا فَعَلَتْ. قَالَهُ فِي الْقَوَاطِعِ ". قَالَ: وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا إذَا فَعَلَتْ. بِخِلَافِ " كُلَّمَا " فَإِنَّهَا لِلتَّكْرَارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ: لَوْ قَالَ: مَتَى خَرَجْت، أَوْ مَتَى مَا، أَوْ مَهْمَا، كَكُلَّمَا، فِي اقْتِضَاءِ التَّكْرَارِ، وَهُوَ خِلَافُ قَضِيَّتِهِ فِي الْأُمِّ ". انْتَهَى. وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ عَنْ ابْنِ جِنِّي أَنَّ " مَهْمَا " لِلتَّكْرَارِ بِخِلَافِ " مَتَى ". [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي إلَّا] إلَّا: لِلِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَأْتِي بِمَعْنَى " سِوَى " وَذَلِكَ فِي اسْتِثْنَاءٍ زَائِدٍ مِنْ نَاقِصٍ: قَالَ تَعَالَى {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] يَعْنِي سِوَى مَا شَاءَ رَبُّك مِنْ زِيَادَةِ الْمُضَاعَفَةِ لَا إلَى نِهَايَةٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا أَلْفَيْنِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ.

من أدوات المعاني ثم

قَالَ فِي الْقَوَاطِعِ ": وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ الْفُقَهَاءُ. قُلْت: لَكِنَّهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ يَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمَفْهُومِ، فَلَمَّا قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا غَيْرُهَا، وَهَذَا عَامٌّ فَاسْتَثْنَى مِنْهُ أَلْفَيْنِ. وَتَجِيءُ بِمَعْنَى " غَيْرَ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وَجَعَلَ الْخَطَّابِيُّ مِنْهُ قَوْلَنَا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. قَالَ: فَإِلَّا هُنَا بِمَعْنَى غَيْرَ لَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إمَّا مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَمَنْ تَوَهَّمَ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ أَبْطَلَ. قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ: وَهَذَا تَوَهُّمٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا تَكُونَ " إلَّا " فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] وَقَوْلُهُ {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] اسْتِثْنَاءٌ وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى " غَيْرَ " وَلَا يَقُولهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ " إلَّا " إذَا كَانَتْ صِفَةً كَانَ الِاسْمُ الْوَاقِعُ بَعْدَهَا إعْرَابَ الْمَوْصُوفِ بِهِ، أَوْ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ. قَالَ: وَالِاسْمُ بَعْدَ " إلَّا " فِي الْآيَتَيْنِ مَنْصُوبٌ كَمَا تَرَى، وَلَيْسَ قَبْلَ " إلَّا " فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَنْصُوبٌ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَوْصُوفٌ بِإِلَّا. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي ثُمَّ] ثُمَّ: يَتَعَلَّقُ الْكَلَامُ فِيهَا بِمَبَاحِثَ.

الْأَوَّلُ: فِي التَّرْتِيبِ، وَهُوَ يَقْتَضِي عَلَى الصَّحِيحِ، وَنَقَلَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ عَنْ ابْنِ عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا كَالْوَاوِ فِي اقْتِضَاءِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ. وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ " وَقَفْت " إنْشَاءٌ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ التَّرْتِيبُ، كَقَوْلِك: بِعْتُك هَذَا ثُمَّ هَذَا، وَهَذَا غَلَطٌ، وَإِنَّمَا قَالَ الْعَبَّادِيُّ ذَلِكَ إذَا قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ أَنَّهَا لِلْجَمِيعِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ عِنْدَهُ لِلْجَمْعِ لَا لِلتَّرْتِيبِ، وَالْكَلَامُ بِآخِرِهِ، فَالْجَمْعُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا مِنْ جِهَةِ " ثُمَّ ". وَنَقَلَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ " مِنْ النَّحْوِيِّينَ عَنْ ابْنِ الدَّهَّانِ أَنَّ الْمُهْلَةَ وَالتَّرْتِيبَ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَأَمَّا الْجُمَلُ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيهَا بَلْ قَدْ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا. قَالَ: وَالْأَصَحُّ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَعْنَاهَا أَيْنَمَا وَقَعَتْ وَتَأْوِيلُ مَا خَالَفَ مَعْنَاهَا وَنَقَلَ ابْنُ الْخَبَّازِ عَنْ شَيْخِهِ: أَنَّ " ثُمَّ " إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمَلِ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] إلَى قَوْلِهِ {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَمَّا فِي الزَّمَانِ نَحْوُ {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى} [المؤمنون: 45] وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} [المؤمنون: 12 - 13] أَوْ فِي الْمَرْتَبَةِ نَحْوُ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] أَوْ لِلتَّرْتِيبِ فِي الْأَخْبَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] وَالسَّمَاءُ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْأَرْضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وَقَالَ الرَّاغِبُ: تَقْتَضِي تَأَخُّرَ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهُ إمَّا تَأَخُّرًا بِالذَّاتِ أَوْ بِالْمَرْتَبَةِ أَوْ بِالْوَضْعِ، وَنَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ " فَصْلًا عَنْ

الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ بَرِّيٍّ فِي التَّرْتِيبِ بِ " ثُمَّ " ضَعَّفَ فِيهِ الْقَوْلَ بِالتَّرْتِيبِ الْإِخْبَارِيِّ. قَالَ: بَعْدَ أَنْ قَرَرْت أَنَّ " ثُمَّ " لِتَرْتِيبِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْوُجُودِ بِمُهْلَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الزَّمَانِ أَنَّ " ثُمَّ " تَأْتِي أَيْضًا لِتَفَاوُتِ الرُّتْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجِيءُ هَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودًا بِالْفَاءِ الْعَاطِفَةِ، نَحْوَ خُذْ الْأَفْضَلَ فَالْأَكْمَلَ، وَاعْمَلْ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ، وَنَحْوُ «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ» ، فَالْفَاءُ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْفَضْلِ مِنْ الْكَمَالِ وَالْحُسْنِ فِي الْحَالِ، وَفِي الثَّانِي لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْمُحَلِّقِينَ مِنْ الْمُقَصِّرِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَلْقِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات: 1] {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات: 2] تَحْتَمِلُ الْفَاءُ فِيهِ الْمَعْنَيَيْنِ مَجَازًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ تَفَاوُتُ رُتْبَةِ الصَّفِّ مِنْ الزَّجْرِ، وَرُتْبَةِ الزَّجْرِ مِنْ التِّلَاوَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا تَفَاوُتُ رُتْبَةِ الْجِنْسِ الصَّافِّ مِنْ الْجِنْسِ الزَّاجِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَفِّهِمْ وَزَجْرِهِمْ، وَرُتْبَةُ الْجِنْسِ الزَّاجِرِ مِنْ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إلَى زَجْرِهِ وَتِلَاوَتِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: هِيَ لِتَرْتِيبِ الْجُمَلِ فِي الْأَخْبَارِ لَا لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِيَّةِ فِي الْوُجُودِ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي الْمَعْنَى لِبُعْدِ الْمُهْلَةِ فِيهِ حَقِيقَةً. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِهِ بِقَوْلِ: إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الِابْنِ مِنْ أَبِيهِ أَوْ لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ سِيَادَتِهِ مِنْ سِيَادَةِ أَبِيهِ. وَمَجَازُ اسْتِعْمَالِهَا لِتَفَاوُتِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمُهْلَةِ وَالتَّفَاوُتُ بِمُهْلَةٍ فِي الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ الِانْفِصَالُ. قُلْت: وَهَذَا طَرِيقٌ آخَرُ لِلتَّرْتِيبِ وَهُوَ التَّرْتِيبُ بِالرُّتَبِ. أَعْنِي تَفَاوُتَ

رُتَبِ الْفِعْلِ أَوْ رُتَبِ الْفَاعِلِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي الْفَاءِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] فَالْفَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] إنَّمَا دَخَلَتْ لِتُبَيِّنَ حُكْمَ الْمَوْلَى فِي زَمَنِ التَّرَبُّصِ بِجُمْلَتَيْ الشَّرْطِ بَعْدَهَا لَا لِتَعْقِيبِهَا زَمَنَ التَّرَبُّصِ. وَهَكَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ: وَلَا يُفْصَلُ بِ ثُمَّ، وَالْفَاءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَرْتِيبٌ وُجُودِيٌّ بَلْ تَفْصِيلٌ مَعْنَوِيٌّ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَك: اغْتَسَلَ، فَأَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ لَيْسَ الْقَصْدُ بِهِ إلَّا الْبَيَانَ لَا التَّرْتِيبَ؟ فَلَوْ قَدَّمْتَ أَوْ أَخَّرْتَ جَازَ، وَكَذَا لَوْ أَتَيْتَ بِالْفَاءِ مَوْضِعَ " ثُمَّ " فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ جَازَ أَنْ يُقْصَدَ التَّرْتِيبُ، وَجَازَ أَنْ يُقْصَدَ التَّفْصِيلُ، نَحْوُ تَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ. فَإِنْ أَرَدْتَ التَّرْتِيبَ لَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَإِنْ أَرَدْتَ التَّفْصِيلَ جَازَ. وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ ثُمَّ وَالْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ حَمْلًا عَلَى " أَوْ " فِي نَحْوِ قَوْلِك: الْجِسْمُ إمَّا سَاكِنٌ أَوْ مُتَحَرِّكٌ. الْإِنْسَانُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى. قَالَ الشَّيْخُ: وَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ بَرِّيٍّ مِنْ أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمُبْهَمَ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِي اقْتِضَائِهَا التَّرَاخِيَ، وَكَمَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ يُوجِبُ تَرَاخِيَ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ وَالْمُهْلَةَ بَيْنَهُمَا، وَعَدَمَ الْفَوْرِيَّةِ وَالْمُهْلَةِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْخَشَّابِ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ مَا بَعْدَهَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ، كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي الْفَاءِ، فَلَا تَقُولُ: إنْ تَقُمْ ثُمَّ أَنَا أَقُومُ كَمَا قُلْت: إنْ تَقُمْ فَأَنَا أَقُومُ وَقَالَ ابْنُ يَعِيشَ: وَلَمَّا تَرَاخَى لَفْظُهَا بِكَثْرَةِ حُرُوفِهَا تَرَاخَى مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّ

قُوَّةَ اللَّفْظِ مُؤْذِنَةٌ بِقُوَّةِ الْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ تَرَاخِيَ مَعْنَاهَا يَقَعُ كَتَرَاخِي لَفْظِهَا، وَهُوَ مَعْلُولٌ لَهُ. قَالَ: وَهُوَ عَكْسُ مَا وَجَدْتُهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عُصْفُورٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَعَرَّضَ لِبَيَانِ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ إنَّ " ثُمَّ " مِثْلُ الْفَاءِ إلَّا أَنَّ فِيهَا مُهْلَةً. قَالَ: فَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي التَّرْتِيبِ إلَّا أَنَّهُ تَرْتِيبٌ فِيهِ مُهْلَةٌ وَتَرَاخٍ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّتْ بِمَعْنًى يَزِيدُ عَلَى مَعْنَى الْفَاءِ خُصَّ لَفْظُهَا بِلَفْظٍ أَزْيَدَ مِنْ لَفْظِ الْفَاءِ وَكَانَتْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَرْفٍ، وَالْفَاءُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ اللَّفْظِ تَبَعًا لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ اللَّفْظُ مُوَافِقًا لِمَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ أَنَّ الْوَاوَ وَهِيَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْوَاوُ وَالْمِيمُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَخْرَجِ؛ إذْ الْفَاءُ مِنْ بَاطِنِ الشَّفَةِ وَالْوَاوُ وَالْمِيمُ مِنْ نَفْسِ الشَّفَةِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ تَجْمَعُ مَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَخُصَّتْ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ غَيْرِهَا. وَلَمَّا اخْتَصَّتْ " ثُمَّ " بِمَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الْفَاءِ اخْتَصَّتْ بِالثَّاءِ الْمُقَارِبَةِ لِمَخْرَجِ الْفَاءِ لِتَدُلَّ عَلَى مَعْنًى ثَالِثٍ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي اقْتِضَائِهَا التَّرَاخِيَ. وَكَلَامُ ابْنِ الْخَشَّابِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْمُفْرَدَاتِ وَأَنَّهُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَمَا سَبَقَ مِثْلُهُ فِي التَّرْتِيبِ. قَالَ: وَقَدْ يَتَجَرَّدُ عَنْ التَّرَاخِي إذَا كُرِّرَتْ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ - ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17 - 18] وَالْمَعْطُوفُ هُنَا هُوَ لَفْظُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ - ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3 - 4] وَالْمَعْطُوفَاتُ كُلُّهَا جُمَلٌ فِيهَا مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: التَّرَاخِي ظَاهِرٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَأَخُّرِ الْعَوْدِ عَنْ الظِّهَارِ بِفَصْلٍ، وَهُوَ زَمَنُ إمْكَانِ الطَّلَاقِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَثَرِ التَّرَاخِي، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ رَاجِعٌ إلَى التَّكَلُّمِ بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ الْمُطْلَقِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَكَتَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلًا بَعْدَ الْأَوَّلِ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: رَاجِعٌ إلَى الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْلِ فِي الْمُتَكَلِّمِ لِمُرَاعَاةِ مَعْنَى الْعَطْفِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُنْفَصِلٌ حَقِيقَةً أَوْ حِسًّا، فَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ كَذَلِكَ فَإِذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٍ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ فِي الْحُكْمِ مُنْقَطِعًا وَقَعَ وَاحِدَةٌ فِي الْحَالِ، وَيُلْغَى الْبَاقِي، لِعَدَمِ الْمَحَلِّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّقْ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ فَكَذَا هُنَا، وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُتَّصِلًا حُكْمًا تَعَلَّقَتْ جَمِيعًا بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ عَمَلًا بِالتَّرَاخِي. الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لِلتَّرَاخِي فَلَا دَلِيلَ عَلَى مِقْدَارِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَهُ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالتَّرَاخِي الزَّمَانِيُّ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي تَرَاخِي الرُّتْبَةِ أَوْ فِي تَرَاخِي الْأَخْبَارِ كَانَ مَجَازًا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ أَعْنِي التَّرَاخِيَ فِي الزَّمَانِ وَالرُّتْبَةِ وَالْأَخْبَارِ. الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّرَاخِيَ قَدْ يَتَزَايَدُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا قُلْت: جَاءَ زَيْدٌ ثُمَّ جَاءَ عَمْرٌو كَانَ أَدَلَّ عَلَى التَّرَاخِي مِنْ قَامَ زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو، فَإِنْ تَغَايَرَ الْفِعْلَانِ فَقُلْت: قَامَ زَيْدٌ ثُمَّ انْطَلَقَ كَانَ كَالثَّانِي، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] فَعَطَفَ أَوَّلًا بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا نُطَفًا فَجَعَلَ فِيهِمْ حَيَاةً عَقِبَ حَالَةِ كَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا، ثُمَّ تَرَاخَى حَالَةَ إمَاتَتِهِمْ بِمُدَّةِ حَيَاتِهِمْ وَآجَالِهِمْ الْمَقْسُومَةِ فَعَطَفَ الْإِمَاتَةَ، ثُمَّ تَرَاخَى الْإِحْيَاءُ الْمُتَعَقِّبُ عَنْ الْإِمَاتَةِ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ فَعَطَفَ {يُحْيِيكُمْ} بِ ثُمَّ، ثُمَّ تَرَاخَى الْإِحْيَاءُ لِلْبَعْثِ عَنْ الْإِمَاتَةِ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ فَعَطَفَ عَلَيْهِمْ بِ ثُمَّ، ثُمَّ إلَيْهِ الرُّجُوعُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ.

من أدوات المعاني إنما

قِيلَ: وَيَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} [يونس: 46] قَالُوا: هِيَ فِيهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ صِفَةُ ذَاتٍ، وَهِيَ قَدِيمَةٌ، وَالتَّعْقِيبُ بِالتَّرَاخِي لَا يُوصَفُ بِهِ الْقَدِيمُ. وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا صِفَةُ فِعْلٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ. وَقَدْ تَأَوَّلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِوَاءِ هُنَا الِاسْتِعَارَةُ فَإِنَّهُ - تَعَالَى - فَرَغَ مِنْ إكْمَالِ الْخَلِيقَةِ وَأَمَرَ وَنَهَى وَكَلَّفَ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ إكْمَالِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ هَذَا الْمَعْنَى فَيَصِحُّ فِيهِ التَّعْقِيبُ. [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي إنَّمَا] إنَّمَا: وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ: هَلْ هِيَ تُفِيدُ الْحَصْرَ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ. وَإِذَا قُلْنَا: تُفِيدُهُ، فَهَلْ هُوَ بِالْمَنْطُوقِ يَعْنِي أَنَّهَا وُضِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا أَيْ: لِإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ أَوْ لِلْإِثْبَاتِ خَاصَّةً وَلِلنَّفْيِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ؟ قَوْلَانِ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرُّوذِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي التَّبْصِرَةِ " قَالَ: مَعَ نَفْيِهِ الْقَوْلَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لَكِنَّ الْمَاوَرْدِيَّ فِي أَقْضِيَةِ الْحَاوِي " نَقَلَ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ وَابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ مِنْ الِاحْتِمَالِ. وَبِالثَّانِي قَالَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَذَكَرَاهُ فِي بَحْثِ الْمَفَاهِيمِ، وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ.

وَقَالَ ابْنُ الْخُوبِيِّ: هَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ إثْبَاتٌ فَالْحَصْرُ ثَابِتٌ بِالْمَنْطُوقِ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي جَرَيَانَ هَذَا الْخِلَافِ فِي " مَا " وَ " إلَّا " وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا لَا تُفِيدُهُ أَصْلًا هُوَ رَأْيُ الْآمِدِيَّ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْإِثْبَاتِ وَبِهِ يُشْعِرُ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ مَعْنًى، فَمَا الْكَافَّةُ تَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ دُونَهَا تَقُولُ: إنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، وَإِنَّمَا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي النُّكَتِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ. قَالَ: وَهُوَ يُحْكَى عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَنَصَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ النَّحْوِيُّ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ. وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ. وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْحَصْرِ، وَيَحْتَمِلُ التَّأْكِيدَ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَوَافَقَهُ إلْكِيَا، وَاَلَّذِي فِي التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي أَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ وَمُحْتَمِلَةٌ لِلْحَصْرِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلَتْهَا لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي الْحَصْرِ. وَأَنْكَرَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمُسْتَصْفَى " وَالْعَبْدَرِيُّ فِي شَرْحِهِ " إفَادَتَهَا الْحَصْرَ وَقَالَا: إنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ: وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّيْءِ. قَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: قَالَ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ: مَعْنَاهَا الِاقْتِصَارُ كَقَوْلِك: إنَّمَا زَيْدٌ شُجَاعٌ، لِمَنْ ادَّعَى لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ، وَالتَّحْقِيرُ كَقَوْلِك: إنَّمَا وَهَبَتْ دِرْهَمًا، لِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ وَهَبَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى الِاقْتِصَارِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي رَدِّ النَّفْيِ إلَى حَقِيقَتِهِ إذَا وُصِفَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] .

وَهُوَ رَاجِعٌ لِلْأَوَّلِ. قَالَا: فَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي بِالْحَصْرِ الِاقْتِصَارَ فَقَدْ أَصَابَ، وَإِلَّا فَفِيهِ نَظَرٌ. وَتَابَعَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ فِي إنْكَارِ إفَادَتِهَا الْحَصْرَ، وَقَالَ: إنَّهُ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ عَجِيبٌ، فَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ السَّيِّدِ فِي الِاقْتِضَابِ " عَنْ الْكُوفِيِّينَ. فَقَالَ: وَذَكَر الْكُوفِيُّونَ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: . وَإِنَّمَا ... يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي وَمَعْنَاهُ مَا يُدَافِعُ إلَّا أَنَا أَوْ مِثْلِي هَذَا كَلَامُهُ. وَفِي الزَّاهِرِ " لِلْأَزْهَرِيِّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهَا تَقْتَضِي إيجَابَ شَيْءٍ وَنَفْيَ غَيْرِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْبُرْهَانِ ": قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: 173] أَنْ تَكُونَ " مَا " هِيَ الَّتِي تَمْنَعُ " إنَّ " مِنْ الْعَمَلِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا الْمَيْتَةَ؛ لِأَنَّ " إنَّمَا " تَأْتِي لِإِثْبَاتِ مَا بَعْدَهَا وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الشِّيرَازِيَّاتِ " يَقُولُ نَاسٌ مِنْ النَّحْوِيِّينَ {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] الْمَعْنَى: مَا حَرَّمَ إلَّا الْفَوَاحِشَ، قَالَ: وَأُجِيبَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ. . وَإِنَّمَا ... يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي وَعَزَاهُ ابْنُ السَّيِّدِ لِلْكُوفِيِّينَ، وَلَمْ يَعْنُوا بِذَلِكَ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَادِفِينَ فَإِنَّهُ

يَمْتَنِعُ إيقَاعُ كُلٍّ مِنْهَا مَوْضِعَ الْآخَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُمَا لِلْحَصْرِ الرُّمَّانِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36] فَقَالَ: إنَّمَا تُفِيدُ تَخْصِيصَ الْمَذْكُورِ بِالصِّفَةِ دُونَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ " إنَّ " كَقَوْلِك: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَا تَمْنَعُ هَذِهِ الصِّيغَةُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ فِيهَا كَمَا مَنَعَ إنَّمَا هُمْ فِي الْجَنَّةِ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَكَذَا ابْنُ عَطِيَّةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: سَمِعَتْ عَلِيَّ بْنَ إبْرَاهِيمَ الْقَطَّانَ يَقُولُ: سَمِعْت ثَعْلَبًا يَقُولُ: سَمِعْت سَلَمَةَ يَقُولُ: سَمِعَتْ الْفَرَّاءَ يَقُولُ: إذَا قُلْت: إنَّمَا قُمْت، فَقَدْ نَفَيْت عَنْ نَفْسِك كُلَّ فِعْلٍ إلَّا الْقِيَامَ، وَإِذَا قُلْت: إنَّمَا قَامَ أَنَا، فَقَدْ نَفَيْت الْقِيَامَ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ وَأَثْبَتَّهُ لِنَفْسِك. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ إلَّا رَدًّا عَلَى أَمْرٍ، وَلَا يَكُونُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَاَلَّذِي قَالَهُ الْفَرَّاءُ صَحِيحٌ وَحُجَّتُهُ: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ لِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، وَإِلَّا لَوَرَدَ عَلَيْهِ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَنَحْوُهُ.

مِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَبَّلْ مِنْ أَخِيهِ، فَلَوْ كَانَ يَتَقَبَّلُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ لَمْ يَجُزْ الرَّدُّ عَلَى الْأَخِ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ فَوَاتَ مَعْنًى فِي الْمُتَقَرَّبِ بِهِ لَا فِي الْفَاعِلِ لَمْ يَحْسُنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اسْتَوَيْنَا فِي الْفِعْلِ وَانْحَصَرَ الْقَبُولُ فِي بِعِلَّةِ التَّقْوَى، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 20] فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْحَصْرِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَعَلَيْك الْبَلَاغُ، وَهُوَ عَلَيْهِ الْبَلَاغُ تَوَلَّوْا أَمْ لَا، وَإِنَّمَا الَّذِي رَتَّبَ عَلَى تَوَلِّيهمْ نَفْيَ غَيْرِ الْبَلَاغِ لِيَكُونَ تَسْلِيَةً لَهُ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ لَا يَضُرُّهُ، وَهَكَذَا أَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا يَقْطَعُ النَّاظِرُ بِفَهْمِ الْحَصْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12] {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت: 17] {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 24] {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 169] {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} [التوبة: 93] {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 45] {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] {إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام: 109] وقَوْله تَعَالَى.

{إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ - قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} [هود: 26 - 33] {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187] فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهَا مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ إذَا كَانَتْ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ، لِيَكُونَ مَعْنَاهَا لَا آتِيكُمْ إنَّمَا يَأْتِي بِهِ اللَّهُ، وَلَا أَعْلَمُهَا إنَّمَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ، وَقَوْلُهُ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ مَجِيئَهَا لِلتَّحْقِيرِ تَقُولُ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مُحَقِّرًا لِنَفْسِك، وَرَدَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] وَحَكَى ابْنُ بَابْشَاذَ عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّهَا تَجِيءُ لِلتَّعْلِيلِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ: إنَّمَا سِرْت حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَّك إذَا بَيَّتَّ السَّيْرَ وَقِيلَ: تَجِيءُ لِلتَّأْكِيدِ نَحْوُ إنَّمَا الرَّجُلُ زَيْدٌ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا فِيهِ لِلْحَصْرِ الْمَجَازِيِّ، أَوْ بِجَعْلِ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفِ وَاللَّامِ الَّتِي فِي الرَّجُلِ بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ لِلْكَمَالِ وَيَحْصُرَ الْكَمَالَ فِيهِ. الثَّانِي: مِنْ الْمَوَاضِعِ فِي سَبَبِ إفَادَتِهَا الْحَصْرَ وَيُعْرَفُ مِنْ أَنَّهَا مُفْرَدَةٌ أَوْ مَرْكَبَةٌ، وَفِيهِ طُرُقٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ وُضِعَتْ لِلْحَصْرِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَرْكِيبٍ وَمِنْ غَيْرِ وَضْعِهَا لِمَعْنًى، ثُمَّ نَقْلُهَا لِمَعْنَى الْحَصْرِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّرْكِيبِ وَالنَّقْلِ، وَكَوْنُهَا عَلَى صُورَةٍ " إنَّ " مَعَ " مَا " لَا يَسْتَدْعِي

التَّرْكِيبَ مِنْهُمَا بَلْ الْمَجْمُوعُ حَرْفٌ وَاحِدٌ، كَمَا أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ لَفْظِ إنْسَانٍ عَلَى صُورَةِ حَرْفِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ مَرْكَبًا مِنْهُ. الثَّانِيَةُ: لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّ أَنَّ " إنَّ " لِلْإِثْبَاتِ وَ " مَا " لِلنَّفْيِ فَإِذَا جُمِعَا فَقِيلَ: إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، فَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَعْنَاهُ بَعْدَ التَّرْكِيبِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مُتَوَجِّهَيْنِ إلَى الْمَذْكُورِ، وَلَا إلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِ لِلتَّنَاقُضِ، بَلْ أَحَدُهُمَا لِلْمَذْكُورِ وَالْآخَرُ لِغَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ " إنَّ " لِإِثْبَاتِ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ وَ " مَا " لِنَفْيِ الْمَذْكُورِ وِفَاقًا، فَتَعَيَّنَ عَكْسُهُ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَصْرِ. وَرُدَّ بِأَنَّ حُكْمَ الْإِفْرَادِ غَيْرُ حُكْمِ التَّرْكِيبِ، وَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُمَا كَلِمَتَيْنِ بَلْ كَلِمَةً وَاحِدَة وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّرْكِيبِ وَالنَّقْلِ، وَأَيْضًا حُكْمُ غَيْرِهِ لَمْ يُذْكَرْ فَكَيْفَ يُنْفَى حُكْمُهُ؟ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ، وَهُمَا أَنْ " إنَّ " لِلْإِثْبَاتِ وَ " مَا " لِلنَّفْيِ، لَكِنَّهُمَا مَمْنُوعَتَانِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ أَمَّا " إنَّ " فَلَيْسَتْ لِلْإِثْبَاتِ، وَلَا مَا لِلنَّفْيِ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِهَا مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا. تَقُولُ: إنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَإِنَّ زَيْدًا لَا يَقُومُ، فَلَوْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ تُسْتَعْمَلْ مَعَهُمَا، وَأَمَّا " مَا " فَلَيْسَتْ لِلنَّفْيِ وَإِنَّمَا هِيَ كَافَّةٌ. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكُفْرَ حُكْمٌ لَفْظِيٌّ لَا يُنَافِي أَنْ يُقَارِنَهُ حُكْمٌ مَعْنَوِيٌّ، وَاسْتَدَلَّ السَّكَّاكِيُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَافِيَةٍ بِأَنَّ النَّافِيَةَ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَبِأَنَّهُ يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ حَرْفَيْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بِلَا فَاصِلٍ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ النَّافِيَةَ لَجَازَ نَصْبُ قَائِمٍ فِي: إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ وَإِنْ زِيدَ يَعْمَلُ، وَلَكَانَ مَعْنَى إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ تَحَقُّقَ عَدَمِ قِيَامِ زَيْدٍ؛ لِأَنَّ مَا يَلِي النَّفْيَ مَنْفِيٌّ، وَالتَّوَالِي الْأَرْبَعَةُ بَاطِلَةٌ.

وَانْتَصَرَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ لِلْإِمَامِ، وَقَالَ: مُرَادُهُ أَنَّ كَلِمَةَ " إنَّمَا " هَكَذَا لِلْحَصْرِ كَسَائِرِ الْكَلِمَاتِ الْمُرَكَّبَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِمَعْنًى، لَا أَنَّ لَفْظَةَ " إنَّ " وَلَفْظَةَ " مَا " رُكِّبَتَا وَبَقِيَتَا عَلَى أَصْلِهِمَا حَتَّى لَا يَرِدَ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضَاتُ، وَمَا ذَكَره الْإِمَامُ بَيَانُ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ النَّقْلُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ قَوْلَك: " مَا " لِنَفْيِ غَيْرِ الْمَذْكُورِ كَنَفْيِ غَيْرِ قِيَامِ زَيْدٍ فِي قَوْلِك: إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِنَفْيِ قِيَامِ غَيْرِ زَيْدٍ؟ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ كَوْنُ " مَا " هُنَا لِلنَّفْيِ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَشْتَمَّ رَائِحَةَ النَّحْوِ. قُلْت: قَدْ حَكَاهُ فِي الْمَحْصُولِ " عَنْ الْفَارِسِيِّ فِي الشِّيرَازِيَّاتِ " أَنَّهُ حَكَاهُ عَنْ النَّحْوِيِّينَ، قَالَ: وَقَوْلُهُمْ حُجَّةٌ، لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ فِي الْمُغْنِي " لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ الْفَارِسِيُّ فِي الشِّيرَازِيَّاتِ " وَلَا قَالَهُ نَحْوِيٌّ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الشِّيرَازِيَّاتِ " أَنَّ الْعَرَبَ عَامَلُوا " إنَّمَا " مُعَامَلَةَ النَّفْيِ، وَإِلَّا فِي فَصْلِ الضَّمِيرِ. قُلْت: سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إشْرَابَهَا مَعْنَى النَّفْيِ أَيْضًا وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِيِّينَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " مَا نَصُّهُ: تَأَوَّلَ قَوْمٌ " إنَّمَا " عَلَى مَعْنَى مَا وَإِلَّا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: وَإِنَّمَا ... يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي وَهَذَا قَوْلٌ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ عَنْ بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [الأعراف: 33] أَيْ مَا حَرَّمَ إلَّا الْفَوَاحِشَ، وَهَذَا قَوْلٌ لَا نَتَبَيَّنُ صِحَّتَهُ عِنْدَنَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] . انْتَهَى.

وَسَيَأْتِي جَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْحَصْرِ لَكِنَّهُ مَجَازِيٌّ. الثَّالِثَةُ: " إنَّ " لِلتَّأْكِيدِ وَ " مَا " حَرْفٌ زَائِدٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَلَا فَائِدَةَ لَهُمَا مُجْتَمَعَيْنِ إلَّا الْحَصْرَ؛ لِأَنَّهُ تَأْكِيدٌ ثَانٍ، وَهَذَا حَكَاهُ السَّكَّاكِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى وَاسْتَلْطَفَهُ. وَحَكَاهُ ابْنُ بَابْشَاذَ فِي شَرْحِ الْجُمَلِ " عَنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ عَنْ غَيْرِهِ لَيْسَ تَأْكِيدًا لِثُبُوتِهِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ. وَيَرُدُّهُ اجْتِمَاعُ " إنَّ " وَ " مَا " النَّافِيَتَيْنِ وَلَا يُفِيدُ إلَّا النَّفْيَ، وَكَذَلِكَ يَجْتَمِعُ الْمُؤَكِّدَانِ وَلَا يُفِيدُ إلَّا التَّأْكِيدَ وَأَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّفْيَ قَدْ يُنْفَى وَأَيْضًا فَإِنَّك تَقُولُ: قَامَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ وَلَيْسَ بِحَصْرٍ وَنَقُولُ: وَاَللَّهِ إنَّ زَيْدًا لَيَقُومَنَّ فَقَدْ حَصَلَ التَّأْكِيدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِاقْتِضَائِهِ الْحَصْرَ. قَالَ الْقَاضِي الْعَضُدُ: وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الرَّبَعِيُّ مِنْ بَابِ إيهَامِ الْعَكْسِ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ الْقَصْرَ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ ظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ كَانَ حَصْرًا، وَأَيْضًا يَلْزَمُ تَخْصِيصُ كَوْنِهِ لِلْحَصْرِ بِمَا وَقَعَ فِي جَوَابِ الرَّدِّ لَكِنَّهُ لِلْحَصْرِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ. الرَّابِعَةُ: لِلْإِمَامِ فِي الْمَعَالِمِ " وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ فَهِمُوا ذَلِكَ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَهِمَ الْحَصْرَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَخَالَفَهُ الصَّحَابَةُ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي فَهْمِهِ الْحَصْرَ، فَكَانَ إجْمَاعًا. انْتَهَى، وَهُوَ حَسَنٌ إلَّا أَنَّ فِيهِ نَظَرًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةُ: «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» فَلَعَلَّهُ فَهِمَ الْحَصْرَ مِنْ هَذِهِ الصِّيغَةِ لَا مِنْ إنَّمَا وَلَوْ أَنَّهُ ذَكَرَ

أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمَتْهُ مِنْ قَوْلِهِ «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» لَكَانَ أَقْرَبَ. ثَانِيهمَا: أَنَّ الْمُخَالِفَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَ جَمِيعَ أَوْجُهِ الِاعْتِرَاضِ بَلْ قَدْ يَكْتَفِي بِأَحَدِهَا إذَا كَانَ قَوِيًّا ظَاهِرًا، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اسْتِنَادِهِمْ إلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَاقْتِصَارِهِمْ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ كَوْنِهَا لِلْحَصْرِ. الْخَامِسَةُ: اخْتِيَارُ السَّكَّاكِيِّ وَهُوَ أَقْرَبُهَا: أَنَّا وَجَدْنَا الْعَرَبَ عَامَلَتْهَا فِي الْكَلَامِ مُعَامَلَةَ إلَّا الْمَسْبُوقَةِ بِالنَّفْيِ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِلْحَصْرِ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: قُمْت وَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ، وَلَا يَقُولُونَ: قَامَ أَنَا، وَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ، فَإِذَا أَدْخَلُوهَا قَالُوا: إنَّمَا قَامَ أَنَا وَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ، كَمَا يَقُولُونَ: مَا قَامَ إلَّا أَنَا، فَأَجْرَوْا الضَّمِيرَ مَعَ إنَّمَا مَجْرَى الْمُضْمَرِ مَعَ إلَّا وَتِلْكَ تُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِهِ: مَا قَطَرَ الْفَارِسَ إلَّا أَنَا. الثَّالِثُ: الْقَائِلُونَ بِالْحَصْرِ قَالَ مُحَقِّقُوهُمْ: هِيَ حَاصِرَةٌ أَبَدًا لَكِنْ يَخْتَلِفُ حَصْرُهَا فَقَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] وَقَدْ يَكُونُ مَجَازِيًّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ، نَحْوُ إنَّمَا الشُّجَاعُ عَنْتَرَةُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَهُ: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ} [النحل: 105] وَقَوْلَهُ: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى التَّوَاضُعِ وَالْإِخْبَاتِ أَيْ: مَا أَنَا إلَّا عَبْدٌ مُتَوَاضِعٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تَارَةً يَكُونُ مُطْلَقًا، نَحْوُ {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] وَتَارَةً يَكُونُ مَخْصُوصًا بِقَرِينَةٍ، نَحْوُ {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]

فَإِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي النِّذَارَةِ {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] وَلَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَزْرَعَةٌ لِلْآخِرَةِ وَإِنَّمَا الْحَصْرُ بِالنِّسْبَةِ، فَقَوْلُهُ: إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ لِنَفْيِ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى إنْزَالِ مَا اقْتَرَحُوهُ مِنْ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} [المائدة: 99] وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} [محمد: 36] أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ آثَرَهَا وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهَا لِلْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": كَلِمَةُ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ، وَالْحَصْرُ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ تَخْصِيصٌ وَلَا تَقْيِيدٌ {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: 98] {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55] . وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ فِيمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ إمَّا فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودَ أَوْ فِي جَانِبِ النَّفْيِ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودَ، وَالْقَرَائِنُ تَرْشُدُ إلَى الْمُرَادِ، وَهُوَ فِي الْعُمَدِ الْكُبْرَى فِي فَهْمِهِ، نَحْوُ {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36]

{إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] فَإِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا " إنَّمَا " لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ بَلْ تَخْتَصُّ كَوْنَهَا لَعِبًا وَلَهْوًا بِمَنْ لَا يُرِيدُ بِعَمَلِهِ فِيهَا الْآخِرَةَ وَالتَّزَوُّدَ بِهَا، وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْحَصِرُ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَالنِّذَارَةِ بَلْ لَهُ أَوْصَافٌ أُخْرَى جَلِيلَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ وَالنِّذَارَةِ، لَكِنْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى صِفَةٍ تَقْتَضِي الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ، أَوْ أَنَّهَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ» ، وَفِي {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يُفْهَمُ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْإِيمَانِ قَهْرًا لِسَبْقِ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت: 6] أَيْ: وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا أَقْدِرُ عَلَى إجْبَارِكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ. وَكَذَلِكَ أَمْرُ النِّذَارَةِ لَا يَنْحَصِرُ فِيهَا {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] إذَا عَرَفَتْ هَذَا فَإِنْ دَلَّتْ الْقَرَائِنُ وَالسِّيَاقُ عَلَى التَّخْصِيصِ فَاحْمِلْهُ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ " إنَّمَا " عَلَى هَذَا حَمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ (إنَّمَا الرِّبَا) عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى نَفَى رِبَا الْفَضْلِ، وَقِيلَ: إنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَحَمَلَ غَيْرُهُ «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُوجِبْ الْغُسْلَ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَمَنْ خَالَفَ فِي الْأَمْرَيْنِ فَبِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ. الرَّابِعُ: زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْأَخِيرَ هُوَ الْمَحْصُورُ، فَإِذَا قُلْت: إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، فَالْقَائِمُ هُوَ الْمَحْصُورُ، وَإِذَا قُلْت: إنَّمَا الْمَالُ لَك، فَالْمَحْصُورُ أَنْتَ أَيْ: لَا غَيْرُك، وَإِذَا قُلْت: إنَّمَا لَك الْمَالُ، فَالْمَحْصُورُ الْمَالُ أَيْ: لَا غَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» لَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ؛ إذْ الْمَحْصُورُ النِّيَّةُ لَا الْعَمَلُ، وَلَكِنْ إجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ. وَأَجْمَعَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أُرِيدَ الْحَصْرُ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعَ " إنَّمَا " يَجِبُ تَأْخِيرُهُ وَتَقْدِيمُ الْآخَرِ، فَتَقُولُ: إنَّمَا ضَرَبَ عَمْرٌو هِنْدًا إذَا أَرَدْت الْحَصْرَ فِي الْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا ضَرَبَ هِنْدًا عَمْرٌو إذَا أَرَدْت الْحَصْرَ فِي الْفَاعِلِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إذَا كَانَ مَعَ " مَا " وَ " إلَّا " عَلَى ثَلَاثَةٍ مَذَاهِبَ: فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْجُزُولِيُّ وَالشَّلُوبِينَ إلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي " إنَّمَا " إنْ أُرِيدَ

من أدوات المعاني أنما

الْحَصْرُ فِيهِ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ كَ " إلَّا " وَتَقْدِيمُ غَيْرِ الْمَحْصُورِ. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ مِنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مَا جَازَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ " مَا " وَإِلَّا. وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْفَاعِلُ هُوَ الْمَقْرُونَ بِإِلَّا وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ، وَإِنْ كَانَ الْمَفْعُولُ هُوَ الْمَقْرُونَ بِإِلَّا لَمْ يَجِبْ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ، بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَتَأْخِيرُهُ. وَحَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ النَّحَّاسِ فِي التَّعْلِيقَةِ ". [مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي أَنَّمَا] الْخَامِسُ: ادَّعَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ " أَنَّ " أَنَّمَا " الْمَفْتُوحَةَ لِلْحَصْرِ. قَالَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108] وَبِهِ صَرَّحَ التَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ " وَأَنْكَرَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَيَّانَ، وَقَالَ: إنَّمَا يُعْرَفُ فِي الْمَكْسُورَةِ لَا الْمَفْتُوحَةِ. وَاعْتِرَاضُهُ مَرْدُودٌ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَكْسُورَةَ هِيَ الْأَصْلُ، وَأَنَّ الْمَفْتُوحَةَ فَرْعُهَا عَلَى الصَّحِيحِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْمَكْسُورَةِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهَا الْفَتْحُ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْمُفْرَدِ، فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي بَقَاءَ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَثَانِيهمَا: أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ بَنَاهُ عَلَى رَأْيِهِ فِي إنْكَارِ الصِّفَاتِ. نَعَمْ رَأَيْت فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ " مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي الْحَصْرَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ " إنَّمَا " وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ " أَنَّ " يَقَعَ " أَنَّمَا " وَمَا بَعْدَهَا صِلَتُهَا كَمَا فِي " الَّذِي " وَلَا تَكُونُ هِيَ عَامِلَةً فِيمَا بَعْدَهَا كَمَا لَا يَكُونُ " الَّذِي " عَامِلًا

قواعد نافعة الأولى حروف الجر

فِيمَا بَعْدُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] فَإِنَّمَا وَقَعَتْ " أَنَّمَا " هَاهُنَا؛ لِأَنَّك لَوْ قُلْت: أَنَّ إلَهَكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ كَانَ حَسَنًا. انْتَهَى. [قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ الْأُولَى حُرُوفُ الْجَرِّ] الْأُولَى: حُرُوفُ الْجَرِّ يُسَمِّيهَا الْكُوفِيُّونَ الصِّفَاتِ لِنِيَابَتِهَا عَنْ الصِّفَاتِ وَيُجَوِّزُونَ دُخُولَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. أَيْ: أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ بِمَعْنَى حَرْفِ كَذَا. وَمَنَعَ الْبَصْرِيُّونَ ذَلِكَ وَعَدَلُوا عَنْهُ إلَى تَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ إبْقَاءً لِلَفْظِ الْحَرْفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا التَّجَوُّزَ فِي الْفِعْلِ أَخَفَّ مِنْ التَّجَوُّزِ فِي الْحَرْفِ. وَالْكُوفِيُّونَ عَكَسُوا ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَنْ أَجَازَ مُطْلَقًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُجِيزَ سِرْت إلَى زَيْدٍ. يُرِيدُ مَعَ زَيْدٍ، وَمَنْ مَنَعَ مُطْلَقًا لَزِمَهُ أَنْ يَتَعَسَّفَ فِي التَّأْوِيلِ الْكَثِيرِ. فَالْحَقُّ: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي الْقِيَاسِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى التَّضْمِينِ هُوَ تَضْمِينُ الْحَرْفِ مَعْنًى آخَرَ لِيُفِيدَ الْمَعْنَيَيْنِ كَقَوْلِهِ: إذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا قِيلَ: إنَّمَا عُدِّيَ رَضِيَ بِعَلَيَّ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَقْبَلَتْ: وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْمَانِعُونَ إنَّمَا يَمْنَعُونَ الِاسْتِعْمَالَ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، أَوْ حَقِيقَةً فَقَطْ، وَالْمُجَوِّزُونَ إمَّا أَنْ يَدَّعُوا فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةَ فِيهِ أَوْ يَقُولُوا بِالْمَجَازِ فِيهِ. فَإِنْ ادَّعَى الْمَانِعُونَ الْعُمُومَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا رَدُّوا

الثانية المقصود من علم العربية

عَلَى الْمُجِيزِينَ جَعَلُوا مَدْلُولَ اللَّفْظِ حَقِيقَةً مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي، ثُمَّ رَدُّوا الِاسْتِعْمَالَ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُجَوِّزُونَ بِالتَّأْوِيلِ إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَهُوَ يُقَرِّبُ الْمَجَازَ، فَعَلَى هَذَا يُؤَوَّلُ تَصَرُّفُ الْبَصْرِيِّينَ إلَى الْمَجَازِ أَيْضًا وَيَرْجِعُ الْخِلَافُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ أَوْ الْحَمْلِ أَوْ الْجَوَازِ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْكُوفِيُّونَ يَرَوْنَ الِاسْتِعْمَالَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي يُورِدُونَهَا حَقِيقَةً. وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ: مَجَازٌ، فَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ، وَالِاشْتِرَاكُ لَازِمٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى حَقِيقَةً، وَالْكُوفِيُّونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَرَوْنَ اسْتِعْمَالَهُ فِي مَعَانِي حَقِيقَةً، فَيَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَطْعًا. قَالَ: وَلَسْت أَذْكُرُ التَّصْرِيحَ مِنْ مَذْهَبِ الْمُجَوِّزِينَ فِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ قَوْلُهُمْ: وَيَكُونُ كَذَا بِمَعْنَى كَذَا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ. [الثَّانِيَةُ الْمَقْصُودُ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ] ِ إنَّمَا هُوَ النُّطْقُ بِالصَّوَابِ، وَذَلِكَ حُكْمٌ لَفْظِيٌّ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَقْدَحُ فِي اللَّفْظِ لَيْسَ هُوَ بِالْمَقْصُودِ فِيهَا، فَمَتَى احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِشَيْءٍ مَسْمُوعٍ مِنْ الْعَرَبِ لِمَذْهَبِهِ، فَذُكِرَ فِيهِ تَأْوِيلٌ، وَكَانَ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ مِمَّا يَطَّرِدُ فِي جُمْلَةِ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ لِلِاخْتِلَافِ فَائِدَةٌ لَفْظِيَّةٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ جَائِزُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، إمَّا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ كَمَا يَذْهَبُ إلَيْهِ الْمُسْتَدِلُّ، وَإِمَّا بِتَأْوِيلٍ مُطَّرِدٍ فِي الْمَوَارِدِ كَمَا ذَكَرَ الْمُجِيبُ، فَلَا يَظْهَرُ لِلِاخْتِلَافِ فَائِدَةٌ فِي الْحُكْمِ اللَّفْظِيِّ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. مِثَالُهُ: إذَا قُلْنَا: «فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً، وَالْآخَرِ شِفَاءً» فَأَوَّلَهُ

الثالثة الأفعال باعتبار تعليقها بمفعولاتها على الاستيعاب وعدمه

مُؤَوِّلٌ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَأَوَّلَ قَوْلَنَا: " مَا كُلُّ سَوْدَاءَ تَمْرَةً، وَلَا كُلُّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً ". بِحَذْفِ الْمُضَافِ، فَاللَّفْظُ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ الصَّوَابِ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ وَقَعَ فِي وَجْهِ جَوَازِهِ. فَقَائِلٌ يَقُولُ: هُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِلْغَاءِ عَمَلِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ وَهُوَ جَائِزٌ. فَالِاتِّفَاقُ وَقَعَ عَلَى الْجَوَازِ وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّتِهِ، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً لَفْظِيَّةً اللَّهُمَّ إلَّا إذَا بُيِّنَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَائِدَةٌ بِأَنْ يَكُونَ الْجَوَازُ صَحِيحًا بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ الْفَائِدَةُ الْمُحَقَّقَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَانْظُرْ هَذَا فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ مَبَاحِثِ النَّحْوِيِّينَ. [الثَّالِثَةُ الْأَفْعَالُ بِاعْتِبَارِ تَعْلِيقِهَا بِمَفْعُولَاتِهَا عَلَى الِاسْتِيعَابِ وَعَدَمِهِ] ِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يُسْتَوْعَبُ لَيْسَ إلَّا، نَحْوَ اشْتَرَيْت الدَّارَ، وَأَكَلْت الرَّغِيفَ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْبَعْضِ إلَّا مَجَازًا. قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ ": وَمِنْ ثَمَّ أَشْكَلَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَحْنِيثِ الْحَالِفِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إلْزَامٌ لَهُ بِمُقْتَضَى خِلَافِ حَقِيقَةِ لَفْظِهِ، وَحُمِلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَجَازَ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا أَرَدْته فَاحْمِلُوا لَفْظِي عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ عَسَى أَنَّ مُكَلَّفًا قَدَّرَ الْجُمْلَةَ فِي الْمَعْنَى بِالْأَجْزَاءِ فَكَانَ مَعْنَى لَفْظِهِ عِنْدَهُ لَا أَكَلْت جُزْءًا مِنْ الرَّغِيفِ. وَأُخِذَ ذَلِكَ فِي أَجْوِبَةِ الدَّعَاوَى فِيمَا إذَا قَالَ: لَا تُسْتَحَقُّ عَلَيَّ الْعَشَرَةُ، فَإِنَّ مَحْمَلَ النَّفْيِ عَلَى الْأَجْزَاءِ أَيْ: وَلَا شَيْءَ مِنْهَا، وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ فِي أَجْوِبَةِ الدَّعَاوَى، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا

مَعَ قَرِينَةِ كَوْنِ الْحَالِفِ فِي مِثْلِهِ يُرِيدُ الِاجْتِنَابَ وَمُبَاعَدَةَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَمَتَى أُكِلَ الرَّغِيفُ إلَّا لُقْمَةً فَإِنَّهُ مَقْصُودُ الِاجْتِنَابِ. الثَّانِي: مُقَابِلُ الْأَوَّلِ لَا يَقْتَضِي الْفِعْلَ فِي الِاسْتِيعَابِ، كَقَوْلِك: شَجَّ زَيْدٌ عَمْرًا، فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إلَّا جُرْحَهُ فِي رَأْسِهِ خَاصَّةً بَعْضَ الْوَجْهِ وَلَا تَكُونُ الشَّجَّةُ إلَّا كَذَلِكَ، وَمِنْهُ ضَرَبْت زَيْدًا. الثَّالِثُ: كَالثَّانِي إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ هُوَ الْمَانِعُ لِلِاسْتِيعَابِ، كَقَوْلِك: جَعَلْت الْخَيْطَ فِي الْإِبْرَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَقَفْته عَلَى جُمْلَةِ الْإِبْرَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح: 7] . الرَّابِعُ: يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ فِيهِ وَعَدَمِهِ، وَمِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِعْلُ الْمَسْحِ إنْ اقْتَرَنَ بِالْبَاءِ كَانَ لِلتَّبْعِيضِ، وَإِلَّا لِلِاسْتِيعَابِ، وَكَذَلِكَ مَا يَقُولُ أَبُو عَلِيٍّ فِي السَّيْرِ وَالْيَوْمِ لَوْ قُلْت: سِرْت الْيَوْمَ فَظَاهِرُهُ الِاسْتِيعَابُ، وَإِنْ قُلْت: سِرْت فِي الْيَوْمِ فَظَاهِرُهُ عَدَمُ الِاسْتِيعَابِ، وَتَتَحَقَّقُ الظَّرْفِيَّةُ بِدُخُولِ " فِي " وَتَغْلِبُ الِاسْمِيَّةُ بِسُقُوطِهَا، وَلِهَذَا كَانَ الْأَوْلَى حِينَ تَتَحَقَّقُ الظَّرْفِيَّةُ النَّصْبَ. تَقُولُ: سِرْت الْيَوْمَ فِيهِ، وَحِينَ تَغْلِبُ الِاسْمِيَّةُ الرَّفْعَ تَقُولُ: الْيَوْمَ سِرْته، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْفَرْقِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي يَوْمِ السَّبْتِ يَقَعُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَوْ نَوَى وُقُوعَهُ فِي آخِرِهِ يُدَيَّنُ، وَلَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا عِنْدَنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ. وَجَعَلَ السُّرُوجِيُّ مَأْخَذَهُمَا أَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْجَرِّ وَإِثْبَاتَهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ فِي الْحَالَيْنِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: صُمْت يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَذْفَ لِلْحَرْفِ قَدْ يُحْدِثُ مَعْنًى لَا يَكُونُ مَعَ إثْبَاتِهِ؛ لِأَنَّ " فِي " قَدْ تُفِيدُ التَّبْعِيضَ فِي الظَّرْفِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِمْ: سِرْت فَرْسَخًا وَسِرْت فِي فَرْسَخٍ: إنَّ الظَّاهِرَ فِي الْأَوَّلِ الِاسْتِغْرَاقُ فِي السَّيْرِ وَفِي الْآخَرِ عَدَمُهُ، وَقَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ حَتَّى يَخْرُجَ صُمْت فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ صَوْمَ بَعْضِ

الرابعة الأفعال الماضية تفيد بالوضع أمرا

الْيَوْمِ لَا يُمْكِنُ، وَرَدُّوا صُمْت شَهْرَ رَمَضَانَ أَوْ شَهْرَ رَمَضَانَ إلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ. [الرَّابِعَةُ الْأَفْعَالُ الْمَاضِيَةُ تُفِيدُ بِالْوَضْعِ أَمْرًا] : أَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا الزَّمَنُ الْمَاضِي فَقَطْ لَا غَيْرُ وَلَا دَلَالَةَ لَهَا نَفْسِهَا عَلَى انْقِطَاعِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا بَقَائِهِ، بَلْ إنْ أَفَادَ الْكَلَامُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ لِدَلِيلٍ آخَرَ. هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ. وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي دَلَالَةِ " كَانَ " عَلَى التَّكْرَارِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَمْ يَذْكُرْهَا النُّحَاةُ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الِانْقِطَاعِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَمْ يَذْكُرْهَا الْأُصُولِيُّونَ. قَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي شَرْحِ الْجُمَلِ ": وَأَصَحُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: نَعَمْ. فَإِذَا قُلْت: كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَامَ فِيمَا مَضَى وَلَيْسَ الْآنَ بِقَائِمٍ، وَقِيلَ: بَلْ لَا يُعْطِي الِانْقِطَاعَ بِدَلِيلِ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] وَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُتَصَوَّرُ فِيهِ الِانْقِطَاعُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَانَ فِيمَا مَضَى غَفُورًا رَحِيمًا كَمَا هُوَ الْآنَ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ الْقَصْدُ الْإِخْبَارَ بِثُبُوتِ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْمَاضِي، وَلَمْ يُتَعَرَّضْ لِخِلَافِ ذَلِكَ. وَأَجَابَ السِّيرَافِيُّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ الِانْقِطَاعُ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَغْفُورَ لَهُمْ وَالْمَرْحُومِينَ قَدْ زَالُوا. وَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ فِي صِفَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَسْلُوبَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْيِينِ الزَّمَانِ، وَصَارَ صَالِحًا لِلْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ بِحُدُوثِ الزَّمَانِ وَقِدَمِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ، وَكَذَا الْفِعْلِيَّةُ عَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ. وَالتَّحْقِيقُ خِلَافُ الْقَوْلَيْنِ كَمَا سَبَقَ، وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى:

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] " كَانَ " عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي زَمَنِ مَاضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمٍ سَابِقٍ، وَلَا عَلَى انْقِطَاعٍ طَارِئٍ، وَمِنْهُ {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] ، وَقَالَ ابْنُ مُعْطٍ فِي أَلْفِيَّتِهِ ": وَكَانَ لِلْمَاضِي الَّذِي مَا انْقَطَعَا وَحَكَى ابْنُ الْخَبَّازِ فِي شَرْحِهَا قَوْلًا أَنَّهَا تُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ مُحْتَجًّا بِالْآيَةِ، وَسَمِعْت شَيْخَنَا أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ هِشَامٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: غَرَّهُ فِيهِ عِبَارَةُ ابْنِ مُعْطٍ، وَلَمْ يَصِرْ إلَيْهِ أَحَدٌ، بَلْ الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا تُفِيدُ الِانْقِطَاعَ أَوْ لَا تَقْتَضِي الِانْقِطَاعَ وَلَا عَدَمَهُ، وَأَمَّا إثْبَاتُ قَوْلِهِ بِالِاتِّصَالِ وَالدَّوَامِ فَلَا يُعْرَفُ. قُلْت: وَقَالَ الْأَعْلَمُ: تَأْتِي لِلْأَمْرَيْنِ، فَالِانْقِطَاعُ نَحْوَ كُنْت غَائِبًا، وَأَمَّا الْآنَ حَاضِرٌ، وَالِاتِّصَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] وَهُوَ فِي كُلِّ حَالٍ مَوْصُوفٌ بِذَلِكَ. وَهَاهُنَا قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ التَّفْسِيرِ: وَهِيَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ إخْبَارُ اللَّهِ عَنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِلَفْظِ " كَانَ " كَثِيرًا {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148] {وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130] {غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] {تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] وَأَنَّهَا لَمْ تُفَارِقْ ذَاتَهُ، وَلِهَذَا يُقَدِّرُهَا بَعْضُهُمْ بِمَا زَالَ فِرَارًا مِمَّا يَسْبِقُ إلَى الْوَهْمِ مِنْ أَنَّ " كَانَ " تُفِيدُ انْقِطَاعَ الْمُخْبَرِ بِهِ مِنْ الْوُجُودِ، كَقَوْلِهِمْ: دَخَلَ فِي خَبَرِ كَانَ. قَالُوا: فَكَانَ وَمَا زَالَ أُخْتَانِ فَجَازَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ إحْدَاهُمَا فِي مَعْنَى الْأُخْرَى مَجَازًا بِالْقَرِينَةِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَزَلِيَّةِ الصِّفَاتِ ثُمَّ يَسْتَفِيدُ مَعْنَاهَا مِنْ الْحَالِ، وَفِيمَا لَا يَزَالُ بِالْأَدِلَّةِ

الخامسة النسبة المنفية إذا قيدت بحال

الْعَقْلِيَّةِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَحَيْثُ الْإِخْبَارُ بِهَا عَنْ صِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ، فَالْمُرَادُ تَارَةً الْإِخْبَارُ عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا فِي الْأَزَلِ، نَحْوَ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا وَرَزَّاقًا وَمُحْيِيًا وَمُمِيتًا، وَتَارَةً تَحْقِيقُ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ نَحْوَ {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79] وَتَارَةً ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ وَإِنْشَاؤُهُ، نَحْوَ {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58] فَالْإِرْثُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِينَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَحَيْثُ أُخْبِرَ بِهَا عَنْ صِفَاتِ الْآدَمِيِّينَ فَالْمُرَادُ بِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا غَرِيزِيَّةٌ وَطَبِيعِيَّةٌ نَحْوَ {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] أَيْ: خُلِقَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَوْ بِالْقُوَّةِ لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْفِعْلِ، وَحَيْثُ أُخْبِرَ بِهَا عَنْ أَفْعَالِهِ دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ أَمْرِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ نَحْوَ {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90] وَمِنْ هَذَا الثَّانِي الْحِكَايَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظِ " كَانَ " نَحْوَ كَانَ يَقُومُ، وَكَانَ يَفْعَلُ. وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْعُمُومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْخَامِسَةُ النِّسْبَةُ الْمَنْفِيَّةُ إذَا قُيِّدَتْ بِحَالٍ] ٍ تَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَى الْحَالِ، وَلِلْعَرَبِ فِيهِ طَرِيقَانِ: أَكْثَرُهُمَا نَفْيُ الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الْحَالُ، فَتَقُولُ: مَا زَيْدٌ أَقْبَلَ ضَاحِكًا فَيَكُونُ الضَّحِكُ مَنْفِيًّا، وَزَيْدٌ قَدْ أَقْبَلَ غَيْرَ ضَاحِكٍ وَالثَّانِي: نَفْيُ الْمُقَيَّدِ وَالْقَيْدِ، فَيَكُونُ زَيْدٌ لَمْ يَضْحَكْ وَلَمْ يُقْبِلْ، وَمِنْ ثَمَّ رُدَّ عَلَى أَبِي الْبَقَاءِ تَجْوِيزُهُ عَمَلَ {بِمُؤْمِنِينَ} فِي الْحَالِ، وَهُوَ {يُخَادِعُونَ} إذْ لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ نَفْيَ الْخِدَاعِ أَلْبَتَّةَ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ تَنَبَّهَ فَمَنَعَ الصِّفَةَ؟ وَعَلَّلَهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَأَجَازَ الْحَالَ وَلَا فَرْقَ. وَلِأَبِي الْبَقَاءِ أَنْ يَقُولَ: الْفَرْقُ وَاضِحٌ، فَإِذَا قُلْت: مَا زَيْدٌ ضَاحِكٌ رَاكِبًا فَمَعْنَاهُ نَفْيُ الضَّحِكِ فِي حَالِ الرُّكُوبِ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ حَالِ

الرُّكُوبِ؛ إذْ الْحَالُ كَالظَّرْفِ، فَالْمَنْفِيُّ الْكَوْنُ الْوَاقِعُ فِي الْحَالِ لَا الْحَالُ كَمَا فِي قَوْلِك: مَا زَيْدٌ ضَاحِكٌ فِي الدَّارِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصِّفَةِ؛ إذْ هِيَ كَوْنٌ مِنْ الْأَكْوَانِ فَيَقْتَضِي نَفْيَهَا بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَا تَحْقِيقَ لَهُ أَنَّ فِي مَدْلُولِ {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] وَقَوْلِهِ: {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] وَنَظَائِرِهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُ الْإِلْحَافِ وَحْدَهُ. وَالثَّانِي: نَفْيُ السُّؤَالِ وَالْإِلْحَافِ مَعًا، وَيُنْشَدُ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ نَفْيَهُمَا مَعًا فِي الْآيَةِ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَحَامِلِهِ، كَمَا أَنَّ زَيْدًا مِنْ جُمْلَةِ مَحَامِلِ رَجُلٍ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْمَعْقُولِ أَنَّ الْقَضِيَّةَ السَّالِبَةَ لَا تَسْتَدْعِي وُجُودَ مَوْضُوعِهَا فَكَذَلِكَ سَلْبُ الصِّفَةِ لَا يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمَوْصُوفِ وَلَا نَفْيَهُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمَلٌ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا بَلْ مَدْلُولُهُ أَعَمُّ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا، وَالْمُتَحَقِّقُ فِيهِ انْتِقَاءُ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَانْتِفَاءُ الْمَوْصُوفِ مُحْتَمَلٌ. لَا دَلَالَةَ لِنَفْيِ الْمُرَكَّبِ عَلَى انْتِفَائِهِ وَلَا ثُبُوتِهِ، لَكِنْ إذَا جَعَلْنَا الصِّفَةَ تُشْعِرُ بِهِ نُزِعَ إلَى الْقَوْلِ بِعُمُومِ الصِّفَةِ، فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَوَاضِحٌ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ وَقَالَ: إنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْعِلَّةِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ إذَا كَانَتْ الصِّفَةُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهَا وَالْحُكْمُ مُعَلَّلًا بِهَا فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ انْتِفَائِهَا، وَهُنَا الصِّفَةُ فِي الْحُكْمِ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ، وَقَالَ: إنَّهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَيُنَاسِبُهُ الْقَوْلُ بِهِ هُنَا إلَّا أَنْ يَظْهَرَ غَرَضٌ سِوَاهُ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ هُنَاكَ.

الأمر

[الْأَمْرُ] قُدِّمَ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى الْكَلَامِ فِي النَّهْيِ، لِتَقَدُّمِ الْإِثْبَاتِ عَلَى النَّفْيِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ إيجَادِ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيُ طَلَبُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى عَدَمِهِ، فَقُدِّمَ الْأَمْرُ تَقْدِيمَ الْمَوْجُودِ عَلَى الْمَعْدُومِ، وَهُوَ التَّقْدِيمُ بِالشَّرَفِ، وَلَوْ لُوحِظَ التَّقْدِيمُ الزَّمَانِيُّ لَقُدِّمَ النَّهْيُ تَقْدِيمَ الْعَدَمِ عَلَى الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ أَقْدَمُ. وَجَمَعَهُ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَوَامِرَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ يُطْلَقُ عَلَى أَوَامِرَ، وَبِمَعْنَى الْفِعْلِ عَلَى أُمُورٍ، وَلَمْ يُسَاعِدْهُمْ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ سِوَى الْجَوْهَرِيِّ فِي الصِّحَاحِ "، وَأَمَّا الْأَزْهَرِيُّ فَقَالَ فِي التَّهْذِيبِ ": الْأَمْرُ ضِدُّ النَّهْيِ وَاحِدُ الْأُمُورِ وَذَكَرَ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ ": أَنَّ الْأَمْرَ لَا يُكَسَّرُ عَلَى غَيْرِ أُمُورٍ، وَأَمَّا أَئِمَّةُ النَّحْوِ قَاطِبَةً فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ " فَعْلًا " يُكَسَّرُ عَلَى " فَوَاعِلَ " مَعَ ذِكْرِهِمْ الصِّيَغَ الشَّاذَّةِ وَالْمَشْهُورَةِ. وَقَدْ تَنَبَّهَ لِهَذَا الْمَوْضِعِ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَذَكَرَ أَنَّ قَوْلَ الْجَوْهَرِيِّ شَاذٌّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ. قُلْت: ذَكَرَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ " التَّعَاقُبِ " لَهُ نَظِيرًا، وَعَلَّلَ هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ أَعْنِي أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ بِمَا يُسَوِّغُ إجَازَتَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِبْيَارِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ

أَنَّ الْأَوَامِرَ جَمْعُ آمِرٍ وَهَذَا فِيهِ تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ حَقِيقَةً هُوَ الْمُتَكَلِّمُ، وَنَقْلُهُ إلَى الْمَصْدَرِ مَجَازٌ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الْمُرَادَ الصِّيغَةُ فَإِنَّهُ قَدْ تُسَمَّى الصِّيغَةُ آمِرَةً تَجَوُّزًا وَإِذَا كَانَ الْمُفْرَدُ فَاعِلَهُ، صَحَّ الْجَمْعُ عَلَى أَوَامِرَ " فَوَاعِلَ " اسْمًا كَانَ الْمُفْرَدُ كَفَاطِمَةَ وَفَوَاطِمَ، أَوْ صِفَةً كَكَاتِبَةٍ وَكَوَاتِبَ. قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ فِي التَّجَوُّزِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ هَاهُنَا؛ إذْ الْكَلَامُ فِي الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ لَا فِي الْأَلْفَاظِ. وَحَكَى الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ " عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْأَوَامِرَ جَمْعُ الْجَمْعِ، فَالْأَوَامِرُ أَوَّلًا جُمِعَ جَمْعَ قِلَّةٍ عَلَى (أَأْمُرٍ) بِوَزْنِ أَفْعُلٍ ثُمَّ جُمِعَ هَذَا عَلَى أَوَامِرَ، نَحْوَ كَلْبٍ وَأَكَالِب، فَإِنَّهُ أَفَاعِلُ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ لَيْسَ أَفَاعِلَ بَلْ هُوَ فَوَاعِلُ بِخِلَافِ أَكَالِبَ فَإِنَّهُ أَفَاعِلُ ثُمَّ قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَهَذَا لَا يَتِمُّ فِي النَّوَاهِي فَإِنَّ النُّونَ فَاءُ الْكَلِمَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ كَمَا فِي الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا، وَيُمْكِنُ رَدُّ النَّوَاهِي أَيْضًا إلَى أَنَّهُ جَمْعُ نَاهِيَةٍ مَصْدَرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآمِرَةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَصَادِرَ مَسْمُوعَةٌ، وَلَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ. إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا مَبَاحِثَ: أَحَدُهَا: فِي لَفْظِ الْأَمْرِ، وَالثَّانِي: فِي مَدْلُولِهِ، وَالثَّالِثُ: فِي صِيغَةِ " افْعَلْ " فَأَمَّا لَفْظُ " أَمْرٍ " فَإِنَّهُ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى ضِدِّ النَّهْيِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَيْ: فِعْلُهُ، فَإِذَنْ لَفْظُ الْأَمْرِ عَامٌّ لِلْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْفِعْلِ، وَكُلُّ لَفْظٍ عَامٍّ لِشَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ لَا، وَالثَّانِي مَجَازٌ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي اللُّغَةِ أَيْضًا، وَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ أَوْ لَا يَتَّفِقَا، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ قَدْ ذَهَبَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا صَائِرٌ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى الْقَوْلِ الطَّالِبِ لِلْفِعْلِ حَقِيقَةً، وَهُوَ قَوْلُك: " افْعَلْ " وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْعَقْلِ وَنَحْوِهِ مِنْ الشَّأْنِ وَالصِّفَةِ وَالْقِصَّةِ وَالْمَقْصُودِ وَالْغَرَضِ، عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْكُلِّ فَإِنَّ الْقَائِلَ لَوْ قَالَ: " أَمْرٌ " لَا يَدْرِي السَّامِعُ أَيَّ الْأُمُورِ أَرَادَ فَإِذَا قَالَ: أَمْرٌ بِكَذَا فُهِمَ الْقَوْلُ فَإِذَا قَالَ: أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ فُهِمَ الشَّأْنُ وَالطَّرِيقَةُ، فَإِذَا قَالَ: زَيْدٌ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ فُهِمَ الْفِعْلُ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، قَالَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ مَجَازٌ فِي الْفِعْلِ، وَوَجْهُ الْعَلَاقَةِ فِيهِ الْمُشَابَهَةُ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يُشْبِهُ الْقَوْلَ فِي الِافْتِقَارِ إلَى مَصْدَرٍ يَصْدُرُ بِهِ، وَهَذَا يَعُمُّ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ، وَقِيلَ: لِأَنَّ جُمْلَةَ أَفْعَالِ الْإِنْسَانِ لَمَّا دَخَلَ فِيهَا الْأَقْوَالُ سُمِّيَتْ الْجُمْلَةُ بِاسْمِ جُزْئِهَا، وَنَقَلَهُ فِي الْمَحْصُولِ " عَنْ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ مَعَ أَنَّهُ فِي الْإِفَادَةِ " حَكَى الْأَوَّلَ عَنْهُمْ، وَعَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِيَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ خَاصَّةً. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْإِفَادَةِ " عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " وَالْمَصَادِرِ " عَنْ الْأَكْثَرِينَ. وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَتَبِعَهُ

ابْنُ الْحَاجِبِ قَوْلًا عَلَى جِهَةِ الْإِلْزَامِ أَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ بَيْنَهُمَا. وَاخْتَارَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ " أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الشَّيْءِ وَالصِّفَةِ وَالشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ الشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ. انْتَهَى. وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ عِنْدَهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، لَكِنَّهُ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ " فَسَّرَ الشَّأْنَ وَالطَّرِيقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَكُونُ الْحَاصِلُ أَرْبَعَةً، وَنَقَلَ الْبَيْضَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْفِعْلِ بِخُصُوصِهِ حَتَّى يَكُونَ مُشْتَرَكًا، وَهُوَ غَلَطٌ، فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لَهُ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الشَّأْنِ. وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبُسْتِيِّ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ وَالشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ دُونَ آحَادِ الْأَفْعَالِ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ؛ لِأَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ فِعْلٌ قَلِيلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، كَتَحْرِيكِ أَصَابِعِهِ وَأَجْفَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: إنَّهُ مَشْغُولٌ بِأَمْرٍ، أَوْ هُوَ فِي أَمْرٍ. قَالَ: وَاَلَّذِي أَدَّاهُمْ إلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ هِيَ عَلَى الْوُجُوبِ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ ": أَفْعَالُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تَتَضَمَّنُ أَمْرًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ فِي الْمَحْصُولِ " مَا لَوْ قَالَ: إنْ أَمَرْت فُلَانًا فَعَبْدِي حُرٌّ، ثُمَّ أَشَارَ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَدْلُولُ الصِّيغَةِ فَإِنْ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِ الْقَوْلِ لَزِمَ الْعِتْقُ. قَالَ: وَلَا يُعَارَضُ هَذَا بِمَا إذَا خَرِسَ وَأَشَارَ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.

المبحث الثاني في مدلول الأمر

[الْمَبْحَثُ الثَّانِي فِي مَدْلُولِ الْأَمْرِ] فِي مَدْلُولِ الْأَمْرِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي إثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَنَفْيِهِ، فَصَارَ النُّفَاةُ إلَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اللَّفْظِ اللِّسَانِيِّ فَقَطْ، وَالْأَمْرُ وَسَائِرُ الْكَلَامِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ إلَّا الْعِبَارَاتِ، فَقَالُوا: إنَّهُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، وَصَارَ الْمُثْبِتُونَ إلَى تَفْسِيرِهِ بِالْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ، وَهُوَ مَا قَامَ بِالنَّفْسِ مِنْ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الطَّلَبُ وَاللَّفْظُ دَالٌّ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي بِنَفْسِهِ طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَيُرِيدُ بِالِاقْتِضَاءِ الطَّلَبَ فَيَخْرُجُ الْخَبَرُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. وَيُحْتَرَزُ بِقَوْلِهِ " بِنَفْسِهِ " عَنْ الصِّيَغِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي بِنَفْسِهَا، بَلْ إنَّمَا يُشْعَرُ مَعْنَاهَا بِوَاسِطَةِ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ، وَقَوْلُهُ: " طَاعَةُ الْأَمْرِ " لِيَنْفَصِلَ الْأَمْرُ عَنْ الدُّعَاءِ وَالرَّهْبَةِ. وَهَذَا تَعْرِيفُ النَّفْسَانِيِّ فَإِنْ أَرَدْت اللِّسَانِيَّ أَسْقَطْت قَوْلَهُ: بِنَفْسِهِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ عَرَّفَ الشَّيْءَ بِمَا يُسَاوِيهِ فِي الْخَفَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْأَمْرَ لَا يَعْرِفُ الْمَأْمُورَ، فَإِنَّهُ تَعْرِيفٌ لَهُ بِمَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ، فَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ لَا يَعْرِفُهَا ثُمَّ يَلْزَمُ الدَّوْرُ. وَيُجَابُ مِنْ جِهَةِ الطَّاعَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الطَّاعَةُ اللُّغَوِيَّةُ. وَالصَّحِيحُ فِيهِ: أَنَّهُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ بِالْوَضْعِ، فَخَرَجَ النَّهْيُ، فَإِنَّهُ طَلَبُ فِعْلٍ أَيْضًا وَلَكِنْ هُوَ كَفٌّ، وَخَرَجَ " بِالْأَمْرِ " نَحْوَ أَوْجَبْت عَلَيْك كَذَا فَإِنَّهُ صَادِقٌ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الطَّلَبِ الْمَانِعِ مِنْ النَّقِيضِ لَا لِمُطْلَقِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى مُطْلَقِ الطَّلَبِ. قَالَ: وَذَلِكَ إنَّمَا يَظْهَرُ

هل يعتبر في الأمر العلو أو الاستعلاء

بِبَيَانِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ هُوَ صِيغَةُ " افْعَلْ " وَالصَّوَابُ: تَغَيُّرُهُمَا، وَيَدُلُّ لَهُ ذَهَابُ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ الْقَاضِي إلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ. قَالَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": الْأَمْرُ الْحَقِيقِيُّ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ، وَحَقِيقَتُهُ اقْتِضَاءُ الطَّاعَةِ. ثُمَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى نَدْبٍ وَوُجُوبٍ لِيَتَحَقَّقَ الِاقْتِضَاءُ فِيهِمَا، وَأَمَّا الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ " فَمُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ، فَيُتَوَقَّفُ فِيهَا حَتَّى يَثْبُتَ بِقُيُودِ الْمَآلِ أَوْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ تَخْصِيصُهَا بِبَعْضِ الْمُقْتَضِيَاتِ، فَهَذَا مَا نَرْتَضِيهِ مِنْ الْمَذَاهِبِ. قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْجَزَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَجْوِبَةِ التَّحْصِيلِ ": لَفْظُ " أَمْرٍ " يَشْتَرِكُ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هَلْ هُوَ طَلَبٌ أَوْ إرَادَةٌ؟ اخْتَلَفَ فِيهَا أَصْحَابُنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَالْقَدِيمُ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنْ لَا نَصِيرُ مَأْمُورِينَ بِهِ إلَّا إذَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَمْرُ الْقَوْلِيُّ. فَائِدَةٌ قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: تَفْسِيرُ أَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالطَّلَبِ مُحَالٌ فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ فِي حَقِّنَا مَيْلُ النَّفْسِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْأَدَاةِ وَالصِّيغَةِ مُمْتَنِعٌ، فَيَجِبُ تَفْسِيرُهُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ الثَّوَابِ عَلَى الْقَوْلِ لَا غَيْرُ تَارَةً وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ أُخْرَى. حَكَاهُ أَبُو الْمَحَاسِنِ الْمَرَاغِيُّ فِي كِتَابِ غُنْيَةً الْمُسْتَرْشِدِ ". [هَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْأَمْرِ الْعُلُوُّ أَوْ الِاسْتِعْلَاءُ] وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْأَمْرِ الْعُلُوُّ أَوْ الِاسْتِعْلَاءُ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: يُعْتَبَرَانِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي مُخْتَصَرِهِ الصَّغِيرِ ". وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمُخْتَارُ لَا يُعْتَبَرَانِ وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا لَكِنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110] وَهُوَ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَشُورَةُ. وَأَحْسَنُ مِنْهُ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] وَقَطَعَ بِهِ الْعَبْدَرِيُّ فِي الْمُسْتَوْفَى " مُحْتَجًّا بِإِجْمَاعِ النَّحْوِيِّينَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَأَنَّهُ لَا رُتْبَةَ بَيْنَهُمَا. وَذَكَرُوا أَيْضًا الدُّعَاءَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَسَّمُوهُ إلَى مَا يَأْتِي بِلَفْظِ الْأَمْرِ، نَحْوَ ارْحَمْنَا، وَبِلَفْظِ النَّهْيِ، نَحْوَ لَا تُعَذِّبْنَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: لَهُ الدُّعَاءُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْظَمَ أَنْ يُقَالَ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ. انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرُوا الْمُقَابِلَ لِلدُّعَاءِ اسْمًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَكَانَ هَذَا أَمْرًا طَارِئًا عَلَى اللُّغَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا. قَالَ: فَالصَّوَابُ: أَنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " ظَاهِرٌ فِي اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَعْلَى أَوْ مُسَاوٍ أَوْ دُونَ لَكِنْ يَتَمَيَّزُ بِالْقَرِينَةِ فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مَخْلُوقًا كَانَتْ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الدُّعَاءِ بِالِاصْطِلَاحِ الْعُرْفِيِّ الشَّرْعِيِّ لَا اللُّغَوِيِّ. وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ، قَوْلُ ابْنِ فَارِسٍ فِي كِتَابِهِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ " وَهُوَ مِنْ فُرْسَانِ اللُّغَةِ: الْأَمْرُ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَأْمُورُ بِهِ سُمِّيَ الْمَأْمُورُ بِهِ عَاصِيًا.

مسألة اعتراض على حد الأمر

وَالثَّالِثُ: يُعْتَبَرُ الْعُلُوُّ بِأَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فَالْتِمَاسٌ أَوْ كَانَ دُونَهُ فَسُؤَالٌ، وَبِهِ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " وَنَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَنَقَلَهُ ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ، وَحَكَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَسُلَيْمٍ الرَّازِيّ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ فِي كِتَابِهِ شُرُوطِ الْأَحْكَامِ " وَشُرِطَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا يُقَالُ لَهُ: أَمْرٌ. وَالرَّابِعُ: وَبِهِ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يُعْتَبَرُ الِاسْتِعْلَاءُ لَا الْعُلُوُّ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ عَالِيًا، وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْآمِدِيَّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ". [مَسْأَلَةٌ اعْتِرَاضٌ عَلَى حَدِّ الْأَمْرِ] [اعْتِرَاضٌ عَلَى حَدِّ الْأَمْرِ] لَمَّا أَخَذُوا الطَّلَبَ فِي حَدِّ الْأَمْرِ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الطَّلَبَ أَخْفَى مِنْ الْأَمْرِ، وَالتَّعْرِيفُ بِالْأَخْفَى يَمْتَنِعُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الطَّلَبُ بَدِيهِيُّ التَّصَوُّرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْرِفُ بِالْبَدِيهَةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ وَطَلَبِ التَّرْكِ، ثُمَّ قَالُوا: مَعْنَى الطَّلَبِ هُوَ غَيْرُ الصِّيغَةِ لِاتِّحَادِهِ وَاخْتِلَافِهَا وَتَبَدُّلِهِ وَثُبُوتِهَا، بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ يَجْرِي مَجْرَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، وَهَذِهِ الصِّيَغُ الْمَخْصُوصَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهَا.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: أَنَّ دَلَالَةَ صِيغَةِ الْأَمْرِ عَلَى الطَّلَبِ يَكْفِي فِيهَا الْوَضْعُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ مُرِيدًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَاخْتَارَهُ الْكَعْبِيُّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ وَتَبِعَهُمَا الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ. وَأَبُو الْحُسَيْنِ: لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ إرَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي دَلَالَةِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْعُيُونِ " عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَقَالُوا: لَا يَنْفَكُّ الْأَمْرُ عَنْ الْإِرَادَةِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ الصِّيغَةَ كَمَا تَرِدُ لِلطَّلَبِ تَرِدُ لِلتَّهْدِيدِ مَعَ خُلُوِّهِ عَنْ الطَّلَبِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُمَيِّزٍ بَيْنَهُمَا، وَلَا مُمَيِّزَ سِوَى الْإِرَادَةِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّمْيِيزَ حَاصِلٌ بِدُونِهَا؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ حَقِيقِيَّةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا كَافٍ فِي التَّمْيِيزِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَمْرًا إلَّا بِالْإِرَادَةِ فَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ إرَادَتُهُ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا، وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُعْتَبَرُ إرَادَةُ الْأَمْرِ أَوْ إرَادَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ؟ فَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ إرَادَةَ الْأَمْرِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَاعْتَبَرَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إرَادَةَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِرَادَةِ وَلَيْسَتْ الْإِرَادَةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً مَعَ الْأَمْرِ فَيُسْتَدَلُّ بِالْأَمْرِ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَلَا يُسْتَدَلُّ بِالْإِرَادَةِ عَلَى الْأَمْرِ. وَقَدْ حَرَّرَ ابْنُ بَرْهَانٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ فِي كِتَابِ الْأَوْسَطِ ": اعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ لِمَصِيرِ الصِّيغَةِ أَمْرًا ثَلَاثَ إرَادَاتٍ:

الثانية إرادة صرف الصيغة من غير جهة الأمر إلى جهة الأمر

إحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ مُرِيدًا لِإِيجَادِ الصِّيغَةِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَهَا بِأَنْ يَكُونَ سَاهِيًا أَوْ ذَاهِلًا أَوْ نَائِمًا لَا تَكُونُ الصِّيغَةُ الصَّادِرَةُ مِنْهُ أَمْرًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِصَرْفِ صِيغَةِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْأَمْرِ إلَى جِهَةِ الْأَمْرِ. فَإِنَّ الْأَمْرَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى جِهَاتٍ كَالتَّعْجِيزِ وَالتَّكْوِينِ وَالْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ وَغَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِصَرْفِ الصِّيغَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ إلَى جِهَةِ الْأَمْرِ وَعَبَّرَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ هَذَا فَقَالَ: فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا بِالصِّيغَةِ مَا هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ. وَالثَّالِثَةُ: هِيَ إرَادَةُ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالِامْتِثَالِ، فَأَمَّا الْأُولَى، وَهِيَ إرَادَةُ إيجَادِ الصِّيغَةِ فَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهَا [الثَّانِيَةُ إرَادَةُ صَرْفِ الصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْأَمْرِ إلَى جِهَةِ الْأَمْرِ] وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، وَهِيَ إرَادَةُ صَرْفِ الصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْأَمْرِ إلَى جِهَةِ الْأَمْرِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا، فَذَهَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ إلَى اعْتِبَارِهَا، وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ، لَكِنْ إذَا وَرَدَتْ الصِّيغَةُ مُجَرَّدَةً عَنْ الْقَرَائِنِ حُمِلَتْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَهِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ، وَاتَّفَقَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى اعْتِبَارِهَا. قَالَ: وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ كَبِيرٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْكَائِنَاتِ بِأَسْرِهَا وَحَيِّزِهَا لَا تَجْرِي عِنْدَنَا إلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا الْمَازِرِيُّ فَنَقَلَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ اشْتِرَاطَ الْإِرَادَاتِ الثَّلَاثِ إلَّا الْكَعْبِيَّ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْأُولَى. قَالَ الْمُقْتَرَحُ ": فَمَذْهَبُ الْكَعْبِيِّ مُتَهَافِتٌ فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِلْإِرَادَةِ عَنْ الْقَدِيمِ تَعَالَى، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَارِي - تَعَالَى - آمِرًا. وَفِيهِ رَفْضُ الشَّرَائِعِ عَنْ آخِرِهَا، وَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ طَافِحٌ بِنِسْبَةِ الْإِرَادَةِ إلَيْهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ جَوَابُك؟ قَالَ: إنْ أُرِيدَ بِأَنَّهُ مُرِيدٌ لِأَفْعَالِهِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَالِقُهَا وَمُنْشِئُهَا، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ مُرِيدٌ لِأَفْعَالِ عِبَادِهِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا، وَهَذَا

الْكَلَامُ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْإِرَادَةُ، ثُمَّ يُجْعَلُ إطْلَاقُ الْإِرَادَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْآمِرِ. وَلِمَنْ يَنْتَصِرُ لِلْكَعْبِيِّ أَنْ يَقُولَ: هُوَ لَمْ يَنْفِهَا غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ النَّفْيُ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عِنْدَنَا غَيْرُ الْإِرَادَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُومُ بِالنَّفْسِ عِنْدَ الطَّلَبِ مَعْنًى غَيْرُ إرَادَةِ الْفِعْلِ فَإِنَّا نَجِدُ الْآمِرَ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ، وَهُوَ آمِرٌ، وَإِلَّا لَمَا عُدَّ تَارِكُهُ مُخَالِفًا. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ إرَادَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَيَلْزَمُهُمْ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَعَاصِي الْوَاقِعَةُ مَأْمُورًا بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُرَادَةٌ، أَوْ لَا يَكُونُ وُقُوعُهَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُحَالٌ. وَلِلتَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ صَارَ أَصْحَابُنَا إلَى التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا، لَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَا لَا يُرِيدُهُ حَقِيقَةٌ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ صِيغَتَهُ صِيغَةُ الْأَمْرِ، وَقَدْ يُمْنَعُ بِمَا سَبَقَ فَإِنَّهُ يُعَدُّ تَارِكُهُ مُخَالِفًا. وَعِنْدِي: أَنَّ الْخِلَافَ لَمْ يَتَوَارَدْ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّا نُرِيدُ بِالْإِرَادَةِ الطَّلَبَ النَّفْسِيَّ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يُرِيدُونَ ذَلِكَ لِإِنْكَارِهِمْ كَلَامَ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: إنَّ الْوَاضِعَ وَضَعَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِلطَّلَبِ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِرَادَةُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِرَادَةِ. وَقَالُوا: الطَّلَبُ الَّذِي يُغَايِرُ الْإِرَادَةَ لَوْ صَحَّ الْقَوْلُ بِهِ لَكَانَ أَمْرًا خَفِيًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا الْخَوَاصُّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ اللَّفْظُ لِمَعْنًى خَفِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": ثُمَّ هُوَ أَمْرٌ بِصِيغَتِهِ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ. بِالْإِرَادَةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ هُوَ أَمْرٌ بِإِرَادَةِ الْآمِرِ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَهِيَ تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ كَلَامِيَّةٍ فَإِنَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالشَّيْءِ وَلَا يُرِيدَهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - إبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْجُدَ، وَنَهَى آدَمَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، وَأَمَرَ إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُذْبَحَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا

الثالثة الأمر هل هو حقيقة في الطلب النفسي مجاز في العبادة

أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: افْعَلْ، فَقَالَ: أَمَرْته بِكَذَا وَلَمْ يَعْلَمْ مُرَادَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ بِصِيغَتِهِ فَقَطْ. انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْحَقُّ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَا يُرِيدُهُ شَرْعًا وَدِينًا، وَقَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُهُ كَوْنًا وَقَدَرًا كَإِيمَانِ مَنْ أَمَرَهُ بِالْإِيمَانِ وَلَمْ يُؤْمِنْ، وَأَمَرَ خَلِيلَهُ بِالذَّبْحِ وَلَمْ يَذْبَحْ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً وَلَمْ يُصَلِّ، وَفَائِدَتُهُ الْعَزْمُ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى التَّغَايُرِ بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ زَيْدًا دَيْنَهُ غَدًا، وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يَقْضِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، فَلَوْ كَانَ - تَعَالَى - قَدْ شَاءَ [لِمَا] أَمَرَهُ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا كَانَ حَالًّا وَصَاحِبُهُ يَطْلُبُهُ، فَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا فَقَدْ يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ فِي غَدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ غَدًا مَحَلَّ الْأَجَلِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ حَالًّا وَصَاحِبُهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ فَفِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ عَلَى الْفَوْرِ وَجْهَانِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الْأَمْرِ حَتَّى يَحْنَثَ لِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا الْأَمْرُ، فَإِنْ صُرِّحَ بِتَعْلِيقِهِ عَلَى تِلْكَ الْمَشِيئَةِ مَنَعْنَا حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ. [الثَّالِثَةُ الْأَمْرَ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ النَّفْسِيِّ مَجَازٌ فِي الْعِبَادَةِ] الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي ذَلِكَ الطَّلَبِ النَّفْسِيِّ مَجَازٌ فِي الْعِبَادَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا؟ أَقُولُ، كَالْخِلَافِ فِي سَائِرِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا غَيْرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ هَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ؟ فَإِنَّهُ هُنَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ.

المبحث الثالث صيغة الأمر

[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ صِيغَةُ الْأَمْرِ] فِي صِيغَتِهِ وَهِيَ " افْعَلْ " وَفِي مَعْنَاهُ " لِيَفْعَلْ ". قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْأَمْرُ بِلَفْظِ " افْعَلْ " وَلْيَفْعَلْ نَحْوَ، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ} [المائدة: 47] . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَصْلِ فِعْلِ الْأَمْرِ هَلْ هُوَ " افْعَلْ " أَوْ لِيَفْعَلْ "؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ " لِيَفْعَلْ "؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مَعْنًى، وَالْأَصْلُ فِي الْمَعَانِي أَنْ تُسْتَفَادَ بِالْحُرُوفِ كَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ " افْعَلْ "؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ بِخِلَافِ " لِيَفْعَلْ " فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ اللَّامِ. حَكَاهُ الْعُكْبَرِيُّ فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ "، فَأَمَّا مُنْكِرُو الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ لَهُ صِيغَتَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ هُوَ الصِّيغَةُ، فَكَيْفَ تُوضَعُ صِيغَةٌ لِلصِّيغَةِ؟ وَإِضَافَتُهُ إلَيْهِ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: الصِّيغَةُ الْعِبَارَةُ الْمَصُوغَةُ لِلْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِيِّ، فَإِذَا قُلْنَا: هَلْ الْأَمْرُ صِيغَةٌ؟ فَالْمَعْنِيُّ بِهِ أَنَّ الْأَمْرَ الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ هَلْ صِيغَتْ لَهُ عِبَارَةٌ مُشْعِرَةٌ بِهِ؟ وَمَنْ نَفَى كَلَامَ النَّفْسِ إذَا قَالَ: صِيغَةُ الْأَمْرِ كَذَا، فَنَفْسُ الصِّيغَةِ عِنْدَهُ هِيَ الْأَمْرُ، فَإِذَا أُضِيفَتْ الصِّيغَةُ إلَى الْأَوَامِرِ لَمْ تَكُنْ الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةً، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِك: نَفْسُ الشَّيْءِ ذَاتُهُ، وَلِرُجُوعِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ إلَى الْعِبَارَةِ.

وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْمُثْبِتُونَ لِكَلَامِ النَّفْسِ فَاخْتَلَفُوا هَلْ لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ مَخْصُوصَةٌ؟ أَيْ: أَنَّ الْعَرَبَ صَاغَتْ لِلْأَمْرِ لَفْظًا يَخْتَصُّ بِهِ؛ أَيْ: وَضَعَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ لَفْظَةً تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا أَمْرًا، وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ لَهَا صِيغَةً فَمَا مُقْتَضَى تِلْكَ الصِّيغَةِ؟ فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ إلَى أَنَّ لَهُ صِيغَةً تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا إذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ الْقَرَائِنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَلْخِيّ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ. انْتَهَى. وَنُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لَهُ تَخْتَصُّ بِهِ، وَأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ " افْعَلْ " مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ فُرِضَ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ النَّهْيِ، فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ جَمِيعِ مُحْتَمَلَاتِهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَنَسَبَهُ إلَى الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ": لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ؛ قَالَ: فَلَمَّا احْتَمَلَ الشَّافِعِيُّ الْأَمْرَ فِي تِلْكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وُقِفَ بِهِ الدَّلِيلُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا تَعَنُّتٌ مِنْ أَبِي الْعَبَّاسِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَيُرِيدُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَرِدَ دَلَالَةٌ تَخُصُّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُخَلَّى وَالْإِطْلَاقُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ، كَمَا يَقُولُ بِمِثْلِهِ فِي الْعُمُومِ قَالَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأَمْرَ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ الْوَعِيدُ يَكُونُ عَلَى الْوُجُوبِ. اهـ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَنْزِيلِ مَذْهَبِهِ، فَقِيلَ: اللَّفْظُ صَالِحٌ لِجَمِيعِ الْمَحَامِلِ

صَلَاحَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِلْمَعَانِي الَّتِي ثَبَتَ اللَّفْظُ بِهَا، وَقِيلَ: لَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَ الشَّارِعِ: أَمَرْتُكُمْ وَنَحْوَهُ دَلَّ عَلَى الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: " افْعَلْ " هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ مُجَرَّدُ صِيغَتِهِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ؟ وَقِيلَ: أَرَادَ الْوَقْفَ بِمَعْنَى لَا نَدْرِي عَلَى أَيِّ وَضْعٍ جَرَى فَهُوَ مَشْكُوكٌ. ثُمَّ نَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ مَعَ فَرْضِ الْقَرَائِنِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ ذَلِكَ بَيِّنٌ فِي النَّقْلِ عَنْهُ وَقَالَ: لَعَلَّهُ فِي مَرَاتِبِ الْمَقَالِ دُونَ الْحَالِ. انْتَهَى. وَلَا مَعْنَى لِاسْتِبْعَادِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَرَائِنَ لَا تُبَيِّنُ الْمَوْضِعَ الَّذِي وَقَفَ الشَّيْخُ فِيهِ، وَإِنَّمَا تُبَيِّنُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ. ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ قَاطِعًا بِهِ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ لَا يُنْكِرُ صِيغَةً مُشْعِرَةً بِالْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْكَلَامِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ. نَحْوَ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَوْجَبْت أَوْ أَلْزَمْت وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِيهِ مُجَرَّدُ قَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ " مِنْ حَيْثُ وَجَدَهُ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ مُتَرَدِّدًا، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُظَنُّ بِهِ عِنْدَ الْقَرِينَةِ نَحْوُ " افْعَلْ " حَتْمًا. أَوْ وَاجِبٌ. نَعَمْ. قَدْ يَتَرَدَّدُ فِي الصِّيغَةِ الَّتِي فِيهَا الْكَلَامُ إذَا قُرِنَتْ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَالْمُشْعِرُ بِالْأَمْرِ النَّفْسِيِّ الْأَلْفَاظُ الْمُقْتَرِنَةُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ " أَمْ لَفْظُ " افْعَلْ "، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تَفْسِيرٌ لَهَا؟ وَهَذَا تَرَدُّدٌ قَرِيبٌ، ثُمَّ مَا نَقَلَهُ النَّقَلَةُ يَخْتَصُّ بِقَرَائِنِ الْمَقَالِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْخَبْطِ، فَأَمَّا قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ فَلَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ، وَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى سِرِّ مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي وَطَبَقَةِ الْوَاقِفِيَّةِ. انْتَهَى. وَاسْتَبْعَدَ الْغَزَالِيُّ النَّقْلَ عَنْ الشَّيْخِ وَالْقَاضِي بِالْوَقْفِ عَنْهُمَا أَنَّ لَهُ صِيغَةً مُخْتَصَّةً بِهِ إجْمَاعًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَرْتُك أَوْ أَنْتَ مَأْمُورٌ بِهِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ صِيغَةً لِلْأَمْرِ، بَلْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ

وُجُودِ الْأَمْرِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ إنْشَاءً فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ وَهُوَ كَوْنُ الصِّيغَةِ مُخْتَصَّةً بِهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ فَلَا تَكُونُ الصِّيغَةُ مُخْتَصَّةً بِهِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّمَا صَارَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ إلَى أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَلَقَّى مِنْ الْعَقْلِ؛ إذْ الْعَقْلُ لَا يَدُلُّ عَلَى وَضْعِ الصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ، وَإِنَّمَا يُتَلَقَّى مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَقَدْ اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ فِي جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ: فَذَهَبَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ [إلَى] أَنَّ الْأَمْرَ لَهُ صِيغَةٌ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهَا أَمْرًا إذَا تَعَرَّتْ عَنْ الْقَرَائِنِ، وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ غَيْرَ الْبَلْخِيّ إلَى أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لَهُ، وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا وَإِنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا بِقَرِينَةِ الْإِرَادَةِ. قَالَ: وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُفَارِقُ الذَّاتَ وَلَا يُزَايِلُهَا؟ وَكَذَلِكَ عَنْهُ سَائِرُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ مِنْ النَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّ هَذِهِ عِنْدَهُ مَعَانٍ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ لَا تُزَايِلُهَا؟ كَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، وَكَانَ ابْنُ كِلَابٍ يَقُولُ: هِيَ حِكَايَةُ الْأَمْرِ، وَخَالَفَهُ الْأَشْعَرِيُّ، وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ حِكَايَةٌ لِاسْتِلْزَامِهَا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ لَكِنْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ، فَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُقَالُ: إنَّهُ لَهُ صِيغَةٌ أَوْ لَيْسَتْ لَهُ صِيغَةٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْأَلْفَاظِ. وَلَكِنْ يَقَعُ الْخِلَافُ فِي اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ، وَلَا دَالًّا عَلَى ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ صِيغَتِهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا بَيَّنَهُ الدَّلِيلُ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعِبَارَةُ عَنْ الْأَمْرِ حُمِلَ عَلَيْهِ. وَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعِبَارَةُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ

التَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ وَالتَّحْقِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ حُمِلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ احْتَجَّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَهُ صِيغَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] قَالَ: فَفِي هَذِهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ حَيْثُ قَالَ: إنَّمَا أَمْرُهُ فَجَعَلَ أَمْرَهُ " كُنْ "، وَهِيَ صِيغَةٌ، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الْقَائِلِينَ: إنَّ الْأَمْرَ يَتَضَمَّنُ الْإِرَادَةَ، فَإِنَّ الْآيَةَ فِيهَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْأَمْرِ قَالَ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ} [يس: 82] . قَالَ: وَالدَّلِيلُ الْمُعْتَمَدُ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ صِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ، وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور: 32] لَا يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى إيجَابِ الْعَقْدِ، وَعَلَى وَلِيِّ الْمَرْأَةِ لِتَرَدُّدِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ. لَكِنَّ الْوَاقِفِيَّةِ اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَةِ الْوَقْفِ هَلْ هُوَ وَقْفُ جَهَالَةٍ بِمَا عِنْدَ الْعَرَبِ، أَوْ وَقْفُ عَارِفٍ بِمَا عِنْدَهُمْ، وَهُوَ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَصَارِفِ الْآتِيَةِ فَيَقِفُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ: وَأَمَّا مَنْ نَقَلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ الْوَقْفَ، وَإِنْ ظَهَرَتْ الْقَرَائِنُ فَقَدْ أَغْلَى، وَلَوْ ثَبَتَ فَلَعَلَّ الْوَقْفَ فِي الْإِفَادَةِ بِمَا جُعِلَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ أَوْ اللِّسَانُ. انْتَهَى. وَذَهَبَ غَيْرُ الْوَاقِفِيَّةِ إلَى أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي الْوُجُوبِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْأَمْرَ عَلَى أَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ، وَالظَّاهِرُ مِنْهَا لِلْوُجُوبِ إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ قَامَ فِي بَعْضِهَا عَلَى غَيْرِ الْوُجُوبِ، وَمُخْتَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْقَطْعُ بِاقْتِضَائِهَا الطَّلَبَ الْمُنْحَصِرَ مَصِيرًا إلَى أَنَّ الْعَرَبَ فَصَلَتْ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ " وَبَيْنَ قَوْلِهِ: " لَا تَفْعَلْ ".

تنبيهان الأول هل للأمر صيغة

[تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ هَلْ لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ] الْأَوَّلُ: [هَلْ لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ؟] خَطَّأَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ تَرْجَمَةَ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْأَمْرَ هَلْ لَهُ صِيغَةٌ؟ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الشَّارِعِ: أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا، صِيغَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ: نَهَيْتُكُمْ صِيغَةٌ دَالَّةٌ عَلَى النَّهْيِ، وَقَوْلُهُ: أَوْجَبْت، صِيغَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا صِيغَةُ " افْعَلْ " إذَا أُطْلِقَتْ هَلْ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ، أَوْ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ؟ هَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا مَعْنَى لِهَذَا الِاسْتِبْعَادِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَمَرْتُك، وَأَنْتَ مَأْمُورٌ لَا يَرْفَعُ هَذَا الْخِلَافَ؛ إذْ الْخِلَافُ فِي أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ صِيغَةُ الْإِنْشَاءِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَمَرْتُك وَأَنْتَ مَأْمُورٌ إخْبَارٌ، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْهِنْدِيِّ فِيهِ. [الثَّانِي الْمُرَادُ بِصِيغَةِ افْعَلْ] ْ) ] الْمُرَادُ بِصِيغَةِ " افْعَلْ " لَفْظُهَا وَمَا قَامَ مَقَامَهَا مِنْ اسْمِ الْفِعْلِ كَصَهْ، وَالْمُضَارِعُ الْمَقْرُونُ بِاللَّامِ، مِثْلَ " لِيَقُمْ " عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِيهِ. وَصِيَغُ الْأَمْرِ مِنْ الثُّلَاثِيِّ " افْعَلْ " نَحْوَ اسْمَعْ نَحْوَ احْضَرْ، وَافْعِلْ نَحْوَ اضْرِبْ، وَمِنْ الرُّبَاعِيِّ فَعْلَلٌّ نَحْوَ قَرْطِسْ، وَأَفْعِلْ نَحْوَ أَعْلِمْ، وَفَعِّلْ نَحْوَ عَلِّمْ، وَفَاعِلْ نَحْوَ نَاظِرْ، وَمِنْ الْخُمَاسِيِّ تَفَعْلَلْ نَحْوَ تَقَرْطَسْ، وَتَفَاعَلْ نَحْوَ تَقَاعَسْ، وَانْفَعِلْ نَحْوَ انْطَلِقْ، وَافْتَعِلْ نَحْوَ اسْتَمِعْ وَافْعَلْ نَحْوَ احْمَرَّ، وَمِنْ السُّدَاسِيِّ اسْتَفْعِلْ نَحْوَ اسْتَخْرِجْ، وَافْعَوْعِلْ نَحْوَ اغْدَوْدِنْ، وَافْعَالَّ نَحْوَ احْمَارَّ، وَافْعَنْلِلْ نَحْوَ اقْعَنْسِسْ، وَافْعَوِّلْ نَحْوَ اعْلَوِّطْ

وَكَذَلِكَ الْمَصْدَرُ الْمَجْعُولُ جَزَاءَ الشَّرْطِ بِحَرْفِ الْفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] أَيْ: فَحَرِّرُوا، وَقَوْلُهُ: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] أَيْ: فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ، وَقَوْلُهُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] أَيْ: فَافْدُوا، وَقَوْلُهُ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَيْ: صُومُوا. قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي أَوَّلِ بَابِ الرَّهْنِ مِنْ تَعْلِيقِهِ ". وَإِنَّمَا خَصَّ الْأُصُولِيُّونَ " افْعَلْ " بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ فِي الْكَلَامِ. وَتَرِدُ صِيغَةُ " افْعَلْ " لِنَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ مَعْنًى: أَحَدُهَا: الْإِيجَابُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] . الثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] وَمَثَّلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِ " تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ " بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] وَمَثَّلَهُ ابْنُ فَارِسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] وَأَشَارَ الْمَازِرِيُّ إلَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا قُلْنَا: الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. الثَّالِثُ: الْإِرْشَادُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ": الرُّشْدَ. وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ «سَافِرُوا تَصِحُّوا» وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ، فَقَالَ:

وَفِي كُلِّ حَتْمٍ مِنْ اللَّهِ رُشْدٌ، فَيَجْتَمِعُ الْحَتْمُ وَالرُّشْدُ. وَسَمَّاهُ الصَّيْرَفِيُّ: الْحَظَّ، وَفَرَّقَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّدْبِ بِأَنَّ الْمَنْدُوبَ مَطْلُوبٌ لِمَنَافِعِ الْآخِرَةِ، وَالْإِرْشَادُ لِمَنَافِعِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ فِيهِ الثَّوَابُ، وَالثَّانِي لَا ثَوَابَ فِيهِ. الرَّابِعُ: التَّأْدِيبُ وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالْأَدَبِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُهُ، وَمَثَّلَهُ الْقَفَّالُ " بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَسَارِ " " أَكْلُ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَلِيهِ " وَمَثَّلَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ " بِالنَّهْيِ عَنْ التَّعْرِيسِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ " وَالْأَكْلُ مِنْ وَسَطِ الْقَصْعَةِ، وَأَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ "، قَالَ: فَيُسَمَّى هَذَا أَدَبًا، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ النَّدْبِ، فَإِنَّ التَّأْدِيبَ يَخْتَصُّ بِإِصْلَاحِ الْأَخْلَاقِ وَكُلُّ تَأْدِيبٍ نَدْبٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ. الْخَامِسُ: الْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي لُغَةً. وَالتَّمْثِيلُ بِمَا ذَكَرُوهُ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحَظْرَ. السَّادِسُ: الْوَعْدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] . السَّابِعُ: الْوَعِيدُ وَيُسَمَّى التَّهْدِيدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]

بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف: 29] وَقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30] . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّهْدِيدُ أَبْلَغُ مِنْ الْوَعِيدِ، وَمَثَّلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ التَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] وَقَوْلِهِ لِإِبْلِيسَ: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} [الإسراء: 64] وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَاعَ الْخَمْرَ فَلْيُشَقِّصْ الْخَنَازِيرَ» قَالَ وَكِيعٌ: مَعْنَاهُ يَعَضُّهَا. الثَّامِنُ: الِامْتِنَانُ كَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] وَسَمَّاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِنْعَامَ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ تَذْكِيرُ النِّعْمَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِبَاحَةِ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مُجَرَّدُ إذْنٍ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اقْتِرَانِ الِامْتِنَانِ بِذِكْرِ احْتِيَاجِ الْخَلْقِ إلَيْهِ، وَعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالتَّعَرُّضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي رَزَقَهُ. التَّاسِعُ: الْإِنْذَارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَمَتَّعُوا} [إبراهيم: 30] {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3] وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّهْدِيدِ مِنْ وِجْهَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِنْذَارُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالْوَعِيدِ كَالْآيَةِ، وَالتَّهْدِيدُ لَا يَجِبُ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَقْرُونًا بِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْفِعْلَ الْمُهَدَّدَ عَلَيْهِ يَكُونُ ظَاهِرُهُ التَّحْرِيمَ وَالْبُطْلَانَ، وَفِي الْإِنْذَارِ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ لَا يَكُونُ.

الْعَاشِرُ: الْإِكْرَامُ {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] قَالَ الْقَفَّالُ: وَمِنْهُ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: اُثْبُتْ مَكَانَك» . الْحَادِيَ عَشَرَ: السُّخْرِيَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ إلَّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ فَارِسٍ مِنْ أَمْثِلَةِ التَّكْوِينِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَثَّلَ بِهَا ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ " لِلتَّسْخِيرِ، وَمَثَّلَ لِلْإِهَانَةِ بِقَوْلِهِ: {كُونُوا حِجَارَةً} [الإسراء: 50] قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّسْخِيرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْوِينِهِمْ عَلَى جِهَةِ التَّبْدِيلِ لِمَنْ جَعَلْنَاهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْإِهَانَةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْجِيزِهِمْ فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ أَيْ: أَنْتُمْ أَحْقَرُ مِنْ ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ وَقَعَ فِي عِبَارَتِهِمَا التَّسْخِيرُ، وَالصَّوَابُ: مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ السُّخْرِيَةَ الْهُزْءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] ، وَأَمَّا التَّسْخِيرُ فَهُوَ نِعْمَةٌ وَإِكْرَامٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 33] . الثَّانِيَ عَشْرَ: التَّكْوِينُ كَقَوْلِهِ {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] ، وَسَمَّاهُ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ: كَمَالَ الْقُدْرَةِ، وَسَمَّاهُ الْقَفَّالُ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: التَّسْخِيرَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّخْرِيَةِ:

أَنَّ التَّكْوِينَ سُرْعَةُ الْوُجُودِ عَنْ الْعَدَمِ، وَلَيْسَ فِيهِ انْتِقَالٌ إلَى حَالٍ مُمْتَهَنَةٍ، بِخِلَافِ السُّخْرِيَةِ فَإِنَّهُ لُغَةً: الذُّلُّ وَالِامْتِهَانُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: التَّعْجِيزُ، نَحْوَ {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34] . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسْخِيرِ أَنَّ التَّسْخِيرَ نَوْعٌ مِنْ التَّكْوِينِ، فَإِذَا قِيلَ: كُونُوا قِرَدَةً مَعْنَاهُ انْقَلِبُوا إلَيْهَا، وَالتَّعْجِيزُ إلْزَامُهُمْ بِالِانْقِلَابِ لِيَظْهَرَ عَجْزُهُمْ لَا لِيَنْقَلِبُوا إلَى الْحِجَارَةِ، وَمَثَّلَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَفَّالُ بِقَوْلِهِ: {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] قَالَ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِمْ قَلْبُ الْأَعْيَانِ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ يَخْتَرِعُ وَيُسَخِّرُ، عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ كُونُوا كَذَا، تَعْجِيزٌ أَيْ: أَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَمْ تُمْنَعُوا مِنْ جَرْيِ قَضَاءِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَكَذَا جَعَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَالْآمِدِيَّ مِنْ أَمْثِلَةِ التَّعْجِيزِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ " عِنْدِي فِي التَّمْثِيلِ بِهِ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا التَّعْجِيزُ حَيْثُ يُقْتَضَى بِالْأَمْرِ فِعْلُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُخَاطَبُ: كَقَوْلِهِ: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران: 168] وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَمَعْنَاهَا كُونُوا بِالتَّوَهُّمِ، وَالتَّقْدِيرُ كَذَا وَكَذَا. الرَّابِعَ عَشَرَ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ نَحْوَ {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] هَكَذَا مَثَّلُوا بِهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16] جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] ؛ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِالصَّرِيحِ أَرْدَفَهُ مُبَالَغَةً فِي الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " أَوْ لَا " تَفْعَلْ " وَحْدَهَا لَا تَقْتَضِي التَّعْجِيزَ، وَلَا اسْتَعَارَ لَهَا بِالتَّسْوِيَةِ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ

يَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فِيمَا خُيِّرَ الْمُخَاطَبُ بِهِ، أَوْ يُقَالُ: إنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " وَحْدَهَا لَمْ تَقْتَضِ التَّسْوِيَةَ لَكِنَّ الْمَجْمُوعَ الْمُرَكَّبَ مِنْ " افْعَلْ " أَوْ لَا " تَفْعَلْ "، فَعَلَى هَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ صِيغَةُ الْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صِيغَةُ الْأَمْرِ، فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُمْ هَذَا الْمِثَالَ مِنْ صِيغَةِ " افْعَلْ " وَعُذْرُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُهَا حَيْثُ يُرَادُ التَّسْوِيَةُ بِالْكَلَامِ الَّذِي هِيَ فِيهِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: الِاحْتِيَاطُ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ النَّوْمِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا» بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» أَيْ: فَلَعَلَّ يَدَهُ لَاقَتْ نَجَاسَةً مِنْ بَدَنِهِ لَمْ يَعْلَمْهَا فَلْيَغْسِلْهَا قَبْلَ إدْخَالِهَا لِئَلَّا يُفْسِدَ الْمَاءَ. السَّادِسَ عَشَرَ: الدُّعَاءُ وَالْمَسْأَلَةُ، نَحْوَ {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} [الأعراف: 89] {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [آل عمران: 147] وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ ذَلِكَ فِي الْأُولَى سُؤَالًا قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36] وَأَجَابَ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْفُرُوقِ " بِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْوَقْفِ فِي الْكَلَامِ وَاسْتِعْطَافِ السَّامِعِ بِهِ. وَمَثَّلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ كَقَوْلِك: كُنْ بِخَيْرٍ. السَّابِعَ عَشَرَ: الِالْتِمَاسُ، كَقَوْلِك لِنَظِيرِك: افْعَلْ. وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ إرَادَةِ الِامْتِثَالِ الْآتِي.

الثَّامِنَ عَشَرَ: التَّمَنِّي. كَقَوْلِك لِشَخْصٍ تَرَاهُ: كُنْ فُلَانًا كَذَا. مَثَّلَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَنَحْوُهُ تَمْثِيلُ الْأُصُولِيِّينَ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: انْجَلِي بِمَعْنَى الِانْجِلَاءِ لِطُولِهِ، وَنَزَّلُوا لَيْلَ الْمُحِبِّ لِطُولِهِ مَنْزِلَةَ مَا يَسْتَحِيلُ انْجِلَاؤُهُ مُبَالَغَةً، وَإِلَّا فَانْجِلَاءُ اللَّيْلِ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ وَيَجِيءُ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ السُّؤَالُ السَّابِقُ فِي التَّسْوِيَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي التَّمَنِّي هُوَ صِيغَةُ الْأَمْرِ مَعَ صِيغَةِ " إلَّا " لَا الصِّفَةُ وَحْدَهَا، فَالْأَحْسَنُ مِثَالُ ابْنِ فَارِسٍ. التَّاسِعَ عَشَرَ: الِاحْتِقَارُ. قَالَ: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80] يَعْنِي أَنَّ السِّحْرَ وَإِنْ عَظُمَ شَأْنُهُ فَفِي مُقَابَلَةِ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَقِيرٌ. الْعِشْرُونَ: الِاعْتِبَارُ وَالتَّنْبِيهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 185] وَقَوْلِهِ {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا} [الروم: 42] وَمَثَّلَهُ الْعَبَّادِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99] وَجَعَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ أَمْثِلَةِ تَذْكِيرِ النِّعَمِ لَهُمْ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: التَّحْسِيرُ وَالتَّلْهِيفُ. ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119] وقَوْله تَعَالَى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] . الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: التَّصْبِيرُ، كَقَوْلِهِ: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]

وقَوْله تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17] وَقَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف: 83] ذَكَرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ الْقَفَّالُ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْخَبَرُ {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82] الْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَيَضْحَكُونَ وَيَبْكُونَ. وَمَثَّلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] أَيْ: أُذِنْتُمْ بِحَرْبٍ. أَيْ: كُنْتُمْ أَهْلَ حَرْبٍ، وَمِنْهُ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ: «إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت» . أَيْ: صَنَعْت مَا شِئْت، وَعَكْسُهُ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] الْمَعْنَى لِتُرْضِعْنَ الْوَالِدَاتُ أَوْلَادَهُنَّ. وَهَكَذَا أَبْلَغُ مِنْ عَكْسِهِ؛ لِأَنَّ النَّاطِقَ بِالْخَبَرِ مُرِيدًا بِهِ الْأَمْرَ كَأَنَّهُ نَزَّلَ الْمَأْمُورَ بِهِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: التَّحْكِيمُ وَالتَّفْوِيضُ، كَقَوْلِهِ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَسَمَّاهُ ابْنُ فَارِسٍ وَالْعَبَّادِيُّ: التَّسْلِيمَ، وَسَمَّاهُ ابْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ: الِاسْتِبْسَالَ. قَالَ: أَعْلَمُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ اسْتَعَدُّوا لَهُ بِالصَّبْرِ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ تَارِكِينَ لِدِينِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَقِلُّونَ بِمَا هُوَ فَاعِلٌ فِي جَنْبِ مَا يَتَوَقَّعُونَهُ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ. قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ نُوحٍ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] أَخْبَرَهُمْ بِهَوَانِهِمْ عَلَيْهِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: التَّعَجُّبُ، ذَكَرَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] وَجَعَلَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ مِنْ قِسْمِ التَّعْجِيزِ. وَنَقَلَ الْعَبَّادِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ وُرُودَ التَّعَجُّبِ

عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَارِسِيِّ، وَمَثَّلَهُ قَوْله تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الإسراء: 48] وَمَثَّلَ ابْنُ فَارِسٍ وَالْعَلَمُ الْقَرَافِيُّ لِلتَّعَجُّبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف: 26] وَهُوَ أَلْيَقُ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] : {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] وَقَوْلِهِ: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ} [الأنعام: 150] الْآيَةَ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَشُورَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ السُّؤَالَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْحَاجَةِ إلَى مَا يُسْأَلُ، وَالْمَشُورَةُ تَقَعُ تَقْوِيَةً لِلْعَزْمِ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: قُرْبُ الْمَنْزِلَةِ ذَكَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [الأعراف: 49] . التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْإِهَانَةُ، كَقَوْلِهِ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود: 55] وَقَوْلِهِ: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64] ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالصَّيْرَفِيُّ. قَالَا: وَلَيْسَ هَذَا أَمْرَ إبَاحَةٍ لِإِبْلِيسَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَكُونُ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ عِبَادِي، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وَسَمَّاهُ جَمَاعَةٌ بِالتَّهَكُّمِ.

وَضَابِطُهُ: أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَى الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ، وَالْمُرَادُ ضِدُّهُ. وَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّخْيِيرِ بِأَنَّ الْإِهَانَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ أَوْ تَرْكِهِمَا دُونَ مُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ، وَالِاحْتِقَارُ إمَّا مُخْتَصٌّ بِهِ، أَوْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا مَحَالَةَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ فِي شَيْءٍ أَنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ، يُقَالُ: إنَّهُ احْتَقَرَهُ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ أَهَانَهُ مَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْهُ. الثَّلَاثُونَ: التَّحْذِيرُ وَالْإِخْبَارُ عَمَّا يَئُولُ إلَيْهِ أَمْرُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] ذَكَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: إرَادَةُ الِامْتِثَالِ كَقَوْلِك عِنْدَ الْعَطَشِ: اسْقِنِي مَاءً فَإِنَّك لَا تَجِدُ مِنْ نَفْسِك عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ إلَّا إرَادَةَ السَّقْيِ أَعْنِي طَلَبَهُ، فَإِنْ فُرِضَ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ تُصُوِّرَ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ إتْحَافُ السَّيِّدِ بِغَرَضِهِ. وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: إرَادَةُ الِامْتِثَالِ لِأَمْرٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ» ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْأَمْرَ بِأَنْ يَقْتُلَ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بِهِ الِاسْتِسْلَامُ، وَعَدَمُ مُلَابَسَةِ الْفِتَنِ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: التَّخْيِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ. وَفِيهِ مَا سَبَقَ فِي التَّسْوِيَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَقْسَامُ الْأَوَامِرِ كَثِيرَةٌ لَا تَكَادُ تَنْضَبِطُ كَثْرَةً وَكُلُّهَا تُعْرَفُ بِمَخَارِجِ الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ وَبِالدَّلَائِلِ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى الْقَرَائِنِ السَّابِقَةِ فِي حَمْلِ الصِّيغَةِ عَلَى مَا سَبَقَ. قَالَ: وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ فَالْأَمْرُ فِيهِ إرْشَادٌ وَحَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ، كَالْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ بِالْبَيْعِ، وَقَوْلُهُ:

{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] أَيْ إنْ شِئْتُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] قَالَ: وَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى خُصُوصِ الْعَامِّ جَازَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ. قَالَ: وَقَدْ تَرِدُ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ بِأَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ نَحْوَ قَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَقَوْلِهِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] وَقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] ثُمَّ قَالَ: {وَآتُوهُمْ} [النور: 33] . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مَتَى كَانَتْ بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَالشَّفَاعَةِ، أَوْ التَّعْجِيزِ أَوْ التَّهْدِيدِ أَوْ الْإِهَانَةِ أَوْ التَّقْرِيعِ أَوْ التَّسْلِيمِ وَالتَّحْكِيمِ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا، وَأَمَّا التَّكْوِينُ فَقَدْ سَمَّاهُ أَصْحَابُنَا أَمْرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ أَمْرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّدْبِ وَالتَّرْغِيبِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَمْرِ بِالنَّوَافِلِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَالْأَوَّلُ: أَظْهَرُ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ. انْتَهَى. إذَا عَلِمْت هَذَا فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَيْسَتْ حَقِيقَةً فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا لَمْ يُفْهَمْ مِنْ صِيغَةِ " افْعَلْ " لَكِنْ بِالْقَرِينَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي بَعْضِهَا. قَالَ الْإِمَامُ: الْخِلَافُ فِي أُمُورٍ خَمْسَةٍ مِنْهَا، وَهِيَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، لِمَا سَيَأْتِي.

ما قام الدليل على عدم وجوبه هل يسمى أمرا

[مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ هَلْ يُسَمَّى أَمْرًا] وَعِبَارَةُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ مِنْ هَذِهِ الصِّيَغِ هَلْ يُسَمَّى أَمْرًا عَلَى قَوْلَيْنِ. انْتَهَى. وَفِي كِتَابِ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي طَلَبِ الْفِعْلِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّحْذِيرِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ فَقَطْ مَجَازٌ فِي الْبَوَاقِي، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ". أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ ادَّعَى كُلٌّ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ عَلَى وِفَاقِهِ، وَتَمَسَّكُوا بِعِبَارَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي كُتُبِهِ حَتَّى اعْتَصَمَ الْقَاضِي بِأَلْفَاظٍ لَهُ مِنْ كُتُبِهِ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهَا مَصِيرَهُ إلَى الْوَقْفِ، وَهَذَا عُدُولٌ عَنْ سُنَنِ الْإِنْصَافِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ وَالْمَأْثُورَ مِنْ مَذْهَبِهِ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِمُجَرَّدِهِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرِّسَالَةِ ": وَمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عَلَى التَّحْرِيمِ حَتَّى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى [غَيْرِ] ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ يَعْنِي: الشَّافِعِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَالنَّهْيِ وَأَنَّهُمَا عَلَى الْوُجُوبِ إلَى أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَقَدْ قَطَعَ الْقَوْلَ فِي النَّهْيِ أَنَّهُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَسَوَّى بَيْنَ الْأَمْرِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ وَالثَّانِي. وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ فِي الْأَمْرِ كَتَصْرِيحِهِ إيَّاهُ فِي النَّهْيِ. فَجُمْلَتُهُ: أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى الْوُجُوبِ إلَى أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو سَعِيدٍ وَابْنُ خَيْرَانَ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. انْتَهَى.

قُلْت: الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا حَتَّى يَرِدَ مَا يَصْرِفُهُ، وَأَنَّ لَهُ فِي الْأَمْرِ قَوْلَيْنِ أَرْجَحُهُمَا: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْإِبَاحَةَ وَالْوُجُوبَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ الْأَقْوَى دَلِيلًا فَإِنَّهُ قَالَ فِي: أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " فِيمَا جَاءَ مِنْ أَمْرِ النِّكَاحِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] : وَالْأَمْرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ النَّاسِ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ شَيْئًا ثُمَّ أَبَاحَهُ، كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَأَنْ يَكُونَ دَلَّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ رُشْدُهُمْ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَافِرُوا تَصِحُّوا» وَأَنْ يَكُونَ حَتْمًا، وَفِي كُلِّ حَتْمٍ مِنْ اللَّهِ الرُّشْدُ فَيَجْتَمِعُ الْحَتْمُ وَالرُّشْدُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلْإِبَاحَةِ حَتَّى تُوجَدَ دَلَالَةٌ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْحَتْمُ فَيَكُونُ فَرْضًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا نَهَى اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنْهُ مُحَرَّمٌ حَتَّى تُوجَدَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَلَى غَيْرِ التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْإِرْشَادُ أَوْ تَنَزُّهًا أَوْ تَأَدُّبًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ فَيَكُونَانِ لَازِمَيْنِ إلَّا بِدَلَالَةِ أَنَّهُمَا غَيْرُ لَازِمَيْنِ. انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ ": هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ

وَأَتْبَاعُهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهُوَ الَّذِي أَمْلَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلَى أَصْحَابِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ بِبَغْدَادَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، فِي تَرْكِهِ دَفْعُ الشَّرِيعَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَكَافَّةِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ فِي الْمُلَخَّصِ ": هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْأَقَلِّينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ، هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَإِلَيْهِ كَانَ يَذْهَبُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ ظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لِلْوُجُوبِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: بَلْ ظَاهِرٌ فِيهِ مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِهِ لَكِنَّ الْوُجُوبَ أَظْهَرُ، وَهَلْ ذَلِكَ بِوَضْعِ اللُّغَةِ أَوْ الشَّرْعِ؟ فَقِيلَ: اللُّغَةُ: وَصَحَّحَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " عَنْ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِاقْتِضَاءِ الصِّيغَةِ لِلْوُجُوبِ، وَأَنَّهُ كَذَلِكَ بِأَصْلِ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي إطْلَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ تَسْمِيَةُ مَنْ قَدْ خَالَفَ مُطْلَقَ الْأَمْرِ عَاصِيًا وَتَوْبِيخُهُ بِالْعِصْيَانِ عِنْدَ مُجَرَّدِ ذِكْرِ الْأَمْرِ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ دَلَالَةَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْوُجُوبِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: صَرَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْوَعِيدَ مُسْتَفَادٌ مِنْ اللَّفْظِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الِاقْتِضَاءُ الْجَازِمُ. وَقِيلَ بِوَضْعِ الشَّرْعِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى وَاخْتَارَهُ. وَقِيلَ بِضَمِّ الشَّرْعِ إلَى الْفِقْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِيمَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا، وَنَزَلَ

عَلَيْهِ كَلَامُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ فَإِنَّ الْوَعِيدَ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ اللَّفْظِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ خَارِجِيٌّ عَنْهُ. وَعَنْ الْمُسْتَوْعِبِ " لِلْقَيْرَوَانِيِّ حِكَايَةُ قَوْلٍ رَابِعٍ أَنَّهُ يَدُلُّ بِالْعَقْلِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَفَائِدَةُ الْوَجْهَيْنِ فِي الِاقْتِضَاءِ بِاللُّغَةِ أَوْ بِالشَّرْعِ أَنَّا إنْ قُلْنَا: يَقْتَضِيهِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَجَبَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الشَّارِعِ أَوْ غَيْرِهِ إلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ. وَإِنْ قُلْنَا: مِنْ حَيْثُ الشَّرْعِ كَانَ الْوُجُوبُ مَقْصُورًا عَلَى أَوَامِرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ. حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ". وَأَغْرَبَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " فَحَكَى عَنْ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بِمُجَرَّدِهِ، ثُمَّ حَكَى قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَنْ قَالَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ لَا أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِهِ، وَمَنْ قَالَ: يَقْتَضِي الْإِيجَابَ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ بِالْأَمْرِ يَصِيرُ الْفِعْلُ وَاجِبًا، وَيُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي النَّدْبِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ أَبُو هَاشِمٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إنَّهُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَسْرِهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْوَاضِحِ ": هُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَبِي عَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: كَلَامُهُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " يَدُلُّ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَحَكَاهُ الْفُقَهَاءُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبَهُمْ

عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي الْإِرَادَةَ، وَالْحَكِيمُ لَا يُرِيدُ إلَّا الْحَسَنَ، وَالْحَسَنُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَنَدْبٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُحَقَّقِ وَهُوَ النَّدْبُ، فَلَيْسَتْ الصِّيغَةُ عِنْدَهُمْ مُقْتَضِيَةً لِلنَّدَبِ إلَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا أَقْرَبُ إلَى حَقِيقَةِ مَذْهَبِ الْقَوْمِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحُسْنُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ نَدْبًا، وَكَوْنُهُ نَدْبًا يَقِينٌ، وَفِي وُجُوبِهِ شَكٌّ فَلَا يَجِبُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَذَكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ نَحْوَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ أَدْنَى الْمَرَاتِبِ، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ " عَنْ حِكَايَةِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، فَقَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَمْرُ كُلُّهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْمُرْشَدِ حَتَّى تُوجَدَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْحَتْمُ، وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ حَتَّى تُوجَدَ الدَّلَالَةُ بِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ التَّحْرِيمِ. وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ) ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ فَيَكُونَانِ لَازِمَيْنِ إلَّا بِدَلَالَةِ أَنَّهُمَا غَيْرُ لَازِمَيْنِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: «فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أَنَّ عَلَيْهِمْ الْإِتْيَانَ بِمَا اسْتَطَاعُوا؛ لِأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا يُلْزَمُونَ بِمَا اسْتَطَاعُوا. وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ طَلَبُ الدَّلَائِلِ حَتَّى يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا. انْتَهَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدَبِ وَأَنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْهُمْ بَلْ الْمَعْرُوفُ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ إلَى وَقْتِنَا هَذَا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ قَوْمٍ لَيْسُوا مِنْ الْفُقَهَاءِ أَدْخَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، كَمَا نَسَبَ قَوْمٌ إلَى الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَ بِالتَّوَقُّفِ فِي الْعُمُومِ، وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبَهُ. انْتَهَى. الرَّابِعُ: أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ.

وَحُكِيَ عَنْ الْمُرْتَضَى مِنْ الشِّيعَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ سَبَقَ عَنْ صَاحِبِ الْمَصَادِرِ " حَقِيقَةُ مَذْهَبِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " بِتَرَدُّدِ الْأَمْرِ [بَيْنَ] الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَقَدْ سَبَقَ تَأْوِيلُهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الطَّلَبُ لَكِنْ يُحْكَمُ بِالْوُجُوبِ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْعَمَلِ احْتِيَاطًا دُونَ الِاعْتِقَادِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ. السَّادِسُ: حَقِيقَةٌ إمَّا فِي الْوُجُوبِ، وَإِمَّا فِي النَّدْبِ، وَإِمَّا فِيهِمَا جَمِيعًا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَكِنَّا مَا نَدْرِي مَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَنَعْرِفُ أَنْ لَا رَابِعَ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْوَاقِفِيَّةِ كَالشَّيْخِ وَالْقَاضِي، وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَقَالَ: إنَّهُ صَارَ إلَى التَّوَقُّفِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ وَالتَّوَقُّفُ عِنْدَهُ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ لَا فِي تَعْيِينِ الْمَوْضُوعِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مَوْضُوعٌ بِالِاشْتِرَاكِ الْعَقْلِيِّ لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ. وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ إلَى التَّوَقُّفِ فِي تَعْيِينِ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ فَقَطْ، أَوْ النَّدْبِ فَقَطْ أَوْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا. السَّابِعُ: مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ وَالْإِبَاحَةَ، وَهَلْ هُوَ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ الْمَعْنَوِيِّ؟ رَأْيَانِ. الثَّامِنُ: أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَمْسَةِ، هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ. حَكَاهُ فِي الْمَحْصُولِ ".

التَّاسِعُ: مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّهْدِيدِ. حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وَنَسَبَهُ لِلْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي، وَأَصْحَابِهِمَا. قَالَ: وَعِنْدَهُمْ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بِحُكْمِ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ فَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ. وَغَايَرَ ابْنُ بَرْهَانٍ بَيْنَ مَذْهَبِ الشَّيْخِ وَالْقَاضِي. ذَهَبَ الشَّيْخُ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَتْ لَهُ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ، وَإِنَّمَا قَوْلُ الْقَائِلِ: " افْعَلْ " مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ، وَالتَّكْوِينُ لَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ ثُمَّ ذَكَرَ مَذْهَبَ الْقَاضِي كَمَا سَيَأْتِي. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ مَجَازٌ فِيمَا سِوَاهُ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ لِلْوُجُوبِ وَأَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّدَبِ إلَّا مَا كَانَ مُوَافِقًا لِنَصٍّ أَوْ مُبَيِّنًا لِمُجْمَلٍ. حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ الْأَبْهَرِيِّ، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَقَالَ: إنَّ النَّقْلَ اخْتَلَفَ عَنْهُ، فَرُوِيَ عَنْهُ كَذَا، وَرُوِيَ عَنْهُ مُوَافَقَةُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لِلنَّدَبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْأَدِلَّةِ: وَأَمَّا مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْأَبْهَرِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِهِ " وَهُوَ كَالْمَتْرُوكِ وَكَانَ يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ السُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ، فَأَضَافُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَبِهَذَا فَارَقَ بَيَانَ الْمُجْمَلِ مِنْ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِابْتِدَاءٍ مِنْهُ.

قَالَ: وَالصَّحِيحُ هَذَا الَّذِي كَانَ يَقُولُهُ آخِرَ أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَوَامِرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَوَامِرِ رَسُولِهِ مِنْ كَوْنِ جَمِيعِهَا عَلَى الْوُجُوبِ. الثَّانِيَ عَشَرَ: وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ، وَلَيْسَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَدُلُّ عِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ " عَلَى مَعْنًى أَوْ مُشْتَرَكٍ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عِنْدَ انْضِمَامِ الْقَرِينَةِ إلَيْهَا، وَنُزُولُ الصِّيغَةِ مِنْ الْقَرِينَةِ مَنْزِلَةَ الزَّايِ مِنْ زَيْدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى تَرَكُّبٍ مِنْ الزَّايِ وَالْيَاءِ وَالدَّالِ حِينَئِذٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى، وَكَذَلِكَ قَوْلُك: " افْعَلْ " بِدُونِ الْقَرِينَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ فَإِذَا انْضَمَّتْ الْقَرِينَةُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ دَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَقَالَ الشَّيْحُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ إلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبٍ، وَلَا غَيْرِهِ، بِمُجَرَّدِهِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ إلَّا بِدَلِيلٍ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَى الْعَمَلِ فَتَنْتَهِضُ فِيهَا الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَطْعِيَّةٌ؛ إذْ هِيَ مِنْ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَبَنَى الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: الْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ كَانَ هُوَ الْقَطْعَ فَالْحَقُّ فِيهَا هُوَ التَّوَقُّفُ، وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ، وَهُوَ الْحُكْمُ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَوْ الظَّنِّ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، فَالْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا هُوَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حَقِيقَةً فِي شَيْءٍ مَجَازًا فِي غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ تُرَدَّ تِلْكَ الْأَنْوَاعُ إلَى الْعَلَاقَةِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى مَجَازِ التَّشْبِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ يُوجَدُ فِيهِ

فَأَشْبَهَ الطَّلَبَ بِوَجْهٍ، فَإِنَّ التَّعْجِيزَ وَالتَّكْوِينَ وَالتَّخْيِيرَ طَلَبٌ بِوَجْهٍ مَا، وَكَذَا النَّهْيُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَرِدُ صِيغَةُ الْخَبَرِ لِلْأَمْرِ نَحْوَ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] وَهُوَ مَجَازٌ، وَالْعَلَاقَةُ فِيهِ مَا يَشْتَرِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي تَحْقِيقِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَكَذَا الْخَبَرُ بِمَعْنَى النَّهْيِ نَحْوَ «لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ» نَعَمْ هَاهُنَا بَحْثٌ دَقِيقٌ أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ " وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فَهَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَمْرِ مِنْ الْوُجُوبِ إذَا قُلْنَا: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالصِّيغَةِ الْمَعْنِيَّةِ وَهِيَ صِيغَةُ " افْعَلْ "؟ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا. وَهَذَا الْبَحْثُ قَدْ دَارَ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الزِّيَارَةِ، فَادَّعَى ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ وَجَعَلَ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثٍ» فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ وَقَالَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمْرِ بِصِيغَةِ " افْعَلْ " وَعَلَى النَّهْيِ بِصِيغَةِ " لَا تَفْعَلْ "؛ إذْ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ دَعْوَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مَوْضُوعًا حَقِيقَةً لِغَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَيُفِيدُ مَعْنَى أَحَدِهِمَا كَالْخَبَرِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَالنَّفْيِ بِمَعْنَى النَّهْيِ فَلَا يُدَّعَى فِيهِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي وُجُوبٍ، وَلَا تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرُ أَوْ النَّهْيُ، فَدَعْوَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي إيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ لِغَيْرِهِمَا مُكَابَرَةٌ.

قَالَ: وَهَذَا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَغْتَرُّونَ بِإِطْلَاقِ الْأُصُولِيِّينَ وَيُدْخِلُونَ فِيهِ كُلَّ مَا أَفَادَ نَهْيًا أَوْ أَمْرًا، وَالْمُحَقِّقُ الْفَاهِمُ يَعْرِفُ الْمُرَادَ وَيَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ. قُلْت: صَرَّحَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَلْحَقَهُ بِالْأَمْرِ ذِي الصِّيغَةِ. قَالَ: وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ دُخُولُ النَّسْخِ فِيهِ، وَالْأَخْبَارُ الْمَحْضَةُ لَا يَلْحَقُهَا النَّسْخُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَمْ يُوجَدْ خِلَافُهُ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا قَوْله تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " لَا " إذَا كَانَتْ نَافِيَةً أَبْلَغُ فِي الْخِطَابِ مِنْ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ كَانَ قَارًّا قَبْلَ وُرُودِهِ، وَالنَّفْيُ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عَنْ حَالَتِهِ. وَأَنَّهَا كَانَتْ مَنْفِيَّةً، فَلَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً قَبْلَ ذَلِكَ. وَهَاهُنَا فَوَائِدُ إحْدَاهَا: فِي الْعُدُولِ عَنْ صِيغَةِ الطَّلَبِ إلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ وَفَوَائِدُ: مِنْهَا: أَنَّ الْحُكْمَ الْمُخْبَرَ بِهِ يُؤْذِنُ بِاسْتِقْرَارِ الْأَمْرِ وَثُبُوتِهِ عَلَى حُدُوثِهِ وَتَجَدُّدِهِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا فِعْلًا حَادِثًا فَإِذَا أُمِرَ بِالشَّيْءِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ آذَنَ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ فِي وُجُوبِ فِعْلِهِ وَلُزُومِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ حَصَلَ وَتَحَقَّقَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى الِامْتِثَالِ، وَمِنْهَا: أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْإِيجَابِ فَقَدْ يُحْتَمَلُ الِاسْتِحْبَابُ. فَإِذَا جِيءَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ عُلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ وَانْتَفَى احْتِمَالُ الِاسْتِحْبَابِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَحْكَامَ قِسْمَانِ خِطَابُ وَضْعٍ، وَأَخْبَارٌ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ

الثالثة ورود صيغة الخبر والمراد بها الأمر

سَبَبًا وَشَرْطًا وَمَانِعًا، وَهَذَا مِنْ النَّوْعِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا جِيءَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ الْمُمْتَازَةِ عَنْ سَائِرِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَوْ كَانَتْ مَجْنُونَةً ثَبَتَ حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُكَلَّفَةً. الثَّانِيَةُ: الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ مَجَازٌ عَنْ الْأَمْرِ فِي مِثْلِ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] هَلْ هُوَ مَجْمُوعُ الْمُبْتَدَإِ وَالْخَبَرِ، أَوْ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَحْدَهُ؟ كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ يَمِيلُ إلَى الثَّانِي، وَأَنَّ الْمَعْنَى وَالْوَالِدَاتُ لَيُرْضِعْنَ، وَبَعْضِهِمْ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ لَا يَكُونُ جُمْلَةً إنْشَائِيَّةً. [الثَّالِثَةُ وُرُودِ صِيغَةِ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ] الثَّالِثَةُ: الْمَشْهُورُ جَوَازُ وُرُودِ صِيغَةِ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَحَسْبُك دِرْهَمٌ، أَيْ: اكْتَفِ بِهِ. وَمَنَعَهُ السُّهَيْلِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنْ وُجِدَتْ مُطَلَّقَةٌ لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ خَبَرِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى خِلَافِ مُخْبَرِهِ. وَقِيلَ: لِتَتَرَبَّصَ بِحَذْفِ اللَّامِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا دَلَّ الْأَمْرُ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ] إذَا دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ أَوْ يُتَوَقَّفُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. حَكَاهُمَا الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ " وَعُزِيَ الثَّانِي لِأَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ: فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ كَانَ لِلْإِبَاحَةِ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ الْإِبَاحَةِ فَفِي جَوَازِ الْفِعْلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْظُورٍ، وَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْبَاطِلِ.

مسألة إذا دل الدليل على انتفاء الوجوب وحمل على الندب فهل هو مأمور به حقيقة أو مجازا

قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَلَامُ أَصْحَابِنَا بَعِيدٌ عَنْهُ. [مَسْأَلَةٌ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ وَحُمِلَ عَلَى النَّدْبِ فَهَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا] إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ وَحُمِلَ عَلَى النَّدْبِ، فَهَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؟ خِلَافٌ سَبَقَ فِي بَحْثِ النَّدْبِ وَقِيلَ: إطْلَاقُ الْأَمْرِ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الْمُشَكَّكِ، كَالْوُجُودِ وَالْبَيَاضِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْوُجُوبِ أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ وَحُمِلَ عَلَى الْإِبَاحَةِ] إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ وَحُمِلَ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَعَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ مَجَازٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ فَوَائِدِ الْأَمْرِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي النَّدْبِ فَيَجِيءُ فِيهَا الْخِلَافُ؟ وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الْإِبَاحَةَ أَمْرٌ، وَالْمُبَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ الْبَلْخِيّ. [مَسْأَلَةٌ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْوُجُوبُ فَهَلْ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ] إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْوُجُوبُ، فَهَلْ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؟ ، فِي الْجَوَازِ فِيهِ وَجْهَانِ. حَكَاهُمَا الْقَاضِي الطَّبَرِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " وَصَحَّحُوا الْمَنْعَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يُوضَعْ لِلْجَوَازِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ لِلْإِيجَابِ، وَالْجَوَازُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّابِعُ.

في وجوب اعتقاد الوجوب قبل البحث

وَقَدْ سَبَقَتْ أَيْضًا مَسْأَلَةُ: إذَا صَدَرَ مِنْ الشَّارِعِ مُجَرَّدًا عَنْ الْقَرِينَةِ، وَقُلْنَا: يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ وَجَبَ الْفِعْلُ لَا مَحَالَةَ، [فِي وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْبَحْثِ] وَفِي وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْبَحْثِ خِلَافُ الْعَامِّ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ " فِي بَابِ الْعُمُومِ. قَالَ: فَعَلَى قَوْلِ الصَّيْرَفِيِّ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ بِظَاهِرِهِ، وَالنَّهْيُ عَلَى التَّحْرِيمِ بِظَاهِرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلُ يُتَوَقَّفُ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى. وَقَدْ تَعَرَّضَ هَاهُنَا صَاحِبُ الْمِيزَانِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: إذَا صَدَرَ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ مِنْ مُفْتَرِضِ الطَّاعَةِ فَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ وَاعْتِقَادُهُ قَطْعًا. هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ مِنْهُمْ الْمَاتُرِيدِيُّ: إنَّ حُكْمَهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُعْتَقَدَ فِيهِ نَدْبٌ وَلَا مَا يُنَافِيهِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ بِطَرِيقِ التَّعْيِينِ، وَبُنِيَ عَلَى هَذَا مَا لَوْ اقْتَرَنَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ قَرِينَةُ النَّدْبِ، أَوْ الْإِبَاحَةِ، أَوْ التَّهْدِيدِ، فَمَنْ قَالَ: الْوُجُوبُ عَيْنًا فَلَيْسَ بِأَمْرٍ عِنْدَهُ، لِانْعِدَامِ حُكْمِهِ، بَلْ إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ مَجَازًا. انْتَهَى. وَأَقُولُ: الْأَمْرُ ضَرْبَانِ: أَمْرُ إعْلَامٍ وَأَمْرُ إلْزَامٍ، فَأَمَّا أَمْرُ الْإِعْلَامِ فَمُخْتَصٌّ بِالِاعْتِقَادِ دُونَ الْفِعْلِ، وَيَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْأَمْرُ عَلَى الِاعْتِقَادِ بِزَمَانٍ

تقديم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد

وَاحِدٍ وَهُوَ وَقْتُ الْعِلْمِ بِهِ، وَأَمَّا أَمْرُ الْإِلْزَامِ فَمُتَوَجِّهٌ إلَى الِاعْتِقَادِ وَالْفِعْلِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَإِيجَابِ الْفِعْلِ، وَلَا يُجْزِئُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ فَعَلَهُ قَبْلَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ تَجْدِيدُ الِاعْتِقَادِ عِنْدَ الْفِعْلِ إذَا كَانَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اعْتِقَادِهِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ تَعَبُّدُ إلْزَامٍ، وَالْفِعْلُ تَأْدِيَةُ مُسْتَحَقٍّ، [تَقْدِيم الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ بِزَمَانِ الِاعْتِقَادِ] وَيَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْأَمْرُ عَلَى الْفِعْلِ بِزَمَانِ الِاعْتِقَادِ. وَاخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ تَقْدِيمِهِ بِزَمَانِ الْمُتَأَهِّبِ لِلْفِعْلِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْفِعْلِ بِزَمَانَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زَمَانُ الِاعْتِقَادِ، وَالثَّانِي: زَمَانُ التَّأَهُّبِ لِلْفِعْلِ، وَبِهِ قَالَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يُعْتَبَرُ تَقْدِيمُ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ بِزَمَانِ الِاعْتِقَادِ وَحْدَهُ وَالتَّأَهُّبُ لِلْفِعْلِ شُرُوعٌ فِيهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ، وَسَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ التَّكْلِيفِ. [مَسْأَلَةٌ تَقْدِيمُ الْأَمْرِ عَلَى وَقْتِ الْفِعْلِ] يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْأَمْرِ عَلَى وَقْتِ الْفِعْلِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَا تَكُونُ صِيغَةُ " افْعَلْ " قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ أَمْرًا بَلْ يَكُونُ إعْلَامًا، وَسَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ التَّكْلِيفِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ] إذَا قَالَ الرَّاوِي: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا، قَالَ

مسألة الأمر بالشيء هل يقتضي الجواز

الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ: وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ. قَالَ: وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْحَرِيرِيُّ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ قَالَ: لَا حُجَّةَ فِيهِ حَتَّى يَنْقُلَ لَفْظَ الرَّسُولِ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ هَلْ الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَوْ النَّدْبَ؟ وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " وَجَعَلَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ؟ وَعِنْدَنَا مَأْمُورٌ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هَلْ يَقْتَضِي الْجَوَازَ] َ؟] الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي جَوَازَهُ فِي قَوْلِ مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي التَّلْخِيصِ " قَالَ: وَأَنْكَرَ هَذَا الْإِطْلَاقَ، وَقَالَ: الْأَمْرُ إذَا اقْتَضَى إيجَابَ الشَّيْءِ فَمَا الْمَعْنَى بِالْجَوَازِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْإِيجَابِ؟ فَإِنْ قَيَّدْتُمْ الْجَوَازَ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْخِلَافُ فِي الْعِبَارَةِ، فَإِنَّا لَا نَسْتَحْسِنُ تَسْمِيَةَ الْوُجُوبِ جَوَازًا، وَإِنْ عَنَيْتُمْ بِالْجَوَازِ شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْوُجُوبِ فَهُوَ مُحَالٌ، وَيُؤَوَّلُ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مُبَاحٌ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: الصَّحِيحُ: أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَثْبُتُ حُسْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى ثُبُوتِ صِفَةِ الْجَوَازِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يُثْبِتُ جَوَازَ الْأَدَاءِ حَتَّى

مسألة الأمر يقتضي الصحة وهل يقتضيها شرعا أو لغة

يَقْتَرِنَ بِهِ دَلِيلٌ، بِدَلِيلِ مَنْ ظَنَّ طَهَارَتَهُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ شَرْعًا، وَلَا تَكُونُ جَائِزَةً إذَا أَدَّاهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَمَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ شَرْعًا، وَلَا يَكُونُ الْمُؤَدَّى جَائِزًا إذَا أُدِّيَ وَهَذَا مَمْنُوعٌ حُكْمًا وَتَوْجِيهًا. [مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَهَلْ يَقْتَضِيهَا شَرْعًا أَوْ لُغَةً] ً؟ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِي النَّهْيِ. مَسْأَلَةٌ مُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، كَذَا حَكَاه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَالْبَاجِيُّ، فِي الْأَحْكَامِ " وَغَيْرُهُمْ، وَخَرَّجُوا عَلَى ذَلِكَ: الْوُضُوءَ الْمُنَكَّسَ وَالطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ نُهِيَ عَنْهُ إجْمَاعًا. أَمَّا عِنْدَنَا فَنَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَأَمَّا عِنْدَهُمْ فَنَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَإِذَا كَانَا مَنْهِيَّيْنِ لَمْ يَكُونَا مَأْمُورَيْنِ، لِمَا بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ التَّضَادِّ. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحَّانِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ أَمْرِ الشَّارِعِ يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ. وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي " كِتَابِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ " حِكَايَةَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ كَمَا يُثْبِتُ صِفَةَ الْجَوَازِ وَالْحُسْنِ شَرْعًا يُثْبِتُ انْتِفَاءَ صِفَةِ الْكَرَاهَةِ.

مسألة ورود صيغة الأمر بعد الحظر هل تفيد الوجوب

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَارَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ كَوْنَهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، قَالَ: وَهِيَ كَمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي تَضْمِينِ الْوُجُوبِ لِلْجَوَازِ حَتَّى إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ بَقِيَ الْجَوَازُ، وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ سَبَقَتْ فِي فَصْلِ الْمَكْرُوهِ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَلْبِيسٌ فَإِنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا هُوَ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ تَعَرُّضٌ لِكَرَاهَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، فَإِذَا قَارَنَتْهَا الْكَرَاهَةُ، فَقَالَ قَائِلٌ: صَلِّ صَلَاةً غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهَا كَانَ ذَلِكَ تَدْلِيسًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَرَاهَةِ بَلْ أَمْرٌ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يُقَالُ: هَذِهِ الصَّلَاةُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ وُرُودُ صِيغَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ هَلْ تُفِيدُ الْوُجُوبَ] [مَسْأَلَةٌ] [وُرُودُ صِيغَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ هَلْ تُفِيدُ الْوُجُوبَ؟] إذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ مِنْ اقْتِضَاءِ صِيغَةِ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ فَلَوْ وَرَدَتْ صِيغَةٌ بَعْدَ الْحَظْرِ كَالْأَمْرِ بِحَلْقِ الرَّأْسِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ، وَالْأَمْرُ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ بَعْدَ تَحْرِيمِ حَمْلِهِ فِيهَا، فَهَلْ يُفِيدُ الْوُجُوبَ أَمْ لَا؟ فِيهِ مَذَاهِبُ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى حَالِهَا فِي اقْتِضَاءِ الْوُجُوبِ، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ ابْتِدَاءً، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ " وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ

وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ نَصَرَهُ فِي " كِتَابِهِ " وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّحْصِيلِ مِنَّا، وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَنَصَرَهُ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " إلَيْهِ ذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ وَنَقَلَهُ فِي الْوَجِيزِ " عَنْ الْقَاضِي، وَاَلَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ كُنْت مِنْ الْقَائِلِينَ بِالصِّيغَةِ لَقَطَعْت بِأَنَّ الصِّيغَةَ الْمُطْلَقَةَ بَعْدَ الْحَظْرِ مُجْرَاةٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وَصَرَّحَ الْمَازِرِيُّ عَنْ الْقَاضِي، بِالْوَقْفِ هُنَا كَمَا هُنَاكَ، وَحَكَى عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَقْوَى تَأْكِيدُ الْوُجُوبِ فِيهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ كَتَأْكِيدِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ عَنْ تَقَدُّمِ حَظْرٍ حَتَّى إنَّ هَذَا يُتْرَكُ عَنْ ظَاهِرِهِ بِدَلَائِلَ لَا تَبْلُغُ فِي الْقُوَّةِ مَبْلَغَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يُتْرَكُ لِأَجْلِهَا ظَاهِرُ الْمُجَرَّدِ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا عَيْنُ مَا اخْتَرْته فِي الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ كَمَا سَبَقَ. وَحَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ وَصَاحِبُ الْوَاضِحِ " عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشِّيعَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ الْأَقْوَى فِي النَّظَرِ، وَقَالَ فِي الْإِفَادَةِ ": ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ " فِي كِتَابِهِ " وَالْخَفَّافُ فِي كِتَابِ " الْخِصَالِ " بِأَنَّهُ شَرَطَ لِلْأَمْرِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَهُ حَظْرٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ ": إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " وَكَذَا حَكَاهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي صَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ أَجْوِبَتِهِ، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي بَابِ الْكِتَابَةِ، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَأَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ تَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مِنْهَا الْإِبَاحَةُ، كَالْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] قَالَ: فَنَصَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْوَارِدَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ دُونَ الْإِيجَابِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ". انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لِلشَّافِعِيِّ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ ": إنَّهُ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَطْلَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ مَعَهُ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ خِلَافُهُ، لَكِنْ قَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ: الشَّافِعِيُّ يَجْعَلُ تَقَدُّمَ الْحَظْرِ مِنْ مُوَلِّدَاتِ التَّأْوِيلِ، وَهَذَا مِنْهُ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْحَظْرِ يُوهِنُ الظُّهُورَ، وَلَكِنْ لَا يُسْقِطُ أَصْلَ الظُّهُورِ كَانْطِبَاقِ الْعُمُومِ عَلَى سَبَبٍ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ، وَلِذَلِكَ احْتَجَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكِتَابَةِ بِقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فَقَالَ: هُوَ تَوْسِعَةٌ لِقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الْحَظْرُ السَّابِقُ عَارِضًا لِعِلَّةٍ وَسَبَبٍ وَعُلِّقَتْ صِيغَةُ " افْعَلْ " بِزَوَالِهَا، كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَكَقَوْلِهِ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَادَّخِرُوا» فَإِنَّ الْحَظْرَ السَّابِقَ إنَّمَا يَثْبُتُ

لِسَبَبٍ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ إذَا وَرَدَتْ صِيغَةُ " افْعَلْ " مُعَلَّقَةً بِرَفْعِهِ دَلَّ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى أَنَّهُ لِدَفْعِ الذَّمِّ فَقَطْ. وَيَغْلِبُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْوَضْعِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْحَظْرُ السَّابِقُ قَدْ عَرَضَ لَا لِعِلَّةٍ، وَلَا أَنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " عُلِّقَتْ بِزَوَالِ ذَلِكَ، كَالْجَلْدِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَقِيبَ الزِّنَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ الْإِيلَامِ، فَتَبْقَى صِيغَةُ " افْعَلْ " عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ. فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا لِلْوُجُوبِ قَبْلَ ذَلِكَ فَهِيَ لِلْوُجُوبِ بِحَالِهَا، وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا مَوْقُوفَةٌ قَالَ: هِيَ أَيْضًا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَيُرِيدُ هُنَا أَيْضًا احْتِمَالَ الْإِبَاحَةِ، وَلَا تَنْقُصُ الْإِبَاحَةُ بِسَبَبِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ هُنَا دَعْوَى عُرْفٍ أَوْ اسْتِعْمَالٍ حَتَّى يُقَالَ بِأَنَّهُ يَغْلِبُ الْعُرْفُ الْوَضْعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِخِلَافِ الْأُولَى بَلْ يَبْقَى التَّرَدُّدُ لَا غَيْرُ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ وَقَالَ: أَمَّا إذَا أُطْلِقَ غَيْرَ مُعَلَّلٍ بِعَارِضٍ ثُمَّ تَعَقَّبَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فَهُوَ مَحَلُّ التَّرَدُّدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَظْرِ بِالْكَلَامِ، فَإِنْ انْتَفَى التَّعَلُّقُ لَمْ يُؤَثِّرْ قَطْعًا وَيُحْتَمَلُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَرِدْ صِيغَةُ " افْعَلْ " كَقَوْلِك: قَالَ: " إذَا حَلَلْتُمْ فَأَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِالِاصْطِيَادِ " فَهَذَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ وَالْإِبَاحَةَ. وَالرَّابِعُ: الْوَقْفُ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالْوُجُوبِ وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ أَبْطَلَ الْوَقْفَ فِي لَفْظِهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ حَظْرٍ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ ": إنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَقَالَ

ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: إنَّهُ الرَّأْيُ الْحَقُّ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ مِنْ تَعْلِيقِهِ ". وَالسَّادِسُ: أَنَّهَا تَرْفَعُ الْحَظْرَ السَّابِقَ وَتُعِيدُ حَالَ الْفِعْلِ إلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْحَظْرِ، فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا كَانَتْ لِلْإِبَاحَةِ، كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] أَوْ وَاجِبًا فَوَاجِبٌ، كَقَوْلِهِ: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْوَطْءِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَنَسَبَهُ لِلْمُزَنِيِّ. قَالَ: وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فَإِنَّ الصِّيغَةَ رَفَعَتْ الْحَظْرَ وَأَعَادَتْهُ إلَى مَا كَانَ أَوَّلًا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي. قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا حُرِّمَ لِحُدُوثِ مَعْنًى فِيهِ، وَكَانَ قُبَيْلَ حَظْرِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ فِعْلُهُ فَإِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِهِ بَعْدَ الْحَظْرِ فَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْإِبَاحَةُ، وَرَدُّ الشَّيْءِ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى. أَلَا تَرَى أَنَّ وَطْءَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِ ثُمَّ حَرُمَ بِحُدُوثِ الْحَيْضِ؟ فَلَمَّا قِيلَ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيجَابًا بَلْ إبَاحَةً كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَهِيَ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَكَذَا قَوْلُهُ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» أَيْ: فَقَدْ أَبَحْت لَكُمْ الْآنَ مَا حَظَرْته عَلَيْكُمْ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَقَدُّمَ الْحَظْرِ عَلَى الْأَمْرِ هَلْ هُوَ قَرِينَةٌ تُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَمْ لَا؟ فَالْقَائِلُونَ بِالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ لَا يَرَوْنَهُ قَرِينَةً مُوجِبَةً لِلْخُرُوجِ عَنْ ذَلِكَ، وَالْقَائِلُونَ بِالْإِبَاحَةِ يَرَوْنَ تَقَدُّمَ الْحَظْرِ قَرِينَةً خَارِجَةً لِلْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ مُقْتَضَاهُ، وَهُمْ مُطَالَبُونَ بِدَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ إلَّا دَعْوَى الْفَرْقِ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَنْ مُقْتَضَاهُ أَوْ دَعْوَى أَكْثَرِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي ذَلِكَ، وَطَرِيقُهُمْ فِي ذَلِكَ إيرَادُ النَّظَائِرِ، كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} [المائدة: 2] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] ، وَإِلَّا فَلَا إشْكَالَ فِي إمْكَانِ الِانْتِقَالِ مِنْ بَعْضِ الْأَحْكَامِ إلَى بَعْضٍ كَيْفَ كَانَتْ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا تَبَيَّنَ لَك أَنَّ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي هَذِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ اخْتَارَ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْوُجُوبِ قَائِمٌ وَالْوُجُودُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا، وَقَرَّرَ كَوْنَ الْمَوْجُودِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ مِنْ الْحَظْرِ إلَى الْوُجُوبِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ يَدَّعِي أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ وَالْعُرْفَ دَالَّانِ عَلَى صَرْفِ الْأَمْرِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ جَوَازُ الِانْتِقَالِ، وَإِنَّمَا الطَّرِيقُ مُنَازَعَةُ الْخَصْمِ فِي ذَلِكَ وَإِلْزَامُهُ لِلْحُجَّةِ عَلَى مَا قَالَ، وَأَمَّا النَّاظِرُ فِي نَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى اعْتِبَارِ الْإِطْلَاقَاتِ وَأَمْرِ الْعُرْفِ فَإِنْ صَحَّ عِنْدَهُ مَا ادَّعَاهُ الْمُخَالِفُ قَالَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ جَعَلَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " الْمُعْتَزِلِيُّ، وَصَاحِبُ الْمَصَادِرِ " الشِّيعِيُّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كَانَ الْحَظْرُ السَّابِقُ شَرْعِيًّا، قَالَا: فَإِنْ كَانَ عَقْلِيًّا فَلَا خِلَافَ

أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مَدْلُولُهُ عَمَّا كَانَ لِوُرُودِهِ ابْتِدَاءً وَصَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي " كِتَابِهِ " بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحَظْرِ بَيْنَ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ": لِلْمَسْأَلَةِ حَالَتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُبَاحًا فِي أَصْلِهِ إمَّا بِحُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مُجَوِّزَاتِ الْعُقُولِ مُبَاحٌ، أَوْ بِتَوَقُّفٍ مِنْ الشَّرْعِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَرِدُ حَظْرٌ مُعَلَّقٌ بِغَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ عِلَّةٍ، فَإِذَا وَرَدَ " افْعَلْ " بَعْدَ زَوَالِ مَا عَلَّقَ الْحَظْرَ بِهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ وَيَرْفَعُ الْحَظْرَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَرِدَ حَظْرٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بَعْلَةٍ عَارِضَةٍ، وَلَا مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ، وَلَا غَايَةٍ ثُمَّ يَرِدَ بَعْدَهُ صِيغَةُ الْأَمْرِ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَمِثْلُهُ بِالْكِتَابَةِ. قَالَ: وَيَجُوزُ رُجُوعُهَا إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْكِتَابَةِ إنَّمَا كَانَ لِدُخُولِهَا فِي الْغَرَرِ، وَحَظْرُ الْغَرَرِ مُبْتَدَأٌ. الثَّانِي: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَظْرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا فَقَطْ بَلْ الْمُرَادُ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ التَّحْرِيمُ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَثَّلَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] وَجَوَازُ الْكِتَابَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَالْمُسَاقَاةُ. الثَّالِثُ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَنَاقِضِ؛ إذْ الْمُبَاحُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَقْتَضِي كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ، وَالصَّوَابُ: أَنْ يَقُولَ: " افْعَلْ " إذَا وَرَدَ بَعْدَ الْحَظْرِ. وَقَالَ عَبْدُ الْجَلِيلِ الرَّبَعِيُّ فِي شَرْحِ اللَّامِعِ ": هَذِهِ الْعِبَارَةُ رَغِبَ عَنْهَا الْقَاضِي، وَقَالَ: الْأَوْلَى فِيهَا أَنْ يُقَالَ: " افْعَلْ " بَعْدَ الْحَظْرِ؛ لِأَنَّ " افْعَلْ " يَكُونُ أَمْرًا تَارَةً وَغَيْرَ أَمْرٍ، وَالْمُبَاحُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ.

مسألة النهي الوارد بعد الإباحة

الرَّابِعُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْإِبَاحَةِ بِأَنَّ تَقَدُّمَ الْحَظْرِ قَرِينَةٌ صَرَفَتْ لِلْأَمْرِ عَنْ الْوُجُوبِ. وَعَارَضَ ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ، فَقَالَ: إذَا رَاعَيْتُمْ الْحَظْرَ الْمُتَقَدِّمَ وَجَعَلْتُمُوهُ قَرِينَةً صَارِفَةً لَهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنَّهُ يَكُونُ تَهْدِيدًا وَوَعِيدًا وَيَكُونُ قَرِينَةُ الْحَظْرِ صَارِفَةً لَهُ إلَى التَّهْدِيدِ حَتَّى تَكُونَ الْقَرِينَةُ مُبَيِّنَةً لِحُكْمٍ مِنْ جِنْسِهَا، ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ النَّهْيُ إذَا وَرَدَ بَعْدَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ الْمُتَقَدِّمُ قَرِينَةً تَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إلَى الْكَرَاهَةِ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ: بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّهْدِيدِ لِئَلَّا يَبْطُلَ مَقْصُودُ الْأَمْرِ فَحُمِلَ عَلَى الْإِبَاحَةِ مُرَاعَاةً لَهُ، وَصُرِفَ عَنْ الْوُجُوبِ مُرَاعَاةً لِلْقَرِينَةِ. وَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ مَا رَاعَى الْأَمْرَ فَلَا بُدَّ مِنْ جَوَابٍ صَحِيحٍ. الْخَامِسُ: قِيلَ: يُحْتَاجُ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ فَإِذَا جَازَ وَجَبَ كَالْخِتَانِ وَقَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ، وَقَضِيَّةُ هَذَا الْجَزْمِ بِأَنَّهُ لِلْوُجُوبِ. قُلْنَا: الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ مَفْرُوضَةٌ فِي شَيْءٍ كَانَ مَمْنُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَالْأُصُولِيَّةُ فِيمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ. [مَسْأَلَةٌ النَّهْيُ الْوَارِدُ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ] ِ] أَمَّا النَّهْيُ الْوَارِدُ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ كَالنَّهْيِ الْمُطْلَقِ بِلَا خِلَافٍ.

مسألة الأمر عقيب الاستئذان

قَالَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " وَالْمَصَادِرِ "، وَأَمَّا الْوَارِدُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمَنْ قَالَ هُنَاكَ: يُفِيدُ الْوُجُوبَ، قَالَ هُنَا: يُفِيدُ التَّحْرِيمَ، وَحَكَى فِي الْمَنْخُولِ " فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَمَنْ قَالَ هُنَاكَ بِالْإِبَاحَةِ، فَاخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ الْخِلَافَ وَحَكَمَ بِالْإِبَاحَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَأْثِيرَ هُنَا لِلْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ بَلْ لِلنَّهْيِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ وَقَالَ: لَا يَنْهَضُ الْوُجُوبُ السَّابِقُ قَرِينَةً فِي حَمْلِ النَّهْيِ عَلَى رَفْعِ الْوُجُوبِ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ فِي تِلْكَ، وَتَبِعَ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ الْإِمَامَ فِي التَّلْخِيصِ " وَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَمَّا أَنَا فَأَسْحَبُ ذَيْلَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ كَمَا قَدَّمْته فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَمَا أَرَى الْمُخَالِفِينَ الْحَامِلِينَ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنَّ النَّهْيَ لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَالْأَمْرُ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ أَوْ اعْتِنَاءُ الشَّارِعِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرُ مِنْ اعْتِنَائِهِ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ الْمَفَاسِدَ فِي الْوُجُودِ أَكْثَرُ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ [مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ عَقِيبَ الِاسْتِئْذَانِ] ِ] الْأَمْرُ عَقِيبَ الِاسْتِئْذَانِ وَالْإِذْنِ حُكْمُهُ فِي إفَادَةِ الْوُجُوبِ كَالْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، فَيَقُولَ: " افْعَلْ " ذَكَرَهُ فِي الْمَحْصُولِ "، وَهُوَ حَسَنٌ نَافِعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُوبِ التَّشَهُّدِ «بِقَوْلِهِ

مسألة ورود الأمر مقيدا بمرة أو بتكرار

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ سَأَلُوهُ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ قُولُوا» الْحَدِيثَ. أَمَّا النَّهْيُ عَقِيبَ الِاسْتِئْذَانِ «كَقَوْلِ سَعْدٍ: أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا» ، وَقَوْلُهُمْ: «أَيَنْحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ؟ قَالَ: لَا» فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنْ الْخَبَرِ. وَقَدْ تَأْتِي قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى إرَادَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. إمَّا الْوُجُوبُ أَوْ الْجَوَازُ أَوْ الِاسْتِحْبَابُ، وَقَدْ يَكُونُ اسْتِرْشَادًا أَيْضًا كَمَا مَثَّلْنَا، وَالظَّاهِرُ فِيهَا أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ الْجَوَازِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الِانْحِنَاءُ حَرَامًا. قَالَ فِي الْبَحْرِ ": وَتَحْرُمُ الْوَصِيَّةُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ خِلَافُهُ، وَيُتَّجَهُ تَخْرِيجُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. [مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْأَمْرِ مُقَيَّدًا بِمَرَّةٍ أَوْ بِتَكْرَارٍ] ٍ] الْأَمْرُ إنْ وَرَدَ مُقَيَّدًا بِمَرَّةٍ أَوْ بِتَكْرَارٍ حُمِلَ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَإِنْ وَرَدَ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ فَسَيَأْتِي، وَإِنْ وَرَدَ مُطْلَقًا عَارِيًّا عَنْ الْقُيُودِ فَاخْتَلَفُوا فِي اقْتِضَائِهِ التَّكْرَارَ وَعَدَمَهُ وَسَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّهُ لِلْوُجُوبِ، أَوْ الطَّلَبِ عَلَى مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ بِذَاتِهِ لَا عَلَى التَّكْرَارِ وَلَا عَلَى الْمَرَّةِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ طَلَبَ الْمَاهِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إشْعَارٍ بِالْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ ثُمَّ لَا يُمْكِنُ إدْخَالُ الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ بِأَقَلَّ مِنْ مَرَّةٍ، فَصَارَتْ الْمَرَّةُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِذَاتِهِ بَلْ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ ": إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ النَّاسِ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ رَأْي الْقَاضِي عَلَى تَوَلُّعِهِ بِالْوَقْفِ فِي أَصْلِ صِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْعُمُومِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالْآمِدِيَّ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَنَقَلَهُ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ صَاحِبُ اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبَاجِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا، وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ خِلَافًا عَنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَحْتَمِلُهُ أَصْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَحْتَمِلُهُ. قَالَ: وَهُوَ الْأَوْلَى، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ فِي الْبُرْهَانِ " فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّهُ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْمَرَّةِ مُتَوَقِّفٌ لَا نَنْفِيهِ وَلَا نُثْبِتُهُ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ كُلَّ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَيَقْتَضِيهِ، غَيْرَ أَنَّ الْكُلَّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَعَلَيْهِ دَلَّتْ مَسَائِلُ عُلَمَائِنَا، وَكَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلتَّكْرَارِ الْمُسْتَوْعِبِ لِزَمَانِ الْعُمُرِ إجْرَاءً لَهُ مَجْرَى النَّهْيِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيِّ وَعَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ.

وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّ الْعَالَمِيَّ نَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَحَكَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَنْ الْمُزَنِيّ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَنْخُولِ " عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ عَنْ مَالِكٍ، وَحَكَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ عَنْ شَيْخِهِمْ. لَكِنْ شَرْطُ هَذَا الْقَوْلِ الْإِمْكَانُ دُونَ أَزْمِنَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْيَوْمِ وَضَرُورِيَّاتِ الْإِنْسَانِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ التَّكْرَارِ هُنَا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، وَهُوَ إعَادَةُ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ مِنْ الْمُكَلَّفِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَحْصِيلُ مِثْلِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُعَبِّرُ عَنْ التَّكْرَارِ بِالْعُمُومِ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ فِيهِ الْعُمُومُ التَّكْرَارَ إنْ قُلْنَا: إنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ، وَالْأَزْمِنَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نَصٌّ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَطْ، وَلَا يُحْتَمَلُ التَّكْرَارُ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ، وَحَكَاهُ فِي التَّلْخِيصِ " عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَالْجَمَاهِيرِ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَحَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ "، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: إنَّهُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْفُرُوعِ قَالَ: لِأَنَّهُ قَالَ فِي الطَّلَاقِ: إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ إلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً بِالدُّخُولِ إلَى الدَّارِ؛

لِأَنَّ إطْلَاقَ ذَلِكَ اقْتَضَى مَرَّةً وَاحِدَةً: قَالَ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْأَشْبَهُ بِمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ. قُلْت: بَلْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرِّسَالَةِ " صَرِيحًا فِي بَابِ الْفَرَائِضِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهَا. قَالَ: فَكَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغَسْلِ مَرَّةً، وَاحْتَمَلَ أَكْثَرَ، وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوُضُوءَ مَرَّةً فَوَافَقَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ الْحَدِيثُ بِهِ لَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ "، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ " الْفُقَهَاءِ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ اخْتِيَارِ شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَقَالَ: ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ. قِيلَ: وَأَكْثَرُ النَّقَلَةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ غَرَضُهُمْ إلَّا نَفْيَ التَّكْرَارِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْمَرَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْكِ أَحَدٌ الْمَذْهَبَ الْمُخْتَارَ مَعَ حِكَايَةِ هَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ فِي الْعِبَارَةِ. قُلْت: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَرَّةِ هَلْ هِيَ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَالِالْتِزَامِ؟ وَإِنْ عَدِمَ دَلَالَتَهُ عَلَى التَّكْرَارِ هَلْ هِيَ لِعَدَمِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ أَصْلًا أَوْ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ تَوَقَّفَ فِيهِ؟ .

وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ قَطْعًا، وَلَا يُنَبِّئُ عَنْ نَفْيِ مَا عَدَاهَا، وَلَكِنْ يَتَرَدَّدُ الْأَمْرُ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ الْقَاضِي، كَمَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ". قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ: أَنَّ الْأَوَّلِينَ قَطَعُوا بِأَنَّ الْأَمْرَ يُحْمَلُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا يَحْتَمِلُ مَعْنًى غَيْرَهَا، فَافْهَمْ الْفَصْلَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: الْقَائِلُونَ بِاقْتِضَائِهِ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَقْتَضِيهَا لَفْظًا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَى ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ اقْتِضَاءَهُ لَهَا إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الدَّلَالَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الطَّلَبَ بِتَحْصِيلِ الْمَاهِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إشْعَارٍ بِالْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهَا بِدُونِ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ قُلْنَا: دَلَّ عَلَيْهَا الْأَمْرُ ضَرُورَةً، بِخِلَافِ الْكَثْرَةِ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. قَالَ: وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ مُقْتَضَى الصِّيغَةِ الِامْتِثَالُ، وَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَأَمَّا الزَّائِدُ عَلَيْهَا فَيُتَوَقَّفُ فِيهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْغَزَالِيِّ. انْتَهَى. وَهَذَا الْأَخِيرُ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَاَلَّذِي فِي الْبُرْهَانِ " لِلْإِمَامِ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الِامْتِثَالَ بِالْمَرَّةِ وَهُوَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا عَلَى الْوَقْفِ بِتَوَقُّفٍ عَلَى الْقَرِينَةِ، وَهُوَ يَرُدُّ نَقْلَ الْآمِدِيُّ عَنْهُ الثَّالِثَ فَاعْلَمْهُ. وَالْخَامِسُ الْوَقْفُ فِي الْكُلِّ، وَهُوَ رَأْيُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَجَمَاعَةِ

مسألة الأمر المعلق بشرط أو صفة أو وقت

الْوَاقِفِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمَرَّةَ وَيَحْتَمِلُ لِعَدَدٍ مَحْصُورٍ زَائِدٍ عَلَى الْمَرَّةِ وَالْمَرَّتَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ كَذَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّقْرِيبِ ثُمَّ ادَّعَى قِيَامَ الْإِجْمَاعِ عَلَى انْتِفَاءِ مَا عَدَا التَّكْرَارَ وَالْمَرَّةَ بِالْحَصْرِ، وَتَوَقَّفَ حِينَئِذٍ بِالْمَرَّةِ وَالتَّكْرَارِ، ثُمَّ ادَّعَى الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْمَرَّةِ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ، ثُمَّ قَالَ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوَقْفِ: إنَّ الْمَفْهُومَ فِعْلُ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. هَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الْقَاضِي، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ الْوَقْفِ، وَقَالَ: هُوَ مُحْتَمِلٌ لِشَيْئَيْنِ: أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ التَّكْرَارِ وَالْمَرَّةِ فَيُتَوَقَّفُ إعْمَالُهُ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى قَرِينَةٍ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا نَعْرِفُهُ فَيُتَوَقَّفُ لِجَهْلِنَا بِالْوَاقِعِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ فِعْلًا لَهُ غَايَةٌ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَيَلْزَمُهُ فِي جَمِيعِهَا، وَإِلَّا فَلَا فَيَلْزَمُهُ الْأَوَّلُ. حَكَاهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَنَقَلَ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ وُرُودَ النَّسْخِ وَالِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْأَمْرِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ التَّكْرَارُ. وَالسَّابِعُ: إنْ كَانَ الطَّلَبُ رَاجِعًا إلَى قَطْعِ الْوَاقِعِ كَقَوْلِك فِي الْأَمْرِ السَّاكِنِ تَحَرَّكْ فَلِلْمَرَّةِ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى اتِّصَالِ الْوَاقِعِ وَاسْتِدَامَتِهِ كَقَوْلِك فِي الْأَمْرِ الْمُتَحَرِّكِ تَحَرَّكْ فَلِلِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ. وَيَجِيءُ هَذَا فِي النَّهْيِ أَيْضًا، وَهُوَ مَذْهَبٌ حَسَنٌ. [مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ وَقْتٍ] ٍ] أَمَّا الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ وَقْتٍ، نَحْوُ إنْ كَانَ زَانِيًا فَارْجُمْهُ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] فَهَلْ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَكْرَارِهَا؟ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَهُوَ عِنْدَكُمْ آكَدُ التَّكْرَارِ مِنْ الْمُجَرَّدِ، وَمَنْ قَالَ: لَا يَقْتَضِيهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَاهُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ. حَكَاهُ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي أُصُولِهِمْ. وَحَرَّرَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ الْمُعَلَّقِ إمَّا أَنْ يَثْبُتَ كَوْنُهُ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْفِعْلِ مِثْلُ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] وَقَوْلُنَا: إنْ كَانَ هَذَا الْمَائِعُ خَمْرًا فَهُوَ حَرَامٌ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ اتِّفَاقًا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ عِلَّةً بَلْ تَوَقَّفَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ لَهُ كَالْإِحْصَانِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ. انْتَهَى. وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ "، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ فَإِنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ هُنَا بِالصِّفَةِ مَا عَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَنَاوَلَ لَفْظَ تَعْلِيلٍ وَلَا شَرْطٍ، كَقَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَجَزَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ جَرَيَانُ الْخِلَافِ مُطْلَقًا، وَقَدْ يُجْمَعُ

بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْآمِدِيَّ فَرَضَ الْكَلَامَ مَعَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ، وَالْإِمَامُ تَكَلَّمَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ الْمُخَالِفِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى سَبَبٍ، كَ {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]

وَاقْطَعُوا، وَاجْلِدُوا فِي الْآيَتَيْنِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ اتِّفَاقًا، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَأَمَّا تَكْرَارُ الْأَمْرِ بِالتَّطْهِيرِ بِتَكَرُّرِ الْجَنَابَةِ، وَتَكْرَارُ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ بِتَكَرُّرِ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ، فَيَرْجِعُ إمَّا إلَى السَّبَبِيَّةِ، أَوْ بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ، وَيُعْرَفُ السَّبَبُ بِمُنَاسَبَتِهِ، أَوْ بِعَدَمِ دُخُولِ أَدَاةِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ. وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. قَالَ: فَأَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا اتِّفَاقًا. ثُمَّ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي فِعْلَ مَرَّةٍ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْرَارِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: إنَّهُ أَنَظْرُ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الْأَصَحُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ كَالْمُطْلَقِ، وَنَقَلَهُ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " وَزَادَ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيَّ، وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَنَقَلَهُ فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ

وَالْأُصُولِيِّينَ، وَرُبَّمَا نُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: لِأَنَّهُ قَالَ فِيمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلَّمَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ: إنَّهَا تَطْلُقُ بِكُلِّ دَخْلَةٍ، وَلَوْ قَالَ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى فِعْلِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَفَرَّقَ بَيْنَ " إذَا " وَ " كُلَّمَا " وَهَذَا مَوْضِعُ اللِّسَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا لِلتَّكْرَارِ، وَالْأُخْرَى لَا تَقْتَضِيهِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَقْتَضِيَهُ كَالنَّهْيِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ: لِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] وَكُلُّ مَنْ قَامَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ. قَالَ: فَلَمَّا تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصَّلَوَاتِ وُضُوءًا وَاحِدًا دَلَّنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ فِي الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ، وَبَقِيَ فِي التَّيَمُّمِ فِي الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّهُ يَقُولُ بِالْعُمُومِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ خَرَّجَهَا عَلَى وَجْهَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَقْيَسُ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ، وَالْأَظْهَرُ عَلَى الْمَذَاهِبِ: التَّكْرَارُ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَالْأَظْهَرُ هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ فَاعْلَمْهُ. وَحَكَى هَذَا الِاسْتِدْلَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَرَدَّهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ

تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] أَيْ: مُحْدِثِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي حُكْمُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ احْتِجَاجِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّيَمُّمِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ تَكْرِيرِ التَّيَمُّمِ لَا يَصْلُحُ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِحَّ وُجُوبُ تَكْرِيرِ الصَّلَاةِ فَيُجْرَى أَمْرُ التَّيَمُّمِ عَلَى مَا يُجْرَى عَلَيْهِ أَمْرُهَا. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الشَّرْطُ مُنَاسِبًا لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ عِلَّتُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] وَكَآيَةِ الْقَذْفِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَتَكَرَّرْ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ اللَّفْظُ لَهُ وَلَكِنْ يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ بِنَاءً عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يُشْعِرُ بِالْعِلِّيَّةِ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمَحْصُولِ " وَالْبَيْضَاوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ " وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَالْمُعَلَّقُ بِصِيغَةٍ يَقْتَضِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ": الَّذِي يَصِحُّ وَارْتَضَاهُ الْقَاضِي أَنَّ الْأَمْرَ الْمُقَيَّدَ بِشَرْطٍ لَا يَتَضَمَّنُ تَكْرَارَ الِامْتِثَالِ عِنْدَ تَكَرُّرِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهُوَ عَلَى الْوَقْفِ فِيمَا عَدَاهَا، وَصَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّكْرَارِ فِي الْعِلِّيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا فَصَّلَ الْآمِدِيُّ فِي الصِّيغَةِ التَّفْصِيلَ السَّابِقَ فَصَّلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الشَّرْطِ، فَقَالَ: إنْ اقْتَضَى التَّكْرَارَ، نَحْوُ كُلَّمَا جَاءَك وَمَتَى مَا جَاءَك فَأَعْطِهِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِحُكْمِ الْقَرِينَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِهِ فَلَا تَخْرُجُ صِيغَتُهُ عَنْ مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ.

مسألة إذا تكرر لفظ الأمر

قَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ: مَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ هَلْ تَدُلُّ عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ مُؤَثِّرًا كَالْعِلَّةِ؟ وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى كَوْنِهِ أَمَارَةً عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ، وَالْعِلَّةُ وُضِعَتْ مُؤَثِّرَةً جَالِبَةً، وَالْخَصْمُ يَقُولُ: مَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَمَّا فِي تَصَرُّفِ الْمُكَلَّفِينَ فَلَا يَقْتَضِي تَكْرَارًا لِمُجَرَّدِهِ، وَإِنْ كَانَ عِلَّةً فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتَقْت غَانِمًا لِسَوَادِهِ، وَلَهُ عَبِيدٌ آخَرُونَ سُودٌ لَمْ يُعْتَقُوا قَطْعًا، وَالشَّرْطُ أَوْلَى كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا دَخَلَتْ مَرَّةً وَقَعَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ، ثُمَّ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَكَرُّرِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ إلَّا فِي " كُلَّمَا "، وَمِنْهُ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ الْأُصُولِيُّ. [مَسْأَلَةٌ إذَا تَكَرَّرَ لَفْظُ الْأَمْرِ] مَسْأَلَةٌ أَمَّا إذَا تَكَرَّرَ لَفْظُ الْأَمْرِ نَحْوُ صَلِّ ثَلَاثًا صَلِّ ثَلَاثًا، فَإِنْ قُلْنَا: فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَهَاهُنَا هُوَ تَأْكِيدٌ قَطْعًا، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ مُطْلَقَهُ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَفِي تَكَرُّرِهِ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَهُ فَلَا يَقْتَضِي مِنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَنَسَبَهُ ابْنُ فُورَكٍ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ الصَّبَّاغِ لِلصَّيْرَفِيِّ، وَقَدْ رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ "، فَقَالَ: مَتَى خُوطِبْنَا بِإِيجَابِ شَيْءٍ وَكُرِّرَ لَمْ يَتَكَرَّرْ الْفِعْلُ لِتَكَرُّرِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: حَدِيثُ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ

فِي الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةَ، لَمَّا أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ يَغْسِلُ كُلَّ الْأَعْضَاءِ لِلْجَنَابَةِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَغْسِلَ الْأَعْضَاءَ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَجْلِ الْحَدَثِ أَوْ الْجَنَابَةِ، لِأَنَّهُ أَمَرَ مَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا بِالصَّلَاةِ الَّتِي وَضَعَهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى الْوُضُوءَ مِنْ الْحَدَثِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ إنَّمَا هُوَ عَلَمٌ لِنَقْضِ الطَّهَارَةِ لَا لِإِيجَابِهَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إذَا أَحْدَثَ وَجَبَ أَنْ يَتَطَهَّرَ لَا لِلصَّلَاةِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَجْلِ الْحَدَثِ لَلَزِمَ تَكْرَارُ الْغُسْلِ كَمَا يَلْزَمُ مَنْ أُمِرَ إنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ أَجْلِ شَيْءٍ، وَفَعَلَ مِثْلَهُ مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِ كَأَمْرِنَا بِالْفِدْيَةِ إذَا حَلَقَ، وَإِذَا لَبِسَ نَعْلَيْهِ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ فِي تَمْهِيدِهِ ". وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ فَيَقْتَضِي الْأَمْرَ بِتَكْرِيرِ الْفِعْلِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ لِأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ لَهُ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَنَسَبَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " الْمُعْتَزِلِيُّ لِعَبْدِ الْجَبَّارِ، وَنَسَبَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ لِأَهْلِ الرَّأْيِ، وَقَطَعَ بِالْأَوَّلِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: هُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ شُيُوخِنَا، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ وَالتَّكْرَارِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَنَسَبَهُ لِابْنِ فُورَكٍ، وَرَأَيْت فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ

وَهَذَا قَوْلُ الْوَقْفِ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْوَاقِفِيَّةِ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَغَيْرِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرِينَةِ. قَالَ وَكَلَامُ الْقَاضِي مُتَرَدِّدٌ فَتَارَةً يَمِيلُ إلَى الْوَقْفِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَتَارَةً يَقُولُ: يَقْتَضِي إنْشَاءً لَا مُتَجَدِّدًا. انْتَهَى. وَمِمَّنْ حَكَى الْوَقْفَ عَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْفُرُوعِ فِيمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الثَّانِيَةِ نِيَّةٌ هَلْ يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ أَوْ الِاسْتِئْنَافَ؟ قَوْلَانِ. وَلِمَحَلِّ الْخِلَافِ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَا يَمْنَعُ التَّكْرَارَ، فَإِنْ كَانَ، فَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ قَطْعًا، كَالْأَمْرِ بِالْقَتْلِ وَالْعِتْقِ إذَا تَكَرَّرَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قَتْلُهُ وَعِتْقُهُ مَرَّتَيْنِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ". الثَّانِي: أَنْ يَرِدَ التَّكْرَارُ قَبْلَ الِامْتِثَالِ فَإِنْ وَرَدَ بَعْدَهُ حُمِلَ الثَّانِي عَلَى الِاسْتِئْنَافِ قَالَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا الثَّالِثُ: أَنْ يَتَّحِدَ مَدْلُولُ اللَّفْظَيْنِ، نَحْوُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ اخْتَلَفَا اقْتَضَى التَّكْرَارَ قَطْعًا. قَالَهُ الْبَاجِيُّ وَصَاحِبُ الْوَاضِحِ "، نَحْوُ اضْرِبْ زَيْدًا أَعْطِهِ دِرْهَمًا، اضْرِبْ زَيْدًا اضْرِبْ عَمْرًا، صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، صُمْ يَوْمًا، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ بَيْنَ أَنْ يُقْرَنَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ أَوْ لَا، وَلَا بَيْنَ التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ كَمَا ذَكَرَهُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ وَغَيْرُهُ. قَالَ نَعَمْ إنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ ذُكِرَ تَأْكِيدًا أَوْ أُفْرِدَ عَمَّا عَدَاهُ تَفْخِيمًا فَالْحُكْمُ لِلدَّلِيلِ، نَحْوُ عَطْفُ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": إنْ وَرَدَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ بِالنَّكِرَةِ وَالثَّانِي

بِالْمَعْرِفَةِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ الثَّانِي إلَى مَا انْصَرَفَ إلَيْهِ الْأَوَّلُ سَوَاءٌ بِالْعَطْفِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا وَرَدَا بِالْمَعْرِفَةِ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ مَتَى ظَفِرَا بِمَعْهُودٍ فَإِنَّهُمَا يَنْصَرِفَانِ إلَيْهِ إلَّا لِمَانِعٍ، وَلِهَذَا حَمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْعُسْرَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] حَتَّى قَالَ: " لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ ". الرَّابِعُ: أَنْ لَا يُعْطَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ عُطِفَ فَلَا خِلَافَ فِي حَمْلِ الثَّانِي عَلَى الِاسْتِئْنَافِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَهُ الْبَاجِيُّ وَصَاحِبُ الْوَاضِحِ "، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ "، وَلَكِنَّهُ خَصَّ ذَلِكَ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَامُ التَّعْرِيفِ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ قَالَ: فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقِيلَ بِالْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَقْتَضِي الِاتِّحَادَ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ": إذَا أَمَرَ بِفِعْلٍ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِآخَرَ فَلِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي خِلَافَ الْأَوَّلِ، نَحْوَ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضِدَّهُ فَكَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ كَقَوْلِهِ: لَا تَمَسَّ زَيْدًا بِسُوءٍ، وَلَا تَضْرِبْهُ ثُمَّ تَقُولُ: اضْرِبْهُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَتَعَدَّدَ الْوَقْتُ، فَلَوْ اتَّحَدَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ وَرَدَ حُمِلَ عَلَى التَّخْيِيرِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الثَّانِي مِثْلَ مُوجِبِ الْأَوَّلِ فَهَذَا وَضْعُ الْخِلَافِ، فَذَهَبَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ، وَهَذَا الَّذِي يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَا بُدَّ أَيْضًا فِي هَذَا مِنْ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْفِعْلِ مِمَّا يَصِحُّ تَكْرَارُهُ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ

الْجِنْسِ وَالْمَعْطُوفُ مُتَنَاوِلًا لِبَعْضِهِ، فَقِيلَ بِالتَّغَايُرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فَقِيلَ: إنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى غَيْرَ الصَّلَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلتَّغَايُرِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا سَبَقَ إلَى الْوَهْمِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، وَهُوَ التَّفْخِيمُ وَالتَّعْظِيمُ. وَأَمَّا عَكْسُهُ، وَهُوَ كَوْنُ الثَّانِي أَعَمَّ مِنْ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ: اُقْتُلْ أَهْلَ الْأَدْيَانِ، وَاقْتُلْ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ هُنَا، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّفْخِيمُ وَالْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ قَالَ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ التَّأْكِيدِ، فَإِنْ قَامَتْ دَلَالَةٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ صِرْنَا إلَيْهِ. انْتَهَى. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي وَقْتَيْنِ، كَذَا صَوَّرَ بِهِ سُلَيْمٌ مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ. وَقَضِيَّتُهُ: أَنَّهُ إذَا كَرَّرَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ قَطْعًا، لَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَخَلَّلَهُ زَمَانٌ أَمْ لَا، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّ فَرْضَ الْكَلَامِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الصَّادِرِ مِنْ الْخَلْقِ، فَلَا يَبْعُدُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَوَامِرِ عَلَى التَّوَالِي أَوْ مَعَ التَّخَلُّلِ بِزَمَانٍ، فَإِنْ تَخَلَّلَ حُمِلَ عَلَى التَّجَدُّدِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْكِيدِ، فَأَمَّا مَا فِي أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا فَرْقَ، وَلِذَلِكَ جَازَ التَّخْصِيصُ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي مَحَلُّ نَظَرٍ، فَإِنَّ مَا اتَّصَلَ بِنَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - عِبَارَاتُهُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، فَأَيُّ فَرْقٍ؟ وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَصَحَّ تَأْخِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. السَّادِسُ: أَنْ تَتَكَرَّرَ صِيغَةُ الْأَمْرِ، فَإِنْ تَكَرَّرَ الْمَأْمُورُ بِهِ دُونَ صِيغَتِهِ، نَحْوُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمْ يُصَرِّحْ بِهَا الْأُصُولِيُّونَ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ مِنْهَا خِلَافٌ. وَالصَّحِيحُ لَا فَرْقَ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ، هَلْ

مسألة تصريح الأمر بالفعل في أي وقت شاء

هُوَ بِمَثَابَةِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ تَقَعُ طَلْقَةٌ قَطْعًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ. [مَسْأَلَةٌ تَصْرِيحُ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ] َ] الْأَمْرُ إنْ صَرَّحَ الْآمِرُ فِيهِ بِالْفِعْلِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، أَوْ قَالَ: لَك التَّأْخِيرُ، فَهُوَ لِلتَّرَاخِي بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ صَرَّحَ بِهِ لِلتَّعْجِيلِ فَهُوَ لِلْفَوْرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا أَيْ: مُجَرَّدًا عَنْ دَلَالَةِ التَّعْجِيلِ أَوْ التَّأْخِيرِ وَجَبَ الْعَزْمُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْفِعْلِ قَطْعًا. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَهَلْ يَقْتَضِي الْفِعْلَ عَلَى الْفَوْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ الْمُبَادَرَةُ عَقِبَهُ إلَى الْإِتْيَانِ بِالْأُمُورِ بِهِ أَوْ التَّرَاخِي أَمَّا الْقَائِلُونَ بِاقْتِضَائِهِ التَّكْرَارَ فَالْفَوْرُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الْمَانِعُونَ فَاخْتَلَفُوا عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَبِهِ قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَاخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ وَالدَّقَّاقُ، كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي بَابِ الْحَجِّ مِنْ تَعْلِيقِهِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا قَالَ: وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا تَأْخِيرَ الْحَجِّ بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. وَحَكَى فِي كِتَابِهِ الْأَسْرَارِ " عَنْ الْقَفَّالِ الْجَزْمَ بِهِ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي

اعْتِقَادًا بِالْقَلْبِ، وَمُبَاشَرَةً بِالْبَدَنِ، ثُمَّ الِاعْتِقَادُ عَلَى الْفَوْرِ فَكَذَا الْمُبَاشَرَةُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ أَوَامِرَ الْعِبَادِ حُمِلَتْ عَلَى الْفَوْرِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّي فِي بَابِ الزَّكَاةِ مِنْ التَّتِمَّةِ " وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الْمُزَنِيّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَدَاوُد، وَحَكَاهُ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَنَصَرَهُ أَبُو زَيْدٍ الرَّازِيَّ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: عَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُ أَصْحَابِنَا: وَقَالَ: إنَّهُ الَّذِي يَنْصُرُهُ أَصْحَابُنَا وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ قَضِيَّةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ فِي التَّمْهِيدِ " إنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ. وَالْقَائِلُونَ بِالْفَوْرِيَّةِ اخْتَلَفُوا كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ وَابْنُ فُورَكٍ وَصَاحِبُ الْمَصَادِرِ " إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَقِيلَ: يَجِبُ بِظَاهِرِهِ أَنْ يَفْعَلَ فِي الثَّانِي، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ إلَّا بِأَمْرٍ ثَانٍ، وَلَا يَقْتَضِي إلَّا إيقَاعَ الْفِعْلِ عَقِبَهُ فَقَطْ وَسَيَأْتِي: قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ اقْتِضَاؤُهُ الْفَوْرَ مِنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ أَيْ: بِاللُّغَةِ أَوْ بِالْعَقْلِ؟ وَزَيَّفَ الثَّانِي، وَقَالَ: إنَّمَا النِّزَاعُ فِي مُقْتَضَاهُ فِي اللِّسَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاجِبَ إمَّا الْفَوْرُ أَوْ الْعَزْمُ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ الْقَاضِي قِيلَ وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمُوَسَّعِ لَكِنَّ الَّذِي رَأَيْته فِي التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي اخْتِيَارَ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَبُطْلَانَ الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي مُخْتَصَرِهِ ": وَهُوَ الْأَصَحُّ إذْ الْمَصِيرُ إلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ أَوْ يَلْزَمُهُ ضَرْبٌ مِنْ التَّنَاقُضِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْفَوْرَ، وَلَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمُوتَ حَتَّى يَفْعَلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا، كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَجِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَسَائِرُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ لَمَّا ذَكَرَهُ فِي تَأْخِيرِ الْحَجِّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى التَّرَاخِي عَلَى حَسَبِ مَا قَالَهُ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: عَزَوْهُ إلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ اللَّائِقُ بِتَفْرِيعَاتِهِ بِالْفِقْهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي مَجْمُوعَاتِهِ فِي الْأُصُولِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ ": لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَلَا أَبِي حَنِيفَةَ نَقْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا فُرُوعُهُمَا تَدُلُّ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمَا. قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ فِي نَقْلِ الْمَذَاهِبِ، إذْ الْفُرُوعُ تُبْنَى عَلَى الْأُصُولِ لَا الْعَكْسُ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ صَاحِبِ الْإِفْصَاحِ " وَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " عَنْ الْقَاضِي، وَزَادَ أَبَا عَلِيٍّ وَأَبَا هَاشِمٍ الْجُبَّائِيَّيْنِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمَا صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " أَيْضًا: قَالَ: وَجَوَّزُوا تَأْخِيرَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْهِنْدِيُّ وَأَتْبَاعُهُمْ. وَقَالَ فِي الْبُرْهَانِ ": ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ إلَى مَا اُشْتُهِرَ عَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ حَمْلِ الصِّيغَةِ عَلَى اتِّبَاعِ الِامْتِثَالِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى وَقْتٍ مُقَدَّمٍ

أَوْ مُؤَخَّرٍ، وَهَذَا يَدْفَعُ مِنْ قِيَاسِ مَذْهَبِهِ مَعَ اسْتِمْسَاكِهِ بِالْوَقْفِ وَتَجْهِيلِهِ مَنْ لَا يَرَاهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ، كَذَا أَطْلَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ، وَحَكَوْهُ عَمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الْوَجْهُ عِنْدَهُ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى التَّعْجِيلِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْفِعْلِ. قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ قَوْلَهُ: " افْعَلْ " لَيْسَ فِيهِ عِنْدَنَا دَلِيلٌ إلَّا عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ فَحَسْبُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْوَقْتِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا فَهُوَ الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ الَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي مِنْ مَذْهَبِ عُلَمَائِنَا: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَى الْفَوْرِ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ "، فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ أَيَّ شَهْرٍ شَاءَ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ " عَنْ الْبَزْدَوِيِّ، فَقَالَ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْيُسْرِ الْبَزْدَوِيِّ: لَا خِلَافَ عِنْدَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ مُطْلَقٌ عَلَى حَسَبِ إطْلَاقِ الْأَمْرِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَفُوتَ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا بَلْ مُطْلَقُ الْأَمْرِ عَنْ الْوَقْتِ الْمُبَادَرَةُ، وَإِنَّمَا يُبَيَّنُ هَذَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ هَلْ يَصِيرُ مُكَلَّفًا بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ؟ فَعِنْدَنَا لَا يَصِيرُ مُكَلَّفًا بَلْ الْأَدَاءُ مُوَسَّعٌ لَهُ فِي عُمُرِهِ، وَعِنْدَهُمْ يَتَحَتَّمُ الْأَدَاءُ فِي الْحَالِ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ ": الْوَجْهُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ وَالْوَقْتِ، انْتَهَى. وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ. وَالْخَامِسُ: الْوَقْفُ إمَّا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَدْلُولِهِ أَوْ لِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَصَحَّحَهُ الْأَصْفَهَانِيِّ فِي قَوَاعِدِهِ "، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى. فَقَالَ: وَذَهَبَ إلَى الْوَقْفِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ عُرْفُ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ، ثُمَّ افْتَرَقَتْ الْوَاقِفِيَّةُ، فَقِيلَ: إذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَانَ مُمْتَثِلًا قَطْعًا وَإِنْ أَخَّرَ عَنْ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ لَانْقَطَعَ بِخُرُوجِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " وَفِي كَلَامِ الْآمِدِيَّ خَلَلٌ عَنْهُ، وَقِيلَ: إنَّهُ، وَإِنْ بَادَرَ إلَى فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ لَا يُقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُمْتَثِلًا، وَخُرُوجُهُ عَنْ الْعُهْدَةِ لِجَوَازِ إرَادَةِ التَّرَاخِي. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ ": وَقَائِلُ هَذَا لَا يُجَوِّزُ فِعْلَهُ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ قَبْلَهُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ مَذْهَبٌ مَنْسُوبٌ إلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَمَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ فَلَا كَلَامَ مَعَهُ، قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ.

الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ حِكَايَةُ قَوْلِ التَّرَاخِي، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمْ: إنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ مَدْخُولٌ؛ إذْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ الصِّيغَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي التَّرَاخِي، حَتَّى لَوْ فُرِضَ الِامْتِثَالُ عَلَى الْبِدَارِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَهَذَا لَمْ يَصِرْ إلَيْهِ أَحَدٌ، فَالْأَحْسَنُ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ يَقْتَضِي الِامْتِثَالَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِوَقْتٍ. انْتَهَى. وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إنَّ الْعِبَارَةَ الصَّحِيحَةَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَالتَّعْجِيلَ، قَالَ: وَمَعْنَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، لَا أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُهُ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ ذَلِكَ. انْتَهَى لَفْظُهُ. وَقَدْ سَبَقَ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ حِكَايَةُ قَوْلِ: إنَّ الْمُبَادَرَةَ لَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " الْخِلَافَ أَيْضًا فِي الْمُبَادِرِ هَلْ هُوَ مُمْتَثِلٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: أَمَّا الْمُبَادِرُ فَمُمْتَثِلٌ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَا، فَقَالَ: يُتَوَقَّفُ فِي الْمُبَادِرِ. وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ ذَهَبَ إلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ لَا يُعْتَدُّ مِنْهُ بِمَا فَعَلَ مُؤَخَّرًا قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَالتَّرْجَمَةُ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَالتَّعْبِيرُ بِالْفَوْرِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُؤَخِّرَ لَيْسَ بِمُمْتَثِلٍ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ: إنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ. الثَّالِثُ: قِيلَ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْوَاجِبِ دُونَ النَّدْبِ. وَقِيلَ: يَكُونُ فِيهِمَا، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُتَصَوَّرُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: الْأَمْرُ لِلدَّوَامِ

وَالتَّكْرَارِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَغْرَقَ الْأَوْقَاتَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفَوْرِيَّةُ، هَلْ يَجِبُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ الْمُدَّعَى ذَلِكَ فِيهِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ أَوْ بِجُمْلَةِ أَفْعَالٍ؟ فَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ، وَقِيلَ: يَعُمُّهَا، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي وَاحِدًا إذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ إيقَاعَهُ عَقِبَ الْأَمْرِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلٌ مِثْلُهُ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ بِنَفْسِ الْأَمْرِ بِهِ أَوْ لَا يَجِبُ إلَّا بِأَمْرٍ مُسْتَأْنَفٍ؟ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّرَاخِي هَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ أَوْ لَا؟ فَقِيلَ: يَجُوزُ إلَى غَايَةٍ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ مَاتَ آثِمًا، وَقِيلَ: لَا إثْمَ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ فَوَاتُهُ إنْ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ، وَفَصَّلَ آخَرُونَ، فَقَالُوا: قَدْ يَكُونُ إلَى غَايَةٍ، وَهِيَ أَنْ لَا يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَمُوتُ فَإِنْ مَاتَ كَانَ مَعْذُورًا غَيْرَ آثِمٍ، وَقَدْ يَكُونُ إلَى غَايَةٍ مُحَدَّدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الِاخْتِرَامُ عِنْدَ حُصُولِهَا، فَحِينَئِذٍ يَتَعَجَّلُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: حَيْثُ قُلْنَا: لَا يُفِيدُ الْفَوْرَ فَلَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمُوتَ حَتَّى يَفْعَلَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَخَّرَ لَمْ يَأْثَمْ فَلِمَ أَثَّمْتُمُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا جَوَّزْنَا لَهُ التَّأْخِيرَ عَلَى وَصْفٍ، فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّأْخِيرُ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ رَامِي الْغَرَضِ يَرْمِي عَلَى غَرَرٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُصِيبَ وَأَنْ لَا يُصِيبَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْكَفَّارَةِ فَإِنْ قِيلَ: مَتَى يَكُونُ عَاصِيًا؟ قِيلَ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَكُونُ فِي جَمِيعِ السِّنِينَ عَاصِيًا، كَمَا يَقُولُ فِي السُّكْرِ: إنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِالْقَدَحِ الْأَخِيرِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ الْأَقْدَاحِ كَذَلِكَ هَذَا، وَكَانَ أَبُو حَفْصٍ يَقُولُ: إذَا مَضَتْ عَلَيْهِ سَنَةٌ فَأَمْكَنَهُ أَنْ يَحُجَّ فَلَمْ يَفْعَلْ وَمَاتَ قَبْلَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عُلِمَ أَنَّ حَجَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ فَكَانَ عَاصِيًا، فَإِذَا بَقِيَ إلَى السَّنَةِ الْأُخْرَى فَأَخَّرَ عَنْهَا وَمَاتَ، عُلِمَ أَنَّ حَجَّهُ كَانَ لَهُ وَمَاتَ فَكَانَ عَاصِيًا بِهِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى.

مسألة الأمر المعلق بالفاء

[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِالْفَاءِ] ِ] هَذَا كُلُّهُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، فَأَمَّا مَا عُلِّقَ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] «فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك» . قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَالثَّانِي لَا يَقْتَضِيهِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ: هُوَ الْأَوَّلُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَلَوْ خُلِّينَا وَالظَّاهِرَ فِي قَوْلِهِ: «إذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك» لَعَمِلْنَا بِهِ، لَكِنْ صِرْنَا إلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى. [مَسْأَلَةٌ وَرَدَ الْخِطَابُ بِفِعْلِ عِبَادَةٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَخَرَجَ الْوَقْتُ وَلَمْ يَفْعَلْ] مَسْأَلَةٌ إذَا وَرَدَ الْخِطَابُ مِنْ الشَّارِعِ بِفِعْلِ عِبَادَةٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَخَرَجَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَلَمْ يَفْعَلْ، فَهَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ابْتِدَاءً أَمْ يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْأَدَاءُ، وَهُوَ الْأَمْرُ السَّابِقُ أَيْ: يَتَضَمَّنُهُ وَيَسْتَلْزِمُهُ لَا أَنَّهُ عَيْنُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى الْأَوَّلِ. مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَنَقَلَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَحَكَاهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ، وَقَالَ الْعَالَمِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: إنَّهُ اللَّائِقُ بِفُرُوعِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَنَقَلَهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْحَنَفِيُّ: إنَّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا.

وَوَجْهُهُ أَنَّ صِيغَةَ التَّأْقِيتِ تَقْتَضِي اشْتِرَاطَ الْوَقْتِ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْمُؤَقَّتِ، فَإِذَا انْقَضَى الْوَقْتُ فَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ أَمْرٌ بِالْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ ثَانٍ، وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الصِّيغَةُ، وَالصِّيغَةُ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى الْأَمْرِ فِي الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ فَدَلَالَتُهَا عَلَى الْفِعْلِ فِي غَيْرِهِ قَاصِرَةٌ عَنْهُ، وَمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ فِيهِ فَبِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى الثَّانِي مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَالْجَصَّاصُ وَالرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمْ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ الْحَنَابِلَةِ، وَحَكَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي الْكَشَفِ " عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ فَإِنَّهُ قَالَ: فِيمَا إذَا ظَاهَرَ عَنْهُمَا ظِهَارًا مُؤَقَّتًا: إنَّ الْعَوْدَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوَطْءِ قَالَ: وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَاسْتَقَرَّتْ لَا لِأَجْلِ اسْتِحْلَالٍ لِلْوَطْءِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْعَوْدِ أَوْ لَاعَنَهَا فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ عَلَى الْأَبَدِ وَلَزِمَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ أَوْ ارْتَدَّتْ فَقُتِلَتْ عَلَى الرِّدَّةِ، وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وَقْتٌ لَأَنْ يُؤَدِّيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُمَاسَّةُ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ فَذَهَبَ الْوَقْتُ لَمْ تَبْطُلْ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ: لَهُ أَدِّ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِ كَذَا، وَقَبْلَ وَقْتِ كَذَا، فَيَذْهَبُ الْوَقْتُ

فَيُؤَدِّيهَا؛ لِأَنَّهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهَا فِي الْوَقْتِ وَأَدَّاهَا بَعْدَهُ فَلَا يُقَالُ لَهُ: زِدْ فِيهَا، لِذَهَابِ الْوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ " وَهَذَا مِنْ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ بَلْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، إذْ لَوْ كَانَ لَا يَجِبُ إلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ عِنْدَهُ لَمْ يَقِسْهُ عَلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْجَدِيدَ وَرَدَ فِيهَا، لَكِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ التَّطَوُّعِ مِنْ النِّهَايَةِ " قَالَ: إنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ يُجَدَّدُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ نَصُّهُ فِي الرِّسَالَةِ ": عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، وَنَقَلَ الْهِنْدِيُّ عَنْ صَاحِبِ التَّقْوِيمِ " قَوْلًا ثَالِثًا، أَنَّهُ يَجِبُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْفَائِتَةِ عَنْ وَقْتِهَا الْوَاجِبِ قَضَاؤُهَا فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ الْأَكْثَرُ بِجَامِعِ اسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ الْفَائِتَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَعِنْدَ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ إنَّمَا هُوَ بِقِيَاسِ الشَّرْعِ، وَأَضَافَهُ إلَى الشَّرْعِ لِتَخْرُجَ الْمُقَدِّمَتَانِ وَالنَّتِيجَةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ قِيَاسُ الْعَقْلِ، وَالْمُرَادُ بِقِيَاسِ الشَّرْعِ رَدُّ فَرْعٍ إلَى أَصْلٍ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا. فَكَأَنَّهُ قَاسَ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُعَاوَضَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى وُجُوبِهِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لِمَا يَقُولُهُ الْحَنَابِلَةُ، وَبُرْهَانُهُ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْأَدَاءِ فِي حَقِّ مَنْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَاتَه مَعْدُومَةٌ فِي الْمَوْجُودَيْنِ، فَلَوْ كُلِّفَ الْعَبْدُ بِهِ كُلِّفَ بِمَا لَا يُطَاقُ، فَإِذَنْ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ إنَّمَا هُوَ بِالْفِعْلِ الَّذِي يُسَمَّى قَضَاءً، وَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ؛ إذْ لَا أَدَاءَ هُنَاكَ وَلَا فَائِتَ لِعَدَمِهِ فِي الْمَوْجُودَيْنِ الْعِلْمِيِّ وَالْخَارِجِيِّ، وَمَعْنَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّهُ هَلْ يُسْتَفَادُ مِنْ الْأَمْرِ ضِمْنًا الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ؟ أَيْ: يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْفَوَائِدِ

الضِّمْنِيَّةِ أَوْ لَا يُسْتَفَادُ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَصَرَّحَ بِهِ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَزَعَمَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ " أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مُطَابَقَةً، وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَيُسَاعِدُهُ عِبَارَةُ ابْنِ بَرْهَانٍ: هَلْ بَقِيَتْ وَاجِبَةً بِالْأَمْرِ السَّابِقِ أَمْ وَجَبَتْ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ؟ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي الْقَضَاءِ بِمَثَلٍ مَعْقُولٍ، فَأَمَّا الْقَضَاءُ بِمَثَلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ إلَّا بِنَصٍّ جَدِيدٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَمَّا الْمُطْلَقَةُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْإِمْكَانِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَجْعَلُ الْأَمْرَ لِلْفَوْرِ، فَإِنَّ فِعْلَهُ بَعْدَهُ لَيْسَ قَضَاءً عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَمِنْ فُرُوعِهِ: مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ الْوَلَدُ سَنَةً مُعَيَّنَةً، ثُمَّ لَمْ يُسَلِّمْهُ حَتَّى مَضَتْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَا يَجِبُ بَدَلَهَا سَنَةٌ أُخْرَى اعْتِبَارًا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إنْشَاءِ عَقْدٍ جَدِيدٍ إنْ أَرَادَهَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " الْمُعْتَزِلِيُّ: هَذَا الْخِلَافُ لَا يَجِيءُ إلَّا مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَأَمَّا الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لِلتَّرَاخِي فَلَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْفِعْلَ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَفِيمَا بَعْدَهَا مُرَادٌ، وَأَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ "، فَقَالَ: أَمَّا الْقَائِلُونَ بِنَفْيِ الْفَوْرِ فَيَقُولُونَ بِاقْتِضَائِهِ فِيمَا بَعْدُ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ثَانٍ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْفَوْرِ هَلْ يَقْتَضِي الْفِعْلُ فِيمَا بَعْدُ أَوْ، لَا؟ .

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَيْسَ الْغَرَضُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْكَلَامَ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اتَّفَقْنَا فِيهَا عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ فِي الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ إثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فِي مَوْضِعٍ لَا إجْمَاعَ فِيهِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ فِيهَا الْمَقْصُودُ إثْبَاتُ أَصْلٍ عِنْدَ التَّجَرُّدِ مِنْ الْقَرَائِنِ. قَالَ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَوَازُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ عَلَى قَضَائِهَا إنْ قُلْنَا: يَجِبُ مَا يَجِبُ بِهِ الْأَدَاءُ، وَمَنْعُهُ، وَإِنْ قُلْنَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ. قِيلَ: وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى قَاعِدَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُرَكَّبِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْفِعْلَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَنْ لَاحَظَ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى قَالَ: الْقَضَاءُ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ اقْتَضَى شَيْئَيْنِ الصَّلَاةَ وَكَوْنَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَهُوَ مُرَكَّبٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُ جُزْأَيْ الْمُرَكَّبِ وَهُوَ خُصُوصُ الْوَقْتِ بَقِيَ الْجُزْءُ الْآخَرُ وَهُوَ الْفِعْلُ فَيُوقِعُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ وَمَنْ لَاحَظَ الثَّانِيَةَ قَالَ: الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَعَيَّنَ الْوَقْتُ لِمَصْلَحَةٍ فَقَدْ لَا يُشَارِكُهُ الزَّمَنُ فِي تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَإِذَا شَكَكْنَا لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْقَضَاءُ فِي وَقْتٍ آخَرَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْجَدِيدِ إجْمَاعٌ أَوْ خِطَابٌ جَلِيٌّ عَلَى وُجُوبِ فِعْلٍ مِثْلِ الْفَائِتِ خَارِجَ الْوَقْتِ، لَا أَنَّهُ يَتَجَدَّدُ عِنْدَ فَوَاتِ كُلِّ وَاجِبٍ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ زَمَنَ الْوَحْيِ قَدْ انْقَرَضَ.

مسألة فوات الامتثال بالأمر

[مَسْأَلَةٌ فَوَاتُ الِامْتِثَالِ بِالْأَمْرِ] ِ] إذَا قُلْنَا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ فَأَخَّرَ عَنْهُ، فَهَلْ يَفْعَلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ؟ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ ": إنْ قُلْنَا: الْمُؤَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ: ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ أَيْضًا بِفَوَاتِ الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا مَاتَ سَقَطَ كَالْمُؤَقَّتِ. وَالثَّانِي: لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَتَنَاوَلُ فِعْلَهُ مُطْلَقًا لَا لِوَقْتٍ وَإِنَّمَا وَجَبَ الْفَوْرُ لِئَلَّا يَقْتَضِيَ وُجُوبَهُ. [مَسْأَلَةٌ احْتِيَاجُ الْإِجْزَاءِ إلَى دَلِيلٍ] ٍ] إتْيَانُ الْمُكَلَّفِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْمَشْرُوعِ مُوجِبٌ لِلْإِجْزَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ وَالْقَاضِي وَعَبْدِ الْجَبَّارِ حَيْثُ قَالَا: الْإِجْزَاءُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ خِلَافٌ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ قَوْلًا ثَالِثًا: أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُثْبِتُهُ الدَّلِيلُ وَنَسَبَاهُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ.

قَالَ سُلَيْمٌ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَفِيهَا مَذْهَبٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ مِنْ حَيْثُ عُرْفُ الشَّرْعِ، وَلَا يَقْتَضِيهِ مِنْ حَيْثُ وَضْعُ اللُّغَةِ: حَكَاهُ فِي الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى. وَخَامِسٌ: وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يَقَعُ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ، كَالصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ بِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِالْإِجْزَاءِ، وَبَيْنَ مَا يَدْخُلُهُ ضَرْبٌ مِنْ الْخَلَلِ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْمُكَلَّفِ أَوْ غَيْرِهِ كَالْوَطْءِ فِي الْحَجِّ وَالصَّوْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ. حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ". ثُمَّ قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَذْهَبًا آخَرَ؛ لِأَنَّا لَا نَقُولُ بِالْإِجْزَاءِ عَلَى أَيِّ أَمْرٍ وَقَعَ، وَإِنَّمَا يُجْزِئُ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " إذَا قُلْنَا: إنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، وَأَنَّهُ مِثْلُ الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ، فَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَمْنَعُ إيجَابَ مِثْلِهِ بَعْدَ الِامْتِثَالِ، لَكِنْ إنَّمَا سُمِّيَ قَضَاءً إذَا كَانَ فِيهِ تَدَارُكُ الْفَائِتِ مِنْ أَصْلِ الْعِبَادَةِ وَوَضْعِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَوَاتٌ اسْتَحَالَ تَسْمِيَتُهُ قَضَاءً يَعْنِي شَرْعًا لَا عَقْلًا. وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ فَنَقُولُ: الْإِجْزَاءُ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِامْتِثَالُ. وَالثَّانِي: إسْقَاطُ الْقَضَاءِ، فَالْمُكَلَّفُ إذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ عَلَى وَجْهِهِ فَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ مُجْزِئٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَغَيْرُهُمَا، أَيْ هَلْ يَسْتَلْزِمُ سُقُوطَ الْقَضَاءِ؟ لَا يَسْتَلْزِمُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ الْحَكِيمُ: افْعَلْ كَذَا، فَإِذَا فَعَلْت أَدَّيْت الْوَاجِبَ، وَيَلْزَمُك مَعَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ.

قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي الْمُعْتَمَدِ ": وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّهُ غَيْرُ مُجْزِئٍ، وَلَا يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُمْتَثَلْ، وَلَا أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ وَقَعَ مَوْقِعَ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي، هَذَا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ عَبْدِ الْجَبَّارِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَمِمَّنْ اعْتَنَى بِهِ أَيْضًا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ "، فَقَالَ: وَتَحْرِيرُ الْخِلَافِ فِيهِ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ هَلْ هُوَ مِنْ مَدْلُولِ الْأَمْرِ وَمُقْتَضَاهُ أَوْ هُوَ مِنْ مَجْمُوعِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الْغَيْرِ؟ وَأَمَّا كَوْنُهُ إذَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ يَبْقَى مَطْلُوبًا فَمَا زَادَ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ انْقَطَعَ تَعَلُّقُهُ عَمَّا عَدَا الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ مُنْقَطِعًا فِي تَعَلُّقِهِ، وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ. انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: إطْلَاقُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَفَخْرِ الدِّينِ وَأَتْبَاعِهِ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الِامْتِثَالَ هَلْ يُوجِبُ الْإِجْزَاءَ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ لَمْ يُخَالِفْ فِي الْإِجْزَاءِ، بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ بِالثَّانِي، وَالْخِلَافُ فِي الْأَوَّلِ بَعِيدٌ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَعَلَى هَذَا تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا ذَكَرُوهُ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْإِجْزَاءَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ سُقُوطِ الْقَضَاءِ بِالْفِعْلِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفِعْلِ سُقُوطُ الْقَضَاءِ، بَلْ يَنْبَغِي تَرْجَمَتُهَا عَلَى مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْإِجْزَاءِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: لَا

يَقْتَضِي، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ عَلَى هَذَا بِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ كَأَبِي هَاشِمٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ: الْإِجْزَاءُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ سُقُوطِ الْقَضَاءِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمُتَقَدِّمِ يَلْزَمُ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفِعْلِ مُجْزِئًا سُقُوطُ الْقَضَاءِ وَلَعَلَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ لَا فِي سُقُوطِ التَّعَبُّدِ بِهِ، وَكَوْنُهُ امْتِثَالًا وَطَاعَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالتَّنَاقُضِ فَيَبْعُدُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَدِلَّتَهُمْ تُشْعِرُ بِذَلِكَ. الثَّانِي أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَلْزِمُهُ أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ وَإِنَّمَا الْإِجْزَاءُ مُسْتَفَادٌ مِنْ عَدَمِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ اقْتَضَتْ الْعَدَمَ السَّابِقَ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ يَقُولُ: الْعَدَمُ اللَّاحِقُ الْكَائِنُ بَعْدَ الْفِعْلِ مُسْتَفَادٌ أَيْضًا مِنْ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، كَالْأَعْدَامِ الْكَائِنَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ. وَقَدْ شَبَّهَ الْقَرَافِيُّ هَذَا الْخِلَافَ بِالْخِلَافِ فِي مَفْهُومِ الشَّرْطِ، كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَنْ نَفَاهُ قَالَ: عَدَمُ عِتْقِهِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالْمَشْرُوطِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْمِلْكِ السَّابِقِ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ قَالَ: هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ أَيْضًا. وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُمْكِنُ إيرَادُ أَمْرٍ ثَانٍ بِعِبَادَةٍ يُوقِعُهَا الْمَأْمُورُ عَلَى حَسَبِ مَا أَوْقَعَ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ كَاسْتِئْنَافِ شَرْعٍ وَتَعَبُّدٍ ثَانٍ. وَالنِّزَاعُ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي قَضَاءٌ لِلْأَوَّلِ، فَالْجُمْهُورُ يَنْفُونَهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُمْ مَا فُعِلَ بَعْدَ وَقْتِ الْأَدَاءِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ وُجُوبُهُ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ،

مسألة تعليق الأمر بمعين

وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ بِنَاءُ مَنْ بَنَى عَلَيْهِ صَلَاةَ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ أَحَدِهِمَا هَلْ يُعِيدُ؟ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ ": إنْ أَرَادَ عَبْدُ الْجَبَّارِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَرِدَ أَمْرٌ بَعْدَهُ بِمِثْلِهِ فَمُسَلَّمٌ، وَمَرْجِعُ النِّزَاعِ فِي تَسْمِيَتِهِ قَضَاءً، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ فَسَاقِطٌ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ لُزُومَ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّكْرَارِ، وَالْأَوَّلُ يُجْزِئُ عَنْ الْآخَرِ لَكِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ، وَإِنْ كَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْمَوْقِعَ فَهُوَ غَيْرُ مُجْزِئٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْلُوبَةٌ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ كَوْنُ النَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ. [مَسْأَلَةٌ تَعْلِيقُ الْأَمْرِ بِمُعَيَّنٍ] ٍ] الْأَمْرُ إنْ تَعَلَّقَ بِمُعَيَّنٍ لَمْ يَخْرُجْ الْمُكَلَّفُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِالْإِتْيَانِ بِهِ قَطْعًا وَإِنْ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقٍ وَهُوَ الْمُتَنَاوِلُ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ فَاخْتَلَفُوا فِي الْمَطْلُوبِ بِهِ هَلْ هُوَ الْمَاهِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ أَوْ جُزْءٌ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا؟ قَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ أَمْرٌ يُجْزِئُ مُعَيَّنٌ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ لَا بِالْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ، وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: هُوَ أَمْرٌ بِالْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ لَا بِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ وَلَا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْأَخَصِّ، فَإِذَا قَالَ فِي الدَّارِ جِسْمٌ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَيَوَانٌ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ أَعَمُّ، وَهَذَا مَا حَكَاهُ أَبُو الْمَنَاقِبِ الزَّنْجَانِيّ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ مَذْهَبُ

أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَ الثَّانِيَ أَيْضًا الْقَرَافِيُّ وَالْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحَا الْمَحْصُولِ " وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ هِيَ هِيَ، وَلَا لَازِمَةً لَهَا فَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا لَا مُطَابَقَةً وَلَا الْتِزَامًا، فَعَلَى هَذَا، الْأَمْرُ بِالْجِنْسِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ أَلْبَتَّةَ، وَذَلِكَ كَالْمَأْمُورِ بِالْبَيْعِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَحَيْثُ حُمِلَ عَلَى مُعَيَّنٍ كَالْأَمْرِ مِنْ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّيْءِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، فَإِنَّمَا هُوَ لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ يُخَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَاهِيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا فِي ضِمْنِ جُزْئِيٍّ. وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَيَتَعَيَّنُ التَّخْيِيرُ. وَتَوَسَّطَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ فَقَالَ: الْمَطْلُوبُ الْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، لَا بِقَيْدِ الْجُزْئِيَّةِ وَلَا بِقَيْدِ الْكُلِّيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ أَحَدِهَا اعْتِبَارُ الْآخَرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي ضِمْنِ الْجُزْئِيَّاتِ. قَالَ: وَيُوَضِّحُ هَذَا كَلَامُهُمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ بِشَرْطِ شَيْءٍ وَبِشَرْطِ لَا شَيْءٍ وَلَا بِشَرْطٍ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَسْتَدْعِي تَجْدِيدَ الْعَهْدِ بِمَسْأَلَةٍ مَنْطِقِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّ الْكُلِّيَّ إمَّا مَنْطِقِيٌّ أَوْ طَبِيعِيٌّ أَوْ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّا إذَا قُلْنَا: الْبَيْعُ كُلِّيٌّ، فَهُنَاكَ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: مَاهِيَّةُ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَهُوَ الطَّبِيعِيُّ الثَّانِي: قَيَّدَ كَوْنَهُ كُلِّيًّا أَيْ: يَشْتَرِكُ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ، وَهِيَ الْمَنْطِقِيُّ.

وَالثَّالِثُ: تِلْكَ الْمَاهِيَّةُ بِقَيْدِ كَوْنِهَا كُلِّيَّةً، وَهُوَ الْعَقْلِيُّ. فَأَمَّا الطَّبِيعِيُّ: فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَوْجُودٌ، وَجُزْءُ هَذَا الْبَيْعِ نَفْسُ الْبَيْعِ بِالضَّرُورَةِ، وَجُزْءُ الْمَوْجُودِ مَوْجُودٌ. وَأَمَّا الْمَنْطِقِيُّ وَالْعَقْلِيُّ: فَفِي وُجُودِهِمَا فِي الْخَارِجِ خِلَافٌ يَتَفَرَّعُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْأُمُورَ النِّسْبِيَّةَ هَلْ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. قَالَ: وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ كَلَامِ الْآمِدِيَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْبِيَاعَاتِ هُوَ الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ، وَلَا شَكَّ فِي وُجُودِهِ فِي الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْكُلِّيَّيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ عَدَمُ تَصَوُّرِهِ فِي نَفْسِ الطَّلَبِ وَلُزُومِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُطْلَقِ غَيْرُ الْقَيْدِ فِي اللَّفْظِ بِقَيْدٍ أَوْ وَصْفِهِ، بَلْ أَطْلَقَ إنْ طُلِبَ فِعْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا لَا يُطْلَبُ إيقَاعُهُ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا؛ لِأَنَّ الْكُلِّيَّ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ وَلَا يَقْبَلُهُ الْخَارِجُ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ جُزْئِيًّا. قُلْنَا: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُزْئِيًّا مُعَيَّنًا عِنْدَ الْمُكَلَّفِ تَقَعُ فِيهِ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ قَطْعًا فَإِذَنْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ جُزْئِيًّا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِثْلَ النَّكِرَاتِ كُلِّهَا كَمَا تَقُولُ: إذَا لَقِيت رَجُلًا فَأَكْرِمْهُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَلْقَاهُ هُوَ جُزْئِيٌّ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ وَيُفَسِّرُ اللِّقَاءُ بِمُعَيَّنٍ، وَالْقَائِلُ الْآخَرُ يَقُولُ: الْمَطْلُوبُ الْمَاهِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ وَيَتَفَسَّرُ بِجُزْءٍ مِنْهَا أَوْ جُزْئِيَّاتٍ.

مسألة الأمر بالأمر بالشيء

[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ] ِ] الْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّخَلُّفُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» كَذَا قَالَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا كَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: بِوَسَطٍ، وَبِغَيْرِ وَسَطٍ جَعَلُوا الْأَمْرَ بِوَسَطٍ لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا، وَنَقَلَ الْعَالَمِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَمْرٌ، وَنَصَرَهُ الْعَبْدَرِيُّ وَابْنُ الْحَاجِّ فِي كَلَامِهِمَا عَلَى الْمُسْتَصْفَى " وَقَالَا: هُوَ أَمْرٌ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا بِدَلِيلِ «قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا فَقَالَ: نَعَمْ» فَفَهِمَ الْأَعْرَابِيُّ الْجَافِي، مِنْ أَمْرِ

اللَّهِ لِنَبِيِّهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَادَرَ إلَى الطَّاعَةِ. قَائِلًا: وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ لِلنَّاسِ: افْعَلُوا كَذَا، وَقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ: مُرْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا؟ . وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَاجِعَهَا» ، فَفِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ الْأَمْرُ لَهُ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» دَالًّا عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا كَانَ مَرْوِيًّا فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ مُخْتَلِفًا حِينَئِذٍ، وَكَلَامُ سُلَيْمٍ الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ " يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الثَّانِي الْفِعْلُ جَزْمًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَسْمِيَتِهِ أَمْرًا أَمْ لَا، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَأْمُرَ أُمَّتَهُ بِشَيْءٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَجِبُ فِعْلُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهَكَذَا إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَاحِدَ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ كَانَ دَالًّا عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وُرُودِ الْأَمْرِ ابْتِدَاءً عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَجَعَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْمُنْتَهَى " مَوْضِعَ الْخِلَافِ نَحْوَ مُرْ فُلَانًا بِكَذَا. أَمَّا لَوْ قَالَ: قُلْ لِفُلَانٍ: افْعَلْ كَذَا، فَالْأَوَّلُ آمِرٌ، وَالثَّانِي مُبَلِّغٌ قَطْعًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: الْخِلَافُ فِي أَمْرِ الِاسْتِصْلَاحِ نَحْوُ «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» فَأَمَّا مَا أُرِيدَ بِهِ التَّبْلِيغُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الثَّالِثَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ

الْأَمْرِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي الْحَيْضِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بَعْدَ الدُّخُولِ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» فَلَوْ كَانَ لِلْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَجَالٌ لَجَرَى خِلَافٌ فِي الِاسْتِحْبَابِ. وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ: إنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ التَّبْلِيغُ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لِلثَّانِي، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ حَسَنٌ وَالْحَقُّ: التَّفْصِيلُ: إنْ كَانَ لِلْأَوَّلِ بِأَمْرِ الثَّالِثِ فَالْأَمْرُ الثَّانِي بِالْأَمْرِ الثَّالِثِ وَإِلَّا فَلَا. وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّارِعَ إذَا أَمَرَ مُبَلِّغًا بِشَيْءٍ، فَهَلْ هُوَ أَمْرٌ لِلْمَأْمُورِ الثَّانِي بِذَلِكَ كَمَا لَوْ تَوَجَّهَ نَحْوَهُ الْأَمْرُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ؟ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَنُقِلَ فِيهِ خِلَافٌ، وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهُ. نَعَمْ الْخِلَافُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الْفُقَهَاءِ مَشْهُورٌ فِي أَنَّ الصَّبِيَّ مَأْمُورٌ بِأَمْرِ الْوَلِيِّ فَقَطْ أَوْ مَأْمُورٌ بِأَمْرِ الشَّارِعِ، وَرَجَّحُوا الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ نَظَرٌ إلَى وَضْعِ اللَّفْظِ فَقَطْ، وَجُنُوحٌ إلَى أَنَّ الصَّبِيَّ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْخِطَابِ وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِّ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْأَحْسَنُ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ وَمَثَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الْآيَةَ. وَقَالُوا: إنَّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِعْطَاءِ إلَّا مِنْ جِهَةِ وُجُوبِ طَاعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجُمْلَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا إلَّا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ الَّذِي اقْتَضَاهُ وُجُوبُ طَاعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرْجِعُ إلَى أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الشَّيْءُ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِينَ هَلْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ أَمْ لَا؟ وَلَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

مسألة الأمر بالإتمام

[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ] ِ] الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالشُّرُوعِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِتْمَامُ إلَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ، وَلِهَذَا احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] . [مَسْأَلَةٌ إيجَابُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ شَيْئًا] ] إذَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ شَيْئًا لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِغَيْرِهِ، مِثْلُ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ أَخْذَ الزَّكَاةِ، فَهَلْ يَتَضَمَّنُ هَذَا الْأَمْرُ إيجَابَ إعْطَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَقَالَ: قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَلَعَلَّهُمْ يُقَرِّبُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِنَا: الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ أَمْرٌ بِالْوُضُوءِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ الِابْتِدَارُ إلَى الْإِعْطَاءِ لَا مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ عَلَى الرَّسُولِ إيجَابُ الْإِعْطَاءِ عَلَى الْغَيْرِ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ فَيَأْمُرُ بِالْإِعْطَاءِ، وَأَمْرُهُ وَاجِبٌ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْإِعْطَاءِ عِنْدَ وُجُوبِ الْأَخْذِ عَلَيْهِ حُكْمًا لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ - عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ الْآمِرُ هَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ] ِ؟ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْآمِرَ هَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. حَكَاهُمَا

ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " وَنَصَّ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ، وَكَذَا نَصَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَقَالَ: الْقَوْلُ بِالدُّخُولِ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، وَقَطَعَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ: قَالَ: لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَأْمُورَ غَيْرُهُ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ النِّزَاعِ فَنَقُولُ: لَهُ حَالَاتٌ: إحْدَاهَا: أَنْ يَقُولَ لِنَفْسِهِ: " افْعَلِي " مُرِيدًا ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِهِ وَهَلْ يُسَمَّى حَسَنًا أَمْ لَا؟ قَالَ الْهِنْدِيُّ: الْحَقُّ: الْمَنْعُ؛ إذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَلْ يُسَمَّى أَمْرًا؟ إنْ شَرَطْنَا الْعُلُوَّ أَوْ الِاسْتِعْلَاءَ امْتَنَعَ، وَإِنْ لَمْ نَشْرِطْهُ، فَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ مُعْتَبَرَةٌ وَهِيَ مَفْقُودَةٌ هَاهُنَا، فَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهَا سُمِّيَ بِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِلَفْظٍ خَاصٍّ بِهِ لَا يَتَنَاوَلُهُ، فَلَا يَدْخُلُ الْآمِرُ تَحْتَهُ قَطْعًا سَوَاءٌ أَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ أَخْبَرَ بِالْأَمْرِ عَنْ غَيْرِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِلَفْظٍ عَامٍّ مُتَنَاوِلٍ لَهُ فَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ الْغَيْرِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ الْأَمْرِ كَمَا إذَا تَلَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ " أَوْ " يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ افْعَلُوا كَذَا " فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى دُخُولِهِ نَظَرًا إلَى عُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ أَمْرًا لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لَهُ، وَلِهَذَا دَخَلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوَامِرِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ دَلِيلٍ آخَرَ. كَذَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْعُمُومِ، لَكِنَّ الْأَكْثَرِينَ - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " الْمُعْتَزِلِيُّ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْآمِرَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ إذَا أَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ بِالْأَمْرِ عَنْ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ

مسألة الأمر بالصفة

- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأُمَّتِهِ: (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِصَوْمِ يَوْمٍ) فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالصَّحِيحُ: دُخُولُهُ. قَالَ: وَأَمَّا الْمُخْبِرُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ: مَنْ قَعَدَ فِي الْمَطَرِ ابْتَلَّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ عَبَثٌ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْبِرًا لِغَيْرِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَكَلَامُ الْهِنْدِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْخَبَرَ مَحَلُّ وِفَاقٍ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» قَالَ: وَلِهَذَا قِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَمَرْتَبَتُهُ كَوْنُهُ مُخَاطِبًا لَا يَخُصُّهُ، وَكَذَا فِي الْأَمْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ بِمَزِيدِ تَتِمَّةٍ فِي بَابِ الْعُمُومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ] ِ] الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ أَمْرٌ بِالْمَوْصُوفِ فَإِذَا أَمَرَ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كَانَ أَمْرًا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ قَالَ: وَغَلِطَتْ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ اسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ التَّلْبِيَةِ فِي الْإِحْرَامِ بِمَا رُوِيَ أَنْ «جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: مُرْ أَصْحَابَك لِيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ» ، فَجَعَلُوا النَّدْبَ إلَى الصِّفَةِ، وَهِيَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ التَّلْبِيَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ

يُنْدَبُ إلَى صِفَةِ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ فِي نَدْبِهِ إلَى الصِّفَةِ مَا يَقْتَضِي إيجَابَ الْمَوْصُوفِ، وَاَلَّذِي يَتَنَاوَلُهُ بِصَرِيحِهِ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَنَفْسُ التَّلْبِيَةِ إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ ضَمِيمِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لَهُ، وَمَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ مَا كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ ضِمْنِهِ الْمُتَوَصَّلِ إلَيْهِ أَوْلَى، وَفِيمَا أُطْلِقَ حِكَايَتُهُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ نَظَرٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَيْئَةٍ أَوْ صِفَةٍ لِفِعْلٍ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ جَازَ التَّمَسُّكُ بِهِ عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْفِعْلِ لِتَضَمُّنِهِ الْأَمْرَ بِهِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ وُجُوبُهَا، فَإِذَا خُولِفَ فِي الصَّرِيحِ بَقِيَ التَّضَمُّنُ عَلَى أَصْلِ الِاقْتِضَاءِ. قَالَ: ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ حَيْثُ تَمَسَّكَ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِنْشَاقِ بِالْأَمْرِ بِالْمُبَالَغَةِ. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا حَكَاهُ الْجُرْجَانِيُّ: لَا يَبْقَى دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": الْأَمْرُ بِإِيجَادِ الصِّفَةِ وَإِدْخَالِهَا فِي الْوُجُودِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالْمَوْصُوفِ لِاسْتِحَالَةِ دُخُولِ الصِّفَةِ فِي الْوُجُودِ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْمَوْصُوفِ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ الْحَالُ الْأَمْرَيْنِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» هَلْ الْمُرَادُ إدْخَالُ إفْشَاءِ السَّلَامِ فِي الْوُجُودِ فَيَكُونُ أَمْرًا بِأَصْلِ السَّلَامِ، أَوْ الْمُرَادُ إفْشَاؤُهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ أَيْ: إذَا سَلَّمْتُمْ فَلْيَكُنْ فَاشِيًّا؟ .

مسألة ورود الأمر بإيجاد الفعل

[مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْأَمْرِ بِإِيجَادِ الْفِعْلِ] ِ] إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِإِيجَادِ فِعْلٍ فَهَلْ يَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِمَا يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: اخْتَلَفَ فِيهِ الْأُصُولِيُّونَ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُجْزِئُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: الْأَمْرُ بِفِعْلِ الشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ وُجُوبَ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَقِيلَ: يَقْتَضِي الْأَكْثَرَ. لَنَا: أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَإِذَا وَرَدَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ تَعَلَّقَ بِالْمُتَيَقَّنِ، وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا، قَالَ: وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَزَادَ عَلَيْهِ، فَالزِّيَادَةُ تَطَوُّعٌ، وَعَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ. [مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ] ِ؟ إنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ كَصَوْمِ الْعِيدِ فَالنَّهْيُ عَنْ صَوْمِهِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ. وَهُوَ الْفِطْرُ فَلَا خِلَافَ، وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ، وَمِثْلُهُ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ نَهْيٌ عَنْ الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ كَالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ فَإِنَّ لَهُ أَضْدَادًا مِنْ الْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاضْطِجَاعِ وَنَحْوِهَا، وَكَالزِّنَى فَإِنَّ مِنْ أَضْدَادِهِ الصَّلَاةَ وَالنَّوْمَ وَالْمَشْيَ وَغَيْرَهَا، فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ.

قِيلَ: نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ، وَقِيلَ: عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا بِعَيْنِهِ. حَكَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ ". وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقَعُ فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّفْسَانِيُّ، وَاخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لَهُ فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ الْوُجُودِيِّ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ لَا لَفْظًا وَلَا يَقْتَضِيهِ عَقْلًا، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَصَاحِبُ الْوَاضِحِ " وَالْمُعْتَمَدِ " وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي اعْتِبَارِ إرَادَةِ النَّاهِي، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ. لَكِنْ نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " عَنْهُمْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُهُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اللِّسَانِ كَمَا سَيَأْتِي فَتَفَطَّنْ لَهُ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا فِي تَعْلِيقِهِ ": إنَّ هَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَقُولُ: إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفْسُ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ، وَاتِّصَافُهُ بِكَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا بِمَثَابَةِ اتِّصَافِ الْكَوْنِ الْوَاحِدِ بِكَوْنِهِ قَرِيبًا مِنْ شَيْءٍ، بَعِيدًا مِنْ شَيْءٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْقَاضِي، وَأَطْنَبَ فِي نُصْرَتِهِ فِي التَّقْرِيبِ " وَنَقَلَهُ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَقِّ النَّافِينَ لِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَنْخُولِ " عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْكَعْبِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي

الْأَوْسَطِ " عَنْ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً، وَقَالَ صَاحِبُ اللُّبَابِ ": هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ وَهُوَ أَشْبَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ": هُوَ قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيَغَهُ لَهُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ لَا يَتَأَتَّى مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ إحْدَى الصِّيغَتَيْنِ لَا تَكُونُ عَيْنَ الْأُخْرَى قَطْعًا فَلْيُؤَوَّلْ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ. انْتَهَى. وَهُوَ عَجَبٌ؛ لِأَنَّ الْأَشْعَرِيَّ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيَغَهُ لَهُ كَمَا سَبَقَ نَقْلُهُ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: بَنَى الْأَشْعَرِيُّ هَذَا عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيَغَهُ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ، وَكَذَلِكَ لِلنَّهْيِ، فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ نَفْسُ النَّهْيِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: لَمْ يُرِدْ الْقَائِلُ أَنَّ صِيغَةَ " تَحَرَّكْ " مَثَلًا غَيْرُ صِيغَةِ " لَا تَسْكُنْ " فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ بَلْ يَعْنِي أَنَّ الْمَعْنَى الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِ تَحَرَّكْ عَيْنُ الْمَعْنَى الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِ لَا تَسْكُنْ، وَقَالُوا: إنَّ كَوْنَهُ أَمْرًا وَنَهْيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفِعْلِ وَضِدِّهِ الْوُجُودِيِّ لِكَوْنِ الْحَرَكَةِ قُرْبًا وَبُعْدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى جِهَتَيْنِ، وَقَدْ وَجَّهَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَهُ مُتَعَلِّقَانِ مُتَلَازِمَانِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ وَالْإِيقَاعِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْفِعْلِ وَالِاجْتِنَابُ، وَتَرْكُ الْفِعْلِ فِعْلٌ آخَرُ، وَهُوَ ضِدُّ الْمَتْرُوكِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي التَّبْصِرَةِ " وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هُوَ

مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: عَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي التَّقْوِيمِ ": إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، فَقَالَ: إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَكَذَا اقَالَ الْبَزْدَوِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ مِنْهُمْ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْمَازِرِيُّ: إنَّ الْقَاضِيَ مَالَ إلَيْهِ فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ ": وَقَصَدَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَلِهَذَا قَالُوا: إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ثُمَّ رَدَّ الْإِمَامُ عَلَى مَنْ قَالَ: هُوَ عَيْنُهُ بِأَنَّهُ جَحْدٌ لِلضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ " بِ افْعَلْ " مُغَايِرٌ لِلْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِ " لَا تَفْعَلْ " قِيلَ: وَهَذَا مِنْهُ غَلَطٌ أَوْ مُغَالَطَةٌ؛ إذْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي " افْعَلْ " وَ " لَا تَفْعَلْ " بَلْ فِي " افْعَلْ " وَ " لَا تَتْرُك " وَلَيْسَ بُطْلَانُ اتِّحَادِ مَدْلُولِهِمَا ضَرُورِيًّا، وَأُبْطِلَ مَذْهَبُ التَّضَمُّنِ بِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ لَا يَخْطِرُ لَهُ الضِّدُّ، وَلَوْ خَطَرَ لَهُ فَلَا قَصْدَ لَهُ فِي تَرْكِهِ إلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَرَى اسْتِلْزَامَ الْوُجُوبِ الْوَعِيدَ عَلَى التَّرْكِ فَكَيْفَ لَا يَخْطِرُ لَهُ الضِّدُّ مِنْ التَّرْكِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ؟ ثُمَّ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَغْفُلُ عَنْ الضِّدِّ، وَأَمَّا اللَّهُ - تَعَالَى - فَكَلَامُهُ وَاحِدٌ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ ذُهُولٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا: مُعَيَّنٌ عَنْ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَالْمُوَسَّعِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِهِمَا لَيْسَ نَهْيًا عَنْ الضِّدِّ. وَالْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ". وَاحْتَرَزْنَا بِالْوُجُودِيِّ عَنْ التَّرْكِ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ تَرْكِهِ بِطَرِيقِ

التَّضَمُّنِ قَطْعًا كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ الْوُجُودِيِّ؟ الْمَقَامُ الثَّانِي بِالنَّسَبِ إلَى الْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ عِنْدَ مَنْ رَأَى أَنَّ لِلْأَمْرِ صِيغَةً، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ الضِّدِّ، وَهُوَ رَأْيُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَإِنَّمَا ذَهَبُوا إلَى ذَلِكَ لِإِنْكَارِهِمْ كَلَامَ النَّفْسِ، وَالْكَلَامُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ إلَّا الْعِبَارَاتُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، لِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ قَطْعًا، فَقَالُوا: إنَّهُ يَقْتَضِيهِ وَيَتَضَمَّنُهُ، وَلَيْسَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ إشْعَارًا لُغَوِيًّا أَوْ أَمْرًا لَفْظِيًّا فَقَطْ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْأَمْرُ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ: " افْعَلْ " مَعَ إرَادَاتٍ، وَمُرِيدُ الشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَارِهًا لِضِدِّهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ. وَفَرَّقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ الْقَاضِي آخِرًا بِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ: صِيَغُهُ الْأَمْرِ تَقْتَضِي النَّهْيَ، وَذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ رَاجِعٌ إلَى فَهْمِ مَعْنًى مِنْ لَفْظِ مَنْ يُشْعِرُ بِهِ، وَالْقَاضِي يَقُولُ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَمَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ لَا إشْعَارَ لَهُ بِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: إذَا قَامَ بِالنَّفْسِ الْأَمْرُ الْحَقِيقِيُّ فَمِنْ ضَرُورَاتِهِ أَنْ يَقُومَ بِالنَّفْسِ مَعَهُ قَوْلٌ آخَرُ هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ، كَمَا يَقْتَضِي قِيَامَ الْعِلْمِ بِالْمَحَلِّ قِيَامَ الْحَيَاةِ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلًا. وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ " فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ هُنَا أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ هُوَ، فَإِنْ صِيغَةِ " تَحَرَّكْ " غَيْرُ صِيغَةِ " لَا تَسْكُنْ " قَطْعًا.

وَلِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ أَمْرَ الْإِيجَابِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ وَمُقَبِّحًا لَهَا، لِكَوْنِهَا مَانِعَةً مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ الْمَنْدُوبِ فَإِنَّ أَضْدَادَهُ مُبَاحَةٌ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهَا، وَلَا تَنْزِيهَ غَالِبًا، وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنْ يُقَالَ: إنْ جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ فَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ الضِّدِّ، وَلَا مُسْتَلْزِمًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْفِعْلِ وَبِضِدِّهِ فِي الْحَالَةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنْ مُنِعَ فَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ. وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيُّ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِلْزَامِ، لَا أَنَّهُ وَضِدَّهُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ بَلْ مَعَ مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، لَوْ قِيلَ: بِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " لَيْسَ الْخِلَافُ فِي تَسْمِيَةِ الْأَمْرِ حَقِيقَةً لِبُطْلَانِهِ، وَلَا فِي أَنَّ صِيغَةَ " لَا تَفْعَلْ " مَوْجُودَةٌ فِي الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْحِسَّ يَدْفَعُهُ، بَلْ فِي أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ فِي الْمَعْنَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي دَلَّنَا عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ وَتَنْزِيلِ خِلَافِ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى حَالَةٍ أَنَّ الشَّيْخَ وَالْقَاضِيَ لَمْ يَتَكَلَّمَا إلَّا فِي النَّفْسِيِّ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُمَا: إنَّ اتِّصَافَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مَا سَبَقَ وَالْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ " اخْتَارَ أَنَّ الْأَمْرَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَلَامَهُ فِي اللِّسَانِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَبَّرَ بِالصِّيغَةِ، وَخِلَافُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ النَّفْسِيَّ، وَلَا أَمْرَ عِنْدَهُمْ إلَّا بِالْعِبَارَةِ. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَقَدْ اُسْتُشْكِلَ تَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي

النَّفْسَانِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى، فَاَللَّهُ - تَعَالَى - بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَكَلَامُهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ مُتَعَدِّدٌ بِالْمُتَعَلِّقَاتِ، وَحِينَئِذٍ فَأَمْرُ اللَّهِ عَيْنُ نَهْيِهِ، فَكَيْفَ يُتَّجَهُ فِيهِ خِلَافٌ؟ وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ فَقَطْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فَكَيْفَ يُقَالُ: هُوَ أَوْ يَتَضَمَّنُهُ مَعَ احْتِمَالِ ذُهُولِهِ عَنْ الضِّدِّ مُطْلَقًا؟ وَهَذَا هُوَ عُمْدَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ كَمَا سَبَقَ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِمُتَلَازِمَيْنِ كَيَمِينٍ وَشِمَالٍ وَفَوْقَ وَتَحْتَ، فَإِنَّ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ عِلْمَ الْفَوْقِ وَجَهْلَ التَّحْتِ وَعَكْسَهُ، وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِالنَّفْسِيِّ بِاقْتِضَاءِ فِعْلٍ، وَلَا يَتَعَلَّقُ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِهِ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى الْقَوْلِ بِتَضَمُّنِهِ النَّهْيَ. وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْنُونَ بِالِاقْتِضَاءِ مَا يُرِيدُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَمْرَ النَّفْسِيَّ مُقَارَنَةُ نَهْيٍ نَفْسِيٍّ أَيْضًا يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الْحَيَاةِ فِي الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ إذَا وُجِدَ اقْتَضَى وُجُودَ الْحَيَاةِ. وَمِمَّنْ جَزَمَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ لَا النَّفْسَانِيِّ الْقَرَافِيُّ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ التَّبْرِيزِيُّ فِي التَّنْقِيحِ "، فَقَالَ: لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْخِلَافُ فِي كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى؛ لِأَنَّ مُثْبِتِي كَلَامِ النَّفْسِ مُطْبِقُونَ عَلَى اتِّحَادِ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَاسْتِفْهَامٍ إلَى جَمِيعِ الْأَقْسَامِ الْوَاقِعَةِ فِي الْكَلَامِ، فَهُوَ - تَعَالَى - آمِرٌ بِعَيْنِ مَا هُوَ نَاهٍ عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " تَحَرَّكْ " غَيْرُ قَوْلِهِ: " لَا تَسْكُنْ " وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: " افْعَلْ " إنَّمَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ - عَلَى خِلَافٍ فِيهِ - طَلَبَ الْفِعْلِ فَهُوَ طَالِبٌ تَرْكَ ضِدِّهِ أَمْ لَا؟ وَكَذَا قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هَذَا النِّزَاعُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى اتِّحَادَهُ، بَلْ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَفِي كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى تَعَدُّدَهُ.

النهي عن الشيء إن كان له أضداد

وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مُثْبِتِي كَلَامِ النَّفْسِ أَمَّا مَنْ نَفَاهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: الْأَمْرُ عَيْنُ النَّهْيِ فَإِنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " غَيْرُ صِيغَةِ " لَا تَفْعَلْ " لَكِنَّهُمْ قَالُوا: يَقْتَضِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى قَالَ: وَصَارَ إلَى هَذَا ضَعَفَةُ الْفُقَهَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَهُ كَلَامُ النَّفْسِ. ثُمَّ قَالَ: الْخِلَافُ فِي أَمْرِ الْمَخْلُوقِ، أَمَّا كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ قَدِيمٌ، وَهُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ يَكُونُ أَمْرًا بِكُلِّ مَأْمُورٍ، وَنَهْيًا عَنْ كُلِّ نَهْيٍ، خَبَرًا عَنْ كُلٍّ مُخْبَرٍ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ارْتِكَابِ الْمُبَاحِ أَنْ يَتْرُكَ مَحْظُورَاتٍ، فَوَجْهُ النَّظَرِ إلَى مَقْصُودِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي وَالْمُبِيحِ لَا فِيمَا يَقَعُ مِنْ ضَرُورَةِ الْجِبِلَّةِ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْمَسْأَلَةِ. [النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ إنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ] [النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ إنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ] أَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ فَأَمْرٌ بِضِدِّهِ إنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنَّهْيِ عَنْ الْحَرَكَةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالسُّكُونِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ: نَفْسُ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ كَمَا فِي جَانِبِ الْأَمْرِ قَالَهُ الْقَاضِي، ثُمَّ مَالَ آخِرًا إلَى أَنَّهُ يَتَضَمَّنُهُ، وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْأَمْرِ لَا النَّهْيِ، فَلَا يَجْرِي الْخِلَافُ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ ": الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ " فَقَالُوا: إنْ كَالَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ فَهُوَ أَمْرٌ بِذَلِكَ الضِّدِّ أَيْ: تَضَمُّنًا، كَمَا قَالَهُ

سُلَيْمُ كَالصَّوْمِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَكَقَوْلِهِ: لَا تَكْفُرْ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِالْإِيمَانِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ فَهُوَ أَمْرٌ بِضِدٍّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَّا بِهِ، فَأَمَّا إثْبَاتُ الْأَمْرِ بِسَائِرِ الْأَضْدَادِ فَلَا مَعْنَى لَهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " عَنْ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً. وَقَالَ صَاحِبُ اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: النَّهْيُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِضِدِّهِ إنْ كَانَ ذَا ضِدٍّ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ: لَا يَقْتَضِي أَمْرًا بِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقْتَضِي أَمْرًا بِالْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا. انْتَهَى. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَوْلًا ثَالِثًا: أَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ بِشَيْءٍ مُطْلَقًا، وَشَنَّعَ عَلَى مَنْ قَالَ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذِي أَضْدَادٍ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ، فَقَالَ: مَنْ قَالَ: إنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ فَقَدْ اقْتَحَمَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَبَاحَ بِالْتِزَامِ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ فِي نَفْيِ الْإِبَاحَةِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا صَارَ إلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ قَالَ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ الْأَضْدَادِ، وَيَتَضَمَّنُ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ تَفَطَّنَ لِغَائِلَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ نَاقَضَ كَلَامَهُ فَإِنَّهُ كَمَا يَسْتَحِيلُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ دُونَ الِانْكِفَافِ عَنْ أَضْدَادِهِ فَيَسْتَحِيلُ الِانْكِفَافُ عَنْ الْمَنْهِيِّ [عَنْهُ] دُونَ الِاتِّصَافِ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ أَنَّ هَاهُنَا شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ أَمْ لَا؟ الثَّانِي: الْمَأْمُورُ بِشَيْءٍ مَنْهِيٌّ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ، وَأَنَّ الْآمِرَ بِهِ نَاهٍ عَنْ جَمِيعِ الْأَضْدَادِ.

فَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: أَنَا لَا أَشُكُّ أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ: إنْ مَنَعَ ذَلِكَ مَانِعٌ قِيلَ لَهُ: هَذَا خَرْقُ مَا عَلَيْهِ الْكَافَّةُ مَعَ أَنَّا نُلْجِئُهُ إلَى مَا قِيلَ لَهُ بِهِ، فَنَقُولُ: إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ عَلَى الْجَزْمِ بِشَيْءٍ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْفَوْرِ وَانْتَفَى عَنْهُ سِمَةُ التَّخْيِيرِ، فَتَحْرِيمُ ضِدِّ الِامْتِثَالِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَحْرُمْ فَمَا مَعْنَى وُجُوبِ الِامْتِثَالِ؟ انْتَهَى. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِهِ مَعَ تَجْوِيزِ عَدَمِ خُطُورِهِ بِالْبَالِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْخُطُورِ فَلَيْسَ الضِّدُّ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ دَعَا إلَيْهِ تَحَقُّقُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ ضَرُورِيٍّ لِلشَّيْءِ يُقَالُ لَهُ: إنَّهُ مَدْلُولُهُ أَوْ يَتَضَمَّنُهُ. قَالَ: وَهَذَا التَّحْقِيقُ تَحْرِيرٌ فِي أَنَّ الْآمِرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ نَاهِيًا عَنْ أَضْدَادِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْقِيَامِ طَالِبٌ لَهُ، وَقَدْ يَخْطِرُ لَهُ ضِدُّهُ، فَكَيْفَ يَطْلُبُ؟ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَيْنَ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلْ يُوجِبُ حُكْمًا فِي ضِدِّ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ؟ فَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي ضِدِّهِ أَصْلًا بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ كَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ يُوجِبُ حُرْمَةَ ضِدِّهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ ضِدِّهِ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ: أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الضِّدِّ، قَالَ: إذَا أَدَّى الِاشْتِغَالُ بِهِ إلَى فَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَرُمَ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَرَامٌ، فَلَمَّا نَهَى الْمُحْرِمَ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ دَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ لُبْسَ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ.

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَطْلَقُوا الْأَمْرَ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " وَجَعَلَهَا نَهْيًا عَنْ الضِّدِّ تَحْرِيمًا وَتَنْزِيهًا، وَنُقِلَ تَخْصِيصُهُ بِالْوَاجِبِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ الشَّيْخِ، فَقَالَ: ذَهَبَ الشَّيْخُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ إنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ، وَأَضْدَادُهُ إنْ كَانَ ذَا أَضْدَادٍ. وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّهُ - يَعْنِي الشَّيْخَ - شَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لَا نَدْبًا. قَالَ: وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: إنَّ النَّدْبَ حَسَنٌ وَلَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى اشْتِرَاطِ الْوُجُوبِ فِي الْأَمْرِ؛ إذْ هُوَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ إلَّا وَاجِبًا، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ. قَالَ: وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الشَّيْخُ فِي ذَلِكَ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ وُجُوبِهِ مُضَيِّقًا، مُسْتَحِقَّ الْعَيْنِ لِأَجْلِ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُوَسِّعَ لَيْسَ بِنَهْيٍ عَنْ ضِدِّهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَضِدُّ الْبَدَلِ مِنْهُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ لَا مَا إذَا كَانَ أَمْرٌ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّخْيِيرِ. انْتَهَى. وَهَذَا الشَّرْطُ الثَّانِي قَدْ سَبَقَ تَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: إذَا كَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُضَيِّقٌ مُعَيَّنٌ لَا بَدَلَ لَهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ أَيْضًا، فَقَالَ: هَذَا فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ عَلَى التَّنْصِيصِ لَا عَلَى التَّخْيِيرِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ عَلَى التَّخْيِيرِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ وَضِدِّهِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا لَا بِعَيْنِهِ.

وَذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ ضِدِّهِ إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُضَيَّقَ الْوُجُوبِ بِلَا بَدَلٍ وَلَا تَخْيِيرٍ، كَالصَّوْمِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، كَالْكَفَّارَاتِ وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَاجِبَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ تَرْكِهَا، لِجَوَازِ رَدِّهَا إلَى غَيْرِهَا، كَمَا فِي الْأَمْرِ. وَقَدْ احْتَرَزَ الْقَاضِي عَنْ هَذَا فَقَالَ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَبَدَلِهِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ إنْ كَانَ لَهُ بَدَلٌ، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى التَّخْيِيرِ. انْتَهَى. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ " أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ بِمَا إذَا كَانَ الْأَمْرُ يُوجِبُ تَحْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ ضِدِّهِ عَقِبَ الْأَمْرِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ إذَا اقْتَضَى التَّحْصِيلَ عَلَى الْفَوْرِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَاسْتُشْكِلَ وَجْهُهُ الْمُوَسَّعُ إنْ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ فَأَيْنَ الْأَمْرُ حَتَّى يُسْتَثْنَى مِنْهُ قَوْلُهُمْ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ؟ وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْلَاءُ الْوَقْتِ عَنْهُ فَضِدُّهُ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهِ، تَفْوِيتُهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ إنْ صَدَقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ انْقَدَحَ كَوْنُهُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِاسْتِثْنَائِهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُخَيَّرِ. الثَّانِي: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الضِّدِّ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ الْوُجُودِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ نَقِيضِ الشَّيْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَالْأَمْرُ بِالْحَرَكَةِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ نَفْسِ السُّكُونِ الَّذِي هُوَ ضِدٌّ أَمْ لَا؟ هَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ أَمَّا النَّقِيضُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ هُوَ عَيْنُ النَّهْيِ عَنْ نَقِيضِهِ، فَإِنَّ الْحَرَكَةَ نَقِيضُ اللَّا حَرَكَةَ فَاللَّا حَرَكَةَ نَقِيضٌ، وَلَيْسَ بِضِدٍّ بَلْ ضِدُّ الْحَرَكَةِ هُوَ

السُّكُونُ وَهَذَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ إلَّا أَنَّهُ لَازِمٌ مُسَاوٍ لِنَقِيضِ الْحَرَكَةِ، فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرُ بِالْحَرَكَةِ فَهَذَا بِعَيْنِهِ نَهْيٌ عَنْ نَقِيضِهَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ نَقِيضِهَا هُوَ سَلْبٌ لِسَلْبِهَا، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عِبَارَةٌ عَنْ سَلْبِ الْحَرَكَةِ وَسَلْبُ سَلْبِ الْحَرَكَةِ هُوَ نَفْسُ الْحَرَكَةِ؛ لِأَنَّ سَلْبَ السَّلْبِ إثْبَاتٌ، وَطَلَبُ سَلْبِ الْحَرَكَةِ هُوَ طَلَبُ سَلْبِ نَفْسِ الْحَرَكَةِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْحَرَكَةِ هُوَ بِعَيْنِهِ نَهْيًا عَنْ نَقِيضِهَا، وَهُوَ سَلْبُ الْحَرَكَةِ. الثَّالِثُ: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ " الضِّدَّ " بِالنَّهْيِ فَإِنْ قَصَدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222] فَإِنَّ الضِّدَّ مِثْلُ هَذِهِ الصُّورَةِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ.

النهي

[النَّهْيُ] ُ هُوَ اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَنْ فِعْلٍ فَالِاقْتِضَاءُ جِنْسٌ، وَ " كَفٍّ " مُخْرِجٌ لِلْأَمْرِ لِاقْتِضَائِهِ غَيْرَ الْكَفِّ. وَشَرَطَ ابْنُ الْحَاجِبِ هُنَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ كَمَا شَرَطَهُ فِي الْأَمْرِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: لَمْ يَذْكُرُوا الْخِلَافَ السَّابِقَ فِي الْأَمْرِ فِي اشْتِرَاطِ الْعُلُوِّ أَوْ الِاسْتِعْلَاءِ هُنَا، وَيَلْزَمُهُمْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ. قُلْت: قَدْ أَجْرَاهَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ النَّهْيِ كَرَاهَةُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْرِ إرَادَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ اعْتَبَرُوا إرَادَةَ التَّرْكِ كَمَا فِي الْأَمْرِ وَلِلنَّهْيِ صِيغَةٌ مُبَيِّنَةٌ لَهُ تَدُلُّ بِتَجْرِيدِهَا عَلَيْهِ، وَهِيَ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا تَفْعَلْ، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْأَمْرِ. وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: وَمَنْ تَبِعَهُ: لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ وَإِذَا قُلْنَا لَهُ صِيغَةٌ فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: وَنُسِبَ لِلْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَغَيْرَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ حَقِيقَةً لَا لِلتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهَا يَقِينٌ فَحُمِلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّحْرِيمِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَحَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا، وَعَزَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ لِقَوْمٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ حَقِيقَةً كَمَا أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَجَعُوا فِي التَّحْرِيمِ إلَى مُجَرَّدِ النَّهْيِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَتَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ، فَقَالَ فِي الرِّسَالَةِ ": فِي بَابِ الْعِلَلِ فِي الْأَحَادِيثِ: وَمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عَلَى التَّحْرِيمِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ غَيْرَ التَّحْرِيمِ، وَقَالَ فِي الْأُمِّ " فِي كِتَابِ صِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: النَّهْيُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ حَتَّى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ أَنَّهُ بِمَعْنَى غَيْرِ التَّحْرِيمِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " أَيْضًا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: قَطَعَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَهُ: إنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ، فَإِنَّهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَيَّنَ الْقَوْلَ فِيهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ كَمَا سَبَقَ. فَنَقُولُ: إنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا حَتَّى يَرِدَ مَا يَصْرِفُهُ، وَلَهُ فِي الْأَمْرِ قَوْلَانِ، وَعَلَى هَذَا فَهَلْ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ أَمْ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْأَمْرِ، ثُمَّ الْمُرَادُ صِيغَةُ " لَا تَفْعَلْ " فَأَمَّا لَفْظُ " ن هـ ى " فَإِنَّهُ لِلْقَوْلِ الطَّالِبِ لِلتَّرْكِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: صِيغَتُهُ عِنْدَنَا " لَا تَفْعَلْ " وَ " انْتَهِ " وَ " اُكْفُفْ " وَنَحْوُهُ.

من صيغ النهي التحريم

[مِنْ صِيَغ النَّهْي التَّحْرِيم] وُرُودُ صِيغَةِ النَّهْيِ لِمَعَانٍ] وَتَرِدُ صِيَغُهُ النَّهْيِ لِمَعَانٍ: أَحَدُهَا: لِلتَّحْرِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] الثَّانِي: الْكَرَاهَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وَمَثَّلَهُ الْهِنْدِيُّ بِقَوْلِهِ {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] أَيْ عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَقَدْ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ كَقَوْلِهِ {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لِأَنَّهُ حَثَّهُمْ عَلَى إنْفَاقِ أَطْيَبِ أَمْوَالِهِمْ، لَا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ إنْفَاقُ الْخَبِيثِ مِنْ التَّمْرِ أَوْ الشَّعِيرِ مِنْ الْقُوتِ، وَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ مَا فَوْقَهُ، وَهَذَا إنَّمَا نَزَلَ فِي الْأَقْنَاءِ الَّتِي كَانَتْ تُعَلَّقُ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانُوا يُعَلِّقُونَ، الْحَشَفَ. قَالَ: فَالْمُرَادُ بِالْخَبِيثِ هُنَا الْأَرْدَأُ، وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْحَرَامِ، كَقَوْلِهِ: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَقَدْ يُعَلَّلُ بِالتَّوَهُّمِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَدِيٍّ فِي الْعَبْدِ: «إنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» فَنَبَّهَهُ عَلَى مَظِنَّةِ الشُّبْهَةِ احْتِيَاطًا. الثَّالِثُ: الْأَدَبُ، كَقَوْلِهِ {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] .

الرَّابِعُ: التَّحْقِيرُ لِشَأْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} [طه: 131] . الْخَامِسُ: التَّحْذِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . السَّادِسُ: بَيَانُ الْعَاقِبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] . السَّابِعُ: الْيَأْسُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 66] . الثَّامِنُ: لِلْإِرْشَادِ إلَى الْأَحْوَطِ بِالتَّرْكِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا» قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْهِبَةِ: قَالَ الْأَئِمَّةُ: هَذَا إرْشَادٌ مَعْنَاهُ: لَا تُعْمِرُوا طَمَعًا فِي أَنْ يَعُودَ إلَيْكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ. التَّاسِعُ: اتِّبَاعُ الْأَمْرِ مِنْ الْخَوْفِ كَقَوْلِهِ: {وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص: 31] . الْعَاشِرُ: الدُّعَاءُ، كَقَوْلِهِ: «لَا تَكِلْنَا إلَى أَنْفُسِنَا» . الْحَادِيَ عَشَرَ: الِالْتِمَاسُ، كَقَوْلِك لِنَظِيرِك: لَا تَفْعَلْ هَذَا. الثَّانِيَ عَشَرَ: التَّهْدِيدُ، كَقَوْلِك لِمَنْ لَا يَمْتَثِلُ أَمْرَك: لَا تَمْتَثِلْ أَمْرِي. الثَّالِثَ عَشَرَ: الْإِبَاحَةُ وَذَلِكَ فِي النَّهْيِ بَعْدَ الْإِيجَابِ فَإِنَّهُ إبَاحَةٌ لِلتَّرْكِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: الْخَبَرُ، وَمَثَّلَهُ الصَّيْرَفِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] فَالنُّونُ فِي " تَنْفُذُونَ " جُعِلَ خَبَرًا لَا

نَهْيًا يَدُلُّ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنْ قُدْرَتِهِمْ وَلَوْلَا النُّونُ لَكَانَ نَهْيًا، وَأَنَّ لَهُمْ قُدْرَةً كَفَّهُمْ عَنْهَا النَّهْيُ، وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] أَيْ: لَا تَرْتَابُوا فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ الْمَوْتِ فِي وَقْتٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِمْ وقَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] لَفْظُهُ الْخَبَرُ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ: لَا تَنْكِحُوا. وَلَيْسَتْ حَقِيقَةً فِي الْكُلِّ اتِّفَاقًا بَلْ فِي الْبَعْضِ، وَهُوَ إمَّا تَحْرِيمٌ فَقَطْ، وَإِمَّا الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، وَإِمَّا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا أَوْ هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا أَقْوَالٌ: وَالْأَوَّلُ مَعْنَوِيٌّ، وَالثَّانِي لَفْظِيٌّ، أَوْ لَا يُدْرَى حَالُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهَا، أَوْ الْوَقْفُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ الْقَوْلَ بِالْإِبَاحَةِ هُنَا، وَرَأَيْت مَنْ يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ ": إنَّ مَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ حَمَلَ هَذَا عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِي تَرْكِ الْفِعْلِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ ": لَمْ أَقِفْ عَلَى الْخِلَافِ فِي حُكْمِ النَّهْيِ كَمَا فِي الْأَمْرِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَقْوَالُهُمْ فِي النَّهْيِ حَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَمْرِ، فَمَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ ثَمَّ يَقُولُ بِهِ هُنَا، وَمَنْ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ ثَمَّ يَقُولُ بِالْإِبَاحَةِ هُنَا، وَهُوَ إبَاحَةُ الِانْتِهَاءِ، وَمَنْ قَالَ بِالنَّدْبِ هُنَاكَ يُنْدِبُ الِانْتِهَاءَ هُنَا، وَمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ ثَمَّ يَقُولُ بِهِ هَاهُنَا. وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ: إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا بِالنَّدْبِ فِي بَابِ الْأَمْرِ، وَفِي النَّهْيِ قَالُوا بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْمَنْدُوبُ وَالْوَاجِبُ فِي

يجيء النفي في معنى النهي

اقْتِضَاءِ الْحُسْنِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ النَّهْيِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالِانْتِهَاءُ عَنْ الْقَبِيحِ وَاجِبٌ، فَأَمَّا إتْيَانُ الْحَسَنِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلِهَذَا فَرَّقُوا. [يَجِيءُ النَّفْيُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ] [يَجِيءُ النَّفْيُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ] وَقَدْ يَجِيءُ النَّفْيُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَيَخْتَلِفُ حَالُهُ بِحَسَبِ الْمَعَانِي: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ نَهْيًا وَزَجْرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا} [التوبة: 120] وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ تَعْجِيزًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60] . وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ تَنْزِيهًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. [مَسْأَلَةٌ مُفَارَقَةُ الْأَمْرِ لِلنَّهْيِ فِي الدَّوَامِ وَالتَّكْرَارِ] ِ] النَّهْيُ يُفَارِقُ الْأَمْرَ فِي الدَّوَامِ وَالتَّكْرَارِ فَإِنَّ فِي اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ التَّكْرَارَ خِلَافًا مَشْهُورًا، وَهَا هُنَا قَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الصَّيْرَفِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ بِأَنَّ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَالدَّوَامَ، وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَكَذَا قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ ". وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْأَمْرَ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَمْ لَا؟ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَجِيئُهُ فِي النَّهْيِ؛ لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ عَنْ النَّهْيِ مِمَّا يَسْتَغْرِقُ الْعُمُرَ إنْ كَانَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَا

انْتِهَاءَ إلَّا بِعَدَمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ قِبَلِهِ، وَلَا يَتِمُّ الِانْعِدَامُ مِنْ قِبَلِهِ إلَّا بِالثُّبُوتِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفِعْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَكْرَارُهُ بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُسْتَمِرَّ لَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ وُجُودُهُ بِحَدِّهِ ثُمَّ يُتَصَوَّرُ التَّكْرَارُ بَعْدَهُ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ لِلْأَزْمِنَةِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ حَكَى قَوْلًا أَنَّهُ كَالْأَمْرِ فِي اقْتِضَائِهِ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ، وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَجْرَوْهُ مَجْرَى الْأَمْرِ فِي أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ ": النَّهْيُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَسَمِعْت فِيهِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ عَنْ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِضَعْفِهِ وَسُقُوطِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْوَاضِحِ ": النَّهْيُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: لَا يَقْتَضِيهِ، وَهَذَا النَّقْلُ عَنْ الْقَاضِي يُخَالِفُهُ نَقْلُ الْمَازِرِيُّ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَمِمَّنْ نَقَلَ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ " أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ كَمَا لَا يَقْتَضِيهِ فِي الْأَمْرِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: النَّهْيُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَعَنْ بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْكَفَّ عَقِبَ لَفْظِ النَّهْيِ.

مسألة إذا قلنا النهي للتحريم فتقدم صيغة الأمر هل يغيره

فَتَحَصَّلْنَا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ: يَقْتَضِيهِ مُطْلَقًا. يَقْتَضِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً. لَا يَقْتَضِيهِ بَلْ يُوقَفُ إلَى الدَّلِيلِ مِنْ خَارِجٍ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمَحْصُولِ "، وَيَجِيءُ مِمَّا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ مَذْهَبٌ آخَرُ بِالتَّفْصِيلِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى قَطْعِ الْوَاقِعِ فَلِلْمَرَّةِ، كَقَوْلِك لِلْمُتَحَرِّكِ: لَا تَتَحَرَّكْ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى اتِّصَالِ الْوَاقِعِ وَاسْتِدَامَتِهِ فَلِلدَّوَامِ، كَقَوْلِك لِلْمُتَحَرِّكِ: لَا تَسْكُنْ. أَمَّا النَّهْيُ الْمُقَيَّدُ بِشَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ فَالْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْأَمْرِ فِي اقْتِضَائِهِ التَّكْرَارَ يَأْتِي هُنَا، فَمَنْ قَالَ: النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي بِمُجَرَّدِهِ التَّكْرَارَ وَالدَّوَامَ قَالَ بِهِ هَاهُنَا. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَتَكَرَّرُ وَهُوَ آكَدُ مِنْ مُطْلَقِهِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ التَّكْرَارُ فَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ أَوْلَى. وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ: النَّهْيُ الْمُقَيَّدُ بِشَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِخِلَافِ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَيَّدَهُ بِوَصْفٍ صَارَ مَغْلُوبًا عَلَى الِاعْتِمَادِ مُخْتَصًّا بِهِ، فَلَوْ اقْتَضَى التَّكْرَارَ مَعَ فَهْمِ تَعَدُّدِهِ كَانَ كَالْأَمْرِ. وَحَكَى صَاحِبُ الْوَاضِحِ " عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ النَّهْيِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ، وَبَيْنَ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ، فَحَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَفَصَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ، وَحَمَلَ النَّهْيَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ، وَمَثَّلَهُ بِالسَّيِّدِ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: لَا تَسْقِنِي الْمَاءَ إذَا دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ، فَدَخَلَ زَيْدٌ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَفَى، وَلَا يَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ سَقْيِهِ كُلَّ دَفْعَةٍ يَدْخُلُ زَيْدٌ الدَّارَ. [مَسْأَلَةٌ إذَا قُلْنَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ فَتَقَدُّمُ صِيغَةِ الْأَمْرِ هَلْ يُغَيِّرُهُ] ُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ:

مسألة النهي يقتضي الكف على الفور

أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهَا لَا تُغَيِّرُهُ، وَإِنْ جَرَى الْخِلَافُ فِي الْأَمْرِ، وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " وَحَكَيَا الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. وَالثَّانِي: طَرْدُ خِلَافِ الْأَمْرِ، وَقَدْ حَكَى الطَّرِيقِينَ ابْنُ فُورَكٍ، وَقَالَ: الْأَشْبَهُ التَّسْوِيَةُ، وَمَنَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاعَ، وَطَرَدَ الْوَقْفَ هُنَا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بِأَنَّ الْإِبَاحَةَ أَحَدُ مَحَامِلِ " افْعَلْ " بِخِلَافِ " لَا تَفْعَلْ ". [مَسْأَلَةٌ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْكَفَّ عَلَى الْفَوْرِ] ِ عَلَى الْمَشْهُورِ، قَالُوا: وَلَا يُتَصَوَّرُ مَجِيءُ خِلَافِ الْأَمْرِ هُنَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ بِلَا خِلَافٍ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ، وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: يَجِيءُ الْخِلَافُ إنْ قُلْنَا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِظَاهِرِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَكَرَّرُ بِظَاهِرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: إنْ قُلْنَا: النَّهْيُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَهُوَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَإِلَّا فَلَا، وَنَازَعَهُ النَّقْشَوَانِيُّ وَالْأَصْفَهَانِيُّ، وَقَالَا: بِنَاءُ الْفَوْرِ عَلَى وُجُوبِ التَّكْرَارِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا بِنَاءُ عَدَمِ وُجُوبِ الْفَوْرِ عَلَى عَدَمِ اقْتِضَاءِ التَّكْرَارِ فَمُشْكِلٌ، لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْتَضِيَ التَّكْرَارَ وَيَقْتَضِيَ الْفَوْرَ.

مسألة النهي عن واحد لا بعينه

[مَسْأَلَةٌ النَّهْيُ عَنْ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ] ِ] سَبَقَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ إنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ كَالصَّوْمِ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْفِطْرِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ فَهُوَ أَمْرٌ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَسَبَقَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهَا لَا بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا فِي النَّهْيِ عَنْ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ نَحْوُ لَا تُكَلِّمْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، فَإِنَّ النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا بِعَيْنِهِ فَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَيَجُوزُ لَهُ فِعْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْهُمَا وَلَا يَجُوزُ بِهِ فِعْلُ أَحَدِهِمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ " أَوْ " فِي النَّهْيِ تَقْتَضِي الْجَمْعَ دُونَ التَّخْيِيرِ، فَإِذَا قَالَ: لَا تُكَلِّمْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، فَعَلَى مَذْهَبِنَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّمَ أَيَّهُمَا شَاءَ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ. [مَسْأَلَةٌ الِاخْتِلَافُ فِي مَعْنَى لَا تَقُمْ] ْ] اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِك: " لَا تَقُمْ " فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ مِنْك قِيَامٌ فَ " لَا " حَرْفُ نَهْيٍ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمَصْدَرِ بِوَاسِطَةِ إشْعَارِ الْفِعْلِ بِهِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ قَائِلُونَ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ مَطْلُوبًا لَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِشَيْءٍ وَلَا بِفِعْلِ عَدَمٍ مَحْضٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا يَصِحُّ الْإِعْدَامُ بِالْقُدْرَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ

مسألة المكلف به في النهي

كَذَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " قَالَ: وَالنَّظَرُ فِيهَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَحْثِ عَنْ مُتَعَلَّقِ التَّكْلِيفِ. [مَسْأَلَةٌ الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ] ِ] لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ فِي الْأَمْرِ الْفِعْلُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُكَلَّفِ بِهِ فِي النَّهْيِ هَلْ الْمُكَلَّفُ بِهِ ضِدُّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَوْ عَدَمُ الْفِعْلِ؟ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَمَعْنَى " لَا تَزْنِ " عِنْدَهُمْ تَلَبُّسُ ضِدٍّ مِنْ أَضْدَادِ الزِّنَى أَيْ: افْعَلْ فِعْلًا غَيْرَهُ مُبَاحًا أَيَّ فِعْلٍ كَانَ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: مَعْنَاهُ لَا تَفْعَلْ الزِّنَى مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلضِّدِّ حَتَّى لَوْ خَلَا عَنْ الْمَأْمُورِ وَعَنْ كُلِّ تَرْكٍ لَهُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَمَّا بَاحَ بِهَذَا خَالَفَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالُوا: مَا زِلْت مُنْكِرًا عَلَى الْجَبْرِيَّةِ إثْبَاتَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَا لَيْسَ بِخَلْقٍ لَهُمْ وَلَيْسَ بِفِعْلٍ لَهُمْ عَلَى التَّحْقِيقِ، ثُمَّ صِرْت إلَى ثُبُوتِ الذَّمِّ مِنْ غَيْرِ إقْدَامٍ عَلَى فِعْلٍ. وَسُمِّيَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو هَاشِمٍ الذِّمِّيُّ حَيْثُ إنَّهُ عَلَّقَ بِالذَّمِّ الْمَعْدُومَ، وَهَذَا يَهْدِمُ جُمْلَةَ قَوَاعِدِهِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّظَرَ هَلْ هُوَ إلَى صُورَةِ اللَّفْظِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الْعَدَمُ؟ فَإِذَا قَالَ: لَا تَتَحَرَّكْ، فَعَدَمُ الْحَرَكَةِ هُوَ مُتَعَلَّقُ النَّهْيِ، أَوْ يُلَاحَظُ أَنَّ الطَّلَبَ إنَّمَا وُضِعَ لِمَا هُوَ مَقْدُورٌ مِمَّا لَيْسَ بِمَقْدُورٍ، وَلَا يُطْلَبُ عَدَمُهُ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ صِرْفٌ، فَلَا يَكُونُ مَقْدُورًا، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ طَلَبٌ، فَتَعَيَّنَ تَعَلُّقُ الطَّلَبِ بِالضِّدِّ.

فَالْجُمْهُورُ لَحَظُوا الْمَعْنَى وَأَبُو هَاشِمٍ لَحَظَ اللَّفْظَ، وَالْمَعْنَى أَتَمُّ فِي الِاعْتِبَارِ مِنْ صُورَةِ اللَّفْظِ. وَنَقَلَ التَّبْرِيزِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ مُوَافَقَةَ أَبِي هَاشِمٍ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَنْخُولِ " قُبَيْلَ بَابِ الْعُمُومِ: وَأَمَّا التُّرُوكُ فَعِبَارَةٌ عَنْ أَضْدَادِ الْوَاجِبَاتِ، كَالْقُعُودِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ، ثُمَّ بَعْضُ تَرْكِ الْقِيَامِ لَا بِالْقُعُودِ، وَوَافَقَنَا عَلَيْهِ أَبُو هَاشِمٍ الذِّمِّيُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَلَّقَ الذَّمَّ بِالْمَعْدُومِ. انْتَهَى. وَهَذَا النَّقْلُ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ مَنْ أُمِرَ بِالْقِيَامِ فَلَمْ يَمْتَثِلْ، عَصَى عِنْدَهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَفْعَلْ الْقِيَامَ لَا لِكَوْنِهِ فَعَلَ التَّرْكَ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَفْعَلْ نَفْيٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَعَلَيْهِ يُذَمُّ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الذِّمِّيُّ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْمُسْتَصْفَى " فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ التَّرْكِ الْمُجَرَّدِ الْمَقْصُودِ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ مَعَهُ ضِدَّهُ بِالْمُكَلَّفِ فِيهِ بِالْفِعْلِ كَالصَّوْمِ، فَالْكَفُّ مِنْهُ مَقْصُودٌ، وَلِهَذَا وَجَبَ فِيهِ النِّيَّةُ وَبَيْنَ التَّرْكِ الْمَقْصُودِ مِنْ جِهَةِ إيقَاعِ ضِدِّهِ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ فَالْمُكَلَّفُ فِيهِ بِالضِّدِّ. وَتَبِعَهُ الْعَبْدَرِيُّ فِي شَرْحِهِ. قَالَ: وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلْ التَّرْكُ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ فَيَصِحُّ التَّكْلِيفُ كَالْفِعْلِ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَهِيَ حِينَئِذٍ كَلَامِيَّةٌ فَكَانَ يَنْبَغِي تَقْدِيمُ الْبَحْثِ فِي أَنَّهُ مَقْدُورٌ أَمْ لَا عَلَى هَذِهِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إلَّا لِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهِ فِي الشَّرْعِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: التَّحْرِيرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: الْمَطْلُوبُ فِي النَّهْيِ الِانْتِهَاءُ وَيَلْزَمُ مِنْ الِانْتِهَاءِ فِعْلُ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلَا يُعْكَسُ، فَقَالَ: الْمَطْلُوبُ ضِدُّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الِانْتِهَاءُ؛ لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ مُتَقَدِّمٌ فِي الرُّتْبَةِ فِي الْفِعْلِ عَلَى فِعْلِ الضِّدِّ فَكَانَ مَعَهُ كَالسَّبَبِ مَعَ الْمُسَبَّبِ، فَالِانْتِهَاءُ وَفِعْلُ الضِّدِّ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، لَكِنَّ الِانْتِهَاءَ مُتَقَدِّمٌ بِالرُّتْبَةِ تَقَدُّمَ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ حَتَّى لَوْ

فُرِضَ أَنَّ الِانْتِهَاءَ يَحْصُلُ بِدُونِ فِعْلِ الضِّدِّ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى فِعْلِ الضِّدِّ لَكِنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ إنَّمَا هُوَ الِانْتِهَاءُ، وَأَمَّا فِعْلُ الضِّدِّ فَلَا يُقْصَدُ إلَّا بِالِالْتِزَامِ بَلْ قَدْ لَا يُقْصَدُ أَصْلًا، وَلَا يَسْتَحْضِرُ الْمُتَكَلِّمُ، وَمَتَى قَصَدَ فِعْلَ الضِّدِّ وَطَلَبَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَانَ أَمْرًا؛ لَا نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ. وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي حَمْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ: إنَّ الْمَطْلُوبَ نَفْسُ " لَا تَفْعَلْ " فَهُوَ وَإِنْ تَبَادَرَ إلَى الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حَرْفَ النَّهْيِ وَرَدَ عَلَى الْفِعْلِ، فَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ عَدَمَهُ لَكِنَّ نَفْسَ أَنْ " لَا تَفْعَلَ " عَدَمٌ مَحْضٌ فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ وَلَا يُطْلَبُ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ، مِنْ الْمُكَلَّفِ مَا لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ، فَلَعَلَّ مُرَادَ أَبِي هَاشِمٍ الَّذِي هُوَ مِنْ الِانْتِهَاءِ، وَالِانْتِهَاءُ فِعْلٌ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ تَقَارَبَ الْمَذْهَبَانِ، وَيَكُونُ الْجُمْهُورُ نَظَرُوا إلَى حَقِيقَةِ مَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَأَبُو هَاشِمٍ نَظَّرَ إلَى الْمَقْصُودِ بِهِ، وَهُوَ إعْدَامُ دُخُولِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ أَبُو هَاشِمٍ ذَلِكَ وَأَرَادَ أَنَّ الْعَدَمَ الصِّرْفَ الَّذِي لَا صُنْعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي تَحْصِيلِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: [الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ] سَأَلُوا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَنَا: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ هُوَ مَعْنَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِعْلُ الضِّدِّ، وَمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا بِضِدِّهِ هُوَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ انْتِفَاءُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَالْمَسْأَلَتَانِ وَاحِدَةٌ. وَأَجَابَ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ لَفْظِيٌّ، وَفِي هَذِهِ مَعْنَوِيٌّ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَفْظًا أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْمَعْنَوِيَّ مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ فَيَحْصُلُ الِاشْتِبَاهُ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَنَا: النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ بَحْثٌ فِي الْمُتَعَلِّقَاتِ - بِكَسْرِ اللَّامِ - فَإِنَّ النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَأْمُورِ، وَقَوْلُنَا: الْمَطْلُوبُ فِي النَّهْيِ فِعْلُ الضِّدِّ بَحْثٌ فِي الْمُتَعَلَّقَاتِ - بِفَتْحِ اللَّامِ -. وَرُدَّ بِأَنَّهُمَا وَإِنْ تَغَايَرَا لَكِنَّهُ تَغَايُرٌ صُورِيٌّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ تَدَاخُلِ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْأُخْرَى. الثَّانِي: أَنَّ الْبَحْثَ فِي تِلْكَ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ أَيْ: أَنَّهُ مَنْ نَهَى عَنْ الشَّيْءِ مُطَابَقَةً دَلَّ عَلَى طَلَبِ ضِدِّهِ الْتِزَامًا، وَالْبَحْثُ فِي هَذِهِ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ فَمَا مَدْلُولُهُمَا الْمُطَابِقُ هَلْ هُوَ الْعَدَمُ أَوْ ضِدُّهُ؟ . قِيلَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الِالْتِزَامِ لَا الْمُطَابَقَةِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ قَوْلَهُمْ: الْمَطْلُوبُ بِالنَّهْيِ فِعْلُ الضِّدِّ مُرَادُهُمْ بِهِ الضِّدُّ الْعَامُّ، وَهُوَ الِانْتِهَاءُ الْحَاصِلُ بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَضْدَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ قَدْ بَيَّنُوا أَنَّهُ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ مُرَادٌ بِهِ الضِّدُّ الْخَاصُّ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَضْدَادِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الِانْتِهَاءُ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَرَادُوا الضِّدَّ الْعَامَّ لَزِمَ مِنْ كُلٍّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى لَكِنْ لَا يَكُونُ تَكْرَارًا بَلْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْ مَعْرِفَةِ إحْدَاهُمَا حُكْمُ الْأُخْرَى فَلَا يَضُرُّ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ السُّؤَالُ لَوْ كَانُوا وَضَعُوا مَسْأَلَةَ " النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ " أَوْ لَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمَحْصُولِ " بَلْ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَتَكَلَّمَ غَيْرُهُ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِضِدِّهِ؟ التَّنْبِيهُ الثَّانِي: عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِمْ فَرْضُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ ضِدٌّ وُجُودِيٌّ يُفْهَمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُنْهَى عَنْ شَيْءٍ لَا يُفْهَمُ غَيْرُ تَرْكِ ذَلِكَ

مسألة النهي عن متعدد

الشَّيْءِ نَحْوُ " لَا تَفْعَلْ " فَلَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ. [مَسْأَلَةٌ النَّهْيُ عَنْ مُتَعَدِّدٍ] ٍ] النَّهْيُ عَنْ مُتَعَدِّدٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنْ الْجَمْعِ أَعْنِي الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ دُونَ الْمُفْرَدَاتِ، كَالنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ، وَكَالْحَرَامِ الْمُخَيَّرِ عِنْدَنَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَلَى الْجَمِيعِ أَيْ: عَنْ كُلٍّ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ صَاحِبِهِ، أَوْ مُنْفَرِدًا، كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ فَالنَّهْيُ عَلَى الْجَمِيعِ مَعْنَاهُ عَلَى الْجَمْعِ فِي النَّهْيِ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لَا تَفْعَلْ هَذَا وَلَا ذَاكَ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ لَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى الْبَدَلِ لَا تَفْعَلْ هَذَا إنْ فَعَلْت ذَلِكَ فَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَعَنْ الْبَدَلِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُجْعَلَ الشَّيْءُ بَدَلًا وَيُفْهَمَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ. وَفَرَّقَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ " بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الْجَمْعِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْجَمْعِ بِأَنَّ النَّهْيَ عَلَى الْجَمْعِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ مِنْ فِعْلِهِمَا مَعًا بِقَيْدٍ الْجَمْعِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَّا مَعَ الْجَمْعِيَّةِ فَيُمْكِنُ فِعْلُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَالنَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الِانْفِكَاكِ عَنْ الشَّيْئَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَلَى الْجَمْعِ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْخُلُوِّ عَنْ الشَّيْئَيْنِ، فَالنَّهْيُ عَلَى الْجَمْعِ مَنْشَؤُهُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَفْسَدَةٌ تَسْتَقِلُّ بِالْمَنْعِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ حِينَ تَكُونُ الْمَفْسَدَةُ نَاشِئَةً عَنْ اجْتِمَاعِهِمَا.

مسألة اقتضاء النهي للفساد

[مَسْأَلَةٌ اقْتِضَاءُ النَّهْيِ لِلْفَسَادِ] ِ] إذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ فَهَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ؟ اعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَعْنًى جَاوَزَهُ جَمْعًا كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ لِلِاشْتِغَالِ عَنْ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا لَزِمَ وَهُوَ مَعْنَى تَجَاوُزِ الْمَبِيعِ، وَكَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. وَالثَّانِي: مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَعْنًى اتَّصَلَ بِهِ وَصْفًا، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ اللَّازِمِ لَهُ، كَالزِّنَى فَإِنَّهُ قَبُحَ لِعَدَمِ شَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ الَّذِي عُلِّقَ الْجَوَازُ بِهِ شَرْعًا، وَكَصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَإِنَّهُ لِمَعْنًى اتَّصَلَ بِالْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ وَصْفًا، وَهُوَ أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَلَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالثَّوْبِ الْحَرِيرِ، أَوْ فِي الْعُقُودِ كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ

وَأَحْمَدَ. قُلْت: هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَدَاوُد وَعُزِيَ إلَى أَبِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِ، وَسَوَّى أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّقْوِيمِ " بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ، فَقَالَ: فِيهِمَا دَلِيلَانِ عَلَى كَوْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ الْقُبْحَ ثَابِتٌ فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلَمْ يُوجِبْ رَفْعَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِسَبَبِ الْقُبْحِ فِي غَيْرِهِ، هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا. انْتَهَى. وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْفَسَادَ شَرْعًا، كَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ. الثَّانِي: لَا يُفِيدُهُ، وَعَزَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ لِلْأَكْثَرَيْنِ. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لَا فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ الْأَصْلُ لِكَوْنِهِ مَشْرُوعًا بِدُونِ الْوَصْفِ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا مَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ طَرَحَا الزِّيَادَةَ، أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ يُضَادُّ وُجُوبَ أَصْلِهِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: أَرَادَ أَنَّهُ يُضَادُّهُ ظَاهِرُهُ لَا قَطْعًا، وَإِلَّا لَوَرَدَ عَلَيْهِ نَهْيُ الْكَرَاهَةِ، كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَالْأَمَاكِنِ الْمَكْرُوهَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ إذَا كَانَ يُضَادُّ الْوُجُوبَ، الْأَصْلُ أَنْ لَا تَصِحَّ الصَّلَاةُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ يُضَادُّ ظَاهِرًا فَقَدْ تَرَكَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الظَّاهِرَ لِدَلِيلٍ رَاجِحٍ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ مَا يَقْتَضِي اخْتِيَارَ ذَلِكَ أَعْنِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى

الْفَسَادِ ظَاهِرًا لَا قَطْعًا، وَقَيَّدَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَوْضِيحِهِ " بِالتَّحْرِيمِ، فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: حُرْمَةُ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ تُضَادُّ وُجُوبَ أَصْلِهِ، وَهَذَا تَقْيِيدٌ حَسَنٌ لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ أَنْ يَقُولَ ظَاهِرُهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالنَّهْيِ الْمُحَرَّمِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَلَا تَرِدُ الْكَرَاهَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ تَرْجِعُ إلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الشَّارِعَ إذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ مُطْلَقًا ثُمَّ نَهَى عَنْهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ هَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ النَّهْيُ إلْحَاقَ شَرْطِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَيَصِيرُ الْفِعْلُ الْوَاقِعُ بِدُونِهِ كَالْعَدَمِ كَمَا فِي الْفِعْلِ الَّذِي اخْتَلَّ مِنْهُ شَرْطُهُ الثَّابِتُ بِشَرْطِيَّتِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ أَمْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ؟ مِثَالُهُ الْأَمْرُ بِالصَّوْمِ وَالنَّهْيُ عَنْ إيقَاعِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَالْأَمْرُ بِالطَّوَافِ وَالنَّهْيُ عَنْ إيقَاعِهِ فِي حَالِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ، فَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: النَّهْيُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَإِلْحَاقُ شَرْطٍ بِالْمَأْمُورِ بِهِ لَا يُثْبِتُ صِحَّتَهُ بِدُونِهِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى تَخْصِيصِ الْفَسَادِ بِالْوَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ دُونَ الْأَصْلِ الْمُتَّصِفِ بِهِ حَتَّى لَوْ أَتَى بِهِ الْمُكَلَّفُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَكُونُ صَحِيحًا بِحَسَبِ الْأَصْلِ فَاسِدًا بِحَسَبِ الْوَصْفِ إنْ كَانَ ذَلِكَ النَّهْيُ نَهْيَ فَسَادٍ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ النَّهْيِ عِنْدَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ بَلْ عَلَى الصِّحَّةِ، كَمَا إذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ عِنْدَهُمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إيقَاعُهُ فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَإِنْ أَوْقَعَهُ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا، وَيَقَعُ عَنْ نَذْرِهِ وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ الطَّوَافُ وَيُجْزِئُهَا عَنْ طَوَافِ الْفَرْضِ حَتَّى يَقَعَ بِهِ التَّحَلُّلُ وَإِذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ، وَصَحَّ فِي الْقَدْرِ الْمُسَاوِي، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: صَحِيحٌ بِأَصْلِهِ فَاسِدٌ بِوَصْفِهِ وَبَالَغُوا فِي التَّخْرِيجِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ حَتَّى قَالُوا: إنَّ الزِّنَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ أُمِّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَبِنْتِهَا، وَإِنَّ الْكُفَّارَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوهَا.

وَالْحَقُّ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الزِّنَى وَالِاسْتِيلَاءَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ وَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ لِانْتِفَاءِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَشْرُوعِيَّةِ الزِّنَى وَالْغَصْبِ. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ هُوَ إيقَاعُ الصَّوْمِ لَا الصَّوْمُ الْوَاقِعُ، وَهُمَا مَفْهُومَانِ مُتَغَايِرَانِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْإِيقَاعِ تَحْرِيمُ الْوَاقِعِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْكَوْنِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ تَحْرِيمُ نَفْسِ الصَّلَاةِ لِتَغَايُرِ الْمَفْهُومَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ يَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَ حَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَيَقْتَضِي ذَلِكَ الصِّحَّةَ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ قُبْحٌ لِذَاتِهِ، وَذَلِكَ قَائِمٌ بِالْوَصْفِ لَا بِالْفِعْلِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْأَصْلَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَعْصِيَةُ وَالصِّحَّةُ مُتَنَافِيَانِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الصِّحَّةِ تَرَتُّبُ الْآثَارِ الْمَشْرُوعَةِ عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يَجْتَمِعُ الْمَشْرُوعِيَّةُ وَالْمَعْصِيَةُ فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: النِّكَاحُ أَمْرٌ حُمِدْت عَلَيْهِ، وَالزِّنَى أَمْرٌ ذُمِمْت عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا يَرِدُ وَطْءُ الْبَهِيمَةِ وَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُوصَفَانِ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى قَوْلِنَا: أَنَّ النَّهْيَ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ يَقْتَضِي رَفْعَ الْمَشْرُوعِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ كَالظِّهَارِ فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ. أُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِي الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا الْمُتَعَلِّقِ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ لِلْحِلِّ، أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى سَبَبًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ أَمْ لَا؟ أَمَّا الظِّهَارُ فَلَيْسَ بِتَصَرُّفٍ مَوْضُوعٍ لِحُكْمٍ مَطْلُوبٍ شَرْعًا بَلْ هُوَ حَرَامٌ، وَالْكَفَّارَةُ وَصَالِحًا لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ بَلْ يَخُصُّهُ كَمَادَّةِ الْقَتْلِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِعَيْنِهِ كَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ فَإِنَّ الْبَيْعَ مُقَابَلَةُ

مَالٍ بِمَالٍ، وَالْمَاءُ فِي الصُّلْبِ وَالرَّحِمِ لَا مَالِيَّةَ فِيهِ. هَذَا مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ، نَحْوُ " لَا تَصُمْ " وَ " لَا تَبِعْ " كَمَا فَهِمَ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ، وَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْفَسَادِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْهِيُّ عِبَادَةً أَوْ مُعَامَلَةً، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ مَعَ التَّحْرِيمِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَهُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " وَابْنُ فُورَكٍ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: مَذْهَبُنَا الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَكَّدَ الْقَوْلَ فِيهِ فِي بَابِ " الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ " أَنَّ النَّهْيَ إذَا وَرَدَ مُتَجَرِّدًا اقْتَضَى فَسَادَ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَكَافَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الرِّسَالَةِ " يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ اسْتِدْلَالَهُ بِالْآيَاتِ وَالْحَدِيثِ عَلِمَ ذَلِكَ، كَاحْتِجَاجِهِ فِي النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، وَقَالَ فِي مَوْضُوعٍ مِنْهَا: وَكُلُّ نِكَاحٍ خَلَا عَنْ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَالرِّضَى مِنْ الْمَنْكُوحَةِ الثَّيِّبِ كَانَ فَاسِدًا، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ.

قِيلَ: وَلِهَذَا إنَّمَا يُفِيدُ الْعُقُودَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ إذَا وَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ أَيْ: إذَا اسْتَجْمَعَتْ الشُّرُوطَ الشَّرْعِيَّةَ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي التَّقْوِيمِ ": إنَّهُ قَوْلُ عُلَمَائِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقَبِيحَ لِعَيْنِهِ لَا يُشْرَعُ لِعَيْنِهِ، وَقَالَ: سَوَاءٌ قَبُحَ لِعَيْنِهِ وَضْعًا أَوْ شَرْعًا كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، فَالْبَيْعُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا قَصَرَ مَحَلَّهُ عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَالَ الْعَقْدِ، وَالْمَاءُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ مِنْهُ الْحَيَوَانُ لَيْسَ بِمَالٍ صَارَ بَيْعُهُ عَبَثًا بِحُلُولِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَالثَّانِي: لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلًا، وَيَحْتَاجُ الْفَسَادُ إلَى دَلِيلٍ غَيْرِ النَّهْيِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِيَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ، وَحَكَاهُ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: وَذَكَرَ أَنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ شُيُوخِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ. انْتَهَى. زَادَ ابْنُ بَرْهَانٍ أَبَا عَلِيٍّ وَأَبَا هَاشِمٍ الْجُبَّائِيَّيْنِ، وَاخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ السَّمْنَانِيُّ وَالْغَزَالِيُّ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ، وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ " عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْآمِدِيَّ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَلِلشَّافِعِيِّ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يَحْكُونَ عَنْهُ الْقَوْلَيْنِ. وَنَصَّ الْغَزَالِيُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى فَسَادِهِ إنَّمَا هُوَ اعْتِمَادُ الشَّرْعِ عَلَى فَوَاتِ شَرْطٍ، وَيُعْرَفُ الشَّرْطُ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَعَلَى ارْتِبَاطِ الصِّحَّةِ بِهِ. وَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ آخِرُهُمْ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالصَّوَابُ: أَنَّ خِلَافَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِغَيْرِهِ، أَمَّا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ فَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي فَسَادِهِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي تَقْوِيمِ الْأَدِلَّةِ " وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ " وَقَرَّرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَهُوَ الْأَثْبَتُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا حَنَفِيًّا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْعُقُودِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " عَنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عَنْ اخْتِيَارِ الْغَزَالِيِّ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْمُسْتَصْفَى " لَكِنَّ كَلَامَهُ فِي ذَيْلِ الْمَسْأَلَةِ يَقْتَضِي تَفْصِيلًا آخَرَ سَنَذْكُرُهُ. وَقَدْ خَالَفَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي كُتُبِهِ الْفِقْهِيَّةِ، فَقَالَ فِي الْوَسِيطِ ": عِنْدَنَا أَنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ عَنْ الْعَقْدِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ هُوَ الْمَشْرُوعُ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي عَيْنِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَمْ يَكُنْ صَحِيحًا إلَّا إذَا ظَهَرَ تَعَلُّقُ النَّهْيِ بِأَمْرٍ عَنْ الْعَقْدِ اتَّفَقَ مُجَاوَزَتُهُ الْعَقْدَ، كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ. وَقَسَّمَ الْمَنَاهِيَ إلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، كَالنَّجْشِ وَالْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَإِلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ إمَّا لِتَطَرُّقِ خَلَلٍ إلَى الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلنَّهْيِ تَعَلُّقٌ سِوَى الْعَقْدِ فَحُمِلَ عَلَى الْفَسَادِ، كَبَيْعِ حَبْلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ الْحَصَاةِ وَبُيُوعِ الْغَرَرِ وَأَشْبَاهِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُؤَوَّلَ كَلَامُ الْمُسْتَصْفَى " عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ تَنَاقُضًا، وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى اقْتِضَائِهِ الْفَسَادَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْ شَافِعِيٍّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْعُقُودِ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَكَذَلِكَ إطْلَاقُهُ الْفَسَادَ فِي الْعِبَادَاتِ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْهَا لِعَيْنِهَا فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ أَعْنِي الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَحَكَوْا مَذَاهِبَ: ثَالِثُهَا: إنْ كَانَ النَّهْيُ مُخْتَصًّا بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَالصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ دَلَّ عَلَى فَسَادِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَدُلُّ، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالثَّوْبِ الْحَرِيرِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. رَابِعُهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ فِي الْعِبَادَاتِ سَوَاءٌ نَهَى عَنْهَا لِعَيْنِهَا أَمْ لِأَمْرٍ قَارَنَهَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَالنَّهْيُ إمَّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ كَبَيْعِ الْحَصَاةِ، أَوْ إلَى أَمْرٍ دَاخِلٍ فِيهِ كَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ، أَوْ خَارِجٍ عَنْهُ لَازِمٍ لَهُ كَالرِّبَا فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ تَبْطُلُ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَمْرٍ مُقَارِنٍ لِلْعَقْدِ غَيْرِ لَازِمٍ، كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، وَهَذَا الْقَوْلُ نَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي الْمَعَالِمِ " فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ، فَتَأَمَّلْهُ. قِيلَ: وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " وَالْبُوَيْطِيُّ إلَّا أَنَّ الصِّحَّةَ فِي الْمُقَارِنِ ذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَيَتَحَصَّلُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ النَّهْيُ لِعَيْنِهِ أَوْ لِوَصْفِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ. وَالثَّانِي: لَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِوَصْفِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ لِاخْتِلَالِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ مِنْ عِبَادَةٍ وَعَقْدٍ. صَرَّحَ بِهِ ابْنُ بَرْهَانٍ.

وَالثَّالِثُ: يَقْتَضِي شِبْهَ الْفَسَادِ حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ وَظَاهِرُهُ تَخْصِيصُهُ بِالْعَقْدِ. وَالرَّابِعُ: يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، إذَا كَانَ النَّهْيُ لِوَصْفِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ، وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لِعَيْنِهِ فَيَقْتَضِي الْفَسَادَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَالْخَامِسُ: يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْعُقُودِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيَّ. وَالسَّادِسُ: إنْ كَانَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِوَصْفِهِ اللَّازِمِ لَهُ فَهُوَ الْفَسَادُ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ عِبَادَةً وَعَقْدًا، وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَتَصَرُّفُهُ فِي الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِيهِ. وَالسَّابِعُ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَالصَّلَاةِ فِي الْبُقْعَةِ النَّجِسَةِ فَيَقْتَضِي الْفَسَادَ دُونَ مَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا. وَالثَّامِنُ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُخِلُّ بِرُكْنٍ أَوْ شَرْطٍ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ دُونَ مَا لَا يُخِلُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، ذَكَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَكَلَامُ الْمُسْتَصْفَى " فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ مُصَرِّحٌ بِهِ، وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْقِسْمِ خِلَافٌ. وَالتَّاسِعُ: ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " عَنْ شَيْخِهِ، وَأَظُنُّهُ أَبَا الْحَسَنِ اللَّخْمِيَّ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا النَّهْيُ عَنْهُ لِحَقِّ الْخَلْقِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ

وَإِلَّا دَلَّ مَا اتَّصَلَ بِهَذَا إلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِحَقِّ الْخَلْقِ، وَتَزُولُ الْمَعْصِيَةُ بِإِسْقَاطِ الْمَالِكِ حَقَّهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَلَا يَسْقُطُ بِإِذْنِ أَحَدٍ وَلَا إسْقَاطِهِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ التَّصْرِيَةَ تَدْلِيسٌ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ عَائِدٌ لِلْمَخْلُوقِ، وَلَمْ يُبْطِلْ الشَّارِعُ الْبَيْعَ الْمُقْتَرِنَ بِهِ، بَلْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَقْتَضِ النَّهْيُ فَسَادَ الْعَقْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْخَلْقِ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَرِيبٌ جِدًّا، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ النَّهْيَ فِي الْعِبَادَاتِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَنَاهِيهَا لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، وَالتَّفْصِيلُ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِهَا، وَيَرِدُ عَلَيْهِ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ مِمَّا قِيلَ فِيهَا بِالْفَسَادِ، وَالنَّهْيُ فِيهَا لِحَقِّ الْخَلْقِ، كَالْبَيْعِ الْمُقْتَرِنِ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ خُصُوصًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَجِيءُ مَا ذَكَرَهُ إلَّا فِي صُوَرٍ قَلِيلَةٍ، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَالنَّهْيُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ. إذَا عَلِمْت هَذَا فَهَاهُنَا أُمُورٌ: [إطْلَاقُ النَّهْيِ هَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ] أَحَدُهَا: إذَا اخْتَصَرْت مَا سَبَقَ قُلْت: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إمَّا تَمَامُ الْمَاهِيَّةِ أَوْ جُزْؤُهَا أَوْ لَازِمٌ لَهَا أَوْ خَارِجٌ مُقَارِنٌ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ، فَالْأَوَّلَانِ يُفِيدَانِ الْفَسَادَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لِتَمَكُّنِ الْمَفْسَدَةِ مِنْ جَوْهَرِ الْمَاهِيَّةِ، ثُمَّ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ يَقُولَانِ: إطْلَاقُ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ بِظَاهِرِهِ فِيمَا أُضِيفَ إلَيْهِ وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ يَصْرِفُ النَّهْيَ إلَى خَارِجٍ مُقَارِنٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ

يَقُولُ: يُحْمَلُ عَلَى الْمُفَارِقِ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا أُضِيفَ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَنَا انْسِحَابُ الْفَسَادِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ مَا لَمْ يَصْرِفْ صَارِفٌ، وَعِنْدَهُ بِالْعَكْسِ. قَالَ صَاحِبُ التَّقْوِيمِ ": قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مُطْلَقُ النَّهْيِ عَنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَحَقَّقُ حِسًّا يَنْصَرِفُ إلَى مَا قَبُحَ لِعَيْنِهِ، وَعَنْ التَّصَرُّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَحَقَّقُ شَرْعًا، كَالْعُقُودِ وَالْعِبَادَاتِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا قَبُحَ لِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: يَدُلُّ عَلَى قُبْحِهِ فِي عَيْنِهِ، وَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ: النَّهْيُ بِلَا قَرِينَةٍ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَفَائِدَتُهُ بُطْلَانُ التَّصَرُّفِ، وَعِنْدَنَا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِغَيْرِهِ وَالصِّحَّةَ لِأَصْلِهِ. قَالَ: وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ سَبَبُ الْقُبْحِ لِغَيْرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ وَصْفًا فَإِنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَنَا يَكُونُ صَحِيحًا بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ. وَقَدْ اعْتَاصَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ فَذَهَبُوا إلَى آرَاءَ مُعْضِلَةٍ تُدَانِي مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: اللَّازِمُ، كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَعَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَعَنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، فَعِنْدَنَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى إنَّهُ قَالَ: مَنْ نَذَرَ صَوْمًا فَصَامَ يَوْمَ الْعِيدِ يُجْزِئُهُ وَيَنْعَقِدُ مَعَ وَصْفِ الْفَسَادِ. وَالرَّابِعُ: الْخَارِجُ الْمُقَارِنُ، فَلَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.

النهي في المعاملات يدل على الفساد

وَلِلْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ تَأْثِيرٌ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُ الْمَازِرِيُّ مَثَلًا حَسَنًا، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا غَصَّ بِلُقْمَةٍ أَوْ عَطِشَ فَأَمَرَ غُلَامَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمَاءٍ حُلْوٍ فِي كُوزٍ وَأَنْ يَرْفُقَ فِي مَجِيئِهِ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُ عَجَلَةٌ وَلَا لَعِبٌ فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَقْعُدَ فَلَا يَأْتِيهِ بِشَيْءٍ، فَالْمُخَالَفَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْكُوزِ لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ فَهَذَا ارْتِكَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ هَذَا الْكُوزِ كَالْعَدَمِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْكُوزِ وَفِيهِ مَاءٌ مَالِحٌ زُعَاقٌ فَهُوَ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ فِي الْمُخَالَفَةِ، وَارْتِكَابُهُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ اللَّازِمَ لَهُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَأْتِيَهُ بِكُوزِ مَاءٍ عَذْبٍ بَارِدٍ وَلَكِنَّهُ جَرَى فِي مَجِيئِهِ، وَخَالَفَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ امْتِثَالَ الْمَقْصُودِ قَدْ حَصَلَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَالَفَ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِغَيْرِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَارَدْ فِيهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَأَقْوَى مَا يَرِدُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَضَاءُ دَيْنٍ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَدَائِهِ فَاشْتَغَلَ عَنْهُ بِالتَّحَرُّمِ بِصَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ، أَوْ إنْشَاءِ عَقْدِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَصِحُّ، وَكَذَلِكَ بَيْعُهُ وَنِكَاحُهُ، وَلَا قَائِلَ بِهِ. [النَّهْيُ فِي الْمُعَامَلَاتِ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ] [النَّهْيُ فِي الْمُعَامَلَاتِ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ] الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ أَصْحَابَنَا ذَكَرُوا أَنَّ النَّهْيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ إنْ رَجَعَ إلَى أَمْرٍ دَاخِلٍ فِيهَا أَوْ لَازِمٍ لَهَا، فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَمْرٍ خَارِجٍ لَمْ يَقْتَضِهِ، فَصَرَّحُوا بِالرَّاجِعِ إلَى أَمْرٍ دَاخِلٍ أَوْ خَارِجٍ أَوْ لَازِمٍ، وَسَكَتُوا عَمَّا شَكَكْنَا فِيهِ، هَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الدَّاخِلِ أَوْ الْخَارِجِ؟ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ نَبَّهَ عَلَيْهَا

الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي قَوَاعِدِهِ "، قَالَ: كُلُّ تَصَرُّفٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لِأَمْرٍ يُجَاوِزُهُ أَوْ يُقَارِنُهُ مَعَ تَوَفُّرِ شَرَائِطِهِ وَأَرْكَانِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَلَمْ يُعْلَمْ لِمَا نُهِيَ عَنْهُ فَهُوَ بَاطِلٌ حَمْلًا لِلَفْظِ النَّهْيِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. انْتَهَى. ذَكَرَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ، وَاَلَّذِي لَمْ يُعْلَمْ لِمَاذَا نَهَى عَنْهُ لِأَمْرٍ دَاخِلٍ أَوْ خَارِجٍ؟ هُوَ الْمُحْتَمِلُ لَأَنْ يَرْجِعَ إلَى دَاخِلٍ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ الْمَعْنَى أَوْ خَارِجٍ عَنْ اللَّفْظِ؟ وَالثَّانِي: قَوْلُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَالثَّالِثُ: قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى " فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ إنْ رَجَعَ إلَى عَيْنِ الشَّيْءِ دُونَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى غَيْرِهِ. قُلْنَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ فِي حَالِ الْحَيْضِ وَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْ الطَّلَاقِ لِعَيْنِهِ وَلَا عَنْ الصَّلَاةِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِوُقُوعِهِ فِي حَالِ الْحَيْضِ وَلِوُقُوعِهَا فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ أَمْكَنَ تَقْدِيرُ مِثْلِهِ فِي الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْحَيْضِ فَلَا اعْتِمَادَ إلَّا عَلَى فَوَاتِ الشَّرْطِ، وَيُعْرَفُ الشَّرْطُ بِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَعَلَى ارْتِبَاطِ الصِّحَّةِ بِهِ، وَلَا يُعْرَفُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا وَضْعًا وَلَا شَرْعًا. قَالَ: وَكُلُّ نَهْيٍ تَضَمَّنَ ارْتِكَابُهُ الْإِخْلَالَ بِالشَّرْطِ دَلَّ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ حَيْثُ الْإِخْلَالُ بِالشَّرْطِ لَا مِنْ حَيْثُ النَّهْيُ. انْتَهَى. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَهَلْ دَلَّ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا لُغَةً، أَوْ إنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِاللُّغَةِ فَقَطْ؟ قَوْلَانِ. حَكَاهُمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ، وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى

فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْهُ وَصَحَّحَهُ، وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ، وَهَذَا نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْأَمْرِ هَلْ اقْتَضَى الْوُجُوبَ بِصِيغَتِهِ أَوْ بِالشَّرْعِ؟ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ ثَمَّ تَأْتِي هُنَا مِثْلَهُ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ فَاخْتَلَفُوا هَلْ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَالْإِجْزَاءَ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَإِلَّا يَلْزَمُ ثُبُوتُ الصِّحَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَقِيلَ: يَدُلُّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِهِ يَقْتَضِي انْصِرَافَهُ إلَى الصَّحِيحِ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ النَّهْيُ عَنْ الْمُسْتَحِيلِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْمُسْتَصْفَى " مَعَ تَصْرِيحِهِ هُنَا بِبُطْلَانِهِ، وَأَطْلَقَ، وَتَابَعَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْهِيٍّ، فَقَدْ قَالُوا فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ الْعِيدِ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِوَصْفٍ لَا لِعَيْنِهِ، فَإِذَا نَذَرَهُ انْعَقَدَ، فَإِنْ صَامَهُ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا. اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْحَائِضِ بَاطِلَةٌ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا لِوَصْفِهَا بَلْ قَالُوا ذَلِكَ فِي مُخَالَفَةِ الْأَوَامِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، فَأَبْطَلُوا صَلَاةَ مَنْ يُحَاذِي الْمَرْأَةَ فِي إتْمَامِهَا جَمِيعًا، فَأَقَامَ وَاحِدٌ، لِمَا ذَكَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» . وَاتَّفَقُوا عَلَى بُطْلَانِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَصِحَّةِ نِكَاحِ الشِّغَارِ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لِوَصْفِهِمَا، وَنَقَلَ الدَّبُوسِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ وَأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ عَلَى انْعِقَادِهِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ

النَّهْيَ عَنْ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ عَبَثٌ؛ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ لِلْأَعْمَى: لَا تُبْصِرْ، وَلِلْأَبْكَمِ: لَا تَتَكَلَّمْ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُمْتَنِعِ حِسًّا لَا شَرْعًا، وَإِلَّا لَانْتَقَضَ بِجَمِيعِ الْمَنَاهِي الْفَاسِدَةِ. هَكَذَا أَطْلَقَ الْخِلَافَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمَا. وَالصَّوَابُ: أَنَّهُمَا إنَّمَا قَالَا ذَلِكَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِوَصْفِهِ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَالْقَائِلُ بِهَذَا الْمَذْهَبِ لَا يُمْكِنُهُ دَعْوَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ دَلَالَةَ مُطَابَقَةٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ، وَشَرْطُهَا اللُّزُومُ وَهُوَ مَفْقُودٌ هَاهُنَا، وَقِيلَ: إنْ أَرَادُوا بِالصِّحَّةِ الْعَقْلِيَّةَ، وَهِيَ الْإِمْكَانُ، أَيْ: كَوْنُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لَا مُمْتَنِعٌ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادُوا الصِّحَّةَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الشَّرْعِ وَهِيَ تَرَتُّبُ آثَارِ الشَّيْءِ شَرْعًا عَلَيْهِ فَذَلِكَ تَنَاقُضٌ؛ إذْ يَصِيرُ مَعْنَاهُ: النَّهْيَ شَرْعًا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا، وَهُوَ مُحَالٌ؛ إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ صِحَّةُ كُلِّ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، وَقَدْ أَبْطَلُوا هُمْ مِنْهُ أَشْيَاءَ كَبَيْعِ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ وَنَحْوِهِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ لُغَةً وَشَرْعًا يَقْتَضِي إعْدَامَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَكَيْفَ تُرَتَّبُ آثَارُهُ مَعَ إعْدَامِهِ؟ وَكَذَلِكَ إنَّ الصِّحَّةَ إمَّا عَقْلِيَّةٌ، وَهِيَ إمْكَانُ الشَّيْءِ وَقَبُولُهُ لِلْعَدَمِ وَالْوُجُودِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ كَإِمْكَانِ الْعَالَمِ وَالْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ، أَوْ عَادِيَّةٌ كَالْمَشْيِ فِي الْجِهَاتِ أَمَامًا وَيَمِينًا وَشِمَالًا، أَوْ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ الْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ فَيَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إلَّا التَّحْرِيمَ؛ إذْ لَا إذْنَ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ دَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الصِّحَّةَ الْعَقْلِيَّةَ أَوْ الْعَادِيَّةَ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

النهي الذي للتنزيه لا يقتضي الفساد

أَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ دَلِيلُهُمْ لَا يَمَسُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ وَيَرْجِعُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا. [النَّهْيُ الَّذِي لِلتَّنْزِيهِ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ] [النَّهْيُ الَّذِي لِلتَّنْزِيهِ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ] الْأَمْرُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ أَوْ لَا؟ إنَّمَا هُوَ النَّهْيُ الَّذِي لِلتَّحْرِيمِ لِمَا بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ التَّضَادِّ، أَمَّا النَّهْيُ الَّذِي لِلتَّنْزِيهِ، فَقَالَ الْهِنْدِيُّ فِي النِّهَايَةِ ": لَا خِلَافَ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُهُمْ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ انْتَهَى. أَيْ: لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ اقْتِضَائِهِ الْفَسَادَ؛ إذْ لَا تَضَادَّ بَيْنَ الِاعْتِدَادِ بِالشَّيْءِ مَعَ كَوْنِهِ مَكْرُوهًا، وَعَلَى ذَلِكَ بَنَى أَصْحَابُنَا صِحَّةَ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَالْمَقْبَرَةِ وَنَحْوِهِ مَعَ الْقَوْلِ بِكَرَاهَتِهَا، لَكِنْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " بِجَرَيَانِهِ فِي نَهْيِ الْكَرَاهَةِ. قَالَ: كَمَا يَتَضَادُّ الْحَرَامُ وَالْوَاجِبُ يَتَضَادُّ الْمَكْرُوهُ وَالْوَاجِبُ حَتَّى لَا يَكُونَ الشَّيْءُ وَاجِبًا مَكْرُوهًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَطْلُوبُ التَّرْكِ، وَالصِّحَّةُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ طَلَبَ تَرْكِهِ يُوجِبُ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِهِ إذَا وَقَعَ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَسَادُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ: إنَّ الْكَرَاهَةَ مَانِعَةٌ مِنْ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ تَحْرِيمًا أَوْ تَنْزِيهًا؛ لِأَنَّهَا تُضَادُّ الْأَمْرَ كَيْفَ كَانَتْ؛ لِأَنَّهَا لِلتَّرْكِ، وَالْأَمْرُ طَلَبُ الْفِعْلِ، وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَلَا إشْكَالَ لِمَا قَرَّرْنَاهُ. قَالَا: وَمَأْخَذُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ النَّهْيَ هَلْ يَعُودُ إلَى نَفْسِ الصَّلَاةِ أَمْ إلَى خَارِجٍ عَنْهَا؟ وَمِنْ هُنَا حَكَى بَعْضُهُمْ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ نَهْيَ التَّنْزِيهِ إذَا كَانَ لِعَيْنِ الشَّيْءِ

هَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ أَمْ لَا؟ وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي نَهْيِ التَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ إنَّمَا يَجِيءُ إذَا كَانَ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ فَذَلِكَ التَّضَادُّ إنَّمَا يَجِيءُ فِيمَا هُوَ وَاجِبٌ خَاصَّةً لِمَا بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالْكَرَاهَةِ مِنْ التَّبَايُنِ، فَأَمَّا الصِّحَّةُ مَعَ الْإِبَاحَةِ كَمَا فِي الْعُقُودِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا تَنْزِيهًا فَلَا تَضَادَّ حِينَئِذٍ، وَالْفَسَادُ مُخْتَصٌّ بِمَا كَانَ النَّهْيُ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ. الْأَمْرُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ أَمْ لَا؟ إنَّمَا هُوَ فِي الْفَسَادِ بِمَعْنَى الْبُطْلَانِ عَلَى رَأْيِنَا أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ، لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ: نَبَّهَ عَلَيْهِ الْهِنْدِيُّ وَأَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ فُورَكٍ. السَّادِسُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْفَسَادَ إذَا أُطْلِقَ فِي الْعِبَادَاتِ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ، وَإِذَا أُطْلِقَ فِي الْمُعَامَلَاتِ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مِنْ اللُّزُومِ وَانْتِقَالِ الْمِلْكِ وَصِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قِيلَ: النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إذَا قُدِّرَ وُقُوعُهُ لَا يُجْزِئُ فِي نَفْسِهِ إنْ كَانَ عِبَادَةً، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إنْ كَانَ مُعَامَلَةً وَإِذَا قِيلَ: لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ كَالْمَنْقُولِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ فَفَاسِدٌ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ صِيغَةَ النَّهْيِ لَا تَنْصَرِفُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَيْنِك الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَانَ أَقْرَبَ، فَإِنَّ الْفَسَادَ حِينَئِذٍ إنَّمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْقَرَائِنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الصِّيغَةَ لَوْ دَلَّتْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا يُتَلَقَّى مِنْ اللُّغَةِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَيْهِ. السَّابِعُ: قَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِي تَفْسِيرِ الْفَسَادِ فِي الْعِبَادَاتِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ مَنْ ذَهَبَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ

يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْعِبَادَاتِ أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَهُ لَا بِالْمَعْنَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ هَذَا. الثَّامِنُ: أَطْلَقَ الْمُفَصِّلُونَ بِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْعُقُودِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِغَيْرِهِمَا، وَزَادَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " الْإِيقَاعَاتِ وَأَلْحَقَهَا بِالْعُقُودِ، وَمُرَادُهُ بِهَا الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ كَطَلَاقِ الْحَائِضِ، وَكَإِرْسَالِ الثَّلَاثِ جَمِيعًا عَلَى قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إذَا قُلْنَا بِنُفُوذِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ كَالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الدُّخُولُ، وَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرُ. وَلِهَذَا أَشَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ فِي الْإِجْزَاءِ دُونَ السَّبَبِيَّةِ فَأَتَى بِالسَّبَبِيَّةِ لِيَشْمَلَ الْعُقُودَ وَالْإِيقَاعَاتِ، وَهِيَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ، لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهَا أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا قَوْلًا ثَالِثًا مُفَصَّلًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي اخْتَارَهُ شَمِلَ هَذِهِ الصُّوَرَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا، وَأَنَّهُ اخْتَارَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، وَإِرْسَالُ الثَّلَاثِ، وَخِلَافُ الظَّاهِرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. التَّاسِعُ: أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي مُطْلَقِ النَّهْيِ لِيَخْرُجَ الْمُقْتَرِنُ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى الْمَنْعِ لِخَلَلٍ فِي أَرْكَانِهِ أَوْ شَرَائِطِهِ، أَوْ يَقْتَرِنَ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْفَسَادِ نَحْوَ النَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ كَمَا فِي الْمَنْهِيَّيْنِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنْ أَشْعَرَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ بِجَرَيَانِ خِلَافٍ فِيهِ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ؛ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى الْفَسَادِ مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى اخْتِلَالِ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ. قُلْت: كَلَامُ ابْنِ بَرْهَانٍ يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ فِيهِ، وَمِثَالُ مَا فِيهِ قَرِينَةُ الْفَسَادِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ

هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْهُ تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ يَكُونُ فَاسِدًا فَلَا يَتَوَجَّهُ فِيهِ خِلَافٌ أَلْبَتَّةَ، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ، وَقَالَ فِيهِ: «إنْ جَاءَ وَطَلَبَ ثَمَنَهُ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ أَوْ الرَّوْثِ، وَقَالَ: (إنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ فَإِنَّهُ لِلْفَسَادِ. وَقَدْ نُقِلَ النَّهْيُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. تَوْجِيهُهُ أَنَّ النِّسَاءَ مُحَرَّمَاتٌ إلَّا بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، فَلَا يَحِلُّ الْمُحَرَّمُ مِنْ النِّسَاءِ بِالْمُحَرَّمِ مِنْ النِّكَاحِ. وَمِثَالُ مَا فِيهِ قَرِينَةُ الصِّحَّةِ حَدِيثُ: «لَا تُصِرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنْ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا» فَإِنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ فِيهِ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ انْعَقَدَ وَلَمْ يَقْتَضِ فَسَادًا، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الرُّكْبَانِ، وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِهِ إذَا وَرَدَ السُّوقَ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِمَا فِيهِ أَمْرٌ بِالْمُرَاجَعَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ. الْعَاشِرُ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَبْطِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَالَ

ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الِاصْطِلَامِ " فِي مَسْأَلَةِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ إذَا كَانَ لِطَلَبِ ضِدِّهِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ نَفْسِ الشَّيْءِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِطَلَبٍ فَلَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ بِالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ لَيْسَ لِطَلَبِ ضِدِّهَا، وَهُوَ تَرْكُ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ حَتَّى لَوْ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ غَيْرِ الْبَيْعِ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَلَوْ بَاعَ وَهُوَ يَسْعَى لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لَمْ يَكُنْ لِطَلَبِ ضِدِّهِ، وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ حَالَةَ الْحَيْضِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَهِيَ طَاهِرٌ، ثُمَّ حَاضَتْ فَلَا نِكَاحَ، وَالْحَيْضُ مَوْجُودٌ؟ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الْإِحْرَامِ مُجَامِعًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِ. قُلْت: وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي بَابِ النَّذْرِ مِنْ " تَعْلِيقِهِ " فَقَالَ: كُلُّ نَهْيٍ يُطْلَبُ لِضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَهُوَ لِعَيْنِهِ، كَصَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَكُلُّ نَهْيٍ لَمْ يَكُنْ لِطَلَبِ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِعَيْنِهِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّهْيِ رُجُوعُهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِتَعَدُّدِ الْجِهَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ فِيهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ الشَّارِعِ: حُرْمَةُ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ يَحْرُمُ إمْسَاكُهُ مَعَ النِّيَّةِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ سِوَاهُ، فَمَنْ أَرَادَ صَرْفَ التَّحْرِيمِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى أَمْرٍ خَارِجٍ احْتَاجَ إلَى الدَّلِيلِ، وَلِهَذَا قَطَعَ الشَّافِعِيُّ بِبُطْلَانِهِ؛ إذْ لَمْ يَظْهَرْ صَرْفُ التَّحْرِيمِ إلَى أَمْرٍ خَاصٍّ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ وَقَطَعَ بِصِحَّةِ الطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ [لِانْصِرَافِ التَّحْرِيمِ عَنْ الْحَقِيقَةِ] إلَى أَمْرٍ خَارِجٍ وَهُوَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ، أَوْ لُحُوقِ النَّدَمِ عَنْ الشَّكِّ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ لِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَكَذَا قَطَعَ بِبُطْلَانِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَلَمْ يَلْحَظْ الْمَعْنَى الْخَارِجَ مِنْ كَوْنِهِ مُقَدِّمَةَ الْإِفْسَادِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: ضَايَقَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي بَعْضِ خِلَافِيَّاتِهِ فِي قَوْلِهِمْ: نَهَى عَنْهُ لِعَيْنِهِ، وَقَالَ: النَّهْيُ أَبَدًا إنَّمَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ مِنْ

أَصْلِنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَيْسَتْ بِأَوْصَافٍ ذَاتِيَّةٍ لِلْأَفْعَالِ بَلْ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْلِيقِ خِطَابِ الشَّرْعِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالْمَنْعِ تَارَةً، وَبِالْبَحْثِ أُخْرَى قَالَ: وَهَكَذَا نَقُولُ فِي بَيْعِ الْحُرِّ: لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْهُ لِغَيْرِهِ، وَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِهِ، وَالنَّهْيُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِلصَّلَاةِ وَالْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِدُونِ الْبَيْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذَا صَادَفَ عَيْنَ الشَّيْءِ بِالِاتِّفَاقِ. الثَّانِيَ عَشَرَ: إذَا جَعَلْنَا الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ فِي نَهْيِ التَّحْرِيمِ فَقَطْ، فَإِنَّمَا هُوَ فِي صِيغَةِ " لَا تَفْعَلْ " فَإِنَّهُ الْحَقِيقِيُّ فِي التَّحْرِيمِ كَعَكْسِهِ فِي الْأَمْرِ، أَمَّا لَفْظُ " نَهَى " فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالتَّحْرِيمِ كَمَا سَبَقَ، فَلَا يَنْتَهِضُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى التَّحْرِيمِ كَاسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْغَائِبِ وَنَحْوِهِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» فَيُقَالُ: هَذِهِ الصِّيغَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ، وَالنَّهْيُ الْمُقْتَضِي لِلْفَسَادِ إنَّمَا هُوَ فِي نَهْيِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " لَا تَفْعَلْ ". الثَّالِثَ عَشَرَ: إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِلْفَسَادِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْوَاضِحِ ": لَا يَكُونُ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ مُوجِبِهِ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ عَنْ بَعْضِهِ فَصَارَ كَالْعُمُومِ الَّذِي خَرَجَ بَعْضُهُ يَبْقَى حَقِيقَةً فِيمَا بَقِيَ، وَهَذَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ أَنَّهُ مِنْ

جِهَةِ الشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ انْتِفَاؤُهُ مَجَازًا. قَالَ: وَكَذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ يَبْقَى نَهْيًا حَقِيقَةً عَلَى التَّنْزِيهِ، كَمَا إذَا قَامَتْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، وَهَذَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الِاشْتِرَاكِ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ.

خاتمة ما يمتاز به الأمر عن النهي

[خَاتِمَةٌ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْأَمْرُ عَنْ النَّهْيِ] ِ] فِيمَا يَمْتَازُ بِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي فِعْلَ مَرَّةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ عَلَى الدَّوَامِ وَالنَّهْيُ لَا يَتَّصِفُ بِالْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَالْأَمْرُ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالنَّهْيُ لَا يُقْضَى إذَا فَاتَ وَقْتُهُ الْمُعَيَّنُ بِخِلَافِ الْأَمْرِ. وَالنَّهْيُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ النَّهْيِ ابْتِدَاءً قَطْعًا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَفِي الْأَمْرِ خِلَافٌ. وَفِي تَكْرَارِ النَّهْيِ يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ لِلْأَمْرِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ بِالْإِجْمَاعِ، وَالنَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالنَّهْيُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِخِلَافِ الْأَمْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ عَلَى شَرْطٍ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِضِدِّهِ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ إذَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَابِ، وَفِي أَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ أَشْيَاءَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] [سُورَةُ الْإِنْسَانِ] . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .

مباحث العام

[مَبَاحِثُ الْعَامِّ] تَعْرِيفُ الْعَامِّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ حَتَّى وَرَدَ عَلَيْنَا الشَّافِعِيُّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) . وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: شُمُولُ أَمْرٍ لِمُتَعَدِّدٍ سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لَفْظًا أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ: عَمَّهُمْ الْخَبَرُ إذَا شَمِلَهُمْ وَأَحَاطَ بِهِمْ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمَنْطِقِيُّونَ: الْعَامُّ مَا لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرَ الشَّرِكَةِ فِيهِ كَالْإِنْسَانِ. وَيَجْعَلُونَ الْمُطْلَقَ عَامًّا. وَاصْطِلَاحًا: اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، أَيْ يَصْلُحُ لَهُ اللَّفْظُ الْعَامُّ كَ " مَنْ " فِي الْعُقَلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَ " كُلُّ " بِحَسَبِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ، لَا أَنَّ عُمُومَهُ فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ مُطْلَقًا. وَخَرَجَ بِقَيْدِ " الِاسْتِغْرَاقِ " النَّكِرَةُ، وَبِقَوْلِهِ: " مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ ": أَسْمَاءُ الْعَدَدِ، فَإِنَّهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِكُلِّ مَا يَصْلُحُ لَهُ لَكِنْ مَعَ حَصْرٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَيْهِ: (بِوَضْعِ وَاحِدٍ) ، لِيَحْتَرِزَ بِهِ عَمَّا يَتَنَاوَلُهُ بِوَضْعَيْنِ فَصَاعِدًا كَالْمُشْتَرَكِ.

وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ الْعَامَّ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى اللَّفْظِ بِمُجَرَّدِ مُسَمَّيَاتِهِ، مِثْلَ: الْعَشَرَةِ، وَالْمُسْلِمِينَ لِمَعْهُودٍ، وَضَمَائِرِ الْجَمْعِ، كَمَا يُطْلَقُ التَّخْصِيصُ عَلَى قَصْرِ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: " مُسَاوَاةُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ لِبَعْضٍ "، وَنُوقِضَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا مُسَاوٍ لِلْآخَرِ، وَلَيْسَ بِعَامٍّ وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: أَقَلُّ الْعُمُومِ شَيْئَانِ، كَمَا أَنَّ أَقَلَّ الْخُصُوصِ وَاحِدٌ. وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ: وَهُوَ الشُّمُولُ، وَالشُّمُولُ حَاصِلٌ فِي التَّثْنِيَةِ، وَإِلَّا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّثْنِيَةَ لَا تُسَمَّى عُمُومًا، لَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا: أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثٌ، فَإِذَا سَلَبَ عَنْهَا اسْمَ الْجَمْعِ فَالْمَعْلُومُ أَوْلَى، ثُمَّ إنَّ الْقَفَّالَ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ لَفْظِ الْعُمُومِ إلَى الثَّلَاثَةِ، وَلَا يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَنَافٍ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْعُمُومُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ: هُوَ الْقَوْلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ، فَصَاعِدًا. وَالتَّثْنِيَةُ عِنْدَهُمْ عُمُومٌ لِمَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالشُّمُولُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ لِلْوَاحِدِ، وَحَصَلَ مِنْ هَذَا خِلَافٌ فِي التَّثْنِيَةِ: هَلْ لَهَا عُمُومٌ؟ وَهُوَ غَرِيبٌ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى شَيْئَيْنِ

فَصَاعِدًا. وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: " فَصَاعِدًا " عَنْ لَفْظِ " التَّثْنِيَةِ "، وَأَرَادَ " بِالْوَاحِدِ " مُقَابِلَ الْمُرَكَّبِ حَتَّى يَشْمَلَ الِاثْنَيْنِ، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ فِي " الْمُسْتَصْفَى " أَنَّ قَوْلَهُ: " وَاحِدٌ وَمِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ " فَصْلٌ وَاحِدٌ، وَاحْتِرَازٌ بِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ، وَلَكِنْ بِلَفْظَيْنِ لَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ جِهَتَيْنِ لَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَرَادَ بِالْجِهَتَيْنِ: الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ دَلَالَةَ: " ضَرَبَ " عَلَيْهِمَا فَبَاطِلٌ، لِأَنَّهَا الْتِزَامِيَّةٌ، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ عَلَى مَعْنَاهُ بِالْمُطَابَقَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ دَلَالَتَهَا عَلَى ذَاتِهِمَا فَكَذَلِكَ، لِخُرُوجِهِ عَنْهُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَعْهُودٍ وَنَكِرَةٍ، وَقَدْ نَلْتَزِمُهُ فَنَقُولُ: إنَّهُمَا عَامَّانِ لِدَلَالَتِهِمَا عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلَا نُسَلِّمُ دُخُولَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ اخْتَارَ فِي " الْمُسْتَصْفَى " أَنَّ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ لَيْسَ بِعَامٍّ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ، وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ: اشْتَهَرَ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْعُمُومَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ عُمُومٌ، وَمَا دُونَهُ عُمُومٌ، وَأَقَلُّ الْعُمُومِ اثْنَانِ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَعُمَّ الشَّيْءُ نَفْسَهُ كَانَ مَا زَادَ عَلَيْهِ يَسْتَحِقُّ بِهِ اسْمَ الْعُمُومِ، قَلَّ أَمْ كَثُرَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ، مِنْ الْوَاقِفِيَّةِ: إنَّا نَقُولُ، بِالْعُمُومِ، لَا نَقُولُ بِالِاسْتِيعَابِ، وَهُوَ الْخُصُوصُ فِي عِبَارَةِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَنْ يَحْمِلُ الْخِطَابَ عَلَى ثَلَاثَةٍ: إنَّهُمْ أَهْلُ

الفرق بين العموم والعام

الْخُصُوصِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ عُمُومًا أَوْ خُصُوصًا مِنْ جِهَتَيْنِ. وَقَدْ أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ فِي حَدِّ الْعَامِّ " الِاسْتِغْرَاقَ "، وَلَمْ يَأْخُذْهُ آخَرُونَ، وَقَدْ تَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِي الْعَامِّ الَّذِي خَصَّ بِهِ الْبَعْضَ، فَمَنْ اشْتَرَطَ فِي الْعُمُومِ الِاسْتِغْرَاقَ لَا يُجَوِّزُ التَّمَسُّكَ بِهِ أَوْ يُضَعِّفَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَامًّا. وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ الدَّلَالَةَ عَلَى جَمْعٍ جَوَّزَهُ [الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْعَامِّ] [الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْعَامِّ] وَهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهُمَا: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْعَامِّ، فَالْعَامُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَنَاوِلُ، وَالْعُمُومُ: تَنَاوُلُ اللَّفْظِ لِمَا صَلُحَ لَهُ، فَالْعُمُومُ مَصْدَرٌ، وَالْعَامُّ: اسْمُ الْفَاعِلِ مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا الْمَصْدَرِ، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْفِعْلُ، وَالْفِعْلُ غَيْرُ الْفَاعِلِ. وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ الْإِنْكَارُ عَلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ وَابْنِ بَرْهَانٍ وَغَيْرِهِمَا فِي قَوْلِهِمْ: " الْعُمُومُ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ " فَإِنْ قِيلَ: أَرَادُوا بِالْمَصْدَرِ اسْمَ الْفَاعِلِ، قُلْنَا: اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ مَجَازٌ وَلَا ضَرُورَةَ لِارْتِكَابِهِ مَعَ إمْكَانِ الْحَقِيقَةِ، وَفَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ الْأَعَمِّ وَالْعَامِّ، بِأَنَّ الْأَعَمَّ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَى، وَالْعَامُّ فِي اللَّفْظِ، فَإِذَا قِيلَ: هَذَا أَعَمُّ تَبَادَرَ الذِّهْنُ لِلْمَعْنَى، وَإِذَا قِيلَ: هَذَا عَامٌّ تَبَادَرَ الذِّهْنُ لِلَّفْظِ. [الْفَرْقُ بَيْنَ عُمُومِ الشُّمُولِ وَعُمُومِ الصَّلَاحِيَةِ] [الْفَرْقُ بَيْنَ عُمُومِ الشُّمُولِ وَعُمُومِ الصَّلَاحِيَةِ] الثَّانِي: الْعُمُومُ يَقَعُ عَلَى مُسَمَّى عُمُومِ الشُّمُولِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا،

تفاوت صيغ الأعم

وَعُمُومِ الصَّلَاحِيَةِ، وَهُوَ الْمُطْلَقُ، وَتَسْمِيَتُهُ عَامًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَوَارِدَهُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ عَامٌّ. وَيُقَالُ لَهُ: عُمُومُ الْبَدَلِ أَيْضًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عُمُومَ الشُّمُولِ كُلِّيٌّ، وَيُحْكَمُ فِيهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ، وَعُمُومُ الصَّلَاحِيَةِ كُلِّيٌّ، أَيْ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ. [تَفَاوُتُ صِيَغِ الْأَعَمِّ] [تَفَاوُتُ صِيَغِ الْأَعَمِّ] الثَّالِثُ: صِيَغُ الْأَعَمِّ تَتَفَاوَتُ. قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " أَعَمُّ الْأَسْمَاءِ قَوْلُنَا مَعْلُومٌ وَمَذْكُورٌ، لِتَنَاوُلِهِ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، ثُمَّ شَيْءٌ وَمَوْجُودٌ لِتَنَاوُلِهِ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ، ثُمَّ مُحْدَثٌ لِتَنَاوُلِ الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ، ثُمَّ جِسْمٌ ثُمَّ حَيَوَانٌ ثُمَّ إنْسَانٌ ثُمَّ رَجُلٌ ثُمَّ أَنَا وَأَنْتَ. [مَا يَدْخُلُهُ الْعُمُومُ وَمَا لَا يَدْخُلُهُ] ُ وَالْكَلَامُ فِي الْعُمُومِ فِي مَوَاضِعَ: أَحَدِهِمَا: هَلْ يُتَصَوَّرُ فِي الْقَوْلِ النَّفْسِيِّ؟ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ تَصَوُّرُهُ، كَمَا قَالُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ يَرْجِعَانِ إلَى الْكَلَامِ، ثُمَّ الْكَلَامُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي يَعُمُّ وَيَخُصُّ، وَالصِّيَغُ وَالْعِبَارَاتُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَلَا تُسَمَّى بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إلَّا تَجَوُّزًا كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَرْجِعَانِ إلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ دُونَ الصِّيَغِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ وَصْفَانِ رَاجِعَانِ إلَى الْعِبَارَاتِ وَالصِّيَغِ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. انْتَهَى. وَأَنْكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ظُهُورَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِجَمَاعَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِيمَا قَالُوهُ، وَصَرَفَ عُمُومَ النَّفْسِيِّ إلَى عُمُومٍ فِيهَا تَكُونُ الْمَعْلُومَاتُ عَلَى جِهَاتٍ دُونَ جِهَاتٍ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَيُقَالُ لَهُ: إنْ أَنْكَرْت وُجُودَ قَوْلٍ فِي النَّفْسِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِيعَابِ بِنَفْسِهِ وَحَقِيقَةً فَمُسَلَّمٌ، وَأَمَّا إثْبَاتُ قَوْلٍ فِي النَّفْسِ هُوَ خَبَرٌ عَنْ مَعْنَى الْعُمُومِ فَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ، وَالنِّزَاعُ فِيهِ. الثَّانِي: هَلْ الْعُمُومُ فِي الْعُمُومِ؟ قَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: هَذَا عَطَاءٌ عَامٌّ، هَلْ ذِكْرُ الْعُمُومِ هُنَا حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ قَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ: إنَّهُ مَجَازٌ لِكَوْنِ مَا تَنَاوَلَهُ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ الْعَطَاءِ مُخْتَصًّا بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ صَاحِبُهُ، بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى: {الْمُشْرِكِينَ} فَإِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مُشْرِكٍ تَنَاوُلًا وَاحِدًا. وَقِيلَ: حَقِيقَةً، وَالْخِلَافُ فِي هَذَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. الثَّالِثِ: هَلْ يُتَصَوَّرُ فِي الْأَحْكَامِ حَتَّى يُقَالَ: حُكْمُ قَطْعِ السَّارِقِ عَامٌّ؟ أَنْكَرَهُ الْقَاضِي، فَإِذَا قِيلَ: حُكْمُ اللَّهِ عَامٌّ فِي قَطْع السَّارِقِ، فَكُلُّ سَارِقٍ يَخْتَصُّ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْحُكْمِ، وَأَثْبَتَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْقَطْعَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا السَّارِقُ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ، فَلَعَلَّهُ تَخَرَّجَ عَلَى الْقَوْلِ بِرُجُوعِ الْأَحْكَامِ إلَى صِفَاتِ النَّفْسِ؛ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْأَحْكَامُ تَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الشَّارِعِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْحَقُّ ابْتِنَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَرْجِعُ إلَى قَوْلٍ أَوْ إلَى وَصْفٍ يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ؛ فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، لَمْ يُتَصَوَّرْ الْعُمُومُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَفْعَالِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالسَّارِقُ} يَشْمَلُ كُلَّ السَّارِقِ، فَنَفْسُ الْقَطْعِ فِعْلٌ، وَالْأَفْعَالُ لَا عُمُومَ لَهَا حَقِيقَةً. الرَّابِعِ: هَلْ يُتَصَوَّرُ فِي الْأَفْعَالِ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ " مَسَائِلِ الْخِلَافِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ": دَعْوَى الْعُمُومِ فِي الْأَفْعَالِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْعُمُومَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةٍ، وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاحْتَجَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ: (حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ) ، دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ يَقْتَضِي تَعَدِّيهِ فِي كُلِّ عَيْنٍ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا لَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَ النِّزَاعِ مِنْهُ. انْتَهَى.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَصِحُّ الْعُمُومُ إلَّا فِي الْأَلْفَاظِ، وَأَمَّا فِي الْأَفْعَالِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهَا تَقَعُ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ عُرِفَتْ اخْتَصَّ الْحُكْمُ بِهِ، وَإِلَّا صَارَ مُجْمَلًا. فَهَذَا عُرِفَتْ صِفَتُهُ قَوْلُ الرَّاوِي: «جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ» فَهَذَا مَقْصُورٌ عَلَى السَّفَرِ. وَمِنْ الثَّانِي: قَوْلُهُ: «فِي السَّفَرِ» فَلَا يَدْرِي إنْ كَانَ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ، وَلَا نَدَّعِي فِيهِ الْعُمُومَ.

وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: أَطْلَقَ الْأُصُولِيُّونَ أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْأَقْوَالِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْأَفْعَالِ، أَعْنِي: فِي ذَوَاتِهَا، فَأَمَّا فِي أَسْمَائِهَا فَقَدْ يَتَحَقَّقُ، وَلِهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعِشَاءِ يَدْخُلُ بِمَغِيبِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ، بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ» فَالْعُمُومُ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْمَعَانِي وَالْأَفْعَالِ. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: يَكُونُ الْعُمُومُ فِي الْأَفْعَالِ كَالْأَقْوَالِ، وَلِذَلِكَ اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ كُلَّ فِطْرٍ بِمَعْصِيَةٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْكَفَّارَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إطْلَاقُ مَعْنَى الْعُمُومِ يَصِحُّ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، وَدَلَائِلِ الْأَلْفَاظِ مِنْ مَفْهُومٍ أَوْ دَلِيلِ خِطَابٍ، وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الْفِعْلِ الْمَقْضِيِّ فِيهِ بِحُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، إذَا تَرَكَ فِيهِ التَّفْصِيلَ؛ كَتَخْيِيرِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ بَيْنَهُمَا، وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرٍ بِاخْتِيَارِ أَرْبَعٍ وَلَمْ، نَسْأَلْهُ عَنْ حَقِيقَةِ عُقُودِهِنَّ وَقَعْنَ

مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا، وَأَمَّا نَفْسُ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فَلَا يَصِحُّ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيهِ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهَا فَسَجَدَ» ، لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّ كُلَّ سَهْوٍ يُوجِبُ السُّجُودَ. الْخَامِسِ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ صِيَغِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ أَنَّ الْأُصُولِيَّ إذَا أَطْلَقَ لَفْظَ الْعَامِّ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إلَّا اللَّفْظُ. قَالَ فِي " الْبَدِيعِ " بِمَعْنَى وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِي الْمَفْهُومِ، لَا بِمَعْنَى الشَّرِكَةِ فِي اللَّفْظِ، يُرِيدُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ اللَّفْظِ عَامًّا حَقِيقَةً أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ اللَّفْظِ عَامًّا كَوْنَهُ مُشْتَرَكًا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ، كَالْقُرْءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، بَلْ الِاشْتِرَاكُ الْمَعْنَوِيُّ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: قَوْلُ الْغَزَالِيِّ: إنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ لَا يُظَنُّ بِهِ إنْكَارُ كَلَامِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا الظَّنُّ بِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصِّيَغَ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى مَعْرِفَةِ وَضْعِ اللُّغَةِ فِيهَا. انْتَهَى.

وَأَمَّا فِي الْمَعَانِي فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى عَامًّا حَقِيقَةً، وَإِذَا أُضِيفَ الْعُمُومُ إلَى مَعْنًى كَقَوْلِنَا: هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ أَوْ قَضِيَّةٌ أَوْ حَدِيثٌ عَامٌّ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِطْلَاقِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَعْنَى بِحَقِّ الْأَصْلِ أَنْ يُوصَفَ بِالْعُمُومِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الِاسْتِعَارَةِ: إمَّا مِنْ اللَّفْظِ، أَوْ نَظَرٍ إلَى شُمُولِ مَجْمُوعِ أَفْرَادِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لِمَجْمُوعِ مَحَالِّهِ، وَكَذَا إطْلَاقُ الْعُمُومِ فِي الْعِلَّةِ وَالْمَفْهُومِ وَنَحْوِهِمَا، فَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا الْعُمُومَ لَا يُنَاقِضُ اخْتِيَارَهُ هُنَا أَنَّ الْمَعْنَى لَا يُسَمَّى عَامًّا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ الصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ، لِأَنَّا إذَا قُلْنَا: مُسْلِمُونَ أَوْ الْمُسْلِمُونَ، عَادَ الِاسْتِغْرَاقُ إلَى الصِّيغَةِ، فَإِنَّ الصِّيغَةَ الْمُتَّحِدَةَ هِيَ الْمُتَنَاوِلَةُ لِلْكُلِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: يُمْكِنُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِي الْمَعَانِي، تَقُولُ الْعَرَبُ: عَمَّهُمْ الْخَصْبُ وَالرَّجَاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ، فَإِنَّ الْمَعَانِيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُتَعَدِّدَةٌ، فَإِنَّ مَا خَصَّ هَذِهِ الْبُقْعَةَ غَيْرُ مَا خَصَّ الْأُخْرَى. وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ حَقِيقَةً إلَّا عَلَى الْأَلْفَاظِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ لَا يَشْمَلُ الْكُلَّ، فَإِنَّ اللَّذَّةَ الَّتِي حَصَلَتْ لِزَيْدٍ غَيْرُ الَّتِي حَصَلَتْ لِعَمْرٍو.

وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ ": الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْعُمُومِ إلَّا الْقَوْلُ فَقَطْ، وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ادِّعَاؤُهُ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى عُمُومِ الْخِطَابِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ صِيغَةٌ تَعُمُّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أَيْ نَفْسُ الْمَيْتَةِ وَعَيْنُهَا، لَمَّا لَمْ يَصِحَّ تَنَاوُلُ التَّحْرِيمِ لَهَا عَمَّ التَّحْرِيمُ جَمِيعَ التَّصَرُّفِ مِنْ الْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَاللَّمْسِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَحْكَامِ ذِكْرٌ فِي التَّحْرِيمِ بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» عَامٌّ فِي الْإِجْزَاءِ وَالْكَمَالِ، وَاَلَّذِي يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ اخْتِصَاصُهُ بِالْقَوْلِ، وَإِنَّ وَصْفَهُمْ الْجَوْرَ وَالْعَدْلَ بِأَنَّهُ عَامٌّ مَجَازٌ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ ": الْعُمُومُ لَا يَدْخُل فِي الْمَعَانِي عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ انْتِظَامُهَا تَحْتَ لَفْظٍ وَاحِدٍ، إلَّا إذَا اخْتَلَفَتْ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ تَدَافَعَتْ، وَهَذَا كَالْمُشْتَرَكِ فَلَا عُمُومَ لَهُ؛ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلِّ. وَقَالَ: وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْعُمُومَ مَا يَنْتَظِمُ جَمْعًا مِنْ الْأَسَامِي وَالْمَعَانِي، وَكَأَنَّهُ غَلَطٌ مِنْهُ فِي الْعِبَارَةِ دُونَ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ بَعْدُ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا عُمُومَ لَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْمَعَانِي مَعْنًى وَاحِدًا عَامًّا، كَقَوْلِنَا: خِصْبٌ عَامٌّ وَمَطَرٌ عَامٌّ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْعُمُومَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ كَمَا هُوَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْفَاظِ وَهُوَ غَلَطٌ. فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَعَانِيَ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَتْ تُوصَفُ بِهِ مَجَازًا،

وَهَذَا خِلَافُ طَرِيقَةِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ، فَإِنَّهُ حُكِيَ عَنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعَانِي أَيْضًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَعَمَّمَ الْحَقِيقَةَ فِي الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بِعُمُومِ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: الْحَقُّ هُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ، وَبَيْنَ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْأَذْهَانِ، فَإِنْ عَنَوْا بِقَوْلِهِمْ الْمَعَانِيَ غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ بِالْعُمُومِ، الْمَعَانِيَ الْمَوْجُودَةَ خَارِجَ، فَهُوَ حَقٌّ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَهُ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَخَصِّصًا بِمَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ وَحَالٍ مَخْصُوصٍ، وَمُتَخَصِّصًا بِعَوَارِضَ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِأُمُورٍ عَدِيدَةٍ. وَإِنْ عَنَوْا بِهِ مُطْلَقَ الْمَعَانِي - سَوَاءٌ كَانَتْ ذِهْنِيَّةً أَوْ خَارِجِيَّةً - فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْكُلِّيَّةَ الذِّهْنِيَّةَ عَامَّةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا مَعْنًى وَاحِدٌ مُتَنَاوِلٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ. قَالَ: وَلَا يَجْرِي هَذَا التَّفْصِيلُ فِي اللَّفْظِ، إذْ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ وُجُودِهِ بِاللِّسَانِيِّ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ: إنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْإِطْلَاقِ اللُّغَوِيِّ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ، أَيْ وَيَصِيرُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي وَاحِدٍ مُتَعَلِّقٍ بِمُتَعَدِّدٍ فَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ، وَالْأُصُولِيُّونَ يُنْكِرُونَ وُجُودَهَا.

قُلْت: وَصَرَّحَ الْهِنْدِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ السَّيْفِيَّةِ ": بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي اللُّغَةِ، فَقَالَ: الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ خَاصَّةً بِحَسَبِ الِاصْطِلَاحِ إجْمَاعًا، وَكَذَا اللُّغَةُ عَلَى الْمُخْتَارِ وَقِيلَ مِنْ عَوَارِضِ الْمَعَانِي أَيْضًا. انْتَهَى. وَفَصَّلَ ابْنُ بَرْهَانٍ بَيْنَ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ مِثْلَ: حِكْمَةِ الرَّدْعِ فِي نَصْبِ الْقَتْلِ سَبَبًا فَهِيَ مِثْلُ الْحُكْمِ يَجْرِي فِيهَا الْعُمُومُ، وَبَيْنَ الْجُزْئِيَّةِ فَلَا يَجْرِي فِيهَا الْعُمُومُ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي " غَايَةِ الْأَمَلِ ": لَعَلَّ مَنْ مَنَعَ عُرُوضَ الْعُمُومِ لِلْمَعَانِي لَمْ يَكُنْ إلَّا لِنَظَرِهِ إلَى مَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْهَا، وَغَفْلَتِهِ عَنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى كُلِّيَّتِهَا. فَتَحَصَّلْنَا عَلَى ثَمَانِيَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدِهَا: أَنَّهُ لَا يَعْرِضُهُمَا مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَعْرِضُهُمَا مَجَازًا لَا حَقِيقَةً. وَالثَّالِثِ: أَنَّهُ يَعْرِضُهُمَا حَقِيقَةً بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ. الرَّابِعِ: أَنَّهُ يَعْرِضُهُمَا حَقِيقَةً بِالتَّوَاطُؤِ فَتَكُونُ مَوْضُوعَةً لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ يُخَرَّجَانِ مِنْ كَلَامِ الْقَرَافِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْعِقْدِ الْمَنْظُومِ ". وَالْخَامِسِ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعَانِي مَجَازٌ فِي الْأَلْفَاظِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَهُوَ غَرِيبٌ. السَّادِسِ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ. السَّابِعِ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ. وَالثَّامِنِ: الْوَقْفُ وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْآمِدِيَّ، فَإِنَّهُ أَبْطَلَ أَدِلَّةَ

الْقَائِلِينَ بِالْحَقِيقَةِ وَالْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ، وَلَمْ يَخْتَرْ مِنْهَا شَيْئًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ. وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: مِنْهَا أَنَّ الْمَفْهُومَ لَا عُمُومَ لَهُ عَلَى رَأْيِ الْغَزَالِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظٍ. وَمِنْهَا: دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ هَلْ هِيَ عَامَّةٌ أَمْ لَا؟ وَمِنْ ثَمَّ يَنْبَغِي تَأَمُّلُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْمَعَانِي حَقِيقَةً، وَأَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَقْلَ هَلْ يَخْتَصُّ؟ وَمِنْهَا: سُكُوتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَكُونُ دَلِيلًا عَامًّا؟ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعَانِي هُنَا الْمَعَانِي الْمُسْتَقِلَّةُ، وَلِهَذَا مَثَّلُوهُ بِالْمَفْهُومِ وَالْمُقْتَضَى، لَا الْمَعَانِي التَّابِعَةِ لِلْأَلْفَاظِ، فَتِلْكَ لَا خِلَافَ فِي عُمُومِهَا، لِأَنَّ لَفْظَهَا عَامٌّ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّا كَمَا نَقُولُ: لَفْظٌ عَامٌّ، أَيْ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ، كَذَلِكَ نَقُولُ لِلْمَعْنَى: إنَّهُ عَامٌّ أَيْضًا، فَنَقُولُ: الْحَيَوَانُ عَامٌّ فِي النَّاطِقِ وَالْبَهِيمَةِ، وَالْعَدَدُ عَامٌّ فِي الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ، وَاللَّوْنُ عَامٌّ فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَالْمَطَرُ عَامٌّ. وَهَذِهِ كُلُّهَا عُمُومَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ، لَا لَفْظِيَّةٌ، فَإِنَّا نَحْكُمُ بِالْعُمُومِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي عِنْدَ تَصَوُّرِنَا لَهَا، وَإِنْ جَهِلْنَا اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ بِإِزَائِهَا: هَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ عَجَمِيٌّ؟ شَامِلٌ أَوْ غَيْرُ شَامِلٍ؟ وَأَمَّا عُمُومُ اللَّفْظِ فَلَا نَقُولُ: هَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ حَتَّى نَتَصَوَّرَ اللَّفْظَ نَفْسَهُ، وَنَعْلَمَ مِنْ أَيِّ لُغَةٍ هُوَ، وَهَلْ وَضَعَهُ أَهْلُ تِلْكَ اللُّغَةِ عَامًّا شَامِلًا أَوْ غَيْرَ شَامِلٍ؟ فَلَوْ وَجَدْنَاهُ شَامِلًا سَمَّيْنَاهُ عَامًّا، وَإِنْ لَمْ نَجِدْهُ شَامِلًا لَمْ نُسَمِّهِ عَامًّا

عُمُومَ الشُّمُولِ، وَقَدْ نُسَمِّيهِ عَامًّا عُمُومَ الصَّلَاحِيَةِ، فَقَدْ ظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ يَصْلُحُ لِلْمَعْنَى وَاللَّفْظِ، وَهَلْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ؟ فِيهِ مَا سَبَقَ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فَرَضُوهُ فِي الْعَامِّ، وَلَمْ يُجْرُوهُ فِي الْخُصُوصِ: هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعَانِي أَمْ لَا؟ وَلَا شَكَّ فِي طَرْدِهِ. قَالَ الْمُقْتَرِحُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ اخْتَلَفُوا عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْعَامَّ رَاجِعٌ إلَى وَصْفِ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ كَالْخَبَرِ فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمُخْبِرِينَ وَالْعِلْمِ بِمَعْلُومِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا صِفَتَانِ زَائِدَتَانِ عَلَى الْمَعَانِي وَهُمَا مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى يُقَالُ لَهُ: أَعَمُّ وَأَخَصُّ، وَاللَّفْظُ يُقَالُ: لَهُ عَامٌّ وَخَاصٌّ، وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ " أَعَمَّ " صِيغَةُ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ وَالْمَعَانِي أَفْضَلُ مِنْ الْأَلْفَاظِ، فَخُصَّتْ بِصِيغَةِ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ، وَإِطْلَاقُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ يُخَالِفُ هَذَا الِاصْطِلَاحَ. الرَّابِعُ: الْمَعْرُوفُ مِنْ إطْلَاقَاتِهِمْ أَنَّ الْأَخَصَّ يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْأَعَمِّ، وَوَقَعَ فِي عِبَارَةِ صَاحِبِ الْمُقْتَرَحِ " الْأَعَمُّ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْأَخَصِّ " قَالَ بَعْضُ شَارِحِيهِ: وَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ إنْ كَانَا فِي الْأَلْفَاظِ فَالْأَخَصُّ مِنْهُمَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْأَعَمِّ. لِأَنَّ لَفْظَ " الْمُشْرِكِينَ " مَثَلًا يَتَنَاوَلُ زَيْدًا الْمُشْرِكَ بِخُصُوصِهِ، وَإِنْ كَانَا فِي الْمَعَانِي فَالْأَعَمُّ مِنْهَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْأَخَصِّ، لِأَنَّ زَيْدًا إذَا وُجِدَ بِخُصُوصِهِ انْدَرَجَ فِيهِ عُمُومُ الْجَوْهَرِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّة وَالنَّاطِقِيَّةِ.

مسألة في عموم المجاز

[مَسْأَلَةٌ فِي عُمُومِ الْمَجَازِ] ِ] وَهَلْ يَتَعَلَّقُ الْعُمُومُ بِالْمَجَازِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، فَلَا يَدْخُلُ الْعُمُومُ إلَّا فِي الْحَقَائِقِ. وَالثَّانِي: يَدْخُلُ فِيهِ الْمَجَازُ كَالْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُخَاطِبُ بِهِ كَمَا تُخَاطِبُ بِالْحَقِيقَةِ. قُلْت: وَالْأَوَّلُ صَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقْصَرُ عَلَى الضَّرُورَةِ كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ عُمُومِ الْمُقْتَضِي، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ الْمَجَازُ مُخْتَصًّا بِمَحَالِّ الضَّرُورَاتِ، بَلْ هُوَ عِنْدَ قَوْمٍ غَالِبٌ عَلَى اللُّغَاتِ وَعَزَى صَاحِبُ " اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا عُمُومَ لِلْمَجَازِ لِلشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ. الْمَجَازُ الْمُقْتَرِنُ بِشَيْءٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْعُمُومِ

كَالْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ وَنَحْوِهِ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَا يَصْلُحُ لَهُ اللَّفْظُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ، كَالْحُلُولِ وَالسَّبَبِيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ وَنَحْوِهِ. أَمَّا إذَا اُسْتُعْمِلَ بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ كَلَفْظِ الصَّاعِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيمَا يَحِلُّهُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ لِلْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِهَا مُسْتَعْمَلَةً فِي الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ أَوْ الْمَجَازِيَّةِ. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَعُمُّ، حَتَّى إذَا أُرِيدَ الْمَطْعُومُ اتِّفَاقًا لَا يَثْبُتُ غَيْرُهُ مِنْ الْمَكِيلَاتِ، لِأَنَّ الْمَجَازَ ضَرُورِيٌّ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِإِيرَادِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ، فَلَا يَثْبُتُ الْكُلُّ كَالْمُقْتَضَى. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا لِتَأْدِيَةِ الْمَعْنَى سِوَاهُ فَمَمْنُوعٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَعْدِلَ إلَى الْمَجَازِ لِأَغْرَاضٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنْ جِهَةِ الْكَلَامِ وَالسَّامِعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ ضَرُورَةً، لِئَلَّا يَلْزَمَ إلْغَاءُ الْكَلَامِ، فَلَا نُسَلِّمُ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ عُمُومِ الْمَجَازِ مِمَّا لَمْ نَجِدْهُ مَنْقُولًا فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي قَوْلِنَا: جَاءَنِي الْأُسُودُ الرُّمَاةُ إلَّا زَيْدًا، وَتَخْصِيصُهُمْ الصَّاعَ بِالْمَطْعُومِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعِلَّةَ الطَّعْمُ، لَا عَلَى عَدَمِ عُمُومِ الْمَجَازِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": لَا يَصِحُّ دُخُولُ الْمَجَازِ فِي الِاسْمِ الْعَامِّ، كَقَوْلِنَا: مَعْلُومٌ وَمَذْكُورٌ، وَمُخْبَرٌ عَنْهُ.

مسألة القائلون ليس للعموم صيغة تخصه

[مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ لَيْسَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ] ُ] اخْتَلَفُوا فِي أَصْلِ صِيغَتِهِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدِهَا: وَهُمْ الْمُلَقَّبُونَ بِأَرْبَابِ الْخُصُوصِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ، وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الصِّيَغِ مَوْضُوعٌ لِلْخُصُوصِ، وَهُوَ أَقَلُّ الْجَمْعِ، إمَّا اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ إلَّا بِقَرِينَةٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْتَابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ ": يَزْعُمُونَ أَنَّ الصِّيَغَ الْمَوْضُوعَةَ لِلْجَمْعِ نُصُوصٌ فِي الْجَمْعِ، مُحْتَمَلَاتٌ فِيمَا عَدَاهُ إذَا لَمْ تَثْبُتْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي تَعَدِّيَهَا عَنْ أَقَلِّ الْمَرَاتِبِ.

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": يُشْبِهُ أَنْ يَكُونُوا جَعَلُوا لَفْظَةَ " مَنْ " حَقِيقَةً فِي الْوَاحِدِ مَجَازًا فِي الْكُلِّ. وَجَعَلُوا بَقِيَّةَ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ حَقِيقَةً فِي جَمْعٍ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَجْعَلُوا أَلْفَاظَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ كَالْمُسْلِمِينَ حَقِيقَةً فِي الْوَاحِدِ مَجَازًا فِي الْجَمْعِ، وَلَفْظُ " كُلِّ وَجَمِيعِ " أَبْعَدُ. [الَّذِينَ قَالُوا لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ حَقِيقِيَّةٌ تَخُصُّهُ] وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ صِيغَةً مَخْصُوصَةً بِالْوَضْعِ حَقِيقَةً، وَتُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْخُصُوصِ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ لِتَعَذُّرِ جَمِيعِ الْآحَادِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَلْفَاظٌ مَوْضُوعَةٌ كَأَلْفَاظِ الْآحَادِ وَالْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ وَالْإِفْهَامُ كَمَا عَكَسُوا فِي التَّرَادُفِ فَوَضَعُوا لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَسْمَاءً مُخْتَلِفَةً لِلتَّوَسُّعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَكَافَّةِ أَصْحَابِهِ أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيغَةً، وَمَنْ يَتَتَبَّعُ كَلَامَهُ فِي " الْمُوَطَّإِ " يَجِدْ مِنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْعُمُومِ كَثِيرًا. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ بِأَسْرِهِمْ: وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَبِهِ نَأْخُذُ.

تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ": زَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْآيَةَ إذَا وَرَدَتْ ظَاهِرَةً فِي الْعُمُومِ لَا يُقْضَى عَلَيْهَا بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. قَالَ وَهَذَا الَّذِي قَالَ ضِدَّهُ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ الَّذِي قَدْ اشْتَهَرَ بِهِ فِي كُتُبِهِ، وَعِنْدَ خُصُومِهِ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى عُمُومِهِ وَظَاهِرِهِ، حَتَّى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ تَقُومُ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ دُونَ عَامٍّ، وَعَلَى أَنَّهُ بَاطِنٌ دُونَ ظَاهِرٍ. وَقَدْ قَالَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) فِي " الرِّسَالَةِ ": الْكَلَامُ عَلَى عُمُومِهِ وَظَاهِرِهِ حَتَّى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِهِ. وَقَالَ أَيْضًا مَا نَصُّهُ: فَكُلُّ خِطَابٍ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ فِي كَلَامِ النَّاسِ فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَظُهُورِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ دُونَ عَامٍّ، وَبَاطِنٌ دُونَ ظَاهِرٍ. ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا وَجَدْت خَبَرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُجْمَلًا، فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَظَاهِرِهِ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ دُونَ عَامٍّ، وَبَاطِنٌ دُونَ ظَاهِرٍ، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ. ثُمَّ قَسَّمَ الْقُرْآنَ وَالْأَخْبَارَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَثَبَتَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ كُلِّ مُخَاطَبٍ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الِاسْمُ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إجْرَاءِ الِاسْمِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " إلَّا أَنْ يَأْتِيَ دَلَالَةً " يَجُوزُ عَلَى نَفْسِهِ اسْتِتَارُ الدَّلِيلِ مِنْ خَبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِذَا عَلِمَ صَارَ إلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ عَامًّا. ثُمَّ ذَكَرَ الصَّيْرَفِيُّ نُصُوصًا لِلشَّافِعِيِّ كَثِيرَةً صَرِيحَةً فِي ذَلِكَ، بَلْ قَطْعِيَّةٌ فِيهِ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ قَائِمٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ

الشَّافِعِيِّ، وَأَنِّي لَمْ أُقَلِّدْهُ فِيهِ، لِقِيَامِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ شُبْهَةِ النَّاقِلِينَ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْوَقْفَ، ثُمَّ رَدَّهَا. ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُقَالُ: إنَّ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ؛ بَلْ الْمَعْرُوفُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ مَا وَصَفْت لَك، مِنْهُمْ: الْمُزَنِيّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْبُوَيْطِيُّ، وَالْحُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيُّ، وَالْأَشْعَرِيُّ، وَدَاوُد وَسَائِرُ الشَّافِعِيِّينَ. هَذَا كَلَامُ الصَّيْرَفِيِّ، وَعَجِيبٌ نَقْلُهُ الْقَوْلَ بِالصِّيغَةِ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": كُلُّ كَلَامٍ كَانَ عَامًّا ظَاهِرًا فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَظُهُورِهِ، حَتَّى يُعْلَمَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِالْجُمْلَةِ الْعَامَّةِ فِي الظَّاهِرِ بَعْضَ الْجُمْلَةِ دُونَ بَعْضٍ. وَقَالَ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ": قَالَ لِي قَائِلٌ: تَقُولُ الْحَدِيثَ عَلَى عُمُومِهِ وَظُهُورِهِ، وَإِنْ احْتَمَلَ مَعْنًى غَيْرَ الْعَامِّ وَالظَّاهِرِ، حَتَّى يَأْتِيَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ دُونَ عَامٍّ، وَبَاطِنٌ دُونَ ظَاهِرٍ؟ قُلْت: فَكَذَلِكَ أَقُولُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ": الْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ كَمَا وَصَفْت، وَالْأَحْكَامُ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِيلَ مِنْهَا ظَاهِرًا إلَى بَاطِنٍ، وَلَا عَامًّا إلَى خَاصٍّ إلَّا بِدَلَالَةٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْعُمُومُ عِنْدَنَا لَهُ صِيغَةٌ إذَا أُورِدَتْ مُجَرَّدَةً عَنْ الْقَرَائِنِ دَلَّتْ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ. هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَدَاوُد وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَبِهِ قَالَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْجُبَّائِيُّ وَطَائِفَةٌ.

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إذَا وَرَدَتْ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ الْخُصُوصِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ عَلَى اثْنَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، ذَهَبَ إلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. مِنْهُمْ أَبُو هَاشِمٍ وَغَيْرُهُ، وَذَهَبَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ إلَى الْوَقْفِ. [الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ لِلْعُمُومِ صِيغَةً لَفْظِيَّةً] وَالثَّالِثُ: أَنَّ شَيْئًا مِنْ الصِّيَغِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَلَا مَعَ الْقَرَائِنِ، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ الْعُمُومُ عِنْدَ إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُرْجِئَةِ، وَنَسَبَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ. قَالَ فِي " الْبُرْهَانِ ": نَقَلَ مُصَنِّفُونَ الْمَقَالَاتِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْوَاقِفِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ لِمَعْنَى الْعُمُومِ صِيغَةً لَفْظِيَّةً، وَهَذَا النَّقْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ زَلَلٌ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُنْكِرُ إمْكَانَ التَّعْبِيرِ عَنْ مَعْنَى الْجَمْعِ بِتَرْدِيدِ أَلْفَاظٍ مُشْعِرَةٍ بِهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: رَأَيْت الْقَوْمَ وَاحِدًا وَاحِدًا لَمْ يَفُتْنِي مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ قَطْعًا لِتَوَهُّمٍ يَحْسِبُهُ خُصُوصًا، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الْوَاقِفِيَّةُ لَفْظَةً وَاحِدَةً مُشْعِرَةً بِمَعْنَى الْجَمْعِ. انْتَهَى. وَمَا ادَّعَى فِيهِ الْوِفَاقَ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ " التَّلْخِيصِ مِنْ التَّقْرِيبِ "

لِلْقَاضِي، وَسَيَأْتِي. وَلَيْسَ مُرَادُهُ " بِالْجَمْعِ " الْقَدْرُ الْمَخْصُوصُ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ اثْنَيْنِ، إنَّمَا مُرَادُهُ الشُّمُولُ بِدَلِيلِ الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ. [الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ] وَالرَّابِعُ: الْوَقْفُ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَمُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ، وَذَهَبَ إلَيْهِ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ: أَنَّا سَبَرْنَا اللُّغَةَ وَوَضْعَهَا، فَلَمْ نَجِدْ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ صِيغَةً دَالَّةً عَلَى الْعُمُومِ، وَسَوَاءٌ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً بِضُرُوبٍ مِنْ التَّأْكِيدِ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ ": وَمِمَّا زَلَّ فِيهِ النَّاقِلُونَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ وَمُتَابَعِيهِ أَنَّ الصِّيغَةَ وَإِنْ تَقَيَّدَتْ بِالْقَرَائِنِ فَإِنَّهَا لَا تُشْعِرُ بِالْجَمْعِ، بَلْ تَبْقَى عَلَى التَّرَدُّدِ، وَهَذَا إنْ صَحَّ النَّقْلُ فِيهِ مَخْصُوصٌ عِنْدِي بِالتَّوَابِعِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَعْنَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِينَ: رَأَيْت الْقَوْمَ أَجْمَعِينَ، أَكْتَعِينَ، أَبْصَعِينَ، فَأَمَّا أَلْفَاظٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ تُفْرَضُ مُقَيَّدَةً، فَلَا يُظَنُّ بِذِي عَقْلٍ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهَا. انْتَهَى. وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمَازِرِيُّ فِي إمْكَانِ النَّقْلِ عَنْ الْوَاقِفِيَّةِ وَإِنْ تَقَيَّدَتْ بِالْقَرَائِنِ. قَالَ. وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ أَئِمَّتِهِمْ، وَلَوْ سُلِّمَ لَهُ ذَلِكَ

فَإِنَّمَا. يَقْتَضِي إنْكَارَ وُجُودِ لَفْظَةٍ تَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرُوهُ. وَأَشَارَ إلَى أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ إنَّمَا اُسْتُفِيدَ الْعُمُومُ مِنْهَا بِإِضَافَةِ قَرَائِنَ اُسْتُشْعِرَتْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ التَّابِعَةِ لِلصِّيغَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: شَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَنَسَبَتْ هَذَا الْقَوْلَ لِلشَّافِعِيِّ لِأَشْيَاءَ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْآيِ: يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَيَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، وَلَمْ يُرِدْ الشَّافِعِيُّ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ وَإِنَّمَا احْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنْ تَرِدَ دَلَالَةٌ تَنْقُلُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ الْعُمُومِ إلَى الْخُصُوصِ، لَا أَنَّ حَقَّهُ الِاحْتِمَالُ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ حَكَى قَوْلَ الْوَقْفِ عَنْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَلَا يُقَالُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَقْضِيَةِ " عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ، الَّذِي نَقَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ عَنْ دَاوُد الْقَوْلَ بِالصِّيغَةِ. [مَذَاهِبُ الْوَاقِفِيَّةِ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ] وَاخْتَلَفَتْ الْوَاقِفِيَّةُ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ، وَفِي صِفَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَأَمَّا مَحَلُّهُ: فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَئِمَّتِهِمْ الْقَوْلُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّوَقُّفَ فِي أَخْبَارِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْ الْكَرْخِيِّ. قَالَ: وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ بِوَعِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُدْرَكَهُ، بَلْ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْوَعِيدِ بِالتَّخْلِيدِ فِي النَّارِ إنَّمَا انْتَهَضَتْ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ بِدَلَائِلَ مِنْ خَارِجٍ.

وَالثَّالِثُ: عَكْسُهُ، وَهُمْ جُمْهُورُ الْمُرْجِئَةِ، فَقَالُوا: بِصِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَوَقَّفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. وَالرَّابِعُ: الْوَقْفُ فِي الْوَعِيدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُصَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَالْخَامِسُ: الْوَقْفُ فِي الْوَعِيدِ دُونَ الْوَعْدِ. قَالَ الْقَاضِي: وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِمَا يَلِيقُ بِالشَّطْحِ وَالتُّرَّهَاتِ دُونَ الْحَقَائِقِ. وَالسَّادِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ لَا يُسْمَعْ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ وَكَانَتْ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا، فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعُمُومُ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِهِ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ وَعَلِمَ انْقِسَامَهَا إلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَلَا يَعْلَمُ حِينَئِذٍ الْعُمُومَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي اتَّصَلَتْ بِهِ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ". السَّابِعُ: الْوَقْفُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ خِطَابَ الشَّارِعِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا مَنْ سَمِعَ مِنْهُ، وَعَرَفَ تَصَرُّفَاتِهِ فِيهِ مَا بَيْنَ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ، فَإِنَّهُ لَا يَقِفُ، كَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ، وَهُوَ عَكْسُ مَا قَبْلَهُ. الثَّامِنُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْكِيدِ فَيَكُونَ لِلْعُمُومِ، دُونَ مَا إذَا لَمْ يَتَقَيَّدْ، فَلَفْظُ " النَّاسِ " مَثَلًا، إذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَعُمُّ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ سَلِمَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي مِثْلِ قَوْلِك: النَّاسُ أَجْمَعُونَ عَنْ آخِرِهِمْ، صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، لَا يَشِذُّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، حَكَاهُ الْقَاضِي. قَالَ: وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْوَاقِفِيَّةِ يَقُولُونَ: وَإِنْ قَيَّدْت بِهَذِهِ الْقُيُودِ، فَلَيْسَ مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي اللُّغَةِ، وَلَكِنْ قَدْ يُعْرَفُ عُمُومُهَا بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الْمُتَقَرِّبَةِ بِالْمَقَامِ، وَهِيَ مِمَّا يَنْحَصِرُ بِالْعِبَارَةِ، كَمَا يُعْرَفُ بِالْقَرَائِنِ وَجَلُ الْوَجِلِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقَرَائِنُ لَا تُوجِبُ مَعْرِفَتَهَا، وَلَكِنْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِخَلْقِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ عِنْدَنَا. وَالتَّاسِعُ: أَنَّ لَفْظَةَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ فِي الشَّرْعِ أَفَادَتْ الْعُمُومَ

دُونَ غَيْرِهِمَا، حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي الْأَحْكَامِ اللُّغَوِيَّةِ كَأَحْكَامِهِ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ. [مَذْهَبُ الْوَاقِفِيَّةِ فِي صِفَةِ الْوَقْفِ] وَأَمَّا صِفَةُ الْوَقْفِ: فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّقْلُ فِيهِ عَنْ الشَّيْخِ وَأَصْحَابِهِ، فَنُقِلَ عَنْهُمْ مَذْهَبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَاحِدِ اقْتِصَارًا عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ فَمَا فَوْقَهُ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، كَالْقُرْءِ وَالْعَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، أَيْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُمَا وَضْعًا مُتَسَاوِيًا، حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَالْأَصْفَهَانِيُّ، وَهَذَا فِيمَا يُحْمَلُ مِنْ الصِّيَغِ عَلَى الْوَاحِدِ " كَمَنْ، وَمَا، وَأَيْ "، وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْجُمُوعِ فَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ وَبَيْنَ مَا فَوْقَهُ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا. وَالثَّانِي: نَفْيُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الْوَضْعِ مِنْ أَصْلِهِ، وَيَقُولُونَ: هِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَلَكِنْ لَا نَدْرِي هَلْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمَجَازِ. وَحَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نَدْرِي هَلْ وُضِعَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ لِلْعُمُومِ أَمْ لَا؟ وَالثَّانِي: أَنَّا نَدْرِي أَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ لِلْعُمُومِ، وَلَكِنْ لَا نَدْرِي أَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ أَمْ لَا. وَنَقَلَ قَوْلَ الِاشْتِرَاكِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مُبَايِنًا لِقَوْلِ الْوَقْفِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاقِفِيَّةَ وَإِنْ قَالُوا: بِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لِخُصُوصٍ وَلَا عُمُومٍ،

فَقَالُوا: إنَّا نَعْلَمُ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيَجُوزَ إطْلَاقُهُ؛ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ الصِّيَغِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَأَمَّا هِيَ فَلَا خِلَافَ فِي اقْتِضَائِهَا الْعُمُومَ. وَحَكَى الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَتَبِعَهُ هُوَ فِي " التَّلْخِيصِ " الْخِلَافَ مَعَ التَّأْكِيدِ أَيْضًا. نَعَمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ الصِّيَغِ بِحُكْمِ الْقَرَائِنِ الْمُنْفَصِلَةِ إمَّا عُرْفًا أَوْ عَقْلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَا خِلَافَ فِيهِ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْعُمُومِ لَمْ يُنْكِرْ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، فَإِنَّ الْعُمُومَ وَقَصْدَ إفَادَتِهِ ضَرُورِيٌّ. وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ فَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ خَاصَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَجَعَلَ غَيْرُهُ مَنْشَأَ الْخِلَافِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْجَمْعِ فِي لَفْظِ الْجَمْعِ هَلْ إنَّمَا حَسُنَ لِمَكَانِ احْتِمَالِ إرَادَةِ الْخُصُوصِ، أَوْ لِكَوْنِ اللَّفْظِ صَالِحًا لِلِاسْتِيعَابِ؟ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَلْ هُوَ اسْتِخْرَاجُ مَا تَتَنَاوَلُهُ الصِّيغَةُ؟ أَوْ مَا يَجِبُ دُخُولُهُ تَحْتَ الصِّيغَةِ؟ أَمْ هُوَ اسْتِخْرَاجُ مَا اللَّفْظُ صَالِحٌ لِتَنَاوُلِهِ؟ وَمَأْخَذُ قَوْلِ الْوَقْفِ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا تَكَلَّمَ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23] وَنَحْوِهِ، وَمَعَ الْمُرْجِئَةِ فِي عُمُومِ الْوَعْدِ، نَفَى أَنْ يَكُونَ هَذِهِ الصِّيَغُ مَوْضُوعَةً لِلْعُمُومِ، وَتَوَقَّفَ فِيهَا، وَتَبِعَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ.

مسألة مدلول الصيغة العامة ليس أمرا كليا

وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ فِي بَابِ الْمَفْهُومِ: لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا عَنْ الشَّيْخِ إنْكَارُ الصِّيَغِ، بَلْ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُنْكِرُهَا، وَلَكِنْ قَالَ فِي مُعَارَضَاتِهِ فِي أَصْحَابِ الْوَعِيدِ بِإِنْكَارِ الصِّيَغِ. قَالَ: سِرُّ مَذْهَبِهِ إلَى إنْكَارِ التَّعَلُّقِ بِالظَّوَاهِرِ فِيمَا يُطْلَبُ فِيهِ الْقَطْعُ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الْعَمَلِ بِالظَّوَاهِرِ فِي مَظَانِّ الظُّنُونِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ حَكَى عَنْ الشَّيْخِ الْقَوْلَ بِالصِّيَغِ كَالشَّافِعِيِّ. تَنْبِيهٌ زَعَمَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي " الذَّرِيعَةِ " أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَضْعِ اللُّغَةِ أَنَّهُ هَلْ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ؟ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الشَّرْعَ يَقْتَضِيهِ. [مَسْأَلَةٌ مَدْلُولُ الصِّيغَةِ الْعَامَّةِ لَيْسَ أَمْرًا كُلِّيًّا] ، وَإِلَّا لَمَا دَلَّ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ، لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَ كُلًّا مَجْمُوعًا، وَإِلَّا لَحَصَلَ الِامْتِثَالُ بِتَرْكِ قَتْلِ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ، إذَا قِيلَ: لَا تَقْتُلُوا الْمُسْلِمِينَ، بَلْ مَدْلُولُهَا كُلِّيَّةً، أَيْ مَحْكُومٌ فِيهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ مُطَابَقَةً سَلْبًا أَوْ إيجَابًا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. مِنْهُمْ الشَّيْخُ الْأَصْفَهَانِيُّ، خِلَافًا لِلسُّهْرَوَرْدِيِ وَالْقَرَافِيِّ حَيْثُ أَخْرَجَاهُ مِنْ أَقْسَامِ الدَّلَالَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّمَا هِيَ كُلِّيَّةٌ فِي غَيْرِ جَانِبِ النَّهْيِ وَالنَّفْيِ عِنْدَ تَأَخُّرِ " كُلٍّ " وَنَحْوِهَا عَنْ أَدَوَاتِ النَّهْيِ أَوْ النَّفْيِ، نَحْوُ مَا جَاءَ كُلُّ الرِّجَالِ، وَلَا يُعْرَفُ كُلُّ الرِّجَالِ، فَإِنَّهَا لِنَفْيِ الْمَجْمُوعِ لَا الْأَفْرَادِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: دَلَالَةُ الْعُمُومِ عَلَى الْفَرْدِ الْوَاحِدِ كَالْمُشْرِكِينَ عَلَى زَيْدٍ لَا

يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُطَابَقَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَمَامُ مُسَمَّى الْمُشْرِكِينَ، وَلَا بِالِالْتِزَامِ لِأَنَّهُ لَيْسَ خَارِجًا، وَلَا بِالتَّضْمِينِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ جُزْءَ الْمُسَمَّى، إذْ الْجُزْءُ مُقَابِلُ الْكُلِّ، وَالْعُمُومُ كُلِّيٌّ لَا كُلٌّ كَمَا عَرَفْت، فَإِذَنْ لَا يَدُلُّ لَفْظُ " الْمُشْرِكِينَ " عَلَى زَيْدٍ، لِانْتِفَاءِ الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ. وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ بِذَلِكَ بَطَلَ أَنْ يَدُلَّ لَفْظُ الْعُمُومِ مُطْلَقًا، لِانْحِصَارِ الدَّلَالَةِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. وَأَجَابَ عَنْهُ الْأَصْفَهَانِيُّ بِرُجُوعِهِ إلَى الْمُطَابَقَةِ، وَقَالَ: نَحْنُ حَيْثُ قُلْنَا: اللَّفْظُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ مُطَابَقَةً أَوْ تَضَمُّنًا أَوْ الْتِزَامًا، فَذَلِكَ فِي لَفْظٍ مُتَرَدِّدٍ دَالٍّ عَلَى مَعْنًى، لَيْسَ ذَلِكَ الْمَعْنَى نِسْبَةً بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى هُنَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فِي قُوَّةِ جُمَلٍ مِنْ الْقَضَايَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَدْلُولَهُ: اُقْتُلْ هَذَا الْمُشْرِكَ، وَهَذَا، وَهَذَا إلَى آخِرِ الْأَفْرَادِ، وَهَذِهِ الصِّيَغُ إذَا اُعْتُبِرَتْ بِجُمْلَتِهَا فَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى زَيْدٍ الْمُشْرِكِ، وَلَكِنَّهَا تَتَضَمَّنُ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِهِ لَا بِخُصُوصِ كَوْنِهِ زَيْدًا بَلْ بِعُمُومِ كَوْنِهِ فَرْدًا، ضَرُورَةُ تَضَمُّنِهِ: اُقْتُلْ زَيْدًا الْمُشْرِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْقَضَايَا، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ الْقَضَايَا، فَتَكُونُ دَلَالَةُ هَذِهِ الصِّيغَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: قَتْلِ زَيْدٍ الْمُشْرِكِ، لِتَضَمُّنِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْوُجُوبِ، وَاَلَّذِي هُوَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ هُوَ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ مُطَابَقَةً، قَالَ: فَافْهَمْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ دَقِيقُ الْكَلَامِ. ثُمَّ اسْتَشْكَلَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فَإِنَّ فِيهِ عُمُومَاتٍ: أَحَدُهَا: فِي الْمُشْرِكِينَ. وَالثَّانِي: فِي الْمَأْمُورِ بِقَتْلِهِمْ،

مسألة دلالة العموم على الأفراد هل هي قطعية

وَدَلَالَةُ الْعُمُومِ كُلِّيَّةٌ، فَيَكُونُ أَمْرُ كُلِّ فَرْدٍ بِقَتْلِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ تَكْلِيفًا بِالْمُسْتَحِيلِ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ إلَّا أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُمْكِنِ دُونَ الْمُسْتَحِيلِ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا السُّؤَالُ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا؛ لِأَنَّ الْفَرْدَ الْوَاحِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْتُلَ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ. [مَسْأَلَةٌ دَلَالَةُ الْعُمُومِ عَلَى الْأَفْرَادِ هَلْ هِيَ قَطْعِيَّةٌ] ٌ؟] إذَا ثَبَتَ دَلَالَةُ الْعُمُومِ عَلَى الْأَفْرَادِ، فَاخْتَلَفُوا: هَلْ هِيَ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ؟ وَالثَّانِي هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ صَاحِبُ " اللُّبَابِ " مِنْهُمْ، وَأَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ ": دَلَالَةُ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ تُوجِبُ الْحُكْمَ بِعُمُومِهِ قَطْعًا وَإِحَاطَتَهُ كَالْخَاصِّ إنْ كَانَ النَّصُّ مَقْطُوعًا بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ " وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْخَاصَّ يَنْسَخُ الْعَامَّ، وَالْعَامَّ الْخَاصَّ، لِاسْتِوَائِهِمَا رُتْبَةً، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ، وَيَمْتَنِعُ نَسْخُ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِخَاتَمٍ، ثُمَّ لِعَمْرٍو بِفَصِّهِ فِي كَلَامٍ مَفْصُولٍ: بِالْحَلَقَةِ لِلْأَوَّلِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَالْفَصُّ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّ الْفَصَّ بِوَصِيَّةٍ عَامَّةٍ لِلْفَصِّ وَالْخَاتَمِ، وَالثَّانِي اسْتَحَقَّ الْفَصَّ بِوَصِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَزَاحَمَهُ بِالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ. انْتَهَى.

وَأَطْلَقَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ النَّقْلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، بِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْحُولِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: الَّذِي صَحَّ عِنْدَنَا مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الصِّيغَةَ إنْ تَجَرَّدَتْ عَنْ الْقَرَائِنِ فَهِيَ نَصٌّ فِي الِاسْتِغْرَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِانْتِفَاءِ الْقَرَائِنِ: فَالتَّرَدُّدُ بَاقٍ وَجَرَى عَلَيْهِ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَزَادَ حِكَايَتَهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ: وَالْمَأْخَذُ مُخْتَلِفٌ، فَالْمُعْتَزِلَةُ تَلَقَّوْهُ مِنْ اسْتِحَالَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ الْخِطَابِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ؛ لَكَانَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَالشَّافِعِيُّ كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ التَّخْصِيصَ إنَّمَا يَكُونُ وَارِدًا عَلَى كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ لِاقْتِرَانِ اللَّفْظَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. قَالَ: وَهَذَا بَحْثٌ لُغَوِيٌّ يَفْتَقِرُ إلَى النَّقْلِ، وَقَدْ رَأَيْت مَنْ يُنْكِرُ عَلَى الْإِبْيَارِيِّ هَذَا النَّقْلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ ظَنًّا مِنْهُ تَفَرُّدَهُ بِهَذَا. نَعَمْ، قَدْ أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِإِلْكِيَا، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ " التَّلْوِيحِ ": نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا تَعَرَّتْ عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُخَصِّصَةِ كَانَتْ نَصًّا فِي الِاسْتِغْرَاقِ، لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا احْتِمَالٌ، وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، وَإِنْ صَحَّ عَنْهُ فَالْحَقُّ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الْمُسَمَّيَاتِ النَّادِرَةَ يَجُوزُ أَنْ لَا تُرَادَ بِلَفْظِ الْعَامِّ، وَيَجِبُ مِنْهُ أَنَّ التَّخْصِيصَ إذَا وَرَدَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَانَ نَسْخًا، وَذَلِكَ خِلَافُ رَأْيِ الشَّافِعِيِّ. انْتَهَى. وَلَعَلَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي نَقْلِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ كَوْنَهَا قَطْعِيَّةً أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّهَا نَصٌّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُسَمِّي الظَّوَاهِرَ نُصُوصًا كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ " عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ

ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " فَإِنَّهُ قَالَ: وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعُمُومَ نَصٌّ فِيمَا تَنَاوَلَهُ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ، وَقَدْ سَمَّى الشَّافِعِيُّ الظَّوَاهِرَ نُصُوصًا فِي مَجَارِي كَلَامِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُسَمِّيَ الْعُمُومَ نَصًّا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ، وَلِأَنَّ الْعُمُومَ فِيمَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ لَيْسَ بِأَرْفَعِ وُجُوهِ الْبَيَانِ، وَلَكِنَّ الْعُمُومَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِيعَابِ، لِأَنَّهُ يَبْتَدِرُ إلَى الْفَهْمِ، ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، وَهُوَ الْخُصُوصُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ. فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ لَا يُخَصَّصُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ نَصًّا فِي بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ نَصًّا فِي بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَهِيَ الظَّاهِرَةُ الَّتِي يَقْطَعُ بِكَوْنِهَا مَقْصُودَةَ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا وَاسْتَخْرَجَهَا عَنْ مُقْتَضَى الْعَامِّ، وَيَكُونُ ظَاهِرًا فِي الْبَعْضِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَ الشَّرْعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَقْصِدَهُ، فَحِينَئِذٍ تَقُولُ: شَمِلَهُ الْعَامُّ وَيَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ. وَفَرَّقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَيْنَ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ وَغَيْرِهَا، فَرَأَى أَنَّ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ تَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً وَإِنَّمَا نَقَلَ التَّخْصِيصَ بِنَاءً عَلَى الْقَرَائِنِ، وَرَأَى أَنَّ جَمْعَ الْكَثْرَةِ يَدُلُّ ظَاهِرًا لَا قَطْعِيًّا. وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " أَنَّهُ نَصٌّ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ ظَاهِرٌ فِيمَا وَرَاءَهُ؛ وَخَصَّ الْمَازِرِيُّ الْخِلَافَ بِمَا زَادَ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ، أَمَّا مَا دُونَهُ فَدَلَالَتُهُ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ. وَالْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ تَأْكِيدُ الصِّيَغِ الْعَامَّةِ إذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:

مسألة العام في الأشخاص هل هو عام في الأحوال والأزمنة

{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] . وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ مِنْهَا: وُجُوبُ اعْتِقَادِ عُمُومِهِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ وَمِنْهَا: تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ الظَّنِّيَّيْنِ ابْتِدَاءً، وَالْعَامِّ بِالْخَاصِّ وَأَنَّ الْخَاصَّ لَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا بِالْعَامِّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ خَبَرَ الْعَرَايَا عَلَى خَبَرِ التَّمْرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ. تَنْبِيهٌ قَوْلُهُمْ الْعَامُّ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ، وَالْخَاصُّ مَقْطُوعُ الدَّلَالَةِ، لَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ فِيهِ قَطْعِيَّةٌ، بَلْ إنَّ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، وَالْخَاصَّ لَا يَحْتَمِلُهُ. فَرْعٌ لَوْ قَالَ فِي الْإِقْرَارِ: لَهُ عِنْدِي خَاتَمٌ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَرَدْت الْفَصَّ، فَفِي قَوْلِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا؛ لِأَنَّ الْفَصَّ مُتَنَاوَلٌ لِاسْمِ الْخَاتَمِ، فَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ عِنْدَنَا، وَقَدْ قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: الْخَاتَمُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْحَلَقَةِ مَعَ الْفَصِّ، وَإِلَّا فَهُوَ حَلَقَةٌ. وَقِيلَ فَتْخٌ. [مَسْأَلَةٌ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ هَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ] مَسْأَلَةٌ فِي أَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ: هَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ؟ وَيَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْبَحْثَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا أَثَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَلَيْسَ

كَذَلِكَ، بَلْ وَقَعَ فِي كَلَامِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَالْمَشْهُورُ: نَعَمْ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ فِي " الْقَوَاطِعِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، فَقَالَ: لِأَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ دَالٌّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ فِي الْأَعْيَانِ وَفِي الْأَزْمَانِ، وَفِي أَيِّ عَيْنٍ وُجِدَ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، هَذَا كَلَامُهُ. وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي " الْمَحْصُولِ " فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ حَيْثُ قَالَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ: قُلْنَا: لَمَّا كَانَ أَمْرًا بِجَمِيعِ الْأَقْيِسَةِ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَا مَحَالَةَ لِجَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَإِلَّا قَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْأَقْيِسَةِ انْتَهَى. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي فَتَاوِيهِ " فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ الْحَامِلِ: كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ، أَنَّهُ كَمَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى يَشْمَلُ اخْتِلَافَ الْوَقْتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ، وَيَتَكَرَّرَ. هَذَا لَفْظُهُ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِيمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، إنَّهُ لَا يَدِينُ وَإِذَا نَوَى إلَى شَهْرَيْنِ يَدِينُ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ مُجَلِّي فِي " الذَّخَائِرِ " وَالرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ، فَإِنَّهُمَا حَكَيَا وَجْهَيْنِ فِي التَّدْيِينِ فِي " إنْ دَخَلْت الدَّارَ " وَقَالَ الْإِمَامُ: وَلِلْفَقِيهِ نَظَرٌ فِي هَذَا، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا يَتَعَلَّقُ بِالْأَزْمَانِ ظَاهِرًا عَلَى الْعُمُومِ، بِخِلَافِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ، وَتَبِعَهُ

الْغَزَالِيُّ حَيْثُ قَالَ: اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْأَزْمَانِ، فَإِذَا قَالَ: أَرَدْت شَهْرًا، فَكَأَنَّهُ خَصَّصَ الْعَامَّ؛ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقَدْ تُقَابَلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، فَيُقَالُ: اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّصَهُ بِحَالِ دُخُولِ الدَّارِ. انْتَهَى. لَكِنَّ الْإِمَامَ قَائِلٌ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْأَزْمَانِ عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا عُمُومَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقٌ، وَزَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ فِي الْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ وَالْأَحْوَالِ وَالتَّعَلُّقَاتِ. فَلَا تَعُمُّ الصِّيغَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ الْعُمُومِ فِي غَيْرِهَا، حَتَّى يُوجَدَ لَفْظٌ يَقْتَضِي فِيهَا الْعُمُومَ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى خُصُوصِ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ وَلَا مَكَان مُعَيَّنٍ وَلَا حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَإِذَا قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، عَمَّ كُلَّ مُشْرِكٍ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فَرْدٌ، وَلَا يَعُمُّ الْأَحْوَالَ، حَتَّى لَا يُقْتَلَ فِي حَالِ الْهُدْنَةِ وَالذِّمَّةِ، وَلَا خُصُوصِ الْمَكَانِ، حَتَّى يَدُلَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي أَرْضِ الْهِنْدِ مَثَلًا، وَلَا الْأَزْمَانِ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى يَوْمِ السَّبْتِ مَثَلًا، وَيُسْتَعْمَلُ كَذَلِكَ فِي دَفْعِ كَثِيرٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالَاتِ بِأَلْفَاظٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيُؤَدِّي إلَى بَعْضِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْخَصْمَانِ، فَيُقَالُ: إنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ، وَقَدْ عَمِلْت بِهِ فِي الصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَالْمُطْلَقُ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا يَلْزَمُ الْعَمَلَ بِهِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ. وَقَدْ ارْتَضَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ " فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ " وَفِي كَلَامِ الْآمِدِيَّ فِي مَسْأَلَةِ الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ مَا يُشِيرُ إلَى الْقَوْلِ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ. وَقَدْ رَدَّهَا جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي " شَرْحِ الْعُمْدَةِ " فَقَالَ: وَهَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ؛ بَلْ الْوَاجِبُ أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعُمُومُ فِي الذَّوَاتِ مَثَلًا يَكُونُ دَالًّا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ ذَاتٍ تَنَاوَلَهَا اللَّفْظُ، وَلَا يَخْرُجُ

عَنْهَا ذَاتٌ إلَّا بِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ، فَمَنْ أَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ، نَعَمْ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ مَرَّةً كَمَا قَالُوا، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ الْعُمُومِ فِي كُلِّ ذَاتٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِهِ مَرَّةً مُخَالَفَةً لِمُقْتَضَى صِيغَةِ الْعُمُومِ، قُلْنَا بِالْعُمُومِ، مُحَافَظَةً عَلَى مُقْتَضَى صِيغَتِهِ، لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُطْلَقَ يَعُمُّ. مِثَالُ ذَلِكَ إذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، فَمُقْتَضَى الصِّيغَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ ذَاتٍ صَدَقَ عَلَيْهَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: هُوَ مُطْلَقٌ فِي الْأَزْمَانِ، وَقَدْ عَمِلْت بِهِ مَرَّةً، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ أُخْرَى لِعَدَمِ عُمُومِ الْمُطْلَقِ. قُلْنَا لَهُ: لَمَّا دَلَّتْ الصِّيغَةُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ ذَاتٍ دَخَلَتْ الدَّارَ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الذَّوَاتُ الدَّاخِلَةُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَإِذَا أَخْرَجْت تِلْكَ الذَّوَاتِ، فَقَدْ أَخْرَجْت مَا دَلَّتْ الصِّيغَةُ عَلَى دُخُولِهِ، وَهِيَ كُلُّ ذَاتٍ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَوَى قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ» . . . الْحَدِيثَ، أَتْبَعهُ بِأَنْ قَالَ: " فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَنُحَرِّفُ عَنْهَا، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ "، قَالَ. فَإِنَّ أَبَا أَيُّوبَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالشَّرْعِ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَ قَوْلَهُ: «وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا» . . . عَامًّا فِي الْأَمَاكِنِ، وَهُوَ مُطْلَقٌ فِيهَا، وَعَلَى مَا قَالَهُ

هَؤُلَاءِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ، وَعَلَى مَا قُلْنَاهُ يَعُمُّ بِمَعْنَى، فَيَكُونُ الْعَامُّ فِي الْأَشْخَاصِ عَامًّا فِي الْأَمْكِنَةِ. وَقَدْ رَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي اللَّفْظِ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ وُقُوعُ الِاسْتِقْبَالِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأَمَاكِنِ فِي الشَّامِ وَغَيْرِهِ، وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْقَرَافِيِّ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عُمُومُ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الْمَكَانِ لَمَا كَانَ لِتَعْرِيفِ الْمَكَانِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَائِدَةٌ. وَتَمَسَّك آخَرُونَ فِي رَدِّ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِحَدِيثِ «أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى حَيْثُ دَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ» الْحَدِيثَ. فَقَدْ جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامًّا فِي الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ. وَرَدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ جَاءَ مِنْ صِيغَةِ " إذَا " الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّكْرَارِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ. وَقَدْ خَالَفَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي " شَرْحِ الْعُمْدَةِ " فِي مَوْضِعٍ آخَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ بَيْعِ الْخِيَارِ. إنَّ الْخِيَارَ عَامٌّ، وَمُتَعَلِّقُهُ وَهُوَ مَا

يَكُونُ فِيهِ الْخِيَارُ مُطْلَقٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ، وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِمَقَالَةِ الْقَرَافِيِّ، وَرُبَّمَا أَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] قَالَ: فَلَوْ كَانَ الْعَامُّ فِي الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ {وَجَدْتُمُوهُمْ} تَكْرَارًا وَ {حَيْثُ} مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْمَكَانِ، قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. وَقَدْ تَوَسَّطَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْعَامِّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقًا فِي الْأَحْوَالِ: وَالْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ أَنَّهُ إذَا عَمِلَ بِهِ فِي الْأَشْخَاصِ فِي زَمَانٍ مَا وَمَكَانٍ مَا وَحَالَةٍ مَا لَا يَعْمَلُ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَشْخَاصِ مَرَّةً أُخْرَى فِي زَمَانٍ آخَرَ وَنَحْوِهِ، أَمَّا فِي أَشْخَاصٍ أُخْرَى مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ الْعَامُّ فَيَعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَزِمَ التَّخْصِيصُ فِي الْأَشْخَاصِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، فَالتَّوْفِيَةُ بِعُمُومِ الْأَشْخَاصِ أَنْ لَا يَبْقَى شَخْصٌ مَا فِي أَيِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَحَالٍ إلَّا حُكِمَ عَلَيْهِ، وَالتَّوْفِيَةُ بِالْإِطْلَاقِ أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، فَكُلُّ زَانٍ مَثَلًا يُجْلَدُ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَإِذَا جُلِدَ مَرَّةً وَلَمْ يَتَكَرَّرْ زِنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُجْلَدُ ثَانِيَةً فِي زَمَانٍ آخَرَ. وَمَكَانٍ آخَرَ، فَإِنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الزَّانِي وَالْمُشْرِكُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا الشَّخْصُ، وَالثَّانِي الصِّفَةُ، كَالزِّنَى وَالشِّرْكِ لَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِمَا أَدَاةُ الْعُمُومِ أَفَادَتْ عُمُومَ الشَّخْصِ لَا عُمُومَ الصِّفَةِ، وَالصِّفَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى إطْلَاقِهَا، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: الْعَامُّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْبِقَاعِ، فَبِمُطْلَقِ زَنَى حُدَّ، وَكُلُّ شَخْصٍ حَصَلَ مِنْهُ مُطْلَقُ شِرْكٍ قُتِلَ بِشَرْطِهِ، فَرَجَعَ الْعُمُومُ وَالْإِطْلَاقُ إلَى لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِهَا. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ عَدَمَ التَّكْرَارِ جَاءَ مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي

التَّكْرَارَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ الْإِطْلَاقِ. وَرُدَّ بِأَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرِ أَحَدُ الْمُقْتَضَيَاتِ لِلْإِطْلَاقِ فِي الْأَزْمَانِ وَغَيْرِهَا، فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا. قُلْت: وَهَذَا مُسْتَمَدٌّ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ " حَيْثُ قَالَ: إنَّا نَقُولُ: أَمَّا كَوْنُ اللَّفْظِ الْعَامِّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقًا فِي الْأَحْوَالِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذُكِرَ فَصَحِيحٌ؛ وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الِاسْتِدْلَالِ، فَيَلْزَمُ مِنْهَا عَوْدُ التَّخْصِيصِ إلَى صِيغَةِ الْعُمُومِ، وَيَبْقَى الْعُمُومُ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُطْلَقَ عَامٌّ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِغْرَاقِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى صِيغَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَشْخَاصِ وَاجِبٌ، فَالْعُمُومُ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الصِّيغَةِ الْعَامَّةِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُطْلَقَ عُمُومُ اسْتِغْرَاقٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُطْلَقَ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةً، فَنَقُولُ: هَلْ يَكْتَفِي فِيهِ بِالْمَرَّةِ فِعْلًا أَوْ حَمْلًا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَمَمْنُوعٌ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْمُطْلَقَ إذَا فُعِلَ مُقْتَضَاهُ مَرَّةً وَوُجِدَتْ الصُّورَةُ الْجُزْئِيَّةُ الدَّاخِلَةُ تَحْتَ الْكُلِّ كَفَى ذَلِكَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا إذَا قَالَ: اعْتِقْ رَقَبَةً، فَفَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً لَا يَلْزَمُ إعْتَاقُهُ رَقَبَةً أُخْرَى، لِحُصُولِ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءِ اللَّفْظِ الْعُمُومَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ مَرَّةً وَحَنِثَ، لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهَا ثَانِيَةً، لِوُجُودِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فِعْلًا مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءِ الْعُمُومِ. أَمَّا إذَا عَمِلَ بِهِ مَرَّةً حَمْلًا، أَيْ فِي أَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمُطْلَقِ لَا يَلْزَمُ التَّقَيُّدُ بِهَا، وَلَا يَكُونُ وَفَاءً بِالْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى تَقْيِيدِ الْإِطْلَاقِ بِالصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ حَمْلًا أَنْ لَا يَحْصُلَ الِاكْتِفَاءُ بِغَيْرِهَا، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ الْإِطْلَاقَ، وَمِثَالُهُ إذَا قَالَ: اعْتِقْ رَقَبَةً، فَإِنَّ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ أَنْ يَحْصُلَ الْإِجْزَاءُ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى رَقَبَةً، لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ فِي كُلِّ مَنْ يُعْتَقُ مِنْ الرِّقَابِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ

مسألة هل يجوز أن يبلغ المكلف اللفظ العام ولا يبلغه المخصص

بِهِ، فَإِذَا خَصَّصْنَا الْحُكْمَ بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ مَنَعْنَا إجْزَاءَ الْكَافِرَةِ، وَمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ إجْزَاؤُهَا إنْ وَقَعَ الْعِتْقُ بِهَا، فَاَلَّذِي فَعَلْنَاهُ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ. قَالَ: فَتَنَبَّهْ لِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْك مِنْ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذَا كَانَ الْإِطْلَاقُ فِي الْأَحْوَالِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَقْتَضِي الْحَمْلُ عَلَى الْبَعْضِ فِيهِ عَوْدَ التَّخْصِيصِ إلَى مَحَلِّ الْعُمُومِ، هِيَ الْأَشْخَاصُ أَوْ مُخَالَفَةُ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ الْحَمْلِ، فَالْحُكْمُ بِعَدَمِ التَّقْيِيدِ، لِوُجُودِ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ أَوْ الْعُمُومِ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، أَمَّا إذَا كَانَ الْإِطْلَاقُ فِي صُورَةٍ لَا تَقْتَضِي مُخَالَفَةَ صِيغَةِ الْعُمُومِ وَلَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ فَالْكَلَامُ صَحِيحٌ. وَيَتَعَدَّى النَّظَرُ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ذَكَرْنَا إلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالْعُمُومِ، فَإِنْ اقْتَضَى إخْرَاجَ بَعْضِ الصُّوَرِ وَعَدَمَ الْجَرْيِ عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ، وَجَبَ أَنْ يَنْظُرَ فِي قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا قُصِدَ بِهِ مُعَيَّنٌ، فَهَلْ يُحْتَجُّ بِهِ فِيمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَلَا حَاجَة بِنَا إلَى هَذَا، وَإِلَّا احْتَجْنَا إلَى النَّظَرِ فِيهَا بَعْدَ الِانْتِهَاءِ بِمُقْتَضَى صِيغَةِ الْعُمُومِ، وَأَنَّ الْوَفَاءَ بِمُقْتَضَاهَا وَاجِبٌ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاَلَّذِي يُزِيدُهُ وُضُوحًا أَنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَصِحَّ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُمُومَاتِ أَوْ أَكْثَرِهَا، إذْ مَا مِنْ عَامٍّ إلَّا وَلَهُ أَحْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الذَّوَاتِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْعُمُومُ، فَإِذَا اكْتَفَيْنَا فِي الْعَمَلِ بِحَالَةٍ مِنْ الْحَالَاتِ تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِهِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ النَّاسُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ الْمُكَلَّفُ اللَّفْظَ الْعَامَّ وَلَا يَبْلُغُهُ الْمُخَصِّصُ] إذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيغَةً بِالْمَعْنَى السَّابِق، قَالَ الْقَاضِي فِي

التَّقْرِيبِ ": ذَهَبَ الْجُمْهُورُ سِيَّمَا الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْمُكَلَّفُ اللَّفْظَ الْعَامَّ، وَلَا يَسْمَعَ الْمُخَصَّصَ إذَا كَانَ لَهُ مُخَصِّصٌ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَعَلَيْهِ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخَصِّصٌ لَبَلَغَهُ، فَإِنْ وَجَدَهُ وَإِلَّا اعْتَقَدَ عُمُومَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْمِعَ اللَّهُ وَاحِدًا مِنْ الْمُكَلَّفِينَ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ، وَلَا يُسْمِعَهُ خُصُوصَهُ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُسْمِعَهُ إيَّاهُمَا أَوْ يَصْرِفَهُ عَنْ سَمَاعِ الْعُمُومِ إذَا لَمْ يَسْمَعْ الْخُصُوصَ. قُلْت: وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ "، وَالْمَحْصُولِ " عَنْ الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي الْهُذَيْلِ، قَالَ صَاحِبُ " الْوَاضِحِ ": وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، قَالَ: وَكَذَا كَانَ يَقُولُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. قَالَ الْقَاضِي: وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْعُمُومُ مَخْصُوصًا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ جَازَ أَنْ يَسْمَعَهُ مَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ نَظَرُهُ فِي الدَّلِيلِ عَلَى تَخْصِيصِهِ، وَأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ الْمُخَصِّصَ لَهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، لِتَقَدُّمِ الْعَقْلِ عَلَى السَّمْعِ، وَهُوَ مِنْ أَوْضَحِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ جَازَ فِي السَّمْعِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَهُ الْمَنْسُوخُ، وَلَا يَبْلُغَهُ النَّاسِخُ، وَحَكَى صَاحِبُ " الْوَاضِحِ " الْمُعْتَزِلِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ، ثَالِثَهَا: التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْمُخَصِّصِ الْعَقْلِيِّ فَيَجُوزُ، وَالسَّمْعِيِّ فَلَا يَجُوزُ، وَحَكَاهُ فِي " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي الْهُذَيْلِ. وَمِمَّنْ تَبِعَ الْقَاضِي فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ "، وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " قَالَ: وَنَحْنُ نَقُولُ: يَجِبُ عَلَى الشَّارِعِ أَنْ يَذْكُرَ دَلِيلَ الْخُصُوصِ، إمَّا مُقْتَرِنًا أَوْ مُتَرَاخِيًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كُلِّ مُحْتَمِلٍ يَبْلُغُهُ الْعُمُومُ أَنْ يَبْلُغَهُ الْخُصُوصُ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَغْفُلَ

مسألة هل يجب العمل بالعام قبل البحث عن مخصص

عَنْهُ، وَيَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ الْعَمَلَ بِالْعُمُومِ، وَهُوَ الَّذِي بَلَغَهُ، دُونَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ. وَقَالَ فِي " الْبُرْهَانِ " لَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ اللَّفْظِ الْعَامِّ مَعَ اسْتِئْخَارِ الْمُخَصِّصِ عَنْهُ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى مَنْعِ ذَلِكَ، وَهِيَ مِنْ فُرُوعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ مُخَصِّصٍ] إذَا جَوَّزْنَا وُرُودَ الْعَامِّ مُجَرَّدًا عَنْ مُخَصِّصِهِ فَهَلْ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْمُبَادَرَةُ إلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، أَوْ يَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ يَنْظُرَ دَلِيلَ الْمُخَصِّصِ؟ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ فِي الْحَالِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ. وَقَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ: يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ، حَتَّى يَنْظُرَ فِي الْأُصُولِ الَّتِي يَتَعَرَّفُ فِيهَا الْأَدِلَّةَ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ

خَصَّ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ دَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ اعْتَقَدَ عُمُومَهُ، وَعَمِلَ بِمُوجَبِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَحَكَى الْقَفَّالُ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] هَلْ تَقُولُ إنَّ مَنْ سَمِعَ هَذَا يَأْكُلُ جَمِيعَ مَا يَجِدُهُ مِنْ رِزْقِهِ؟ فَقَالَ: أَقُولُ إنَّهُ يَبْلَعُ الدُّنْيَا بَلْعًا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَزَعَمَ الصَّيْرَفِيُّ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ فِي " الرِّسَالَةِ ": وَالْكَلَامُ إذَا كَانَ عَامًّا ظَاهِرًا كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ، حَتَّى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا دَلِيلًا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَتْمِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَجِبُ طَلَبُ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مُوجِبِ اللَّفْظِ. قُلْت: وَمِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُؤْخَذُ حِكَايَةُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَهُوَ غَرِيبٌ. وَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مِنْ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ جَرَى عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ فِي " الْأُصُولِ "، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ "، وَصَاحِبُهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ "؛ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ "، وَنَصَرُوا قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَمِمَّنْ حَكَاهُ مِنْ الْمَرَاوِزَةِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو النَّصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ، وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَالْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ

وَنَقَلَ التَّمَسُّكَ بِالْعُمُومِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْمُخَصِّصَ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْمَنْعَ مِنْهُ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَكَذَلِكَ صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ وَالنَّقْلَ، الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " وَالْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ " قَالَ: وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَمُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يُسَوَّغُ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ ثُمَّ إذَا نَظَرَ فِيهَا جَرَى عَلَى قَضِيَّتِهَا. قَالَ: وَارْتَضَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَكَذَلِكَ صَوَّرَهَا إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي " الْمَدَارِكِ "، وَنَقَلَ مُوَافَقَةَ ابْنِ سُرَيْجٍ عَنْ الْقَفَّالِ وَابْنِ خَيْرَانَ وَالْإِصْطَخْرِيُّ، وَكَذَلِكَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " إلَّا أَنَّهُ اخْتَارَ قَوْلَ الصَّيْرَفِيِّ، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَكَذَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَالْمَقْدِسِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ وَأَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ. لَكِنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ، وَنَقَلَ فِيهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ اتِّفَاقَ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ " وَزَيَّفَ قَوْلَ الصَّيْرَفِيِّ "، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ ظَاهِرِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْأَقْضِيَةِ " وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ ": إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قُلْت: هُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "، فَإِنَّهُ قَالَ: وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ طَلَبُ الدَّلَائِلِ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَ الْحَتْمِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. هَذَا لَفْظُهُ. فَنَصَّ عَلَى طَلَبِ الدَّلَائِلِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ مَوَاقِعِ

الْكَلَامِ، وَلَمْ يَكِلْهُمْ إلَى نَفْسِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ، قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْقَرَائِنِ. لَكِنَّهُ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى مَا يُخَالِفُهُ. فَيَصِيرُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، فَذَكَرَ فِي " الْأُمِّ " حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ بِالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَقَالَ: - يَعْنِي أَبَا أَيُّوبَ - بِالْحَدِيثِ جُمْلَةً كَمَا سَمِعَهُ جُمْلَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَ الْحَدِيثَ أَنْ يَقُولَ بِهِ عَلَى عُمُومِهِ وَجُمْلَتِهِ، حَتَّى يُجَدِّدَ دَلَالَةً يُفَرِّقُ مِنْهَا فِيهِ، ثُمَّ مَثَّلَ الدَّلَالَةَ الْمُفَرِّقَةَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ الْأَوْقَافِ الْمَكْرُوهَةِ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَكَذَا غَيْرُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ الْعُمُومِ، حَتَّى تَأْتِيَ الدَّلَالَةُ عَنْهُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ إجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ أَنَّهُ بَاطِنٌ دُونَ ظَاهِرٍ، وَخَاصٌّ دُونَ عَامٍّ. انْتَهَى. هَذَا لَفْظُهُ، وَذَكَرَ فِي " الرِّسَالَةِ " مِثْلَهُ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَأَنَّهُ سَمِعَهُ جُمْلَةً، فَقَالَ بِهِ جُمْلَةً. وَقَدْ سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ صِيَغِ الْعُمُومِ نَقَلَ الصَّيْرَفِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ الْكَثِيرَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ إذَا وَرَدَ وَسَمِعَهُ الْمُكَلَّفُ وَفَهِمَ مَا يَجِبُ، وَجَبَ عَلَيْهِ عَرْضُهُ إذَا أَرَادَ تَنْفِيذَهُ عَلَى مَا يَقْدِرُ مِنْ أَدِلَّةِ الْعُقُولِ وَأُصُولِ الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا أَوْجَبَ تَخْصِيصَهُ خَصَّهُ بِهِ، وَإِلَّا أَجْرَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِيمَا اقْتَضَاهُ لَفْظُهُ، وَهَذَا وَقْفٌ مِنْهُ عَلَى مِقْدَارِ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا تَقُولُهُ الْوَاقِفِيَّةُ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي أُصُولِهِ ": إذَا وَرَدَ الْخِطَابُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ

نَظَرَ، إنْ وُجِدَ دَلِيلٌ يَخُصُّ اللَّفْظَ كَانَ مَقْصُودًا عَلَيْهِ، وَإِلَّا أُجْرِيَ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ الْعَامَّ مُحْتَمِلٌ لِلتَّخْصِيصِ، فَلَا يَجُوزُ الْهُجُومُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ النَّظَرِ فِي الْمُرَادِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الَّذِي يَعْتَقِدُهُ السَّامِعُ قَبْلَ النَّظَرِ؟ قُلْنَا: قَدْ يَقْتَرِنُ بِالْخِطَابِ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ مَا يَقِفُ بِهِ السَّامِعُ عَلَى مُرَادِ الْخِطَابِ، وَقَدْ يَتَقَدَّمُ الْخِطَابُ مَا يَتَعَقَّلُ لِتَخْصِيصِ اللَّفْظِ وَقَرِينَتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا وَرَدَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» إذَا وَرَدَ الْخِطَابُ مُجَرَّدًا مِنْ دَلَالَةٍ تَقْتَرِنُ بِهِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُخَاطَبِ قَبْلَ النَّظَرِ أَنْ يَعْتَقِدَ مَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ وَلَا يَعْتَقِدُ انْصِرَافَهُ إلَى عُمُومٍ وَلَا إلَى خُصُوصٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ قَبْلَ النَّظَرِ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ اللَّفْظِ الْعَامِّ، فَالْعَامُّ يَرِدُ عَلَيْهِ الْحَادِثَةُ وَجْهَيْنِ فَلَا يَعْتَقِدُ فِي حُكْمِهَا شَيْئًا بِعَيْنِهِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ فَيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحُكْمُ. انْتَهَى. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْعَنْبَرِ الَّذِي أَلْقَاهُ الْبَحْرُ، فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ حَكَمَ بِتَنْجِيسِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ إنَّهُ اسْتَبَاحَهَا بِحُكْمِ الِاضْطِرَارِ مَعَ أَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ فِي الْمَيْتَةِ مُخَصَّصٌ بِقَوْلِهِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ خَبَرٌ مِنْ هَذَا الْمُخَصِّصِ.

وَحَصَلَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَنَا طَرِيقَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: حِكَايَةٌ لِقَوْلَيْنِ أَوْ وَجْهَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ: الْقَطْعَ بِوُجُوبِ الْبَحْثِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ مَشْهُورَانِ مِنْ غَيْرِ مَذْهَبِنَا. وَلَهُمْ فِيهَا أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ غَرِيبَةٍ: أَحَدُهَا: إنْ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ تَعْلِيمِ الْحُكْمِ وَجَبَ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَزِمَهُ التَّثَبُّتُ، وَنُسِبَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَالثَّانِي: وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ إنْ وَرَدَ بَيَانًا بِأَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ أَوْ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنْ وَرَدَ ابْتِدَاءً وَجَبَ التَّوَقُّفُ فِيهِ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ، وَاخْتَارَهُ، عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ أَوْ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَاصًّا لَمَا تَرَكَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِلَا بَيَانٍ فِي الْحَالِ الَّتِي أُلْزِمَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ مَعَ جَهْلِ السَّائِلِ. وَإِنْ وَرَدَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ بِسُؤَالٍ أَوْ سَمِعَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ مُبْتَدَأَةً وَالسَّائِلُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، قَالَ الرَّازِيَّ: فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْكُمُ بِظَاهِرِهِ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ الْمُخَصِّصِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَمْضَاهُ عَلَى عُمُومِهِ.

وَالثَّانِي: إنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِحُكْمِ اللَّفْظِ فَلَيْسَ يُخَلِّيهِ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظِ مِنْ آيَةِ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ، حَتَّى يَكُونَ كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَعَقِّبِ لِلْجُمْلَةِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْحُكْمِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ عُمُومًا وَلَا خُصُوصًا. قَالَ: وَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إذَا سَأَلَ عَنْ حُكْمِ حَادِثَةٍ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِهِ، فَأَجَابَهُ بِجَوَابٍ مُطْلَقٍ أَمْضَاهُ عَلَى مَا سَمِعَهُ، وَمِنْهُ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ إيجَابَ اعْتِقَادِ عُمُومِ مَا لَا يَعْلَمُ صِحَّةَ عُمُومِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مُخَصَّصًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. اهـ. الثَّالِثُ: وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَقْضِيَةِ " التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَهُ تَخْصِيصٌ أَوْ لَا، فَقِيلَ التَّخْصِيصُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا نَظَرٍ، وَبَعْدَ التَّخْصِيصِ يُحْتَمَلُ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَكَلَامُ ابْنِ كَجٍّ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُخَصِّصُهُ، فَإِنْ وَجَدْنَا مَا يُخَصِّصُهُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ بِلَا خِلَافٍ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُخَصِّصٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ جَعَلَ هَذَا أَصْلًا قَاسَ عَلَيْهِ مَوْضِعَ الْخِلَافِ. وَحَكَى ابْنُ فُورَكٍ مَذْهَبَ الصَّيْرَفِيِّ وَمُقَابِلَهُ قَوْلًا بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ الْأَوَامِرِ وَالْأَخْبَارِ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ فِي الْوَقْفِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الْأَفْقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَوَقَّفَ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِ. وَالْمَشْهُورُ حِكَايَةُ هَذَا فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ " الْأُصُولِ " لِلْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا وَرَدَ الْخِطَابُ الْعَامُّ بَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنْ وَرَدَ

العمل بالعام قبل البحث عن مخصص

فِي عَهْدِهِ، وَجَبَ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْفِعْلِ عُمُومِهِ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ لَمْ تَكُنْ مُقَرَّرَةً. [الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ مُخَصِّصٍ] [مَذْهَبُ الصَّيْرَفِيِّ فِي الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ مُخَصِّصٍ] وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الصَّيْرَفِيِّ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ " الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى أَنَّ مَا سُمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْعَامِّ مُخَاطَبًا بِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَهُ حَتَّى يُبَيِّنَهُ لِلْمُخَاطَبِينَ، لِيَصِلُوا إلَى عِلْمِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَأَمَّا السَّاعَةَ فَقَدْ تَكَامَلَ الدِّينُ، وَثُبُوتُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَلَيْسَ عَلَى مَنْ سَمِعَ آيَةً مِنْ الْعَامِّ الْعَمَلُ بِهَا حَتَّى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَيَعْرِفَ حُكْمَهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَبْحَثُ وَلَهُ أَنْ يَبْحَثَ فَقَدْ أَتَى بِمَا يُمْكِنُهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا اعْتِقَادُ مَا سَمِعَهُ إذْ قَدْ بَلَغَ مَا يُمْكِنُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ لِلْعِلْمِ غَايَةٌ يَنْتَهِي إلَيْهَا، حَتَّى لَا يَفُوتَهُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَاخْتَارَ قَوْمٌ جَوَازَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى وَقْتِ التَّقْيِيدِ؛ وَقَالَ قَوْمٌ: عَلَى مَنْ سَمِعَ شَيْئًا وَحَصَلَ فِي يَدَيْهِ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ أَوْ نَهْيُ اعْتِقَادِ مَا سَمِعَ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَلَّذِي أَقُولُهُ: إنَّ كُلَّ آيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا أَوْ رَسُولُهُ مُوَاجِهًا بِهَا مَنْ يُخَاطِبُ آمِرًا أَوْ نَاهِيًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُكْمُهُ فِي تِلْكَ مَرْفُوعٌ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ آمِرًا بِشَيْءٍ، حُكْمُهُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ وَهُوَ مُحَالٌ فِي صِفَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُوَاجِهَ رَجُلًا آمِرًا لَهُ بِشَيْءٍ أَوْ نَاهِيًا عَنْهُ بِاسْمٍ عَامٍّ وَوَقْتُ بَيَانِهِ:

مُمْكِنٌ، وَلَا يَتَقَدَّمُ مَا يُوجِبُ لَهُ الْبَيَانَ فَيَصِيرُ مَا يُرِيدُ مِنْهُ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ خِطَابِهِ أَوْ فِعْلِهِ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَ؛ لِأَنَّهُ فِي الظَّوَاهِرِ آمِرٌ لَهُ بِخِلَافِ مَا يُرِيدُ مِنْهُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى عِلْمٍ مِنْ لَفْظِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ، وَهَذَا خِطَابُ مَنْ كَتَمَ لَا مَنْ بَيَّنَ، وَالرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. فَإِذَا سَمِعَ الْمُخَاطَبُونَ ذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثُمَّ فَارَقُوهُ، وَاحْتَمَلَ وُرُودَ النَّسْخِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِمْ الْإِقَامَةُ عَلَيْهِ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَزَالَهُ أَوْ رَسُولَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمْ الْيَقِينُ، فَلَا يَزُولُونَ عَنْهُ لِإِمْكَانِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا وَلَا يَتَوَقَّفُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إسْقَاطَ مَا عَلِمَ صِحَّتَهُ لِمَا لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ النَّاسَ لَا يُمْكِنُهُمْ مُرَاعَاةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ لَا يُفَارِقُونَهُ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ اسْتِعْمَالُ مَا عَلِمُوهُ حَتَّى يَعْلَمُوا خِلَافَهُ مَعَ احْتِمَالِ زَوَالِ مَا عَلِمُوا أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَبْلِيغُهُ، قَالَ تَعَالَى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] . وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى أَمْرُ السَّلَفِ كَابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ حَتَّى قَدِمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَكَانَ مُعَاذٌ وَمَنْ بَلَّغَهُ مُعَاذٌ سَوَاءً فِي الِاعْتِقَادِ وَفِي الْفِعْلِ، حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهُ، وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِتَوْجِيهِهِ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ لِإِمْكَانِ نَسْخِ مَا بُعِثَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: بَابُ الْإِبَانَةِ عَمَّا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ مُوَاجِهٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا؛ قَالَ قَائِلُونَ: لَيْسَ عَلَى مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ اعْتِقَادُ مَا سَمِعَ وَلَا فِعْلُهُ حَتَّى يَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيُبَيِّنَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوَاجِهْهُ بِالْخِطَابِ، وَإِنَّمَا سَمِعَ دَرْسًا، وَقَدْ يُدَرَّسُ الْمَنْسُوخُ.

وَقِيلَ: لَا يُكَلَّفُ إلَّا مَا سَمِعَ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَلَّذِي أَقُولُهُ: إنَّ كُلَّ آيَةٍ سُمِعَتْ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ وَكَانَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ وَيُقَارِنْهُ بِمَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ، فَعَلَى السَّامِعِ اعْتِقَادُ مَا سَمِعَ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهُ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعُوا عِنْدَ انْقِضَائِهِ أَثْنَى عَلَيْهِمْ عِنْدَ التَّقَضِّي بِالِانْصِرَافِ، وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا لِلسُّؤَالِ وَلَا غَيْرِهِ، فَلَمَّا آمَنُوا بِهِ لَزِمَهُمْ حُكْمُ مَا سَمِعُوا حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَزَالَ حُكْمَهُ وَأَبْقَى تِلَاوَتَهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ عَلَى هَذَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ عَلَى خُصُوصِهِ بِقَوْلِهِ: رُبَّمَا حَضَرَ الرَّجُلُ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ سَمِعَ الْجَوَابَ، وَلَمْ يَسْمَعْ السُّؤَالَ وَالْكَلَامُ يَخْرُجُ عَلَى السَّبَبِ، فَيَحْكِي مَا سَمِعَ، وَعَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَحْكِيَ مَا سَمِعَ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَيْثُ يَكُونُ الْجَوَازُ مُمْكِنًا مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالصَّحَابَةُ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُهُمْ سُؤَالُهُ فَيُجِيبُهُمْ، فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَوْلَى. ثُمَّ قَالَ: بَابُ الْإِبَانَةِ عَنْ الْعَامِّ يَسْمَعُ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى وَقْتِنَا هَذَا. فَنَقُولُ: كُلُّ آيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ وَرَدَتْ عَلَيْنَا، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ مَا سَمِعْنَا حَتَّى نَعْلَمَ خِلَافَهُ مِنْ خُصُوصٍ أَوْ نَسْخٍ، وَعِلَّتُنَا فِيهِ مَا اعْتَلَلْنَا مِنْ أَمْرِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُمَّالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَنْ لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بَلْ اعْتَقَدُوا مَا سَمِعُوا مِنْهُ وَعَمِلُوا بِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّوَقُّفُ لِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ لَجَازَ التَّوَقُّفُ عَمَّا عَلِمْنَاهُ ثَانِيًا، وَاحْتَمَلَ فِي مَنْعِهِ، وَهَذَا يُؤَوَّلُ إلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ. فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عَلَيْنَا طَلَبَ ذَلِكَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ كَطَلَبِ الْمَاءِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ، فَإِنْ وَجَدَهُ وَإِلَّا صَارَ إلَى التُّرَابِ، وَإِذًا قَدْ يُدْرِكُ الْجَلِيُّ مِنْهُ مَا

لَا يُدْرِكُ الْخَفِيُّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَجَدَهُ فِيهَا وَإِلَّا عَادَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْعُمُومِ، قُلْنَا لَهُ: تَطْلُبُ دَلِيلَ الْخُصُوصِ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ فِي كُلِّ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالَ: أَطْلُبُهُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَقَدْ عَمَدَ إلَى أَهْلِ الْخُصُوصِ. وَإِنْ قَالَ: أَطْلُبُهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، قُلْنَا: وَقَدْ عَلِمْت أَنَّك لَا تَبْلُغُ عِلْمَ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَتَوَقُّفُك خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا تَشْبِيهُهُمْ بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَخَطَأٌ، لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَلْتَمِسُوا الْمَاءَ إلَى الطَّهُورِ، كَمَا يَلْتَمِسُوا أَهْلَ الزُّقَاقِ، وَلَمْ يُكَلَّفُوا غَيْرَ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الْبَابُ الْأَخِيرُ يُعْلَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْخِلَافِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي نَقَلَ عَنْ الْأُسْتَاذِ الْوِفَاقَ فِيهَا، وَقَدْ اسْتَفَدْنَا مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ أَنَّ لِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنْ يُخَاطِبَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِاللَّفْظِ الْعَامِّ فَعَلَى الْمُخَاطَبِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهُ. ثَانِيهَا: أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَا عَلَى جِهَةِ الْخِطَابِ لَهُ فَعَلَى السَّامِعِ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَسْمَعَ الْعَامُّ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي عَصْرِهِ أَوْ بَعْدَهُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِي الْجَمِيعِ، لَكِنَّ الْحَالَةَ الْأُولَى فَرَّعَهَا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي مَنْعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ إنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ تَقْيِيدَ مَا سَبَقَ بِمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا أَوْ نَاسِخًا، أَمَّا إذَا عَلِمَ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَوْرَاقٍ: بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ خَصَّ أَوْ نَسَخَ بَعْضَ حُكْمِهِ وَلَا نَعْلَمُ نَاسِخَهُ أَوْ الْبَعْضَ الْمَنْسُوخَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُلُّ خِطَابٍ خُوطِبْت بِهِ، وَعَلِمْت أَنَّ فِيهِ خُصُوصًا أَوْ نَسْخًا وَلَمْ تَعْلَمْهُ، فَلَا تُقْدِمْ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّك لَا تَتَوَجَّهُ إلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ إلَّا تَعَادَلَ فِي نَفْسِك بِضِدِّهِ، فَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَلَا تُقْدِمْ عَلَيْهِ حَتَّى تَعْلَمَ الْمَرْفُوعَ مِنْ الثَّابِتِ.

التمسك بالعام ابتداء من غير طلب المخصص يحتمل معنيين

ثُمَّ قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ إذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهِ مَنْسُوخًا، لِأَنِّي لَا أَدْرِي هَلْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ النَّسْخِ وَاقِعٌ لِهَذَا أَوْ لِغَيْرِهِ، فَلَا أَتْرُكُ مَا ثَبَتَ أَمْرُهُ حَتَّى أَعْلَمَ خِلَافَهُ انْتَهَى. [التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْمُخَصِّصِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ] [اخْتِلَافُ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَحْدِيدِ مَذْهَبِ الصَّيْرَفِيِّ] وَإِنَّمَا حَكَيْت كَلَامَ الصَّيْرَفِيِّ بِنَصِّهِ لِعِزَّةِ وُجُودِ هَذَا الْكِتَابِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ أَغْلَاطٌ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْأَكَابِرِ فِي النَّقْلِ عَنْهُ، فَأَرَدْت الِاسْتِظْهَارَ فِي ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ بِأُمُورٍ: أَحَدِهَا: قَالُوا: إنَّ قَوْلَ الصَّيْرَفِيِّ: يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْمُخَصِّصِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ؛ أَحَدَهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَظُنَّ عُمُومَهُ إذْ ذَاكَ، إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ حُكْمًا وَالتَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ. وَالثَّانِيَ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ بِعُمُومِهِ إذْ ذَاكَ، لَكِنْ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي نَقْلًا عَنْهُ، فَأَغْلَظَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ. قُلْت: وَكَذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ نَصَبَ خِلَافَ الصَّيْرَفِيِّ فِي وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " وَلَمْ يَذْكُرُوا وُجُوبَ الْعَمَلِ، وَمَا سَكَتُوا عَنْهُ، فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُمْ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَمْ يُرِدْ الرَّجُلُ هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ اعْتِقَادَ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، قَالَ الْمُقْتَرِحُ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى " الْبُرْهَانِ ": وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ إنَّمَا أَرَادَ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ اهـ.

تفريع تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة

وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ فَرَضَ لِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً، وَجَعَلَ بَعْضَهَا مِنْ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَبَعْضَهَا مِنْ الْأَخِيرِ، فَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى، وَهِيَ أَنْ يُخَاطِبَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بِاللَّفْظِ الْعَامِّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَلَمْ يَخْتَرْ اعْتِقَادَ الْعُمُومِ بِخِلَافِهِ فِي الْحَالَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، فَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ اسْتَفَدْنَا مِنْهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَقْطُوعٌ، أَمَّا مُطْلَقُ اللَّفْظِ الْعَامِّ إنْ أَرَادَ بِهِ الْعُمُومَ فَلَا قَطْعَ فِيهِ: وَهَذَا الَّذِي اشْتَبَهَ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُفِيدُ الظَّنَّ أَحْكَامٌ مَعْلُومَةٌ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْمَقْطُوعَ بِهِ وُجُوبُ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَظْنُونَ مَعْلُومٌ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ صَوَّرَ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ، فَقَالَ: إذَا وَرَدَتْ الصِّيغَةُ الظَّاهِرَةُ فِي اقْتِضَاءِ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَمَلِ بِمُوجِبِهَا، فَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُتَعَبِّدِينَ اعْتِقَادُ عُمُومِهَا عَلَى جَزْمٍ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ فَذَاكَ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخُصُوصَ تَغَيُّرُ الْعَقْدِ انْتَهَى. وَالصَّوَابُ فِي النَّقْلِ عَنْهُ إطْلَاقُ الْعُمُومِ سَوَاءٌ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ أَوْ بَعْدَهُ؛ بَلْ هُوَ مُصَرَّحٌ بِالْعَمَلِ بِهِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ، وَنَقَلَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ " الْبَيَانِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ " وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ عَنْهُ الْجُمْهُورُ كَمَا سَبَقَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي كَلَامِهِمْ، وَلَمْ يُقَيِّدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ النَّقْلَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ. [تَفْرِيعٌ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ] [تَفْرِيعٌ] الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّ مِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَمَنْ ذَهَبَ إلَى إجْرَائِهِ عَلَى الْعُمُومِ قَبْلَ الْبَحْثِ

عَنْ الْمُتَخَصِّصِ كَالصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ بَيَانُ الْخُصُوصِ، إنْ كَانَ ثَمَّ مُرَادٌ كَمَا يَمْتَنِعُ تَأْخِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَمَنْ مَنَعَ اقْتِضَاءَ عُمُومِهِ، أَجَازَ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْوُرُودِ. وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: مَنْ ذَهَبَ إلَى الِاقْتِضَاءِ بِنَفْسِ السَّمَاعِ، قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ بَيَانُ الْخُصُوصِ إنْ كَانَ ثَمَّ مُرَادٌ، وَمَنْ أَبَى الْمُبَادَرَةَ إلَى الْإِمْضَاءِ جَوَّزَهُ وَكَذَا قَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأَصْلِ الصَّيْرَفِيِّ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ يَمْنَعُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، كَمَا سَبَقَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ. وَهَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْجُمْهُورُ، وَلَكِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَ عَنْهُ هُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ الرَّادِّينَ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِ، فَأَلْزَمَهُ التَّنَاقُضَ، فَقَالَ: الْقَوْلُ بِالْإِجْرَاءِ عَلَى الْعُمُومِ إنَّمَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ، أَمَّا مَنْ يُجَوِّزُهُ فَلَا، فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ وُرُودِ الْمُخَصِّصِ مَعَ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْعُمُومِ تَنَاقُضٌ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ صَرَّحَ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَنْعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مُسْتَقِيمٌ، وَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعِدَّةِ وَغَيْرُهُ. وَقَوْلُ الْإِمَامِ: إنَّهُ مِنْ الرَّادِّينَ عَلَى مَانِعِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِي تَصَانِيفِهِ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، نَعَمْ، سَيَأْتِي عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ رُجُوعُ الصَّيْرَفِيِّ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَلَمْ يَقِفْ جَمَاعَةٌ عَلَى تَحْرِيرِ النَّقْلِ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ فِي مَسْأَلَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، وَظَنُّوا صِحَّةَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْإِمَامُ فَأَخَذُوا فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: قَدْ أَغْلَظَ الْإِمَامُ الْقَوْلَ عَلَى الصَّيْرَفِيِّ، وَنَسَبَهُ إلَى الْغَبَاوَةِ، وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ، فَإِنَّهُ إمَامٌ جَلِيلٌ مَعَ إمْكَانِ تَأْوِيلِ كَلَامِهِ.

قَالَ الْمُقْتَرِحُ: لَا تَنَاقُضَ، لِعَدَمِ تَوَارُدِهِمَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَإِنَّ مَحَلَّ الِاعْتِقَادِ إنَّمَا هُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ، وَالتَّجْوِيزُ رَاجِعٌ إلَى تَبَيُّنِ مُرَادِ اللَّفْظِ. انْتَهَى. وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ كَلَامُهُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ لَا الِاعْتِقَادِ، وَالْإِمَامُ بَنَى اعْتِرَاضَهُ عَلَى أَنَّ كَلَامَ الصَّيْرَفِيِّ فِي الِاعْتِقَادِ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْرِيرُهُ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَزْمَ بِاعْتِقَادِ الْعُمُومِ إنَّمَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِ الْمَانِعِ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، بَلْ التَّنَاقُضُ الْمَذْكُورُ لَازِمٌ لَهُمْ أَيْضًا إلَّا مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ سَمَاعَ الْمُكَلَّفِ الْعَامِّ دُونَ الْخَاصِّ، فَإِنَّ التَّنَاقُضَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ لَا غَيْرُ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ وَإِنْ أَوْجَبُوا اتِّصَالَ الْمُخَصَّصِ بِالْعَامِّ فِي الْوُرُودِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يُوجِبُوا وُصُولَهُ إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ الْعَامُّ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَظْهَرَ الْمُخَصَّصُ لِلْمُكَلَّفِ بَعْدَ سَمَاعِ الْعَامِّ، وَإِنْ كَانَا عِنْدَ الْوُرُودِ مُقْتَرِنَيْنِ، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَالتَّجْوِيزِ كَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ بِالْعُمُومِ؟ [الْغَزَالِيُّ يَنْقُلُ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْبَحْثِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْعَامِّ] الْأَمْرُ الرَّابِعُ: قِيلَ: إنَّ الْغَزَالِيَّ خَالَفَ طَرِيقَةَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْحُكْمِ بِالْعُمُومِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْمُخَصِّصَةِ، لِأَنَّ الْعُمُومَ دَلِيلٌ بِشَرْطِ انْتِفَاءِ الْمُخَصِّصِ، وَالشَّرْطُ بَعْدُ لَمْ يَظْهَرْ، وَكَذَلِكَ كُلُّ دَلِيلٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ، وَذَلِكَ كَإِلْحَاقِ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ فِي الْقِيَاسِ، فَالْعِلَّةُ دَلِيلٌ بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ. وَقَدْ تَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، فَنَقَلَا الْإِجْمَاعَ عَلَى امْتِنَاعِ

الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُخَصَّصًا، وَغَلَّطَهُمَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي " شَرْحِ الْعِنْوَانِ " مُتَمَسِّكًا بِكَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّابِقِ وَمَنْ نَقَلَ الْخِلَافَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ لِمَزِيدِ الِاطِّلَاعِ. انْتَهَى. قُلْت: وَهَذَا لَا يُنَافِي نَقْلَ الْخِلَافِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ طَرِيقَةٌ فِي الْمَذْهَبِ قَاطِعَةٌ بِذَلِكَ، وَطَرِيقَةٌ حَاكِيَةٌ لِلْخِلَافِ، عَلَى أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ عَكَسَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، فَقَالَ: الْمَعْرُوفُ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَخِلَافُ الصَّيْرَفِيِّ إنَّمَا هُوَ فِي اعْتِقَادِ عُمُومِهِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِذَا ظَهَرَ مُخَصِّصٌ يَتَغَيَّرُ الِاعْتِقَادُ، هَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمَا. وَعَلَى هَذَا فَنَصْبُ الْخِلَافِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ غَلَطٌ بَلْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ: اعْتِقَادُ الْعُمُومِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافِ الصَّيْرَفِيِّ، وَامْتِنَاعُ التَّمَسُّكِ بِهِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ إجْمَاعٍ. وَاسْتَشْكَلَ آخَرُونَ الِاتِّفَاقَ عَلَى امْتِنَاعِ الْعَمَلِ مَعَ إيجَابِ الْبَعْضِ اعْتِقَادَ عُمُومِهِ، إذْ لَا يَظْهَرُ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِ عُمُومِهِ فَائِدَةٌ إلَّا الْعَمَلَ بِهِ فِعْلًا أَوْ كَفًّا، فَلَوْ قِيلَ: قَاتِلُوا الْكُفَّارَ، أَوْ اُقْتُلُوهُمْ، وَاعْتَقَدْنَا عُمُومَهُ، وَجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ فِي قِتَالِهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَ الْمُخَصِّصُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِ عُمُومِهِ فَائِدَةٌ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِي الْحَالَيْنِ،

وَمِمَّنْ نَصَبَ فِيهِمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " فَقَالَ: هَلْ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهَا وَالْعَمَلُ بِمُوجِبِهَا؟ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: يَجِبُ الْأَخِيرُ، وَقَدْ سَبَقَ تَوَهُّمُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ تَخْصِيصَ النَّقْلِ عَنْهُ بِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ": يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهَا فِي الْأَزْمَانِ وَالْأَعْيَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهَا وَالْعَمَلُ بِمُوجِبِهَا قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَأَيْضًا فَالْكُلُّ مُتَّفِقُونَ فِي النَّقْلِ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ، وَمَعَ الْجَزْمِ بِالْعُمُومِ يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّمَسُّكُ بِهِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ فِي مَنْعِ التَّمَسُّكِ بِهِ، وَكَيْفَ تُجْعَلُ مَسْأَلَةُ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ غَيْرَ مَسْأَلَةِ جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِهِ هُوَ لَازِمُهُ،، وَهَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّمَسُّكِ بِهِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ مِنْ وُجُوبِ اعْتِقَادِ عُمُومِهِ، ثُمَّ حِينَ ظُهُورِ الْمُخَصِّصِ يَتَغَيَّرُ الِاعْتِقَادُ، فَإِنَّهُ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ أَغْلَظَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَوْلَ فِيهِ بِسَبَبِهِ، بِخِلَافِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ ابْتِدَاءً فَإِنَّ لَهُ وَجْهًا وَجِيهًا. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": هُمَا مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْعَمَلِ، وَالْحَقُّ فِيهَا مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْعُمُومَ ظَاهِرٌ، وَالْعَمَلَ مَقْطُوعٌ بِهِ. وَثَانِيَتُهُمَا: عِنْدَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْغَزَالِيِّ، وَالْحَقُّ فِيهَا مَا اخْتَارَهُ. وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْهُجُومُ عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ دُونَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ. وَأَمَّا الْخِلَافُ الْمَحْكِيُّ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ فَهُوَ حُكْمُ مُقْتَضَى الْعُمُومِ ابْتِدَاءً، وَيَعْتَمِدُ عَلَى ظُهُورِ التَّخْصِيصِ ابْتِدَاءً، وَالْخِلَافُ فِي الْعَامِّ فِي إجْرَائِهِ عَلَى عُمُومِهِ، وَفِي الْخَاصِّ فِي إجْرَائِهِ

المذاهب في المدة التي يجب فيها البحث عن مخصص

عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِقْصَاءَ عَنْ الْمُخَصِّصِ أَوْجَبَ الْبَحْثَ عَنْ الْمُقْتَضَى بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ. وَهَكَذَا جَعَلَ الْهِنْدِيُّ خِلَافَ الصَّيْرَفِيِّ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ. قَالَ: فَإِنْ حَضَرَ وَقْتُهُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ إجْمَاعًا لَكِنْ مَعَ الْجَزْمِ بِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ عِنْدَ جَمْعٍ كَالْقَاضِي، وَمَعَ ظَنِّهِ عِنْدَ آخَرِينَ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْغَزَالِيِّ وَهُوَ الْأَوْلَى، انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ وَالْجُمْهُورَ أَطْلَقُوا النَّقْلَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ أَمْ لَا، وَنَقْلُهُ الْإِجْمَاعَ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَسْتَقِيمُ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ ابْنِ الصَّبَّاغِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إذَا حَضَرَ وَقْتُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ، فَقَدْ يَقْطَعُ الْمُكَلَّفُ بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ لِقَرَائِنَ تَتَوَفَّرُ عِنْدَهُ، فَيَصِيرُ الْعَامُّ كَالنَّصِّ، وَقَدْ لَا يَقْطَعُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْقَطْعِ، بَلْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْعُمُومُ فَيَعْمَلُ بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ كَمَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ. [الْمَذَاهِبُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْبَحْثُ عَنْ مُخَصِّصٍ] الْأَمْرُ الْخَامِسُ: إذَا أَوْجَبْنَا الْبَحْثَ عَنْ الْمُخَصِّصِ فَاخْتُلِفَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْبَحْثُ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ حَكَاهَا فِي " الْمُسْتَصْفَى ". أَحَدِهَا: يَكْفِيهِ أَدْنَى نَظَرٍ وَبَحْثٍ كَاَلَّذِي يَبْحَثُ عَنْ مَتَاعٍ فِي بَيْتٍ وَلَا يَجِدُهُ، فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُهُ. وَالثَّانِي: يَكْفِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِالِانْتِفَاءِ عِنْدَ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَحْثِ. وَالثَّالِثِ: لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ، وَلَا يَكْفِي الظَّنُّ. وَرَابِعِهَا: لَا بُدَّ مِنْ الْقَطْعِ بِانْتِفَاءِ الْأَدِلَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي،

وَالْقَطْعُ بِهِ مُمْكِنٌ، وَمَنَعَ غَيْرُهُ ذَلِكَ الْإِمْكَانَ، لِأَنَّ غَايَةَ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ الِاسْتِقْصَاءِ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الْوِجْدَانِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُودِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إلَّا الظَّنُّ بِعَدَمِ الْوُجُودِ لَا الْقَطْعُ بِعَدَمِهِ، لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الْأَدِلَّةِ، وَاحْتِمَالِ الشُّذُوذِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَكْفِي عَدَمُ وُجْدَانِ الْمُخَصِّصِ لِمُجْتَهِدٍ سَابِقٍ، وَلَا قَوْلُهُ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ خَاصًّا لَنَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا لِلْمُكَلَّفِينَ وَلْيَكْفِهِمْ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَرِيبٌ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ فَإِنَّ الْمُعْتَقِدَ أَيْضًا لَا يُجَوِّزُ النَّقِيضَ وَإِلَّا لَكَانَ ظَانًّا، لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْمُعْتَقِدَ عَلَى الثَّالِثِ يَكُونُ مُصِيبًا فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْغَلَطُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْقَاضِي يَرَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ لَا يَكُونُ مَطْلُوبًا فِي الشَّرِيعَةِ، قَالَهُ الْإِبْيَارِيُّ وَالْمُخْتَارُ وِفَاقًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ الْأَوَّلُ، فَقَالَ: عَلَيْهِ تَحْصِيلُ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ بِاسْتِقْصَاءِ الْبَحْثِ، أَمَّا الظَّنُّ فَبِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ فِي نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْقَطْعُ فَبِانْتِفَائِهِ فِي حَقِّهِ يَتَخَيَّرُ عَنْ نَفْسِهِ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ بَعْدَ بَذْلِ وُسْعِهِ، وَهَذَا الظَّنُّ بِالصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُخَابَرَةِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِصْحَابِ وَكُلُّ مَا هُوَ مَشْرُوطٌ بِنَفْيِ دَلِيلٍ آخَرَ. وَيَجْتَمِعُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، فَقَدْ قَالَ: الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ كِلَاهُمَا فِي الْأَقْضِيَةِ: لَيْسَ لِزَمَانِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَا يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إلَيْهِ مِنْ الرَّجَاءِ وَالْإِيَاسِ وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ: لَيْسَ لِمُدَّةِ الْبَحْثِ زَمَنٌ مُحَدَّدٌ، وَلَكِنَّهَا مَعْقُولَةٌ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا لَمْ يَجِدْ نَصًّا فِي الْحَادِثَةِ يَجْتَهِدْ حَتَّى يَجِدَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ زَمَنٌ مُحَدَّدٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْلُو آيَةً بِلَفْظٍ عَامٍّ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْعِبَهَا سَمَاعًا فَلَعَلَّهُ اسْتَثْنَى عَقِبَ الْكَلَامِ. فَإِذَا اسْتَوْعَبَهَا، وَلَمْ يَجِدْ فِيهَا اسْتِثْنَاءً وَلَا خُصُوصًا اعْتَقَدَ عُمُومَهَا، وَعَمِلَ بِمَا يُوجِبُهُ لَفْظُهَا.

وَلَيْسَ لِمُدَّةِ الِاسْتِمَاعِ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، وَلَكِنْ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ، فَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ آيَةً عَامَّةً نَظَرَ، وَلَا مُدَّةَ لِنَظَرِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانٍ يَخْطُرُ بِبَالِهِ مَا قَدْ عَلِمَهُ مِنْ الْأُصُولِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِهَا وَاحْتَاجَ إلَى التَّقْيِيدِ أَجْرَاهَا عَلَى الْعُمُومِ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ سَأَلَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا أَوْ ازْدَادَ فِي التَّأَمُّلِ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْأُصُولِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَتَنَبَّهَ بِهِ عَلَى خُصُوصٍ إنْ كَانَ فِيهَا كَمَا سَأَلَ الصَّحَابَةُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] وَقَالُوا أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وَسَأَلُوا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ قَوْلِهِ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَهُ كَرِهَ لِقَاءَهُ» فَقَالُوا أَيُّنَا لَا يَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ فَكَشَفَ لَهُمْ عَنْ الْمَعْنَى. وَلَيْسَ كُلُّ مَا قَدَرَ حَصْرُهُ بِمِقْدَارٍ، تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ، كَمَا تَقُولُ فِي التَّوَاتُرِ: أَنْ يَكُونَ عَدَدًا يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، قَالَ: وَفِي ذَلِكَ إبْطَالُ قَوْلِ مَنْ نَظَرَ إلَى إبْطَالِ النَّظَرِ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ لِجَهْلِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا النَّظَرُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ ": وَلَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ أَبَدًا؛ بَلْ هُوَ كَالْحَاكِمِ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ الْأَوَّلُ هُوَ الْوَاجِبُ دُونَ التَّكْرَارِ، كَالْمُجْتَهِدِ تَنْزِلُ بِهِ الْحَادِثَةُ. قَالَ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": الْمُوجِبُونَ لِلْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ، إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْ نَظَرِهِ فِيمَا تَأَخَّرَ مِنْ النُّصُوصِ، أَوْ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ مُرَاجَعَتُهُ مِمَّا سَتَعْرِفُهُ بِاحْتِمَالِ التَّخْصِيصِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ

مثار الخلاف في وجوب البحث عن مخصص أمران

التَّوَقُّفَ حَتَّى يَقَعَ عَلَى مَا لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ النُّصُوصِ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِ مَعَ قُرْبِ الْمُرَاجَعَةِ فَلَا يَصِحُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأَمْصَارِ مَا بَرِحُوا يُفْتُونَ بِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الْبَحْثِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْبِلَادِ عَمَّا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا. وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ بِالْوُجُوبِ إنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ مُمْكِنَةً لِكُلِّ أَحَدٍ حَصَلَتْ لَهُ أَدْنَى أَهْلِيَّةٍ، لِأَنَّا أَوَّلًا شَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اطِّلَاعَهُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ النُّصُوصِ زَائِدَةٍ لَا يَصِلُ إلَيْهَا مَنْ لَهُ أَدْنَى أَهْلِيَّةٍ. انْتَهَى. [مَثَارَ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْبَحْثِ عَنْ مُخَصِّصٍ أَمْرَانِ] [مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ] الْأَمْرُ السَّادِسُ: أَنَّ مَثَارَ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْبَحْثِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: عَدَمُ الْمُخَصِّصِ، هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْعُمُومِ أَوْ التَّخْصِيصُ مِنْ بَابِ الْمُعَارِضِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ يُؤْخَذَانِ مِمَّا سَبَقَ، وَكَمَا فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَالصَّيْرَفِيُّ يَقُولُ: إنَّ التَّخْصِيصَ مَانِعٌ [فَ] يَتَمَسَّكُ بِالْعُمُومِ مَا لَمْ يَنْتَهِضْ الْمَانِعُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَابْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ: عَدَمُهُ شَرْطٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ يَقُولُ: صِيَغُ الْعُمُومِ لَا تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِيعَابِ، إلَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ الْقَرَائِنِ، وَانْتِفَاءُ الْقَرَائِنِ شَرْطٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَحْثِ، هَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ صِيغَةٌ مُجَرَّدَةٌ، وَالتَّجَرُّدُ لَمْ يَثْبُتْ، قَالَ: وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: إذْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ شَاهِدَانِ لَا يَعْرِفُ حَالَهُمَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ السُّؤَالُ عَنْ عَدَالَتِهِمَا، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا قَبْلَ السُّؤَالِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الشَّاهِدَانِ مَعَ الْعَدَالَةِ، لَا الشَّاهِدُ فَقَطْ. انْتَهَى.

هل يؤول القول بوجوب البحث في المخصص إلى القول بالوقوف في صيغ العموم

[هَلْ يُؤَوَّلُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْبَحْثِ فِي الْمُخَصِّصِ إلَى الْقَوْلِ بِالْوُقُوفِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ] الْأَمْرُ السَّابِعُ: يَلْزَمُ عَلَى الْمُصَحِّحِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورِ الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ فَإِنَّا لَمْ نَعْتَقِدْ أَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ الْمُخَصِّصِ، فَقَدْ تَرَكَ الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ، وَصَارَ إلَى مَذْهَبِ الْوَاقِفِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا جَرَى ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ مِنْ الْوَاقِفِيَّةِ، فَقَالَ: غَلِطَ عَلَيْنَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمَذْهَبَيْنِ يَفْتَرِقَانِ، فَإِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ يُمْضِي الْعُمُومَ إذَا عَدِمَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: بِدَلَالَةِ غَيْرِ نَفْسِ الْكَلَامِ، قَالَ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَنَا؛ بَلْ نَقُولُ: اللَّفْظُ مُشْتَرَكٌ، وَلَا نَهْجُمُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِتَبَيُّنٍ وَبَحْثٍ، فَإِنْ وَجَدْنَا مَا يَخُصُّهُ عَمِلْنَا بِعُمُومِهِ، وَرَجَعْنَا إلَى نَفْسِ الْكَلَامِ بِالْقَرِينَةِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": بِنَاءُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى حَرْفٍ، وَهُوَ أَنَّ اعْتِقَادَ الْعُمُومِ عِنْدَنَا يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِالِاسْتِغْرَاقِ، وَالْقَوْلِ بِالْوَقْفِ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا اخْتَارَ هُوَ قَوْلَ الصَّيْرَفِيِّ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْوَاقِفِيَّةِ قَدْ اتَّفَقَ عَلَى تَرْكِ الْهُجُومِ عَلَى إمْضَاءِ الْكَلَامِ عَلَى الْعُمُومِ قَبْلَ الْبَحْثِ، إلَّا أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ يُمْضِيهِ عَلَى عُمُومِهِ إذَا عَدِمَ الدَّلَائِلَ الْخَاصَّةَ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، وَالْوَاقِفِيَّةِ يَقُولُونَ لَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ عَلَى خُصُوصِ حُكْمِ الِاسْتِيعَابِ. قَالَ إلْكِيَا فِي " الْمَدَارِكِ ": ظَنَّ الْوَاقِفِيَّةُ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ يُوَافِقُهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْأَلْفَاظُ تُطْلَقُ وَالْقَصْدُ مِنْهَا الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَهَا، فَيَكُونُ الْكَلَامُ عَامًّا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، وَقَدْ يَكُونُ عَامَّ اللَّفْظِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، فَإِذَا وَرَدَ فِي الْكَلَامِ نَظَرْنَا، فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ دَلَائِلُ تَدُلُّ

عَلَى أَنَّهُ لِمَعْنًى دُونَ مَعْنًى صُيِّرَ إلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا أُجْرِيَ عَلَى عُمُومِهِ. قَالَ: وَذَكَر الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " مَا يُومِئُ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ طَلَبُ الدَّلَائِلِ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَ الْحَتْمِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. عَلَى وُجُوبِ طَلَبِ الدَّلَائِلِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ مَوَاقِعِ الْكَلَامِ، وَلَمْ يَكِلْهُمْ إلَى نَفْسِ الْكَلَامِ. قَالَ: وَهَذَا الظَّنُّ غَلَطٌ، لِأَنَّ أَبَا الْحَسَن يَرَى أَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، وَالظَّاهِرُ يُفِيدُ الظَّنَّ، وَالظَّنُّ إنَّمَا يَنْتَفِي بِالْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصَاتِ، وَالْوَاقِفِيَّةُ لَا يَرَوْنَ عَامًّا لَا ظَاهِرًا وَلَا نَصًّا انْتَهَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: الْقَوْلُ بِالتَّوَقُّفِ عَلَى التَّخْصِيصِ لَيْسَ هُوَ بِقَوْلِ الْوَقْفِ، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ طَلَبُوا مَا يُمْنَعُ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا مَا يُوجِبُهُ عَمِلُوا بِظَاهِرِ لَفْظِهِ، وَأَصْحَابُ الْوَقْفِ طَلَبُوا دَلِيلَهُ الَّذِي يُبَيِّنُ مُرَادَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَمْ يَعْمَلُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ هَذَا بِآيِلٍ إلَى قَوْلِ الْوَقْفِ فِي الصِّيَغِ كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ يَقُولُ: إذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْأُصُولِ مَا يَخُصُّهُ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْأَشْعَرِيُّ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَيَتَوَقَّفُ فِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ، فَافْتَرَقَا. وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": نَحْنُ نُفَارِقُ الْوَاقِفِيَّةَ فِي الصِّيَغِ مِنْ وِجْهَتَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّا إذَا لَمْ نَجِدْ فِي الْأُصُولِ قَرِينَةَ التَّخْصِيصِ أُجْرِيَ اللَّفْظُ عَلَى عُمُومِهِ. وَالْأَشْعَرِيُّ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، لَكِنْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّا نَطْلُبُ الدَّلِيلَ لِإِخْرَاجِ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ، وَالْأَشْعَرِيُّ يَطْلُبُ الدَّلِيلَ لِمَعْرِفَةِ مَا هُوَ مُرَادٌ بِاللَّفْظِ، فَهُوَ لِبَيَانِ الْمُحَالِ دُونَ بَيَانِ الْعُمُومِ.

تقسيم الصيرفي العام إلى قسمين

[تَقْسِيمُ الصَّيْرَفِيِّ الْعَامَّ إلَى قِسْمَيْنِ] الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ قَسَّمَ الْعَامَّ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ، فَحُكْمُهُ الْعُمُومُ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَخُصُّهُ الدَّلِيلُ، وَلَا يُتْرَكُ شَيْءٌ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ إلَّا لَزِمَ حُكْمُهُ. الثَّانِي: مَا لَا يَقْدِرُ الْمُخَاطَبُ أَنْ يَأْتِيَ بِعُمُومِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا وَقَفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، إذْ الْكُلُّ مَعْجُوزٌ عَنْهُ كَقَوْلِنَا: لَا تَنَامُوا، وَلَا تَأْكُلُوا، وَلَا تَشْرَبُوا، فَهَذَا مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِيهِ دَائِمًا، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوَقُّفِ لِلْعَجْزِ عَنْ دَوَامِ ذَلِكَ، وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْظَرُهَا، أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ الَّذِي نَهَى عَنْهُ أَبَدًا، حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهِ. هَذَا كَلَامُهُ. [الْبَحْثُ عَنْ مُخَصِّصٍ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ] الْأَمْرُ التَّاسِعُ: أَطْلَقُوا الْخِلَافَ لِيَشْمَلَ مَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ؛ وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ " عُدَّةِ الْعَالِمِ " لَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: إنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إنْ اقْتَضَى عَمَلًا مُؤَقَّتًا وَضَاقَ الْوَقْتُ: عَنْ طَلَبِ الْخُصُوصِ، فَهَلْ يَعْمَلُ بِهِ أَوْ يَتَوَقَّفُ؟ قَالَ: فِيهِ خِلَافٌ لِأَصْحَابِنَا. وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا سَبَقَ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ هَلْ يُقَلِّدُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ؟ جَوَّزَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتَى بِهِ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ وَأَوْلَى. وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي الْقَضَاءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَمَنْ قَالَ بِهِ فَقِيَاسُهُ طَرْدُهُ فِي الْفَتْوَى. الْأَمْرُ الْعَاشِرُ: أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَا يَخْتَصُّ بِالْعُمُومِ، بَلْ يَجْرِي فِي لَفْظِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إذَا وَرَدَا مُطْلَقَيْنِ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ "، وَكَذَلِكَ الْحَقِيقَةُ إذَا

وَرَدَتْ: هَلْ يُطْلَبُ لَهَا مَجَازٌ أَمْ لَا؟ وَعَمَّمَهُ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي كُلِّ دَلِيلٍ مَعَ مُعَارِضِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَكَذَلِكَ كُلُّ دَلِيلٍ يُمْكِنُ أَنْ يُعَارِضَهُ دَلِيلٌ، فَهُوَ دَلِيلٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِعِلَّةٍ تُحِيلُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْقَدِحَ فَرْقٌ، فَعَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْفَوَارِقِ جَهْدَهُ، وَنَفْيِهَا، ثُمَّ يَحْكُمُ بِالْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِصْحَابُ، وَكُلُّ مَا هُوَ مَشْرُوطٌ بِنَفْيِ دَلِيلٍ آخَرَ. انْتَهَى. لَكِنْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ هُنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عِنْدَ سَمَاعِ الْحَقِيقَةِ طَلَبُ الْمَجَازِ، وَإِنْ وَجَبَ عِنْدَ سَمَاعِ الْعَامِّ الْبَحْثُ عَنْ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ تَطَرُّقَ التَّخْصِيصِ إلَى الْعُمُومَاتِ أَكْثَرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ اسْتِدْلَالِ الْبَيْضَاوِيِّ فِي " الْمَنَاهِجِ "، وَسَبَقَ فِي بَحْثِ الْحَقِيقَةِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ كَلَامَ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذَا الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ فِي التَّوَقُّفِ لِأَجْلِ طَلَبِ التَّخْصِيصِ خَاصَّةً، وَأَمَّا الْإِمْضَاءُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَعْلِيقِهِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي: إنَّ الْقَاضِيَ يَتَوَقَّفُ فِي أَحْوَالِ الشُّهُودِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ لِطَلَبِ الْجُرْحِ أَوْ طَلَبِ الْعَدَالَةِ وَجْهَانِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعُمُومِ إذَا وَرَدَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: ظَاهِرُ الِاسْتِغْرَاقِ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتَوَقَّفُ فِيهِ طَلَبًا لِلتَّخْصِيصِ لَا طَلَبًا لِلْإِمْضَاءِ. انْتَهَى. وَبِهَذَا التَّصْوِيرِ يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَإِذَا انْضَمَّ إلَى مَا سَبَقَ خَرَجَ فِي الْمَسْأَلَةِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ.

مسألة الصورة النادرة هل تدخل تحت العموم

[مَسْأَلَةٌ الصُّورَةُ النَّادِرَةُ هَلْ تَدْخُلُ تَحْتَ الْعُمُومِ] اخْتَلَفُوا فِي الصُّوَرِ النَّادِرَةِ هَلْ تَدْخُلُ تَحْتَ الْعُمُومِ لِصِدْقِ اللَّفْظِ عَلَيْهَا أَوْ لَا، لِأَنَّهَا لَا تَخْطِرُ بِالْبَالِ غَالِبًا؟ وَبَنَى عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْفِيلِ، فَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ: «لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ» . وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهُ قَالَ: فِي " الْبَسِيطِ " فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ: لَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ أَوْ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ، جَازَ دَفْعُ الْخُنْثَى، وَفِي وَجْهٍ لَا يُجْزِئُ، لِأَنَّهُ نَادِرٌ لَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْعُمُومَ يَتَنَاوَلُهُ. هَذَا لَفْظُهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ دُخُولِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ الشَّاذُّ يَجِيءُ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ. وَلَا يُرَادُ عَلَى الْخُصُوصِ بِالصِّيغَةِ الْعَامَّةِ انْتَهَى. وَقَطَعَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِ الْعُمُومِ، فَقَالَ: إنَّ الْعُمُومَ إذَا وَرَدَ وَقُلْنَا بِاسْتِعْمَالِهِ، فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْغَالِبَ دُونَ الشَّاذِّ النَّادِرِ الَّذِي لَا يَخْطِرُ بِبَالِ الْقَائِلِ، كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ الزِّنَى مِنْ كِتَابِهِ " الْقَبَسِ "، لَكِنْ حَكَى الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ خِلَافًا فِيمَا إذَا أَوْصَى لِعَبْدٍ

مُبَعَّضٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْأَكْسَابَ النَّادِرَةَ: هَلْ تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ؟ ثُمَّ قَالَ: وَتَرَدَّدَ الْإِمَامُ فِيمَا إذَا صَرَّحَا بِإِدْرَاجِ الْأَكْسَابِ النَّادِرَةِ فِي الْمُهَايَأَةِ أَنَّهَا تَدْخُلُ لَا مَحَالَةَ أَوْ تَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ؟ وَفِيمَا إذَا عَمَّتْ الْهِبَاتُ وَالْوَصَايَا فِي قُطْرٍ أَنَّهَا تَدْخُلُ لَا مَحَالَةَ كَالْأَكْسَابِ الْعَامَّةِ، أَوْ هِيَ عَلَى الْخِلَافِ؟ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا النُّدُورُ. انْتَهَى. وَيَجِيءُ مِثْلُ هَذَا فِيمَا لَوْ عَمَّ بَعْضُ النَّادِرِ فِي قُطْرٍ، هَلْ يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ؟ وَقَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لِذِكْرِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقِيلَ: إنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ حَكَاهُ، وَلَمْ أَرَهُ فِي كُتُبِهِ. وَإِنَّمَا حَكَوْا فِي بَابِ التَّأْوِيلِ الْخِلَافَ فِي تَنْزِيلِ الْعَامِّ عَلَى الصُّورَةِ النَّادِرَةِ بِخُصُوصِهَا، فَنَقَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ لَا يُخَصَّصُ: أَنَّ الصُّورَةَ النَّادِرَةَ بَعِيدَةٌ عَنْ الْبَالِ عِنْدَ إطْلَاقِ الْمَقَالِ، وَلَا تَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ لَا يَجُوزُ تَنْزِيلُهُ عَلَيْهَا، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِكَوْنِهَا غَيْرَ مَقْصُودَةٍ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ لِعَدَمِ خُطُورِهَا بِالْبَالِ. قَالَ: وَبَنَى عَلَى هَذَا أَصْحَابُنَا كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ: مِنْهَا: أَنَّهُمْ أَبْطَلُوا حَمْلَ أَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، وَقَالُوا الْمُكَاتَبَةُ نَادِرَةٌ مِنْ نَادِرٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النِّسَاءِ الْحَرَائِرُ، وَالْإِمَاءُ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ

إلَيْهِنَّ، وَالْمُكَاتَبَاتُ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِمَاءِ، فَلَا يَجُوزُ تَنْزِيلُ الْعَامِّ عَلَيْهَا. وَذَكَرَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلًا، فَقَالَ: تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالصُّورَةِ النَّادِرَةِ إنْ تَقَدَّمَ عَهْدٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَمْ يَبْعُدْ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَيُّمَا رَجُلٍ دَخَلَ الدَّارَ أَكْرِمْهُ، ثُمَّ يَقُولُ: عَنَيْت بِهِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ خَوَاصِّي وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ سَبْقُ عَهْدٍ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ: يَجُوزُ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ بِهِ اتِّكَالًا عَلَى احْتِمَالِ اللَّفْظِ الْقَرَائِنَ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إزَالَةُ الظَّاهِرِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ حِكَايَاتٍ وَقَرَائِنَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْلَمُ عَنْهُ حَدِيثٌ؛ وَبِالْجُمْلَةِ فَيُمْكِنُ أَخْذُ الْخِلَافِ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا، لِأَنَّ جَوَازَ التَّخْصِيصِ فَرْعُ شُمُولِ اللَّفْظِ. وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إطْلَاقَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ: لَا يَتَبَيَّنُ لِي فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَكَيْفَ يُقَالُ: لَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ الْخُطُورِ بِبَالِ الْعَرَبِ فِي مُخَاطَبَاتِهَا، فَإِذَا كَانَتْ عَوَائِدُهُمْ إطْلَاقَ الْعَامِّ الَّذِي يَشْمَلُ وَضْعًا، صُورَةً لَا تَخْطِرُ عِنْدَ إطْلَاقِهِمْ غَالِبًا بِبَالِهِمْ، فَوَرَدَ ذَلِكَ الْعَامُّ فِي كَلَامِ الْبَارِي تَعَالَى، قُلْنَا: إنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ تِلْكَ الصُّورَةَ، لِأَنَّهُ أَنْزَلَ كِتَابَهُ عَلَى أُسْلُوبِ [الْعَرَبِ] فِي مُحَاوَرَاتِهَا وَعَادَاتِهَا فِي الْخِطَابِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ فِي بَابِ الْمُسَابَقَةِ: كَلَامُ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ مَا خَطَرَ لَا لِلَّافِظِ بِهِ حِينَ النُّطْقِ بِهِ، وَهَذَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا قُلْنَا: إنَّ جَمِيعَ مَا يَقُولُهُ عَنْ وَحْيٍ وَاجْتِهَادٍ، أَمَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ جَمِيعَ مَا يَقُولُهُ عَنْ وَحْيٍ، فَلَا يَظْهَرُ اعْتِبَارُهُ، لِأَنَّ مُوحِيَهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ. وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ.

مسألة هل يدخل في العموم ما يمنع دليل العقل من دخوله

الثَّانِي: أَطْلَقُوا هَذَا الْخِلَافَ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَدُومَ، فَإِنْ دَامَ دَخَلَ قَطْعًا، لِأَنَّ النَّادِرَ الدَّائِمَ يَلْحَقُ بِالْغَالِبِ. ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ فِيمَا ظَهَرَ انْدِرَاجُهُ فِي اللَّفْظِ، وَلَمْ يُسَاعِدْهُ الْمَعْنَى، أَمَّا إذَا سَاعَدَهُ فَيَحْتَمِلُ الْقَطْعَ فِيهِ بِالدُّخُولِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ خِلَافٌ مِنْ الْخِلَافِ فِي بَيْعِ الْأَبِ مَالَ وَلَدِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَبِالْعَكْسِ، هَلْ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: لَا فَإِنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ، وَهُوَ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَالْوَلِيُّ قَدْ تَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ، وَأَصَحُّهُمَا الثُّبُوتُ، فَإِنَّهُ بَيْعٌ مُحَقَّقٌ، وَغَرَضُ الشَّارِعِ إثْبَاتُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا خَصَّصَ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالذِّكْرِ إجْرَاءً لِلْكَلَامِ عَلَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، كَذَا وَجَّهَهُ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ ". [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ مَا يَمْنَعُ دَلِيلُ الْعَقْلِ مِنْ دُخُولِهِ] مَسْأَلَةٌ وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ مَا يَمْنَعُ دَلِيلُ الْعَقْلِ مِنْ دُخُولِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: اضْرِبْ كُلَّ مَنْ فِي الدَّارِ؟ فِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ مَرْجِعَ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُهُ، إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ يُوجِبُ إخْرَاجَهُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْهُ لِسُقُوطِهِ فِي نَفْسِهِ، وَاللَّفْظُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ أَصْلًا، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ الصُّوَرُ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ] مَسْأَلَةٌ وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ الصُّوَرُ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا

الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " وَقَالَ: ذَهَبَ مُتَقَدِّمُو أَصْحَابِنَا إلَى وُجُوبِ وَقْفِ الْعُمُومِ عَلَى مَا قَصَدَ بِهِ، وَأَنْ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَتْ الصِّيغَةُ تَقْتَضِيهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا إلَى مَنْعِ الْوَقْفِ فِيهِ، وَوُجُوبِ إجْرَائِهِ عَلَى مُوجِبِهِ لُغَةً. قَالَ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلَى قَوْلِهِ: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] عَلَى إبَاحَةِ كُلِّ نَوْعٍ مُخْتَلَفٍ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ، أَوْ شُرْبِ بَعْضِ مَا يَخْتَلِفُ فِي شُرْبِهِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ فِي لَيْلَةِ الصِّيَامِ لَا يَحْرُمُ بَعْدَ النَّوْمِ نَسْخًا لِمَا تَقَدَّمَ. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الْآيَةَ، عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي نَذْرٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ أَوْ نَوْعٍ مُخْتَلَفٍ فِي تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِ، وَكَذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِالْخِطَابِ الْخَارِجِ عَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَنَحْوِهِ. قُلْت: وَسَتَأْتِي تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ بِ " الْعَامِّ بِمَعْنَى الْمَدْحِ، وَالذَّمُّ هَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ لَا؟ فَهِيَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ، فَيُعَابُ عَلَى مَنْ ذَكَرَهُمَا فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ تَنْبِيهٍ إلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى وَقْفَهُ عَلَى مَا قَصَدَ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ عَامٍّ، وَلِهَذَا مَنَعَ الزَّكَاةَ فِي الْحُلِيِّ مَنَعَ التَّمَسُّكَ فِي الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] لِأَنَّ الْعُمُومَ لَمْ يَقَعْ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا وَقَعَ هُنَا قَرِينَةَ الذَّمِّ، وَقَرِينَةُ الذَّمِّ أَخْرَجَتْهُ عَنْ الْعُمُومِ، وَالْحَنَفِيَّةُ يَمِيلُونَ إلَيْهِ، وَيَبْنُونَ عَلَيْهِ أُصُولًا فِي بَابِ

الْوَقْفِ، وَاسْتَنْبَطَ ابْنُ الرِّفْعَةِ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي " الْفَتَاوَى " أَنَّ الْمَقَاصِدَ تُعْتَبَرُ، أَعْنِي مَقَاصِدَ الْوَاقِفِينَ فَيَتَخَصَّصُ بِهَا الْعُمُومُ، وَيَعُمُّ بِهَا الْخُصُوصُ. تَنْبِيهٌ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّهَا لَا تُتَصَوَّرُ فِي كَلَامِ اللَّهِ الْمُنَزَّهِ عَنْ الْغَفْلَةِ وَالْقَائِلُ بِعَدَمِ الدُّخُولِ، قَالَ بِعَدَمِ خُطُورِهَا بِالْبَالِ، وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا. وَجَوَابُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَأْتِيَ الْعَرَبِيُّ بِلَفْظٍ عَامٍّ عَلَى قَصْدِ التَّعْمِيمِ مَعَ ذُهُولِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا مُعْتَادًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، كَذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَكُونَانِ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ الرَّجَا " بِلَعَلَّ، وَعَسَى "، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ ذَلِكَ نَزَلَ مُرَاعَاةً لِلُغَتِهِمْ. قَاعِدَةٌ ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ التَّأْوِيلِ، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ تَقْسِيمًا نَافِعًا، وَزَادَهُ وُضُوحًا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ بِوَضْعِ اللُّغَةِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ. إحْدَاهَا: مَا ظَهَرَ. مِنْهُ قَصْدُ التَّعْمِيمِ بِقَرِينَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى اللَّفْظِ مَقَالِيَّةٍ أَوْ حَالِيَّةٍ بِأَنْ أَوْرَدَ مُبْتَدَأً لَا عَلَى سَبَبٍ، لِقَصْدِ تَأْسِيسِ الْقَوَاعِدِ، فَلَا إشْكَالَ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى عُمُومِهِ. قَالَ إلْكِيَا: وَالْقَرَائِنُ إمَّا أَنْ تَنْشَأَ عَنْ غَيْرِ اللَّفْظِ

كَالنَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالتَّعْلِيلِ، فَإِنَّهُ أَمَارَةُ الْحُكْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِمَّا أَنْ يَنْشَأَ مِنْ اتِّسَاقِ الْكَلَامِ وَنَظْمِهِ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ مِنْهُ قَصْدُ الْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» بَعْدَ أَنْ قَسَّمَ الْبَابَيْنِ قِسْمَيْنِ. الثَّانِيَةُ: مَا يَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ فِيهِ التَّعَرُّضُ لِحُكْمٍ آخَرَ، وَأَنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ قَصْدِ الْعُمُومِ، فَهَلْ يَتَمَسَّكُ بِعُمُومِهِ، إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إرَادَةِ اللَّفْظِ بِغَيْرِهِ؟ أَوْ يُقَالُ: لَا، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ مُجْمَلٌ، فَيَتَبَيَّنُ مِنْ الْجِهَةِ الْأُخْرَى فِيهِ؟ قَوْلَانِ. قَالَ إلْكِيَا: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِعُمُومِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ} [التوبة: 34] ، لِأَنَّ الْعَرَبَ مَا وَضَعَتْ لِلْوَعِيدِ لَفْظًا أَحْسَنَ مِنْهُ. وَمَثَّلَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» ، فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، لَكِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ قَدْرِ الْمُخْرَجِ، لَا قَدْرِ الْمُخْرَجِ مِنْهُ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: «لَيْسَ فِيمَا

دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ» ، فَهَذَا لَا عُمُومَ لَهُ فِي قَصْدِهِ، وَالْحَنَفِيُّ يَحْتَجُّ بِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَرْثِ، سَوَاءٌ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، وَالسِّيَاقُ لَا يَقْتَضِيهِ. قَالَ الشَّيْخُ: وَالتَّحْقِيقُ عِنْدِي أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا قُصِدَ بِهِ، وَمَرَاتِبُ الضَّعْفِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ وَتَعَيُّنِ الْمَقْصُودِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَرَائِنَ، وَتَضْعُفُ تِلْكَ الْقَرِينَةُ عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْعُمُومِ، وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا أَنَّ مَا كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ يَخْرُجُ عَنْهُ بِذَلِكَ قَرِينَةُ الْحَالِ، لَا يَكُونُ فِي قَرِينَةِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ الْعُمُومُ عَنْ الْمَقْصُودِ، وَهَذِهِ هِيَ مَسْأَلَةُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الَّتِي حَكَى فِيهَا الْخِلَافَ فِي وَقْفِ الْعُمُومِ عَلَى الْمَقْصُودِ وَعَدَمِهِ. الثَّالِثَةُ: مَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَرِينَةٌ زَائِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ وَلَا عَلَى عَدَمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] فَيَحْتَجُّ بِهِ عَلَى إبْطَالِ شِرَاءِ

الْكَافِرِ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ نَفْيُ السَّبِيلِ قَطْعًا وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُرَادَ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَالْمَنْعُ مِنْهُ ظَاهِرٌ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْوَاجِبُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنَّهُ إذَا أُوِّلَ وَعُضِّدَ بِقِيَاسِ اتِّبَاعِ الْأَرْجَحِ فِي الظَّنِّ، فَإِنْ اسْتَوَيَا وَقَفَ الْقَاضِي. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هِيَ لِلْإِجْمَالِ أَقْرَبُ مِنْ الْعُمُومِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] فِي التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى إيجَابِ الْوِتْرِ، وَبِالْآيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَكَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] ، فَإِنَّ إيجَابَ الْقِصَاصِ تَسْوِيَةٌ. قَالَ: فَلَفْظُ الْخَيْرِ وَالسَّبِيلِ وَالِاسْتِوَاءِ إلَى الْإِجْمَالِ أَقْرَبُ. قَالَ: وَلَيْسَ مِنْهُ «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» ، خِلَافًا لِقَوْمٍ مَنَعُوا التَّمَسُّكَ بِعُمُومِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَنِصْفِهِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ صِيغَتَهُ عَامَّةٌ، لِأَنَّهَا مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ السَّبِيلِ وَالْخَيْرِ وَالِاسْتِوَاءِ، نَعَمْ تَرَدَّدَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] أَنَّهُ عَامٌّ أَوْ مُجْمَلٌ؟ وَسَنَذْكُرُهُ ذَيْلَ الْكَلَامِ فِي تَعْمِيمِ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُفْرَدِ.

فصل في تقسيم صيغ العموم

[فَصْلٌ فِي تَقْسِيمِ صِيَغِ الْعُمُومِ] الَّذِي يُفِيدُ الْعُمُومَ إمَّا أَنْ يُفِيدَهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ أَوْ الْعُرْفِ أَوْ الْعَقْلِ. [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: صِيَغُ الْعُمُومِ الَّتِي تُفِيدُ الْعُمُومَ لُغَةً] وَالْأُولَى: عَلَى ضَرْبَيْنِ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُفِيدَهُ بِنَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لَهُ أَوْ بِوَاسِطَةِ اقْتِرَانِ قَرِينَةٍ بِهِ. وَالْأَوَّلُ: أَعْنِي الَّذِي يَدُلُّ بِنَفْسِهِ نَوْعَانِ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمْعِ الْمَفْهُومَاتِ كَلَفْظِ " كُلِّ، وَجَمِيعِ، وَأَيِّ " فِي حَالِ الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ شَامِلًا لِلْكُلِّ، فَإِمَّا أَنْ يُخَصَّصَ بِأُولِي الْعِلْمِ كَلَفْظِ " مَنْ " شَرْطًا أَوْ اسْتِفْهَامًا، فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْعُقَلَاءِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِمْ لِلتَّغَلُّبِ أَوْ غَيْرِهِ؛ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِغَيْرِ الْعَالَمِينَ، فَإِمَّا أَنْ يَعُمَّهُمْ أَوْ يَخْتَصَّ بِبَعْضِهِمْ؛ وَالْأَوَّلُ " مَا " الِاسْمِيَّةُ، فَإِنَّهَا تُفِيدُ الْعُمُومَ إذَا كَانَتْ مَعْرِفَةً، نَحْوُ هَاتِ مَا رَأَيْت، فَتُفِيدُ الْعُمُومَ فِيمَا عَدَا الْعَالَمِينَ مِنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْجَمَادِ وَالْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: إنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْعَالَمِينَ أَيْضًا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] وَنَحْوِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَصَّ عُمُومُ بَعْضِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالْأَمْكِنَةِ. نَحْوُ: أَيْنَ تَجْلِسْ أَجْلِسْ، وَمِنْهُ " حَيْثُ "، أَوْ بِالْأَزْمِنَةِ نَحْو: مَتَى تَقُمْ أَقُمْ. الثَّانِي: مَا يُفِيدُ الْعُمُومَ لُغَةً لَا بِالْوَضْعِ، بَلْ بِوَاسِطَةِ قَرِينَةٍ، فَهُوَ إمَّا فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ كَ " لَامِ " التَّعْرِيفِ الَّتِي لَيْسَتْ لِلْعَهْدِ، وَلَامُ التَّعْرِيفِ

إنَّمَا تُفِيدُ الْجِنْسَ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمُوعِ أَوْ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ الْمُفْرَدِ، وَالْجَمْعِ الْمُضَافِ لِهَذَيْنِ، نَحْوُ عَبِيدِي أَحْرَارٌ وَعَبْدِي حُرٌّ، وَإِمَّا فِي جَانِبِ الْعَدَمِ، وَهِيَ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الَّذِي يُفِيدُ الْعُمُومَ عُرْفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَإِنَّهُ يُفِيدُ فِي الْعُرْفِ تَحْرِيمَ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ بِالزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ مُجَرَّدِ اللُّغَةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الَّذِي يُفِيدُهُ بِطَرِيقِ الْعَقْلِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدِهَا: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ وَلِعِلَّتِهِ. إمَّا بِصَرَاحَتِهِ وَإِمَّا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْإِيمَاءَاتِ، فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ أَيْنَمَا ثَبَتَ الْعِلَّةُ. وَثَانِيهِمَا: مَا يُذْكَرُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ السَّائِلِ، كَمَا إذَا سُئِلَ عَمَّنْ أَفْطَرَ، فَقِيلَ: مَنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، فَيَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مُفْطِرٍ عَلَيْهِ مِثْلُهَا. ثَالِثِهَا: مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومٍ عَلَى أَنَّ مَطْلَ غَيْرِ الْغَنِيِّ لَيْسَ بِظُلْمٍ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ، وَلَا يَخْلُو

بَعْضُهُ عَنْ نِزَاعٍ وَلَيْسَ شَامِلًا لِجَمِيعِ الصِّيَغِ كَمَا سَيَأْتِي سَرْدُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ " مَنْ وَمَا " لَا يُفِيدَانِ أَيْضًا الْعُمُومَ إلَّا بِاسْتِضَافَةِ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهِمَا، إمَّا الصِّلَةِ إنْ كَانَتَا مَوْصُولَيْنِ، أَوْ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُمَا إنْ كَانَتْ اسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ، أَوْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ إنْ كَانَا لِلشَّرْطِ، وَلَوْ نَطَقَ وَاحِدٌ " بِمَنْ، وَمَا " وَحْدَهَا، لَمْ يُفِدْ كَلَامُهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ " كُلُّ، وَجَمِيعُ " فَلَا بُدَّ مِنْ إضَافَةِ لَفْظٍ إلَيْهِمَا حَتَّى يَحْصُلَ الْعُمُومُ. وَهُوَ اعْتِرَاضٌ عَجِيبٌ، لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ إفَادَةُ الْعُمُومِ عَلَيْهِمَا، إنَّمَا يَتَوَقَّفُ مُطْلَقُ الْإِفَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِصِيَغِ الْعُمُومِ بَلْ بِجَمِيعِ التَّرَاكِيبِ. وَذَكَرَ النَّقْشَوَانِيُّ فِي مُلَخَّصِهِ " أَنَّ الْمُفِيدَ لِلْعُمُومِ لَا يَخْرُجُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةٍ " كَجَمِيعِ، وَكُلِّ، وَمَتَى، وَمَا " وَإِمَّا بِزِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِهِ كَالْمُعَرَّفِ بِ " لَامِ " الْجِنْسِ مِنْ الْجُمُوعِ وَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، أَوْ بِزِيَادَةٍ مُنْفَصِلَةٍ يَعْنِي عَنْ الْكَلِمَةِ أَوْ بِ " لَا " النَّافِيَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ النَّفْيِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قِسْمَانِ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُفِيدَ الْعُمُومَ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَجْمُوعًا وَالْمَعْنَى مُسْتَوْعَبًا، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مُفْرَدٌ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ لَا كَالنِّسَاءِ، وَإِمَّا عَامٌّ بِمَعْنَاهُ فَقَطْ، بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُفْرَدًا مُسْتَوْعَبًا لِكُلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ عَامٌّ بِصِيغَةٍ فَقَطْ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَعْنَى، وَهَذَا الْعَامُّ مَعْنَاهُ: إمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ مَجْمُوعَ الْأَفْرَادِ " كَالْقَوْلِ وَالرَّهْطِ "، وَإِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ نَحْوُ " مَنْ، وَمَا ".

الصيغة الأولى كل

[الصِّيغَةُ الْأُولَى كُلُّ] ُّ " وَمَدْلُولُهَا الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ إنْ أُضِيفَتْ إلَى النَّكِرَةِ، أَوْ الْأَجْزَاءِ إنْ أُضِيفَتْ إلَى مَعْرِفَةٍ، وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ، وَالْكَلَالَةُ لِإِحَاطَتِهَا بِالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَمَعْنَاهَا التَّأْكِيدُ لِمَعْنَى الْعُمُومِ، وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: لَيْسَ بَعْدَهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَلِمَةٌ أَعَمُّ مِنْهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَقَعَ مُبْتَدَأً بِهَا أَوْ تَابِعَةً، تَقُولُ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَجَاءَنِي الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَيُفِيدُ أَنَّ الْمُؤَكَّدَ بِهِ عَامٌّ. وَهِيَ تَشْمَلُ الْعَاقِلَ وَغَيْرَهُ، وَالْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ، وَالْمُفْرَدَ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعَ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ أَقْوَى صِيَغِ الْعُمُومِ، وَتَكُونُ فِي الْجَمِيعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. تَقُولُ: كُلُّ النَّاسِ، وَكُلُّ الْقَوْمِ، وَكُلُّ رَجُلٍ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ: كُلُّ رَجُلٍ: كُلُّ رِجَالٍ، فَأَقَامُوا رَجُلًا مَقَامَ رِجَالٍ، لِأَنَّ رَجُلًا شَائِعٌ فِي الْجِنْسِ. وَالرِّجَالُ الْجِنْسُ، وَلَا يُؤَكَّدُ بِهَا الْمُثَنَّى اسْتِغْنَاءً عَنْهُ " بِكِلَا، وَكِلْتَا " وَلَا يُؤَكَّدُ بِهَا إلَّا ذُو أَجْزَاءَ، فَلَا يُقَالُ: جَاءَ زَيْدٌ كُلُّهُ، قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: وَالضَّابِطُ أَنَّهَا إمَّا أَنْ تُضَافَ لَفْظًا، أَوْ تُجَرَّدَ عَنْ الْإِضَافَةِ، وَإِذَا أُضِيفَتْ فَإِمَّا إلَى مَعْرِفَةٍ أَوْ إلَى نَكِرَةٍ، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ تُضَافَ إلَى النَّكِرَةِ، فَيَتَعَيَّنُ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى فِيمَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ، فِيمَا لَهَا مِنْ ضَمِيرٍ وَخَبَرٍ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهَا مُفْرَدًا فَمُفْرَدًا وَمُثَنَّى

فَمُثَنًّى، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ وَالتَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] . وَمَعْنَى الْعُمُومِ فِي هَذَا الْقِسْمِ كُلُّ فَرْدٍ لَا الْمَجْمُوعُ، فَإِذَا قِيلَ: كُلُّ رَجُلٍ، فَمَعْنَاهُ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ الرِّجَالِ، وَقَدْ يَكُونُ الِاسْتِغْرَاقُ لِلْجُزْئِيَّاتِ بِمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ النَّكِرَةِ، قَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَجْمُوعِ لَازِمًا، كَقَوْلِهِ: «كُلُّ مُشْرِكٍ مَقْتُولٌ» ، «وَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» ، وَقَدْ لَا يَلْزَمُ، كَقَوْلِنَا: كُلُّ رَجُلٍ يُشْبِعُهُ رَغِيفٌ. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ مَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ مَشْرُوطٌ بِمَا إذَا كَانَ فِي جُمْلَتِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى جَازَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى لَفْظِهَا أَوْ عَلَى مَعْنَاهَا، كَقَوْلِهِ: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ - يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية: 7 - 9] ، فَرَاعَى الْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ لِكَوْنِهِ فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَرِدُ اعْتِرَاضُ الشَّيْخِ أَبِي حَيَّانَ عَلَى الْقَاعِدَةِ بِبَيْتِ عَنْتَرَةَ:

جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ حَيْثُ قَالَ: فَتَرَكْنَ، وَقِيَاسُ مَا قَالُوا: تَرَكَتْ، وَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ، وَلِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْعُيُونِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا كُلُّ عَيْنٍ، وَلَا يَعُودُ عَلَى كُلِّ عَيْنٍ لِيُفِيدَ أَنَّ تَرْكَ كُلِّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ نَاشِئٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْعُيُونِ، لَا عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ. الثَّانِي: أَنْ يُضَافَ إلَى الْمَعْرِفَةِ، وَالْأَكْثَرُ مَجِيءُ خَبَرِهَا مُفْرَدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] . وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ» ، وَقَوْلِهِ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وَيَجُوزُ الْجَمْعُ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ يَقْتَضِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ، وَأَنَّ دَلَالَتَهَا فِيهِ كُلِّيَّةٌ، وَاقْتَضَى كَلَامُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ

وَابْنِ مَالِكٍ أَنَّ مَدْلُولَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَجْمُوعُ فَإِنَّهُ جَوَّزَ فِيهَا اعْتِبَارَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى؛ وَلِهَذَا جَعَلَ صَاحِبُ " الْبَدِيعِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ " كُلَّ الرِّجَالِ " كُلًّا مَجْمُوعِيًّا. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: الْقَائِلُ: كُلَّ حَبَّةٍ مِنْ الْبُرِّ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ، صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ كُلِّيٌّ عَدَدِيٌّ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: كُلَّ الْحَبَّاتِ مِنْهُ غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ، فَإِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْمَجْمُوعُ، وَقَدْ اسْتَضْعَفَ هَذَا مِنْهُ، فَإِنَّ " كُلَّ " إذَا أُضِيفَ إلَى مَعْرِفَةٍ جَمْعٍ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي كُلِّ فَرْدٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْثِلَةُ السَّابِقَةُ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ السَّرَّاجِ عَنْ الْمُبَرِّدِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: أَخَذْت الْعَشَرَةَ كُلَّهَا، أَنَّ إضَافَةَ " كُلٍّ " إلَى الْعَشَرَةِ كَإِضَافَةِ بَعْضِهَا إلَيْهَا، وَأَنَّ الْكُلَّ لَيْسَ الْمَعْنَى الْجُزْئِيَّ، وَإِنَّمَا الْكُلُّ اسْمٌ لِأَجْزَائِهِ جَمِيعًا الْمُضَافَةِ إلَيْهِ، وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ السَّرَّاجِ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ الْمُبَرِّدِ، وَكَأَنَّ مُرَادَ ابْنِ السَّاعَاتِيِّ إذَا أُرِيدَ بِهَا الْمَجْمُوعُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلًا: قَوْلُنَا كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ كُلَّ الشَّيْءِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ كُلِّيٌّ عَدَدِيٌّ، وَالثَّانِيَ كُلِّيٌّ مَجْمُوعِيٌّ، فَالْخَلَلُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ تَمْثِيلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِكُلِّ حَبَّةٍ مِنْ الْبُرِّ غَيْرِ مُتَقَوِّمَةٍ، وَكُلُّ الْحَبَّاتِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَهَذَا جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِخِلَافِ كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّهُ مُفْرَدٌ مُعَرَّفٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الظَّاهِرُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْرِفَةُ مُفْرَدًا أَوْ جَمْعًا، فَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا كَانَتْ لِاسْتِغْرَاقِ أَجْزَائِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْمَجْمُوعُ، وَلِذَلِكَ يَصْدُقُ قَوْلُنَا: كُلُّ رُمَّانٍ مَأْكُولٌ. وَلَا يَصْدُقُ: كُلُّ الرُّمَّانِ مَأْكُولٌ

لِدُخُولِ قِشْرِهِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعًا احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ الْمَجْمُوعُ، كَمَا فِي قَوْلِنَا: كُلُّكُمْ يَكْفِيكُمْ دِرْهَمٌ، وَأَنْ يُرَادَ كُلُّ فَرْدٍ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّكُمْ رَاعٍ» ، وَلِذَلِكَ فَصَّلَهُ بَعْدُ، فَقَالَ: «السُّلْطَانُ رَاعٍ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ» وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَكْثَرُ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَلَا يَعْدِلُ إلَى الْأَوَّلِ إلَّا بِقَرِينَةٍ. وَإِذَا دَخَلَتْ " كُلُّ " عَلَى مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَأُرِيدَ كُلُّ فَرْدٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ أَوْ اسْمُ جَمْعٍ كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ، فَهَلْ نَقُولُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ هُنَا تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى بَابِهَا، وَ " كُلُّ " تَأْكِيدٌ لَهَا، أَوْ أَنَّهَا لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ، حَتَّى تَكُونَ " كُلُّ " تَأْسِيسًا لِلْعُمُومِ؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَالثَّانِي أَقْرَبُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ " كُلَّ " إنَّمَا تَكُونُ تَأْكِيدًا إذَا كَانَتْ تَابِعَةً، دُونَهَا إذَا كَانَتْ مُضَافَةً. وَقَدْ يُقَالُ: بِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تُفِيدُ الْعُمُومَ فِي مَرَاتِبَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَ " كُلَّ " تُفِيدُ الْعُمُومَ فِي أَجْزَاءِ " كُلٍّ " مِنْ الْمَرَاتِبِ. فَإِذَا قُلْت: كُلَّ الرِّجَالِ، أَفَادَتْ الْأَلِفُ وَاللَّامُ اسْتِغْرَاقَ كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ جَمْعِ الرَّجُلِ، وَأَفَادَتْ " كُلُّ " اسْتِغْرَاقَ الْآحَادِ، فَيَصِيرُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى وَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّأْكِيدِ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُفْرَدِ، وَالْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إذَا أُرِيدَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْعُمُومُ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ السَّرَّاجِ فِي الْأُصُولِ. قُلْت: وَلِهَذَا مَنَعَ دُخُولَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى " كُلٍّ "، وَاعْتَرَضَ قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ: بَدَلَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، وَلَك أَنْ تَقُولَ: لِمَا لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ عَلَى أَنَّ " كُلَّ " مُؤَكِّدَةٌ، كَمَا هُوَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ عِنْدَهُ فِي الْمَجْمُوعِ الْمُعَرَّفِ. قِيلَ: وَمِنْ دُخُولِهَا عَلَى الْمُفْرَدِ الْمَعْرِفَةِ قَوْله تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:

«كُلُّ الطَّلَاقِ وَاقِعٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ قِسْمِ الْمُعَرَّفِ الْمَجْمُوعِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْجِنْسُ، فَهُوَ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ» . نَعَمْ، إنْ أُرِيدَ بِالنَّاسِ وَاحِدٌ صَحَّ تَمْثِيلُهُ. الثَّالِثُ: أَنْ تُقْطَعَ عَنْ الْإِضَافَةِ لَفْظًا فَيَجُوزُ فِيهَا الْوَجْهَانِ: الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 19] {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 285] {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] . وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي حَيِّزِهِ كَانَ الْكَلَامُ مَنْفِيًّا، وَاخْتَلَفَ حُكْمُهَا بَيْنَ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَيْهَا وَبَيْنَ أَنْ تَتَقَدَّمَ هِيَ عَلَى النَّفْيِ، فَإِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ نَحْوُ كُلُّ الْقَوْمِ لَمْ يَقُمْ، أَفَادَتْ التَّنْصِيصَ عَلَى انْتِفَاءِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ تَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَيْهَا مِثْلُ لَمْ يَقُمْ كُلُّ الْقَوْمِ لَمْ يَدُلَّ إلَّا عَلَى نَفْيِ الْمَجْمُوعِ، وَذَلِكَ يَصْدُقُ بِانْتِفَاءِ الْقِيَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ عُمُومَ السَّلْبِ، وَالثَّانِي سَلْبَ الْعُمُومِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ يَحْكُمُ فِيهِ بِالسَّلْبِ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ، وَالثَّانِي لَمْ يُفِدْ الْعُمُومَ فِي حَقِّ

كُلِّ أَحَدٍ، بَلْ إنَّمَا أَفَادَ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ بَعْضِهِمْ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا شَيْءٌ اخْتَصَّتْ بِهِ " كُلُّ " مِنْ بَيْنِ سَائِرِ صِيَغِ الْعُمُومِ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْبَيَانِ، وَأَصْلُهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ» ، لَمَّا قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ (أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ وَقَوْلُ ذِي الْيَدَيْنِ لَهُ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ) ، وَوَجْهُهُ أَنَّ السُّؤَالَ بِ " أَمْ " عَنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لِطَلَبِ التَّعْيِينِ عِنْدَ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى وَجْهِ الْإِبْهَامِ، وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ أَحَدِهِمَا فَالْجَوَابُ إمَّا بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا أَوْ بِنَفْيِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَكَانَ قَوْلُهُ: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ» ، لِنَفْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى ظَنِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَوْ كَانَ يُفِيدُ نَفْيَ الْمَجْمُوعِ، لَا نَفْيَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَكَانَ قَوْلُهُ: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ» غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلسُّؤَالِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ جَوَابٌ لَهُ، فَإِنَّ السَّلْبَ الْكُلِّيَّ يُنَاقِضُهُ الْإِيجَابُ الْجُزْئِيُّ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ ذَلِكَ طُرُقًا مِنْهُ: أَنَّ النَّفْيَ مَعَ تَأَخُّرِ " كُلٍّ " مُتَوَجِّهٌ

إلَى الشُّمُولِ دُونَ أَصْلِ الْفِعْلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَتْ فَإِنَّ النَّفْيَ حِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ إلَى أَصْلِ الْفِعْلِ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: مِنْ حُكْمِ النَّفْيِ إذَا دَخَلَ عَلَى كَلَامٍ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ تَقْيِيدٌ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، أَنْ يَتَوَجَّهَ النَّفْيُ إلَى ذَلِكَ التَّقْيِيدِ دُونَ أَصْلِ الْفِعْلِ، فَإِذَا قِيلَ: لَمْ يَأْتِ الْقَوْمُ مُجْتَمَعِينَ، كَانَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إلَى الِاجْتِمَاعِ الَّذِي هُوَ قَيْدٌ فِي الْإِتْيَانِ دُونَ أَصْلِ الْإِتْيَانِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَمْ يَأْتِ الْقَوْمُ مُجْتَمِعِينَ، وَكَانَ لَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، لَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْتُوكَ أَصْلًا، فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ: مُجْتَمِعِينَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ عَاقِلٌ، وَالتَّأْكِيدُ ضَرْبٌ مِنْ التَّقْيِيدِ. وَهَاهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِمْ: إنْ تَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَى " كُلٍّ " لِسَلْبِ الْعُمُومِ، وَلَا يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ ذَلِكَ بِمَا إذَا لَمْ يُنْتَقَضْ النَّفْيُ، فَإِنْ انْتَقَضَ فَالِاسْتِغْرَاقُ بَاقٍ كَالْآيَةِ، وَيَكُونُ لِعُمُومِ السَّلْبِ. وَمِنْهُ: مَا كُلُّ رَجُلٍ إلَّا قَائِمٌ، وَسَبَبُهُ أَنَّ النَّفْيَ لِلْمَجْهُولِ، وَمَا بَعْدَ " إلَّا " لَا تَسَلُّطَ لِلنَّفْيِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُثْبَتٌ، وَهُوَ فِي الْمُفَرَّغِ مُسْتَنِدٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ كُلُّ فَرْدٍ كَمَا كَانَ قَبْلَ دُخُولِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ. الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ النَّهْيِ فِيمَا سَبَقَ حُكْمُ النَّفْيِ، فَإِذَا قُلْت: لَا تَضْرِبْ كُلَّ رَجُلٍ أَوْ كُلَّ الرِّجَالِ، كَانَ النَّهْيُ عَنْ الْمَجْمُوعِ لَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ. وَلَوْ قُلْت: كُلَّ الرِّجَالِ لَا تَضْرِبْ، كَانَ عُمُومًا فِي السَّلْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ فَرْدٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُ كُلَّ رَجُلٍ، إنَّمَا يَحْنَثُ بِكَلَامِهِمْ كُلِّهِمْ، فَلَوْ كَلَّمَ وَاحِدًا لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَهْيًا فَهُوَ فِي حُكْمِهِ. وَقَدْ رَدَّ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الأنعام: 151]

{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الأنعام: 151] وَنَظَائِرِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْعُلَمَاءُ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَطَأُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ، يَكُونُ مُولِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ الْحِنْثُ، وَلُزُومُ الْكَفَّارَةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَقَدُّمِ النَّفْيِ وَتَأَخُّرِهِ. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ لَا يَخْتَصُّ بِ " كُلٍّ "، بَلْ يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ صِيَغِ الْعُمُومِ، كَقَوْلِكَ: لَا تَضْرِبْ الرِّجَالَ، وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ. قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي ثُبُوتَ النَّهْيِ لِكُلِّ فَرْدٍ، وَجَعَلَ هَذَا وَارِدًا عَلَى قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ: إنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ كُلِّيَّةٌ، وَلَمْ يَفْصِلُوا فِي النَّفْيِ وَالنَّهْيِ بَيْنَ تَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا، وَجَعَلَ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الأنعام: 151] إنَّمَا ثَبَتَ الْعُمُومُ فِيهِ لِكُلِّ فَرْدٍ بِقَرِينَةٍ، أَوْ بِجَعْلِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ الْجِنْسِ لَا الْعُمُومِ لِلْقَرِينَةِ وَنَحْوِهِ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ " التِّبْيَانِ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ " فِي صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ مَعَ " كُلٍّ " فَقَالَ: إذَا قُلْت: لَا تَضْرِبْ الرَّجُلَيْنِ كِلَيْهِمَا كَانَ النَّهْيُ لَيْسَ بِشَامِلٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: وَلَكِنْ اضْرِبْ أَحَدَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَا تَأْخُذْهُمَا جَمِيعًا، وَلَكِنْ خُذْ وَاحِدًا مِنْهُمَا. لَكِنْ تَقَدَّمَ عَنْ الْقَرَافِيِّ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ تَقَدُّمِ النَّفْيِ وَعَدَمِهِ

مِنْ خَصَائِصِ " كُلٍّ " وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ، بَلْ مَا دَلَّ عَلَى مُتَعَدِّدٍ أَوْ مُفْرَدٍ ذِي أَجْزَاءٍ كَذَلِكَ، فَإِذَا قُلْت: مَا رَأَيْت رِجَالًا، أَوْ مَا رَأَيْت رَجُلَيْنِ، أَوْ مَا أَكَلْت رَغِيفًا أَوْ مَا رَأَيْت رَجُلًا وَعَمْرًا، كُلُّ ذَلِكَ سَلَبَ الْمَجْمُوعَ، لَا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَقَدَّمَ السَّلْبُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُمْ: إنَّ السَّالِبَةَ الْكُلِّيَّةَ تَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ وَقَدْ مَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مُدَّعِيًا أَنَّهَا اقْتَضَتْ نَفْيَ الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَالْمُسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَعَنْ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ " كُلٌّ " تَأْكِيدًا، بَلْ دَلَّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَلْزِمِ لِنَفْيِ الْإِفْرَادِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ " كُلًّا، وَكُلَّمَا، وَلَا شَيْئًا، وَلَا وَاحِدًا "، وَسَائِرَ كَلِمَاتِ السُّوَرِ، إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ بِاعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَتَأَتَّى فِي الطَّبِيعِيَّةِ لَا فِي الْمُسَوَّرَةِ. الرَّابِعُ: هَذَا حُكْمُهَا فِي النَّفْيِ، وَسَكَتُوا عَنْ حُكْمِهَا فِي الشَّرْطِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَقَدُّمَهَا عَلَيْهِ كَتَقَدُّمِهَا عَلَى النَّهْيِ، فَيَكُونُ الشَّرْطُ عَامًّا لِكُلِّ فَرْدٍ، فَإِذَا قُلْت: كُلُّ رَجُلٍ إنْ قَامَ فَاضْرِبْهُ، وَكُلُّ عَبْدٍ لِي إنْ حَجَّ فَهُوَ حُرٌّ، فَمَنْ حَجَّ مِنْهُمْ عَتَقَ، فَلَوْ قَدَّمْتَ الشَّرْطَ، فَقُلْت: إنْ حَجَّ كُلُّ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِي فَهُمْ أَحْرَارٌ، لَا يُعْتَقُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَحُجَّ جَمِيعُهُمْ، وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] . الْخَامِسُ: جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي " كُلٍّ " مِنْ إفَادَتِهَا اسْتِيعَابَ جُزْئِيَّاتِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ إنْ كَانَ نَكِرَةً أَوْ جَمْعًا مُعَرَّفًا، وَأَجْزَائِهِ إنْ كَانَ مُفْرَدًا مَعْرِفَةً، لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً أَوْ تَابِعَةً مُؤَكَّدَةً، مِثْلُ أَخَذْتُ الْعَشَرَةَ كُلَّهَا، وَجَاءَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَدْخُلُ فِيهِ التَّأْكِيدُ، لَكِنَّ الْعُمُومَ فِيهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ الصِّيغَةِ الْمُؤَكِّدَةِ، وَ " كُلٌّ " جَاءَتْ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَعَدَمِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ، وَهَلْ يَفْتَرِقُ الْحَالُ إذَا وَقَعَتْ مُؤَكَّدَةً بَيْنَ تَقْدِيمِهَا

اللفظ الثاني جميع

عَلَى نَفْيٍ أَوْ تَقْدِيمِ النَّفْيِ عَلَيْهَا، نَحْوُ لَمْ أَرَ الْقَوْمَ كُلَّهُمْ، وَالْقَوْمُ كُلُّهُمْ لَمْ أَرَهُمْ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ لِسَلْبِ الْعُمُومِ، وَالثَّانِي لِعُمُومِ السَّلْبِ كَمَا إذْ تَقَدَّمَ فِي الْمُضَافَةِ؟ قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا، وَيُحْتَمَلُ طَرْدُ الْحُكْمِ فِي الْبَابَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ التَّفْرِقَةَ مِنْ حَقَائِقِ الْمُسْتَقِلَّةِ دُونَ التَّابِعَةِ، وَرَجَّحَ هَذَا لِأَنَّ وَضْعَ التَّأْكِيدِ تَقْرِيرُ السَّابِقِ، فَلَوْ تَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَيْهِ لَا يَعُمُّ، فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْعُمُومِ. قُلْت: لَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي " الْبُرْهَانِ " بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ. [اللَّفْظُ الثَّانِي جَمِيعٌ] ٌ " وَمَا يَتَصَرَّفُ مِنْهَا كَأَجْمَعَ وَأَجْمَعُونَ، وَهِيَ مِثْلُ " كُلِّ " إذَا أُضِيفَتْ، وَلَا تُضَافُ إلَّا إلَى مَعْرِفَةٍ، وَتَكُونُ لِإِحَاطَةِ الْأَجْزَاءِ؛ لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ دَلَالَةَ " كُلٍّ " عَلَى كُلِّ فَرْدٍ بِطَرِيقِ النُّصُوصِيَّةِ، بِخِلَافِ " جَمِيعٍ ". وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ " كُلًّا " تَعُمُّ الْأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ، وَ " جَمِيعًا " تَعُمُّهَا عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي كِتَابِهِ " النُّكَتِ " أَنَّ الزَّجَّاجَ حَكَاهُ عَنْ الْمُبَرِّدِ. قُلْت: وَإِنَّمَا نَقَلَ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَجْمَعِينَ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْخَشَّابِ، وَابْنُ إيَازٍ، وَنَقَلَ ابْنُ بَابْشَاذَ عَنْهُ خِلَافَهُ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ " أَجْمَعِينَ " لَا يَقْتَضِي الِاتِّحَادَ فِي الزَّمَانِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ إذَا جَمَعَ فِي التَّأْكِيدِ بَيْنَ " كُلٍّ " وَ " أَجْمَعَ " فِي أَنَّ التَّأْكِيدَ حَاصِلٌ بِهِمَا مَعًا، أَوْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ، وَحِينَئِذٍ فَمَا الَّذِي أَفَادَهُ الثَّانِي وَرَفْعُ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ حَصَلَ بِالْأَوَّلِ؟ وَإِنْ حَصَلَ بِهِمَا جَمِيعًا، فَكَيْفَ ذَلِكَ مِنْ الْوَاحِدِ إذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ وَتَقْوِيَتُهُ كَمَا فِي التَّوَابِعِ الْآتِيَةِ بَعْدَ " أَجْمَعَ " إنَّمَا تُفِيدُ تَمْكِينَهُ فِي النَّفْسِ. وَمَنَعَ ابْنُ مَالِكٍ وَالسُّهَيْلِيُّ جَوَازَ تَثْنِيَةِ " أَجْمَعَ "، زَادَ السُّهَيْلِيُّ: وَجَمْعَهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى " كُلٍّ " وَهِيَ لَا تُثَنَّى، وَلَا تُجْمَعُ، لَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ سِيدَهْ وَالْجَوْهَرِيُّ بِأَنَّ " أَجْمَعِينَ " جَمْعُ " أَجْمَعَ "، وَمَنَعَ ذَلِكَ الزَّوْزَنِيُّ فِي شَرْحِ " الْمُفَصَّلِ " وَقَالَ: أَجْمَعُونَ لَيْسَ جَمْعًا لِأَجْمَعَ، وَإِلَّا لَتَنَكَّرَ بِالْجَمْعِ، كَمَا يَتَنَكَّرُ الزَّيْدُون؛ بَلْ هُوَ مُرْتَجَلٌ، كَذَلِكَ عُلِمَ مَعْنَاهُ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ إفَادَةَ الْعُمُومِ مِنْ " جَمِيعِ " لِأَنَّهَا لَا تُضَافُ إلَّا إلَى مَعْرِفَةٍ، تَقُولُ: جَمِيعُ الْقَوْمِ قَوْمُكَ، وَلَا تَقُولُ: جَمِيعُ قَوْمٍ، وَمَعَ التَّعْرِيفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ الْإِضَافَةِ يَكُونُ الْعُمُومُ مُسْتَفَادًا مِنْهَا لَا مِنْ لَفْظَةِ جَمِيعٍ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْعُمُومَ مُسْتَفَادٌ مِنْ " جَمِيعٍ " وَالْأَلِفُ اللَّامُ لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ، أَوْ هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَ " جَمِيعُ " لِلتَّأْكِيدِ.

اللفظ الثالث سائر

فَائِدَةٌ يُقَالُ جَاءَ الْقَوْمُ بِأَجْمَعِهِمْ بِضَمِّ الْمِيمِ، لِأَنَّ أَجْمَعَ جَمْعُ جُمُعٍ كَعُبُدٍ وَأَعْبُدٍ، وَلَا يُقَالُ بِفَتْحِ الْمِيمِ؛ لِئَلَّا يُوهِمَ أَنَّهُ " أَجْمَعُ " الَّذِي يُؤَكِّدُ لِإِضَافَتِهِ إلَى الضَّمِيرِ وَإِدْخَالِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهِ، وَ " أَجْمَعُ " الْمَوْضُوعُ لِلتَّأْكِيدِ لَا يُضَافُ، وَلَا يَدْخُلُ حَرْفُ الْجَرِّ عَلَيْهِ. قَالَهُ الْحَرِيرِيُّ فِي " الدُّرَّةِ " لَكِنْ حَكَى ابْنُ السِّكِّيتِ الضَّمَّ وَالْفَتْحَ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ. [اللَّفْظُ الثَّالِثُ سَائِرٌ] إنْ كَانَتْ مِنْ سُورِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ الْمُحِيطُ بِهَا كَمَا جَزَمَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ، وَقَدْ عَدَّهَا الْقَاضِيَانِ: أَبُو بَكْرٍ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " وَعَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ " كَمَا نَقَلَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ". قُلْت: وَاَلَّذِي رَأَيْتُهُ فِيهَا حِكَايَةُ ذَلِكَ، ثُمَّ تَغْلِيطُهُ بِأَنَّهَا مِنْ " أَسْأَرَ " أَيْ أَبْقَى، فَإِنْ كَانَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ " السُّؤْرِ " بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الْبَقِيَّةُ، فَلَا تَعُمُّ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَشْهُورُ. وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَغَلَّطُوا الْجَوْهَرِيَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ،

الرابع والخامس والسادس والسابع معشر ومعاشر وعامة وكافة وقاطبة

فَقَدْ ذَكَرَهُ السِّيرَافِيُّ فِي " شَرْحِ سِيبَوَيْهِ " وَأَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ فِي " شَرْحِ أَدَبِ الْكَاتِبِ "، وَابْنُ بَرِّيٍّ وَغَيْرُهُمْ، وَأَوْرَدُوا فِيهِ شَوَاهِدَ كَثِيرَةً، فَيَكُونُ فِيهَا اللُّغَتَانِ. وَقَدْ مَنَعَ ابْنُ وَلَّادٍ وَالْفَارِسِيُّ مِنْ النُّحَاةِ كَوْنَهُ مِنْ السُّؤْرِ، لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ تُقَالُ لِمَا فَضَلَ مِنْ الشَّيْءِ سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالسُّؤْرُ لَا يُقَالُ [إلَّا] لِلتَّقْلِيلِ الْفَاضِلِ، وَسَائِرُ لَا يُقَالُ إلَّا لِلْأَكْثَرِ، تَقُولُ: أَخَذْتُ مِنْ الْكِتَابِ وَرَقَةً، وَتَرَكْتُ سَائِرَهُ، وَلَا تَقُولُ: بَقِيَّتَهُ. قَالَ: وَلَا يُوجَدُ شَاهِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَائِرَ بِمَعْنَى الْبَاقِي، قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ بَلْ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَكْثَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْعُمُومِ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْبَاقِي خِلَافًا لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَالْقَرَافِيِّ، لِأَنَّ بِهَا شُمُولَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ وَالْبَاقِي، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، تُرِيدُ تَعْمِيمَهُمْ. [الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ مَعْشَرٌ وَمَعَاشِرُ وَعَامَّةٌ وَكَافَّةٌ وَقَاطِبَةٌ]

الثامن والتاسع من وما الشرطيتين أو الاستفهاميتين

قَالَ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [الأنعام: 130] {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَفِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: (لَمَّا مَاتَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ قَاطِبَةً) . قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: " أَيْ جَمِيعُهُمْ "، وَلَكِنَّ " مَعْشَرَ " لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مُضَافًا، وَ " قَاطِبَةً " لَا يُضَافُ، وَ " عَامَّةً " وَ " كَافَّةً " يُسْتَعْمَلَانِ مُضَافَيْنِ وَخَالِيَيْنِ. [الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ مَنْ وَمَا الشَّرْطِيَّتَيْنِ أَوْ الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ] ِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46] {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] وَقَوْلِهِ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] وَهُمَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، بَلْ هُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ فِي أَعْلَى صِيغَةٍ. قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: " مَنْ " اسْمٌ يُغْنِي عَنْ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ الْمُتَنَاهِي فِي التَّضَادِّ وَالطُّولِ، فَإِذَا قُلْت: مَنْ يَقُمْ أَقُمْ مَعَهُ، كَانَ كَافِيًا عَنْ ذِكْرِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلَوْلَا " مَنْ " لَاحْتَجْتَ إلَى ذِكْرِ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ لَا تَجِدْ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. أَمَّا الشَّرْطِيَّتَانِ فَبِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا الِاسْتِفْهَامِيَّتَانِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ

وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَالْبَزْدَوِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْقُرْطُبِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالْهِنْدِيُّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْعُمُومِ، فَإِنَّهُ قَيَّدَ " مَنْ " بِالشَّرْطِيَّةِ، ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ عُمُومِهَا لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْجَمِيعِ أَنَّهُمَا إذَا كَانَتَا مَوْصُولَتَيْنِ فَلَيْسَتَا لِلْعُمُومِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، فَقَالَ: وَإِنْ كَانَتَا بِمَعْنَى " الَّذِي وَاَلَّتِي " فَهُمَا حِينَئِذٍ مَعْرِفَةٌ، وَلَيْسَتَا لِلْجِنْسِ، وَلَكِنْ رُبَّمَا تَنَاوَلَا فِي الْمَعْرِفَةِ وَاحِدًا وَرُبَّمَا تَنَاوَلَا جَمْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] وَكَذَلِكَ قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " فَإِنْ وَرَدَا مَعْرِفَتَيْنِ بِمَعْنَى الَّذِي لَمْ يَدُلَّا عَلَى الْعُمُومِ، هَذَا لَفْظُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ، كَلَامِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ "، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ "، فَإِنَّهُمَا قَيَّدَا الْعُمُومَ بِالشَّرْطِيَّتَيْنِ وَالِاسْتِفْهَامِيَّتَيْ فَقَطْ. لَكِنْ مَثَّلَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " لِعُمُومِ " مَنْ " بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِعُمُومِ الْمَوْصُولَةِ، وَهُوَ

لَازِمٌ لِلْجَمِيعِ فِي مَسْأَلَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] وَسُؤَالُ ابْنِ الزِّبَعْرَى، وَعَلَيْهِ جَرَى الْقَرَافِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، وَنَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ صَاحِبِ " التَّلْخِيصِ " يَعْنِي النَّقْشَوَانِيَّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَقَالَ: وَجَدْتُ كِتَابَ " التَّلْخِيصِ " مُصَرِّحًا بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمَا إذَا كَانَتَا مَوْصُولَتَيْنِ لَيْسَتَا لِلْعُمُومِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ " مَنْ " تَعُمُّ فِي الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ عُمُومَ الْأَفْرَادِ، وَفِي الْخَبَرِ بِمَعْنَى الْمَوْصُولَةِ عُمُومَ الشُّمُولِ، فَإِذَا قُلْت: مَنْ زَارَنِي فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا اسْتَحَقَّ كُلُّ مَنْ زَارَهُ الْعَطِيَّةَ؛ وَإِذَا قَالَ: أَعْطِ مَنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ دِرْهَمًا، اسْتَحَقَّ الْكُلُّ دِرْهَمًا وَاحِدًا. وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ قَوْلُنَا: مَنْ لِلْعُمُومِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا: بِقَوْلِنَا: مَنْ فِي الدَّارِ؟ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ الْجَوَابُ بِزَيْدٍ، وَحِينَئِذٍ فَالْعُمُومُ كَيْفَ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ زَيْدٌ؟ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ الْعُمُومَ، وَكَذَلِكَ: مَا عِنْدَكَ؟ فَتَقُولُ: دِرْهَمٌ. وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْعُمُومَ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ الِاسْتِفْهَامِ، لَا بِاعْتِبَارِ الْكَوْنِ فِي الدَّارِ، وَالِاسْتِفْهَامُ عَمَّ جَمِيعَ الْمَرَاتِبِ، وَكَأَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ قَالَ:

سَأَلَتْكَ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ لَا أَخَصُّ سُؤَالِي بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، وَالْوَاقِعُ مِنْ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فَرْدًا أَوْ أَكْثَرَ، فَالْعُمُومُ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوُقُوعِ؛ بَلْ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِفْهَامِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: قَوْلُ الْفُقَهَاءِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: إذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِلَفْظِ " مَنْ " اقْتَضَى مَشْرُوطَهُ مَرَّةً، وَلَمْ يَتَكَرَّرْ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَدَخَلَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً اسْتَحَقَّهُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا آخَرَ بِدُخُولِهِ بَعْدَهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ: مَنْ دَخَلَتْ مِنْكُنَّ فَهِيَ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ مَرَّةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَلَمْ تَطْلُقْ بِدُخُولٍ آخَرَ. الْجَوَابُ أَنَّ " مَنْ " وَغَيْرَهَا مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ إنَّمَا تَقْتَضِي عُمُومَ الْأَشْخَاصِ، لَا عُمُومَ الْأَفْعَالِ، فَلِهَذَا لَمْ يَتَعَدَّدْ الطَّلَاقُ لِتَعَدُّدِ الدُّخُولِ، فَإِنَّهَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، أَمَّا التَّكْرَارُ فَلَا تَقْتَضِيهِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَحَقَّقُ التَّكْرَارُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِوَاسِطَةِ قِيَاسٍ، أَوْ فَهْمِ أَنَّ الشَّرْطَ عِلَّةٌ فَإِنَّ الْأَصْلَ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى عِلَّتِهِ، فَلَزِمَ التَّكْرَارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] أَمَّا الْأَلْفَاظُ الْمَوْضُوعَةُ لِعُمُومِ الْأَفْعَالِ فَهِيَ: " كُلَّمَا، وَمَتَى، وَمَا، وَمَهْمَا "، فَإِذَا عَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنْهَا اقْتَضَى التَّكْرَارَ. وَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ: لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا بَعْدَ صَيْدٍ وَجَبَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا جَزَاءٌ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْجَزَاءَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، وَعَلَّقَهُ بِلَفْظِ

مَنْ " بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] وَالْمُعَلَّقُ بِلَفْظِ " مَنْ " لَا يَتَكَرَّرُ فِيهِ الْجَزَاءُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، نَحْوُ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، لَا يَتَكَرَّرُ الِاسْتِحْقَاقُ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ. وَأَجَابَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالْمَحَامِلِيُّ، وَالْجُرْجَانِيُّ، فِي بَابِ الْحَجِّ مِنْ الْمُعَايَاةِ، فَقَالُوا: إنَّمَا لَمْ يَتَكَرَّرْ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ إذَا كَانَ الْفِعْلُ الثَّانِي وَاقِعًا فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، كَالْمِثَالِ السَّابِقِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ الثَّانِي فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَيَتَكَرَّرُ، كَمَا لَوْ قَالَ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَلَهُ عِدَّةُ دُورٍ، فَدَخَلَ دَارًا لَهُ اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا، ثُمَّ لَوْ دَخَلَ دَارًا أُخْرَى اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا آخَرَ لَمَّا كَانَتْ الدَّارُ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْأُولَى، كَذَلِكَ هَاهُنَا، لَمَّا كَانَ الصَّيْدُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ تَعَلَّقَ بِهِ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَوَّلِ، يُرِيدُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمَحَامِلِيِّ وَبَعْضِ نُسَخِ " الْحَاوِي " تَمْثِيلُ تَعَدُّدِ الْمَحَلِّ بِقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دُورِي، وَهُوَ أَقْرَبُ، وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ؛ بَلْ يَنْبَغِي فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا عِنْدَ دُخُولِهِ جَمِيعَ الدُّورِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ تَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ، وَقَالَ " الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي ": إذَا اشْتَرَكَ جَمْعٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ، فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ جَزَاءٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] وَلَفْظَةُ " مَنْ " إذَا عَلَّقَ عَلَيْهَا الْجَزَاءَ اسْتَوَى حَالُ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ، كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَدَخَلَهَا وَاحِدٌ اسْتَحَقَّهُ، أَوْ جَمَاعَةٌ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمًا. قَالَ: الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالشَّرْطُ إذَا عُلِّقَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِلَفْظِ " مَنْ "

إذَا كَانَ مَوْجُودًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءً كَامِلًا، نَحْوُ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمٌ، لِأَنَّ الدُّخُولَ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَالْجَزَاءُ يُسْتَحَقُّ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ: مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَمَنْ شَالَ الْحَجَرَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ وَشَيْلِ الْحَجَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُسْتَحَقًّا بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ " مَنْ " تَصْلُحُ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ؛ لَكِنْ هَلْ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ أَوْ فِي الْآحَادِ؟ فِيهِ نَظَرٌ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَ: وَيَظْهَرُ فِيمَا إذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي مِنْ هَؤُلَاءِ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ دِرْهَمًا، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ دِرْهَمًا بِدُخُولِهِ وَحْدَهُ، وَنِصْفَ دِرْهَمٍ بِدُخُولِهِ مَعَ الْآخَرِ، وَإِنْ دَخَلَ ثَلَاثَةٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُعْطِيهِمْ ثَلَاثَةً، لِكُلِّ وَاحِدٍ دِرْهَمًا، وَعَلَى الثَّانِي يُعْطِيهِمْ ثَلَاثَةً إلَى الْآحَادِ كُلَّ وَاحِدٍ دِرْهَمًا، وَدِرْهَمًا بِدُخُولِ الثَّلَاثَةِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ، وَثَلَاثَةٌ لِأَنَّ صِفَةَ الِاثْنِينِيَّةِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، فَيَسْتَحِقُّونَ بِهَا ثَلَاثَةً، لِكُلٍّ دِرْهَمٌ، فَمَجْمُوعُ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ سَبْعَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. (تَنْبِيهٌ) أَطْلَقُوا أَنَّ " مِنْ " لِلْعُمُومِ فِي الْعُقَلَاءِ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ صَالِحًا لِكُلِّ فَرْدٍ

العاشر أي

لِيُخْرِجَ، مَا لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ غَزَا مَعِي فَلَهُ دِينَارٌ، قَالَ فِي " الْكِفَايَةِ " فِي بَابِ السِّيَرِ: خَرَجَ مِنْهُ أَهْلُ الْفَيْءِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَخْرُجَ النِّسَاءُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مَنْ قَاتَلَ مَعِي فَلَهُ دِينَارٌ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ حُكْمٌ لَا فِعْلٌ يَتَوَجَّهُ لِأَهْلِهِ، وَيَخْرُجُ الصِّبْيَانُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْجَعَالَةَ عَقْدٌ وَهِيَ لَا تَصِحُّ مِنْهُمْ، وَكَذَا الْعَبْدُ بِلَا إذْنِ السَّيِّدِ، لِوُجُودِ الْحَجْرِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إلَيْهَا لِوَاحِدٍ، لِيُخْرِجَ مَا لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ طَلِّقْ مِنْ نِسَائِي مَنْ شِئْتَ. قَالَ الْقَاضِي فِي تَعْلِيقِهِ: لَا يُطَلِّقْ الْوَكِيلُ إلَّا وَاحِدَةً فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: طَلِّقْ مِنْ نِسَائِي مَنْ شَاءَتْ، فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ مَنْ شَاءَتْ الطَّلَاقَ، وَجَرَى عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِي " زَوَائِدِهِ " فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْمَشِيئَةِ مُضَافٌ إلَى وَاحِدٍ، فَإِذَا اخْتَارَ وَاحِدَةً سَقَطَ اخْتِيَارُهُ، وَفِي الثَّانِيَةِ الِاخْتِيَارُ مُضَافٌ إلَى جَمَاعَةٍ، فَكُلُّ مَنْ اخْتَارَتْ طَلَقَتْ. وَقَوْلُهُمْ: " مِنْ " لِلْعُمُومِ فِي الْعُقَلَاءِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَصْلَ وَضْعِ اللُّغَةِ فَصَحِيحٌ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ " مَنْ " لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَحِينَئِذٍ فَالْعُمُومُ مُرَادٌ فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد: 15] . [الْعَاشِرُ أَيُّ] ُّ " بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً أَوْ اسْتِفْهَامِيَّةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]

وَقَوْلِهِ: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وَلِهَذَا أَجَابَهُ الْكُلُّ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ يَأْتِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي صِيَغِ الْعُمُومِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ التَّأْوِيلَاتِ مِنْ " الْبُرْهَانِ " فِي قَوْلِهِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا» ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَالْقَاضِيَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: وَيَصْلُحُ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " التَّلْخِيصِ " إلَّا أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِفْرَادِ دُونَ الِاسْتِغْرَاقِ، وَلِهَذَا إذَا قُلْت: أَيُّ الرَّجُلَيْنِ عِنْدَك؟ لَمْ يُجِبْ إلَّا بِذِكْرِ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " وَأَمَّا كَلِمَةُ " أَيِّ " فَقِيلَ: كَالنَّكِرَةِ، لِأَنَّهَا تَصْحَبُهَا لَفْظًا وَمَعْنًى، تَقُولُ: أَيُّ رَجُلٍ فَعَلَ هَذَا، وَأَيُّ دَارٍ؟ قَالَ تَعَالَى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وَهِيَ فِي الْمَعْنَى نَكِرَةٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ. انْتَهَى. وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ أَنَّهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ الْبَدَلِيِّ لَا الشُّمُولِيِّ؛ لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهَا لِلْعُمُومِ الشُّمُولِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا إذَا قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: أَيَّتُكُنَّ حَاضَتْ فَصَوَاحِبَاتُهَا طَوَالِقُ، فَقُلْنَ حِضْنَ، وَصَدَّقَهُنَّ، أَنَّهُ تُطْلَقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا وَذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ.

وَخَرَجَ لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّهَا لِلْعُمُومِ، فَهَلْ هُوَ عُمُومُ شُمُولٍ أَمْ بَدَلٍ؟ وَجْهَانِ، وَتَوَسَّعَ الْقَرَافِيُّ فَعَدَّى عُمُومَهَا إلَى الْمَوْصُولَةِ وَالْمَوْصُوفَةِ فِي النِّدَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعُدَّهَا فِي الصِّيَغِ كَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ، لِأَجْلِ قَوْلِ النُّحَاةِ: إنَّهَا بِمَعْنَى " بَعْضٍ " إنْ أُضِيفَتْ إلَى مَعْرِفَةٍ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: أَيُّ وَقْتٍ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ كَمَا فِي " كُلَّمَا ". وَالْحَقُّ أَنَّ عَدَمَ التَّكْرَارِ لَا يُنَافِي الْعُمُومَ، وَكَوْنُ مَدْلُولِهَا أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَقِيَّةِ الصِّيَغِ فِي الِاسْتِفْهَامِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ " مَنْ، وَمَا " الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ لِلْعُمُومِ فَلْتَكُنْ " أَيُّ " كَذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ " اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبُو زَيْدٍ فِي " التَّقْوِيمِ " كَلِمَةَ " أَيٍّ " نَكِرَةٌ، لَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ بِنَفْسِهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وَلَمْ يَقُلْ يَأْتُونِي، وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْته فَهُوَ حُرٌّ، فَضَرَبَهُمْ لَا يُعْتَقُ إلَّا وَاحِدٌ، فَإِنْ وَصَفَهَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ كَانَتْ لِلْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ، فَضَرَبُوهُ جَمِيعًا عَتَقُوا، لِعُمُومِ فِعْلِ الضَّرْبِ. وَصَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَقَالَ: وَأَمَّا " أَيُّ " فَهُوَ اسْمُ فَرْدٍ يَتَنَاوَلُ جُزْءًا مِنْ الْجُمْلَةِ الْمُضَافَةِ، قَالَ تَعَالَى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ وَاحِدٌ، وَقَالَ: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [هود: 7] .

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَيُّ الرَّجُلِ أَتَاكَ؟ وَلَا تَقُولُ: أَيُّ الرِّجَالِ أَتَاكَ؟ إذْ لَا عُمُومَ فِي الصِّيغَةِ. انْتَهَى. وَكَذَلِكَ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ ": لَوْ قَالَ: أَيُّ عَبِيدِي حَجَّ فَهُوَ حُرٌّ، فَحَجُّوا كُلُّهُمْ لَا يُعْتَقُ إلَّا وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ: أَيُّ رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَإِنَّهُ يَقْصُرُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا قَالَ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ، فَضَرَبُوهُ كُلُّهُمْ عَتَقُوا جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ، فَضَرَبَ جَمَاعَةً لَا يُعْتَقُ إلَّا وَاحِدٌ. وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي فَتَاوِيهِ "، وَفِي فَتَاوَى الشَّاشِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَأَنَّهُمْ يُعْتَقُونَ جَمِيعًا عَمَلًا بِعُمُومِ " أَيٍّ " وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فَقَالَ: " أَيُّ " أَعَمُّ الْمُبْهَمَاتِ، وَزَعَمَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَنَّهُ عَلَى الْوَاحِدِ غَالِبًا، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَأَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتُ فَهُوَ حُرٌّ، أَنَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدِ وَأَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْحُرِّيَّةَ إلَى الْجَمَاعَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقُلْنَا بِعُمُومِ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. انْتَهَى. وَوَجَّهَ ابْنُ يَعِيشَ وَغَيْرُهُ مِنْ النُّحَاةِ مَسْأَلَتَيْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بِأَنَّ الْفِعْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عَامٌّ وَفِي الثَّانِيَةِ خَاصٌّ، فَإِنَّهُ فِي الْأُولَى مُسْنَدٌ إلَى ضَمِيرِ عَبِيدِي، وَهِيَ كَلِمَةُ عُمُومٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ مُسْنَدٌ إلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ خَاصٌّ، ثُمَّ قَرَّرُوا أَنَّ الْفِعْلَ يَعُمُّ بِعُمُومِ فَاعِلِهِ لَا بِعُمُومِ مَفْعُولِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْفَاعِلَ كَالْجُزْءِ مِنْ الْفِعْلِ، وَهُوَ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْفِعْلُ وَالْمَفْعُولُ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ قَدْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْفِعْلُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَسْرِيَ عُمُومُ الْفَاعِلِ

وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْرِيَ عُمُومُ الْمَفْعُولِ إلَى الْفِعْلِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَجَّهَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ قَالَ: فَرْعٌ إذَا قَالَ: طَلِّقْ مِنْ نِسَائِي مَنْ شِئْتَ، لَا يُطَلِّقُ الْكُلَّ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَإِذَا قَالَ: طَلِّقْ مِنْ نِسَائِي مَنْ شَاءَتْ، فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ كُلَّ مَنْ اخْتَارَتْ الطَّلَاقَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّخْصِيصَ وَالْمَشِيئَةَ مُضَافٌ بِمَعْنَى فِي الْأُولَى إلَى وَاحِدٍ، فَإِذَا اخْتَارَ وَاحِدَةً سَقَطَ اخْتِيَارُهُ، وَفِي الثَّانِيَةِ الِاخْتِيَارُ مُضَافٌ إلَى جَمَاعَةٍ، فَكُلُّ مَنْ اخْتَارَتْ طَلُقَتْ. نَظِيرُهُ مَا إذَا قَالَ: أَيُّ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِي ضَرَبْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ، فَضَرَبَ عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا، لَا يُعْتَقُ الثَّانِي، لِأَنَّ حَرْفَ " أَيِّ " وَإِنْ كَانَ حَرْفَ تَعْمِيمٍ فَالْمُضَافُ إلَيْهِ الضَّرْبُ وَاحِدٌ، وَإِذَا قَالَ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ، فَضَرَبَهُ عَبْدٌ ثُمَّ عَبْدٌ عَتَقُوا؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ مُضَافٌ إلَى جَمَاعَةٍ. انْتَهَى. وَقَدْ اعْتَرَضَ الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ عَمْرُونٍ النَّحْوِيُّ الْحَلَبِيُّ وَقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ وَالْفِعْلُ عَامٌّ فِيهِمَا، وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَخْفِضْ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ فَإِنَّ " مَنْ " الشَّرْطِيَّةُ عَامَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَالْمُرَادُ عُمُومُ الْفِعْلِ مُطْلَقًا، مَعَ أَنَّ الِاسْمَ الْعَامَّ هُنَا إنَّمَا هُوَ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، إذْ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ تَخْفِضْهُ الْيَوْمَ وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى " مَنْ " وَهُوَ الِاسْمُ الْعَامُّ، وَأَمَّا ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فَخَاصٌّ،

وَهُوَ ضَمِيرُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا وِزَانُ قَوْلِهِ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتُهُ، الَّتِي ادَّعَى فِيهَا عَدَمَ عُمُومَ الْفِعْلِ. وَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَيْضًا التَّعْمِيمَ فِيهِمَا، وَقَالَ: نِسْبَةُ فِعْلِ الشَّرْطِ إلَى الْفَاعِلِ وَإِلَى الْمَفْعُولِ فِي اقْتِضَاءِ التَّعْمِيمِ فِي الْمَشْرُوطِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ التَّعْمِيمَ فِيمَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ الْمَشْرُوطِ بِتَكْرِيرِ الشَّرْطِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَأَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ، فِي أَنَّهُ يُعْتَقُ الْمَضْرُوبُونَ لِلْمُخَاطَبِ كُلُّهُمْ، كَمَا يُعْتَقُ الضَّارِبُونَ لِلْمُخَاطَبِ كُلُّهُمْ وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ " بِمَنْ "، فَإِنَّهُ قَدْ تَسَاوَى فِيهَا الْأَمْرَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178] فَإِنَّهُ مُسَاوٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْمِيمِ لِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وَالْأَوَّلُ: مَنْسُوبٌ فِي شَرْطِهِ إلَى عُمُومِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ مُنَازَعًا فِيهِ. الثَّانِي: مَنْسُوبٌ إلَى عُمُومِ الْفَاعِلِ وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، إذَا ثَبَتَ فِي " مَنْ " فَكَذَلِكَ فِي " أَيٍّ " بَلْ هِيَ مِنْ أَقْوَى مِنْ " مَنْ " فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ. تَنْبِيهٌ عَدَّى الْحَنَفِيَّةُ هَذَا إلَى: أَيِّ عَبِيدِي ضُرِبَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ جِنِّي؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» ، وَقَدْ قَالُوا هُمْ فِيهِ بِالْعُمُومِ أَكْثَرَ مِنَّا، لِأَنَّهُمْ أَدْرَجُوا فِيهِ جِلْدَ الْكَلْبِ.

الحادي عشر إلى آخر الخامس عشر متى وأين وحيث وكيف وإذا الشرطية

تَنْبِيهٌ إذَا اتَّصَلَتْ " أَيُّ " " بِمَا " كَانَتْ تَأْكِيدًا لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، وَزَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " فِي بَابِ التَّأْوِيلِ أَنَّ " مَا " الْمُتَّصِلَةَ بِهَا لِلْعُمُومِ فِي نَحْوِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا» ، فَاعْتَقَدَ أَنَّهَا " مَا " الشَّرْطِيَّةُ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَقَدْ قَارَبَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " هُنَاكَ فَجَعَلَهَا مُؤَكِّدَةً لِلْعُمُومِ، هُوَ أَقْرَبُ مِمَّا قَالَهُ الْإِمَامُ إلَى الصَّوَابِ، لَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّهَا تَوْكِيدٌ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، وَهُوَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مِنْ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ كَأَنَّهُ كَرَّرَ اللَّفْظَ. [الْحَادِيَ عَشَرَ إلَى آخِرِ الْخَامِسِ عَشَرَ مَتَى وَأَيْنَ وَحَيْثُ وَكَيْفَ وَإِذَا الشَّرْطِيَّةُ] أَمَّا " مَتَى " فَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْأَزْمَانِ الْمُبْهَمَةِ كُلِّهَا كَمَا قَيَّدَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بَعْضُهُمْ بِالْمُبْهَمَةِ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا لَا يَتَحَقَّقُ وُقُوعُهُ، فَلَا يَقُولُونَ: مَتَى طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَائْتِنِي، بَلْ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَهِيَ عَكْسُ إذَا. وَقِيلَ: " مَتَى " تَقْتَضِي عُمُومَ الْأَزْمِنَةِ، وَلَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْفِعْلِ، بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا لَا تَكْرَارَ فِيهِ، كَمَا إذَا قِيلَ: مَتَى قَتَلْتَ زَيْدًا؟ وَالسَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْهَا تَكْرَارُ الْفِعْلِ، وَلَا تَقْتَضِي تَكْرَارًا عَلَى التَّحْقِيقِ. فَإِذَا قَالَ: مَتَى دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَالطَّلَاقُ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ " كُلَّمَا " فَإِنَّهَا تَقْتَضِي

السادس عشر إلى آخر العشرين مهما وأنى وأيان وإذ ما وأي حين وكم

التَّكْرَارَ لِاقْتِضَائِهَا عُمُومَ الْأَفْعَالِ فَإِذَا قَالَ: كُلَّمَا دَخَلْتِ، فَمَعْنَاهُ كُلُّ دُخُولٍ يَقَعُ مِنْكِ، لِأَنَّ " كُلًّا " إنَّمَا يُضَافُ لِلْأَسْمَاءِ. وَيَنْضَمُّ إلَيْهَا " مَا ". لِتَصْلُحَ لِلدُّخُولِ عَلَى الْأَفْعَالِ، فَهِيَ كَ " رُبَّ ". وَأَمَّا " أَيْنَ، وَحَيْثُ " فَيَعُمَّانِ الْأَمْكِنَةَ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا " كَيْفَ، وَإِذَا " فَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْقَرَافِيُّ مِنْ الصِّيَغِ إذَا كَانَتْ " كَيْفَ " اسْتِفْهَامِيَّةً، أَوْ اتَّصَلَتْ بِهَا " مَا " إذَا جُوزِيَ بِهَا، وَهُمَا دَاخِلَانِ فِي إطْلَاقِهِمْ عُمُومَ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " حَيْثُمَا، وَمَتَى مَا " مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: " مَتَى " أَعَمُّ مِنْ " إذَا ". [السَّادِسَ عَشَرَ إلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ مَهْمَا وَأَنَّى وَأَيَّانَ وَإِذْ مَا وَأَيُّ حِينٍ وَكَمْ] السَّادِسَ عَشَرَ وَمَا بَعْدَهُ إلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ: " مَهْمَا، وَأَنَّى، وَأَيَّانَ، وَإِذْ مَا " عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَ " أَيُّ حِينٍ، وَكَمْ " أَمَّا " مَهْمَا " فَهِيَ اسْمٌ بِدَلِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَيْهَا، وَلَا يُعَادُ إلَّا إلَى الْأَسْمَاءِ، وَهِيَ مِنْ أَدَوَاتِ الْجَزْمِ بِاتِّفَاقٍ وَتَجِيءُ، لِلِاسْتِفْهَامِ قَلِيلًا وَأَمَّا " أَنَّى " فَأَصْلُهَا الِاسْتِفْهَامُ إمَّا بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] وَإِمَّا بِمَعْنَى كَيْفَ، كَقَوْلِهِ: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75] . وَأَمَّا " أَيَّانَ " فَهِيَ فِي الْأَزْمَانِ بِمَنْزِلَةِ " مَتَى " لَكِنْ " مَتَى " أَشْهَرُ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ تُفَسَّرُ " أَيَّانَ " بِمَتَى.

الحادي والعشرون الأسماء الموصولة

وَأَمَّا " إذْ مَا " فَهِيَ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَكُلُّهَا تَدْخُلُ فِي إطْلَاقِهِمْ أَنَّ أَسْمَاءَ الشُّرُوطِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَلِمَا فِيهَا مِنْ الْإِبْهَامِ وَعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ بِوَقْتٍ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا " أَيُّ حِينٍ " عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَصِلُهَا مِنْ أَيِّ الْمُقَدَّمَةِ. وَأَمَّا " كَمْ " الِاسْتِفْهَامِيَّة لَا الْخَبَرِيَّةُ، فَإِنَّمَا عُدَّتْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ بِهَا سَائِغٌ فِي جَمِيعِ مَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ، لَا يَخْتَصُّ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا أَنَّ " مَتَى " سَائِغَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَ " أَيْنَ " فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ، وَ " مَنْ " فِي جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ فَإِذَا قِيلَ: كَمْ مَالُكَ؟ حَسُنَ الْجَوَابُ بِأَيِّ عَدَدٍ شِئْتَ. [الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ الْأَسْمَاءُ الْمَوْصُولَةُ] ُ سِوَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ " مَا، وَمَنْ، وَأَيٍّ "، وَهِيَ " الَّذِي، وَاَلَّتِي " وَجُمُوعُهُمَا مِنْ " الَّذِينَ، وَاَللَّاتِي، وَذُو الطَّائِيَّةِ " وَجَمْعُهَا، وَقَدْ بَلَغَ بِذَلِكَ الْقَرَافِيُّ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ صِيغَةً، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ " الَّذِي " مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ " وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ تَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: " مَنْ، وَمَا وَأَيُّ، وَمَتَى " وَنَحْوُهَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ لَا تُسْتَوْعَبُ بِظَاهِرِهَا، وَإِنَّمَا تُسْتَوْعَبُ بِمَعْنَاهَا عِنْدَ قَوْمٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِبْهَامَ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَقَالَ أَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ إنَّهُ يَجْرِي فِي بَابِهِ مُجْرَى اسْمٍ مَنْكُورٍ، كَقَوْلِنَا: رَجُلٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، فَلَا يُصَارُ إلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْإِبْهَامُ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى قَرِينَةٍ. انْتَهَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلَ: بِأَنَّ " مَنْ، وَمَا " إذَا كَانَتَا مَوْصُولَتَيْنِ لَا تَعُمَّانِ، يَقُولُ بِأَنَّ " الَّذِي وَاَلَّتِي " وَفُرُوعَهُمَا لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ. أَمَّا الْحُرُوفُ الْمُوصَلَةُ فَلَيْسَتْ لِلْعُمُومِ اتِّفَاقًا. وَإِنَّمَا يَكُونُ " الَّذِي " إذَا كَانَتْ جِنْسِيَّةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4] {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء: 10] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعُمُومَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الصِّيغَةِ. أَمَّا الْعَهْدِيَّةُ فَلَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ} [غافر: 30] {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] أَوْ نَحْوِهِ. وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ الصِّيَغِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الْمَوْصُولَةَ الدَّاخِلَةَ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، فَلَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ: الضَّارِبُ مِنْكُمْ زَيْدًا حُرٌّ، وَلِنِسَائِهِ: الدَّاخِلَةُ مِنْكُنَّ الدَّارَ طَالِقٌ، عَتَقَ الْجَمِيعُ وَطُلِّقَ الْكُلُّ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ إنَّهَا اسْمٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ لِمَا فِي الصِّفَةِ مِنْ الْجِنْسِيَّةِ وَتَكُونُ مُشْعِرَةً بِذَلِكَ وَمَنَعَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عُمُومَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمَوْصُولَةِ، قَالَ: لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ دَاخِلَةٌ فِي الْمُوصَلَاتِ، فَلَهُ حُكْمُ الْعُمُومِ لِجَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْأُصُولِيِّينَ فِي إثْبَاتِ الْعُمُومِ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ الْمُعَرَّفَةِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، مِثْلُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] ، لَيْسَ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ نَظَرٌ، لِمَا قَدَّمْنَا.

الثاني والعشرون الألف واللام

تَنْبِيهٌ جَعْلُ الْمَوْصُولَاتِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ النُّحَاةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ شَرْطَ الصِّلَةِ أَنْ يَكُونَ مَعْهُودَةً مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ، وَلِهَذَا كَانَتْ مُعَرِّفَةً لِلْمَوْصُولِ، وَالْمَعْهُودُ لَا عُمُومَ فِيهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ. [الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ] ُ ": فَإِنْ كَانَتْ اسْمًا فَلَا عُمُومَ فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْحَرْفِيَّةِ، وَاَلَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: الْجَمْعُ سَوَاءٌ كَانَ سَالِمًا أَوْ مُكَسَّرًا لِلْقِلَّةِ أَوْ الْكَثْرَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ لَفْظِهِ أَمْ لَا، كَالزَّيْدَيْنِ، وَالْعَالَمِينَ وَالْأَرْجُلِ وَالرِّجَالِ وَالْأَبَابِيلِ وَمَدْلُولُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْآحَادُ الْمُجْتَمِعَةُ دَالًّا عَلَيْهَا دَلَالَةَ تَكْرَارِ الْوَاحِدِ. قَالَهُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي أَوَّلِ " شَرْحِ الْخُلَاصَةِ "، وَدَلَالَةُ الْجَمْعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ مُطَابِقَةٌ، وَلِهَذَا مَنَعُوا أَنْ يُقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَرَجُلٌ وَرَجُلٌ فِي

الْقِيَاسِ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّكْرَارِ، لِإِغْنَاءِ لَفْظِ الْجَمْعِ عَنْهُ فَلَوْ كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى رَجُلٍ بِالتَّضَمُّنِ، لَكَانَ قَوْلُنَا: رَجُلٌ وَرَجُلٌ وَرَجُلٌ مُشْتَمِلًا عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ الثَّانِي: اسْمُ الْجَمْعِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ لَفْظِهِ أَمْ لَا، كَرَكْبٍ وَصَحْبٍ وَقَوْمٍ وَرَهْطٍ. وَمَا قِيلَ: إنَّ قَوْمًا جَمْعُ قَائِمٍ، كَصَوْمٍ وَصَائِمٍ وَهَمٌ، قَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: هَذَا النَّوْعُ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ؛ بَلْ هُوَ مَحْفُوظٌ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: هُوَ مَوْضِعٌ لِمَجْمُوعِ الْآحَادِ، أَيْ لَا لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: وَحَيْثُ تَثْبُتُ الْآحَادُ فَلِدُخُولِهَا فِي الْمَجْمُوعِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: الرَّهْطُ أَوْ الْقَوْمُ الَّذِي يَدْخُلُ الْحِصْنَ فَلَهُ كَذَا، فَدَخَلَهُ جَمَاعَةٌ كَانَ النَّفَلُ لِمَجْمُوعِهِمْ، وَلَوْ دَخَلَهُ وَاحِدٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. فَإِنْ قُلْت: إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ كُلَّ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْوَاحِدِ مِنْهُ فِي مِثْلِ جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مَا يَجِبُ انْدِرَاجُهُ لَوْلَاهُ؟ قُلْت: مِنْ حَيْثُ إنَّ مَجِيءَ الْمَجْمُوعِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ كُلِّ وَاحِدٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ فَرْدٍ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِثْلُ: يُطِيقُ رَفْعَ هَذَا الْحَجَرِ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، وَهَذَا كَمَا يَصِحُّ: عِنْدِي عَشَرَةٌ إلَّا وَاحِدًا، وَلَا يَصِحُّ الْعَشَرَةُ زَوْجٌ إلَّا وَاحِدًا، إذْ لَيْسَ الْحُكْمُ عَلَى الْآحَادِ، بَلْ عَلَى الْمَجْمُوعِ. الثَّالِثُ: اسْمُ الْجِنْسِ الَّذِي يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ بِالتَّاءِ، وَلَيْسَ

مَصْدَرًا وَلَا مُشْتَقًّا مِنْهُ، كَتَمْرٍ وَشَجَرَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَعْنِي كَوْنَهُ اسْمَ جِنْسٍ، وَالْغَزَالِيُّ يُسَمِّيهِ جَمْعًا، وَابْنُ مَالِكٍ يُسَمِّيهِ اسْمَ جَمْعٍ، فَإِنَّهُ عَدَّهُ فِي أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ لَكِنْ سَمَّاهُ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ اسْمَ جِنْسٍ، وَاخْتُلِفَ فِي مَدْلُولِهِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَصَحِّهَا: أَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْجِنْسُ مَوْجُودٌ مَعَ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ، وَحَكَى الْكِسَائَيُّ عَنْ الْعَرَبِ إطْلَاقَهُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَالَ بِهِ الْكُوفِيُّونَ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَاحِدُ مُذَكَّرًا أَوْ مُؤَنَّثًا. قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: " النَّحْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ ". وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، قَالَهُ ابْنُ جِنِّي، وَتَبِعَهُ ابْنُ مَالِكٍ. وَالثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ: وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْ الشَّلَوْبِينَ وَابْنِ عُصْفُورٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ مَالِكٍ فِي بَابِ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَوْرَدَهُ شُرَّاحُ سِيبَوَيْهِ عَلَى قَوْلِهِ: بَابُ عِلْمِ مَا الْكَلِمُ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالُوا: إنَّمَا هِيَ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، ثُمَّ أَجَابُوا بِأَنَّ تَحْتَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا أَنْوَاعًا. وَالرَّابِعِ: الْمُثَنَّى، نَحْوُ الزَّيْدَانِ وَالرَّجُلَانِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَدَلَالَةِ الْجَمْعِ عَلَى أَفْرَادِهِ. الْخَامِسُ: الدَّالُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَفْرَادُهُ مُتَمَيِّزَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ مُؤَنَّثٌ بِالتَّاءِ، كَرَجُلٍ وَفَرَسٍ. وَالْقَصْدُ بِهِ الْجِنْسُ مَعَ الْوَحْدَةِ مَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِمَا يُزِيلُهَا مِنْ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ أَوْ عُمُومٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَالسَّكَّاكِيُّ وَالْقَرَافِيُّ، وَيَشْهَدُ لَهُ تَثْنِيَتُهُ وَجَمْعُهُ، وَصِحَّةُ قَوْلِك: مَا عِنْدِي رَجُلٌ بَلْ رَجُلَانِ.

الجمع إذا دخلت عليه الألف واللام

السَّادِسُ: الِاسْمُ الدَّالُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَفْرَادُهُ مُتَمَيِّزَةٌ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، لِإِطْبَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ مَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ بِالتَّاءِ. السَّابِعُ: الِاسْمُ الدَّالُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَلَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ لَهَا مُؤَنَّثٌ، فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وَحْدَةٍ وَلَا تَعَدُّدٍ، كَالْمَاءِ وَالْعَسَلِ فِي الْأَعْيَانِ، وَالضَّرْبِ وَالنَّوْمِ فِي الْمَصَادِرِ. الثَّامِنُ: مَا كَانَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِيهِ التَّاءَ لَا مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ، كَضَرْبَةٍ، فَمَدْلُولُهُ الْوَاحِدَةُ. التَّاسِعُ: مَا كَانَ عَدَدًا كَالثَّلَاثَةِ، فَهُوَ نَصٌّ فِي مَدْلُولِهِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ لِمَجْمُوعِهَا، وَدَلَالَتُهُ عَلَى أَحَدِهَا بِالتَّضَمُّنِ. [الْجَمْعُ إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ] إذَا عَلِمْت هَذَا، فَإِنْ دَخَلَتْ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَلَى الْجَمْعِ أَفَادَتْ الِاسْتِغْرَاقَ. فَإِنْ تَقَدَّمَ عَهْدٌ وَدَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى قَصْدِهِ حُمِلَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةَ التَّخْصِيصِ، وَمِنْهُ مَا إذَا سَبَقَهُ تَنْكِيرٌ، وَظَهَرَ تَرَتُّبُ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ " قَالَ: اُخْتُلِفَ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ. أَحَدِهَا: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَعْهُودٍ إنْ كَانَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَالثَّانِي: عَكْسُهُ: أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْعَهْدِ. الثَّالِثِ: أَنَّهُ يُحْمَلُ عِنْدَ فَقْدِ الْعَهْدِ عَلَى الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ تَعْمِيمٍ. وَفِيهِ خِلَافٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ، عَهْدٍ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ دُخُولُهَا. انْتَهَى. وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْهُ عَهْدٌ، فَهِيَ لِلْعُمُومِ عِنْدَ مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ، قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَقَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إنَّهُ إجْمَاعُ أَصْحَابِنَا، وَحُكِيَ عَنْ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي

الِاسْتِغْرَاقَ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: سَوَاءٌ جَمْعُ السَّلَامَةِ وَالتَّكْسِيرِ،، كَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، وَاعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ": سَوَاءٌ الْمُشْتَقُّ وَغَيْرُهُ، كَالْمُسْلِمِينَ وَالرِّجَالِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَوَاءٌ كَانَ لِلْقِلَّةِ كَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، أَوْ لِلْكَثْرَةِ كَالْعِبَادِ وَالرِّجَالِ، وَحَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُ يُفِيدُ الْجِنْسَ لَا الِاسْتِغْرَاقَ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمِيزَانِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ. قَالَ: وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، فَقَالَ: وَفِي الْمُفْرَدِ يُصْرَفُ إلَى مُطْلَقِ الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ اسْتِغْرَاقٍ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ غَرِيبٌ، قَالَ: وَقَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] إنَّهُ يَسْتَوْعِبُ مِنْ حَيْثُ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. ثُمَّ أَنْكَرَ إلْكِيَا هَذَا وَقَالَ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ مَعْنَاهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لَا غَيْرُ، هَكَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَأَنَّ الْأَلِفَ الْأَصْلُ لَمَّا كَانَتْ سَاكِنَةً، وَلَمْ يُتَوَصَّلُ إلَى النُّطْقِ بِهَا، وَأَنَّ حَرْفَ التَّعْرِيفِ هُوَ اللَّامُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ عَامًّا وَمُسْتَوْعِبًا بِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَدْ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَوْعِبًا قَبْلَ دُخُولِهَا، وَلَوْ كَانَ اللَّامُ مُفِيدًا لِلِاسْتِيعَابِ لَمَا صَحَّ دُخُولُهُ عَنْ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِكَوْنِ الِاسْمِ مُفْرَدًا أَوْ مَجْمُوعًا، كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَى سَائِرِ الْحُرُوفِ. قَالَ: وَلِذَلِكَ زَعَمَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ عُمُومَ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِفَاءِ التَّعْلِيلِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ ادِّعَاءِ الْعُمُومِ مِنْ لَفْظِهِ. وَلَعَلَّ إلْكِيَا بَنَى هَذَا عَلَى قَوْلِ أَرْبَابِ الْخُصُوصِ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: الصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِلْعُمُومِ.

وَنَبَّهَ أَبُو الْحُسَيْنِ عَلَى فَائِدَةٍ تَرْفَعُ الْخِلَافَ، وَهِيَ أَنَّ أَبَا هَاشِمٍ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مُسْتَغْرِقًا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَهُوَ عِنْده عَامٌّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى إنْ صَلُحَ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُمْ فِي الْجَحِيمِ لِأَجْلِ فُجُورِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَاجِرٍ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الزَّجْرِ انْتَهَى. هَذَا كُلُّهُ إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْعَهْدَ، فَإِنْ أَشْكَلَ الْحَالُ وَاحْتَمَلَ كَوْنُهَا لِلْعَهْدِ أَوْ الِاسْتِغْرَاقِ أَوْ الْجِنْسِ، فَلَمْ يُصَرِّحُوا فِيهَا بِنَقْلٍ صَرِيحٍ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْعَهْدِ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ مَالِكٍ مِنْ النَّحْوِيِّينَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، لِعُمُومِ فَائِدَتِهِ وَلِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْمُعْظَمِ، وَصَاحِبُ " الْمِيزَانِ " عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ السَّرَّاجِ النَّحْوِيِّ، فَقَالَ: إذَا تَعَارَضَتْ جِهَتَا الْعَهْدِ وَالْجِنْسِ يُصْرَفُ إلَى الْجِنْسِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبَيْعِ. قَالَا: لِأَنَّ الْجِنْسَ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْعَهْدُ، وَالْعَهْدُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْجِنْسُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُجْمَلٌ، لِأَنَّ عُمُومَهُ لَيْسَ مِنْ صِيغَتِهِ، بَلْ مِنْ قَرِينَةِ نَفْيِ الْمَعْهُودِ؛ فَيَتَعَيَّنُ الْجِنْسُ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ صَاحِبُهُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلتَّعْرِيفِ، وَلَيْسَتْ إحْدَى جِهَتَيْ التَّعْرِيفِ بِأَوْلَى مِنْ الثَّانِيَةِ، فَيَكْتَسِبُ اللَّفْظُ جِهَةَ الْإِجْمَالِ لِاسْتِوَائِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا. قُلْت: وَمَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَدْ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ قَبْلَهُ: إنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ عَامٌّ، وَلَا يُصَارُ إلَى غَيْرِ الْعُمُومِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ مَذْهَبٌ رَابِعٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ "

وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ السِّيَاقِ وَمَقْصُودِ الْكَلَامِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِقَرَائِنَ وَدَلَائِلَ مِنْهُ. وَأَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعُمُومِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَهْدِ، وَلَيْسَتْ لِلْعُمُومِ عِنْدَ قَرِينَةِ الْعَهْدِ، لَكِنْ هَلْ الْأَصْلُ فِيهَا الْعُمُومُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، أَوْ الْأَصْلُ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْعَهْدِ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ إرَادَتِهِ فِيهِ؟ وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ مُضْطَرِبٌ، وَمَنْ أَخَذَ بِظَوَاهِر عِبَارَاتِهِمْ حَكَى فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالَ: الْأَصْلُ هُوَ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ التَّعْيِينِ، وَكَمَالُ التَّمْيِيزِ، ثُمَّ الِاسْتِغْرَاقُ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ بِدُونِ اعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ جِدًّا، وَالْعَهْدُ الذِّهْنِيُّ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُودِ قَرِينَةِ الْبَعْضِيَّةِ، فَالِاسْتِغْرَاقُ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ الْإِطْلَاقِ حَيْثُ لَا عَهْدَ فِي الْخَارِجِ خُصُوصًا فِي الْجَمْعِيَّةِ، هَذَا مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ. وَقِيلَ: الْعَهْدُ الذِّهْنِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَعْضَ مُتَيَقَّنٌ، وَهَذَا مُعَارَضٌ، فَإِنَّ الِاسْتِغْرَاقَ أَعَمُّ فَائِدَةً وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا فِي الشَّرْعِ، وَأَحْوَطُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، أَعْنِي الْإِيجَابَ وَالنَّدْبَ وَالتَّحْرِيمَ وَالْكَرَاهَةَ، وَأَنَّ الْبَعْضَ أَحْوَطُ فِي الْإِبَاحَةِ وَمَنْقُوضٌ بِثُبُوتِ الْمَاهِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الْمَاهِيَّةِ، وَقَدْ جَعَلُوهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الِاسْتِغْرَاقِ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً جَدِيدَةً زَائِدَةً عَلَى مَا يُفِيدُ الِاسْمَ بِدُونِ اللَّامِ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَةِ عَهْدٍ، فِي أَنَّ الْعَهْدَ مُرَادٌ أَمْ لَا، هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ أَمْ لَا؟

ما يفيده جمع السلامة وجمع التكسير

وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَيْمَانِ " مِنْ " الْحَاوِي " عِنْدَ الْكَلَامِ فِيمَا " إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءَ النَّهْرِ " أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يُسْتَعْمَلَانِ تَارَةً لِلْجِنْسِ، وَلِلْعَهْدِ أُخْرَى، وَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ الْقَرِينَةُ تُصْرَفُ إلَى الْعَهْدِ، وَتَمْنَعُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ، فَهَلَّا جَعَلْتُمْ الْعَامَّ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مَصْرُوفًا إلَى الْعَهْدِ بِقَرِينَةِ السَّبَبِ الْخَاصِّ، وَقُلْتُمْ: إنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ تَقَدُّمَ السَّبَبِ الْخَاصِّ قَرِينَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يُرَادُ لَا أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ، فَنَحْنُ نَعْلَمُهُ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ وَنَقُولُ: دَلَالَةُ هَذَا الْعَامِّ عَلَى مَحَلِّ السَّبَبِ قَطْعِيَّةٌ، وَعَلَى غَيْرِهِ ظَنِّيَّةٌ، إذْ لَيْسَ فِي السَّبَبِ مَا يُثْبِتُهَا وَلَا مَا يَنْفِيهَا. [مَا يُفِيدُهُ جَمْعُ السَّلَامَةِ وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ لِلتَّكْثِيرِ، كَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَقَسَّمَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنْ النَّحْوِيِّينَ الْجَمْعَ إلَى قِسْمَيْنِ: جَمْعِ سَلَامَةٍ وَهُوَ لِلتَّقْلِيلِ لِلْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا، وَجَمْعِ تَكْسِيرٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: مَا هُوَ لِلْقِلَّةِ، وَهِيَ أَرْبَعُ صِيَغٍ: أَفْعَالٌ وَأَفْعُلٌ وَأَفْعِلَةٌ وَفِعْلَةٌ، وَالْبَاقِي لِلتَّكْثِيرِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدْ اسْتَشْكَلَ كَيْفَ يَجْتَمِعُ الْعُمُومُ مَعَ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَالْأَوَّلُ يَسْتَغْرِقُ الْأَفْرَادَ وَالثَّانِي لَا يَسْتَغْرِقُ الْعَشَرَةَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِوُجُوهٍ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْعُمُومَ يَجْمَعُ مَا لَا يَتَجَاوَزُ الْوَاحِدَ، فَاجْتِمَاعُ الْعُمُومِ مَعَ مَا لَا يَتَجَاوَزُ الْعَشَرَةَ أَوْلَى، فَإِذَا قُلْت: أَكْرِمْ الزَّيْدَيْنِ، فَمَعْنَاهُ أَكْرِمْ كُلَّ وَاحِدٍ مُجْتَمِعٍ مَعَ تِسْعَةٍ، أَوْ دُونَهَا إلَى اثْنَيْنِ بِخِلَافِ أَكْرِمْ الرِّجَالَ، فَمَعْنَاهُ أَكْرِمْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنْضَمٍّ إلَى عَشَرَةٍ فَأَكْثَرَ.

الثَّانِي: أَنَّ الْعُمُومَ فِي نَحْوِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَصَرَّفَ الشَّارِعُ فِيهَا بِالنَّقْلِ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهَا، فَحَيْثُ جَاءَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَنَحْوِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومَ تَصَرُّفًا مِنْ الشَّارِعِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ لُغَةً، ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ "، وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرَهُ، ثُمَّ ضَعَّفَهُ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّصَرُّفِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ. الثَّالِثِ: ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ لَا تَسْتَمِرُّ الْعَرَبُ فِيهِ بِصِيغَةِ الْكَثِيرِ، فَصِيغَةُ التَّقْلِيلِ فِيهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّكْثِيرِ أَيْضًا، لِكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ، كَقَوْلِهِمْ: فِي جَمْعٍ رِجْلٍ أَرْجُلٌ، فَهُوَ لِلتَّكْثِيرِ. الرَّابِعِ: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يُحْمَلُ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَا إذَا كَانَ مُنَكَّرًا وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى مَا إذَا كَانَ مُعَرَّفًا بِأَلْ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ اسْمَ الْعِلْمِ إذَا ثُنِّيَ أَوْ جُمِعَ وَلَمْ يُعَرَّفْ بِاللَّامِ، كَانَ نَكِرَةً بِالِاتِّفَاقِ، وَزَالَتْ عَنْهُ الْعَلَمِيَّةُ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ مُفَادَ الْعِلْمِ إذَا عُرِّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَالزَّيْدِينَ وَالزُّيُودِ، فَمَوْضُوعُ الْجَمْعِ إذَا لَمْ يُعَرَّفْ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الِاسْتِيعَابَ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ} [ص: 62] ، بِخِلَافِ حَالَةِ التَّعْرِيفِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ مَالِكٍ بِأَنَّ جَمْعَيْ التَّصْحِيحِ لِلْقِلَّةِ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِأَلْ الَّتِي لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَوْ يُضَافُ إلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، فَإِنْ اقْتَرَنَ صُرِفَ إلَى الْكَثْرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] ، وَقَوْلِهِ {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ حَسَّانُ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) فِي قَوْلِهِ:

لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ فِي الضُّحَى ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمًا وَاعْتَرَضَ الْمَازِرِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ عَلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي اتِّفَاقِ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَنَقَلَا الْخِلَافَ فِيهِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ، وَإِنَّمَا نُقِلَ فِيهِ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ مَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْخِلَافِ، فَكَلَامُ الْإِمَامِ إذَنْ مُسْتَقِيمٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ: قَدْ قِيلَ إنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ عَلَى وِزَانِ الْأَفْعَالِ كَالْأَبْوَابِ. أَوْ الْفِعْلَةِ كَالصِّبْيَةِ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَلَكِنَّ دَلَالَتَهُ دُونَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَاعْتَرَضَ الْأَصْفَهَانِيِّ شَارِحِ " الْمَحْصُولِ " عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ الْمُنَكَّرَ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. الْخَامِسِ: قَالَ الْإِمَامُ أَيْضًا: إنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ مَوْضُوعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِلْقِلَّةِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَثْرَةِ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ، فَنَظَرُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَنَظَرُ النَّحْوِيِّينَ إلَى أَصْلِ الْوَضْعِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ نَقَلَهُ ابْنُ الصَّائِغِ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ " عَنْ سِيبَوَيْهِ، فَقَالَ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ جَمْعَيْ السَّلَامَةِ لِلتَّقْلِيلِ، غَيْرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَسْمَاءِ لَا سِيَّمَا الصِّفَاتِ يُقْتَصَرُ مِنْهَا عَلَى جَمْعِ السَّلَامَةِ، وَلِذَلِكَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْكَثْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنَاتِ. وَزَعَمَ ابْنُ خَرُوفٍ أَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا، وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ، وَقَالَ صَاحِبُ " الْبَسِيطِ "

مِنْ النَّحْوِيِّينَ: إنَّهُ الْحَقُّ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي تَقْوِيَةِ مَقَالَةِ الْإِمَامِ، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ عَنْ الزَّجَّاجِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وَإِنْ كَانَ جَمْعَ السَّلَامَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْقِلَّةِ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] قَالَ ابْنُ إيَازٍ: وَاسْتُضْعِفَ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَارَ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ فَالْمَجَازُ أَوْلَى. قَالَ: بَلْ جَمْعُ السَّلَامَةِ مُذَكَّرُهُ وَمُؤَنَّثُهُ لِلْقِلَّةِ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْكَثْرَةِ فَذَلِكَ اتِّسَاعٌ. وَهَاهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَمْعَ يَنْقَسِمُ إلَى سَالِمٍ وَهُوَ مَا سَلِمَتْ فِيهِ بِنْيَةُ الْوَاحِدِ كَالزَّيْدِينَ وَالْهِنْدَاتِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِلَى مَا لَا يَسْلَمُ كَرِجَالٍ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: جَمْعُ قِلَّةٍ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ: أَفْعِلَةٌ كَأَرْغِفَةٍ، وَأَفْعُلٌ كَأَبْحُرٍ، وَفِعْلَةٌ كَفِتْيَةٍ، وَأَفْعَالٌ كَأَحْمَالٍ، وَمَدْلُولُهُ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ، وَوَقَعَ فِي " الْبُرْهَانِ " لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَقَالَ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَهُوَ تِسْعَةٌ، لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهُ وُضِعَ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَلَمْ يَخُصُّوهُ بِثَلَاثَةٍ أَوْ اثْنَيْنِ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْبَسِيطِ " مِنْ النَّحْوِيِّينَ: قَوْلُهُمْ: جَمْعُ الْقِلَّةِ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَة، اُخْتُلِفَ فِي الْعَشَرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ مَنْ أَدْخَلَ مَا بَعْدَ " إلَى " فِيمَا قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: عَشَرَةُ أَفْلُس، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَوَّلَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَالتِّسْعَةُ مُنْتَهَى جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يُدْخِلْ، وَأَمَّا تَمْيِيزُهَا بِجَمْعِ الْقِلَّةِ فَلِقُرْبِهَا مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] فَجَمَعَ فِي هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ أَكْثَرَ الْقَلِيلِ وَأَقَلَّ الْكَثِيرِ وَمَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ كَثِيرٌ بِالِاتِّفَاقِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ فَائِدَةٌ.

ما يدل عليه جمع الجمع

[مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَمْعُ الْجَمْعِ] وَنَبَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى فَائِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ جَاءَ الْجَمْعُ فِي أَلْفَاظٍ مَسْمُوعَةٍ نَحْوُ: نَعَمٌ وَأَنْعَامٌ وَأَنَاعِيمُ، وَهَذَا جَمْعُ الْجَمْعِ. قَالَ: وَأَقَلُّهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، لِأَنَّ النَّعَمَ اسْمٌ. لِلْجَمْعِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَأَنْعَامٌ جَمْعُهُ وَأَقَلُّهُ تِسْعَةٌ، وَأَنَاعِيمُ جَمْعُهُ وَأَقَلُّهُ ذَلِكَ، وَلَوْ قُلْت: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقَاوِيلُ لَكَانَ أَقَلُّهَا تِسْعَةً، لِأَنَّهَا جَمْعُ أَقْوَالٍ، وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَمْ يُوضَعْ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِاتِّفَاقٍ، قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: إنْ أَرَادَ ظَاهِرًا فَنَعَمْ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ قَطْعًا فَبَاطِلٌ، وَقَدْ قَالَ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ: إنَّ الْجَمْعَ الْقَلِيلَ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْكَثِيرِ وَعَكْسَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ مَثَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] وَظَاهِرُهُ إلْحَاقُ أَبْنِيَةِ الْقِلَّةِ مِنْ جَمْعِ التَّكْسِيرِ بِجَمْعِ السَّلَامَةِ فِي إفَادَةِ الْعُمُومِ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الرَّوْضَةِ "، فَقَالَ: إنَّهَا تُفِيدُ الْعُمُومَ إذَا عُرِّفَتْ وَيَكُونُ الْعُمُومُ مُسْتَفَادًا مِنْ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجِنْسِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْمُفْرَدَةِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَصْفَهَانِيِّ وَالْقَرَافِيِّ. وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّازِيَّ فِي " الْمَحْصُولِ " وَابْنِ الْحَاجِبِ: تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْجَمْعِ السَّالِمِ، وَأَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ لَمَّا كَانَ لِلْقِلَّةِ لَا يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، وَإِنْ عُرِّفَ تَعْرِيفَ جِنْسٍ، وَصَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ، وَجَعَلَ الِاسْتِغْرَاقَ خَاصًّا بِجَمْعِ السَّلَامَةِ إذَا عُرِّفَ قَالَ: وَإِنَّمَا حَمَلَ قَوْلَهُ: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] عَلَى الْعُمُومِ لِقَرِينَةٍ.

فائدة أل إذا دخلت على الجمع

[فَائِدَةٌ أَلْ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ] الثَّانِي: أَنَّ أَدَاةَ الْعُمُومِ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ فَهَلْ تَسْلُبُهُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَيَصِيرُ لِلْجِنْسِ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّهِ وَهُوَ الْوَاحِدُ؛ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ عَلَى الْكَلِمَةِ عُمُومَانِ أَوْ مَعْنَى الْجَمْعِ بَاقٍ مَعَهَا؟ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ الْأَوَّلُ، وَقَضِيَّةُ مَذْهَبِنَا الثَّانِي وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا ثَلَاثَةً مِنْ كُلِّ صِنْفٍ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الْعَامِلِينَ، وَقَالُوا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أَوْ لَا يَشْتَرِي الْعَبِيدَ حَنِثَ عِنْدَهُمْ بِالْوَاحِدِ، وَعِنْدَنَا لَا يَحْنَثُ إلَّا بِثَلَاثَةٍ، كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مُحَافَظَةً عَلَى الْجَمْعِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى كَوْنِهِ جَمْعَ كَثْرَةٍ حَتَّى لَا يَحْنَثَ إلَّا بِأَحَدَ عَشَرَ. نَعَمْ، ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ " الْحَاوِي " أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَصَدَّقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ حَنِثَ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْوَاحِدِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَأَتَصَدَّقَنَّ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ نَفْيَ الْجَمْعِ مُمْكِنٌ، وَإِثْبَاتَ الْجَمْعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَقَالَ السُّرُوجِيُّ فِي " الْغَايَةِ ": ذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الشَّامِلِ أَنَّ اللَّامَ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمُوعِ تَجْعَلُهَا لِلْجِنْسِ كَقَوْلِنَا، لَكِنَّ اشْتِرَاطَهُمْ الثَّلَاثَةَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ فِي الزَّكَاةِ يُخَالِفُ مَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ. قُلْت: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ أَوْ الشُّهُورَ، وَقَعَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ يُحْمَلُ عَلَى الْأُسْبُوعِ وَالسَّنَةِ، لِأَنَّهُ أَمْكَنُ الْعَهْدِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ، وَالرَّاجِحُ مَا صَارَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِالصِّيغَتَيْنِ، وَهُوَ بَقَاءُ مَعْنَى اللَّامِ، وَمَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ، لِأَنَّهُ الْمُسْتَعْمَلُ،

قَالَ تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] وَقَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ. وَيُلْزِمُ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ لَا يَصِحَّ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَخْصِيصُهُ وَكَذَلِكَ فِي اسْمِ الْجِنْسِ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] {إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] وَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ تَخْصِيصِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا يَتَنَاهَى. وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2 - 3] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وَالْبَاقِي بَعْدَ تَخْصِيصِ الرِّبَا تَحْتَ الْبَيْعِ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْكُلِّ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَأَيْضًا اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى جَوَازِ: جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُطْلَقَ جِنْسٌ مِنْ الْأَجْنَاسِ إلَّا عَلَى الْفَرْدِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ عَلَى كُلِّ الْجِنْسِ، وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ النُّحَاةَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ يَصْلُحُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِدُونِ تَقَيُّدِهِمْ بِالْفَرْدِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الْكُلِّ، بَلْ أَطْلَقُوا ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالُوا: الْمَصْدَرُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِصَلَاحِيَتِهِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَثْنِيَتِهِ وَجَمْعِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي تَفْسِيرِهِ: اللَّامُ تُفِيدُ الِاسْتِيعَابَ، وَالْجَمْعِيَّةُ تُفِيدُ التَّعَدُّدَ، وَمَا كُلُّ تَعَدُّدٌ اسْتِيعَابًا، فَإِنْ قُلْت: أَلَيْسَ يَتَدَاخَلُ التَّعَدُّدُ وَالِاسْتِيعَابُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِالِاسْتِيعَابِ، فَلَا يَحْتَاجُ مَعَ لَامِ الْجِنْسِيَّةِ

اسم الجمع إذا دخلته الألف واللام

إلَى الْجَمْعِ؟ قُلْت: اُحْتِيجَ إلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ، لِقَطْعِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ إلَى الْوَاحِدِ، فَالْجِنْسُ الْعَامُّ الْمُفْرَدُ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّصَ إلَى الْوَاحِدِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْجَمْعِ الْعَامِّ الْجِنْسِ أَنْ يُخَصَّصَ إلَى الْوَاحِدِ؛ بَلْ يَقِفُ جَوَازُ التَّخْصِيصِ عِنْدَ أَقَلِّ ذَلِكَ الْجَمْعِ، وَلَك أَنْ تَقُولَ: الرَّجُلُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَرْأَةِ تَفْضِيلٌ لِلْجِنْسِ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَالرِّجَالُ أَفْضَلُ مِنْ النِّسَاءِ تَفْضِيلٌ لِلْجِنْسِ جَمَاعَةً جَمَاعَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِغَرَضٍ يَخُصُّهُ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا فِي النَّفْيِ، فَقَالُوا: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] إنَّهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ دُونَ الْجِنْسِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ بَصَرٍ، وَهُوَ سَلْبُ الْعُمُومِ أَعْنِي نَفْيَ الشُّمُولِ، فَيَكُونُ سَلْبًا جُزْئِيًّا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى لَا يُدْرِكُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَبْصَارِ، لِيَكُونَ عُمُومُ السَّلْبِ، أَيْ شُمُولُ النَّفْيِ لِكُلِّ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ سَلْبًا كُلِّيًّا، كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ فِي الْإِثْبَاتِ لِإِيجَابِ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ، فَكَذَلِكَ هُوَ فِي النَّفْيِ لِسَلْبِ الْحُكْمِ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6] وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِجِوَارِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ، وَالْجِنْسُ فِي النَّفْيِ يَعُمُّ، وَبِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى تَعُمُّ الْأَحْوَالَ وَالْأَوْقَاتِ، وَبِأَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْبَصَرِ أَخَصُّ مِنْ الرُّؤْيَةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُهَا. [اسْمُ الْجَمْعِ إذَا دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ] وَأَمَّا اسْمُ الْجَمْعِ إذَا دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ

أقل ما يدل عليه لفظ الطائفة

لِلْجِنْسِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ حَنِثَ بِالْوَاحِدِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا آكُلُ الْخُبْزَ حَنِثَ بِبَعْضِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ نَاسًا يُحْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةٍ. نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ. لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِجَمِيعِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْجَمْعِ فِي إفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " جَرَيَانُ خِلَافِ أَبِي هَاشِمٍ فِيهِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ لَفْظَ النَّاسِ، وَجَعَلَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ الْجَمْعَ مِمَّا يَعُمُّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ، وَهَذَا مِمَّا يَعُمُّ بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ. [أَقَلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الطَّائِفَةِ] وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ لَفْظَ الطَّائِفَةِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى قِطْعَةٍ مِنْ شَيْءٍ، وَاخْتُلِفَ فِي أَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، هَلْ هُوَ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَقَلُّ؟ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ مَدْلُولُهَا الْقِطْعَةَ مِنْ النَّاسِ لَمْ تَكُنْ عَامَّةً؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ الْعُمُومِ شُمُولٌ لِغَيْرِ مُتَنَاهٍ وَلَا مَحْصُورٍ، قُلْت: وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الْمُخْتَصَرِ " عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الطَّائِفَةِ ثَلَاثَةٌ، فَقَالَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ: وَالطَّائِفَةُ ثَلَاثَةٌ فَأَكْثَرُ، وَأَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ طَائِفَةٍ انْتَهَى هَذَا نَصُّهُ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَذَكَرُوا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: أَقَلُّ الطَّائِفَةِ ثَلَاثَةٌ خَطَأٌ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ تُطْلَقُ عَلَى وَاحِدٍ، أَمَّا فِي اللُّغَةِ:

فَحَكَى ثَعْلَبٌ عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: مَسْمُوعٌ مِنْ الْعَرَبِ، أَنَّ الطَّائِفَةَ الْوَاحِدُ، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) احْتَجَّ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] فَحَمَلَ الطَّائِفَةَ عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ. وَأُجِيبُ بِأَجْوِبَةٍ أَشْهُرُهَا: تَسْلِيمُ أَنَّ الطَّائِفَةَ يَجُوزُ إطْلَاقُهَا عَلَى الْوَاحِدِ فَمَا فَوْقَهُ، وَحَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَابْنُ فَارِسٍ فِي " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ " وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الطَّائِفَةَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تَكُونَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] وَقَالَ فِي الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى. {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] فَذَكَرَهُمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ إلَّا عَلَى ثَلَاثَةٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، وَبِهِ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، مِنْهُمْ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقَالَ: وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ أَوْ

أَرْبَعَةٌ، وَإِنَّمَا حَمَلَ الشَّافِعِيُّ الطَّائِفَةَ عَلَى الْوَاحِدِ فِي قَوْلِهِ {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] بِالْقَرِينَةِ، وَهِيَ حُصُولُ الْإِنْذَارِ بِالْوَاحِدِ كَمَا حَمَلَهُ فِي الْأُولَى عَلَى الثَّلَاثَةِ بِقَرِينَةٍ وَهِيَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ: جَاءَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَقَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ كَالْقِطْعَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ طَائِفَةٌ مِنْ هَذَا، أَيْ قِطْعَةٌ مِنْهُ قَالَ: وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ إنَّمَا تُطْلَقُ عَلَى الْقِطْعَةِ مِنْ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَلَا يَكُونُ حِينَئِذٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ: هَذِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ اسْمُهَا عَلَى جِنْسٍ كَالنَّاسِ وَالْحَيَوَانِ وَالْفِيلِ، فَالْمَقْصُودُ بِهَا الْجَمَاعَةُ، كَمَا يُقَالُ: " كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ " أَيْ جَمَاعَةٌ، وَالْجَمَاعَةُ أَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ. هَذَا كَلَامُهُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي دَلَالَةِ بَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ كَالْقَوْمِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: يَعُمُّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَالصَّحِيحُ اخْتِصَاصُهُ بِالذُّكُورِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات: 11] وَكَذَلِكَ الرَّهْطُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّهُ اسْمٌ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنْ الرِّجَالِ لَا يَكُونُ فِيهِمْ امْرَأَةٌ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الرَّهْطُ جَمْعٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ إلَى عَشَرَةٍ، وَكَذَلِكَ النَّفَرُ، وَعَلَى هَذَا فَفِي عَدِّ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ نَظَرٌ.

اسم الجنس إذا أدخلت عليه الألف واللام

[اسْمُ الْجِنْسِ إذَا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ] وَأَمَّا اسْمُ الْجِنْسِ بِأَقْسَامِهِ السَّابِقَةِ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ سَوَاءٌ الِاسْمُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ الصِّفَةُ الْمُشْتَقَّةُ كَالضَّارِبِ، وَالْمَضْرُوبِ، وَالْقَائِمِ وَالسَّارِقِ، وَالسَّارِقَةِ، فَإِنْ كَانَ لِلْعَهْدِ فَخَاصٌّ، سَوَاءٌ الذِّكْرِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] أَوْ الذِّهْنِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} [الفرقان: 27] فَإِنَّ اللَّامَ فِي الرَّسُولِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي اللَّفْظِ. وَإِنْ لَمْ يُرَدْ بِهِ مَعْهُودٌ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدِهَا: أَنَّهُ يُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ، وَنُقِلَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَ " الْبُوَيْطِيِّ " وَنَقَلَهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي " الْأُمِّ " مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] إنْكَارًا عَلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ يَعُمُّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَطَابَقَ، وَالْفُقَهَاءُ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَيْهِ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ بِنَحْوِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مَعْلُومٌ قَبْلَ دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَإِذَا دَخَلَتَا وَلَا مَعْهُودَ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا جَدِيدًا.

وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ": " إنَّهُ الْمَذْهَبُ "، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْقَائِلِينَ بِالصِّيَغِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَكَافَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ، وَنَسَبَهُ لِأَصْحَابِهِ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: " إنَّهُ الصَّحِيحُ "، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالْجُبَّائِيُّ، وَنَصَرَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَصَحَّحَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَنْ الْمُبَرِّدِ وَالْفُقَهَاءِ. قُلْت: وَنَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: قَوْلُك شَرِبْت مَاءَ الْبَحْرِ مَحْكُومٌ بِفَسَادِهِ، لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَلَوْلَا اقْتِضَاؤُهُ الْعُمُومَ لَمَا جَاءَ الْفَسَادُ. لَكِنْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْعُمُومَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى عَلَى وَجْهَيْنِ، حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَصَحَّحَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] فُهِمَ أَنَّ الْقَطْعَ مِنْ أَجْلِ السَّرِقَةِ. وَصَحَّحَ سُلَيْمٌ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ اللَّامَ إمَّا لِلْعَهْدِ وَهُوَ مَفْقُودٌ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ اللَّفْظِ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ لِإِفَادَتِهِ الْعُمُومَ أَنْ يَصْلُحَ أَنْ يَخْلُفَ اللَّامَ فِيهِ " كُلُّ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] وَلِهَذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُفِيدُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إلَّا بِدَلِيلٍ،

وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي هَاشِمٍ وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمِيزَانِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ النَّحْوِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ، وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ " عَنْ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ عَلَى الْعَهْدِ، وَلَا يَقْتَضِي الْجِنْسَ، قَالَ: وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ عَيْنَ الْمَعْهُودِ صَارَ مُجْمَلًا، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمُرَادَ إلَّا بِتَفْسِيرٍ، وَهَذَا صِفَةُ الْمُجْمَلِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجِنْسِ، وَلِبَعْضِ الْجِنْسِ، وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْكُلِّ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ يُحْكَمُ بِظَاهِرِهِ، وَيُطْلَبُ دَلِيلُ الْمُرَادِ بِهِ. وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا فِيهِ الْهَاءُ، وَبَيْنَ مَا لَا هَاءَ فِيهِ، فَمَا لَيْسَ فِيهِ الْهَاءُ لِلْجِنْسِ عِنْدَ فِقْدَانِهَا، وَفِي الْقِسْمِ الْآخَرِ التَّوَقُّفُ، وَنَقَلَهُ الْإِبْيَارِيُّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَاَلَّذِي فِي الْبُرْهَانِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْمَازِرِيُّ أَنَّهُ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ عَهْدٍ فَلِلْجِنْسِ، نَحْوُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، وَإِنْ لَاحَ عَدَمُ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ لِلْجِنْسِ فَلِلِاسْتِغْرَاقِ، نَحْوُ الدِّينَارُ أَشْرَفُ مِنْ الدِّرْهَمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ خَرَجَ عَلَى عَهْدٍ أَوْ إشْعَارٍ بِجِنْسٍ فَمُجْمَلٌ، وَأَنَّهُ حَيْثُ يَعُمُّ لَا يَعُمُّ بِصِيغَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ عُمُومُهُ، وَتَنَاوَلَهُ الْجِنْسُ بِحَالَةٍ مُقْتَرِنَةٍ مَعَهُ مُشْعِرَةٍ بِالْجِنْسِ. الْخَامِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَتَمَيَّزَ لَفْظُ الْوَاحِدِ فِيهِ عَنْ الْجِنْسِ بِالتَّاءِ كَالتَّمْرِ وَالتَّمْرَةِ، فَإِذَا عُرِّيَ عَنْ التَّاءِ اقْتَضَى الِاسْتِغْرَاقَ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَالتَّمْرَ بِالتَّمْرِ» قَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ":

وَأَنْكَرَهُ الْفَرَّاءُ مُسْتَدِلًّا بِجَوَازِ جَمْعِهِ عَلَى تُمُورٍ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ جُمِعَ عَلَى اللَّفْظِ لَا الْمَعْنَى. وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ التَّاءُ لِلتَّوْحِيدِ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَشَخَّصْ مَدْلُولُهُ، وَلَمْ يَتَعَدَّدْ " كَالذَّهَبِ " فَهُوَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، إذْ لَا يُعَبَّرُ عَنْ أَبْعَاضِهِ بِالذَّهَبِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ تَشَخَّصَ مَدْلُولُهُ وَتَعَدَّدَ كَالدِّينَارِ وَالرَّجُلِ، فَيَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، نَحْوُ «لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ» ، وَيَحْتَمِلُ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِنَّمَا: الْجِنْسُ قَوْلُك، الدِّينَارُ أَفْضَلُ مِنْ الدِّرْهَمِ بِقَرِينَةِ التَّسْعِيرِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَ " الْمَنْخُولِ "، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالْمَرِيسِيُّ، وَنَازَعَهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي الدِّينَارِ وَالرَّجُلِ. وَقَالَ الْحَقُّ مَا حَقَّقَهُ وَهُوَ فِي كِتَابِ " مِعْيَارِ الْعِلْمِ " فِي الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَ فِيهِ اقْتِضَاءَهُ الِاسْتِغْرَاقَ بِمُجَرَّدِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَرِينَةٍ زَائِدَةٍ. وَقَالَ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": يُحْتَمَلُ كَوْنُهَا لِلْعَهْدِ أَوْ الْجِنْسِ. وَكَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَهَذَا تَنَاقُضٌ. قَالَ: وَالْعُمُومُ فِيهِ غَيْرُ عُمُومِ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ،

فَإِنَّ عُمُومَ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى يَدْخُلُ تَحْتَهُ كَثْرَةٌ تَشْمَلُهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الْمُفْرَدِ كُلِّيًّا، وَأَمَّا الْعُمُومُ الْآخَرُ، وَهُوَ عُمُومُ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ، فَلَا يَكُونُ إلَّا فِي قَوْلٍ: كَخَبَرٍ، أَوْ أَمْرٍ، أَوْ نَهْيٍ، مِثْلُ: الْإِنْسَانُ فِي خُسْرٍ، وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، وَالْحُكْمُ فِي قَوْلِك: خُسْرٍ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ فِي الْأَمْرِ. انْتَهَى. وَحَكَى الْإِمَامُ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِصِيَغِ الْعُمُومِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يُجْمَعُ كَالتَّمْرِ وَالتُّمُورِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حَالَةُ الْجَمْعِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا لَا حَاصِلَ لَهُ، فَإِنَّ الِاسْتِغْرَاقَ ثَابِتٌ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِمْ امْتِنَاعُ قَوْلِ الْقَائِلِ: تَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ مُتَعَلِّقِهِمْ فِي الْجَمْعِ. وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: النَّاقَةُ تُجْمَعُ عَلَى نُوقٍ، ثُمَّ النُّوقُ تُجْمَعُ عَلَى نِيَاقٍ، وَهُمَا مِنْ أَبْنِيَةِ الْكَثْرَةِ، ثُمَّ يُجْمَعُ النِّيَاقُ عَلَى أَيْنُقْ هُوَ، وَهُوَ مَقْلُوبُ آنِقٍ أَوْ أَنِيقً، وَالْأَفْعَلُ مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ. ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ: وَالْحَقُّ أَنَّ التَّمْرَ أَقْعَدُ بِالْعُمُومِ مِنْ التُّمُورِ، لِاسْتِرْسَالِهِ عَلَى الْآحَادِ لَا بِصِيغَةٍ لَفْظِيَّةٍ، وَأَمَّا التُّمُورُ فَإِنَّهُ يَرِدُ إلَى تَخَيُّلِ الْوَحَدَاتِ ثُمَّ يَجِيءُ الِاسْتِغْرَاقُ بَعْدَهُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ. قَالَ شَارِحُوهُ: يُرِيدُ أَنَّ مُطْلَقَ لَفْظِ التَّمْرِ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى الْمُشْتَمِلِ لِلْآحَادِ، وَالتَّمْرُ يُلْتَفَتُ فِيهِ إلَى الْوَاحِدِ، فَلَا يَحْكُمُ فِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ عَلَى أَفْرَادِهَا. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ: تُمُورٌ، فَقَدْ تَخَيَّلَ رَدَّهُ إلَى الْوَاحِدِ عِنْدَ إرَادَةِ الْجَمْعِ، وَأَرَادَ دَلَالَتَهُ عَلَى الْجِنْسِ، وَهِيَ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهَا، وَصَيَّرَ دَلَالَةَ الْجِنْسِ إلَى لَفْظِ الْجَمْعِ الَّذِي فِيهِ خِلَافٌ. وَقَوْلُهُ: الْجَمْعُ يُرَدُّ إلَى تَخَيُّلِ الْوَحَدَاتِ، يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ. " الْمَقْصُودَةُ "، وَإِلَّا فَاسْمُ الْجِنْسِ يَتَخَيَّلُ فِيهِ

الْوَحَدَاتِ، لَكِنَّ آحَادَهُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِخِلَافِ الْجَمْعِ، وَتَمْثِيلُهُ بِالتَّمْرِ مُعَرَّفًا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ التَّمْرَ مُفْرَدٌ، وَأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ يَعُمُّ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّمْرِ: هَلْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، لِأَنَّهُ تَمَيَّزَ بِهِ، وَلَا تَمَيُّزَ إلَّا بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، أَوْ جَمْعُ تَمْرَةٍ يُفَرَّقُ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَجَمْعِهِ بِالتَّاءِ؟ وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ، فَإِنَّ التَّمْرَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَفْرَادٍ مَقْصُودَةٍ بِالْعَدَدِ وَإِنَّمَا يُجْمَعُ إذَا قَصَدْت أَنْوَاعَهُ لَا أَفْرَادَهُ، فَهُوَ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ كَمَاءٍ. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كُلٌّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكِتَابِهِ) وَقَالَ: " كِتَابُهُ أَكْثَرُ مِنْ كُتُبِهِ " يُرِيدُ أَنَّ كِتَابَهُ يَنْصَرِفُ إلَى جِنْسِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، فَدَلَالَتُهُ أَعَمُّ مِنْ كُتُبِهِ، لِأَنَّ كُتُبَهُ جَمْعٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الْكِتَابَ وَاحِدٌ نُحِيَ بِهِ نَحْوُ الْجِنْسِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْعُمُومِ مِنْ الْجَمْعِ، فَمَعْنَاهُ مُفْرَدًا أَدَلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ مِنْهُ جَمْعًا، وَفِي قَوْلِهِ: نَحَّى بِهِ نَحْوَ اسْمِ الْجِنْسِ، مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ غَيْرَ اسْمِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ مَا نُحِيَ بِهِ نَحْوُ الشَّيْءِ غَيْرُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَرَى أَنَّ تَمْرًا اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعٌ كَرَهْطٍ وَقَوْمٍ، وَهُوَ قَوْلٌ، فَفِي تَمْرٍ إذَنْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] إنَّ الْمَلَكَ أَعَمُّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَذُكِرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْجَمْعِ وَيَزِيدُ هَاهُنَا مَذَاهِبُ أُخْرَى كَمَا بَيَّنَّا. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْمُفْرَدِ أَوْ الْجَمْعِ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ فِيهِمَا جَمِيعًا عِنْدَ مُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ، إلَّا إذَا كَانَ مَعْهُودًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ فِيهِمَا لَا الِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ أَحَدُ

قَوْلَيْ أَبِي هَاشِمٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ إنَّهُ فِي الْمُفْرَدِ لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ، وَفِي الْجَمْعِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، لَا لِلِاسْتِغْرَاقِ إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُفْرَدِ كَانَ صَالِحًا لَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ إلَى أَنْ يُحَاطَ بِهِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ إلَى الْوَاحِدِ مِنْهُ، وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ صَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْجِنْسِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ لَا إلَى الْوَاحِدِ، وَهَذَا مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] فَإِنَّ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مُتَوَقِّفَةٍ عَلَى الْجَمْعِ وقَوْله تَعَالَى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} [آل عمران: 39] . وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ الْجِنْسِ بِدَلِيلِ اسْتِثْنَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين: 6] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 22] ، وَاسْتِثْنَاءُ الْمُصَلِّينَ دَالٌّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ» وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ جِنْسِ الْحِنْطَةِ، وَلَنَا

فِي الْجَمْعِ قَوْله تَعَالَى: (يَأَيُّهَا النَّاسُ) وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ الْجِنْسِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: 8] وَالْمُرَادُ بِهِ الْكُلُّ، وَالْمَعْقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مُطْلَقَ الْجِنْسِ كَانَ مُسْتَفَادًا قَبْلَ دُخُولِ اللَّامِ، وَلَا بُدَّ لِدُخُولِهَا مِنْ فَائِدَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الِاسْتِغْرَاقَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ، إمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهَا الْعَهْدَ فَلَا إشْكَالَ فِي عَدَمِ عُمُومِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهَا تَعْرِيفَ اسْمِ الْجِنْسِ فَلَا إشْكَالَ فِي عُمُومِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُشْكِلَ الْحَالُ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ الْعَهْدِ؟ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ التَّعْمِيمُ، وَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ، أَيْ حَقِيقَةَ الْجِنْسِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأَفْرَادِ، فَهِيَ لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُك: الرَّجُلُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَرْأَةِ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ: هَذَا مِمَّا تَرَدَّدُوا فِيهِ، فَقِيلَ: لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ. وَقِيلَ: لَا وَاخْتَارَ الْإِمَامُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يُعَرِّفَ هُنَا بِنَاءً عَلَى تَنْكِيرٍ سَابِقٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اُقْتُلْ رَجُلًا ثُمَّ يَقُولَ: اُقْتُلْ الرَّجُلَ، فَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَإِنْ قَالَهُ ابْتِدَاءً فَلِلْجِنْسِ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِ هَلْ خَرَجَ تَعْرِيفًا لِنَكِرَةٍ سَابِقَةٍ أَوْ إشْعَارًا بِالْجِنْسِ، فَمَيْلُ الْمُعْظَمِ إلَى أَنَّهُ لِلْجِنْسِ. وَالْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ، فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ يَعُمُّ لَا يَعُمُّ بِصِيغَةِ اللَّفْظِ، بَلْ لِاقْتِرَانِ حَالَةٍ مُشْعِرَةٍ بِالْجِنْسِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ لَمْ يُتَّجَهْ إلَى التَّوَقُّفِ، وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلَ لِلَمْحِ الصِّفَةِ كَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، أَوْ لِلْغَلَبَةِ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا، فَلَا إشْكَالَ فِي عَدَمِ عُمُومِهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْلَامِ.

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] احْتِمَالَانِ عَامًّا وَمُجْمَلًا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَتَرَدَّدَا بَيْنَهُمَا، وَمِنْ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، وَعَامًّا فِي كُلِّ بَيْعٍ إلَّا مَا نَهَتْ عَنْهُ السُّنَّةُ. وَفِيهِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يُشْكِلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ وَالْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْفَرْقِ: إنَّ الْأَوَّلَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لِلشَّارِعِ عُرْفًا فِي الْأَسْمَاءِ، وَإِذَا كَانَ لِلشَّارِعِ عُرْفٌ فِي الْبَيْعِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَمَتَى وَرَدَ الِاسْمُ مِنْهُ صُرِفَ إلَى عُرْفِهِ، فَقَوْلُهُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى الشَّرْعِيَّ. وَيَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا تَخْصِيصَ فِيهِ وَلَا اسْتِثْنَاءَ، وَأَمَّا الْأَخِيرُ فَعَلَى قَوْلِنَا: إنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُغَيِّرْ الْأَسْمَاءَ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَهَا فِي مَوْضُوعِهَا اللُّغَوِيِّ، فَيَكُونُ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] أَيْ كُلُّ مَا يُسَمَّى بَيْعًا لُغَةً إلَّا مَا نُهِيَ عَنْهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَوْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ فَهُوَ عَامٌّ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ إلَيْهِ، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ احْتِمَالُ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَوَقُّفِهِ، وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الْبَيْعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، وَاخْتَلَفَ فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ الزَّكَاةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] إلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ خَصَّصَتْهَا السُّنَّةُ. وَالثَّانِي مُجْمَلَةٌ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ، وَهُمَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالتَّعْرِيفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَاحِدٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُفْرَدٌ مُشْتَقٌّ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَإِنْ عَمَّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَلْيَعُمَّ فِي الْآيَتَيْنِ، وَإِنْ عَمَّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلْيَعُمَّ فِيهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَعُمَّ مِنْ حَيْثُ

اللَّفْظُ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. فَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ، مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي آيَةِ الْبَيْعِ الْعُمُومُ، وَفِي آيَةِ الزَّكَاةِ الْإِجْمَالُ. وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ حِلَّ الْبَيْعِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَصْلَ فِي النَّافِعِ الْحِلُّ، وَفِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَمَهْمَا حُرِّمَ الْبَيْعُ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِتَضَمُّنِهَا أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ، فَوُجُوبُهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. ثُمَّ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابَيْنِ نَاظِرَةٌ إلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَلِذَلِكَ اعْتَنَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِبَيَانِ الْمَبِيعَاتِ الْفَاسِدَةِ، كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحُبْلَةِ وَالْمَضَامِينِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَلَمْ يَعْتَنِ بِبَيَانِ الْمَبِيعَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اعْتَنَى بِبَيَانِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَمْ يَعْتَنِ بِبَيَانِ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَمَنْ ادَّعَى الزَّكَاةَ فِي شَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ كَالرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ فَقَدْ ادَّعَى حُكْمًا عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَأَمَّا تَرَدُّدُ الشَّافِعِيِّ فِي آيَةِ الْبَيْعِ: هَلْ الْمُخَصِّصُ أَوْ الْمُبَيِّنُ لَهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دُونَ الزَّكَاةِ؟ فَلِأَنَّهُ عَقَّبَ حِلَّ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَالرِّبَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ اللُّغَوِيَّةِ، وَلَمْ يُعَقِّبْ الزَّكَاةَ بِشَيْءٍ. الثَّالِثُ: عَنْ هَذَا الْخِلَافِ نَشَأَ الْخِلَافُ فِي مَعْنَى الْحَمْدِ، فَقَالَ عَامَّةُ

الْفُقَهَاءِ: جَمِيعُ الْمَحَامِدِ لِلَّهِ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ؛ وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مَنْ الْحَمْدُ بِحَسْبِهِ فَهُوَ لِلَّهِ، لِأَنَّ اللَّامَ لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الْحَمْدِ مَا هُوَ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ اللَّامَ فِي الْحَمْدِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لِلْعَهْدِ، فَذَلِكَ كَلَامٌ بِلَا أَسَاسٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ هَذَا النَّقْلُ بَلْ قَالُوا: إنَّ اللَّامَ فِيهِ لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ، وَبِهَذَا ظَهَرَ تَقْرِيرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ الَّذِي قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَهَمٌ مِنْهُمْ. الرَّابِعُ حَكَى الْقَرَافِيُّ عَنْ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ أَنَّهُ اسْتَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْتِزَامُ أَصْلِ الطَّلَاقِ، وَعَلَى قِيَاسِ الْقَاعِدَةِ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ، وَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا نَقْلٌ عَنْ مُسَمَّاهُ اللُّغَوِيِّ إلَى الْعُرْفِ، فَنَقْلُ الْعُرْفِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عَنْ الْعُمُومِ إلَى حَقِيقَةِ الْجِنْسِ فِي الطَّلَاقِ خَاصَّةٌ لِدَلِيلٍ، وَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ، وَأَجَابَ غَيْرُهُ: بِأَنَّ الطَّلَاقَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا أَفْرَادَ لَهُ، وَلَكِنْ لَهُ مَرَاتِبُ مُشْتَرَكَةٌ فِي قَطْعِ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَحُمِلَ عَلَى أَدْنَى الْمَرَاتِبِ. الْخَامِسُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: لَامُ الْجِنْسِ تُخَصِّصُ جِنْسًا مِنْ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ كَ " لَامِ " الْعَهْدِ تُخَصِّصُ وَاحِدًا مِنْ الْآحَادِ، وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصٌ مَا لَمْ يَكُنْ عُمُومٌ أَوْ تَقْدِيرُهُ، فَتَقُولُ: إنْ زَارَك الصَّدِيقُ، أَيْ مَنْ صِفَتُهُ الصَّدَاقَةُ خَاصَّةً دُونَ الْعَدُوِّ، وَمَنْ لَيْسَ بِصَدِيقٍ وَلَا عَدُوٍّ، فَإِنْ نُكِّرَتْ زَالَ هَذَا التَّخْصِيصُ، وَانْقَلَبَ إلَى مَعْنَى الشِّيَاعِ فِي كُلِّ

صَدِيقٍ. قَالَ: فَقَوْلُنَا: رَجُلٌ فَاسِقٌ هُوَ بَعْضٌ مِنْ شِيَاعِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إفْرَازُ الْفَاسِقِ مِنْ الْعَدْلِ، وَلَا قَصَدَ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقْصِدُ إلَيْهِ لَوْ دَخَلَتْ اللَّامُ، فَإِنَّ الَّتِي تُمَيِّزُ الْجِنْسَ مِمَّا سِوَاهُ، وَالصِّفَةُ إنَّمَا تَقْتَضِي الشِّيَاعَ، وَالْكَلَامُ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ أَدَقُّ مِنْ الدَّقِيقِ. وَأَمَّا الْمُثَنَّى فَقَالَ الْقَرَافِيُّ هُوَ كَالْجَمْعِ فِي الْعُمُومِ، ثُمَّ قَالَ: لَا يُفْهَمُ الْعُمُومُ مِنْ إضَافَةِ التَّثْنِيَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ سَوَاءٌ كَانَ الْفَرْدُ يَعُمُّ أَمْ لَا فَإِذَا قَالَ: عَبْدَايَ حُرَّانِ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَهُمَا، وَكَذَلِكَ مَالَايَ، فَالْفَهْمُ عَنْ الْعُمُومِ فِي التَّثْنِيَةِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ وَالْفَرْدِ. انْتَهَى. وَالْإِضَافَةُ وَالتَّعْرِيفُ سَوَاءٌ، وَكَلَامُهُ الْأَوَّلُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الثَّانِي وَسَيَأْتِي فِيهِ مَزِيدٌ فِي الْإِضَافَةِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: الْعُمُومُ مِمَّا ذَكَرْنَا مُخْتَلِفٌ، فَالدَّاخِلُ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ يَعُمُّ الْأَفْرَادَ أَعْنِي كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَالدَّاخِلُ عَلَى الْجَمْعِ يَعُمُّ الْجُمُوعَ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَعُمُّ أَفْرَادَ مَا دَخَلَا عَلَيْهِ، وَقَدْ دَخَلَا عَلَى جَمْعٍ فَتَفَطَّنْ لَهُ. وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي النَّفْيِ وَالنَّهْيِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِفَرْدٍ، لِأَنَّهُ إنَّمَا حَصَلَ النَّفْيُ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ، وَلَا قَرِينَةَ تَنْفِي كُلَّ فَرْدٍ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ بَابِ الْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّ كُلِّيَّةَ الْجَمْعِ هِيَ أَفْرَادُ الْمَجْمُوعِ لَا كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ كُلِّ جَمْعٍ. وَيَنْبَغِي عَلَى مَسَاقِ هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ تَخْتَلِفَ الْجُمُوعُ فَتَشْمَلَ جُمُوعَ الْقِلَّةِ ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَلَا تَشْمَلُ جُمُوعُ الْكَثْرَةِ إلَّا أَحَدَ عَشَرَ أَحَدَ عَشَرَ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مُشْكِلٌ عَلَى اسْتِدْلَالِ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الصِّيَغِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ.

وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ التَّعْرِيفَ الْجِنْسِيَّ لِاسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ أَفْرَادِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ جَمْعًا فِي إثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، وَهَذَا لَا يُجْدِي، لِأَنَّ النِّزَاعَ فِيهِ، وَالْخَصْمُ يَقُولُ: إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَفْرَادِ الْجُمُوعِ لَا عَلَى فَرْدٍ فَرْدٍ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ قَرِينَةَ الْعُمُومِ الِاسْتِغْرَاقِيِّ هُنَا اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ مِنْ الْآحَادِ لَا مِنْ مَرَاتِبِ الْجُمُوعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى فِي دَلَالَةِ الْعُمُومِ الْكُلِّيَّةِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي إلَى أَنَّ اسْتِغْرَاقَ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُفْرَدِ لِمَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَقْوَى مِنْ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ إذْ كَانَ فِيهَا وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ، وَيَصْدُقُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ: لَا رِجَالَ فِي الدَّارِ، وَهَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ، أَمَّا فِي حَالَةِ الْإِثْبَاتِ مَعَ التَّعْرِيفِ الْجِنْسِيِّ، فَالشُّمُولُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَكِنَّ طَرِيقَهُ مُخْتَلِفٌ، كَمَا سَبَقَ نَقْلُهُ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَصَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكُتُبِهِ} وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنْ الْكُتُبِ، وَقَرَّرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، بِأَنَّ الْمُفْرَدَ يَدُلُّ عَلَى أَفْرَادِ جِنْسِهِ كُلِّهَا، لَا بِصِيغَةٍ لَفْظِيَّةٍ، بَلْ بِمَعْنَاهُ وَمَوْضُوعِهِ، وَأَمَّا فِي الْجَمْعِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ أَوَّلًا إلَى تَخَيُّلِ الْوَحَدَاتِ، ثُمَّ يَحْصُلُ الِاسْتِغْرَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَقْوَى. الثَّانِي: أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعُمُومِ، وَأَطْبَقَ الْمَنْطِقِيُّونَ عَلَى أَنَّ نَحْوَ قَوْلِنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ قَضِيَّةٌ مُهْمَلَةٌ فِي قُوَّةِ الْجُزْئِيَّةِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ " مِعْيَارِ الْعِلْمِ " عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الِاسْتِغْرَاقُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَجَبَ طَلَبُ الْمُهْلَةِ مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَهُوَ مُهْمَلٌ، إذْ يَحْتَمِلُ الْكُلَّ، وَيَحْتَمِلُ الْجُزْءَ، وَيَكُونُ قُوَّةُ الْمُهْمَلِ قُوَّةَ الْجُزْءِ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّرُورَةِ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْعُمُومُ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا يَصْدُقُ جُزْئِيًّا أَنْ لَا يَصْدُقَ كُلِّيًّا. انْتَهَى.

الثالث والعشرون الإضافة

وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إنْ سَلِمَ الِاسْتِغْرَاقُ لَزِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُهْمَلٌ، وَطَلَبَ ذَلِكَ مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى، إذْ لَيْسَ بَحْثُ الْمَنْطِقِيِّينَ قَاصِرًا عَلَى لُغَةٍ دُونَ لُغَةٍ، وَإِنْ مُنِعَ الِاسْتِغْرَاقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كَمَا تَأْتِي فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِلْعُمُومِ، تَأْتِي لِلْخُصُوصِ كَالْعَهْدِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ بِاعْتِبَارَيْنِ، فَلَا يَكُونُ بِمَعْنَى " كُلٍّ " وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ لَفْظَ الْإِهْمَالِ إذَا أُطْلِقَ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ تَعْمِيمٌ وَلَا تَخْصِيصٌ إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَلَوْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَيُقَابِلُ التَّنْوِينَ لِلتَّنْكِيرِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، لَكَانَ قَوْلُنَا: " الْإِنْسَانُ " لَا يَدُلُّ عَلَى الْوَاحِدِ أَلْبَتَّةَ " وَقَوْلُنَا: " إنْسَانٌ " لَا يَتَنَاوَلُ الشِّيَاعَ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، وَأَخْذُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ بِمَعْنَى أَنَّهَا سُوَرٌ هُوَ الْمُغَلَّطُ، فَإِنَّ الْقَضِيَّةَ إذَا ذُكِرَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ صَدَقَتْ فِي بَعْضٍ مَا، وَإِذَا قُرِنَ بِهِ لَفْظُ السُّوَرِ كَذَبَتْ، وَالسُّوَرُ الْكُلِّيَّةُ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى كُلِّيَّةِ الْحُكْمِ الْمَوْضُوعِ لَا عَلَى كُلِّيَّةِ الْمَحْمُولِ. الثَّالِثُ: أَجْمَعَ النُّحَاةُ بِأَنَّ " أَلْ " تَأْتِي لِتَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ وَالِاسْتِغْرَاقِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، لِأَنَّهُمْ إمَّا أَنْ يُرِيدُوا تَعْرِيفَ الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ أَيْ لَوْ بِقَيْدِ وُجُودِهَا ذِهْنًا أَوْ خَارِجًا، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ مَعَارِفَ كَمَا قُلْنَا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، أَوْ تَعْرِيفَهَا مِنْ حَيْثُ وُجُودُهَا فِي الذِّهْنِ أَوْ فِي الْخَارِجِ، فَحِينَئِذٍ هِيَ الِاسْتِغْرَاقُ فَلَا فَرْقَ، وَإِذْ قَدْ تَعَذَّرَ هَذَا فَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: أَنَّ " أَلْ " لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ خَاصَّةً حَيْثُمَا وَرَدَتْ، فَحَيْثُ يُقَالُ: هَذِهِ لِلْحَقِيقَةِ قُلْنَا لِلْعَهْدِ بِوَاسِطَةِ التَّهَكُّمِ أَوْ غَيْرِهِ، وَحَيْثُ قِيلَ: لِلِاسْتِغْرَاقِ قُلْنَا: لِلْعَهْدِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ لِمَا سَبَقَ. [الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ الْإِضَافَةُ] هِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعُمُومِ كَالْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَلِهَذَا عَاقَبَتْهَا، فَإِنْ دَخَلَتْ

عَلَى جَمْعٍ أَفَادَتْ الْعُمُومَ، سَوَاءٌ كَانَ جَمْعَ تَصْحِيحٍ أَوْ جَمْعَ تَكْسِيرٍ، كَذَا قَالُوا، وَفِي تَعْمِيمِ أَبْنِيَةِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي لِلْقِلَّةِ نَظَرٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْبُدِي أَحْرَارٌ، وَلَهُ عَبِيدٌ كَثِيرُونَ أَزْيَدُ مِنْ الْعَشَرَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ الْخِلَافِ، وَأَمَّا اسْمُ الْجَمْعِ فَكَذَلِكَ، وَأَمَّا اسْمُ الْجِنْسِ فَكَذَاك: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] وَقَوْلُهُ: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [الحاقة: 10] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنَعَتْ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ الشَّامُ قَفِيزَهَا وَصَاعَهَا» ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَن مَاءَ هَذَا الْبِئْرِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَقْتَضِي جَمِيعَ مَائِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَكَانَ كَقَوْلِهِ: لَأَصْعَدَن إلَى السَّمَاءِ، وَقِيلَ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ حَمَلَهُ عَلَى التَّبْعِيضِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَفَصَلَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ أَنْ يَصْدُقَ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ نَحْوُ مَالِي صَدَقَةٌ فَيَعُمُّ، وَبَيْنَ أَنْ يَصْدُقَ عَلَى الْجِنْسِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ فَلَا يَعُمُّ، نَحْوُ عَبْدِي حُرٌّ، وَامْرَأَتِي طَالِقٌ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْحَاجِبِ إشَارَةً لَطِيفَةً يَعْنِي فِي مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ " حَيْثُ ذَكَرَ صِيَغَ الْعُمُومِ، وَذَكَرَ أَسْمَاءَ الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالْمَوْصُولَاتِ وَالْجُمُوعِ الْمُعَرَّفَةَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ

وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَاسْمَ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ، وَالْمُضَافَ لِمَا يَصْلُحُ لِلْبَعْضِ وَالْجَمِيعِ، فَقَوْلُهُ: لِمَا يَصْلُحُ. . . إلَخْ يَقْتَضِي التَّقَيُّدَ بِمَا سَبَقَ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَعَلَّ الْقَرَافِيَّ أَخَذَهُ مِنْ تَفْصِيلِ الْغَزَالِيِّ السَّابِقِ فِي اسْمِ الْجِنْسِ إذْ دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُضَافَ يَعُمُّ، مَعَ اخْتِيَارِهِ بِأَنَّ الْمُعَرَّفَ بِأَلْ لَا يَعُمُّ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِضَافَةَ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ الْأَلِفِ وَاللَّامِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِهِ. وَلَمْ يَقِفْ الْهِنْدِيُّ عَلَى نَقْلٍ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ فِي " النِّهَايَةِ ": وَكَوْنُ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ لِلْعُمُومِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا لَهُمْ، لَكِنَّ قَضِيَّةَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَلَامِ التَّعْرِيفِ تَقْتَضِي الْعُمُومَ. وَالْحَقُّ أَنَّ عُمُومَ الْإِضَافَةِ أَقْوَى، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ حَنِثَ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ، لِعَدَمِ تَنَاهِي أَفْرَادِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءَ الْبَحْرِ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِكُلِّهِ. وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْعُمُومَ فِيمَا ذَكَرْنَا مُخْتَلِفٌ، فَالْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يَعُمُّ مَرَاتِبَ الْآحَادِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ الْمُضَافُ فَهَلْ يَعُمُّ مَرَاتِبَ الْجُمُوعِ أَوْ الْآحَادِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ أَوْ الْجِنْسُ، وَأَمَّا الْمُثَنَّى الْمُضَافَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] فَإِنْ قَدَّرْت الْإِضَافَةَ دَاخِلَةً عَلَى الْمُثَنَّى بَعْدَ التَّثْنِيَةِ، كَانَ مَعْنَاهَا التَّعْمِيمَ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْإِخْوَةِ، وَإِنْ قَدَّرْت التَّثْنِيَةَ دَاخِلَةً بَعْدَ الْإِضَافَةِ كَانَ مَعْنَاهَا تَثْنِيَةَ الْجِنْسَيْنِ الْمُضَافَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ لَا يُثَنَّى وَالْعَامُّ لَا يُثَنَّى لِاسْتِغْرَاقِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا امْتَازَ بِنَوْعٍ مِنْ الشِّقَاقِ جَازَ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْقَرَافِيِّ فِيهِ.

فرع كان له أربع زوجات فقال زوجتي طالق

[فَرْعٌ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَقَالَ زَوْجَتِي طَالِقٌ] فَرْعٌ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، فَقَالَ: زَوْجَتِي طَالِقٌ، وَقَعَ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، قَالَهُ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ تَطْلُقُ الْأَرْبَعُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ فِي الْأَيْمَانِ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجِنْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة: 187] وَأَرَادَ لَيَالِيَ الصِّيَامِ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ، وَالْكَلَامُ يُحَالُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا أَمْكَنَ، وَهُوَ إنَّمَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَلَا يَقَعُ عَلَى الْجَمَاعَةِ. قُلْت: وَهَذَا الْفَرْعُ مُخَالِفٌ لِتَعْمِيمِ الْمُضَافِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا سَبَقَ، فِي " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّعْمِيمُ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الصُّورَةَ وَأَمْثَالَهَا بِنَقْلِ الْعُرْفِ لَهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا اللُّغَوِيِّ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ، فَإِنَّهُ يَعُمُّ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى إبَاحَةِ السَّمَكِ الطَّافِي مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحِلُّ مِيتَتُهُ» . [تَنْبِيهٌ الْبَعْضُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْجُزْءِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ إذَا أُضِيفَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ] تَنْبِيهٌ الْبَعْضُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْجُزْءِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ إذَا أُضِيفَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَإِلَّا لَكَانَ قَامَ بَعْضُ الرِّجَالِ مِثْلَ قَامَ كُلُّهُمْ، كَذَا قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، وَيَنْبَغِي تَخْصِيصُ هَذَا بِبَعْضِ الْمُحَالِ وَهُوَ إذَا لَمْ تَدْعُ إلَى الْعُمُومِ ضَرُورَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَفْضَلَ مِنْ الْآخَرِ. فَإِنْ دَعَتْ كَانَ لِلْعُمُومِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ بِالْقَرِينَةِ لَا بِالْإِضَافَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25]

الرابع والعشرون النكرة في سياق النفي

فَإِنَّهُ عَامٌّ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا} [سبأ: 42] . وقَوْله تَعَالَى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 50] فَإِنَّ " يَتَسَاءَلُونَ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَذَلِكَ. وقَوْله تَعَالَى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عَدُوُّ الْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت: كُلُّكُمْ لِكُلٍّ عَدُوٌّ صَحَّ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] . وَيَنْبَغِي النَّظَرُ فِي مَوْضُوعِ اللَّفْظِ، وَفَائِدَةُ هَذَا فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ} [الفرقان: 20] . [الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ] النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ " بِمَا "، أَوْ " لَنْ "، أَوْ " لَمْ "، أَوْ " لَيْسَ "، وَسَوَاءٌ دَخَلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلَى فِعْلٍ نَحْوُ: مَا رَأَيْت رَجُلًا، أَوْ عَلَى اسْمٍ نَحْوُ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، وَسَوَاءٌ بَاشَرَهَا النَّفْيُ نَحْوُ مَا أَحَدٌ قَائِمًا، أَوْ عَامِلَهَا نَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] وَقَالَ الْآمِدِيُّ

فِي " أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ ": إنَّمَا تَعُمُّ النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ، فَأَمَّا الَّتِي لَيْسَتْ بِمَنْفِيَّةٍ لَكِنَّهَا فِي سِيَاقِهِ، فَلَا تَعُمُّ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] فِي جَوَابِ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعُمُومُ لَمْ يَلْزَمْ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِالْوَاحِدِ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّكِرَةَ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِمُعَيَّنٍ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْت رَجُلًا، وَالنَّفْيُ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ، فَإِذَا انْضَمَّ النَّفْيُ الَّذِي لَا اخْتِصَاصَ لَهُ، إلَى التَّنْكِيرِ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ، اقْتَضَى ذَلِكَ الْعُمُومَ. احْتَجَّ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِنَفْيِ الْعُمُومِ لَمَا كَانَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " نَفْيًا لِدَعْوَى مَنْ ادَّعَى سِوَى اللَّهِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ النَّكِرَةُ صَادِقَةً عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَشَيْءٍ وَمَوْجُودٍ وَمَعْلُومٍ، أَوْ مُلَازِمَةً لِلنَّفْيِ، نَحْوُ أَحَدٍ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِثْلُ: غَرِيبٍ، وَدَاعٍ، وَمُجِيبٍ، أَوْ وَاقِعَةً بَعْدَ " لَا " الْعَامِلَةِ عَمَلَ إنْ، وَهِيَ " لَا " الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ، مِثْلُ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، بِبِنَاءِ رَجُلٍ عَلَى الْفَتْحِ، أَوْ دَاخِلًا عَلَيْهَا مِنْ مِثْلِ: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ، فَإِنَّ كَوْنَهَا لِلْعُمُومِ مِنْ الْوَاضِحَاتِ، لَكِنْ هَلْ اُسْتُفِيدَ الْعُمُومُ فِي قَوْلِك: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ، مِنْ لَفْظَةِ " مِنْ " أَوْ كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ النَّفْيِ قَبْلَ دُخُولِهَا، وَدَخَلَتْ هِيَ لِلتَّأْكِيدِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلنَّحْوِيِّينَ، وَالصَّحِيحُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ، حَكَاهُ فِي " الِارْتِشَافِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى حُرُوفِ الْجَرِّ، وَاخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ، وَزَعَمَ أَنَّهَا لَا تَعُمُّ إلَّا إذَا بَاشَرَتْهَا " مِنْ " وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] إنَّمَا اُسْتُفِيدَ الْعُمُومُ مِنْ لَفْظَةِ " مِنْ " وَلَوْ قَالَ: مَا لَكُمْ إلَهٌ لَمْ يَعُمَّ، مَعَ أَنَّ لَفْظَةَ إلَهٍ نَكِرَةٌ، وَقَدْ حَكَمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَعُمَّ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْحَرِيرِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَنَازَعَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَقَالَا: لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْكَشَّافِ مَعَ نَقْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عَنْ سِيبَوَيْهِ: إنَّ " مَا جَاءَنِي رَجُلٌ " عَامٌّ، وَالْحَقُّ (أَنَّهُ) إنْ أَرَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِكَلَامِهِ ظَاهِرَهُ "، فَهُوَ شُذُوذٌ، وَيُحْمَلُ أَنْ يُرِيدَ مَا أَرَادَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ بَعْدَ دُخُولِ " مِنْ " فِي النَّفْيِ يَكُونُ الْعُمُومُ نَصًّا، وَدُونَهَا ظَاهِرًا، وَالِانْتِقَالُ مِنْ الظُّهُورِ إلَى النَّصِّ تَأْكِيدُ تَأْسِيسٍ، فَإِنَّهُ تَقْوِيَةٌ مُجَرَّدَةٌ، وَكَذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ النُّحَاةِ إلَى أَنَّ " لَا " الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ، دُونَ " لَا " الَّتِي هِيَ أُخْتُ لَيْسَ، فَإِنَّ مَعْنَى " مِنْ " مُتَضَمِّنٌ مَعَ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّائِغِ رَادًّا عَلَى مَنْ قَالَ: " لَا رَجُلَ " بَنَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى حَرْفِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ " مِنْ ". قَالَ سِيبَوَيْهِ: إنَّهُ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ النَّفْيِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَمَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ، " مِنْ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِتَأْكِيدِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ التَّأْوِيلِ: هِيَ لِلْعُمُومِ ظَاهِرًا عِنْدَ تَقْدِيرِ " مِنْ "، فَإِنْ دَخَلَتْ " مِنْ " كَانَتْ نَصًّا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَنَقَلَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ فِي " شَرْحِ الْإِيضَاحِ " عَنْ النَّحْوِيِّينَ، فَقَالَ: فَرَّقَ النَّحْوِيُّونَ بَيْنَ قَوْلِنَا: مَا جَاءَنِي رَجُلٌ، وَمَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ، أَنَّ الْأَوَّلَ يَحْتَمِلُ نَفْيَ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسِ، فَلَوْ جَاءَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ كَانَ صَادِقًا، وَالثَّانِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا نَفْيَ جَمِيعِ الْجِنْسِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَلَوْ قُلْت: بَلْ رَجُلَانِ كَانَ كَذِبًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ إلَّا أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ دُخُولِ " مِنْ " عَلَى أَدَاةِ

عُمُومٍ كَأَحَدٍ فَجَعَلَهَا مُؤَكِّدَةً لِلْعُمُومِ، وَبَيْنَ دُخُولِهَا عَلَى غَيْرِهِ كَرَجُلٍ، فَجَعَلَهَا مُقَيِّدَةً لَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ ": قَدْ فَرَّقَ أَهْلُ اللُّغَةِ بَيْنَ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ، وَمَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ وَبَيْنَ دُخُولِهِ عَلَى النَّكِرَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الْجِنْسِ، فِي مَا جَاءَنِي رَجُلٌ، وَمَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ، فَرَأَوْا تَسَاوِيَ اللَّفْظَيْنِ فِي الْأَوَّلِ. وَأَنَّ " مِنْ " زَائِدَةٌ فِيهِ، وَافْتِرَاقُ الْمَعْنَى فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا جَاءَنِي رَجُلٌ، يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُلُّ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا دَخَلَتْ " مِنْ " أَخْلَصَتْ النَّفْيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَغَيَّرَتْ الْفَائِدَةَ اهـ. لَا: لَوْ لَمْ يُفِدْ الْعُمُومَ مَعَ عَدَمِهَا لَمْ يُفِدْ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] وَنَحْوِهَا، مِمَّا لَا شَكَّ فِي إفَادَتِهِ الْعُمُومَ، وَلَيْسَ هُنَاكَ " مِنْ "، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ، فَدُخُولُ النَّافِي يَنْفِي مَعْنَاهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَهُوَ مُطْلَقُ الْمَاهِيَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ، وَتَسْمِيَتُهُمْ " لَا " لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَهُوَ بِانْتِفَاءِ كُلِّ فَرْدٍ. أَمَّا النَّكِرَةُ الْمَرْفُوعَةُ بَعْدَ " لَا " الْعَامِلَةُ عَمَلَ لَيْسَ، نَحْوُ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ فَهِيَ لِنَفْيِ الْوَحْدَةِ قَطْعًا، لَا لِلْعُمُومِ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي تَوْكِيدِهِ: بَلْ رَجُلَانِ أَوْ رِجَالٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَا رَجُلَ بِالْفَتْحِ، بَلْ رَجُلَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ الثَّانِي التَّعْمِيمَ دُونَ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ " الرَّجُلُ " الْمُقَيَّدُ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ، وَذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ وُجُودُ الِاثْنَيْنِ أَوْ الْجَمْعِ، بِخِلَافِ الْمَنْفِيِّ حَالَةَ الْفَتْحِ، فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ فِيهِ الْحَقِيقَةُ لَا بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ، وَذَلِكَ

يُنَافِيهِ ثُبُوتُ الْفَرْدِ، لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ فَرْدٌ ثَبَتَتْ الْحَقِيقَةُ بِالضَّرُورَةِ. هَكَذَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ، وَحَكَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَالْمُبَرِّدِ، وَالْجُرْجَانِيِّ فِي أَوَّلِ " شَرْحِ الْإِيضَاحِ "، وَابْنِ السَّيِّدِ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ " وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَغَيْرِهِمْ، وَتَبِعَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ "، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ " عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَصَرَّحَ بِهِ الْعَلَمُ الْقَرَافِيُّ فِي " مُخْتَصَرِ الْمَحْصُولِ ". وَحَكَاهُ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَالْقُرْطُبِيُّ فِي أُصُولِهِ عَنْ النُّحَاةِ، قَالَ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْفَتْحِ، وَالصَّوَابُ عَدَمُ اقْتِصَارِهَا عَلَى نَفْيِ الْوَحْدَةِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَأَنْ تَكُونَ لِنَفْيِ الْوَحْدَةِ، وَيُقَالُ فِي تَوْكِيدِهِ عَلَى الْأَوَّلِ: بَلْ امْرَأَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي بَلْ رَجُلَانِ أَوْ رِجَالٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: تَعَزَّ فَلَا شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ بَاقِيًا وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ مَعَ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِكَ مَا جَاءَ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ. وَنَقَلَهُ عَنْهُ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كَلَامِهِ عَلَى حُرُوفِ الْمَعَانِي، فَقَالَ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إذَا قُلْت: مَا جَاءَنِي رَجُلٌ، فَاللَّفْظُ عَامٌّ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُؤَوَّلَ بِمَا جَاءَنِي رَجُلٌ، بَلْ رَجُلَانِ، فَإِذَا قُلْت: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ، اقْتَضَى نَفْيَ جِنْسِ الرِّجَالِ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ هَذَا النَّصَّ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: لَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، وَسَأَلْتُ عَنْهُ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِالْكِتَابِ، فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ خَرُوفٍ فِي مَوَاضِعَ نَقَلَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَلَمْ يَرَهَا فِي كِتَابِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا مِنْهَا. وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ عَلَى الْعُمُومِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَتَجِيءُ عَلَى مَرَاتِبَ: فَأَدْنَاهَا مَا جَاءَنِي رَجُلٌ، لِعَدَمِ دُخُولِ " مِنْ " وَلِعَدَمِ اخْتِصَاصِ رَجُلٍ بِالنَّفْيِ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْعُمُومِ لَا نَصَّ، وَأَعْلَاهَا مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، لِانْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْعُمُومِ وَالْمَرْتَبَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ، وَمَا جَاءَنِي أَحَدٌ، وَهِيَ تَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الثَّانِي وَتَلْحَقُ بِهِ النَّكِرَةُ الْمَبْنِيَّةُ مَعَ " لَا " عَلَى الْفَتْحِ، فَأَمَّا الْمَرْفُوعَةُ فَلَيْسَتْ نَصًّا، بَلْ ظَاهِرٌ، كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ. تَتِمَّاتٌ الْأُولَى: أَنَّ حُكْمَ الْمَنْهِيِّ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْمَنْفِيِّ، كَقَوْلِكَ: لَا تَعِظْ نَاسًا وَلَا تَعِظْ رِجَالًا، كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ. الثَّانِيَةُ: زَعَمَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " أَنَّ النَّكِرَةَ فِي النَّفْيِ أَفَادَتْ الْعُمُومَ بِصِيغَتِهَا لَا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا، وَصَرَّحَ الرَّازِيَّ بِخِلَافِهِ وَهُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ لَا رَجُلَ عَمَّتْ بِزِيَادَةٍ دَخَلَتْ عَلَى رَجُلٍ، وَكَذَا قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، إنَّمَا عَمَّتْ النَّكِرَةُ لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْكَلَامِ، وَتَحْقِيقِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْإِفْهَامِ لَا أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ بِصِيغَتِهِ، فَالْعُمُومُ فِيهِ مِنْ الْقَرِينَةِ، هَذَا لَفْظُهُ، وَقَطَعَ بِهِ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ " فَقَالَ: النَّكِرَةُ عَمَّتْ اقْتِضَاءً لَا نَصًّا.

الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، هَلْ عَمَّتْ لِذَاتِهَا أَوْ لِنَفْيِ الْمُشْتَرَكِ فِيهَا؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا، بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ وُضِعَ لِسَلْبِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْكُلِّيَّةِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ، وَأَنَّ سَلْبَ الْكُلِّيِّ حَصَلَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ لِنَفْيِ الْكُلِّيَّةِ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إنَّمَا حَصَلَ الْعُمُومُ لِأَنَّ النَّفْيَ فِيهِ لِنَفْيِ الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ مَفْهُومُ الرَّجُلِ، وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُ كُلِّ فَرْدٍ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ فَرْدٌ لَمَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الرَّجُلِ مَنْفِيَّةً لِاسْتِلْزَامِ ذَلِكَ الْفَرْدِ الْحَقِيقَةَ الْكُلِّيَّةَ، فَإِنَّ نَفْيَ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَنَفْيُ الْأَعَمِّ يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْأَخَصِّ، فَحَصَلَتْ السَّالِبَةُ الْكُلِّيَّةُ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، لَا لِأَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِلسَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُنَا: النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ النَّفْيَ رَفْعٌ لِلْأَفْرَادِ؛ بَلْ رَفَعَ الْحَقِيقَةَ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعُمُومِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِنَفْيِهِ نَفْيَ كُلِّ رَجُلٍ رَجُلٍ لَا نَفْيَ الْمُشْتَرَكِ. فَإِنْ قِيلَ: دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ لَازِمَةٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّ نَفْيَ الْمُشْتَرَكِ لَازِمٌ لِنَفْيِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ، وَنَفْيُ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ لَازِمٌ لَهُ، قُلْنَا: لَكِنَّ نَفْيَ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْأَصَالَةِ بِخِلَافِ نَفْيِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَجَعْلُهُ مَدْلُولًا بِالْمُطَابَقَةِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ ذَلِكَ لِلْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ، وَالْمُخْتَارُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ النَّكِرَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْفَتْحِ فَبِاللُّزُومِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَبِالْوَضْعِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فَائِدَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَعْنِي نَفْيَ الْكُلِّيَّةِ أَوْ الْكُلِّيِّ جَوَازُ التَّخْصِيصِ بِالنِّيَّةِ

فِيمَا إذَا وَقَعَ الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي جَوَابًا لِقَسَمٍ أَوْ شَرْطًا، نَحْوُ وَاَللَّهِ لَا أَكَلْتُ، أَوْ إنْ أَكَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ، وَنَوَى مَأْكُولًا، فَعِنْدَنَا يُقْبَلُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّهُ عَامٌّ قَطْعِيًّا فَتُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْبَلُ؛ بَلْ يَحْنَثُ بِأَكْلِ كُلِّ مَأْكُولٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ لِلْكُلِّيِّ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا: النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ، أَنَّهَا تُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ، لَا نَفْيَ الْعُمُومِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ بِالثُّبُوتِ فِي الْبَعْضِ، وَقَدْ يَسْلَمُ لُزُومُهُ مِنْ نَفْيِ النَّكِرَةِ، لَكِنَّ غَايَتَهُ أَنَّ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ نَفْيِ الْمَاهِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي مَقْصُودِنَا؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ الْأَوَّلَ يُحَقَّقُ بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُ مَا لَيْسَ بِعَامٍّ، لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ عُمُومُ النَّفْيِ كَمَا هُوَ فِي نَفْيِ الْمَاهِيَّةِ. وَثَانِيهِمَا: بِنَفْيِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ مَا هُوَ عَامٌّ، وَمَتَى تَحَقَّقَ الْخَاصُّ تَحَقَّقَ الْعَامُّ. الرَّابِعَةِ: اسْتَثْنَى مِنْ كَوْنِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ سَلْبَ الْحُكْمِ عَنْ الْعُمُومِ، كَقَوْلِنَا: مَا كُلُّ عَدَدٍ زَوْجًا، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ عُمُومِ السَّلْبِ، أَيْ لَيْسَ حُكْمًا بِالسَّلْبِ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَدَدِ زَوْجٌ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، بَلْ الْمَقْصُودُ بِهِ إبْطَالُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ كُلَّ عَدَدٍ زَوْجٌ، فَأَبْطَلَ السَّامِعُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْعُمُومِ، وَهَكَذَا اسْتَثْنَاهُ السُّهْرَوَرْدِيّ فِي " التَّنْقِيحَاتِ "، وَالْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُمَا. الْخَامِسَةِ: قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي آخِرِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ مِنْ " شَرْحِ التَّسْهِيلِ ": مَا ذَكَرَهُ النُّحَاةُ وَالْأُصُولِيُّونَ مِنْ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ، لَيْسَ عِنْدِي عَلَى إطْلَاقِهِ، فَإِنَّا نُفَرِّقُ بَيْنَ: مَا قَامَ كُلُّ رَجُلٍ. وَمَا قَامَ رَجُلٌ. وَالنَّفْيُ عِنْدِي مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِثْبَاتِ، فَإِنْ كَانَ الْإِثْبَاتُ عَامًّا كَانَ النَّفْيُ عَامًّا،

السادسة النكرة في سياق النفي إذا كانت جمعا

وَإِنْ كَانَ الْإِثْبَاتُ خَاصًّا بِمُطْلَقٍ كَانَ النَّفْيُ لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ، لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَنْ الْمُطْلَقِ انْتِفَاؤُهُ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُطْلَقِ، فَإِذَا قُلْت: قَامَ كُلُّ رَجُلٍ، فَهَذَا إثْبَاتٌ لِقِيَامِ كُلِّ رَجُلٍ، فَإِذَا نَفَيْتَ فَقُلْتَ: مَا قَامَ كُلُّ رَجُلٍ، انْتَفَى الْقِيَامُ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ الرِّجَالِ. وَإِذَا قُلْت: قَامَ رَجُلٌ، فِيهِ إثْبَاتُ قِيَامٍ لِمُطْلَقِ رَجُلٍ. فَإِذَا قُلْت: مَا قَامَ رَجُلٌ، نَفَيْتَ الْقِيَامَ. عَنْ مُطْلَقِ رَجُلٍ، هَذِهِ دَلَالَةُ هَذَا اللَّفْظِ، لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ حَيْثُ نَفْيُ الْقِيَامِ عَنْ مُطْلَقِ رَجُلٍ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي صُورَةٍ مَا مِنْ صُوَرِ الْمُطْلَقِ، فَمَعْنَى الْعُمُومِ لَازِمٌ لَهُ؛ لَا أَنَّ اللَّفْظَ وُضِعَ لِلْعُمُومِ، وَهَذَا لَفْظُهُ. وَنَازَعَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ التَّبْرِيزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ عَلَى مَا ذُكِرَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَا قَامَ كُلُّ رَجُلٍ، سَلَبَ الْقِيَامَ عَنْ كُلِّ رَجُلٍ، وَلَا يَلْزَمُ السَّلْبُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ إذَا سَلَبَ الْجُزْئِيَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْكُلِّيَّ، نَعَمْ يَكُونُ سَلْبُ الْقِيَامِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ. [السَّادِسَةُ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ إذَا كَانَتْ جَمْعًا] [النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ إذَا كَانَتْ جَمْعًا] السَّادِسَةُ: هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ مُفْرَدَةً، فَإِنْ كَانَتْ جَمْعًا نَحْوُ مَا رَأَيْت رِجَالًا فَفِيهِ قَوْلَانِ، حَكَاهُمَا الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ "، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي " التَّلْوِيحِ " فَقَالَ الْقَاضِي هُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، كَنَكِرَةِ الْوَاحِدِ بَلْ أَوْلَى. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ لَا يَقْتَضِيهِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا} [ص: 62] وَصَحَّحَهُ إلْكِيَا، وَقَالَ: لِأَنَّ الْإِبْهَامَ فِي النَّكِرَةِ اقْتَضَى الِاسْتِغْرَاقَ، وَإِذَا ثُنِّيَ أَوْ جُمِعَ زَالَ مَعْنَى الْإِبْهَامِ، وَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: مَا رَأَيْت رِجَالًا، وَإِنَّمَا رَأَيْت رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ:

السابعة إن كانت النكرة مثبتة لم تعم

مَا رَأَيْت رَجُلًا وَإِنَّمَا رَأَيْت رِجَالًا، سِيَّمَا إذَا قَالَ: مَا رَأَيْت مِنْ أَحَدٍ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ تَرْجِيحُهُ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَالَ: وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، فَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ إلْكِيَا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ جَوَازَ أَنْ يُقَالَ: مَا رَأَيْت رَجُلًا، ثُمَّ يَقُولُ: مَا رَأَيْت رِجَالًا. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ ": الْجَمْعُ بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ وَالنَّكِرَةِ سَوَاءٌ فِي اقْتِضَائِهِ الْعُمُومَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] فَهُوَ عُمُومٌ لِكُلِّ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ، وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْجَمْعَ إذَا جَاءَ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ نَحْوُ: قَالَ رِجَالٌ، لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ، وَهُوَ فَاسِدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَإِذَا جَاءَ هَذَا فِي الْإِثْبَاتِ؛ فَلَأَنْ يَقُولَ بِهِ فِي النَّفْيِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. [السَّابِعَةُ إنْ كَانَتْ النَّكِرَةُ مُثْبَتَةً لَمْ تَعُمَّ] َّ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ الِاعْتِبَارُ بِالنَّفْيِ، وَلَا الْإِثْبَاتِ، وَلَكِنْ كُلُّ نَكِرَةٍ لَا تَحْتَمِلُ الِاسْتِثْنَاءَ فَهِيَ غَيْرُ عَامَّةٍ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَإِنْ صَحَّ عُمُومُهَا عَلَى الْبَدَلِ، وَكُلُّ نَكِرَةٍ تَحْتَمِلُ الِاسْتِثْنَاءَ فَهِيَ عَامَّةٌ اهـ. وَأَمَّا نَحْوُ: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] ، وَحَدِيثُ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا» ، فَغَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ

فِيهِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، فَجَاءَ الْعُمُومُ فِيهِ بِالْعَرْضِ، وَلَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ حَقِيقِيٌّ إذْ لَا أَفْرَادَ تَحْتَ مُطْلَقِ الْمَاهِيَّةِ حَتَّى يَعُمَّهَا. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ ": النَّكِرَةُ قَبْلَ دُخُولِ " أَلْ " عَلَيْهَا تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى الصَّلَاحِ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل: 75] وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: بِالْبَابِ رِجَالٌ، ائْذَنْ لِرَجُلٍ، صَلَحَ ذَلِكَ لِكُلِّهِمْ عَلَى الْبَدَلِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيُّهُمْ أَرَادَ. اهـ. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَيُسْتَثْنَى صُوَرٌ تَعُمُّ فِيهَا مَعَ الْإِثْبَاتِ لِقَرِينَةٍ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ: مِنْهَا: وُقُوعُهَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176] {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} [النساء: 128] ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ "، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان: 27] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الشَّرْطَ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ، فَأَشْبَهَ النَّفْيَ وَقَرَّرَهُ الْمَازِرِيُّ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ هَذَا نَقْضًا، لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ الْمَنْفِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِطَ لَمْ يُجِزْ وُقُوعَ الشَّرْطِ، حَيْثُ جَعَلَهُ شَرْطًا، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِالنَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ الْمَحْضِ، كَقَوْلِنَا: فِي الدَّارِ رَجُلٌ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا النَّهْيُ وَالشَّرْطُ، وَالِاسْتِفْهَامُ فَهُوَ عِنْدَ النُّحَاةِ كُلُّهُ كَلَامٌ غَيْرُ مُوجِبٍ، مَعَ أَنَّ الْإِبْيَارِيَّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " رَدَّ عَلَيْهِ حَيْثُ مَثَّلَ بِقَوْلِهِ: مَنْ يَأْتِنِي بِمَالٍ فَأُكْرِمْهُ، وَأَنْكَرَ الْعُمُومَ، فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ لَمَا اسْتَحَقَّ

الْإِكْرَامَ مَنْ أَتَى بِمَالٍ وَاحِدٍ، بَلْ كَانَ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الْأَمْوَالِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَنِي بِكُلِّ مَالٍ، وَكَأَنَّ هَذَا مِنْهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْمِثَالِ، لَا الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: النَّكِرَةُ هُنَا لَمْ تَقْتَضِ عُمُومًا إذْ الْمَطْلُوبُ مَالٌ مُعَيَّنٌ، وَإِنَّمَا الْعُمُومُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ. لَا فِي مُتَعَلِّقِ الشَّرْطِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِ الشَّرْطِ عُمُومُ مَا وَقَعَ فِي مَسَاقِهِ، فَإِذَا قُلْت: مَنْ يَأْتِنِي بِزَيْدٍ فَالْعُمُومُ فِي الْآتِي لَا فِي الْمَأْتِيِّ بِهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ لَا تَتَنَاوَلُ الْآحَادَ عُمُومًا، وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُهَا عَلَى الْبَدَلِ، وَلَوْ كَانَتْ عَامًّا فِي الشَّرْطِ لَعَمَّتْ مَعَ الْأَمْرِ، إذَا قَالَ: ائْتِنِي بِثَوْبٍ، فَلَوْ أَتَاهُ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ لَكَانَ مُمْتَثِلًا وَلَوْ أَتَاهُ بِعَشَرَةٍ كَانَ حَائِدًا عَنْ الْمَطْلُوبِ، فَلَوْ كَانَ لَفْظُ الثَّوْبِ يَتَنَاوَلُ الْعَشَرَةَ لَمَا عُدَّ مُخَالِفًا. وَمِنْهَا: الْوَاقِعَةُ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ الِاسْتِفْهَامِيِّ، فَإِنَّهَا لِلْعُمُومِ كَالنَّفْيِ، ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْقَرَافِيُّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] . وَمِنْهَا: الْوَاقِعَةُ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ " لَكِنْ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الْبَيَانِيِّينَ: إنَّ النَّكِرَةَ تَأْتِي لِلتَّكْثِيرِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ التَّكْثِيرَ هُوَ التَّعْمِيمُ أَوْ مُلَازِمُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا لِلتَّكْثِيرِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية: 12] . وَمِنْهَا: الْوَاقِعَةُ فِي سِيَاقِ الطَّلَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] فَإِنَّ حَسَنَةً نَكِرَةٌ مُرَادٌ بِهَا التَّعْمِيمُ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ جَوَامِعِ الْأَدْعِيَةِ.

وَمِنْهَا: فِي الْأَمْرِ لِلْعُمُومِ، وَنَسَبَهُ فِي الْمَحْصُولِ " لِلْأَكْثَرِينَ، نَحْوُ أُعْتِقُ رَقَبَةً، وَإِلَّا لَمَا خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِأَيِّ إعْتَاقٍ، وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَالَ: هَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ لَمَا خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ إلَّا بِإِعْتَاقِ رِقَابِ الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] حَيْثُ يَجِبُ قَتْلُ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ. وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لَا تَعُمُّ، وَبِهِ صَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: إذَا قَالَ الْحَكِيمُ: اُقْتُلْ مُشْرِكًا لَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ إلَّا قَتْلُ مُشْرِكٍ مَا، قَالَ: يَجِبُ الْوَقْفُ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الْبَيَانُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْمُشْرِكَ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ، وَقِيلَ: إذَا حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ خُصَّ، وَوُقِفَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُطْلَقٌ، وَلَوْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى التَّقْيِيدِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا وَلَا مُخَصَّصًا، وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي عُمُومِ النَّكِرَةِ فِي الْإِنْشَاءِ لَفْظِيٌّ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْعُمُومِ لَا يُرِيدُ شُمُولَ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ، حَتَّى يَجِبَ فِي مِثْلِ: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، ذَبْحُ كُلِّ بَقَرَةٍ. وَفِي مِثْلِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] ، تَحْرِيرُ كُلِّ رَقَبَةٍ بَلْ الْمُرَادُ ذَبْحُ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، وَعِتْقُ أَيِّ رَقَبَةٍ كَانَتْ، فَإِنْ سُمِّيَ مِثْلُ هَذَا عَامًّا فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ تَصَوُّرَهُ لَا يَمْنَعُ الشَّرِكَةَ فِيهِ؛ وَإِنْ جُعِلَ مُسْتَغْرِقًا فَكُلُّ نَكِرَةٍ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا جِهَةَ لِلْعُمُومِ. وَمِنْهَا: قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: قَدْ تَعَرَّضَتْ النَّكِرَةُ لِلْعُمُومِ، فِيمَا إذَا وُصِفَتْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ مَعْرِفَةً، لِأَنَّ الْوَصْفَ مِنْ التَّعْرِيفِ بِمَنْزِلَةِ اللَّامِ فِي اسْمِ الْجِنْسِ، وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِمْ: لَا أُكَلِّمُ إلَّا رَجُلًا كُوفِيًّا، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَ جَمِيعَ الْكُوفِيِّينَ وَلَوْ قَالَ: إلَّا رَجُلًا، فَكَلَّمَ رَجُلَيْنِ حَنِثَ فَعُلِمَ أَنَّ

الْعُمُومَ مِنْ إلْحَاقِ الْوَصْفِ الْعَامِّ بِهَذَا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221] لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ عَامًّا لَمَا صَحَّ التَّعْلِيلُ، وَكَذَا {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [البقرة: 263] قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ الْمَعْنَوِيُّ، لَا النَّعْتُ النَّحْوِيُّ، لِأَنَّ الْكَلِمَةَ النَّكِرَةَ قَدْ تَكُونُ خَبَرًا أَوْ صِلَةً أَوْ شَرْطًا، وَقَدْ صَرَّحُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الكهف: 7] أَنَّهَا نَكِرَةٌ وُصِفَتْ بِحُسْنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ عَامٌّ فَعَمَّتْ لِذَلِكَ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ، وَأَحْسَنُ عَمَلًا خَبَرُهُ. وَقَدْ رُدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَأُكَلِّمَنَّ رَجُلًا كُوفِيًّا بَرَّ بِوَاحِدٍ، وَلَوْ اقْتَضَى الْوَصْفُ الْعُمُومَ كَمَا قَالُوهُ لَمَا بَرَّ إلَّا بِالْجَمِيعِ، وَلِأَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ لِلتَّعْمِيمِ؛ بَلْ لِبَيَانِ الْمُرَادِ بِالنَّكِرَةِ، فَإِنَّ النَّكِرَةَ فِيهَا أَمْرَانِ: النَّوْعُ، وَالْوَحْدَةُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُذْكَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَرْأَةِ، فَيُرَادُ بِهِ النَّوْعُ، وَفِي مُقَابَلَةِ الرَّجُلَيْنِ فَيُفِيدُ الْوَحْدَةَ مَعَ النَّوْعِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْكُوفِيِّ وَغَيْرِهِ فَإِذَا قَالَ: كُوفِيًّا، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلْوَحْدَةِ، فَلَا يُكَلِّمُ إلَّا وَاحِدًا كُوفِيًّا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلنَّوْعِ فَلَا يُكَلِّمُ إلَّا النَّوْعَ الْكُوفِيَّ فَإِنْ نَوَى أَحَدَهُمَا اتَّبَعَ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَالْمُتَّجَهُ حَمْلُهُ عَلَى الْوَحْدَةِ، وَيَحْنَثُ بِالِاثْنَيْنِ. وَقَدْ فَرَّعُوا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمَسْأَلَةَ السَّابِقَةَ فِي: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ، فَضَرَبُوهُ جَمِيعًا عَتَقُوا، وَأَيُّ عَبْدِي ضَرَبْتَهُ فَهُوَ حُرٌّ، فَضَرَبَهُمْ جَمِيعًا لَا يُعْتَقُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ وُصِفَ فِي الْأَوَّلِ بِالضَّرْبِ، وَهُوَ عَامٌّ، وَفِي الثَّانِي قُطِعَ عَنْ الْوَصْفِ، لِأَنَّ الضَّرْبَ إنَّمَا أُضِيفَ إلَى الْمُخَاطَبِ لَا إلَى

النَّكِرَةِ الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا أَيْ، وَهُوَ عَجِيبٌ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْوَصْفِ النَّعْتَ النَّحْوِيَّ فَلَا نَعْتَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ، إذْ النَّكِرَةُ صِلَةٌ أَوْ شَرْطٌ، لِأَنَّ أَيًّا هُنَا مَوْصُولَةٌ أَوْ شَرْطِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَصْفَ الْمَعْنَوِيَّ فَأَيُّ مَوْصُوفٍ فِي الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا وُصِفَ فِي الْأُولَى بِالضَّارِبِيَّةِ لِلْمُخَاطَبِ، وُصِفَ فِي الثَّانِيَةِ بالمضروبية لَهُ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ وَصْفٌ، وَالثَّانِيَ قَطْعٌ عَنْ الْوَصْفِ تَحَكُّمٌ، إلَّا أَنَّ يَوْمًا فِي قَوْلِكَ: لَا أَقْرَبُكُمَا الْيَوْمَ، أَقْرَبُكُمَا فِيهِ عَامٌّ بِعُمُومِ الْوَصْفِ، مَعَ أَنَّهُ مُسْنَدٌ إلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ. وَأَجَابَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بِأَنَّ الضَّرْبَ قَائِمٌ بِالضَّارِبِ، فَلَا يَقُومُ بِالْمَضْرُوبِ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ بِشَخْصَيْنِ، بِخِلَافِ الزَّمَانِ فَإِنَّ الْفِعْلَ مُتَّصِلٌ بِهِ حَقِيقَةً، فَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الْيَوْمُ عَامًّا بِهِ، وَأَيْضًا " الْمَفْعُولُ بِهِ " فَضْلَةٌ ثَبَتَ ضَرُورَةً، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي التَّعْمِيمِ بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ فِيهِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِهِ، وَقَصَدَ وَصْفَهُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الضَّرْبَ صِفَةٌ إضَافِيَّةٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْفَاعِلِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ وَصْفٌ لَهُ، وَتَعَلُّقٌ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ وَصْفٌ لَهُ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي قِيَامِ الْإِضَافَاتِ بِالْمُضَافَيْنِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ يَحْتَاجُ إلَى الْمَفْعُولِ فِي التَّعَقُّلِ وَالْوُجُودِ جَمِيعًا، وَإِلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ فِي الْوُجُودِ فَقَطْ، فَاتِّصَالُهُ بِالْأَوَّلِ أَشَدُّ، وَأَثَرُ الْمَفْعُولِ بِهِ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ فِي رَبْطِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ لَا فِي التَّعْمِيمِ، وَكَوْنُهُ ضَرُورِيًّا لَا يُنَافِي الرَّبْطَ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْفَاعِلُ أَيْضًا الضَّرُورَةُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي التَّعْمِيمِ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ فَضْلَةٍ لَا يُنَافِي الضَّرُورَةَ بَلْ يُؤَكِّدُهَا.

الثامنة مما يتفرع على أن النكرة المنفية للعموم نفي المساواة بين الشيئين

[الثَّامِنَةُ مِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى أَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ لِلْعُمُومِ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ] ِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] فَهُوَ عَامٌّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يَقْتَضِي نَفْيَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، حَتَّى احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُنَا عَلَى امْتِنَاعِ الْقِصَاصِ مِنْ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِوَاءَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَفَاهُ. وَخَالَفَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنَعُوا عُمُومَهُ، وَبِهِ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ. وَوَافَقَهُمْ الْغَزَالِيُّ، وَصَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " وَ " الْمَحْصُولِ " لِأَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ الْمُطْلَقِ لَا يَحْتَمِلُ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ، أَمَّا فِي النَّفْيِ فَيَدُلُّ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْعَامِّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخَاصِّ وَهُوَ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ الْعَامَّةِ، فَتَنْتَفِي جُزْئِيَّاتُهَا. وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِثْبَاتِ، هَلْ مَدْلُولُهَا لُغَةً: الْمُشَارَكَةُ فِي كُلِّ الْوُجُوهِ حَتَّى يَكُونَ اللَّفْظُ شَامِلًا؟ أَوْ مَدْلُولُهَا الْمُسَاوَاةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ حَتَّى يَصْدُقَ بِأَيِّ وَجْهٍ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ النَّفْيُ لِلْعُمُومِ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ الْمُوجَبِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي كَانَ لِلْعُمُومِ، لِأَنَّ نَقِيضَ الْجُزْئِيِّ الْمُوجَبِ كُلِّيٌّ سَالِبٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ صِيغَةَ " لَا يَسْتَوِي " عُمُومُ سَلْبِ التَّسْوِيَةِ أَوْ سَلْبُ عُمُومِ التَّسْوِيَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ شَيْءٍ مِنْ أَفْرَادِهَا، وَعَلَى الثَّانِي لَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْبَعْضِ. فَإِنْ قُلْت: فَهَذَا يُرَجِّحُ مَذْهَبَهُمْ، لِأَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ سَابِقٌ، وَهُوَ شَرْطٌ

لِسَلْبِ الْعُمُومِ. قُلْت: الشَّرْطُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى لَفْظٍ عَامٍّ تَحْتَهُ مُتَعَدِّدٌ، فَإِذَا سُلِبَ عُمُومُهُ نُفِيَ الْحُكْمُ عَنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ، نَحْوُ: لَمْ أَضْرِبْ كُلَّ الرِّجَالِ، بِخِلَافِ لَا يَسْتَوِيَانِ، فَإِنَّ السَّلْبَ دَخَلَ عَلَى مَاهِيَّةِ الِاسْتِوَاءِ، وَالْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا تَعَدُّدَ فِيهَا وَلَا اتِّحَادَ، فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ سَلْبِهَا شَيْءٌ يَثْبُتُ لَهُ الْحُكْمُ، فَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مِنْ بَابِ عُمُومِ السَّلْبِ لَا سَلْبِ الْعُمُومِ. وَأَمَّا ابْنُ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الْمَبَاحِثَ مُتَقَابِلَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَدَلَ عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَأَحَالَ الْعُمُومَ عَلَى النَّفْيِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ لَمَّا وَقَعَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ كَانَ نَفْيًا لِمَصْدَرِهِ كَمَا سَيَأْتِي، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ النَّفْيِ، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ. وَسَلَكَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ طَرِيقَةً أُخْرَى، فَحَكَى عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ، لِأَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ إذَا أُطْلِقَ فِيمَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ بِالذَّاتِ إنَّمَا يَعْنِي بِهِ فِي بَعْضِ أَوْصَافِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ بَيِّنٍ مِنْ اللَّفْظِ، فَهُوَ مُجْمَلٌ؛ إذْ قَالَ: وَمَتَى عُقِّبَ هَذَا النَّوْعُ بِشَيْءٍ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِيهِ، وَجَبَ حَمْلُ أَوَّلِهِ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَلِذَا قَالَ فِي آخِرِهِ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] وَعَلَيْهِ جَرَى الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ. فَقَالَ: الْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ: يَسْتَوِي أَوْ لَا يَسْتَوِي، مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ مِنْ الْمُتَوَاطِئِ، لَا مِنْ بَابِ الْعَامِّ، وَنَظِيرُهُ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] . وَنَظِيرُ هَذَا الْخِلَافِ خِلَافُ الْأُصُولِيِّينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36] هَلْ هُوَ عَامٌّ حَتَّى يَخُصَّ مَا يَخُصُّ مِنْ

التاسعة إذا وقع الفعل في سياق النفي أو الشرط

الْأَحْكَامِ بِدَلِيلٍ، أَوْ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ ضَرُورَةَ مُسَاوَاتِهِمَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ وَعَلَى الْأَوَّلِ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ قَاضِيًا وَلَا إمَامًا، وَلَا يَلْزَمُهَا الْجُمُعَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الثَّانِي. تَنْبِيهٌ هَذَا الْخِلَافُ فِي عُمُومِ الْمُسَاوَاةِ يَجْرِي فِي كَلِمَةِ مِثْلِ، بَلْ هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمُشَابَهَةِ مِنْ لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَفْظُ الْمِثْلِ دَالٌّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إلَّا فِيمَا لَا يَقَعُ التَّعَدُّدُ إلَّا بِهِ. [التَّاسِعَةُ إذَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوْ الشَّرْطِ] ِ فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَاصِرًا، فَهَلْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْمَصْدَرُ فَيَكُونُ نَفْيُهُ بِمَصْدَرِهِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَقْتَضِي الْعُمُومَ، أَمْ لَا؟ حَكَى الْقَرَافِيُّ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَعُمُّ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ " نَصَّ عَلَى ذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيَّ وَالْهِنْدِيِّ، حَيْثُ قَيَّدُوا الْخِلَافَ الْآتِيَ بِالْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي إذَا نُفِيَ هَلْ يَعُمُّ مَفَاعِيلَهُ؟ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّازِمَ لَا يَعُمُّ نَفْيَهُ وَلَا يَكُونُ نَفْيًا لِلْمَصْدَرِ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ، لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ حَيْثُ صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا سَبَقَ، مَثَّلَ بِمَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَضْرِبُ، أَوْ إنْ ضَرَبْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى الضَّرْبَ بِآلَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ إنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى مَكَانًا بِعَيْنِهِ، وَهُوَ يُخِلُّ بِتَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ، لِأَنَّ الضَّرْبَ وَالْخُرُوجَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ إلَى الْآلَةِ وَالْمَكَانِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ

الْمُتَعَدِّي إلَى مَفْعُولٍ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْحَرْفِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ الْحَرْفُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَحِينَئِذٍ فَيَشْمَلُ الْخِلَافُ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا، ثُمَّ إنَّهُ أُطْلِقَ الْفِعْلُ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْوَاقِعِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ أَوْ الشَّرْطِ لَا الْإِثْبَاتِ فَتَفَطَّنْ لَهُ، وَذَكَرَ الْهِنْدِيُّ أَنَّ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ نَفْيِ الْمَصْدَرِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ؛ بَلْ أَنْزَلَ مِنْهُ دَرَجَةً. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَعُمُّ كَمَا فِي نَفْيِ الْمَصْدَرِ، مِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى: 13] {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118] الْآيَةَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْيَ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لِلْعُمُومِ، وَأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنَّهُ نَفْيٌ كَمَا لَوْ قَالَ: لَا حَيَاةَ وَلَا مَوْتَ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ وَلَا يُطَلِّقُ حَنِثَ بِأَيِّ بَيْعٍ كَانَ، وَأَيِّ طَلَاقٍ كَانَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إلَّا نَفْيُ أَفْرَادِ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْبَيْعِ أَوْ الطَّلَاقِ، وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْفِعْلِ حَقِيقَةً فِي عُمُومِ نَفْيِ جَمِيعِ الْمَصَادِرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا وَوَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوْ الشَّرْطِ، وَلَمْ يُصَرَّحْ بِمَفْعُولِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى مَفْعُولٍ، لَا وَاحِدٍ، وَلَا أَكْثَرَ، فَهَلْ يَكُونُ عَامًّا فِيهَا أَمْ لَا؟ كَمَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَكَلْتُ، أَوْ لَا آكُلُ، أَوْ إنْ أَكَلْتُ فَعَلَيَّ كَذَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ عَامٌّ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعُمُّ وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ،

وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ مِنَّا، وَجَعَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ، نَحْوُ يُعْطِي وَيَمْنَعُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولٍ لَا بِالْعُمُومِ وَلَا بِالْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَمَّا لَمْ تُقْصَدْ مَفْعُولَاتُهَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ قُصِدَ بِهَا مَاهِيَّاتُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ؛ بَلْ وَعَنْ الْقُيُودِ الْمَكَانِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ. وَحُجَّةُ الْأَوَّلِينَ أَنَّ أَصْلَ وَضْعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِتَدُلَّ عَلَى مَاهِيَّاتٍ مُقَيَّدَةٍ بِالْمَحَالِّ الَّتِي هِيَ الْمَفْعُولَاتُ كَمَا وُضِعَتْ لِتَدُلَّ عَلَى الْفَاعِلِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ يُحْذَفُ الْفَاعِلُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ الْفِعْلُ، كَمَا فَعَلُوا فِي بَابِ إعْمَالِ الْمَصْدَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ - يَتِيمًا} [البلد: 14 - 15] وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي التَّخْصِيصِ بِالنِّيَّةِ، فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا لَوْ نَوَى بِهِ مَأْكُولًا مُعَيَّنًا قُبِلَ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ، وَقَبُولُ الْعَامِّ لِلتَّخْصِيصِ بِبَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ كَسَائِرِ الْعُمُومَاتِ، فَصَحَّ أَنْ يَنْوِيَ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَا كَانَ أَصْلًا لَهَا مَعَ كَوْنِهِ مَحْذُوفًا لَفْظًا؛ لِأَنَّهَا صَالِحَةٌ لَهُ وَضْعًا، وَلَا يُقْبَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْعُمُومِ وَلَا عُمُومَ. وَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَيْمَانِ " لَوْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فِي الدُّنْيَا، وَنَوَى الْبَلَدَ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَوْ لَا، إذْ لَيْسَ بِمُسَاكَنَةٍ، فَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ؟ وَجْهَانِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِتَعْمِيمِهِ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ عَلَى جِهَةِ الْجَمْعِ، بَلْ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا الْمَاهِيَّةَ مُقَيَّدَةً، وَلَا يَنْبَغِي لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُنَازِعَهُ. قَالَ: وَإِذَا الْتَفَتَ إلَى هَذَا ارْتَفَعَ الْخِلَافُ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: نَظَرُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَقِيقٌ، لِأَنَّ

النِّيَّةَ لَوْ صَحَّتْ لَصَحَّتْ إمَّا فِي الْمَلْفُوظِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَلْفُوظَ هُوَ الْأَكْلُ وَهُوَ مَاهِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّعَدُّدَ فَلَا تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، فَإِنْ أُخِذَتْ مَعَ قُيُودٍ زَائِدَةٍ عَلَيْهَا تَعَدَّدَتْ، وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ مُحْتَمِلَةً لِلتَّخْصِيصِ، لَكِنْ تِلْكَ الزَّوَائِدُ غَيْرُ مَلْفُوظٍ بِهَا فَالْمَجْمُوعُ الْحَاصِلُ مِنْ الْمَاهِيَّةِ غَيْرُ مَلْفُوظٍ، فَيَكُونُ الْقَابِلُ لِنِيَّةِ التَّخْصِيصِ شَيْئًا غَيْرَ مَلْفُوظٍ، وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ إنْ جَازَ عَقْلًا لَكِنَّهُ بَاطِلٌ شَرْعًا، لِأَنَّ إضَافَةَ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ إلَى الْخُبْزِ تَارَةً وَإِلَى غَيْرِهِ أُخْرَى إضَافَاتٌ تَعْرِضُ لَهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَفْعُولِ فِيهِ. وَإِضَافَتُهَا إلَى هَذَا الْيَوْمِ وَذَاكَ وَهَذَا الْمَوْضِعِ وَذَاكَ إضَافَاتٌ عَارِضَةٌ لَهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَفْعُولِ فِيهِ، ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى التَّخْصِيصَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَمْ يَصِحَّ، فَكَذَا التَّخْصِيصُ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، وَالْجَامِعُ رِعَايَةُ الِاحْتِيَاطِ فِي تَعْظِيمِ التَّمْيِيزِ. هَذَا كَلَامُهُ. وَالنَّظَرُ الدَّقِيقُ إنَّمَا هُوَ لِأَصْحَابِنَا، وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مَدْخُولٌ، وَقَوْلُهُ: الْأَكْلُ مَاهِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّعَدُّدَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ مَعَ قَرِينَةِ دُخُولِ حَرْفِ النَّفْيِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى التَّعَدُّدِ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَلْفُوظَ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَغَيْرُ الْمَلْفُوظِ يَقْبَلُهُ. وَأُجِيبَ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ الْقِيَاسِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْمَنْعِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ النِّيَّةِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، كَمَا يَجُوزُ بِالْمَأْكُولِ الْمُعَيَّنِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت شَهْرًا، أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُقْبَلُ مِنْهُ، بِلَا فَرْقٍ.

وَثَانِيهَا: أَنَّ قِيَاسَ الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ ظَاهِرُ التَّعَسُّفِ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ بِهِ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ، لِأَنَّ أَكْلًا بِلَا مَأْكُولٍ مُحَالٌ، وَكَذَا فِي الذِّهْنِ فَهْمُ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ دُونَ الْمَأْكُولِ مُسْتَحِيلٌ، فَإِلْزَامُ الْأَكْلِ لِلْمَأْكُولِ وَاضِحٌ. وَأَمَّا الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فَلَيْسَا مِنْ لَوَازِمِ مَاهِيَّةِ الْفِعْلِ، وَلَا مِنْ مُقَوِّمَاتِهِ، بَلْ هُمَا مِنْ لَوَازِمِ الْفَاعِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى فِي تَعْلِيقِهِ: الْخِلَافُ الْمَفْهُومُ مِنْ اللَّفْظِ مُنْحَصِرٌ فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ كَاسْمِ الْبَيْتِ لِلْبَيْتِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَمَا تَضَمَّنَهُ كَدَلَالَةِ اسْمِ الْبَيْتِ عَلَى السَّقْفِ وَالْحَائِطِ، وَمَا لَزِمَهُ لِضَرُورَةِ الْوُجُودِ، كَكَوْنِهِ ذَا ظِلٍّ وَاقِعٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. فَمِثَالُ الْأَوَّلِ: دَلَالَةُ لَفْظِ الْأَيْمَانِ عَلَى مَعْنَاهُ. وَمِثَالُ الثَّانِي: دَلَالَةُ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُطَلِّقِ وَالْمُطَلِّقَةِ. وَمِثَالُ الثَّالِثِ: دَلَالَتُهُ عَلَى زَمَانِ الطَّلَاقِ وَمَكَانِ الْمُطَلِّقِ. أَمَّا الْمَوْضُوعُ فَيَحْتَمِلُ النِّيَّةَ بِالْإِجْمَاعِ كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ إذَا نَوَى بِهِ مُسَمَّيَاتِهِ، وَأَمَّا اللَّازِمُ فَلَا يَحْتَمِلُهَا كَمَا إذَا نَوَى زَمَانَ الطَّلَاقِ وَمَكَانَهُ، وَأَمَّا الْمَدْلُولُ فَمَحَلُّ الْخِلَافِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَنَّ مَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ وَنَوَى بَعْضَ الْمَأْكُولَاتِ، هَلْ يُخَصُّ بِهِ يَمِينُهُ، فَإِنَّ الْمَأْكُولَاتِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَكْلُ كَثِيرَةٌ وَغَيْرُ مَلْفُوظَةٍ وَضْعًا؟ وَهَلْ يَقُومُ عُمُومُ الْمَدْلُولِ مَقَامَ عُمُومِ اللَّفْظِ حَتَّى يَحْتَمِلَ التَّخْصِيصَ بِنِيَّتِهِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ تَعْيِينَ زَمَانِ الْأَكْلِ لَغْوٌ فِي نِيَّتِهِ، وَالصَّحِيحُ إلْحَاقُ الْمَدْلُولِ بِالْمَوْضُوعِ، فَإِنَّهُ مُرَادُ اللَّافِظِ بِلَفْظِهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِنِيَّتِهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمُقْتَضَى؛

فَإِنَّمَا يُضْمَرُ لِضَرُورَةٍ لِصِحَّةِ الْكَلَامِ أَوْ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت أَوْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت أَوْ سَكَنْت أَوْ لَبِسْت أَوْ اغْتَسَلْت، وَنَوَى شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ لَا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ لَا عُمُومَ لَهُ قَالَ السُّرُوجِيُّ: قَدْ قَالَ: أَصْحَابُنَا فِي تَخْصِيصِ الْفِعْلِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: إذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك، وَنَوَى الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَإِذَا قَالَ: إنْ خَرَجْت، وَنَوَى السَّفَرَ صُدِّقَ، وَإِذَا قَالَ: إنْ سَاكَنْتُك فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَنَوَى أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتٍ مِنْهَا غَيْرَ مُعَيِّنٍ صُدِّقَ. وَإِذَا قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت، وَنَوَى الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ صُدِّقَ. قَالَ: وَوَجْهُ خُرُوجِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك، الْمَصْدَرُ فِيهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ افْعَلِي فِعْلَ الطَّلَاقِ، وَالْمَحْذُوفُ لَهُ عُمُومٌ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ اللُّغَةِ لَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ إدْخَالِ الْمَصْدَرِ فِي الْوُجُودِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ الْفِعْلِ مِنْ الْفَاعِلِ الْمُخَاطَبِ، بِخِلَافِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ فِيهِ طَلَبُ الْمَصْدَرِ وَإِدْخَالُهُ فِي الْوُجُودِ، فَكَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ مُجَرَّدِ الْفِعْلِ كَالْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ. قَالَ: وَبِالتَّخْرِيجِ الثَّانِي أَجَبْت قَاضِيَ الْقُضَاةِ تَقِيَّ الدِّينِ بْنَ رَزِينٍ الشَّافِعِيَّ

لَمَّا سَأَلَنِي عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ طَلَّقْتُك وَطَلِّقِي نَفْسَك. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنْ خَرَجْتُ، أَنَّ بِهَذَا الْفِعْلِ شُيُوعًا يُقَالُ: خَرَجَ فُلَانٌ إلَى السَّفَرِ، وَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ وَدَارِهِ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ، فَكَانَ السَّفَرُ يَحْتَمِلُ كَلَامَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُسَاكَنَةِ فَالْمُفَاعَلَةُ تَقَعُ مِنْ اثْنَيْنِ فِي الدَّارِ، وَهِيَ فِي بَيْتٍ مِنْهَا أَكْمَلُ، فَقَدْ نَوَى النَّوْعَ الْكَامِلَ فَيُصَدَّقُ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشِّرَاءِ، فَالشِّرَاءُ أَصَالَةً هُوَ الْأَصْلُ، فَكَانَ أَقْوَى، فَجَازَ تَخْصِيصُهُ مِنْ اشْتَرَيْت، وَنَظِيرُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَا يَتَزَوَّجُ، وَنَوَى عَرَبِيَّةً أَوْ حَبَشِيَّةً دِينَ فِي الْجِنْسِ، وَلَوْ نَوَى كُوفِيَّةً أَوْ بَصْرِيَّةً لَا يُقْبَلُ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَكَانِ قَلَّمَا يُعْتَبَرُ. الثَّانِي: أَنَّ الْغَزَالِيَّ حَكَى عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ رَدُّوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إلَى أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُقْتَضَى، وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ فِي تَقْدِيرِ مَا يَصِحُّ بِهِ الْكَلَامُ فَكَذَلِكَ هَذِهِ، كَمَا أَنَّ مِثْلَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» يَسْتَدْعِي مُقَدَّرًا لِيَصِحَّ بِهِ الْكَلَامُ، ثُمَّ رَدَّ الْغَزَالِيُّ هَذَا بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَصْدَرَ فِي الْمُقْتَضَى إنَّمَا هُوَ لِيَتِمَّ الْكَلَامُ بِهِ وَيَكُونَ مُفِيدًا، وَلَا كَذَلِكَ الْمَفْعُولُ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِصِيغَتِهِ وَوَضْعِهِ، فَالْأَكْلُ يَدُلُّ عَلَى الْمَأْكُولِ. وَهَذَا صَحِيحٌ أَعْنِي دَلَالَةَ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَأْكُولِ مُطْلَقًا، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ مُقْتَضَاهُ لَا مِنْ جِهَةِ صِيغَتِهِ، وَقَوْلُهُ: إنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ بِصِيغَتِهِ وَوَضْعِهِ مَمْنُوعٌ، فَقَدْ قَالَ النَّحْوِيُّونَ: الْأَفْعَالُ كُلُّهَا الْمُتَعَدِّيَةُ [وَغَيْرُهَا] تَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْفَاعِلِ وَظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْحَالِ

وَالْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَدُلُّ الْمُتَعَدِّيَةُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لَكِنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ، فَدَلَالَتُهَا عَلَى الْمَصْدَرِ وَظَرْفِ الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ دَلَالَةٌ بِالْوَضْعِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ بِلَفْظِهَا، وَعَلَى ظَرْفِ الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ بِصِيغَتِهَا، وَدَلَالَتُهَا عَلَى الْبَاقِي بِالْمُقْتَضَى لَا بِالْوَضْعِ، ثُمَّ إنْ دَلَّتْ عَلَى الْمَصْدَرِ بِالْوَضْعِ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، كَدَلَالَةِ أَكَلَ وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَكْلِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنْوَاعِ الْأَكْلِ كَالْخَضْمِ وَالْقَضْمِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَشْخَاصِ أَنْوَاعِهِ كَخَضْمِ زَيْدٍ وَقَضْمِ عَمْرٍو، فَدَلَالَتُهَا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُطْلَقِ وَعَلَى تَفَاصِيلِهِ مُجْمَلٌ، وَلِذَلِكَ تَدُلُّ بِصِيغَتِهَا عَلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ مُطْلَقًا، كَدَلَالَةِ أَكَلَ عَلَى الْمَاضِي، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَمْسِ الْمُعَيَّنِ وَعَامِ أَوَّلٍ، وَدَلَالَةُ يَأْكُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْيَوْمِ وَغَدًا، فَدَلَالَتُهَا عَلَى الْمَاضِي الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُضَارِعِ الْمُطْلَقِ نَصٌّ، وَدَلَالَتُهَا عَلَى أَجْزَاءِ كُلٍّ مِنْهَا مُجْمَلٌ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ مَوَاقِفَهُمْ عَلَى نِيَّةِ التَّخْصِيصِ فِيمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْمَصْدَرِ، فَقَالَ: لَا آكُلُ أَكْلًا، فَالْفِعْلُ دَالٌّ عَلَيْهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّصْرِيحِ بِهِ وَعَدَمِهِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْمَصْدَرَ الثَّابِتَ لُغَةٌ فِي قَوْلِهِ: لَا آكُلُ هُوَ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ لَا عَلَى الْأَفْرَادِ، بِخِلَافِ لَا آكُلُ أَكْلًا، فَإِنَّهُ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ الْعُمُومِ، فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالنِّيَّةِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُمْ حَنَّثُوهُ بِكُلِّ أَكْلٍ فِيمَا إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَصْدَرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لَمَا تَوَجَّهَ ذَلِكَ، وَغَايَةُ مَا قَالُوا فِي تَوْجِيهِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا آكُلُ مَعْنَاهُ لَا أُوجِدُ مَاهِيَّةَ الْآكِلِ، وَهُوَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَقَدْ اعْتَرَضَ الْقَرَافِيُّ عَلَى فَرْقِ الْغَزَالِيِّ بِأَنَّ مَنْعَ عُمُومِ الْمُقْتَضَى لِأَجْلِ أَنَّ صِحَّةَ الْكَلَامِ يَتِمُّ بِتَقْدِيرٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ، فَلَا عُمُومَ، وَهَكَذَا يُقَالُ فِي هَذِهِ الْمَفَاعِيلِ، وَهَذَا لَا يَجِيءُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَمْنَعُونَ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى مَفْعُولٍ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ.

مسألة إفادة المصدر العموم

فَوَائِدُ الْكَلَامُ الْمُطْلَقُ إذَا نُوِيَ بِهِ مُقَيَّدٌ، كَالْكَلَامِ فِي الْعَامِّ إذَا نُوِيَ بِهِ الْخَاصُّ، وَقَدْ رَدَّهُ الْقَرَافِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى الْمُطْلَقِ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِ أَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمْكِنَةِ. قَالَ: فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ هَلْ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَلْفُوظِ أَيْ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْتِزَامًا أَمْ لَا؟ وَقَدْ سَبَقَ رَدُّ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. [مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ الْمَصْدَرِ الْعُمُومَ] قِيلَ: إنَّ مُجَرَّدَ الْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِيعَابِ الْأَفْرَادِ، وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُولِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ غَالِبٌ فِي اللُّغَاتِ عَنْ ابْنِ جِنِّي وَهُوَ بَعِيدٌ؛ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ بِاعْتِبَارِ الصَّلَاحِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي الْجَمْعِ الْمُنْكَرِ. وَزَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُشْعِرُ بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ، قَالَ: مَنْ قَالَ إنَّهُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَقَدْ زَلَّ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ عَلَى رَأْيٍ، أَوْ الْفِعْلُ مِنْهُ عَلَى آخَرَ، وَيَسْتَحِيلُ تَخَيُّلُ الْعُمُومِ فِي الْفِعْلِ، وَلَوْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةُ عُمُومٍ، فَالْعُمُومُ مِنْهَا لَا مِنْهُ، كَمَا لَوْ اقْتَرَنَتْ بِالْفِعْلِ، وَأَوْرَدَ أَنَّ وَصْفَهُ بِالْكَثْرَةِ نَحْوُ ضَرْبًا كَثِيرًا يَقْتَضِي أَنَّهَا أَحَدُ مَحْمَلَيْهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، وَالْمَوْصُوفُ لَا يُشْعِرُ بِالصِّفَةِ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: أَمَّا كَوْنُهُ غَيْرَ مُشْعِرٍ بِالْجَمْعِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ صَالِحًا لِلْإِشْعَارِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِوَاحِدٍ أَوْ جَمْعٍ، وَتَمَسَّكَ بِاعْتِذَارِ سِيبَوَيْهِ عَنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبْته ضَرْبًا كَثِيرًا، نَعْتٌ لِلضَّرْبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الضَّرْبِ التَّعَدُّدُ، وَالْمَنْعُوتُ لَا يُشْعِرُ بِنَعْتِهِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ: رَأَيْت رَجُلًا عَالِمًا، فَإِنَّ لَفْظَةَ " رَجُلٍ " لَا تُشْعِرُ بِعَالَمٍ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ خَرُوفٍ ذَلِكَ. وَقَالَ: هَذَا لَمْ يَقُلْهُ سِيبَوَيْهِ، وَلَا هُوَ مَذْهَبُهُ. قُلْت: وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا: إذَا قُلْت: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا إلَّا طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَزِيدُ بِهِ الْكَلَامُ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: ضَرَبْت زَيْدًا ضَرْبًا، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ مَا زَادَ عَلَى وَاحِدَةٍ فَيَقَعُ مَا نَوَاهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِالْمَصْدَرِ. انْتَهَى. تَنْبِيهٌ [إفَادَةُ الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ صِلَةً لِمَوْصُولٍ حَرْفِيٍّ الْعُمُومَ] مَا أَطْلَقُوهُ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِهِ فِي حَيِّزِ الْإِثْبَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ نَكِرَةٌ، وَقَدْ نَقَلَ الزَّجَّاجِيُّ فِي الْإِيضَاحِ إجْمَاعَ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ نَكِرَاتٌ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا لِانْتِفَاءِ فَائِدَةِ الْإِضَافَةِ. وَلْيُتَفَطَّنَ لِفَائِدَةٍ حَسَنَةٍ، وَهِيَ إنَّمَا هَذَا فِي غَيْرِ الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ جُمْلَةً لِمَوْصُولٍ حَرْفِيٍّ، أَمَّا الْمَذْكُورَاتُ فَإِنَّهَا لِلْعُمُومِ، لِأَنَّك إذَا قُلْت أَعْجَبَنِي أَنْ قَامَ زَيْدٌ، فَمَعْنَاهُ قِيَامُهُ فَهُوَ اسْمٌ فِي الْمَعْنَى فَيَجْرِي عَلَى حُكْمِ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُضَافِ، وَهَذَا يَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ وَالْبَيَانِيِّينَ.

فصل في ذكر مراتب الصيغ

[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَرَاتِبِ الصِّيَغِ] زَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ أَنَّ أَعْلَاهَا أَسْمَاءُ الشَّرْطِ، وَالنَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ، وَادَّعَى الْقَطْعَ بِوَضْعِ ذَلِكَ الْعُمُومِ، وَأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ تَسْمِيَةٌ خَارِجَةٌ مَخْصُوصَةٌ رَأْسًا. قَالَ: وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ ظَاهِرٌ فِيهِ لَا نَصُّ. وَكَلَامُ الْمَحْصُولِ وَأَتْبَاعِهِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ أَعْلَاهَا أَسْمَاءُ الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ، ثُمَّ النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ، لِدَلَاتِهَا بِالْقَرِينَةِ لَا بِالْوَضْعِ، وَعَكَسَ الْهِنْدِيُّ فِي بَابِ التَّرَاجِيحِ، فَقَدَّمَ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ عَلَى الْكُلِّ، فَحَصَّلَ ثَلَاثَةَ آرَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: أَلْفَاظُ الْجُمُوعِ أَبْيَنُ وُجُوهِ الْعُمُومِ، ثُمَّ يَلِيهَا اسْمُ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِضَافَةَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرُّتْبَةِ. وَعَكَسَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي تَفْسِيرِهِ، فَزَعَمَ أَنَّ الْإِضَافَةَ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَالنَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَاَلَّتِي بِمِنْ أَدَلُّ مِنْ الْمُجَرَّدَةِ مِنْهَا. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ إنَّ مَجِيءَ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ مُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَكْثَرُ مِنْ مَجِيئِهَا مُضَافَةً. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي التَّلْوِيحِ: أَلْفَاظُ الْعُمُومِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ كَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَالثَّانِي: عَامٌّ بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ كَالرَّهْطِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.

وَالثَّالِثُ: أَلْفَاظٌ مُبْهَمَةٌ نَحْوُ " مَا وَمَنْ "، وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ وَاحِدٍ. وَالرَّابِعُ: النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ نَحْوُ لَمْ أَرَ رَجُلًا، وَذَلِكَ يَعُمُّ لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْكَلَامِ، وَتَحْقِيقِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْإِفْهَامِ، لَا أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ بِصِيغَتِهِ، فَالْعُمُومُ فِيهِ مِنْ الْقَرِينَةِ، فَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ. انْتَهَى. وَقَالَ إلْكِيَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يَرِدْ عَلَى سَبَبٍ أَقْوَى مِنْ الْوَارِدِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي التَّمَسُّكِ بِعُمُومِهِ دُونَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ: بَحَثَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْبَاحِثِينَ لَا الْمُصَنِّفِينَ فِي مَنْعِ تَفَاوُتِ رُتَبِ الْعُمُومِ نَظَرًا إلَى أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ وَضْعِيَّةٌ وَلَا تَفَاوُتَ فِي الْوَضْعِ وَتَنَاوُلَهُ لِلْأَفْرَادِ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُسْتَصْفَى بِتَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْعُمُومِ فِي تَنَاوُلِهَا لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ، لَكِنْ هَذَا التَّفَاوُتُ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ وَإِنَّمَا هُوَ لِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْهُ، وَالْعُمُومُ يَضْعُفُ بِأَنْ لَا يَظْهَرَ فِيهِ قَصْدُ التَّعْمِيمِ، وَسِرُّ ذَلِكَ بِأَنْ يَكْثُرَ الْمَخْرَجُ مِنْهُ، وَيَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَخْصِيصَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَمَثَّلَهُ بِأَصْلِ دَلَالَةِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ» عَلَى تَحْرِيمِ الْأَرُزِّ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ هَذَا الْعُمُومِ عَلَى تَحْلِيلِهِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ. دُونَ مَا بَقِيَ عَلَى الْعُمُومِ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ ذَلِكَ عِنْدَنَا فِيمَا بَقِيَ عَامًّا، لِأَنَّا لَا نَشُكُّ فِي أَنَّ الْعُمُومَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ تَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ لِاخْتِلَافِ ظُهُورِ إرَادَةِ قَصْدِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى بِهَا، فَإِذَا تَقَابَلَا وَجَبَ تَقْدِيمُ أَقْوَى الْعُمُومَيْنِ، وَكَذَا الْقِيَاسَانِ إذَا تَقَابَلَا وَجَبَ تَقْدِيمُ أَجْلَاهُمَا وَأَقْوَاهُمَا قَالَ الشَّيْخُ: أَمَّا ظُهُورُ قَصْدِ التَّعْمِيمِ فَلَا شَكَّ فِي اقْتِضَائِهِ الْقُوَّةَ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: هَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي الضَّعْفِ عَدَمُ قَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَوْ قَصْدُ عَدَمِ التَّعْمِيمِ؟ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، وَظَاهِرُ كَلَامِ " الْمُسْتَصْفَى " الْأَوَّلُ، ثُمَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِقَرَائِنَ خَارِجَةٍ عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَنَحْوِهِ.

ثُمَّ قَسَّمُوا الْمَرَاتِبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَقْصِدْ التَّعْمِيمَ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا لُغَةً، كَقَوْلِهِ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» فَإِنَّ سِيَاقَهُ لِبَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ لَا غَيْرُ، فَهَذَا لَا عُمُومَ لَهُ فِي قَصْدِهِ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] لَا عُمُومَ لَهُ فِي الْآلَةِ الْمُطَهِّرَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَمْرُ بِأَصْلِ التَّطْهِيرِ. الثَّانِي: لَفْظٌ عَامٌّ ظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ التَّعْمِيمِ بِقَرِينَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى اللَّفْظِ، فَحَكَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ لَا يُؤَوَّلُ بِقِيَاسٍ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْقَرِينَةُ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّعْمِيمِ صَارَ نَصًّا، وَإِنْ لَمْ يُفِدْهُ إلَّا قُوَّةَ الظَّنِّ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَأْوِيلِهِ بِقِيَاسٍ أَجْلَى مِنْهُ فِي النَّظَرِ؟ فَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْإِطْلَاقِ الثَّالِثُ: لَفْظٌ عَامٌّ لُغَةً وَلَا قَرِينَةَ مَعَهُ فِي تَعْمِيمٍ، وَلَا تَقْتَضِيهِ، فَالْوَاجِبُ إذَا أُوِّلَ وَعُضِّدَ بِقِيَاسٍ اتِّبَاعُ الْأَرْجَحِ فِي الظَّنِّ، فَإِنْ اسْتَوَيَا وَقَفَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَصَوَّبَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَدَّمَ الْإِمَامُ الْخَبَرَ لِنَصِّيَّتِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . انْتَهَى. وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ، إنَّهُ لَوْ قُدِّمَ ظَنِّيُّ الْقِيَاسِ عَلَى ظَنِّيِّ اللَّفْظِ لَكَانَ تَقْدِيمًا لِمَرْتَبَةِ الْقِيَاسِ عَلَى مَرْتَبَةِ الْخَبَرِ، وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى تَقْدِيمِ الْأَرْجَحِ فِي الظَّنِّ فَقِيَاسُ الشَّبَهِ ضَعِيفٌ، فَإِنْ قِيلَ بِهِ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْعُمُومُ بِالنَّظَرِ إلَى رُتْبَتِهِ؛ وَرُتْبَتُهُ الْعُمُومُ، وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى الْجُزْئِيَّاتِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ الْقِيَاسُ الشَّبَهِيُّ إلَّا عِنْدَ ضَعْفِ الْعُمُومِ ضَعْفًا شَدِيدًا، بِحَيْثُ يَكُونُ قِيَاسُ الشَّبَهِ أَغْلَبَ

مسألة الجمع المنكر

عَلَى الظَّنِّ مِنْهُ، فَإِنَّا رَأَيْنَاهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِعُمُومَاتٍ وَنُصُوصٍ بَعِيدَةِ التَّنَاوُلِ فِي الْقَصْدِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ بِظُهُورِ الْقَصْدِ. وَأَمَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ فَهُوَ أَرْفَعُ مِنْ الشَّبَهِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ مُنَاسَبَةٍ يُبْدِيهَا النَّظَرُ لَا تَقْوَى بِالتَّعْلِيلِ، فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ الْعُمُومِ وَالظَّاهِرُ عَلَيْهَا، لَا سِيَّمَا إذَا قَرُبَ أَنْ يُزَاحِمَ، وَكَانَ تَرْجِيحُهَا عَلَى مَا يُعَامَلُ بِهِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ. [مَسْأَلَةٌ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ] مَسْأَلَةٌ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ كَرِجَالٍ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ، وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ، وَنَصَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِحْكَامِ "، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، قَالَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ: حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ مُخَالَفَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الْبَزْدَوِيُّ، وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ، وَأَصَحُّهُمَا كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ، أَنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ، لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ سَمَّوْهُ

نَكِرَةً، وَلَوْ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ نَكِرَةً. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فِيمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي هَاشِمٍ. وَالثَّانِي: يُحْمَلُ عَلَى الْجَمْعِ وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى أَقَلِّهِ. قَالَ سُلَيْمٌ: وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. قَالَ صَاحِبُ " الْمِيزَانِ ": وَأَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ تَعُمُّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ، كَمَا قَالُوا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ، أَصَحُّهَا لَيْسَ بِعَامٍّ. وَالثَّانِي: عَامٌّ، وَهُوَ رَأْيُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ قَالُوا: الْعَامُّ مَا انْتَظَمَ جَمْعًا مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ غَرِيبٌ. تَنْبِيهَانِ أَحَدُهُمَا: أَطْلَقُوا الْخِلَافَ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَاَلَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَإِلَّا فَالْخِلَافُ فِيهِ بَعِيدٌ جِدًّا إذْ هُوَ مُخَالِفٌ لِنَصِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لِلْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لِلْعُمُومِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ، انْتَهَى. لَكِنْ حَكَاهُ الْجُمْهُورُ عَنْ الْجُبَّائِيُّ، وَمِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ مُصَرِّحًا بِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ جُمُوعِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْبَزْدَوِيُّ، أَعْنِي أَنَّ

جُمُوعَ الْقِلَّةِ لِلْعُمُومِ وَإِنْ كَانَتْ مُنَكَّرَةً، وَعَلَى هَذَا فَيُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ الصَّالِحِ لَهُ، لَكِنْ فَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ الْمُنَكَّرِ: يُحْمَلُ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ، وَهُوَ أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُمْ حَكَوْا عَنْ الْجُبَّائِيُّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ. وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ مَحَالَّ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، لِأَنَّهَا عَامَّةٌ عَلَى الْبَدَلِ، فَحَسُنَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَجْلِ عُمُومِ الْمَحَالِّ، وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ: جَاءَنِي رِجَالٌ إلَّا زَيْدٌ، وَقِيلَ بِالْمَنْعِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ لَا تَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْ فَرْدٍ بِلَفْظِهَا، فَيَكُونُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا مُحَالًا، وَلِهَذَا كَانَتْ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] لِلْوَصْفِ لَا الِاسْتِثْنَاءِ، وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2 - 3] ، فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ أَلْ الْجِنْسِيَّةَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ عَامٌّ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِاعْتِبَارِ صَلَاحِيَّتِهِ لِأَفْرَادِ الْجُمُوعِ لَا اسْتِغْرَاقِ الْأَفْرَادِ.

مسألة ضمير الجمع

[مَسْأَلَةٌ ضَمِيرُ الْجَمْعِ] مَسْأَلَةٌ ضَمِيرُ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَقَوْلُهُ: أَنْتُمْ لِلْمُخَاطَبِينَ، وَهُمْ لِلْغَائِبِينَ، فَإِنَّهُ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَذْكُورِينَ أَوَّلًا إنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ، وَإِلَّا رَجَعَ إلَى الْمَدْلُولِ الَّذِي يَجُوزُ صَرْفُ الضَّمِيرِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْخِطَابِ انْصَرَفَ لِلْمُخَاطَبِينَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ عُمُومَهُ وَخُصُوصَهُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ لَا تَخْفَى، وَهِيَ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْكِنَايَةِ عَنْ الْمُرَادِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَامًّا كَانَ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا كَانَ حَقِيقَةً، فَلَا يَثْبُتُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ وَهُوَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُرَادَ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْكِنَايَةِ عَنْ الْمُرَادِ، فَلَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ الْكِنَايَةَ تَابِعَةٌ لِلْمُكَنَّى فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ، وَالْهِنْدِيُّ فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ: أَمَّا إذَا قَالَ: افْعَلُوا، فَذَكَرَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي الدَّرْسِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْأَوْلَى أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْمُخَاطَبِينَ، سَوَاءٌ كَانُوا ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَأَطْلَقَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " أَنَّ الْمُطْلَقَاتِ لَا عُمُومَ فِيهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ مَا هُمْ أَوْلَى بِهِ، وَإِنَّمَا يُضْمِرُ فِيهِ فَلَا يُدَّعَى فِيهِ الْعُمُومُ وَلَا الْخُصُوصُ، وَإِنَّمَا يُدَّعَى فِي الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَعْلَامُ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو لَا عُمُومَ فِيهَا. انْتَهَى

مسألة الجمع المنكر محمول على أقل الجمع

[مَسْأَلَةٌ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ مَحْمُولٌ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ] مَسْأَلَةٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مَحْمُولٌ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ، فَيَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِهِ، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ مَاذَا؟ لَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِهِ، فَنَقُولُ: لَيْسَ الْخِلَافُ فِي مَعْنَى لَفْظِ الْجَمْعِ الْمُرَكَّبِ مِنْ " الْجِيمِ وَالْمِيمِ وَالْعَيْنِ " كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ، وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " فَإِنَّ " ج م ع " مَوْضُوعُهَا يَقْتَضِي ضَمَّ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ وَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَمَا زَادَ، بِلَا خِلَافٍ. قَالَ سُلَيْمٌ بَلْ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ، كَمَا يُقَالُ: جَمَعْت الثَّوْبَ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِ " التَّرْتِيبِ " وَأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ مَحَلُّ وِفَاقٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَفْظُ الْجَمْعِ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعْنَيَانِ: الْجَمْعُ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ جَمَعَ يَجْمَعُ جَمْعًا وَالْجَمْعُ الَّذِي هُوَ لَقَبٌ، وَهُوَ اسْمٌ لِعَدَدٍ وُضِعَ فَوْقَ الِاثْنَيْنِ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَهَذَا اللَّقَبُ لِهَذَا الْعَدَدِ كَسَائِرِ الْأَلْقَابِ كَزَيْدٍ وَحِمَارٍ وَنَارٍ. وَقَالَ: وَبَعْضُ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إلَى هَذَا الْفَرْقِ خَلَطَ الْبَابَ، فَظَنَّ أَنَّ الْجَمْعَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى اللَّقَبِ مِنْ جُمْلَةِ الْجَمْعِ الَّذِي بِمَعْنَى الْفِعْلِ، فَقَالَ: إذَا كَانَ الْجَمْعُ مِنْ الضَّمِّ فَالْوَاحِدُ إذَا أُضِيفَ إلَى الْوَاحِدِ فَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَثَبَتَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَقَلُّ الْجَمْعِ. وَخَالَفَ بِهَذَا الْقَوْلِ جَمِيعَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَسَائِرَ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ: إنَّ هَذَا الْمُخَالِفَ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيَّ حَكَى عَنْ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي أُصُولِهِ: أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَضَعَّفَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ اثْنَانِ.

وَلَيْسَ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ أَيْضًا تَعْبِيرُ الِاثْنَيْنِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ، نَحْوُ نَحْنُ فَعَلْنَا، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ لِلْمُتَكَلِّمِ ضَمِيرَ التَّثْنِيَةِ كَمَا وَضَعَتْ لِلْمُخَاطَبِ وَالْغَائِبِ، وَلَيْسَ لِلِاثْنَيْنِ إذَا عَبَّرَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا بِمُضْمَرٍ إلَّا الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ فِي مَدْلُولِ مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: ضَرَبْت رُءُوسَ الرَّجُلَيْنِ، وَقَطَعْت بُطُونَهُمَا: بَلْ الْخِلَافُ فِي الصِّيَغِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ سَوَاءٌ كَانَتْ لِلسَّلَامَةِ أَوْ التَّكْسِيرِ كَمَا قَالَ إلْكِيَا، نَحْوُ مُسْلِمِينَ وَرِجَالٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الْخِلَافُ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ بِنَفْسِهَا أَوْ بِعَلَامَةِ الْجَمْعِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَيْضًا، فَإِنَّهُ جَعَلَ مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ لَفْظَ النَّاسِ. وَفِيهِ مَذَاهِبُ. [الْمَذَاهِبُ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ] الْأَوَّلُ: أَنَّ أَقَلَّهُ اثْنَانِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ

قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَحَكَاهُ هُوَ وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْبَاجِيُّ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: كَانَ الْأَشْعَرِيُّ يَخْتَارُهُ وَيَنْصُرُهُ فِي الْمَجَالِسِ. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ. قَالَ: وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَى انْعِقَادِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِاثْنَيْنِ سِوَى الْإِمَامِ، فَجَعَلَ قَوْلَهُ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] مُتَنَاوِلًا اثْنَيْنِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ السَّرَخْسِيُّ كَمَا سَيَأْتِي. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَسُلَيْمٌ عَنْ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ أَجَازَ خِلَافَهُ. وَحَكَاهُ ابْنُ الدَّهَّانِ النَّحْوِيُّ فِي الْغُرَّةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد وَأَبِي يُوسُفَ وَالْخَلِيلِ وَنِفْطَوَيْهِ قَالَ: وَسَأَلَ سِيبَوَيْهِ الْخَلِيلَ عَنْ مَا أَحْسَنُ فَقَالَ: الِاثْنَانِ جَمْعٌ، وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا إلَهًا مَعَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالُوا: {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا صَارَ لَهُمْ إلَهَانِ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ آلِهَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثَةٌ، وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ

الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ إلْكِيَا: هُوَ مُخْتَارُ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ يَأْخُذُ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَرَأَيْت مَنْ حَكَى عَنْهُ اخْتِيَارَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ سَهْوٌ. وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: وَبِهِ أَجَابَ فِيمَنْ قَالَ: " عَلَيَّ عُهُودُ اللَّهِ " أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ، وَلَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ وَنَحْوُهُ. وَنَقَلَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الدَّهَّانِ عَنْ جُمْهُورِ النُّحَاةِ. وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ فِي شَرْحِ الْكِتَابِ: إنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ قَالَ: وَإِذَا كَانُوا لَا يُوقِعُونَ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ مَوْضِعَ الْقَلِيلِ، وَلَا الْقَلِيلَ مَوْضِعَ الْكَثِيرِ إذَا كَانَ لِلِاسْمِ جَمْعُ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فَأَحْرَى أَنْ لَا يُوقِعُوا عَلَى الِاثْنَيْنِ لَفْظَ الْجَمْعِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ الِاثْنَانِ وَإِنْ كَانَ جَمْعًا لَا يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِذَلِكَ، لِلَّبْسِ انْتَهَى. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَنِسْبَتُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَقَلُّ الْجَمْعِ لِلْعَدَدِ. قَالَ: فَأَمَّا الِاثْنَانِ فَجَمْعُهُمَا جَمْعُ اجْتِمَاعٍ لَا جَمْعُ عَدَدٍ.

وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي أُصُولِهِ: أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَلِهَذَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ أَقَلَّ مَا يُعْطَى مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ثَلَاثَةً، وَقَالَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ: إنَّ أَقَلَّهُمْ ثَلَاثَةٌ، وَلِأَنَّ الْأَسْمَاءَ دَلَائِلُ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ، وَقَدْ جَعَلُوا لِلْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى صِيغَةً، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلْجَمْعِ صِيغَةٌ خِلَافُهُمَا. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي ": إنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، أَيْ أَقَلُّ جَمْعٍ، وَمَنْ جَعَلَ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ جَعَلَهُمَا أَقَلَّ الْعُمُومِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَنَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ " وَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: إنَّ أَقَلَّهُ اثْنَانِ عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الْجَمْعَ الصَّحِيحَ ثَلَاثَةٌ. وَإِذَا قُلْنَا بِهَذَا الْقَوْلِ، فَهَلْ يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى اثْنَيْنِ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ أَمْ لَا يَصِحُّ أَصْلًا؟ فِيهِ كَلَامٌ. وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ وَحَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى اثْنَيْنِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَفِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ نَقْلًا وَتَوْجِيهًا، وَلَمْ يَصِحَّ مَجَازًا مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْكُلِّ عَنْ الْبَعْضِ. الثَّالِثُ: الْوَقْفُ حَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ عَنْ الْآمِدِيَّ، وَفِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُ الْآمِدِيَّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِذَا عُرِفَ مَأْخَذُ الْجَمْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَعَلَى النَّاظِرِ الِاجْتِهَادُ

فِي التَّرْجِيحِ وَإِلَّا فَالْوَقْفُ لَازِمٌ، هَذَا كَلَامُهُ، وَمُجَرَّدُ هَذَا لَا يَكْفِي فِي حِكَايَتِهِ مَذْهَبًا. الرَّابِعُ: أَنَّ أَقَلَّهُ وَاحِدٌ. هَكَذَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ، وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الرَّدَّ إلَى وَاحِدٍ لَيْسَ بِدَعًا، وَلَكِنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الرَّدِّ إلَى اثْنَيْنِ، كَأَنْ تَرَى امْرَأَةً تَبَرَّجَتْ لِرَجُلٍ فَتَقُولَ: أَتَتَبَرَّجِينَ لِلرِّجَالِ؟ وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادُ الْإِمَامِ حَمْلُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ كَمَا نَقَلَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْهُ، فَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ، فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ: وَقَدْ يَسْتَوِي حُكْمُ التَّثْنِيَةِ وَمَا دُونَهَا بِدَلِيلٍ كَالْمُخَاطِبِ لِلْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي قَوْله تَعَالَى: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْوَاحِدِ: افْعَلَا، افْعَلُوا. هَذَا كَلَامُهُ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مَجَازٌ لِاشْتِرَاطِهِ الْقَرِينَةَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ. وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23] . وَذَكَرَ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ صِحَّةَ إطْلَاقِ الْجَمْعِ وَإِرَادَةِ الْوَاحِدِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] ، وَهُوَ وَاحِدٌ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 36] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] ، الْمُرَادُ بِالْمُرْسَلِينَ نُوحٌ نَحْوُ قَوْلِك:

فُلَانٌ يَرْكَبُ الدَّوَابَّ، وَيَلْبَسُ الْبُرُودَ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ: وَقَوْلُهُ لِامْرَأَتِهِ: أَتُكَلِّمِينَ الرِّجَالَ. وَيُرِيدُ رَجُلًا وَاحِدًا فَفِيهِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْجَمْعِ بَدَلًا عَنْ لَفْظِ الْوَاحِدِ لِتَعَلُّقِ غَرَضِ الزَّوْجِ بِجِنْسِ الرِّجَالِ، لَا أَنَّهُ عَنَى بِلَفْظِ الرَّجُلِ رَجُلًا وَاحِدًا. قُلْت: هَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُطْلِقْ الرِّجَالَ عَلَى وَاحِدٍ؛ بَلْ عَلَى جَمْعٍ، لِظَنِّهِ أَنَّهَا مَا تَبَرَّجَتْ لِوَاحِدٍ إلَّا وَقَدْ تَبَرَّجَتْ لِغَيْرِهِ، فَتَبَرُّجُهَا لِوَاحِدٍ سَبَبٌ لِلْإِطْلَاقِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِرِجَالٍ وَاحِدٌ. وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ حَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ. قَالَ: لَكِنْ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ خَالَفَ فِيهِ، وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ يَبْقَى فِي تَنَاوُلِهِ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ مُنَزِّلُ الذِّكْرَ، فَإِذَا ثَبَتَتْ الْعِبَارَةُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَنْ الْوَاحِدِ لَمْ يُسْتَنْكَرْ حَمْلُ الْعُمُومِ الْمُخَصَّصِ عَلَى الْوَاحِدِ حَقِيقَةً قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ، وَالْوَاحِدُ الْعَظِيمُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ لِأَهْلِ اللِّسَانِ فِي مَقَامِ التَّعْظِيمِ فَلَا يَجْرِي هَذَا فِي جَانِبِ الْعُمُومِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: شَارِحُ الْبُرْهَانِ " الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَى وَاحِدٍ، لِبُطْلَانِ حَقِيقَةِ الْجَمْعِ، وَلِهَذَا صَارَ الْمُعْظَمُ إلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الْعُمُومِ نُصُوصٌ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ. وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ هُوَ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ

مُقْتَضَى الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا صَارَتْ رُؤْيَةُ الْوَاحِدِ سَبَبًا لِلتَّوْبِيخِ عَلَى التَّبَرُّجِ لِلْجِنْسِ، وَلِهَذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْجَمْعِ هُنَا أَحْسَنَ مِنْ الْإِفْرَادِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَبَيْنَ كَوْنِ الْوَاحِدِ سَبَبًا لِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَأَقُولُ فِي تَحْرِيرِ مَقَالَةِ الْإِمَامِ: إنَّ هَاهُنَا مَقَامَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ. وَالثَّانِي: بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَمْلِ كَنَظِيرِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. فَالْأَوَّلُ: أَنْ يُطْلِقَ الْمُتَكَلِّمُ لَفْظَ الْجَمْعِ وَيُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدَ، وَهَذَا لَا مَنْعَ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مُعَظِّمًا نَفْسَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُورِدَ لَفْظَ الْجَمْعِ هَلْ يَصِحُّ مِنْ السَّامِعِ رَدُّهُ إلَى الْوَاحِدِ؟ وَهَذَا مَوْضِعُ كَلَامِ الْإِمَامِ، فَذَهَبَ. الْأَكْثَرُونَ كَمَا قَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِبُطْلَانِ حَقِيقَةِ الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ صَارَ الْمُعْظَمُ إلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الْعُمُومِ نَصٌّ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ صِحَّةَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُسَلَّمَةِ الرَّدِّ، وَأَنَّهُ إنْ وُجِدَ هُنَاكَ ثَلَاثَةٌ صَحَّ الرَّدُّ إلَيْهَا وِفَاقًا، وَإِنْ وُجِدَ اثْنَانِ انْبَنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَإِنْ رُدَّ إلَى الْوَاحِدِ بَطَلَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهُ بِانْتِهَاءِ اللَّفْظِ إلَى أَنْ بَطَلَ الْمُخَصَّصُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّفْظَ نَصٌّ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، فَحَمْلُهُ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْسُنُ حِكَايَةُ قَوْلٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ أَقَلَّهُ وَاحِدٌ. لَكِنْ تَابَعْتُ ابْنَ الْحَاجِبِ عَلَى مَا فِيهِ.

وَقَدْ جَعَلَ الْإِمَامُ الْمَرَاتِبَ فِي الرَّدِّ ثَلَاثَةً، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ اللَّفْظَ نَصٌّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدِ، لَا يَتَغَيَّرُ إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الِاثْنَيْنِ، لَا يَنْقُصُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَيَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِحَالٍ، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي الزِّيَادَةِ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إرَادَةِ الظَّاهِرِ تُرِكَ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى نَوْعٍ مَخْصُوصٍ كَسَائِرِ الظَّوَاهِرِ. وَقَالَ: إنَّ النَّاظِرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لَا يَظْهَرُ لَهُ مَقْصُودُهُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَنْعِهِ مِنْ التَّكْمِيلِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا يَظْهَرُ عَلَى التَّدْرِيجِ. انْتَهَى. وَتَحْرِيرُ هَذَا مِنْ النَّفَائِسِ الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهَا. وَقَدْ حَكَى أَصْحَابُنَا فِيمَا لَوْ وَصَّى لِأَقَارِبِهِ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا قَرِيبٌ وَاحِدٌ، وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُصْرَفُ إلَيْهِ الْجَمِيعُ، لِأَنَّ الْقَصْدَ جِهَةُ الْقَرَابَةِ. وَالثَّانِي: اعْتِبَارُ الْجَمْعِ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ اثْنَيْنِ. [الْخَامِسُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَجَمْعِ الْقِلَّةِ] وَالْخَامِسُ: مَا حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ مِنْ التَّفْصِيلِ بَيْنَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ؛ وَبَيْنَ جَمْعِ الْقِلَّةِ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ رُجُوعُهُ إلَى الِاثْنَيْنِ بِقَرِينَةٍ، وَكَذَلِكَ إلَى الْوَاحِدِ وَهُوَ مَجَازٌ، هَذَا كَلَامُهُ. وَعَنْ ابْنِ عَرَبِي أَنَّهُ ذَكَرَ فِي " الْفُتُوحَاتِ الْمَلَكِيَّةِ " أَنَّهُ رَأَى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَقَلِّ الْجَمْعِ: اثْنَانِ أَمْ ثَلَاثَةٌ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنْ أَرَدْت أَقَلَّ جَمْعِ الْأَزْوَاجِ فَاثْنَانِ، وَإِنْ أَرَدْت أَقَلَّ جَمْعِ الْإِفْرَادِ فَثَلَاثَةٌ.

تنبيهات محل الخلاف في مسألة أقل الجمع

[تَنْبِيهَاتٌ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ أَقَلِّ الْجَمْعِ] الْأَوَّلُ: اسْتَشْكَلَ ابْنُ الصَّائِغِ النَّحْوِيُّ، وَالْقَرَافِيُّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ ابْنُ الصَّائِغِ فِي شَرْحِ الْجُمَلِ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرَ الْمَعْنَوِيَّ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ، لِأَنَّهُ ضَمُّ أَمْرٍ إلَى آخَرَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ لَفْظُ الْجَمْعِ، فَهَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ؟ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ، وَالْأَكْثَرُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا، وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَيَكْفِي فِيهِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ: لَيْسَ الْإِخْوَةُ أَخَوَيْنِ بِلُغَةِ قَوْمِك، وَمُوَافَقَةُ عُثْمَانَ لَهُ، حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِغَيْرِ اللُّغَةِ. وَنَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، مَعَ أَنَّ لِلتَّثْنِيَةِ لَفْظًا وَحَمَلَهُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لا تَخَفْ خَصْمَانِ} [ص: 22] ، لِأَنَّ الْخِطَابَ وَقَعَ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ اثْنَيْنِ وقَوْله تَعَالَى: {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ. يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ مَعَكُمْ لَهُمَا وَلِفِرْعَوْنَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ السِّيرَافِيُّ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: (إنَّنِي مَعَكُمَا) يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ، وَأَيْضًا فَالْمَعْنَى وَأَنَا مَعَكُمْ فِي النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُشْرِكَهُمَا فِرْعَوْنُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقَرَافِيُّ فَأَطْنَبَ فِي إشْكَالِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ: إنَّ لَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً يُورِدُهُ، وَلَمْ يَتَحَصَّلْ عَنْهُ جَوَابٌ، وَهُوَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ

الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، لِأَنَّهُ إنْ فُرِضَ الْخِلَافُ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ " ج م ع " امْتَنَعَ إتْيَانُهُ فِي غَيْرِهَا؛ بَلْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ مَجِيئِهِ فِيهِ، بَلْ الْخِلَافُ فِي مَدْلُولِهِ، وَحِينَئِذٍ فَمَدْلُولُهَا مَا يُسَمَّى جَمْعًا، وَصِيَغُ الْجُمُوعِ شَيْئَانِ: جَمْعُ قِلَّةٍ، وَجَمْعُ كَثْرَةٍ، وَاتَّفَقَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ مَوْضُوعٌ لِلْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا إلَى الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ عَلَى الْخِلَافِ، وَجَمْعَ الْكَثْرَةِ مَوْضُوعٌ لِمَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، وَتَصْرِيحُهُمْ بِالِاسْتِعَارَةِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْآخَرِ مَجَازًا، فَإِنَّ جَمْعَ الْكَثْرَةِ مَوْضُوعٌ لِمَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِيمَا دُونَهَا كَانَ مَجَازًا، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي جَمْعِ الْكَثْرَةِ لَمْ يَسْتَقِمْ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَحَدَ عَشَرَ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الثَّلَاثَةِ حِينَئِذٍ مَجَازٌ. وَالْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ فِي الْمَجَازِ، فَإِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ لَا خِلَافَ فِيهِ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً، بَلْ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمْعِ وَإِرَادَةِ الْوَاحِدِ مَجَازًا، فَكَيْفَ الِاثْنَانِ؟ وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَهُوَ الْمُتَّجَهُ، لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لِلْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَقَلُّهُ اثْنَانِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادَهُمْ، لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا تَمْثِيلَهُمْ فِي جُمُوعِ الْكَثْرَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ الْأَعَمُّ مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ حَكَى الْأَصْفَهَانِيُّ عَنْهُ هَذَا الْإِشْكَالَ، ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ يَجُوزُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ جَمْعَ قِلَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ، وَنَقُولُ: جَمْعُ الْكَثْرَةِ يَصْدُقُ عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا جَمْعُ الْقِلَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَى مَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ. قَالَ: وَإِنْ سَاعَدَ عَلَى ذَلِكَ مَنْقُولُ الْأُدَبَاءِ فَلَا كَلَامَ، وَإِلَّا فَمَتَى خَالَفَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالْأَدِلَّةِ الْأُصُولِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عُمُومِ الْجَمْعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يُمْكِنُ ادِّعَاءُ إجْمَاعِهِمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ اهـ. وَيَقْدَحُ فِي ذَلِكَ نَقْلُ الْقَرَافِيِّ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ

جَمْعَ الْكَثْرَةِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ إلَّا مُسْتَعَارًا. وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ مِنْ تَخْصِيصِ الْخِلَافِ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ مَا نَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ، لَكِنْ كَلَامُ إلْكِيَا يُخَالِفُهُ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِثَلَاثَةٍ مَعَ أَنَّهُ جَمْعُ كَثْرَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْجَمْعِ الِاسْتِغْرَاقَ، أَمَّا مُطْلَقُ الْكَلَامِ عِنْدَ الْمُعَمِّمِينَ فَحَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَهَذَا أَخَذَهُ مِنْ شَيْخِهِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا، إلَّا إذَا قَامَتْ الْمُخَصِّصَاتُ، وَإِلَّا فَالْأَلْفَاظُ لِلْعُمُومِ عِنْدَ فُقْدَانِ أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ. وَنَازَعَهُ الْإِبْيَارِيُّ وَقَالَ: إنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لَا عَلَى أَصْلِهِ، وَلَا عَلَى أَصْلِ غَيْرِهِ، أَمَّا أَصْلُهُ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ عِنْدَ التَّنْكِيرِ لِأَقَلِّ الْجَمْعِ فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ أَقَلُّ الْجَمْعِ كَيْفَ يُحْكَمُ بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ مُقْتَصِرَةٌ عَلَيْهِ؟ وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهُ لِأَقَلِّ الْجَمْعِ، فَلَا بُدَّ إذَنْ مِنْ بَيَانِ أَقَلِّ الْجَمْعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَإِلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ وَإِنْ عُرِفَ؛ وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ مُفْتَقِرُونَ إلَى ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَالْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا. وَذَكَرَ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْكِنَايَةِ عَنْ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الِاثْنَيْنِ أَوْ مَجَازٌ، عَلَى الْوَجْهَيْنِ؟ . الثَّالِثُ: اسْتَثْنَى النَّحْوِيُّونَ الْمُشْتَرِطُونَ لِلثَّلَاثَةِ التَّعْبِيرَ عَنْ عُضْوَيْنِ مِنْ جَسَدَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، نَحْوُ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]

لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ. فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ قَلْبَاكُمَا لَثَقُلَ اجْتِمَاعُ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّثْنِيَةِ فِيمَا هُوَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مَرَّتَيْنِ، وَشَرَطُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُتَّصِلًا كَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ، وَقَدْ سَبَقَ أَصْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. الرَّابِعُ: قَالَ الْقَاضِي الْمَسْأَلَةُ عِنْدِي مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَا مِنْ مَسَائِلِ الْقَطْعِ، فَيَكْفِي فِيهَا الظَّنِّيَّاتُ. الْخَامِسُ: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: فِيمَنْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ لِجِيرَانِهِ، وَكَانُوا غَيْرَ مَحْصُورِينَ، فَهَلْ يُفَرَّقُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ اثْنَيْنِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ؟ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثَةٌ، أَجَازَ تَخْصِيصَ الْجَمْعِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْبَاقِي مِنْهُ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا وَلَمْ يَكُنْ تَخْصِيصًا؛ وَمَنْ قَالَ: أَقَلُّهُ اثْنَانِ أَجَازَ التَّخْصِيصَ فِيهِ إلَى أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي اثْنَيْنِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا عِنْدَهُ. فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ وَاحِدٌ فَقَدْ صَارَ مَنْسُوخًا يَعْنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرَ هَاتَيْنِ الْفَائِدَتَيْنِ أَيْضًا الْإِمَامُ فِي التَّلْخِيصِ وَالْبُرْهَانِ "، فَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ: فَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِمَالِهِ لِأَقَلِّ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمَسَاكِينِ، هَلْ يُصْرَفُ لِاثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ؟ وَقَالَ فِي " الْبُرْهَانِ ": ذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ آثَارِ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أَوْ أَوْصَى بِدَرَاهِمَ، فَلَفْظُ الْمُقِرِّ وَالْمُوصِي مَحْمُولٌ عَلَى الْأَقَلِّ؛ فَإِنْ قِيلَ: أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ حُمِلَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ قِيلَ أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ لَمْ يُقْبَلْ التَّفْسِيرُ

بِالِاثْنَيْنِ، قَالَ: وَلَا أَرَى الْفُقَهَاءَ يَسْمَحُونَ بِهَذَا، وَلَا أَرَى لِلنِّزَاعِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ مَعْنًى إلَّا مَا ذَكَرْته. انْتَهَى. وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي أُصُولِهِ الْفَائِدَةَ الثَّانِيَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ فَائِدَةٌ مُزَيَّفَةٌ، لِأَنَّ أَئِمَّتَنَا مُجْمِعُونَ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْجَمْعِ وَالْعُمُومِ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ إلَى أَنْ يَبْقَى تَحْتَهُ وَاحِدٌ؛ انْتَهَى. وَلَعَلَّ هَذِهِ طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ تَنْفِي الْخِلَافَ، وَإِلَّا فَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ مُصَرِّحٌ بِالْخِلَافِ، وَإِنْكَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْفَائِدَةَ الْأُولَى لَا وَجْهَ لَهُ، ثُمَّ اخْتَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَاءَهَا عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ، وَرَأَى أَنَّ إفَادَةَ الْجُمُوعِ لِلتَّعْمِيمِ ثَابِتَةٌ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ طَبَقَاتِ الْعُمُومِ فِي قُوَّةِ الِاسْتِيعَابِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُمُومِ إلَى قَصْرِهِ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ وَدَلَالَتِهِ مِنْ قَصْرِهِ عَلَى الْمُحْتَمَلَاتِ، فَاقْتَضَى هَذَا عِنْدَهُ طَلَبَ قُوَّةٍ فِي الْمُخْرِجِ لَهُ عَنْ بَابِهِ، وَتَقْدِيمَ مَا هُوَ الْأَرْجَحُ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ مِنْ الرَّدِّ إلَى الِاثْنَيْنِ. السَّادِسُ: وَقَعَ فِي عِبَارَةِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ثَلَاثَةٌ، وَكَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالْمُطْلَقِ نَحْوَ دَرَاهِمَ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ الْمُقَيَّدِ نَحْوُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ تِسْعَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَإِنَّهُ جَمْعٌ وَلَيْسَ بِمُطْلَقٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مُقَيِّدَهُ. فَوَائِدُ: ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي أُصُولِهِ: الْأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرُ وَرَدَتْ عَلَيْهِ فِي مَعْنَاهُ. الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَقِيلَ إنَّ آحَادَهُ تُقَابِلُ آحَادَهُ،

وَقِيلَ بَلْ الْجَمْعُ الْجَمْعَ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الظَّاهِرُ مُوجِبًا تَحْرِيمَ كُلِّ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأُمُومَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي يُوجِبُ تَحْرِيمَ كُلِّ أُمٍّ عَلَى ابْنِهَا، وَيُطْلَبُ فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ دَلِيلٌ يَخْتَصُّ بِهِ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ مِنْهُ مُقَابَلَةُ الْوَاحِدِ بِالْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِمْ: وَصَلَ النَّاسُ دُورَهُمْ، وَحَصَدُوا زُرُوعَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ جَمْعُهُ فِي الْوَاحِدِ بِمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ. الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الطَّائِفَةِ، فَقِيلَ كَالْجَمْعِ مُطْلَقُهُ لِثَلَاثَةٍ، وَقِيلَ: لِلْجُزْءِ وَأَقَلُّهُ وَاحِدٌ، وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ لِمَا سَبَقَ إيضَاحُهُ. نَعَمْ، جَعَلَهَا الْأَصْحَابُ فِي بَابِ اللِّعَانِ أَرْبَعَةً، فَقَالُوا: يُغَلِّظُ الْحَاكِمُ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وَفِيهِ إشْكَالٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ فَمَمْنُوعٌ، لِأَنَّ طَائِفَةً تُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ فَأَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ زِنًا فَالْإِقْرَارُ بِهِ يَكْفِي فِيهِ رَجُلَانِ عَلَى الصَّحِيحِ. الرَّابِعَةُ: الضَّمَائِرُ الرَّاجِعَةُ إلَى الظَّاهِرِ تُحْمَلُ عَلَى مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهَا مُخَالِفًا ثُمَّ تَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِدَلِيلٍ عَلَى مُوَافَقَةِ صَاحِبِهِ، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلَانِ قَالُوا، وَرِجَالٌ قَالَا، يُحْمَلُ قَوْلُهُ: قَالُوا عَلَى الْجَمْعِ، وَرَجُلَانِ عَلَى التَّثْنِيَةِ فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ، ثُمَّ يُطْلَبُ الدَّلِيلُ الَّذِي يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُمَا، فَإِنْ قَامَ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ يُحْمَلُ عَلَى الْخَبَرِ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَامَ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ صُيِّرَ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ ضَمَائِرُ الْإِنَاثِ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ كَقَوْلِهِ: رَجُلَانِ قَتَلَهُمْ، أَوْ رِجَالٌ قَتَلَهُمَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ أَصْلًا وَالْخَبَرُ مُرَكَّبًا عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُرَادًا وَالِابْتِدَاءُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُوَافِقُهُ، وَلَا يُغَيَّرُ أَحَدُهُمَا عَمَّا وُضِعَ لَهُ لِمُوَافَقَةِ صَاحِبِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُهُ

فصل في العموم المعنوي ويشتمل على مسائل

[فَصْلٌ فِي الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ] [الْأُولَى الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إذَا جَعَلْنَاهُ لِلْعُمُومِ] الْأُولَى: الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إذَا جَعَلْنَاهُ لِلْعُمُومِ، فَالْعُمُومُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَا بُدَّ أَنْ تُفِيدَ التَّعْرِيفَ، وَلَيْسَ التَّعْرِيفُ إلَّا تَعْرِيفَ الْجِنْسِ، وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ وَاحِدًا خَرَجَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَنْ كَوْنِهِمَا لِلْجِنْسِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا فَائِدَةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا لِلْجِنْسِ ثَبَتَ الِاسْتِغْرَاقُ، لِأَنَّهُ إذَا قَالَ " الْإِنْسَانُ " أَفَادَ دُخُولَ كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ فِي اللَّفْظِ. [الثَّانِيَةُ إذَا عَلَّقَ الشَّارِعُ حُكْمًا فِي وَاقِعَةٍ عَلَى عِلَّةٍ تَقْتَضِي التَّعَدِّيَ إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا عَلَّقَ الشَّارِعُ حُكْمًا فِي وَاقِعَةٍ عَلَى عِلَّةٍ تَقْتَضِي التَّعَدِّيَ إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، مِثْلُ حَرَّمْت السُّكَّرَ لِكَوْنِهِ حُلْوًا، فَإِنْ قَطَعَ بِاسْتِقْلَالِهَا فَالْجُمْهُورُ عَلَى التَّعَدِّي قِيَاسًا وَشَذَّ مَنْ قَالَ فِيهِ يَتَعَدَّى بِاللَّفْظِ، فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بَلْ كَانَ ظَاهِرًا فِيهِ كَمَا فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» فَإِنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ بِذَلِكَ الْمُحْرِمِ، فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ يَعُمُّ أَمْ لَا؟

فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعُمُّ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ لَا لِمُجَرَّدِ إحْرَامِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ نِيَّتِهِ إخْلَاصُهُ، وَغَيْرُهُ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ ذَلِكَ. وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَحَكَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ: هَلْ عَمَّ بِالصِّيغَةِ، أَوْ بِالْقِيَاسِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَحْكِيَّيْنِ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ بِالْقِيَاسِ. قُلْت: وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي خِلَافَ مَا نَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْهُ، إذَا طُرِدَتْ الْعِلَّةُ وَلَمْ يُمْكِنْ احْتِمَالُ اخْتِصَاصِ الْعِلَّةِ بِصَاحِبِ الْوَاقِعَةِ فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ خَاصَّةً بِهِ لَمْ يَعُمَّ، كَقَوْلِهِ: لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا، قَالَ: يُعَمَّمُ بِتَعْمِيمِ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُحْرِمٍ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِذَلِكَ الْمُحْرِمِ، فَإِنَّهُ عَلَّلَ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا، وَهَذَا مِمَّا لَا نَعْلَمُهُ فِي حَقِّ كُلِّ مُحْرِمٍ، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ فِي الْمُسْتَصْفَى. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: يَعُمُّ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» وَهُوَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الصِّيغَةِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ أَيْضًا.

وَاَلَّذِي وَجَدْته فِي كِتَابِ " الْأَعْلَامِ " إطْلَاقُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ، وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ الِاسْتِحَاضَةِ: «دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي» ، قَالَ: فَلَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ؛ بَلْ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ بِذَلِكَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَهُوَ الِاسْتِحَاضَةُ حَيْثُ وُجِدَتْ، إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِالتَّخْصِيصِ. وَذَهَبَ حُذَّاقُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يَعُمُّ بِاللَّفْظِ لَا بِالْقِيَاسِ، حَتَّى إنَّهُمْ حَكَمُوا بِكَوْنِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ يُنْسَخُ بِهَا كَمَا يُنْسَخُ بِالنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ مَعَ مَنْعِهِمْ مِنْ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ، ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ الزَّاغُونِيِّ وَغَيْرُهُمْ. تَنْبِيهٌ [إذَا عَلَّقَ غَيْرُ الشَّارِعِ حُكْمًا فِي وَاقِعَةٍ عَلَى عِلَّةٍ] هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلَامِ الشَّارِعِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ لَوْ قَالَ وَلَهُ عَبِيدٌ: أَعْتَقْتُ هَذَا الْعَبْدَ، لِأَنَّهُ أَبْيَضُ، فَلَا يُعْتَقُ الْبَاقُونَ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ وُقُوعِ الْعِلَّةِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ حَيْثُ تَعُمُّ، وَبَيْنَ وُقُوعِهَا فِي كَلَامِ غَيْرِهِ فَلَا تَعُمُّ. قَالَ: وَلِذَلِكَ إذَا قَالَ الشَّارِعُ: لَا تَأْكُلْ الرُّءُوسَ، وَجَبَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّأْسِ، وَلَوْ قَالَ غَيْرُهُ: وَاَللَّهِ لَا أَكَلْتَ الرُّءُوسَ انْصَرَفَ ذَلِكَ إلَى الْمَعْهُودِ، انْتَهَى.

المسألة الثالثة ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال

وَهَكَذَا رَأَيْت الْجَزْمَ بِهِ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ " لِأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَكَذَا الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى فِي بَابِ الْقِيَاسِ، فَقَالَ: الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ إلَّا غَانِمًا لِقَوْلِهِ: أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ، وَإِنْ نَوَى عِتْقَ السُّودَانِ، لِأَنَّهُ بَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِ غَانِمٍ مُجَرَّدُ السَّوَادِ وَالْإِرَادَةُ، فَلَا تُؤْثَرُ. انْتَهَى. وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَهُ مَاءً مِنْ عَطَشٍ، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ طَعَامِهِ، وَلُبْسِ ثِيَابِهِ، وَشُرْبِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ، وَإِنْ كَانَ دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ تَقْتَضِيهِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعُمُومِ، وَإِلَيْهِ صَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ أَعْتِقْ عَبْدِي لِأَنَّهُ أَسْوَدُ سَاغَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّ عَبْدٍ لَهُ أَسْوَدَ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: بَدِيهَتِي تَقْتَضِي تَعْدِيَةَ الْعِتْقِ إلَى كُلِّ أَسْوَدَ مِنْ عَبِيدِهِ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْقِيَاسِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ، وَعَلَيْهِ اُعْتُمِدَ فِي صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ، وَفِي الْإِسْلَامِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِقَضِيَّةِ غَيْلَانَ

حَيْثُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ فِي الْجَمْعِ وَالتَّرْتِيبِ، فَكَانَ إطْلَاقُ الْقَوْلِ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَقَعَ تِلْكَ الْعُقُودُ مَعًا أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَاسْتَحْسَنَهُ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَعَلَيْهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّ اللَّفْظَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ مَحَامِلِ الْوَاقِعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُجْمَلٌ فَيَبْقَى عَلَى الْوَقْفِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ الْعُمُومِ، بَلْ إنَّمَا يَكْفِي الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ حَالِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا مِنْ دَلَالَةِ الْكَلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ. وَالرَّابِعُ: اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ أَنَّهُ يَعُمُّ إذَا لَمْ يَعْلَمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَفَاصِيلَ الْوَاقِعَةِ؛ أَمَّا إذَا عَلِمَ فَلَا يَعُمُّ، وَكَأَنَّهُ قَيَّدَ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ.

وَاعْتُرِضَ عَلَى مَا قَالَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَرَفَ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَلِأَجْلِ هَذَا حَكَى الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَادَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَالَ: حُكْمُ الشَّارِعِ الْمُطْلَقِ فِي وَاقِعَةٍ سُئِلَ عَنْهَا وَلَمْ تَقَعْ بَعْدُ عَامٌ فِي أَحْوَالِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَتْ وَلَمْ يَعْلَمْ الرَّسُولُ كَيْفَ وَقَعَتْ، وَإِنْ عَلِمَ فَلَا عُمُومَ، وَإِنْ الْتَبَسَ هَلْ عَلِمَ أَمْ لَا؟ فَالْوَقْفُ. وَأَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمُوجِبِ لِلْوَقْفِ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُقُوعِ بِالْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَيَعُودُ إلَى الْحَالَةِ الَّتِي لَمْ تُعْلَمُ حَقِيقَةُ وُقُوعُهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْقَطْعَ، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ، فَيَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ، وَتَأَوَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ الْحَدِيثَ عَلَى وُقُوعِ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ وَقَعَ مُرَتَّبًا فَإِنَّ الْأَرْبَعَ الْأُوَلَ تَصِحُّ، وَيَبْطُلُ فِيمَا عَدَاهُ. وَأَجَابَ الْإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَعْرِفَةِ بِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْلَانَ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَوْجَاتِهِ فِي نِهَايَةِ الْبَعْدُ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَدَّعِي الْعُمُومَ فِي كُلِّ مَا يَظْهَرُ فِيهِ اسْتِفْهَامُ الْحَالِ، وَيَظْهَرُ مِنْ الشَّارِعِ إطْلَاقُ الْجَوَابِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مُسْتَرْسِلًا عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. قُلْت: وَلَا سِيَّمَا وَالْحَالُ حَالُ بَيَانٍ بِحُدُوثِ عَهْدِ غَيْلَانَ بِالْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا يَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ «نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ: أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي خَمْسُ نِسْوَةٍ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: فَارِقْ وَاحِدَةً، وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا، قَالَ: فَعُدْتُ إلَى أَقْدَمِهِنَّ عِنْدِي عَاقِرٌ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً، فَفَارَقْتُهَا» ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ وَقَعَ مُرَتَّبًا، وَالْجَوَابُ وَاحِدٌ.

وَأَجَابَ الْهِنْدِيُّ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ احْتِمَالَ لَفْظِ الْحِكَايَةِ لِتِلْكَ الْحَالَةِ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَالِمٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ غَيْرُ مُرَادَةٍ لِلسَّائِلِ، إمَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْقَضِيَّةَ لَمْ تَقَعْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ لِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ غَيْرُ مُرَادَةٍ لَهُ، بَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ احْتِمَالُ وُقُوعِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عِنْدَ الْمَسْئُولِ مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ إيَّاهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَسْقُطُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَقَدْ وَافَقَنَا أَهْلُ الرَّأْيِ عَلَى هَذَا فِي غُرَّةِ جَنِينِ الْحُرَّةِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ فِيهِ غُرَّةً عَبْدًا أَوْ أَمَةً، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ: هَلْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؟ فَلَمَّا تَرَكَ التَّفْصِيلَ فِيهِ دَلَّ عَلَى التَّسْوِيَةِ فِيهِمَا. انْتَهَى. وَلِذَلِكَ اسْتَدَلُّوا لِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ لِلِاسْتِحَاضَةِ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنْ الشَّهْرِ، فَلْتَتْرُكْ الصَّلَاةَ بِقَدْرِهَا» قَالُوا: فَأُطْلِقَ الْجَوَابُ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ عَنْ أَحْوَالِ الدَّمِ مِنْ سَوَادٍ وَحُمْرَةٍ وَغَيْرِهِمَا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى اعْتِبَارِ الْعَادَةِ مُطْلَقًا وَتَقْدِيمِهِ عَلَى التَّمْيِيزِ وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: «إنَّ دَمَ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنْ الصَّلَاةِ» فَأُطْلِقَ اعْتِبَارُ التَّمْيِيزِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ لَهَا، هَلْ

هِيَ ذَاكِرَةٌ لِعَادَتِهَا أَمْ لَا؟ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ. وَقَدْ قَسَّمَ الْإِبْيَارِيُّ هَذِهِ إلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: إنْ تَبَيَّنَ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ، فَلَا رَيْبَ فِي أَنَّهَا لَا يَثْبُتُ فِيهَا مُقْتَضَى الْعُمُومِ. ثَانِيهَا: أَنْ لَا يَثْبُتَ بِطَرِيقٍ مَا اسْتِفْهَامُ كَيْفِيَّةِ الْقَضِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ، وَالْحُكْمُ قَدْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِهَا، فَيُنَزَّلُ إطْلَاقُهُ الْجَوَابَ فِيهَا مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ الَّذِي يَعُمُّ تِلْكَ الْأَقْسَامَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يَثْبُتَ تَارَةً وَلَا يَثْبُتَ أُخْرَى، لَمَا صَحَّ لِمَنْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْحَالُ أَنْ يُطْلِقَ الْحُكْمَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْحَالَةُ وَاقِعَةً عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَقِرُّ مَعَهَا الْحُكْمُ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْمِيمِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بِالْإِضَافَةِ إلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَفِي كَلَامِهِ مَا يَقْتَضِي الِاتِّفَاقَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْوَاقِعَةِ بِاعْتِبَارِ دُخُولِهَا الْوُجُودَ لَا بِاعْتِبَارِ

وُقُوعِهَا، كَمَا إذَا سُئِلَ عَمَّنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَيَقُولُ: فِيهِ كَذَا، فَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِرْسَالَ الْحُكْمِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْهَا عَلَى الْإِبْهَامِ، وَلَمْ يُفَصِّلْ الْجَوَابَ، كَانَ عُمُومُهُ مُسْتَرْسِلًا عَلَى كُلِّ أَحْوَالِهِ. رَابِعُهَا: أَنْ تَكُونَ الْوَاقِعَةُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا حَاصِلَةً فِي الْوُجُودِ، وَيُطْلَقُ السُّؤَالُ عَنْهَا فَيُجِيبُ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ إلَى الْقَيْدِ الْوُجُودِيِّ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَالِالْتِفَاتُ إلَى الْإِطْلَاقِ فِي السُّؤَالِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَ الْأَحْوَالِ فِي غَرَضِ الْمُجِيبِ، فَالْتَفَتَ الشَّافِعِيُّ إلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الْإِرْشَادِ وَإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ وَحُصُولِ تَمَامِ الْبَيَانِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ إلَى احْتِمَالِ خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ فِي الْوُجُودِ إلَّا خَاصَّةً، فَقَالَ: احْتِمَالُ عِلْمِ الشَّارِعِ بِهَا يَمْنَعُ التَّعْمِيمَ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: إنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مَقْصُورَةٌ بِمَا إذْ وُجِدَ اللَّفْظُ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ، فَأَمَّا التَّقْرِيرُ عِنْدَ السُّؤَالِ فَهَلْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ حَتَّى يَعُمَّ أَحْوَالَ السُّؤَالِ فِي الْجَوَابِ وَغَيْرِهِ؟ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْأَقْرَبُ تَنْزِيلُهُ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ، وَلِإِقَامَةِ الْإِقْرَارِ مَقَامَ الْحُكْمِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، إذْ لَا يَجُوزُ تَقْرِيرُهُ لِغَيْرِهِ عَلَى أَمْرٍ بَاطِلٍ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْقَوْلِ الْمُبِينِ لِلْحُكْمِ، فَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي الْعُمُومِ، فَإِنْ قِيلَ: التَّقْرِيرُ لَيْسَتْ دَلَالَتُهُ لَفْظِيَّةً، وَالْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ، وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا عُمُومَ لِلْمَفْهُومِ، لِأَنَّ دَلَالَتَهُ لَيْسَتْ لَفْظِيَّةً. فَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَنَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ بِمَعْنَى شُمُولِ الْحُكْمِ لِلْأَحْوَالِ،

فَلَا يَجْعَلُهُ حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ حَدِيثُ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ، فَإِنَّ السَّائِلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَمَعَنَا الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا» الْحَدِيثَ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ إعْدَادَ الْمَاءِ الْكَافِي لِلطَّهَارَةِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ وَهُوَ كَالْعَامِّ فِي حَالَاتِ حَمْلِهِمْ بِالنِّسْبَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالْعَجْزِ عَنْهُ، لِضِيقِ مَرَاكِبِهِمْ. وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ أَيْضًا، وَقَدْ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى جَوَازِهِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْوَارِدُ فِي الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعَ تَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ. الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاحْتِمَالِ كَيْفَ كَانَ مَرْجُوحًا وَغَيْرَهُ، فَيَحْصُلُ التَّعْمِيمُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ لَا يَدْخُلُ، وَحِينَئِذٍ فَيَحْصُلُ التَّصْوِيرُ بِالِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ وَالْمُتَسَاوِيَةِ فِي الْإِطْلَاقِ. قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ. وَقَالَ جَدُّهُ الْمُقْتَرِحُ: لَمْ يُرِدْ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ مُطْلَقَ الِاحْتِمَالِ، حَتَّى يَنْدَرِجَ فِيهِ التَّجْوِيزُ الْعَقْلِيُّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ احْتِمَالًا يُضَافُ إلَى أَمْرٍ وَاقِعٍ، لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ التَّجْوِيزُ الْعَقْلِيُّ لَأَدَّى إلَى رَدِّ مُعْظَمِ الْوَقَائِعِ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا الشَّارِعُ، إذْ مَا مِنْ وَاقِعَةٍ إلَّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا تَجْوِيزٌ عَقْلِيٌّ. وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ فِي الْأُمِّ فِي مُنَاظَرَةٍ لَهُ: قَلَّ شَيْءٌ إلَّا وَيَطْرُقُهُ الِاحْتِمَالُ، وَلَكِنْ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ؛ فَأَبَانَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَا نَظَرَ إلَى احْتِمَالٍ يُخَالِفُ ظَاهِرَةَ الْكَلَامِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ، فَالْعُمُومُ يُتَمَسَّكُ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ وَإِمْكَانِ إرَادَتِهِ كَسَائِرِ صِيَغِ الْعُمُومِ. بَقِيَ أَنَّ احْتِمَالَ عِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صُورَةِ الْحَالِ مَا يَقْتَضِي خُرُوجَ الْجَوَابِ عَلَى ذَلِكَ، هَلْ يَكُونُ قَادِحًا فِي التَّعْمِيمِ؟ قَالَ الْإِمَامُ فِي

الْمَحْصُولِ " نَعَمْ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ يُخَالِفُهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِلَفْظِهِ، وَلَفْظُهُ مَعَ تَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَنَّ قَضَايَا الْأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ كَسَاهَا ثَوْبَ الْإِجْمَالِ وَسَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال. قَالَ الْقَرَافِيُّ: سَأَلْتُ بَعْضَ فُضَلَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ جَمَعَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُرَادَهُ بِالِاحْتِمَالِ الْمَانِعِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، الِاحْتِمَالُ الْمُسَاوِي أَوْ الْقَرِيبُ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالِاحْتِمَالِ الَّذِي لَا يَقْدَحُ الِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ، فَإِنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الدَّلَالَةِ، فَلَا يَصِيرُ اللَّفْظُ بِهِ مُجْمَلًا إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الظَّوَاهِرَ كُلَّهَا كَذَلِكَ لَا تَخْلُو عَنْ احْتِمَالٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَرْجُوحًا لَمْ يَقْدَحْ فِي دَلَالَتِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِمَالَ تَارَةً يَكُونُ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ، وَتَارَةً فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَسْقُطُ بِهِ الِاسْتِدْلَال دُونَ الثَّانِي. وَمَثَّلَ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سِيقَ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى الْخَضْرَاوَاتِ، كَمَا يَقُولُ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَيَكُونُ الْعُمُومُ مَقْصُودًا لَهُ، لِأَنَّهُ أَتَى بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ اللَّفْظُ لِبَيَانِ مَعْنًى لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا إنَّمَا سِيقَ لِبَيَانِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ دُونَ الْوَاجِبِ فِيهِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْوَاجِبِ فِيهِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الِاحْتِمَالَاتُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ.

قَالَ: وَمِثْلُهُ الْمُحْرِمُ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ، فَيُحْتَمَلُ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا، فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال عَلَى التَّعْمِيمِ فِي حَقِّ كُلِّ مُحْرِمٍ. هَذَا كَلَامُهُ. وَهَذَا الْجَمْعُ يُخَالِفُ طَرِيقَةَ الشَّافِعِيِّ، يَقُولُ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْقِيَاسِ كَمَا سَبَقَ، وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ مَا يَبِينُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ، لِأَنَّ غَالِبَ وَقَائِعِ الْأَعْيَانِ - الشَّكُّ وَاقِعٌ فِيهَا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ وَالصَّوَابُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ " وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى فِي تَرْكِ اسْتِفْصَالِ الشَّارِعِ الِاسْتِدْلَال فِيهَا بِقَوْلِ الشَّارِعِ وَعُمُومٌ فِي الْخِطَابِ الْوَارِدِ عَلَى السُّؤَالِ عَنْ الْوَاقِعَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَحْوَالِ، وَالْعِبَارَاتُ الثَّانِيَةُ فِي الْفِعْلِ الْمُحْتَمَلِ وُقُوعُهُ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَهِيَ فِي كَوْنِ الْوَاقِعَةِ نَفْسِهَا لَمْ يُفَصَّلْ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِهَا فَلَا عُمُومَ لَهُ كَقَوْلِهِ: صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فَعَلَ فِعْلًا لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ إلَى الْأَفْعَالِ وَالْوَاقِعَةُ نَفْسُهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، وَكَلَامُ الشَّارِعِ حُجَّةٌ لَا احْتِمَالَ فِيهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِسُقُوطِ الِاسْتِدْلَالِ فِي وَقَائِعِ الْأَعْيَانِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُمُومِ إلَى أَفْرَادِ الْوَاقِعَةِ لَا سُقُوطُهُ مُطْلَقًا فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِهَا فِي صُورَةٍ مَا مِمَّا يُحْتَمَلُ وُقُوعُهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَهَكَذَا الْحَدِيثُ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ، مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا سَفَرٍ» ، فَإِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي مَطَرٍ وَأَنَّهُ كَانَ فِي مَرَضٍ وَلَا عُمُومَ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَلِهَذَا حَمَلُوهُ عَلَى الْبَعْضِ، وَهُوَ الْمَطَرُ، لِمُرَجِّحِ لِلتَّعْيِينِ.

المسألة الرابعة المقتضى هل هو عام أم لا

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُخَرَّجَ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مِنْ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ إنَّ الْمُعْتَادَةَ الْمُمَيَّزَةَ هَلْ يُحْكَمُ لَهَا بِالتَّمَيُّزِ، أَوْ تُرَدُّ إلَى الْعَادَةِ كَغَيْرِهَا؟ وَسَبَبُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي» ، فَرَدَّهَا إلَى الْعَادَةِ، وَلَمْ يَسْأَلْهَا: هَلْ هِيَ مُمَيِّزَةٌ أَمْ لَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلْعَادَةِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، لَكِنْ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِالتَّمْيِيزِ، وَقَدْ تَعَاكَسَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَسْأَلَةِ غَيْلَانَ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَمَلَ حَدِيثَ غَيْلَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَالشَّافِعِيُّ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ حَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الْعُمُومِ، وَالشَّافِعِيُّ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُمَيِّزَةً بِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ سَبْقُ ذِكْرِهِ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْمُقْتَضَى هَلْ هُوَ عَامٌّ أَمْ لَا] [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ فِي أَنَّ الْمُقْتَضَى هَلْ هُوَ عَامٌّ أَمْ لَا؟ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ تَصْوِيرِهِ قَبْلَ نَصْبِ الْخِلَافِ، فَنَقُولُ: الْمُقْتَضِي بِكَسْرِ الضَّادِ هُوَ اللَّفْظُ الطَّالِبُ لِلْإِضْمَارِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا بِإِضْمَارِ شَيْءٍ، وَهُنَاكَ مُضْمَرَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَهَلْ لَهُ عُمُومٌ فِي جَمِيعِهَا أَوْ لَا يَعُمُّ، بَلْ يُكْتَفَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا؟ وَأَمَّا الْمُقْتَضَى بِالْفَتْحِ فَهُوَ ذَلِكَ الْمُضْمَرِ نَفْسُهُ، هَلْ نُقَدِّرُهُ عَامًّا، أَمْ نَكْتَفِي بِخَاصٍّ مِنْهُ؟ إذَا عَرَفْتَ هَذَا فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ وَشَرْحِهَا وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي حَيْثُ قَالَا: الْخِطَابُ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى الْإِضْمَارِ لَا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِي إضْمَارِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى إضْمَارٍ، فَبَعْضُهُمْ يُضْمِرُ " وَقْتُ إحْرَامِ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ "، وَبَعْضُهُمْ يُضْمِرُ " وَقْتُ إفْعَالِ الْحَجِّ "، وَالْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ

لَا يَجُوزُ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَا يَدُلُّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ لِأَنَّ الْعُمُومَ مِنْ صِفَاتِ النُّطْقِ، فَلَا يَجُوزُ دَعْوَاهُ فِي الْمَعَانِي. قَالَا: وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِي «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» ، وَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» فِي نَفْيِ الْفَضِيلَةِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فَائِدَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، لِأَنَّ مَا سِوَاهُ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْجَمِيعِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ، لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ. انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَوْضِعَ النِّزَاعِ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُضْمَرِ، لَا فِي الْمُضْمَرِ لَهُ، فَإِنَّ الْمُضْمَرَ لَهُ مَنْطُوقٌ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، وَأَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ " وَصَاحِبُ " اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالُوا: الْمُقْتَضَى مَا اقْتَضَاهُ النَّصُّ، وَأَوْجَبَهُ شَرْطًا لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ، وَالنَّصُّ مُقْتَضٍ لَهُ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ، وَلَمْ يَزِدْ

غَيْرَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ، بَلْ رَافِعٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ: الْحُكْمُ أَوْ الْإِثْمُ، أَوْ هُمَا جَمِيعًا، فَالشَّافِعِيُّ أَثْبَتَ لِلْمُقْتَضِي عُمُومًا، وَعِنْدَنَا لَا عُمُومَ لَهُ، لِأَنَّ دَلَالَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ لِلْحَاجَةِ، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا يَصِحُّ الْمَذْكُورُ بِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُقْتَضَى كَالْمَنْصُوصِ فِي احْتِمَالِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ الْمُقْتَضَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ النَّصِّ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَكَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ مَوْجُودًا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَمَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ رَفْعُ الْإِثْمِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ. ثُمَّ فَرَّعَ السَّرَخْسِيُّ عَلَى الْخِلَافِ الْمَسْأَلَةَ السَّابِقَةَ، وَهِيَ مَا لَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى طَعَامًا، قَالَ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ لِأَنَّ الْأَكْلَ يَقْتَضِي مَأْكُولًا، وَذَلِكَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ أَكَلْتُ طَعَامًا، فَلَمَّا كَانَ لِلْمُقْتَضَى عُمُومٌ عِنْدَهُ عُمِلَ بِنِيَّةِ التَّخْصِيصِ، وَعِنْدَنَا لَا يُعْمَلُ لِأَنَّهُ لَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيمَا لَا عُمُومَ لَهُ لَاغِيَةٌ. انْتَهَى. وَجَعَلَ غَيْرُهُ الْحَدِيثَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ لَا مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْحُكْمِ وَالْإِثْمِ مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاكِ، وَالْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْحَذْفِ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنْ الْمَنْطُوقِ إلَى الْمَحْذُوفِ، وَفِي الْمُقْتَضَى لَا يَنْتَقِلُ مِنْ الْمُقْتَضَى شَيْءٌ، بَلْ يُقَدَّرُ قَبْلَهُ مَا يُصَحِّحُهُ، قَالُوا: وَنَظِيرُهُ الْمَيْتَةُ أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الشِّبَعِ، بِخِلَافِ الْمَنْصُوصِ، فَإِنَّهُ عَامِلٌ بِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُذَكَّى يَعُمُّ سَائِرَ جِهَاتِ الِانْتِفَاعِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُخَرَّجُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: فَإِنَّهُ قَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] الْآيَةَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا فَتَطَيَّبَ، أَوْ لَبِسَ، أَوْ أَخَذَ ظُفْرَهُ، لِأَجْلِ مَرَضِهِ، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ فَفِدْيَةٌ، فَقُدِّرَ جَمِيعُ الْمُضْمَرَاتِ؟ وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " لَيْسَ هَذَا مُضْمَرًا فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا تَضَمَّنَهُ حَلْقُ الرَّأْسِ فَقَطْ، وَالْبَاقِي مَقِيسٌ عَلَيْهِ، فَقَدَّرَهُ خَاصًّا. وَقَدْ حَكَى الْبَصِيرُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " وَ " الْحَاصِلِ " أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَحَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ " عَنْ " شَرْحِ اللُّمَعِ " لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ عَامٌّ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ وَالنَّوَوِيُّ فِي " الرَّوْضَةِ " فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، فَقَالَ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ النَّاسِي؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ عَامَّةٌ، يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي» فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: حُكْمُ الْخَطَأِ أَوْ إثْمُهُ أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَقَاعِدَةُ الشَّافِعِيِّ تَقْتَضِي التَّعْمِيمَ، وَلِهَذَا كَانَ كَلَامُ النَّاسِي عِنْدَهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ أَبْطَلَهَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرَى عَدَمَ عُمُومِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ فِي كُلِّ مَا يَصِحُّ التَّقْدِيرُ بِهِ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ

وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": إنَّهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْإِضْمَارِ، وَهِيَ الْمُنْدَفِعَةُ بِإِضْمَارٍ وَاحِدٍ وَتَكْثِيرُ الْإِضْمَارِ تَكْثِيرٌ لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ إضْمَارُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَإِمَّا أَنْ لَا يُضْمَرَ حُكْمٌ أَصْلًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ تَعْطِيلُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَوْ يُضْمَرُ الْكُلُّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ هَذَا، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَيْسَ إضْمَارُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ قُلْنَا بِإِضْمَارِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إضْمَارُ حُكْمٍ مَا وَالتَّعْيِينُ إلَى الشَّارِعِ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِجْمَالُ، فَأَجَابَ بِأَنَّ إضْمَارَ الْكُلِّ يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْثِيرُ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَعْنِي مِنْ الْإِجْمَالِ وَإِضْمَارِ الْكُلِّ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَإِذَا قُلْنَا: بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ، فَهَلْ هُوَ مُجْمَلٌ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ، وَإِذْ قُلْنَا: لَيْسَ بِمُجْمَلٍ، فَقِيلَ: يُصْرَفُ إطْلَاقُهُ فِي كُلِّ عَيْنٍ إلَى الْمَقْصُودِ اللَّائِقِ بِهِ، حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَقِيلَ: يُضْمَرُ الْمَوْضِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مُسْتَغْنٍ عَنْ الدَّلِيلِ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": إنْ قُلْنَا: الْمُقْتَضَى لَهُ عُمُومٌ أُضْمِرَ الْكُلُّ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا عُمُومَ لَهُ، فَهَلْ يُضْمَرُ مَا يُفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ، أَوْ يُضْمَرُ حُكْمًا مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ وَتَعْيِينُهُ إلَى الْمُجْتَهِدِ؟

وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ. وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ. وَالثَّالِثُ التَّوَقُّفُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْآمِدِيَّ آخِرًا لِتَعَارُضِ الْمَحْذُورَيْنِ: كَثْرَةُ الْإِضْمَارِ وَالْإِجْمَالُ إذَا قِيلَ بِإِضْمَارِ حُكْمٍ، وَأَمَّا ابْنُ الْحَاجِبِ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْتِزَامُ الْإِجْمَالِ أَقْرَبُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ بِتَكْثِيرِ الْإِضْمَارِ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أَنْ تَكُونَ مُجْمَلَةً، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ هُنَاكَ بِمُخَالَفَتِهِ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ فِي بَابِ الْمُجْمَلِ بِأَنَّ الْتِزَامَ مَحْذُورِ الْإِضْمَارِ الْكَثِيرِ أَوْلَى مِنْ الْتِزَامِ مَحْذُورِ الْإِجْمَالِ فِي اللَّفْظِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِضْمَارَ فِي اللُّغَةِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَحْظُورَ فِي الْإِضْمَارِ أَقَلُّ مَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ أَكْثَرَ. الثَّانِي: أَنَّهُ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُودِ الْإِضْمَارِ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْإِجْمَالِ فِيهِمَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إضْمَارِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّحُومِ فِي التَّحْرِيمِ، وَإِلَّا لَمَا أَلْزَمَهُمْ الذَّمُّ بِبَيْعِهَا. هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ الْمُقَدَّرَاتُ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي الدَّلَالَةِ، أَمَّا إذَا كَانَ بَعْضُهَا أَعَمَّ مِنْ غَيْرِهِ فَاخْتَارَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ إضْمَارُ الْأَعَمِّ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ وَتَكْثِيرِهَا مَعَ انْدِفَاعِ الْمَحْذُورِ الَّذِي هُوَ تَكْثِيرُ الْإِضْمَارِ.

وَقَرَّرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ " فَقَالَ: وَهُنَا وَجْهٌ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ مَقْصُودُ مَنْ أَرَادَ التَّعْمِيمَ، وَهُوَ أَنْ يُضْمِرَ شَيْئًا وَاحِدًا، مَدْلُولُ ذَلِكَ مُقْتَضٍ لِلْعُمُومِ، فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعُمُومِ مَعَ عَدَمِ تَعَدُّدِ الْمُضْمَرِ، مِثْلُ أَنْ يُضْمِرَ فِي قَوْلِهِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْحُكْمُ، فَيَعُمُّ الْأَحْكَامَ مَعَ غَيْرِ تَعَدُّدٍ فِي الْمُضْمَرِ. انْتَهَى. وَقَدَّرَ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] التَّصَرُّفَ فِي الْمَيْتَةِ لِيَعُمَّ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ، وَالْبَيْعِ وَالْمُلَابَسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الصُّوَرَ فِي الْمُقَدَّرَاتِ ثَلَاثٌ: أَحَدُهَا: أَنْ تَتَسَاوَى، وَلَا يَظْهَرُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّهُ أَرْجَحُ، فَهَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ مُجْمَلٌ؟ قَوْلَانِ: أَرْجَحُهُمَا الثَّانِي. ثَانِيهِمَا: أَنْ يَتَرَجَّحَ بَعْضُهَا لَا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ، بَلْ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِيقَةِ، مِثْلُ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ» ، «وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، فَأَصْحَابُنَا يُقَدِّرُونَ وَاحِدًا، ثُمَّ يُرَجِّحُونَ تَقْدِيرَ مَا كَانَ

أَقْرَبَ إلَى نَفْيِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ الْجَوَازُ مَثَلًا، سَوَاءٌ كَانَ أَعَمَّ مِنْ غَيْرِهِ أَمْ لَا، وَالْخَصْمُ يُقَدِّرُ الْكُلَّ، ثُمَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ هُنَا: إنَّ الْخَصْمَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّرَ الْكُلَّ إلَّا إذَا لَمْ يُنَافِ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِنْ تَنَافَيَا وَارْتَكَبَ تَقْدِيرَ الْكُلِّ فَقَدْ أَسَاءَ، مِثْلُ " لَا صِيَامَ " فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْكَمَالِ يُنَافِي تَقْدِيرَ الصِّحَّةِ، إذْ نَفْيُ الْكَمَالِ مِنْهُمْ إثْبَاتُ الصِّحَّةِ، فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ مَعَ تَقْدِيرِ نَفْيِ الصِّحَّةِ مَعَهُ. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ انْتِفَاءُ الْفَضِيلَةِ مَعَ انْتِفَاءِ الْجَوَازِ: لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْجَوَازِ، فَيُتَصَوَّرُ انْتِفَاءُ الْفَضِيلَةِ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْخِلَافُ فِي هَذَا إنَّمَا يُمْكِنُ فِيمَا لَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَضْمُونِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَظْهَرَ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ بِدَلِيلٍ مُسْتَفَادٍ مِنْ خَارِجٍ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ هُنَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، بَلْ يُقَدَّرُ مَا ظَهَرَ، فَإِنْ كَانَ عَامًّا فَهُوَ عَامٌّ، وَإِلَّا فَلَا، فَالْعَامُّ كَقَوْلِهِ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ، وَالْخَاصُّ كَقَوْلِهِ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» أَيْ لَا تَجِبُ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِهَا، وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا بِدَلِيلٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ عَامٌّ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ تَعَيَّنَتْ. الثَّانِي: أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ قَالُوا: إذَا تَعَيَّنَ لِلْمُقْتَضَى أَحَدُ الْمُضْمَرَاتِ، كَانَ كَظُهُورِهِ فِي اللَّفْظِ، وَرَدُّوا ادِّعَاءَ الْكَرْخِيِّ الْإِجْمَالَ، فَإِنَّ الَّذِي يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا، وَمِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ تَحْرِيمُ وَطْئِهِنَّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ فَلَا إجْمَالَ.

وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ عِنْدَهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَكْلِ؛ بَلْ يَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا فِي الصَّلَاةِ وَبَيْعُهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ، إلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ كَالْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ، وَلَمْ يُعَدَّهُ لِلشَّعْرِ، لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، فَنَجَاسَتُهُ ثَابِتَةٌ عِنْدَهُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْآمِدِيُّ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ» الْحَدِيثَ، إلَّا أَنْ يُقَرِّرَ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ ظَاهِرٌ فِي نَجَاسَتِهَا، وَإِذَا تَنَجَّسَتْ بِالْمَوْتِ لَزِمَ مِنْ النَّجَاسَةِ بُطْلَانُ الْبَيْعِ وَعَدَمُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا مَا طَهُرَ بِالدِّبَاغِ، فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ نَاشِئَةٌ عَنْ النَّجَاسَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ إجْمَالٌ وَلَا تَكْثِيرُ إضْمَارٍ، وَهَذَا تَقْرِيرٌ حَسَنٌ. وَلَمْ يَسْلُكْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ؛ بَلْ قَدَّرَ إنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ التَّصَرُّفَ فِي الْمَيْتَةِ، لِيُفِيدَ عُمُومَ التَّصَرُّفِ، كَالْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَالْمُلَابَسَاتِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: إنَّهُ الْمُتَعَارَفُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ لَا تَحْرِيمِ أَكْلِهَا. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ ضَعْفٌ لَا يَخْفَى، وَهُوَ خِلَافُ مَا قَرَّرَهُ فِي الْمَحْصُولِ كَمَا مَرَّ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» دَلِيلُ انْصِرَافِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ إلَى أَكْلِهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ تَحْرِيمِ الْمُلَابَسَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ ظَاهِرٌ فِي النَّجَاسَةِ، وَهُوَ مَعْنًى مُنَاسِبٌ يَصْلُحُ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ وَالنَّجَاسَةِ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ بِمَا ذَكَرَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِ الْمُقَدَّرَيْنِ دَلِيلٌ، أَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِاللَّفْظِ قَرِينَةٌ تُعَيِّنُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، فَإِنَّ

الْعُرْفَ قَاضٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا، وَمِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ تَحْرِيمُ وَطْئِهِنَّ، بِخِلَافِ نَحْوِ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يُعَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرْفُوعِ الْحُكْمُ أَوْ غَيْرُهُ. [الْفَرْقُ بَيْنَ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَدَلَالَةِ الْإِضْمَارِ] الثَّالِثُ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ يَسْتَدْعِي فَهْمَ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَهَلْ هِيَ مُغَايَرَةٌ لِلْإِضْمَارِ؟ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ إلَى عَدَمِ الْمُغَايَرَةِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ، لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ نَظَرًا إلَى الْعَقْلِ أَوْ الشَّرْعِ أَوْ إلَيْهِمَا، لَا إلَى اللَّفْظِ، إذْ اللَّفْظُ صَحِيحٌ مِنْهُمَا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى الْفَرْقِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ التَّغَايُرِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَبِهِ يُشْعِرُ كَلَامُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَنَّ الِاقْتِضَاءَ إثْبَاتُ شَرْطٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمَذْكُورِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ اللَّفْظِ، نَحْوُ اصْعَدْ السَّطْحَ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَصْبَ السُّلَّمِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الصُّعُودِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ اللَّفْظِ، بِخِلَافِ الْإِضْمَارِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ أَمْرٍ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ اللَّفْظِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ. وَلَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ اللَّفْظِ عَلَى إضْمَارِ الْأَهْلِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحِيلُ السُّؤَالَ مِنْ الْقَرْيَةِ. وَثَانِيهَا: ذَكَرَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " الْكَشْفِ شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ " أَنَّ فِي صُورَةِ الْإِضْمَارِ تَغْيِيرُ إسْنَادِ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالْمُضْمَرِ كَالْأَهْلِ فِي {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، بِخِلَافِ الِاقْتِضَاءِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى الْإِسْنَادُ عَلَى حَالِهِ، وَرُدَّ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رُفِعَ

عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ مَعَ أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ الْإِسْنَادُ بِالْمُضْمَرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُضْمَرَ كَالْمَذْكُورِ لَفْظًا، وَلِهَذَا لَهُ عُمُومٌ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك، وَنَوَى ثَلَاثًا صَحَّتْ نِيَّتُهُ، إذْ الْمَصْدَرُ مُضْمَرٌ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك طَلَاقًا، وَأَمَّا الْمُقْتَضِي فَلَيْسَ هُوَ كَالْمَذْكُورِ لَفْظًا، وَكَذَا لَا يَعُمُّ، وَرُدَّ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ إضْمَارَ الْمَصْدَرِ فِي الْأُولَى، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَالصَّحِيحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَاللَّفْظُ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْمُقْتَضِي أَعَمُّ مِنْ الْمُضْمَرِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ قَدْ يَكُونُ مَشْعُورًا بِهِ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، بِخِلَافِ الْمُضْمَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا يَكُونُ مَشْعُورًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَضْمَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ مُضْمَرٍ مُقْتَضًى، وَلَا عَكْسُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِضْمَارَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إسْقَاطِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْبَاقِي، بِخِلَافِ الِاقْتِضَاءِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فِي صُورَةِ الْإِضْمَارِ تَغْيِيرُ إسْنَادِ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالْمُضْمَرِ، وَفِي الِاقْتِضَاءِ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ» وَقَدْ لَا يَكُونُ كَمَا فِي اصْعَدْ السَّطْحَ، وَكَذَلِكَ فِي اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ الْغَفْلَةِ عَنْ الشَّيْءِ وَتَغَيُّرِ الْإِسْنَادِ، وَهُمَا مُتَّحِدَانِ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَلَامِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ ": وَجَعَلَ الْأُصُولِيُّونَ مِنَّا وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مَا يُضْمَرُ فِي الْكَلَامِ لِتَصْحِيحِهِ عَلَى أَقْسَامٍ.

المسألة الخامسة حذف المعمول يشعر بالتعميم

أَحَدُهَا: مَا أُضْمِرَ لِضَرُورَةِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْلِهِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي» . وَالثَّانِي: مَا أُضْمِرَ لِصِحَّتِهِ عَقْلًا، كَقَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . وَالثَّالِثُ: مَا أُضْمِرَ لِصِحَّتِهِ شَرْعًا، كَقَوْلِهِ: اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي، وَشُمُولُ مُقْتَضًى، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي حَدِّهِ: هُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ مَنْطُوقًا لِتَصْحِيحِ الْمَنْطُوقِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْعُمُومِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَبَعْضُهُمْ إلَى الْمَنْعِ فِيهَا، وَهُوَ أَبُو زَيْدٍ وَذَهَبَ الْبَزْدَوِيُّ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنَّ اسْمَ الْمُقْتَضِي يُطْلَقُ عَلَى الثَّالِثِ فَقَطْ، وَسَمَّوْا الْبَاقِيَ مَحْذُوفًا وَمُضْمَرًا، وَقَالُوا بِالْعُمُومِ فِي الْمُضْمَرِ دُون الْمُقْتَضِي. [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ حَذْفُ الْمَعْمُولِ يُشْعِرُ بِالتَّعْمِيمِ] [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ حَذْفُ الْمَعْمُولِ نَحْوُ زَيْدٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، يُشْعِرُ بِالتَّعْمِيمِ، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25] ، أَيْ كُلَّ أَحَدٍ وَهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْبَيَانِ، وَفِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا أُخِذَ مِنْ الْقَرَائِنِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ دَلَّتْ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فَالتَّعْمِيمُ مِنْ عُمُومِ الْمُقَدَّرِ سَوَاءٌ ذُكِرَ أَوْ حُذِفَ، وَإِلَّا فَلَا دَلَالَةَ عَلَى التَّعْمِيمِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُمُومَ فِيمَا ذُكِرَ إنَّمَا هُوَ دَلَالَةُ الْقَرِينَةِ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ عَامٌّ، وَالْحَذْفُ إنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الِاقْتِضَاءِ لَا التَّعْمِيمِ.

المسألة السادسة المفهوم هل له عموم أم لا

[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الْمَفْهُومَ هَلْ لَهُ عُمُومٌ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ] السَّادِسَةُ فِي أَنَّ الْمَفْهُومَ هَلْ لَهُ عُمُومٌ أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ أَنَّهُ عَامٌّ، فَقَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْعُمُومُ يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي وَدَلَائِلِ الْأَلْفَاظِ مِنْ مَفْهُومٍ أَوْ دَلِيلِ خِطَابٍ. اهـ. وَظَاهِرُ إيرَادِ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْعُمُومَ مِنْ صِفَاتِ النُّطْقِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْغَزَالِيِّ وَلِهَذَا مَنَعَا تَخْصِيصَهُ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْعَامِّ، وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُمْ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ قِيَاسِيَّةٌ لَا لَفْظِيَّةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهَا لَفْظِيَّةٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فِي عُمُومِهِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ الْغَزَالِيَّ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا لَفْظِيَّةٌ، وَهُنَا نَفَى الْعُمُومَ، وَأَشَارَ إلَى بِنَاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ أَوْ الْمَعَانِي، فَقَالَ: مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ عُمُومًا، وَيَتَمَسَّكُ بِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ بِأَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ، وَالْمَفْهُومُ لَيْسَتْ دَلَالَتُهُ لَفْظِيَّةً، فَإِذَا قَالَ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فَنَفْيُ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ لَيْسَ بِلَفْظٍ حَتَّى يَعُمَّ أَوْ يَخُصَّ، وَرَدَّ ذَلِكَ

صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " وَقَالَ: إنْ كُنْت لَا تُطْلِقُ عَلَيْهِ لَفْظَ الْعَامِّ فَلَكَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَنَيْتَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْحُكْمِ فِي جُمْلَةِ صُوَرِ انْتِفَاءِ الصِّفَةِ فَذَلِكَ مِنْ تَقَارِيعِ كَوْنِ الْمَفْهُومِ حُجَّةً، وَمَتَى جَعَلْتَهُ حُجَّةً لَزِمَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي جُمْلَةِ صُورَةِ انْتِفَاءِ الصِّفَةِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ إنَّمَا خَالَفَ فِي التَّسْمِيَةِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ إنَّمَا وُضِعَ لِلَّفْظِ لَا لِلْمَعْنَى، وَأَمَّا عُمُومُ النَّفْيِ فِي الْمَنْطُوقِ فَهُوَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إنَّمَا أَرَادَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْعُمُومَ لَمْ يَثْبُتْ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ فَقَطْ، بَلْ بِوَاسِطَتِهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَالَ الْخِلَافُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ: الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ " لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْحَالَ مُخْتَلِفٌ، فَإِنْ كَانَ مَحَلُّ النُّطْقِ إثْبَاتٌ، فَالْحُكْمُ مُنْتَفٍ فِي جُمْلَةِ صُورَةِ الْمُخَالَفَةِ، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ، لِأَنَّهُ إذَا تَخَلَّفَ النُّطْقُ إثْبَاتًا لَزِمَ نَفْيُ الْحُكْمِ إذَا انْتَفَى عَنْ كُلِّ أَفْرَادِ الْمُخَالَفَةِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَنَاوُلِ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُخَالَفَةِ أَوْ لَا، فَإِنْ دَلَّ فَهُوَ لِلْأَفْرَادِ. وَإِلَّا فَهُوَ دَالٌّ حِينَئِذٍ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ مُسَمَّى الْمُخَالِفِ، وَلَزِمَ انْتِفَاؤُهُ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ ضَرُورَةً، وَأَنَّ مَا سُلِبَ عَنْ الِاسْمِ مَسْلُوبٌ عَنْ جُمْلَةِ أَفْرَادِهِ، وَهَذَا كَتَعْلِيقِ الْوُجُوبِ بِسَائِمَةِ الْغَنَمِ، فَإِنْ كَانَ مَحَلُّ النُّطْقِ إثْبَاتًا فَيَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ، وَإِنْ

كَانَ بِصِفَةٍ فَذَاكَ وَإِلَّا فَهُوَ سَلْبٌ عَنْ مُسَمَّى الْمَعْلُوفِ، فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْوُجُوبِ عَنْ كُلِّ أَفْرَادِ الْمَعْلُوفَةِ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْمَسْلُوبَ عَنْ الْأَعَمِّ مَسْلُوبٌ عَنْ كُلِّ أَفْرَادِهِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مَحَلُّ النُّطْقِ نَفْيًا كَقَوْلِهِ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عَنْ الْمُخَالِفِ، وَهُوَ النَّفْيُ، فَيَكُونُ الثَّابِتُ لِلْمُخَالِفِ إثْبَاتًا، فَإِنَّ مُطْلَقَ الْحُكْمِ فِي السَّوْمِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ، كَمَا أَنَّ الْعُمُومَ لَهُ صِيَغٌ مَخْصُوصَةٌ لَا كُلُّ صِيغَةٍ، فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ الْمَنْطُوقِ بِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ إذَا كَانَتْ فِي جَانِبِ الْإِضَافَةِ، فَمَا ظَنُّك بِمَا لَا لَفْظَ فِيهِ أَصْلًا؟ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ مُقْتَضَى الْمَفْهُومِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْعُمُومِ فِي مِثْلِ هَذَا، احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ. وَقَوْلُ الْإِمَامِ: وَمَتَى جَعَلْتَهُ حُجَّةً لَزِمَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَنْ جُمْلَةِ صُوَرِ انْتِفَاءِ الصِّفَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ. مَمْنُوعٌ، لِأَنَّا إذَا عَلَّقْنَا الْحُكْمَ بِالْمُسَمَّى الْمُطْلَقِ كَانَتْ فَائِدَةُ الْمَفْهُومِ حَاصِلَةً فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ضَرُورَةً، فَلَا يَخْلُو الْمَفْهُومُ مِنْ فَائِدَةٍ، وَفِي مِثْلِ هَذَا يَتَوَجَّهُ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ، قَالَ: فَهَذِهِ مَبَاحِثُهُ يُنْظَرُ فِيهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَقُولُ: فَقَدْ نَأْخُذُ عُمُومَ الْأَحْكَامِ فِي أَفْرَادِ الْمُخَالِفِ مِنْ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ قَائِمًا عَلَى عَدَمِ اقْتِرَانِ الْأَحْكَامِ، أَوْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْمُخَالِفِ ثَابِتًا لِمَعْنًى مَفْهُومٍ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ دُونَ بَعْضٍ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ": الْقَائِلُ بِأَنَّ لِلْمَفْهُومِ عُمُومًا مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلًا آخَرَ، وَهُوَ لَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ وَهُوَ لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَكَانَ عَامًّا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّا

تنبيه المفهوم يكون عاما إذا كان المنطوق جزئيا

إذَا وَجَدْنَا صُورَةً مِنْ صُوَرِ الْمَفْهُومِ مُوَافَقَةً لِلْمَنْطُوقِ بِهِ، فَهَلْ نَقُولُ: بَطَلَ الْمَفْهُومُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يَتَمَسَّكَ بِهِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الصُّورَةِ؟ أَوْ نَقُولُ: نَتَمَسَّكُ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ؟ هَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ، قَالَ: وَالْأَشْبَهُ بِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُسْتَنَدَ الْمَفْهُومِ مَاذَا؟ هَلْ هُوَ الْبَحْثُ عَنْ فَوَائِدِ التَّخْصِيصِ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُمُومٌ؟ وَإِنْ قُلْنَا: اسْتِنَادُهُ إلَى عُرْفٍ لُغَوِيٍّ فَصَحِيحٌ. وَخَرَجَ لَنَا مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا كَمَا زَعَمُوا، وَفَائِدَةٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا الشَّيْخُ: وَهِيَ أَنَّ خِلَافَ أَصْحَابِنَا فِي الْمَاءِ النَّجِسِ إذَا كُوثِرَ بِمَاءٍ، وَلَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ، هَلْ يَطْهُرْ؟ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ عُمُومٌ، لَمْ يَطْهُرْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ» دَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُمَا يَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ سَوَاءٌ تَغَيَّرَ أَمْ لَا، كُوثِرَ وَلَمْ يَبْلُغْهُمَا أَمْ لَمْ يُكَاثَرْ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا عُمُومَ لِلْمَفْهُومِ لَمْ يَقْتَضِ الْحَدِيثُ النَّجَاسَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ الْجَارِي إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ، وَالْجَدِيدُ يُنَجِّسُ وَالْقَدِيمُ لَا، فَيُبْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [تَنْبِيهٌ الْمَفْهُومُ يَكُونُ عَامًّا إذَا كَانَ الْمَنْطُوقُ جُزْئِيًّا] مَا ذَكَرُوهُ مِنْ عُمُومِ الْمَفْهُومِ حَتَّى يُعْمَلَ بِهِ فِيمَا عَدَا الْمَنْطُوقِ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ

المسألة السابعة المشترك إذا تجرد عن القرائن

عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا إذَا كَانَ الْمَنْطُوقُ جُزْئِيًّا، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِالْمَفْهُومِ إنَّمَا هُوَ نَقِيضُ الْمَنْطُوقِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ الْمُثْبَتِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ، وَنَقِيضُ الْجُزْئِيِّ الْمُثْبَتِ كُلِّيٌّ سَالِبٌ، وَمِنْ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا كَانَ مَنْطُوقُهُ كُلِّيًّا سَالِبًا كَانَ مَفْهُومُهُ جُزْئِيًّا سَالِبًا، فَيَجِبُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَفْهُومَ عَامٌّ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمَنْطُوقُ بِهِ خَاصًّا، لِيَجْتَمِعَ أَطْرَافُ الْكَلَامِ، وَانْظُرْ إلَى عِبَارَةِ الْإِمَامِ فِي " الْمَحْصُولِ " فِي أَوَّلِ بَابِ الْعُمُومِ، وَقَوْلُهُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِسَائِمَةٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَا زَكَاةَ فِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِسَائِمَةٍ مِنْ بَابِ سَلْبِ الْعُمُومِ الْمُقْتَضِي لِسَلْبِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَجْمُوعِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ عُمُومِ السَّلْبِ الْمُقْتَضِي لِسَلْبِ الْحُكْمِ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ. [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ الْمُشْتَرَكُ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْقَرَائِنِ] [الْمَسْأَلَةُ] السَّابِعَةُ الْمُشْتَرَكُ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْقَرَائِنِ صَارَ صَائِرُونَ إلَى أَنَّهُ عَامٌّ، إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ إعْمَالًا لِلَّفْظِ، فِيمَا أَمْكَنَ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: وَهُوَ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الْعَامِّ لَا نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْعَامَّ يُحْمَلُ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ بِخِلَافِ هَذَا، وَإِنَّمَا شَابَهُ الْعَامَّ مِنْ حَيْثُ شُمُولُهُ مُتَعَدِّدًا، وَأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى النَّوْعَيْنِ. وَقَدْ بَالَغَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ: هَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوضَعْ وَضْعَ عُمُومٍ وَلَكِنْ وُضِعَ لِآحَادِ الْمَحَامِلِ عَلَى الْبَدَلِ فَالتَّعْمِيمُ فِيهِ إخْرَاجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ، وَإِلْحَاقُهُ بِقَبِيلٍ آخَرَ. قَالَ: وَهَذَا قَاطِعٌ اهـ. وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ الْقَاضِي مُوَافَقَةَ الشَّافِعِيِّ مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا

المسألة الثامنة في عموم الفعل المثبت إذا كان له جهات

يَقُولُ بِصِيَغِ الْعُمُومِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا أَنْكَرَ وَضْعَ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَهُنَا جُوِّزَ الِاسْتِعْمَالُ وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِي مَبَاحِثِ الْمُشْتَرَكِ. وَمِمَّا يَفْتَرِقُ فِيهِ حَمْلُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى مَعْنَيَيْهِ وَحَمْلُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ، أَنَّ الْعَامَّ يَسْتَرْسِلُ عَلَى آحَادِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الْوُجُودِ حَالَ اللَّفْظِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ صُرِفَ إلَى الْمَوْجُودِينَ حَالَ الْوَقْفِ، وَلِمَنْ يَحْدُثُ بَعْدَهُمْ لِأَنَّ الصِّيغَةَ عَامَّةٌ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى مَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَلَ صُرِفَ إلَيْهِمَا، لَا مَنْ يَحْدُثُ مِنْ الْمَوَالِي مِنْ الْأَسْفَلِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ فِي عُمُومِ الْفِعْلِ الْمُثْبَتِ إذَا كَانَ لَهُ جِهَاتٌ] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّامِنَةُ [مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي عُمُومِ الْفِعْلِ الْمُثْبَتِ إذَا كَانَ لَهُ جِهَاتٌ] الْفِعْلُ الْمُثْبَتُ إذَا كَانَ لَهُ جِهَاتٌ لَيْسَ بِعَامٍّ فِي أَقْسَامِهِ، لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ عُرِفَ تَعَيَّنَ إلَّا إذَا كَانَ مُجْمَلًا يُتَوَقَّفُ فِيهِ حَتَّى يُعْرَفَ، نَحْوُ قَوْلِ الرَّاوِي: «صَلَّى بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ» ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ، وَكَذَلِكَ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ، لَا يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، وَكَذَلِكَ «قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ» وَنَحْوِهِ لِجَوَازِ قَضَائِهِ لِجَارٍ كَانَ بِصِفَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا، هَكَذَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " وَسُلَيْمُ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ "،

وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ. قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُ الرَّاوِي فَعَلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا، وَقَضَى بِكَذَا وَغَيْرِهِ، لَا يَجْرِي عَلَى عُمُومِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ اللَّفْظِ إلَّا بِدَلِيلٍ، لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ فِعْلٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاعِلَ لَمْ يَشْتَمِلْ كُلُّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قِسْمَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَعَلَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ فِعْلِهِ، فَلَا مَعْنَى لِلْعُمُومِ فِي ذَلِكَ، بَلْ يُطْلَبُ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِ أَوْ بِهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ جَمِيعُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمُسَمَّى، فَيَمْضِي عَلَى عُمُومِ اللَّفْظِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ. قَالَ: فَأَمَّا إذَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ «قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» وَأَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فَأَمَرَهُ بِكَذَا، فَنَقُولُ: إنَّ الْقَضِيَّةَ وَقَعَتْ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّ الْإِفْطَارَ وَقَعَ لِشَيْءٍ مِنْهُ يُوجِبُ طَلَبَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا وَقَعَ الْقَضَاءُ فِيهِ، وَكَانَ الْإِفْطَارُ بِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي إلْحَاقِ غَيْرِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ. انْتَهَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَكَمَا لَا عُمُومَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحْوَالِ الْفِعْلِ، فَلَا عُمُومَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَشْخَاصِ، بَلْ يَكُونُ خَاصًّا فِي حَقِّهِ، إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ، كَقَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقِيلَ: مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ فَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، إلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ، وَهُوَ فَاسِدٌ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّا لَوْ تَحَقَّقْنَا أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلٌ، فَلَيْسَ بِعَامٍّ،

وَإِنْ كَانَ لَفْظًا، فَإِنْ اخْتَصَّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ فِي خُصُومَةٍ بِعَيْنِهَا فَكَذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْعُمُومِ، فَإِنْ كَانَ لَفْظًا عَامًّا فِي وَضْعِ اللُّغَةِ تَمَسَّكْنَا بِعُمُومِهِ، وَكَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَصَرُّفُ أَصْحَابِنَا. وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ " وَغَيْرُهُمَا: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْجَدَّةَ لَا تَرِثُ مَعَ ابْنِهَا، وَأَوْرَدَ الْخَصْمُ عَلَيْهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرَّثَ جَدَّةً وَابْنُهَا حَيٌّ فَأَجَابُوا بِحَمْلِهِ عَلَى صُورَةٍ خَاصَّةٍ، أَوْ كَكَوْنِهِ قَاتِلًا، أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ كَافِرًا، أَوْ كَانَ ابْنُهَا خَالًا، قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ قَوْلُهُ: " وَرَّثَ " عُمُومًا، لِأَنَّ ذَلِكَ قَضِيَّةٌ، وَالْقَضِيَّةُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ فِي نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: عُمُومٌ فِي الْأَلْفَاظِ. انْتَهَى. هَذَا مَا وَجَدْته لِقُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا، وَأَمَّا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَخْرِيجَ قَوْلَيْنِ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ فِي " الْأُمِّ " مُجِيبًا عَنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» فَقَالَ: وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ الَّذِي رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَهُ عِنْدَنَا - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - ضَرْبٌ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطْلَقٍ. اهـ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ انْتَهَى. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَامٌّ، فَإِنَّهُ احْتَجَّ عَلَى تَأْجِيلِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ثَلَاثَةَ سِنِينَ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِحَدِيثِ: «ضَرْبُ الْعَقْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ» ، قَالَ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ ": قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ مَجَارِي كَلَامِهِ: لَمْ يَنْقُلْ النَّقَلَةُ وَاقِعَةً قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضَرْبِ الْعَقْلِ فِيهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ إلَّا الْمَرْأَتَيْنِ، فَأَمْكَنَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَضْرِبَ عَقْلَ الْمَرْأَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، ثُمَّ إذَا قُلْت ذَلِكَ اطَّرَدَ فِيهِ أَنَّ بَدَلَ كُلِّ نَفْسٍ مَضْرُوبٌ

فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ الدِّيَةَ كَامِلَةً كَالرَّجُلِ أَوْ نِصْفُهَا كَالْمَرْأَةِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُ الرَّاوِي: " قَضَى " تَأْسِيسُ شَرْعٍ مِنْهُ، وَلَيْسَ تَمْهِيدًا فِي قَضِيَّةٍ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَلَى التَّخْصِيصِ وَالتَّفْصِيلِ فِي قَضِيَّةِ الْجَارِيَتَيْنِ، فَيَضْرِبُ الْعَقْلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. انْتَهَى. وَأَطْلَقَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُثْبَتَ لَيْسَ بِعَامٍّ فِي أَقْسَامِهِ، ثُمَّ اخْتَارَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» ، «وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ» أَنَّهُ يَعُمُّ الْغَرَرُ وَالْجَارُ مُطْلَقًا، وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا شَيْخُهُ الْإِبْيَارِيُّ، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " سُؤَالًا، وَالْآمِدِيَّ بَحْثًا، فَارْتَضَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَأَقَامَهُ مَذْهَبًا، وَتَبِعَهُ ابْنُ السَّاعَاتِيِّ فِي " الْبَدِيعِ ". وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": اخْتَارَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ ابْنَ الْحَاجِبِ - عُمُومَ نَحْوِ «قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ» بِنَاءً عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابِيِّ، وَمَعْرِفَتِهِ بِاللُّغَةِ، وَمَوَاقِعِ اللَّفْظِ، مَعَ وُجُوبِ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَلَى وَفْقِ السَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَعُمُّ، لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْمَحْكِيِّ، وَلَا عُمُومَ فِي الْمَحْكِيِّ. قُلْت: وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَسَبَقَ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَصَحَّحَهُ فِي " الْمَحْصُولِ ". وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمَحْكِيَّ فِعْلًا لَوْ شُوهِدَ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ وَجْهٌ، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَوْ حُكِيَ لَكَانَ دَالًّا عَلَى الْعُمُومِ، فَعِبَارَةُ الصَّحَابِيِّ عَنْهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُطَابِقَةً لِلْمَقُولِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَعَدَالَتِهِ، وَوُجُوبِ مُطَابَقَةِ الرِّوَايَةِ الْمَعْنَى الْمَسْمُوعَ. اهـ.

وَقَدْ اخْتَارَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " قَرِيبًا مِنْ هَذَا، فَقَالَ: وَالْأَقْرَبُ فِي هَذَا عِنْدَنَا أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْعَالِمَ بِاللِّسَانِ إذَا قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَبَّرَ عَنْ إثْبَاتِ مَعْنًى وَحُكْمٍ لَيْسَ لَهُ فِي اللِّسَانِ أَلْفَاظٌ مُحْتَمَلَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ رِوَايَتِهِ اللَّفْظَ وَإِنْ ذُكِرَ عَنْهُ مَعْنًى وَهُوَ مِمَّا لَهُ عِبَارَةٌ مُحْتَمَلَةٌ وَجَبَ مُطَالَبَتُهُ بِحِكَايَةِ اللَّفْظِ. اهـ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ الْقَرَافِيَّ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةً عَلَى جَوَازِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ امْتَنَعَتْ الْمَسْأَلَةُ، لِأَنَّ " قَضَى " لَيْسَ هُوَ لَفْظُ الشَّارِعِ، وَإِنْ جَوَّزْنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَشَرْطُهُ الْمُسَاوَاةُ فَإِذَا رَوَى الْعَدْلُ اللَّفْظَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ " كَالْغَرَرِ "، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ عَامًّا، وَإِلَّا كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي عَدَالَتِهِ حَيْثُ رَوَى بِصِيغَةِ الْعُمُومِ مَا لَيْسَ عَامًّا، فَلَا يُتَّجَهُ قَوْلُنَا الْحُجَّةُ فِي الْمَحْكِيِّ لَا فِي الْحِكَايَةِ؛ بَلْ الْحُجَّةُ فِي الْحِكَايَةِ، لِأَجْلِ قَاعِدَةِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ رَابِعٌ وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْبَاءُ فَلَا عُمُومَ لَهُ، كَقَوْلِهِ: «قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ» ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا لِكُلِّ جَارٍ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْقَضِيَّةِ دُونَ الْقَوْلِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِحَرْفِ " أَنَّ "، فَيَكُونُ لِلْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ: (قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ) ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ ذَلِكَ حِكَايَةُ لَفْظِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلِذَلِكَ صَحَّ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيهَا، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ وَالْإِرْشَادِ "، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَصَحَّحَهُ،

صيغ الفعل المثبت الذي له أكثر من احتمال

وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ وَأَصْحَابِنَا. وَفِي نِسْبَةِ ذَلِكَ لِلْقَفَّالِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِ. وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ النِّزَاعَ لَفْظِيًّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَانِعَ لِلْعُمُومِ يَنْفِي عُمُومَ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ، نَحْوُ " أَمَرَ، وَقَضَى "، وَالْمُثْبِتُ لِلْعُمُومِ يُثْبِتُهُ فِيهَا مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ، وَهُوَ إجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا بِقَوْلِهِ: (حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ) ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ التَّعْمِيمَ فِيهَا حَاصِلٌ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ كَمَا قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ، فَإِنَّا رَأَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِقَضَاءٍ فِي وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ حَدَثَتْ لَنَا أُخْرَى مِثْلُهَا - وَجَبَ إلْحَاقُهَا بِهَا، لِأَنَّ حُكْمَ الْمِثْلَيْنِ وَاحِدٌ. وَيَتَحَصَّلُ حِينَئِذٍ فِي الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ. [صِيَغُ الْفِعْلِ الْمُثْبَتِ الَّذِي لَهُ أَكْثَرُ مِنْ احْتِمَالٍ] [صِيَغُ الْفِعْلِ الْمُثْبَتِ الَّذِي لَهُ أَكْثَرُ مِنْ احْتِمَالٍ] ثُمَّ الْكَلَامُ عَلَى الصِّيَغِ: إحْدَاهَا: إذَا قَالَ الرَّاوِي: سَمِعْته يَقُولُ: قَضَيْت بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ جَارٍ، وَيَحْتَمِلُ الْعَهْدَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ " صَاحِبُ الْمَحْصُولِ " فَقَالَ: لَا يَعُمُّ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ " أَلْ " لِلْعَهْدِ، وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى اخْتِيَارِهِ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِأَلْ لَا يَعُمُّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنَوَّنًا كَقَوْلِهِ: قَضَيْت بِالشُّفْعَةِ لِجَارٍ، فَجَانِبُ الْعُمُومِ أَرْجَحُ. قَالَهُ صَاحِبُ الْحَاصِلِ، وَقَالَ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ. الثَّانِيَةُ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» ، وَعَنْ " نِكَاحِ الشِّغَارِ "،

وَ «أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ» ، ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ أَيْضًا، وَأَنَّهُ مِثْلُ " قَضَى "، وَصَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، لِأَنَّ " أَمَرَ، وَنَهَى " عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خِطَابَا التَّكْلِيفِ اللَّذَانِ هُمَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الصَّحَابَةُ مَأْمُورًا وَلَا مَنْهِيًّا مَخْصُوصًا، عُلِمَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ كُلُّ الْمُكَلَّفِينَ كَسَائِرِ خِطَابَاتِ التَّكْلِيفِ ثُمَّ إنْ صَدَّرَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ يَتَوَجَّهُ لِلْجَمْعِ. قُلْت: وَقَدْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ بِمُطْلَقٍ مِنْ جِنْسِهِ وَغَيْرِهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ» وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُهُ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَكَذَلِكَ «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» . وَقَالَ الْقَاضِي: اسْتِدْلَالُ الْفُقَهَاءِ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّيَغِ، إنْ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا امْتَنَعَ التَّعَلُّقُ بِهِ. وَمَا رُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ بِقَضِيَّةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لِعُمَرَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ «الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ» ، فَإِنَّهُمَا إنَّمَا احْتَجَّا

بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمَا أَنَّ حُكْمَهُ عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمُهُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَأَنَّهُ عَلَّقَ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّعْمِيمَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» بِدُونِ قَضَى، فَيَجِبُ التَّعَلُّقُ بِهِ حِينَئِذٍ. وَفِي " الْمُسْتَصْفَى " فِي " بَابِ السُّنَّةِ " أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا، أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا) قِيلَ: إنَّهُ أَمْرٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ يَقُولُ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي هَذَا، إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا سَمِعَهُ أَمْرًا لِلْأُمَّةِ، أَوْ لِطَائِفَةٍ، أَوْ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ، فَيَتَوَقَّفُ فِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ، لَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَمْرَهُ لِلْوَاحِدِ أَمْرٌ لِلْجَمَاعَةِ، إلَّا إذَا كَانَ لِوَصْفٍ يَخُصُّهُ مِنْ سَفَرٍ أَوْ حَيْضٍ، كَقَوْلِنَا: أُمِرْنَا إذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ. نَعَمْ، إنْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ لَا يُطْلِقُهُ إلَّا فِي أَمْرِ الْأُمَّةِ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ وَلِطَائِفَةٍ. وَقَالَ شَارِحُهُ الْعَبْدَرِيُّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَامٌّ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ بِصِيغَتِهِ، بَلْ بِمُقْتَضَاهُ، وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُورَدَ الْفِعْلُ بِصِيغَةِ " كَانَ " فَهَلْ هُوَ عَامٌّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ بَرْهَانٍ. وَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، لِأَنَّهُ وَإِنْ اقْتَضَى التَّكْرَارَ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ عَلَى صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُشَارِكُهَا فِيهَا سَائِرُ الصِّفَاتِ، فَأَمَّا إذْ قِيلَ: كَانَ يَفْعَلُ، كَقَوْلِهِ: «كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ» ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، لِخُرُوجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ تَكْرَارِ الْأَفْعَالِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَفْعَلُ مَا يَلْزَمُهُ اسْمُ الْجَمْعِ فِي حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، قَالَ: وَمَا هُوَ بِالْبَيِّنِ أَيْضًا. وَفَصَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَشِيعُ، وَلَا تَبْقَى

قول الراوي كان يفعل كذا هل يقتضي التكرار أم لا

فِي طَيِّ الْكِتْمَانِ كَقَوْلِ عَائِشَةَ: «كَانَتْ الْأَيْدِي لَا تُقْطَعُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى السَّتْرِ وَالْكِتْمَانِ كَالْوَطْءِ، فَلَا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيهِ قَطْعًا وَلَا يَكُونُ حُجَّةً، كَمَا نُقِلَ فِي قَضِيَّةِ الِاغْتِسَالِ وَالْأَقْوَالِ كَقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: كَانَتْ عُمُومَتِي، يَفْعَلُونَهُ وَلَا يَغْتَسِلُونَ. [قَوْلُ الرَّاوِي كَانَ يَفْعَلُ كَذَا هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَمْ لَا] وَهَذَا يَلْتَفِتُ إلَى خِلَافٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: يَعُمُّ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: قَوْلُ الرَّاوِي: كَانَ يَفْعَلُ كَذَا، يُفِيدُ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ تَكْثِيرَ الْفِعْلِ وَتَكْرِيرَهُ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ: كَانَ فُلَانٌ يُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيَحْمِي الذِّمَارَ إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، بَلْ يَخُصُّونَ بِهِ الْمُدَاوِمَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ} [مريم: 55] يُرِيدُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هِيَ تَقْتَضِي تَكْرِيرَ الْفِعْلِ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: كَانَ يَفْعَلُ كَذَا إلَّا إذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ لَا عُرْفًا وَلَا لُغَةً، وَاخْتَارَهُ فِي " الْمَحْصُولِ ". وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ ": إنَّهُ الْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، وَإِنَّمَا هِيَ فِعْلٌ مَاضٍ دَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ مَرَّةً، وَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّكْرَارِ عُمِلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَقْتَضِيهَا بِوَضْعِهَا. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: " كَانَ " عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي زَمَنٍ مَاضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمٍ سَابِقٍ، وَلَا انْقِطَاعٍ طَارِئٍ.

مسألة في عموم مثل قوله خذ من أموالهم صدقة

وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لَا تُفِيدُهُ لُغَةً وَتُقَيِّدُهُ عُرْفًا، إذْ لَا يُقَالُ: كَانَ يَتَهَجَّدُ إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً. وَنَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بَعْدَ أَنْ عَدَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الْأَظْهَرُ، وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إنَّهُ يُقَالُ كَانَ يَفْعَلُ كَذَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَكَرَّرَ مِنْهُ فِعْلُهُ، وَكَانَ عَادَتُهُ كَمَا يُقَالُ: كَانَ فُلَانٌ يُقْرِي الضَّيْفَ «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ» ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِإِفَادَةِ مُجَرَّدِ الْفِعْلِ وَوُقُوعِهِ دُونَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرَارِ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَعَلَيْهِ يَنْبَغِي حَمْلُ الْحَدِيثِ. [مَسْأَلَةٌ فِي عُمُومِ مِثْلِ قَوْلِهِ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً] ً} [التوبة: 103]] الْجُمْهُورُ أَنَّ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] قَدْ يَقْتَضِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ، فَكَانَ مَخْرَجُ الْآيَةِ عَامًّا عَلَى الْأَمْوَالِ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْأَمْوَالِ دُونَ

بَعْضٍ، فَدَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي بَعْضِ الْمَالِ دُونَ بَعْضٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الرِّسَالَةِ " فَقَالَ عَقِبَ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إلَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِدَلَالَةٍ مِنْ السُّنَّةِ، وَلَوْلَا دَلَالَةُ السُّنَّةِ لَكَانَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا سَوَاءٌ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ فِي جَمِيعِهَا لَا فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَنُقِلَ عَنْ نَصِّهِ أَيْضًا فِي " الْبُوَيْطِيِّ " نَحْوُهُ، وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهَا أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ، وَعَلَى أَخْذِ الشَّاةِ الصَّغِيرَةِ مِنْ الصِّغَارِ، وَاللَّئِيمَةِ مِنْ اللِّئَامِ وَنَحْوِهِ. لَكِنَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ جَعَلَهَا مِنْ الْمُجْمَلِ الْمُبَيَّنِ بِالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] . وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي أَخْذَ صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ وَنَوْعٍ وَاحِدٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، لِأَنَّ " مِنْ " لِلْبَعْضِ الْمُطْلَقِ، وَالْوَاحِدَةُ مِنْ الْجَمِيعِ يَصْدُقُ عَلَيْهَا. وَتَوَقَّفَ الْآمِدِيُّ فَقَالَ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ، وَمَأْخَذُ الْكَرْخِيِّ دَقِيقٌ. كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ، عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي عُمُومَ وُجُوبِ الْحَقِّ فِي سَائِرِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ أَيْضًا، وَهُوَ الصَّوَابُ فِي النَّقْلِ عَنْهُ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْأَمْوَالَ جَمْعٌ مُضَافٌ، وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَالْمَعْنَى: خُذْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً: وَاعْتَرَضَ الْمُخَالِفُ بِأَنَّ مِثْلَ

هَذِهِ الصِّيغَةِ لَا تَقْتَضِي التَّعْمِيمَ، لِأَجْلِ " مِنْ " وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِمَحْذُوفٍ صِفَةِ الصَّدَقَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَائِنَةً أَوْ مَأْخُوذَةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ، بَلْ مِنْ بَعْضِ أَمْوَالِهِمْ، وَهُوَ خُصُوصٌ، مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، لِأَنَّ مَعْنَى كَائِنَةٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَنْ لَا يَبْقَى نَوْعٌ مِنْ الْمَالِ إلَّا وَيُؤْخَذُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ بَيَانُ الْعُمُومِ. هَذَا هُوَ الَّذِي لَحَظَهُ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ " مِنْ أَمْوَالِهِمْ " إنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: " خُذْ "، فَالْمُتَّجَهُ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ، لِأَنَّ التَّعَلُّقَ مُطْلَقٌ، وَالصَّدَقَةَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، فَيَحْصُلُ الِامْتِثَالُ بِصَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: " صَدَقَةً "، فَيَقْوَى قَوْلُ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إذَا كَانَتْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ دَلَالَةَ الْعُمُومِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنَّهَا كُلِّيَّةٌ، فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَلَا نَظَرَ إلَى تَنْكِيرِ صَدَقَةٍ، لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إلَى الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِخُذْ أَوْ بِصَدَقَةٍ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ لَفْظُ " صَدَقَةً " وَأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ لَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا. تَنْبِيهَاتٌ أَحَدُهَا: يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَلِلْقَائِلِ بِالْعُمُومِ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) فِي أَنَّهَا عَامَّةٌ أَوْ مُجْمَلَةٌ. الثَّانِي: هَلْ الزَّكَاةُ اسْمٌ لِلْعَيْنِ أَوْ الْفِعْلِ؟ خِلَافٌ حَكَاهُ الْجَاجَرْمِيُّ: فِي رِسَالَتِهِ فِي الْأُصُولِ، فَقِيلَ اسْمٌ لِلْعَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ» ، وَالْمُرَادُ الزَّكَاةُ. وَمَحَلُّ الْأَخْذِ هُوَ الْعَيْنُ لَا الْفِعْلُ، غَيْرَ أَنَّ اسْمَ الزَّكَاةِ عَلَى الْفِعْلِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَصِيرُ فَاعِلَ الْفِعْلِ لَا لِمَحَلِّ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ الزَّكَاةَ عِبَادَةً.

فصل في اشتمال العموم على بعض من يشكل تناوله

[فَصْلٌ فِي اشْتِمَالِ الْعُمُومِ عَلَى بَعْضِ مَنْ يُشْكِلُ تَنَاوُلُهُ] [الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَمْعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ] فَصْلٌ فِي اشْتِمَالِ الْعُمُومِ عَلَى بَعْضِ مَنْ يُشْكِلُ تَنَاوُلُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْمُخَاطَبِ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَمْعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ عَلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْآخَرِ بِحَالٍ، كَرِجَالٍ لِلْمُذَكَّرِ وَالنِّسَاءِ لِلْمُؤَنَّثِ، فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ بِالِاتِّفَاقِ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَهُ الْأُسْتَاذَانِ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمَا. قِيلَ: وَمِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الذُّكُورُ: الْهَاءُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ وَالنُّونُ، وَمِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنَاثُ الْأَلِفُ وَالتَّاءُ وَمِنْهُ الْوَقْفُ عَلَى الْبَنِينَ لَا تَدْخُلُ الْبَنَاتُ أَوْ الْبَنَاتِ لَا تَدْخُلُ الْبَنُونَ، لَكِنْ سَيَأْتِي فِي الْجُمُوعِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَمِنْهُ " الْقَوْمُ " فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالذُّكُورِ، قَالَ تَعَالَى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11] وَلِهَذَا لَا يَدْخُلْنَ فِي الْوَصِيَّةِ لَهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ. الثَّانِي: مَا يَعُمُّ الْفَرِيقَيْنِ بِوَضْعِهِ، وَلَيْسَ لِعَلَامَةِ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ فِيهِ مَدْخَلٌ، كَالنَّاسِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْأُنَاسِ وَالْبَشَرِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا. وَفِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي " الْمَنْخُولِ " إثْبَاتُ خِلَافٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ. الثَّالِثُ: لَفْظٌ يَشْمَلُهَا مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي أَحَدِهِمَا " كَمَنْ "، وَهَذَا مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، فَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ

يَتَنَاوَلُهُمَا بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النساء: 124] فَلَوْلَا اشْتِمَالُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْسُنْ التَّقْسِيمُ بَعْدَ ذَلِكَ وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي " التَّلْوِيحِ ". وَحَكَاهُ غَيْرُهُمَا عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ قَالُوا: إنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ، لِعَدَمِ دُخُولِهَا فِي قَوْلِهِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ؛ لَكِنْ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهَا تَعُمُّ الْجَمِيعَ، كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْبَزْدَوِيُّ وَشُرَّاحُ كِتَابِهِ. وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ وَغَيْرُهُمَا. وَنَقَلَ فِي " الْمَحْصُولِ " الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي مِنْ أَرِقَّائِي فَهُوَ حُرٌّ دَخَلَ فِيهِ الْإِمَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّقَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَصِيَّةً أَوْ تَوْكِيلًا أَوْ إذْنًا فِي أَمْرٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِالذُّكُورِ، وَكَانَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِهَذَا يُنْكِرُ حِكَايَةَ الْخِلَافِ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ، وَقَدْ عَلِمْت مُسْتَنَدَهُ، ثُمَّ إنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ خَصَّ الْخِلَافَ بِمَا إذَا كَانَتْ شَرْطِيَّةً. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ " مَنْ " الْمَوْصُولَةِ وَالِاسْتِفْهَامِيَّة، وَالْخِلَافُ جَارٍ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ بِنَاءً عَلَى عُمُومِهِنَّ، وَالْإِمَامُ إنَّمَا فَرَضَ الْخِلَافَ فِي الشَّرْطِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عُمُومَ غَيْرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ قَوْلُهُمْ فِي بَابِ الْحِكَايَةِ: " مِنْ وَمِنْهُ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ إلَّا بِعَلَامَةِ تَأْنِيثٍ.

وَأَجَابَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، بِأَنَّهَا لُغَةٌ شَاذَّةٌ وَلَيْسَتْ مِنْ الْفَصِيحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هِيَ الْفَصِيحَةُ فِي بَابِ الْحِكَايَةِ وَظَنَّ الْإِمَامُ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَهُوَ وَهْمٌ، بَلْ هِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَوَهَمَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ قَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا عَلَى اللَّفْظِ، وَجَمْعًا عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] وَهَذِهِ لَيْسَتْ شَرْطِيَّةً بَلْ مَوْصُولَةٌ، وَتَبِعَهُ إِلْكِيَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَإِنَّمَا الْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ بِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَقْصِدْ حِينَئِذٍ بِهَا مَعْنَاهَا الْأَصْلِيَّ، وَإِنَّمَا تَأْتِي بِهِ فِي حِكَايَةِ النَّكِرَاتِ خَاصَّةً، فَيَحْصُلُ الشَّبَهُ بَيْنَ كَلَامِ الْحَاكِي وَالْمُخْبِرِ، فَإِذَا قَالَ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ. قَالَ لَهُ الْمُسْتَفْهِمُ: " مِنْهُ "؟ لِلْمُحَاكَاةِ، لَا لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ إلَّا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ " مَنْ " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَامَةُ تَأْنِيثٍ يُفْصَلُ بِهَا بِالْأَصَالَةِ، لَكِنْ يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ تَأْنِيثِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا وَتَذْكِيرِهِ، نَحْوُ مَنْ فَعَلَ كَذَا، وَمَنْ فَعَلَتْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ وَتَأْنِيثُهُ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهَا تَارَةً، وَلِمَعْنَاهَا أُخْرَى. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب: 31] فَذَكَّرَ الْفِعْلَ أَوَّلًا، ثُمَّ أَنَّثَهُ، وَالْخِطَابُ فِيهِمَا لِلْإِنَاثِ. فُرُوعٌ يَنْبَغِي بِنَاؤُهَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: مِنْهَا: أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ هَلْ تُقْتَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ) أَوْ لَا تَعُمُّ؟ وَمِنْهَا: إذَا قَتَلَتْ هَلْ لَهَا السَّلَبُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَالْأَصَحُّ تَعُمُّ، لِعُمُومِ

قَوْلِهِ «مَنْ قَتَلَ. . . فَلَهُ سَلَبُهُ» وَمِنْهَا إذَا نَظَرَتْ فِي بَيْتٍ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تُهْدَرُ كَالرَّجُلِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ «مَنْ اطَّلَعَ عَلَى قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ» . الْحَدِيثَ. [عُمُومُ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ الذُّكُورَ، وَالْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ الْإِنَاثَ] الْقِسْمُ الرَّابِعُ: لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فِي الْمُؤَنَّثِ، وَبِحَذْفِهَا فِي الْمُذَكَّرِ، كَجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ نَحْوُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ، نَحْوُ: قَالُوا، كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النِّسَاءُ فِيهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، كَمَا لَا يَدْخُلُ الرِّجَالُ فِي لَفْظِ الْمُؤَنَّثِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَمِمَّنْ نَسَبَهُ لِلشَّافِعِيِّ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَأَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " فِي الْأَقْضِيَةِ، وَالرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " فِي " كِتَابِ السِّيَرِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَأَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا جِهَادَ عَلَى النِّسَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {جَاهِدُوا} وَقَالَ: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ، لِأَنَّ الْإِنَاثَ الْمُؤْمِنَاتِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسَمَّى، فَخُصَّ كُلُّ نَوْعٍ بِمَا يُمَيِّزُهُ، فَالْأَلِفُ وَالتَّاءُ جُعِلَتْ عَلَمًا لِجَمْعِ الْإِنَاثِ، وَالْوَاوُ وَالْيَاءُ

وَالنُّونُ لِجَمْعِ الذُّكُورِ، فَالْمُؤْمِنَاتُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَاتِلُوا خِلَافُ " قَاتِلْنَ " ثُمَّ قَدْ تَقُومُ قَرَائِنُ تَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ دُخُولُ الْإِنَاثِ فِي الذُّكُورِ، وَقَدْ لَا تَقُومُ فَيَلْحَقْنَ بِالذُّكُورِ بِالِاعْتِبَارِ وَالدَّلَائِلِ، كَمَا يَلْحَقُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ بِالْمَذْكُورِ بِدَلِيلٍ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ، فَلَوْلَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِلْمُذَكَّرِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْغَالِبَ، وَلَمْ يَكُنْ حَظُّهُ مِنْهَا كَحَظِّ الْمُؤَنَّثِ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا اسْتَقَلَّ أَفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِوَصْفٍ، فَغُلِّبَ الْمُذَكَّرُ وَجُعِلَ الْحُكْمُ لَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُمْ الرِّجَالُ، وَالنِّسَاءُ تَوَابِعُ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " الْكِفَايَةِ " وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ، وَنَصَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ "، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ " وَنَقَلَهُ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ مُعْظَمِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي إنَّهُ الصَّحِيحُ، قَالَ: وَلَسْت أَحْفَظُ عَنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ ظَاهِرَ مَذَاهِبِهِمْ الدُّخُولُ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا قَالَهُ سُلَيْمٌ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ، قُلْت: مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، وَصَاحِبُ " اللُّبَابِ "، وَغَيْرُهُمْ، إلَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنْ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَنُسِبَ لِلْحَنَابِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ

وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سَبَقَ الْمُفْرِدُونَ، هُمْ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» فَلَوْلَا دُخُولُهَا فِيهِ لَمْ يَحْسُنْ التَّفْسِيرُ بِذَلِكَ. رَأَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ انْدِرَاجَ النِّسَاءِ تَحْتَ لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ بِقَضِيَّةِ التَّغْلِيبِ، لَا بِأَصْلِ الْوَضْعِ، إذْ اللَّفْظُ لَمْ يُوضَعْ لَهُنَّ، وَهَذَا مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالنُّحَاةِ أَنَّ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى تَنَاوُلِهِ الْجِنْسَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اشْتِرَاكُ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي الْأَحْكَامِ لَمْ تَقْصُرْ الْأَحْكَامُ عَلَى الذُّكُورِ قَالَ: وَإِذَا حَكَمْنَا بِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُمَا فَهَلْ تَقُولُ: اجْتَمَعَ فِي اللَّفْظِ مُوجِبُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؟ أَوْ يَكُونُ جَمِيعًا مَجَازًا صِرْفًا؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَقِيَاسُ مَذْهَبِ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مَجَازًا صِرْفًا، وَقِيَاسُ قَوْلِ الْإِمَامِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مُوجِبُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. انْتَهَى. وَحَاصِلَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ لُغَةً حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي ظُهُورِهِ لِاشْتِهَارِهِ عُرْفًا وَغَيْرُهُ أَطْلَقَ الْخِلَافَ، وَجَعَلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مَحَلَّهُ مَا إذَا وَرَدَ الْجَمْعُ مُجَرَّدًا، أَمَّا لَوْ ذُكِرْنَ مَعَ الرِّجَالِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: يَا أَيُّهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فَلَا خِلَافَ فِي دُخُولِهِنَّ فِي الْخِطَابِ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ، فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَى الدُّخُولِ فِيمَا إذَا أَوْصَى لِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ بِشَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ: أَوْصَيْت لَكُمْ بِكَذَا، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ النِّسَاءُ اتِّفَاقًا بِقَرِينَةِ الْإِيصَاءِ الْأَوَّلِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يُشْعِرُ بِتَخْصِيصِ الْخِلَافِ بِالْخِطَابَاتِ

الْوَارِدَةِ مِنْ الشَّرْعِ لِقَرِينَةٍ عَلَيْهِ، وَهِيَ الْمُشَارَكَاتُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، قَالَ: وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُذَكَّرَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ إنْ وَرَدَ مُقْتَرِنًا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، وَمِنْ أَقْوَى مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُعَمِّمُونَ إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ، وَعَلَى هَذَا وَرَدَ قَوْله تَعَالَى: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38] فِي خِطَابِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ إرَادَةِ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ إرَادَتُهُ مِنْهُ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، كَيْفَ وَالْوَاقِعُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ إنَّمَا هُوَ تَغْلِيبُ الْخِطَابِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إذَا اجْتَمَعُوا، وَأَنَّهُ يُغَلَّبُ جَانِبُ التَّذْكِيرِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ اللَّفْظَةَ عِنْدَ إطْلَاقِهَا مَوْضُوعَةٌ لِتَنَاوُلِ الْجَمِيعِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي الْخِلَافِ غَيْرِ الشِّفَاهِيِّ وَقِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَى الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، أَمَّا الْخِطَابُ الشِّفَاهِيُّ كَقَوْلِهِ: أَعْطُوا هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَهُمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ دَخَلْنَ قَطْعًا، وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38] أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ حَوَّاءَ. وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُخْرِجَةُ، فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فَقَدْ خَصَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِغَيْرِ النِّسَاءِ، لِنَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُدْخِلَةُ فَكَقَوْلِهِ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ، فَإِنَّ الْمَعْنَى فِي اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ الْمِلْكُ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَلِهَذَا أَقَامَتْ عَائِشَةُ الْحَدَّ عَلَى أَمَةٍ لَهَا.

المسألة الثانية في دخول العبيد والإماء تحت الخطاب باللفظ العام

وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مَا يَدْخُلْنَ قَطْعًا، وَمَا لَا يَدْخُلْنَ قَطْعًا، وَمَا يَدْخُلْنَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَمَا لَا يَدْخُلْنَ عَلَى الْأَصَحِّ. الثَّانِي: سَكَتُوا عَنْ الْخَنَاثَى، هَلْ يَدْخُلُونَ فِي خِطَابِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ؟ وَالظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْفُقَهَاءِ دُخُولُهُمْ فِي خِطَابِ النِّسَاءِ فِيمَا فِيهِ تَغْلِيظٌ، وَخِطَابُ الرِّجَالِ فِيمَا فِيهِ تَخْفِيفٌ، وَقَدْ يَجْعَلُونَهُ فِي مَوَاضِعَ خَارِجًا عَنْ الْقِسْمَيْنِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي دُخُولِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ تَحْتَ الْخِطَابِ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ] نَحْوُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي ": أَحَدُهَا: يَدْخُلُونَ فِيهِ لِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ إلَيْهِمْ. الثَّانِي: لَا يَدْخُلُونَ إلَّا بِدَلِيلٍ، لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْأَحْرَارِ. وَالثَّالِثُ: إنْ تَضَمَّنَ الْخِطَابُ تَعَبُّدًا تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ، وَإِنْ تَضَمَّنَ مِلْكًا أَوْ عَقْدًا أَوْ وِلَايَةً لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ. قِيلَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْغَزْوِ وَالْخَرَاجِ، لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَإِنْ مَلَكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

المسألة الثالثة دخول الكافر في الخطاب الصالح له وللمؤمنين إذا ورد مطلقا

وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ إتْبَاعًا لِمُوجِبِ الصِّيغَةِ، وَلَا يَخْرُجُونَ إلَّا بِدَلِيلٍ، كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ مُعْظَمِ أَصْحَابِهِمْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: قَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ بَعْضَ الظَّوَاهِرِ بِالتَّرْجِيحِ لِلْأَحْرَارِ إذْ كَانَ أَكْثَرُ الْخِطَابِ فِي الشَّرْعِ مَخْصُوصًا بِهِمْ، فَتَوَهَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا جُعِلَ فِي الْأَحْرَارِ بِالتَّرْجِيحِ عَلَى حَمَلَةِ الشَّرْعِ. وَفَصَّلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِحَقِّ اللَّهِ فَيَشْمَلُهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ الْآدَمِيِّينَ فَلَا، وَلِهَذَا يَمْتَنِعُ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ، وَلِأَنَّ اسْتِغْرَاقَهُمْ بِحُقُوقِ السَّادَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى امْتِيَازِهِمْ عَنْ حُكْمِ الْعُمُومِ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ وَالْمَازِرِيُّ عَنْ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مِنْهُمْ، وَفِي دُخُولِ الْمُبَعَّضِ كَلَامٌ سَبَقَ فِي بَحْثِ التَّكْلِيفِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ دُخُولُ الْكَافِرِ فِي الْخِطَابِ الصَّالِحِ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ الْأَكْثَرُ كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ دُخُولُ الْكَافِرِ فِي الْخِطَابِ الصَّالِحِ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا، كَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، فَيَعُمُّ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَحَدٌ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ يَدْخُلُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ دُونَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ التَّكْلِيفِ.

المسألة الرابعة الخطاب بيا أهل الكتاب لا يشمل الأمة إلا بدليل منفصل

قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ دُخُولِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ إنْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَهُوَ مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ زَعَمُوا التَّنَاوُلَ لَكِنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ فِي الشَّرْعِ خَصَّصَهُمْ فَهُوَ بَاطِلٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُمَا مُكَلَّفَانِ فِي الْجُمْلَةِ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْخِطَابُ بِيَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَشْمَلُ الْأُمَّةَ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ] [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ الْخِطَابُ " بِيَا أَهْلَ الْكِتَابِ " لَا يَشْمَلُ الْأُمَّةَ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، لِأَنَّ اللَّفْظَ قَاصِرٌ عَلَيْهِمْ، قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي مُسَوَّدَتِهِ الْأُصُولِيَّةِ هُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: خِطَابٌ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} [البقرة: 40] فَهَذَا حُكْمُ سَائِرِ النَّاسِ فِيهِ حُكْمُ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ إنْ شَارَكُوهُمْ فِي الْمَعْنَى دَخَلُوا وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ صِنْفٌ مِنْ الْمَأْمُورِينَ بِالْقُرْآنِ، نَظِيرُ خِطَابِهِ لِوَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ مِثْلِهِ، ثُمَّ هَلْ عَمَّ عُرْفًا أَوْ عَقْلًا؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ. وَالثَّانِي: خِطَابُهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَالْحُكْمُ هُنَا لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الْخَطَّابِيِّ قَطْعًا، لَكِنْ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] وَقَوْلُهُ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَنَحْوُهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعُمُومَ يَكُونُ تَارَةً لِلْأَشْخَاصِ، وَتَارَةً لِلْأَفْعَالِ، وَفِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ يَعُمُّ،

المسألة الخامسة الخطاب ب يا أيها المؤمنون هل يشمل الكفار

وَهَلْ هُوَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، أَوْ بِالْعِبَارَةِ الْعُرْفِيَّةِ، أَوْ بِالْعِبْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ؟ [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْخِطَابُ بِ يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَلْ يَشْمَلُ الْكُفَّارَ] [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ الْخِطَابُ بِ (يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) حَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الِاصْطِلَاحِ " عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَشْمَلُ غَيْرَهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُ صَرِيحٌ، ثُمَّ اخْتَارَ التَّعْمِيمَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، لِعُمُومِ التَّكْلِيفِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا خُصُّوا بِالذِّكْرِ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّشْرِيفِ لَا خِطَابِ التَّخْصِيصِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ. قُلْت: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّنَاوُلِ بِالصِّيغَةِ لَا بِأَمْرٍ خَارِجٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَفْظًا، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، أَوْ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا كَيْفَ بِعُمُومِ الشَّرِيعَةِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، وَأَمَّا حَيْثُ يَظْهَرُ الْفَرْقُ، أَوْ يُمْكِنُ مَعْنًى غَيْرُ شَامِلٍ لَهُمْ، فَلَا يُقَالُ بِثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لَهُمْ، لِأَنَّهُ يَكُونُ إثْبَاتَ حُكْمٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَالتَّعَلُّقُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا مَعْنًى. [مَسْأَلَةٌ قَدْ يَجِيءُ الْخِطَابُ بِيَا أَيُّهَا النَّاسُ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً] مَسْأَلَةٌ وَقَدْ يَجِيءُ الْخِطَابُ بِيَا أَيُّهَا النَّاسُ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج: 73] بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 194] الْآيَةَ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ "، وَقَالَ: إنَّهُ مِنْ الْعُمُومِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ.

المسألة السادسة خطاب المواجهة هل يشمل المعدومين

[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ خِطَابُ الْمُوَاجَهَةِ هَلْ يَشْمَلُ الْمَعْدُومِينَ] الْخِطَابُ الْوَارِدُ شِفَاهًا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِثْلُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَيُسَمَّى خِطَابَ الْمُوَاجَهَةِ، لَا خِلَافَ فِي شُمُولِهِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمَعْدُومِينَ حَالَ صُدُورِهِ، لَكِنْ هَلْ هُوَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ مِنْ اللَّفْظِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى الثَّانِي، وَأَنَّ شُمُولَ الْحُكْمِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ [بِالْإِجْمَاعِ أَوْ الْقِيَاسِ] وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِمَّا عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِأَهْلِ زَمَانِهِ فَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: هُمْ مُكَلَّفُونَ لَا مِنْ الْخِطَابِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الرِّسَالَةُ رَاجِعَةً إلَى سَائِرِ الْقُرُونِ كَانُوا سَوَاءً، قَالَ تَعَالَى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] وَقَوْلُهُ: «بُعِثْت إلَى النَّاسِ كَافَّةً» . قُلْت: وَأَصْرَحُ مِنْهُمَا قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا} [الجمعة: 2] إلَى قَوْلِهِ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]

وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَنْ قَالَ بِخُصُوصِهِ بِالْمُخَاطَبِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَبِرَ فِيهِ أَحْوَالَ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَا يُدْخِلُ فِي خِطَابِهِمْ مَنْ لَيْسَ بِصِفَتِهِمْ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ، وَهَذَا غَيْرُ الِاخْتِصَاصِ بِأَعْيَانِهِمْ، وَهُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْهُ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَعْيَانِ فِي الْأَحْكَامِ مَحْمُولٌ غَالِبًا غَلَبَةً كَثِيرَةً. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا تُعْتَبَرُ أَحْوَالُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ إلَّا أَنْ يُحْتَمَلَ اعْتِبَارُهَا لِمُنَاسَبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَالْأَلْيَقُ بِالتَّخْصِيصِ الْأَوَّلُ. وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": الْخِلَافُ فِي أَنَّ خِطَابَ الْمُشَافَهَةِ هَلْ يَشْمَلُ غَيْرَ الْمُخَاطَبِينَ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ لُغَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمُخَاطَبِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْحُكْمَ يَقْتَصِرُ عَلَى غَيْرِ الْمُخَاطَبِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا عُلِمَ قَطْعًا مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ عَامَّةٌ إلَّا حَيْثُ يَرِدُ التَّخْصِيصُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَبَّرَ جَمَاعَةٌ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ بَعْدَهُمْ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ أَخَصَّ مِنْ هَذَا وَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْأَلْفَاظُ لَهَا حَالَتَانِ: تَارَةً تَكُونُ مَحْكُومًا بِهَا،

نَحْوُ زَيْدٌ قَائِمٌ، أَوْ مُخَاطَبَةً بِخِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ نَحْوُ يَا زَيْدُ، وَتَارَةً تَكُونُ مُتَعَلَّقَ الْحُكْمِ، نَحْوُ اصْحَبْ الْعُلَمَاءَ فَالْمُسَمَّيَاتُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً حَالَ الْحُكْمِ أَوْ الْخِطَابِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْخَارِجِ فَرْعُ وُجُودِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ مَعَهَا، وَمَدَارُهَا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ، بَلْ اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِيمَا وُجِدَ وَسَيُوجَدُ مِنْهَا، كَقَوْلِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ: اصْحَبْ الْعُلَمَاءَ، لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ عَالِمًا حَالَ الْخِطَابِ، وَبَيْنَ مَنْ سَيَصِيرُ عَالِمًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اقْطَعُوا السَّارِقَ وَحُدُّوا الزُّنَاةَ، وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى نَحْوِ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] وَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] يَتَنَاوَلُ مُشْرِكِي زَمَانِنَا، وَسُرَّاقَهُمْ، وَزُنَ لَا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، لَكِنْ اتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الِاتِّصَافَ بِالصِّفَةِ الْمُشْتَقَّةِ لِمَنْ لَمْ تَعُمَّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قِيَامِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازٌ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَلَا طَرِيقَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الِاتِّفَاقَيْنِ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الصِّفَةِ مَحْكُومًا بِهَا، وَكَوْنِهَا مُتَعَلَّقَ الْحُكْمِ. وَقَدْ اعْتَرَضَ النَّقْشَوَانِيُّ فِي " تَلْخِيصِ الْمَحْصُولِ " عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ: إنَّ الْمَعْدُومَ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِالْخِطَابِ السَّابِقِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ خِطَابِ الْمُشَافَهَةِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ غَفْلَةٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَنْ سَيُوجَدُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، وَتَعَلُّقُ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ لَيْسَ مِنْ بَابِ أَوْضَاعِ اللُّغَةِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ، وَلِذَلِكَ مَثَّلُوهُ بِأَنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ طَلَبَ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ، وَاَلَّذِي مِنْ وَلَدٍ سَيُوجَدُ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ مُعْتَمَدَ الْقَوْلِ بِأَنَّ خِطَابَ الْمُشَابَهَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ، أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ مِثْلَ: قُومُوا، وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ؛ بَلْ وَلَا لِلْمَوْجُودِ الْغَائِبِ، بَلْ الْحَاضِرُ

المسألة السابعة هل خطاب الله رسوله بلفظ يختص به يشمل أمته

الْقَرِيبُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبَحْثَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لُغَوِيٌّ، وَتِلْكَ عَقْلِيٌّ، فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا. وَمِمَّنْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ أَيْضًا صَاحِبُ " الْبَدِيعِ "، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ ثَمَّ فِي تَسْمِيَتِهِ أَمْرًا، وَهُنَا فِي تَسْمِيَتِهِ خِطَابًا، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْمَعْدُومِ التَّعَلُّقُ الْعِلْمِيُّ لَا التَّنْجِيزِيُّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى خِطَابًا؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَمَّا قُصِدَ بِهِ إفْهَامُ مَنْ هُوَ مُتَهَيِّئٌ لِلْفَهْمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْمَعْدُومِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا قُلْنَا: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ لَا يُسَمَّى خِطَابًا، فَإِنْ قُلْنَا يُسَمَّى فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي قَالَ بِتَنَاوُلِ الْخِطَابِ لِلْمَعْدُومِ زَمَنَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ بِهِ التَّنَاوُلَ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ أَهْلًا لِلْخِطَابِ كَمَا فِي الْأَمْرِ، لَا أَنَّهُ حَالَ عَدَمِهِ مُخَاطَبٌ بِمَعْنًى يَفْهَمُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ هَلْ خِطَابُ اللَّهِ رَسُولَهُ بِلَفْظٍ يَخْتَصُّ بِهِ يَشْمَلُ أُمَّتَهُ] الْخِطَابُ الْمُخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِوَضْعِ اللِّسَانِ، مِثْلُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَيَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْأُمَّةُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ مِنْ قِيَاسٍ وَغَيْرِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَشْمَلُهُمْ الْحُكْمُ لَا بِاللَّفْظِ.

وَقِيلَ يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ فَهُوَ عَامٌّ إلَّا بِدَلِيلٍ يُخْرِجُهُ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ بَعِيدٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّعْبِيرِ بِالْكَبِيرِ عَنْ أَتْبَاعِهِ فَيَكُونُ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: الْأُمَّةُ مَعَهُ بِشَرْعٍ فِي الْخِطَابِ الْمُخْتَصِّ، وَلِهَذَا قَالُوا: يَصِحُّ لَنَا النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا اللَّفْظُ فِي وَضْعِهِ فَمُخْتَصٌّ بِهِ، وَأَمَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ هَلْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ مِثْلًا لَهُ فِي الْخِطَابِ، فَلَسْنَا عَلَى ثَبْتٍ فِي ذَلِكَ، وَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَطْلُبُونَ مُشَارَكَتَهُ فِيمَا اخْتَصَّ بِهِ، فَأَمَّا مَا لَمْ تَظْهَرْ خَاصَّتُهُ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ. وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فَقَالَ: الصِّيغَةُ إمَّا أَنْ تَرِدَ فِي مَحَلِّ التَّخْصِيصِ أَوْ لَا، فَإِنْ وَرَدَتْ فَهُوَ خَاصٌّ، وَإِلَّا عَامٌّ، لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ دَلِيلًا نَاطِقًا عَلَى التَّخْصِيصِ، وَلَا عَلَى التَّعْمِيمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ حَيْثُ لَا يَظْهَرُ اخْتِصَاصُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ ظَهَرَ اخْتَصَّ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا مَعْنَى لِهَذَا التَّفْصِيلِ، فَكَأَنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَلِهَذَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ أَوَّلًا. وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مُقَيَّدًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا مَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحُكْمِ غَيْرُهُ، وَأَتَى بِلَفْظِهِ لِجَلَالَةِ وُقُوعِ الْمُشَافَهَةِ مَعَهُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] فَهَذَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا خِلَافٍ، وَعَلَى هَذَا فَذِكْرُ ابْنِ الْحَاجِبِ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِمُخَاطَبَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِذَلِكَ وَهُمْ

مَعْصُومُونَ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالْمُحَالُ يَصِحُّ فَرْضُهُ لِغَرَضٍ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَكِّيِّ وَالْمَهْدَوِيِّ أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَلَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، وَارْتَكَبَ شَطَطًا فِي التَّأْوِيلِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَعْلَمَ قَوْلَ اللَّهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ} [الأنعام: 35] وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ مِنْ بَابِ الْخِطَابِ الْعَامِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ. وَالْمَعْنَى اتِّفَاقُ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ عَلَى ذَلِكَ، وَيُسْتَرَاحُ حِينَئِذٍ مِنْ إيرَادِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ أَصْلِهِ. أَمَّا فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ الْأُمَّةَ مَقْصُودَةٌ بِهِ، فَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ عَلَى دُخُولِهِمْ فَلَا خِلَافَ فِي عُمُومِهِ، وَتَكُونُ الْقَرِينَةُ مُبَيِّنَةً أَنَّهُ عَبَّرَ بِلَفْظِهِ عَنْهُ، وَعَنْ غَيْرِهِ مَجَازًا، هَذَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] الْآيَةَ فَإِنَّ ضَمِيرَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: طَلَّقْتُمْ، وَطَلِّقُوهُنَّ، قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ مَقْصُودَةٌ مَعَهُ بِالْحُكْمِ، وَأَنَّهُ خُصَّ بِالْخِطَابِ لِكَوْنِهِ مَتْبُوعَهُمْ، وَلَوْلَا فَهْمُ عُمُومِهَا لِلْأُمَّةِ لَمَا افْتَتَحَ بِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخِطَابِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مُخْتَصٌّ لَفْظُهُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنْ يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]

المسألة الثامنة الخطاب للأمة إن اختص بهم لا يدخل الرسول تحته

ثُمَّ قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ، وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] . وَنَوْعٌ يَكُونُ الْخِطَابُ لَهُ وَلِلْأُمَّةِ، وَأَفْرَدَهُ بِالْخِطَابِ، لِكَوْنِهِ هُوَ الْمُوَاجَهُ بِالْوَحْيِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِيهِ، وَالْمُبَلِّغُ لِلْأُمَّةِ، وَالسَّفِيرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ: الْخِطَابُ لَهُ، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُخَاطَبْ بِذَلِكَ أَصْلًا، كَمَا يَقُولُ السُّلْطَانُ لِمُقَدِّمِ الْعَسَاكِرِ: اُخْرُجْ غَدًا، أَوْ انْزِلْ بِمَكَانِ كَذَا، وَاحْمِلْ عَلَى الْعَدُوِّ فِي وَقْتِ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا} [النساء: 79] . [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ إنْ اخْتَصَّ بِهِمْ لَا يَدْخُلُ الرَّسُولُ تَحْتَهُ] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّامِنَةُ الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ إنْ اخْتَصَّ بِهِمْ نَحْوُ: يَا أَيُّهَا الْأُمَّةُ فَلَا يَدْخُلُ الرَّسُولُ تَحْتَهُ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِ " الْإِفَادَةِ "، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] فَالْأَوَّلُ: عَامٌّ. وَالثَّانِي: خَاصٌّ فِينَا دُونَهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} [الطلاق: 10] {رَسُولا} [الطلاق: 11] ، تَقْدِيرُهُ: اُطْلُبُوا رَسُولًا عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَهَذَا أَيْضًا فِينَا دُونَهُ. اهـ. وَإِنْ أَمْكَنَ تَنَاوُلُهُ نَحْوُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَيَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَيَا عِبَادِي، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ يَشْمَلُهُ. وَقِيلَ: لَا، لِأَجْلِ الْخَصَائِصِ الثَّابِتَةِ لَهُ. وَالثَّالِثُ: نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَالْحَلِيمِيِّ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَسْبِقَهُ تَبْلِيغٌ: نَحْوُ قُلْ، وَنَحْوِهِ، فَلَا يَشْمَلُهُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّبْلِيغِ يُؤَثِّرُ فِي عُمُومِ

المسألة التاسعة الخطاب الخاص بواحد هل يشمل غيره

الْخِطَابِ، وَإِنْ وَرَدَ مُسْتَرْسِلًا فَالرَّسُولُ فِيهِ بِمَثَابَةِ غَيْرِهِ، وَاسْتَنْكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا جَمِيعًا مُسْتَنِدٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ خِطَابَهُ إلَيْنَا، فَلَا مَعْنَى لِلتَّفْرِقَةِ. وَقَالَ الْمُقْتَرَحُ فِي تَعْلِيقِهِ: الْخِطَابُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ السُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْكِتَابِ فَهُوَ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمُبَلِّغُ يَنْدَرِجُ تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ السُّنَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهَدًا أَوْ لَا. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ مُجْتَهَدٌ فَيَرْجِعُ إلَى أَنْ الْمُخَاطَبَ: هَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فَهُوَ مُبَلِّغٌ، وَالْمُبَلِّغُ إذَنْ دَاخِلٌ تَحْتَ الْخِطَابِ. ثُمَّ قِيلَ: لَا فَائِدَةَ لِلْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقِيلَ: بَلْ تَظْهَرُ فَائِدَتُهَا فِيمَا إذَا وَرَدَ الْعُمُومُ وَجَاءَ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ دَاخِلٌ فِي خِطَابِهِ كَانَ فِعْلُهُ نَسْخًا، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِدَاخِلٍ لَمْ يَخُصَّ فِعْلُهُ الْعُمُومَ، وَبَقِيَ عَلَى شُمُولِهِ فِي ذَلِكَ. [الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ الْخِطَابُ الْخَاصُّ بِوَاحِدٍ هَلْ يَشْمَلُ غَيْرَهُ] [الْمَسْأَلَةُ] التَّاسِعَةُ [الْخِطَابُ الْخَاصُّ لُغَةً بِوَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ هَلْ يَشْمَلُ غَيْرَهُ مِنْ الْأُمَّةِ] الْخِطَابُ الْخَاصُّ لُغَةً بِوَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ، إنْ خُصَّ فِيهِ بِالتَّخْصِيصِ، فَلَا شَكَّ فِيهِ، لِقَوْلِهِ: (وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك) وَإِنْ صَلَحَ أَنْ يَتَنَاوَلَ

غَيْرَهُ، فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ مِنْ الْأُمَّةِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْإِمَامُ فِي بَابِ الرَّضَاعِ مِنْ " النِّهَايَةِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى إرْضَاعِ الْكَبِيرِ: وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى تَصَرُّفٍ فِي حَدِيثٍ سَالِمٍ رَمَزَ إلَيْهِ الْمُزَنِيّ، وَهُوَ أَنَّ خِطَابَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا اخْتَصَّ بِشَخْصٍ فِي حِكَايَةِ حَالٍ، فَحُكْمُ الصِّيغَةِ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِالْمُخَاطَبِ، وَإِذَا قَضَيْنَا بِأَنَّ النَّاسَ فِي الشَّرْعِ وَاحِدٌ، فَهُوَ يُتَلَقَّى مِنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، قُلْنَا: اضْطَرَبَ رَأْيُهُمْ فِي قَضِيَّةِ سَالِمٍ فِي التَّخْصِيصِ، وَاللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ مُخْتَصٌّ بِالْمُخَاطَبِ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ، سِيَّمَا إذَا اعْتَقَدَ خِلَافَهُ مِمَّا يَسْتَقِلُّ دَلِيلًا، انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَة وَغَيْرُهُ: عَامٌّ بِنَفْسِهِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ: هَذَا إذَا وَقَعَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ، كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ وَاقَعْت، فَقَالَ: (اعْتِقْ) . فَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» فَلَا يَدْخُلُ،

فِيهِ كُلُّ الصَّحَابَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ لِلرَّجُلِ: (قُمْ فَبَارِزْ) ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِ الْمُبَارَزَةُ. قَالَ: وَكَذَلِكَ إذَا حُكِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَادِثَةٍ بَيْنَ نَفْسَيْنِ، كَانَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَهَذَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا انْتَهَى. وَاقْتَضَى كَلَامُ الْقَاضِي مِنْهُمْ أَنَّهُ عَامٌّ بِعُرْفِ الشَّرْعِ لَا بِوَضْعِ اللُّغَةِ لِلْقَطْعِ بِاخْتِصَاصِهِ بِهِ لُغَةً، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا. وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى الْأَوَّلِ. قَالَ: وَالثَّانِي أَنَّهُ لِلْعُمُومِ بِدَلِيلِ: حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ، وَعَلَى هَذَا فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ السَّائِلِ، هَلْ هُوَ بِالْقِيَاسِ أَوْ بِقَوْلِهِ: خِطَابِي لِلْوَاحِدِ خِطَابِي لِلْجَمَاعَةِ؟ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ. انْتَهَى. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ السَّابِقِ رَأْيٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ صَوَّرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا الْمَسْأَلَةَ بِخِطَابِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَصَوَّرَهَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ مُخَاطَبَةُ الشَّارِعِ وَاحِدًا بِلَفْظٍ مُخْتَصٍّ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَاطِبُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نَحْوُ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة: 67] أَوْ الْمُخَاطِبُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدًا مِنْ أُمَّتِهِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، فَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ الْخِطَابَ خُصَّ لُغَةً بِذَلِكَ الْوَاحِدِ، وَلَا يَنْبَغِي فِيهِ خِلَافٌ، وَأَنَّهُ عَامٌّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا يَنْبَغِي فِيهِ خِلَافٌ، فَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ

تنبيه تطبيبه هل يفيد التعميم

فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ الْمُقْتَرِحُ: بَلْ هُوَ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: الْأَصْلُ مَا هُوَ؟ هَلْ هُوَ مَوْرِدُ الشَّرْعِ، أَوْ مُقْتَضَى الْعُرْفِ؟ وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ؛ بَلْ الَّذِي نُسَلِّمُهُ عُمُومُ مُقْتَضَى الْخِطَابِ غَيْرَ عُمُومٍ قَطْعًا، وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي الثَّانِي لَا فِي الْأَوَّلِ. وَالْحَقُّ أَنَّ التَّعْمِيمَ مُنْتَفٍ لُغَةً ثَابِتٌ شَرْعًا، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّ الْعَادَةَ هَلْ تَقْضِي بِالِاشْتِرَاكِ بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ فَهْمُ أَهْلِ الْعُرْفِ إلَيْهَا أَوْ لَا؟ فَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: لَا قَضَاءَ لِلْعَادَةِ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَا قَضَاءَ لِلُّغَةِ، وَالْخَصْمُ يَقُولُ: إنَّهَا تَقْضِي بِذَلِكَ. وَهَذَا نَقْلُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْهُمْ الِاحْتِجَاجَ بِأَنَّ عَادَةَ أَهْلِ اللِّسَانِ مُخَاطَبَةُ الْوَاحِدِ، وَإِرَادَةُ الْجَمَاعَةِ. [تَنْبِيهٌ تَطْبِيبُهُ هَلْ يُفِيدُ التَّعْمِيمَ] تَنْبِيهٌ [تَطْبِيبُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، هَلْ يُفِيدُ التَّعْمِيمَ؟] هَذَا فِي الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا تَطْبِيبُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ أَرْضِهِ، فَقَالَ الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ فِي " مُخْتَصَرِ الْمُسْتَدْرَكِ ": هُوَ خَاصٌّ بِطِبَاعِهِمْ وَأَرْضِهِمْ، إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّعْمِيمِ، لِأَنَّ تَطْبِيبَهُ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ، بِخِلَافِ أَوَامِرِهِ الشَّرْعِيَّةِ، ذَكَرَهُ فِي حَدِيثٍ: أَنَّ «امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَبِيٍّ لَهَا فَقَالَتْ: أَتْقَأُ مِنْهُ الْعَذِرَةَ. فَقَالَ: تَحَرَّقُوا حُلُوقَ أَوْلَادِكُمْ، خُذِي قُسْطًا هِنْدِيًّا وَوَرْسًا فَأَسْعِطِيهِ إيَّاهُ» . وَقَالَ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. انْتَهَى. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْعُلَمَاءِ سِيَّمَا مَنْ صَنَّفَ فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ، إنَّمَا يَفْهَمُ التَّعْمِيمَ كَالْأَوَامِرِ، وَلِهَذَا تَكَلَّفُوا الْجَوَابَ عَنْ حَدِيثِ:

المسألة العاشرة دخول المخاطب في عموم خطابه

أَبْرِدُوا الْحُمَّى بِالْمَاءِ) مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحُمَّيَاتِ لَا يَقْتَضِي الطِّبُّ تَسْوِيغَ ذَلِكَ، وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا يَقْتَضِي الْحَالَ اللَّائِقَ بِذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُمَّيَات، وَقَوْلُهُ إنَّ التَّطْبِيبَ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ مَمْنُوعٌ. [الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ دُخُولُ الْمُخَاطِبِ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ] اخْتَلَفُوا فِي دُخُولِ الْمُخَاطِبِ بِكَسْرِ الطَّاءِ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. أَحَدُهُمَا: قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُخَالِفِينَ إنَّهُ يُتَنَاوَلُ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عُمُومِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ. وَالثَّانِي: قَالَ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إنَّهُ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا وَرَدَ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَفْظٌ عَامٌّ فِي إيجَابِ حُكْمٍ أَوْ حَظْرِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ: هَلْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى دُخُولِهِ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُمَّتَهُ بِأَمْرٍ لَمْ يَدْخُلْ

هُوَ فِي الْأَوَامِرِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا، كَذَا قَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": إذَا أَمَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَمْرٍ لَمْ يَدْخُلْ فِي حُكْمِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِيهِ، كَقَوْلِهِ: افْعَلُوا كَذَا فَإِنَّكُمْ مُكَلَّفُونَ، وَقِيلَ يَدْخُلُ مُطْلَقًا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": ذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الْآمِرَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ، وَنَقَلَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ دُخُولَهُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِيهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا كَانَ آمِرًا، وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ، فَأَمَّا الْأَمْرُ الْوَارِدُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ النَّاسِ، فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ. هَكَذَا قَالَ، وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَذْهَبَنَا عَدَمُ الدُّخُولِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " الرَّوْضَةِ " فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: إنَّهُ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَدْ رَأَيْت مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِنَقْلِ " الْمَحْصُولِ " عَنْ الْأَكْثَرِينَ الدُّخُولَ، وَقَدْ عَجِبْت مِنْ نَقْلِ هَؤُلَاءِ الْفُحُولِ، لِأَنَّهُمْ إنَّمَا تَعَرَّضُوا لِلْأَمْرِ، لَا لِلْخَبَرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، وَقَدْ سَوَّى صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " بَيْنَهُمَا فِي النَّقْلِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي " الْمَنْخُولِ " حَيْثُ قَالَ بِهِمَا، ثُمَّ قَالَ: وَالْمُخْتَارُ الِانْدِرَاجُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ " قَالَ: صَاحِبُ الْمَحْصُولِ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ أَمْرًا قَرِينَةً مُخَصَّصَةً، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَدْخَلَهُ فِي الْخَبَرِ لَا الْأَمْرِ. قَالَ صَاحِبُ الْحَاصِلِ ": وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَقْلِ الْجُمْهُورِ. وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَقَالَ: اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُ نَفْسَهُ، وَلَكِنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ عَادَةً، وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: الْقَوْلُ الْمُوجَزُ فِيهِ أَنَّ مُوجِبَ الْخِلَافِ

مسألة دخول المخاطب في عموم أمر المخاطب له

الِانْدِرَاجُ، وَلَكِنْ اُشْتُهِرَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَأْثِيرًا فِي مُوجِبِ اللَّفْظِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ رَاجِعًا إلَى غَيْرِ اللَّفْظِ، لَا إلَى حَالِ الْمُخَاطِبِ. قَالَ: وَهَذَا دَقِيقٌ قَاطِعٌ خَيَالَ الْمُخَالِفِ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ تَعْرِضُ فِي الْأَمْرِ، وَقَدْ سَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِهِ، وَمِثْلُهُ النَّهِيُّ، وَمَرَّتْ فِي الْخَبَرِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى دُخُولِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا وُضِعَ لِلْمُخَاطَبِ يَشْمَلُ الْمُتَكَلِّمَ وَضْعًا، فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ حُكْمًا فَمُسَلَّمٌ، إذَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، أَوْ كَانَ الْوَضْعُ شَامِلًا لَهُ كَأَلْفَاظِ الْعُمُومِ. تَنْبِيهٌ [دُخُولُ جِبْرِيلَ فِي التَّكَالِيفِ الَّتِي يَنْزِلُ بِهَا] وَقَعَ الْبَحْثُ فِي أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَلْ يَدْخُلُ فِي التَّكْلِيفِ بِمَا يَأْتِي بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ تَبْلِيغٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى فِعْلٍ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، كَمَا فِي إمَامَتِهِ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْيَوْمَيْنِ. وَأَمَّا مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى فِعْلٍ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ مَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ فَقَطْ. [مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الْمُخَاطَبِ فِي عُمُومِ أَمْرِ الْمُخَاطِبِ لَهُ] أَمَّا الْمُخَاطَبُ بِالْفَتْحِ فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ أَمْرِ الْمُخَاطِبِ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُك فِي إبْرَاءِ غُرَمَائِي، وَكَانَ هُوَ مِنْهُمْ لَمْ يَدْخُلْ. قُلْتُ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مَسْأَلَةُ أَوَامِرِ اللَّهِ الْعَامَّةِ، هَلْ يَدْخُلُ فِيهَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ وَقَدْ سَبَقَتْ، لَكِنْ الصَّحِيحُ هُنَاكَ الدُّخُولُ.

فصل في القرائن التي يظن أنها صارفة للفظ عن العموم وفيه مسائل

[فَصْلٌ فِي الْقَرَائِنِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا صَارِفَةٌ لِلَّفْظِ عَنْ الْعُمُومِ وَفِيهِ مَسَائِلُ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْخَارِجُ عَلَى جِهَةِ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ] فَصْلٌ فِي الْقَرَائِنِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا صَارِفَةٌ لِلَّفْظِ عَنْ الْعُمُومِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: [الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى الْخَارِجُ عَلَى جِهَةِ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ، نَحْوُ {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] وَالْمُرَادُ مَدْحُ قَوْمٍ وَذَمُّ آخَرِينَ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ ذِكْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذِكْرُ النِّسَاءِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَفِي التَّعَلُّقِ بِعُمُومِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمْ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَنُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ، وَلِهَذَا مُنِعَ التَّمَسُّكُ بِآيَةِ الزَّكَاةِ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَقَعْ مَقْصُودًا لَهُ، وَرُبَّمَا نَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْكَلَامُ مُفَصَّلٌ فِي مَقْصُودِهِ، وَمُجَمِّلٌ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ. وَنَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْ الْقَاشَانِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: لَا يُحْكَمُ الْعُمُومُ بِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ الْعَامِّ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَخْصُوصُ

بِالذِّكْرِ عَلَى مَا حُكِمَ فِيهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ لَا لِلْعُمُومِ، وَأَطَالَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ. قَالَ: فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي قَلِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَثِيرِهِمَا، بَلْ مَقْصُودُ الْآيَةِ الْوَعِيدُ لِتَارِكِ الزَّكَاةِ، وَكَذَا لَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَحِلُّ، وَلَكِنْ فِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْفَرْجَ لَا يَجِبُ حِفْظُهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ إذَا اُحْتِيجَ إلَى تَفْصِيلِ مَا لَا يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ صُيِّرَ فِيهِ إلَى مَا قُصِدَ تَفْصِيلُهُ، مِثْلُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَنَحْوُهُ. قَالَ: وَمَنْ ضَبَطَ هَذَا الْبَابَ أَفَادَهُ عِلْمًا كَثِيرًا، وَاسْتَرَاحَ مَنْ لَا يُرَتِّبُ الْخِطَابَ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَا يَضَعُهُ مَوْضِعَهُ. انْتَهَى. وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي بَابِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النِّكَاحِ، وَعِبَارَتُهُ: قُلْنَا: الْآيَةُ إذَا سِيقَتْ لِبَيَانِ مَقْصُودٍ، فَإِنَّمَا يُوجَبُ التَّعْمِيمُ فِي مَحَلِّ الْمَقْصُودِ، فَأَمَّا فِي مَحَلِّ غَيْرِ الْمَقْصُودِ وَالْغَرَضِ بِالْخِطَابِ فَلَا يُقْصَدُ بِالْخِطَابِ، بَلْ يُعْرَضُ عَنْهُ صَفْحًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} [البقرة: 187] الْآيَةَ اهـ. وَالثَّانِي: وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَصْدِ الْعُمُومِ وَالذَّمِّ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: إنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ "، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ. قَالَ: وَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَذْهَبَ الشَّافِعِيَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُ صِحَّةُ ادِّعَاءِ الْعُمُومِ فِيهِ حَتَّى لَا يُعَارِضَهُ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ التَّحْصِيلِ " عَلَيْهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " وَخَطَّأَ مُخَالِفَهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ جَعَلَهُ وَجْهَ الْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ. قُلْتُ: وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إلَى أَنَّ النَّوْمَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] قَالَ: فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ، وَمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ يُنْفَى عَنْهُ إبْطَالُ الْعِبَادَةِ، وَاحْتَجَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَبْقَى إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ (أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَفِي الثَّانِي عِنْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتُ الْمَغْرِبِ) وَهَذَا نَصٌّ فِي مُسَاوَاتِهَا فِي الْوَقْتِ بِغَيْرِهَا، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ وَقْتِ الضَّرُورَةِ، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَعْلِيمَ أَوَائِلِ أَوْقَاتِ الِاخْتِيَارِ وَآخِرِهَا، لَكِنْ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى مُوَافَقَةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَطْوَلُ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ: نَحْنُ أَكْثَرُ أَعْمَالًا وَأَقَلُّ أَجْرًا. قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ الْوَقْتِ، فَقَالَ لَهُمْ: لَمْ يُقْصَدْ بِالْخَبَرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّتَهُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، فَمُنِعَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ. وَكَذَا يُمْنَعُ تَمَسُّكُ الْحَنَفِيَّةِ بِحَدِيثِ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ. وَقَالَ: إنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا سِيقَ لِبَيَانِ الْجُزْءِ الْوَاجِبِ، لَا لِبَيَانِ الْوَاجِبِ فِيهِ، لَكِنْ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ

الشَّافِعِيُّ هُنَا لِمُعَارِضٍ آخَرَ، لَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَسُوقًا لِغَيْرِهِ. هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ عُمُومٌ آخَرُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْمَدْحُ أَوْ الذَّمُّ، فَإِنْ عَارَضَهُ فَلَا خِلَافَ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لِذَلِكَ، فَيَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ، وَيُقْصَرُ مَا سِيقَ لِلْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ عَلَيْهِمَا. هَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ " التَّحْصِيلِ " وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ لَكِنْ حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجْهًا أَنَّهُ يُوقَفُ هَذَانِ الْعَامَّانِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الْحَالُ كَالْمُتَعَارَضِينَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِبَيَانِ أَعْيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ دُونَ الْعَدَدِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فَإِنَّهُ سِيقَ لِلْعَدَدِ، وَهُوَ يَعُمُّ الْأُخْتَ وَغَيْرَهَا، فَيُقْضَى بِتِلْكَ لِأَنَّهَا مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَا يُقْضَى بِهَا عَلَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] مَعَ قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فَالْأُولَى سِيقَتْ لِبَيَانِ الْحُكْمِ، فَقُدِّمَ عَلَى مَا سِيَاقُهَا لِلْمَدْحِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إذَا قَدَّرْنَا دُخُولَ الشَّعْرِ فِيهَا قُدِّمَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} [النحل: 80] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِمَا سِيقَ لِلْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا سِيقَ لِغَرَضٍ، كَمَا سَبَقَ مِنْ نَحْوِ (فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ) وَغَيْرِهِ.

المسألة الثانية صحة دعوى العموم فيما جاء من الشارع ابتداء

[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ صِحَّةِ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيمَا جَاءَ مِنْ الشَّارِعِ ابْتِدَاءً] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وُرُودُهُ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ فَتَقُولُ: لَا إشْكَالَ فِي صِحَّةِ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيمَا جَاءَ مِنْ الشَّارِعِ ابْتِدَاءً كَقَوْلِهِ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ» ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ، فَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ بِلَا خِلَافٍ. وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ أَمْ لَا؟ . فَإِنْ كَانَ جَوَابًا، فَإِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ تَابِعٌ لِلسُّؤَالِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ، حَتَّى كَأَنَّ السُّؤَالَ مُعَادٌ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَامًّا فَعَامٌّ أَوْ خَاصًّا فَخَاصٌّ. مِثَالُ خُصُوصِ السُّؤَالِ قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «أَيُنْقَصُ الرُّطَبُ

إذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا إذْنَ» وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَطِئْت فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا فَيَقُولُ: عَلَيْك الْكَفَّارَةُ فَيَجِبُ قَصْرُ الْحُكْمِ عَلَى السَّائِلِ، وَلَا يَعُمُّ غَيْرَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْمُكَلَّفِينَ، أَوْ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ بِصِفَتِهِ. وَمِثَالُ عُمُومِهِ مَا لَوْ سُئِلَ عَمَّنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: يُعْتِقُ رَقَبَةً. فَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ وَاطِئٍ فِي رَمَضَانَ. وَقَوْلُهُ: " يُعْتِقُ " وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالْوَاحِدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ جَوَابًا عَمَّنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بِلَفْظٍ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ جَامَعَ كَانَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَصَارَ السُّؤَالُ مُعَادًا فِي الْجَوَابِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ حُمِلَ هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْعُمُومِ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْتَفْصِلْ " بِأَيِّ شَيْءٍ أَفْطَرْت "؟ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِاخْتِلَافِ مَا يَقَعُ بِهِ الْفِطْرُ، وَضُعِّفَ بِاحْتِمَالِ عِلْمِهِ بِالْحَالِ، فَأَجَابَ عَلَى مَا عَلِمَ. وَقِيلَ: لَمَّا نُقِلَ السَّبَبُ وَهُوَ الْفِطْرُ، فَحُكِمَ فِيهِ بِالْعِتْقِ صَارَ كَأَنَّهُ عَلَّلَ وُجُوبَ الْعِتْقِ بِوُجُودِ الْفِطْرِ، لِأَنَّ السَّبَبَ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ السَّائِلِ، وَهَذَا أَصَحُّ. وَقِيلَ مِنْ قَوْلِهِ: (حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ) ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ حَالُ غَيْرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ كَحَالِهِ وَكُلِّ وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ لِلْحُكْمِ.

وَجَعَلَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " مِنْ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلَهُ: «أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ» فَقَالَ: لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَعَلُّقٍ بِمَذْكُورٍ قَبْلَهُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُبْتَدَأُ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَمِنْ شَأْنِهِ صَدْرُ الْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا قَبْلَهُ، وَقَدْ رَجَعَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَجَعَلَهُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ. وَإِنْ اسْتَقَلَّ الْجَوَابُ بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ لَوْ وَرَدَ مُبْتَدَأً لَكَانَ كَلَامًا تَامًّا مُفِيدًا لِلْعُمُومِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ أَعَمَّ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ، كَمَا لَوْ سُئِلَ عَنْ مَاءِ بُضَاعَةَ وَمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا خِلَافٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمْ وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَقْصُودًا فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ السُّؤَالِ عَنْ الْجَوَابِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَمَثَّلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " هَذَا الْقِسْمَ بِحَدِيثِ الْمُجَامِعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. قَالَ: وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْإِعْتَاقُ بِالْوُقُوعِ الْمَذْكُورِ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الَّذِي اقْتَضَى الْحُكْمَ وَآثَارَهُ، فَيَعُمُّ كُلَّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ. قَالَ: وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَا رُوِيَ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، مُضَمَّخٌ بِالْخَلُوقِ، فَقَالَ: وَعَلَى هَذِهِ الْجُبَّةِ، فَقَالَ: أَحْرَمْت انْزِعْ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ الصُّفْرَةَ» ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْفِدْيَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ غَيْرُ

وَاجِبَةٍ، وَالسَّبَبُ عُلِّقَ الْحُكْمُ بِمِثْلِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ جَرَيَانُ الْخِلَافِ إلَّا فِي هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ " أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ يَكُونُ أَصْلًا، وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا مِثْلَهُ يَكُونُ فَرْعًا لَهُ بِعِلَّةٍ تَعَدَّتْ إلَيْهِ، كَمَا كَانَ الْأَرُزُّ فَرْعًا لِلْبُرِّ فِي إثْبَاتِ الرِّبَا فِيهِ. قَالَ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ خِطَابَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَاحِدٍ خِطَابٌ لِلْجَمَاعَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ فَرْعًا لَهُ لَكَانَ هُوَ أَيْضًا فَرْعًا لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَخَصَّ مِنْ السُّؤَالِ مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ، فَيَقُولُ: مَاءُ الْبَحْرِ طَهُورٌ، فَيَخُصُّ الْجَوَابَ بِالْبَعْضِ، وَلَا يَعُمُّ بِعُمُومِ السُّؤَالِ بِلَا خِلَافٍ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمَا. لَكِنْ كَلَامُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ مِثْلُ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْحَاجَةَ إنَّمَا تَمَسُّ إلَى بَيَانِ مَا خَصَّصَهُ بِالذِّكْرِ، أَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْحَاجَةَ عَامَّةٌ فِي بَيَانِ جُمْلَةِ الْمِيَاهِ فَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ. وَلِهَذَا قَالَ الْمَازِرِيُّ: إنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ لَا يُطَابِقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّؤَالَ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ؟ قُلْنَا: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَنَعَمْ، كَقَوْلِهِ: «الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ، وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَإِنْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى بَيَانِ جَمِيعِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَذْكُورِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَنْبِيهٌ يَعْلَمُ بِهِ السَّامِعُ حُكْمَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ قَبْلَ فَوْتِ الْحَادِثَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسُوغُ، فَإِنْ لَمْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فَعَلَى الْخِلَافِ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ فُورَكٍ وَصَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " وَغَيْرُهُمْ: هَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يُنَبِّهَ فِي الْجَوَابِ عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مُجْتَهِدًا، وَإِلَّا لَمْ يُفِدْ التَّنْبِيهُ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِالْمُجْتَهِدِ مَنْ لَهُ قُوَّةُ التَّنَبُّهِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَأَنْ يَبْقَى مِنْ زَمَنِ الْعَمَلِ وَقْتٌ مُتَّسِعٌ لِلِاجْتِهَادِ،

فَيُجِيبُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَعْضِ مَا سَأَلَهُ، وَيُنَبِّهُهُ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْبَعْضِ الْآخَرِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْعِلَّةِ، كَقَوْلِهِ لِعُمَرَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ: «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْتَ» وَقَوْلُهُ لِلْخَثْعَمِيَّةِ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» ، قَالَ: وَحُكْمُهُ حِينَئِذٍ كَحُكْمِ السُّؤَالِ، لَكِنْ لَا يُسَمَّى عَامًّا لِدَلَالَةِ التَّنْبِيهِ. وَمَتَى انْتَفَى شَرْطٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ الْمَسْئُولُ فِيهَا عَنْ الْبَعْضِ لِلْإِخْلَالِ بِمَا يَجِبُ بَيَانُهُ. وَمَثَّلَ الْقَاضِي فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " هَذَا الْقِسْمَ بِمَا لَوْ سُئِلَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ الْكَوَافِرِ، فَقَالَ: اُقْتُلُوا الْمُرْتَدَّاتِ. قَالَ: فَيَخْتَصُّ الْقَتْلُ بِهِنَّ، وَلَا تُقْتَلُ الْحَرْبِيَّاتُ لِأَجْلِ دَلِيلِ الْخِطَابِ. وَلِأَنَّ عُدُولَهُ عَنْ الْجَوَابِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ. قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي حَدِيثِ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا» : عَلَّقَ عَلَى اسْمِ الْأَرْضِ كَوْنَهَا

مَسْجِدًا، وَعَلَّقَ عَلَى تُرْبَتِهَا كَوْنَهُ طَهُورًا، فَدَلَّ عَلَى قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالطَّهُورِيَّةِ، خِلَافُ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ: إنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدٌ وَطَهُورٌ. وَمِنْهُ احْتِجَاجُ أَصْحَابِنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَأَوْجَبَ السُّكْنَى مُطْلَقًا وَالنَّفَقَةَ بِشَرْطِ الْحَمْلِ، فَدَلَّ عَلَى قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ الْمَبْتُوتَةَ الْحَائِلَ لَا نَفَقَةَ لَهَا. وَمَثَّلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ هَذَا الْقِسْمَ بِقَوْلِ السَّائِلِ: «هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، فَقَالَ: اعْتِقْ رَقَبَةً» ، فَأَجَابَ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِحُكْمِ الْمَوْطُوءَةِ، قَالَ: فَمَنْ أَسْقَطَ السَّبَبَ، وَاعْتَبَرَ اللَّفْظَ جَعَلَهُ ظَاهِرًا فِيهَا، وَطَلَبَ دَلَالَةً فِي حُكْمِهَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَعَمَّ مِنْ السُّؤَالِ، فَيَتَنَاوَلُ مَا سُئِلَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْهُ فِي حُكْمٍ آخَرَ غَيْرِ مَا سُئِلَ عَنْهُ، كَسُؤَالِهِمْ عَنْ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، وَجَوَابُهُ بِقَوْلِهِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّائِلِ، وَلَا بِمَحَلِّ السُّؤَالِ مِنْ ضَرُورَتِهِمْ إلَى الْمَاءِ وَعَطَشِهِمْ، بَلْ يَعُمُّ حَالَ الضَّرُورَةِ وَالِاخْتِيَارِ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ فُورَكٍ وَصَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " وَالْمَحْصُولِ "، لَكِنْ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ بَرْهَانٍ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ الْآتِي فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَجَعَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ قِسْمِ الْمُسَاوِي، وَفِيهِ نَظَرٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ:

وَقَدْ سُئِلَ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، وَعَمَّنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَاسْتَعْمَلَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، وَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَنَسَبَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ لِلشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يَجِبُ قَصْرُهُ عَلَى مَا أُخْرِجَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، وَنَسَبَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ إلَى الْمُزَنِيّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالْقَفَّالِ وَالدَّقَّاقِ، وَفِي نِسْبَةِ ذَلِكَ لِلْقَفَّالِ نَظَرٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخَفَّافِ فِي " الْخِصَالِ "، فَإِنَّهُ جَعَلَ مِنْ الْمُخَصَّصَاتِ خُرُوجَ الْكَلَامِ عَلَى مَعْهُودٍ مُتَقَدِّمٍ. وَنَسَبَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: وَعَلَيْهِ يَدُورُ كَلَامُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ، يَقْتَصِرُ بِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا الَّتِي تُرَتَّبُ فِيهَا، وَيَجْعَلُهَا تَفْسِيرًا لَهَا، وَدَلَالَةً عَلَى الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ لِأَبِي الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَنَسَبَهُ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ " لِأَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ: إنَّهُ الَّذِي صَحَّ عِنْدَنَا مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " وَتَبِعَهُ فِي " الْمَحْصُولِ " وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ كَمَا سَيَأْتِي. نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِهَذَا لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ وَطِئَهَا لَمْ يُلَاعِنْ عِنْدَهُ، وَيُجْعَلُ الْوَطْءُ تَكْذِيبًا لَهُ، لِأَنَّ آيَةَ اللِّعَانِ وَرَدَتْ فِي الْعَجْلَانِيُّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: رَأَيْت بِعَيْنِي، وَسَمِعْت بِأُذُنِي وَمَا قَرُبْتهَا مُنْذُ سَمِعْت. وَقَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَرَكَ إصَابَتَهَا مُدَّةً طَوِيلَةً وَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ تَرْكُ إصَابَتِهَا شَرْطًا فِي جَوَازِ لِعَانِهَا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، لِأَنَّ عُدُولَ الْمُجِيبِ عَنْ الْخَاصِّ الْمَسْئُولِ عَنْهُ إلَى الْعَامِّ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَةِ الْعُمُومِ، وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ. وَوُرُودَهُ عَلَى السَّبَبِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ عِنْدَ وُرُودِ السَّبَبِ: بَيَانُ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ لِهَذِهِ الصُّورَةِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ وَذَكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " أَنَّ عَامَّةَ الْأَصْحَابِ يُسْنِدُهُ إلَى الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَابْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالْغَزَالِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: وَالْأَصْلُ أَنَّ الْعُمُومَ لَهُ حُكْمٌ، إلَّا أَنْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ، وَالدَّلِيلُ قَدْ يَخْتَلِفُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ دَلَالَةٌ يَعْقِلُ بِهَا الْمُخَاطَبُ أَنَّ جَوَابَهُ الْعَامَّ يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى مَا أُجِيبَ عَنْهُ أَوْ عَلَى جِنْسِهِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ عُمُومُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا يَخْلُو أَكْثَرُهَا عَنْ سَبَبٍ وَأَمْرٍ يَحْدُثُ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إلَى الْحُكْمِ كَيْفَ مَوْرِدُهُ، فَإِنْ وَرَدَ عَامًّا لَمْ يُخَصَّ إلَّا بِدَلِيلٍ وَإِنْ وَرَدَ مُطْلَقًا لَمْ يُقَيَّدْ إلَّا بِدَلِيلٍ، لِأَنَّ الْأَسْبَابَ مُتَقَدِّمَةٌ، وَالْأَحْكَامَ بَعْدَهَا فَقَدْ يُنَظِّمُهَا مَعَ تَقَدُّمِهَا، كَمَا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا يَخْلُو أَكْثَرُهَا مِنْ أَنْ يُقْضَى بِهِ عَلَى غَيْرِ أَوَّلِهَا أَوْ فَمِهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِالْخِطَابِ عَلَى الْعَيْنِ. هَذَا كَلَامُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلَّفْظِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ نَصًّا: وَالْأَسْبَابُ لَا تَصْنَعُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ لِلْأَلْفَاظِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِنَا:

إنَّ الْحُكْمَ لِلسَّبَبِ، وَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» إنَّهُ خَرَجَ عَنْ سُؤَالِ السَّائِلِ، لِأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ الرِّبَا فِي الْجِنْسِ. انْتَهَى. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَالْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْعِرَاقِيِّينَ: إسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدِي. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ الرَّسُولِ دُونَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، وَلَوْ قَالَ ابْتِدَاءً لَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، فَكَذَلِكَ إذَا صَدَرَ جَوَابًا. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ الْمَذْهَبَانِ؛ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْمَذْهَبَانِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ عَامًّا، وَحَمَلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَبِيعَاتِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بِمَالٍ، وَهُوَ الْعَبْدُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّ قَوْلَهُ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ، فَيَجِبُ قَصْرُهُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَابٍ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ السُّؤَالِ: وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ، وَفُرُوعُ مَذْهَبِهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَصَّ فِي " الْأُمِّ " فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ لِلْأَلْفَاظِ وَلَا تَعْمَلُ الْأَسْبَابُ شَيْئًا، لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَكُونُ، وَيَحْدُثُ الْكَلَامُ عَلَى غَيْرِ السَّبَبِ، وَلَا يَكُونُ مُبْتَدَأُ الْكَلَامِ الَّذِي حَكَمَ، وَخَدَشَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ أَنَّ الْغَضَبَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَرِدُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ لَا يَدْفَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: بَلْ الْعِبْرَةُ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بِعُمُومِ اللَّفْظِ

لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَقَوْلُهُ: لَا عَمَلَ لِلْأَسْبَابِ عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا يَخُصُّهُ سِيَاقُهُ. وَقَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي بَابِ بَيْعِ الْعَرَايَا لِلْأَغْنِيَاءِ مَا نَصُّهُ: وَاَلَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَحَلَّهَا لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ، كَمَا قَالَ: تَحِلُّ لَك، وَلِمَنْ كَانَ مِثْلَك، كَمَا قَالَ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْجَذَعَةِ: «تَجْزِيكَ وَلَا تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» ، وَكَمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ فَلَمْ يُرَخِّصْ فِيهَا إلَّا لِلْمُضْطَرِّ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْفَرَائِضِ نَزَلَ بِأَسْبَابِ قَوْمٍ، وَكَانَ لَهُمْ وَلِلنَّاسِ عَامَّةً إلَّا مَا بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ أَحَلَّ لِغَيْرِهِ ضَرُورَةً أَوْ حَاجَةً. انْتَهَى. وَقَدْ نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْهُ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي " أَنَّ قَرِينَةَ الْغَضَبِ لَا تَجْعَلَ الْكِنَايَةَ صَرِيحًا " أَنَّهُ إذَا كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا لَمْ أَعْتَبِرْ خُصُوصَ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا لَمْ أَعْتَبِرْ عُمُومَ السَّبَبِ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ: لَوْ مَنَّ عَلَيْهِ بِمَالٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ لَك مَاءً مِنْ عَطَشٍ، انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمَاءِ وَحْدَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: بِكُلِّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ مَالِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَنَا بِاللَّفْظِ، وَبِهِ أَعْتُبِرَ عُمُومُهُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا، وَخُصُوصُهُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ عَامًّا، وَعِنْدَهُ الِاعْتِبَارُ بِالسَّبَبِ دُونَ اللَّفْظِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْ نَقَلَ عَنْهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَصِحَّ هَذَا النَّقْلُ عَنْهُ، كَيْفَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْآيَاتِ نَزَلَ فِي أَسْبَابِ خَاصَّةٍ؟ ثُمَّ لَمْ يَقُلْ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ. وَالسَّبَبُ فِي وُقُوعِ هَذَا النَّقْلِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ يَقُولُ بِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى سَبَبِهِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ تِلْكَ الصُّورَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ جَوَابًا عَنْهُ، وَلَا تَأَخَّرَ الْبَيَانُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَكَسَ ذَلِكَ،

وَقَالَ: دَلَالَتُهُ عَلَى سَبَبٍ عَلَى النُّزُولِ أَضْعَفُ، وَحُكِمَ بِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَلْحَقُهُ وَلَدُ أَمَتِهِ وَإِنْ وَطِئَهَا، مَا لَمْ يُقِرَّ بِالْوَلَدِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» إنَّمَا وَرَدَ فِي أَمَةٍ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي عَبْدِ ابْنِ زَمْعَةَ، فَبَالَغَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُجَوِّزُ إخْرَاجَ السَّبَبِ، وَأَطْنَبَ فِي أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ، كَدَلَالَةِ الْعَامِّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، وَكَوْنُهُ وَارِدًا لِبَيَانِ حُكْمِهِ، فَتَوَهَّمَ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُ يَقُولُ إنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ. قُلْتُ: وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ. قَاصِرًا لِلْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، قَالَ: لِوُرُودِ الْآيَةِ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يُحِلُّونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَيَتَحَرَّجُونَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ مُبَاحَاتِ الشَّرْعِ، فَكَانَتْ سَجِيَّتُهُمْ تُخَالِفُ وَضْعَ الشَّرْعِ وَتُضَادُّهُ، وَكَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ إبَانَةَ كَوْنِهِمْ عَلَى مُضَادَّةِ الْحَقِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَلَّلْتُمُوهُ، وَالْقَصْدُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فَقَطْ. قَالَ: وَلَوْلَا سَبْقُ الشَّافِعِيِّ إلَى ذَلِكَ مَا كَانَ يَسْتَجِيزُ مُخَالَفَةَ تِلْكَ فِي مَصِيرِهِ إلَى حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. انْتَهَى. وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ.

وَذَكَرَ غَيْرُهُ مَوَاضِعَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يُؤْخَذُ مِنْهَا ذَلِكَ. مِنْهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ؛ خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ بِئْرُ بُضَاعَةَ، فَقَصَرَهُ عَلَى سَبَبِهِ. وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ: أَمَّا حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ، فَإِنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَاسِعَةٌ، كَانَ يُطْرَحُ فِيهَا مِنْ الْأَنْجَاسِ مَا لَا يُغَيِّرُ لَهَا لَوْنًا وَلَا طَعْمًا وَلَا رِيحًا، فَقِيلَ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْهَا وَيُطْرَحُ فِيهَا كَذَا؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُجِيبًا: «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، وَكَانَ جَوَابُهُ مُحْتَمِلًا كُلَّ مَاءٍ، وَإِنْ قَلَّ. وَبَيَّنَّا أَنَّ فِي الْمَاءِ مِثْلَهَا إذَا كَانَ مُجِيبًا عَلَيْهَا، فَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُغْسَلَ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا دَلَّ عَلَى أَنَّ جَوَابَهُ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ عَلَيْهَا، وَكَانَ الْعِلْمُ أَنَّهُ عَلَى مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرِ مِنْهَا، وَلَا يَدُلُّ حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَحْدَهُ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهَا مِنْ الْمَاءِ لَا يُنَجَّسُ، وَكَانَتْ آنِيَةُ النَّاسِ صِغَارًا، وَكَانَ فِي حَدِيثِ الْوُلُوغِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَدْرَ مَاءِ الْإِنَاءِ يُنَجَّسُ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُغَيَّرْ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» : إنَّهُ خَرَجَ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ، فَقَصَرَهُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: إنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَجُعِلَ قَوْلُهُ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» خَاصًّا بِالْمَأْكُولِ، فَقَدْ قَصَرَهُ عَلَى سَبَبِهِ.

وَمِنْهَا أَنَّهُ خَصَّصَ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ بِالْحَرْبِيَّاتِ، لِخُرُوجِهِ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ، فَقَالَ: لِمَ قُتِلَتْ وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ؟» وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الْحَرْبِيَّاتِ. وَتَخَلَّصَ بِذَلِكَ عَنْ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِهِ عَلَى مَنْعِ قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ. فَقَدْ أَلْغَى الشَّافِعِيُّ التَّعْمِيمَ وَقَصَرَهُ عَلَى السَّبَبِ. وَمِنْهَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي: لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْفِطْرِ، لِأَنَّ الْفِطْرَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ، فَهَذَا وُرُودٌ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَرَّ بِرَجُلٍ، وَقَدْ أَحْدَقَ بِهِ النَّاسُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ مُسَافِرٌ، قَدْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، فَقَالَ «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ، وَعِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَفِطْرُهُ أَوْلَى. اهـ. قُلْت: وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَنْبَغِي السَّبَقُ بِهِ إلَى نِسْبَةِ الشَّافِعِيِّ إلَى اعْتِبَارِ خُصُوصِ السَّبَبِ، أَمَّا مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مُصَيِّرًا إلَى اعْتِبَارِ السَّبَبِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ التَّخْصِيصَ هُنَا مِنْ السَّبَبِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ التَّأْوِيلِ فِي اللَّفْظِ، وَلَهُ مَحَامِلُ وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ تَطَرُّقُ التَّأْوِيلِ إلَى الْآيَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا مَالِكٌ، وَلَوْلَا فَتْحُ هَذَا الْبَابِ لَكَانَتْ الْآيَةُ نَصًّا فِي الْحَصْرِ، وَهِيَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَا نَسْخَ فِيهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَشَرَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَالْعُذُرَاتِ، وَلَمْ تَنْطَوِ الْآيَةُ عَلَيْهَا، وَكَيْفَ تَجْرِي الْآيَةُ مَعَ هَذَا عَلَى الْعُمُومِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ لَا دَلِيلَ يُصْرَفُ إلَى السَّبَبِ، وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا قَصَرَ الْآيَةَ عَلَى سَبَبِهَا لَمَّا وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِمُحَرَّمَاتٍ كَثِيرَةٍ كَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ الْأُخْرَى عَلَى جَمْعِ الْخَبَائِثِ، فَجَمَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، بِأَنْ قَصَرَ آيَةَ الْإِبْهَامِ عَلَى سَبَبِهَا، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَ «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» فَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهُ رَأَى الْأَخْبَارَ تَعَارَضَتْ، فَلَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، فَحَمَلَهَا عَلَى السَّبَبِ لِلتَّعَارُضِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الدِّبَاغِ فَلَمْ يَقْصُرْ الْحُكْمَ عَلَى السَّبَبِ، وَإِلَّا لَقَصَرَهُ عَلَى خُصُوصِ الشَّاةِ، بَلْ سَائِرُ جِلْدِ الْمَأْكُولِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا أُخْرِجَ جِلْدُ الْكَلْبِ عَنْ الْعَامِّ بِدَلِيلٍ، وَكَذَا مَسْأَلَةُ الْقَطْعِ. وَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا قَصَرَهُ عَلَى سَبَبِهِ لَمَّا عَارَضَهُ قَوْلُهُ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مِنْ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَوَجَبَ تَخْصِيصُ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبِهِ، وَحُمِلَ الْآخَرُ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ السَّبَبَ مِنْ أَمَارَاتِ التَّخْصِيصِ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي. وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ حَدِيثُ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» فَإِنَّمَا اعْتَبَرَ السَّبَبَ لِقَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كَنَظِيرِ مَا سَبَقَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ، كَيْفَ وَقَدْ نَصَّ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ فِي إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، فَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي أُصُولِهِ: قَصَرَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى سَبَبِهِ، وَهُوَ فِيهِ عَبْدٌ بِيعَ، فَظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ، فَجَهِلَ لِمُشْتَرِيهِ خَرَاجُهُ لِضَمَانِهِ إيَّاهُ لَوْ تَلِفَ. قَالَ: فَجَعَلَ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ حُكْمًا فِي الْبُيُوعِ دُونَ الْغُصُوبِ وَإِنْ كَانَتْ الْغُصُوبُ مَضْمُونَةً، وَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ: الْغَاصِبُ يَضْمَنُ مَنْفَعَةَ الْمَغْصُوبِ اسْتَوْفَاهَا أَمْ لَا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي خَرَاجِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْمُشْتَرِي إذَا اسْتَعْمَلَ الْمَبِيعَ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ، فَأَرَادَ الرَّدَّ. اهـ. هَذَا مِنْ الْقَفَّالِ وَالْقَاضِي اعْتِبَارًا لِلسَّبَبِ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ» ، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، إذْ لَا عُمُومَ لِمِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا فِيمَنْ قَضَى بِالشُّفْعَةِ. قُلْت: لَكِنْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . وَهَذِهِ صِيغَةٌ عَامَّةٌ، ثُمَّ رَأَيْت الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَالْحُجَّةُ فِي أَنَّ عَلَى الْغَاصِبِ غَلَّةُ مَا اغْتَصَبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْ الدَّارَ، وَلَمْ يَرْكَبْ الدَّابَّةَ حَدِيثُ مُجَالِدِ بْنِ خَلَّافٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي عَبْدٍ، وَلَيْسَ بِعَيْبِهِ، فَقَضَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْغَلَّةِ لِمَالِك الرَّقَبَةِ، فَذَلِكَ يَقْضِي بِالْغَلَّةِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مَالِكُ الشَّيْءِ. اهـ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ: قِيلَ: إنَّ الشَّافِعِيَّ أَشَارَ إلَى اعْتِبَارِ خُصُوصِ السَّبَبِ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» مَقْصُودٌ عَلَى سَبَبِهِ. وَقَالَ

فِي قَوْلِهِ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي ثِمَارِهِمْ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي مَوَاضِعَ مُحَوَّطَةٍ. وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ قَالُوا: إنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا لِأَدِلَّةٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ فَمَذْهَبُهُ إجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ. اهـ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي أُصُولِهِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ أَيْضًا: كُلُّ خِطَابٍ حَصَلَ عِنْدَ حُدُوثِ مَعْنًى، فَإِنْ كَانَ فِي الْخِطَابِ أَوْ غَيْرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْحُكْمَ فِي الْمَعْنَى فَالنَّظَرُ إلَى الْمَعْنَى ابْتِدَاءً سَوَاءٌ كَانَ أَعَمَّ مِنْ الِاسْمِ أَوْ أَخَصَّ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ فَالْحُكْمُ لِلِاسْمِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي الْقَصْرَ عَلَى السَّبَبِ، فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ كَمَا فَعَلَ فِي الْآيَةِ، وَفِي حَدِيثِ «الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ» ، وَبِئْرِ بُضَاعَةَ، وَغَيْرِهَا. وَحَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَصْحَابِنَا. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَصْرِ عَلَى السَّبَبِ لِدَلِيلِ الْعَمَلِ بِهِ مُطْلَقًا، فَمِنْ هَاهُنَا مَثَارُ الْغَلَطِ عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَقَدْ عَمِلُوا بِحَدِيثِ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» مُطْلَقًا فِي الْإِمَاءِ وَالْحَرَائِرِ وَالْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْمَنْكُوحَةِ مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي التَّدَاعِي فِي وَلَدِ الْمَمْلُوكَةِ، وَعَمِلُوا بِحَدِيثِ الْعَرَايَا مُطْلَقًا، لِلْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، مَعَ أَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْفُقَرَاءِ. وَكَذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ الرَّمَلِ ثَبَتَتْ مُطْلَقًا، وَإِنْ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، وَقَدْ زَالَ. وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَحْصُرُهُ عَدُوٌّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَرَدَتْ عَلَى سَبَبٍ

خَاصٍّ، وَهُوَ صَدُّ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبَيْتِ، أَوْ يُقَالُ: إنَّ الْعَامَّ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَرَدَ مَقْصُودًا بِهِ حَقِيقَةُ السَّبَبِ، وَمُؤَثِّرًا فِي دَفْعِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَرِدَ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ خِلَافٌ. وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيَّ لَمَّا جَزَمَ الْقَوْلَ بِالْحُكْمِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، قَالَ: يَعُمُّ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يَرِدْ عَلَى سَبَبٍ أَقْوَى وَهَذَا دُونَهُ، قَالَ: وَلَا جُرْمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ لَا نَرَى دَلَالَتَهُ عَلَى حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا رَآهُ مَالِكٌ، فَإِنَّهُ نَزَلَ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي تَنَاوُلِ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ لَا مُحَرَّمَ مِمَّا يَأْكُلُونَ إلَّا كَذَا وَكَذَا يَعُمُّ، قَدْ بَانَ الشَّرْعُ بِصِيغَةٍ فِي تَمْهِيدِ قَاعِدَةٍ. ثُمَّ يُجْعَلُ مَحَلُّ السُّؤَالِ كَالْفَرْعِ لَهُ، أَوْ كَالْمِثَالِ، فَذَلِكَ لَا يُوهِنُ التَّعَلُّقَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ثُمَّ قَالَ: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ» الْحَدِيثَ. وَمَحَلُّ السُّؤَالِ الْهِجْرَةُ، وَلَكِنْ اللَّفْظُ لَا يَتَأَثَّرُ وَلَا يَنْحَطُّ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَفِيهِ بَحْثٌ. اهـ. وَيَجْتَمِعُ مِمَّا سَبَقَ فِي الْمَنْسُوبِ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: حِكَايَةُ قَوْلَيْنِ لَهُ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّانِيَةُ: تَنْزِيلُهُمَا عَلَى حَالَيْنِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا. أَخِيرًا. وَالثَّالِثَةُ: الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَهِيَ طَرِيقَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَالرَّابِعَةُ: الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَهِيَ الْمَشْهُورُ الْخَامِسَةُ: الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِهِ فِيمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى الْقَصْرِ عَلَى السَّبَبِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنَقِّحَةٌ لِلرَّابِعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ فِيمَا إذَا كَانَ الْجَوَابُ أَعَمُّ مِنْ السُّؤَالِ] : وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: الْوَقْفُ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَعْضَ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ".

الخطاب الوارد على سبب لواقعة وقعت

الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ سُؤَالَ سَائِلٍ فَيَخْتَصُّ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ وُقُوعَ حَادِثَةٍ فَلَا. حَكَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ ". وَالْخَامِسُ: إنْ عَارَضَهُ عُمُومٌ خَرَجَ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبَبِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ: وَلِذَلِكَ قَصَرْنَا نَهْيَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ عَلَى الْحَرْبِيَّاتِ دُونَ الْمُرْتَدَّاتِ، لِمُعَارَضَتِهِ قَوْلَهُ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا عَيْنُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي، لِأَنَّ الْمُعَمِّمِينَ شَرَطُوا عَدَمَ الْمُعَارِضِ. [الْخِطَابُ الْوَارِدُ عَلَى سَبَبٍ لِوَاقِعَةٍ وَقَعَتْ] هَذَا كُلُّهُ فِي الْخِطَابِ الْخَارِجِ جَوَابًا لِسُؤَالٍ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ لِوَاقِعَةٍ وَقَعَتْ، فَقَالَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ، كَقَوْلِهِ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» . وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: إمَّا أَنْ يَرِدَ فِي اللَّفْظِ قَرِينَةٌ تُشْعِرُ بِالتَّعْمِيمِ، كَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَالسَّبَبُ رَجُلٌ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ، فَالْإِتْيَانُ بِالسَّارِقَةِ مَعَهُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَكَذَلِكَ عَنْ الْإِفْرَادِ إلَى الْجَمْعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]

فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ أَخَذَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، وَتَغَيَّبَ بِهِ، وَأَبَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِيلَ: إنَّ عَلِيًّا أَخَذَهُ مِنْهُ، وَأَبَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، فَنَزَلَتْ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ إيَّاهُ. وَقَالَ: «خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ خَالِدَةً مُخَلَّدَةً فِيكُمْ أَبَدًا، لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلَّا ظَالِمٌ» فَقَوْلُهُ: " الْأَمَانَاتِ " قَرِينَةٌ مُشْعِرَةٌ بِالتَّعْمِيمِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَرِينَةٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْهُودِ، إلَّا أَنْ يُفْهَمَ مِنْ نَفْسِ الشَّارِعِ قَصْدُ تَأْسِيسِ قَاعِدَةٍ، فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ الْعُمُومُ لَفْظًا آخَرَ غَيْرَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَيَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَتَجْرِي فِيهِ الْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ. وَيَزِيدُ هُنَا قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ ذَكَرَ السَّبَبَ فِي كَلَامِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ، إلَّا إذَا وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ يَلْحَقُ بِبَيَانِ: (حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ) ، كَنَهْيِهِ عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ مَعَ قَوْلِهِ: «إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ» ؛ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ مِنْ غَيْرِهِ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا السَّبَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] فَإِنَّهُ عَلَى سَبَبِ الِاخْتِيَانِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ اخْتَانَ وَمَنْ لَمْ يَخْتَنْ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَابْنُ فُورَكٍ، وَنَسَبَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ: وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ سُقُوطَ قِيَامِ اللَّيْلِ مَخْصُوصٌ بِالْمَرَضِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عِنْدَ

تَخْفِيفِهِ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20] قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: وَذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَسْبَابَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَسْبَابٌ تَقْتَضِي لِأَجْلِهَا الْحُكْمَ فِي الِابْتِدَاءِ، فَيَدْخُلُ الْمُتَعَقِّبُ وَالِابْتِدَاءُ. وَالثَّانِي: لِأَجْلِهَا كَانَ الْحُكْمُ، وَمَا يَرْتَفِعُ السَّبَبُ إلَّا يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يُتَأَمَّلَ الْخِطَابُ. فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ عَامًّا عَمَّمْنَاهُ، وَلَمْ يُرَاعَ السَّبَبُ، وَإِنْ كَانَتْ الرُّخْصَةُ مَنُوطَةً بِالسَّبَبِ عَلَّقْنَاهُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى السَّبَبُ إلَى غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا تُحْمَلُ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ أَنْ لَا تَظْهَرَ قَرِينَةٌ تُوجِبُ قَصْرَهُ عَلَى السَّبَبِ مِنْ الْعَادَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ ظَهَرَتْ وَجَبَ قَصْرُهُ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، كَقَوْلِهِ فِي جَوَابِ تَغَدَّ عِنْدِي: وَاَللَّهِ لَا تَغَدَّيْت، فَالْعَادَةُ تَقْتَضِي قَصْرَ الْغَدَاءِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، يَعْنِي: فَلَا يَحْنَثُ إذَا تَغَدَّى عِنْدَ غَيْرِهِ. وَكَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ: كَلِّمْ زَيْدًا، أَوْ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت، وَلَا كَلَّمْت، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ قَصْدَهُ تَخْصِيصُ الْيَمِينِ بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ. قَالَ الْقَاضِي: وَعِنْدَ هَذِهِ الْقَرِينَةِ لَا خِلَافَ فِي قَصْرِهِ عَلَى السَّبَبِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ حَيْثُ لَمْ يُعْلَمْ. قَالَ: وَالطَّرِيقُ إلَى هَذِهِ الْقَرِينَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ مُتَعَذِّرٌ، لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ، أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى مَا خَرَجَ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ بَعْدَ أَنْ صَحَّحَ عُمُومَ اللَّفْظِ: هَذَا فِي الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يَتَقَدَّمُ

خُصُوصُهُ بِدَلِيلٍ، فَإِنْ عُلِمَ بِقَرِينَةِ حَالٍ إرَادَةُ الْخُصُوصِ، مِثْلُ: أَنْ يَقُولَ: كَلِّمْ زَيْدًا، فَيُقَالُ: وَاَللَّهِ لَا تَكَلَّمْت، فَيُفْهَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ لَا تَكَلَّمْت مَعَهُ، فَلَا يُحْمَلُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى التَّعْمِيمِ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِ الْقَاضِي: لَا خِلَافَ فِي قَصْرِهِ عَلَى السَّبَبِ نَظَرٌ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي: لَا أَشْرَبُ لَك مَاءً مِنْ عَطَشٍ، أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ طَعَامِهِ، وَلُبْسِ ثِيَابِهِ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَوْرِدِ الْيَمِينِ، وَهُوَ الْمَاءُ خَاصَّةً. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ عَنْ " الْمُبْتَدِئِ " لِلرُّويَانِيِّ: أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: كَلِّمْ زَيْدًا، فَقَالَ: وَاَللَّهُ لَا كَلَّمْته، انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْأَبَدِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْيَوْمَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَلَاقٍ وَقَالَ أَرَدْت الْيَوْمَ، لَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ الْأَصْحَابُ فِيمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ صَدِيقُهُ، فَقَالَ: تَغَدَّ مَعِي، فَامْتَنَعَ فَقَالَ: إنْ لَمْ تَتَغَذَّ مَعِي فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، فَلَمْ يَفْعَلْ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لَوْ تَغَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ مَعَهُ، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ، فَإِنْ نَوَى الْحَالَ فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَهُوَ يُخَالِفُ قَوْلَ الْأُصُولِيِّينَ: إنَّ الْجَوَابَ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ وَالْعُرْفُ يَقْضِي بِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ فِي حُكْمِهِ الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ بِوَضْعِهِ فَيَكُونُ عَلَى حَسَبِ السُّؤَالِ. وَرَأَى الْبَغَوِيّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْحَالِ لِلْعَادَةِ، وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَ، الْأُصُولِيِّينَ. وَلَوْ دُعِيَ إلَى مَوْضِعٍ فِيهِ مُنْكَرٌ، فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَحْضُرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ تَسْتَمِرُّ. وَإِنْ رُفِعَ الْمُنْكَرُ. كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ وَالْعُنْوَانِ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لَمْ يَقْتَضِ السِّيَاقُ التَّخْصِيصَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مُنْشَؤُهُمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَهُوَ مُقْتَضٍ لِلتَّخْصِيصِ بِلَا نِزَاعٍ، لِأَنَّ السِّيَاقَ مُبَيِّنٌ

لِلْمُجْمَلَاتِ، مُرَجِّحٌ لِبَعْضِ الْمُحْتَمَلَاتِ، وَمُؤَكِّدٌ لِلْوَاضِحَاتِ. قَالَ: فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا وَلَا يُغْلَطْ فِيهِ، وَيَجِبُ اعْتِبَارُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالْقَرَائِنُ، لِأَنَّ بِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ مَقْصُودُ الْكَلَامِ. وَصَرَّحَ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ بِأَنَّ ذَلِكَ بَحْثٌ، وَكَلَامُ الْقَاضِي السَّابِقُ يَشْهَدُ لَهُ. الثَّانِي: قَالَ الْمَازِرِيُّ: لَوْ خَرَجَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ، هَلْ تَقْتَضِي الصِّيَغُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْعُمُومَ، أَوْ تُحْمَلُ عَلَى الْعَهْدِ؟ لَكَانَ لَائِقًا، فَمَنْ يَقْصِرُ اللَّفْظَ عَلَى سَبَبِهِ يَجْعَلُهَا لِلْعَهْدِ، وَمَنْ يُعَمِّمُهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تَصْرِفُهُ إلَى الْعَهْدِ، وَالْقَائِلُونَ بِالتَّعْمِيمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُمْ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَقْصِرُونَهُ عَلَى السَّبَبِ وَعَلَى مُقْتَضَى مَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ أَوْرَدَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ سُؤَالًا، وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ النُّحَاةِ: إنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُهَا عَلَى الْعَهْدِ لَا تُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ: إنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ؛ بَلْ لَهُ صِيَغٌ كَثِيرَةٌ، فَإِنْ أَوْرَدَ مَا إذَا كَانَتْ الصِّيغَةُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ، قُلْنَا: إرَادَةُ الْعُمُومِ قَرِينَةٌ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِلَفْظِهِ، فَيَعُمُّ إلَّا إذَا كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يَمْنَعُ الْعُمُومَ كَالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْعَهْدِيَّةِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْعُمُومِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَهْدِ. وَالْحَقُّ أَنَّ السُّؤَالَ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ الْأُصُولِيِّينَ لَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْمَقَالَتَيْنِ، وَلَمْ يُخَالِفُوا أَصْلَهُمْ، بَلْ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْعُمُومُ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، فَلِهَذَا لَمْ يُقْصِرُوهُ عَلَى سَبَبِهِ، وَعِنْدَ النُّحَاةِ الْأَصْلُ الْعَهْدُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الصِّيَغِ أَنَّ مُعْظَمَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّهَا لِلْعُمُومِ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تَصْرِفُهَا إلَى الْعَهْدِ، وَأَنَّ الْمُخَالِفَ فِيهِ ابْنُ مَالِكٍ، وَأَنَّ إلْكِيَا الطَّبَرِيَّ نَقَلَهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ. لَكِنْ فِي نِسْبَتِهِ لِجَمِيعِ

إذا كان سبب الواقعة شرطا فهل يعم الخطاب الوارد على تلك الواقعة

النَّجَاةِ نَظَرٌ، فَقَدْ سَبَقَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ السَّرَّاجِ النَّحْوِيِّ مُوَافَقَةُ الْأُصُولِيِّينَ. وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ السُّؤَالَ لَا عَلَى جِهَةِ الْجَمْعِ، فَقَالَ: إذَا كَانَتْ الْقَرِينَةُ تُصْرَفُ إلَى الْعَهْدِ، وَتَمْنَعُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ، فَهَلَّا جَعَلْتُمْ الْعَامَّ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مَصْرُوفًا إلَى الْعَهْدِ بِقَرِينَةِ السَّبَبِ الْخَاصِّ، وَقُلْتُمْ: وَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ تَقَدُّمَ السَّبَبِ الْخَاصِّ قَرِينَةٌ فِي أَنَّهُ مُرَادٌ لَا أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ، فَنَحْنُ نَعْمَلُ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ، فَنَقُولُ: دَلَالَةُ هَذَا الْعَامِّ عَلَى مَحَلِّ السَّبَبِ قَطْعِيَّةٌ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ ظَنِّيَّةٌ، إذْ لَيْسَ فِي السَّبَبِ مَا يُثْبِتُهَا، وَلَا مَا يَنْفِيهَا. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْعُدُولَ عَمَّا يَقْتَضِيهِ السَّبَبُ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَةِ الْعُمُومِ. وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، قَالَ: فَإِنْ قُلْت: فَكَيْفَ قِيلَ: مَسَاجِدُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْمَنْعُ وَالتَّخْرِيبُ عَلَى مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، أَوْ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ؟ قُلْت: لَا بَأْسَ أَنْ يَجِيءَ الْحُكْمُ عَامًّا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ آذَى صَالِحًا وَاحِدًا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ آذَى الصَّالِحِينَ؟ وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وَالْمَنْزُولُ فِيهِ الْأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ. قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِ (مِمَّنْ مَنَعَ) الْعُمُومُ كَمَا أُرِيدَ بِمَسَاجِدِ اللَّهِ، وَلَا يُرَادُ الَّذِينَ مَنَعُوا بِأَعْيَانِهِمْ. [إذَا كَانَ سَبَبُ الْوَاقِعَةِ شَرْطًا فَهَلْ يَعُمُّ الْخِطَابُ الْوَارِدُ عَلَى تِلْكَ الْوَاقِعَةِ] الثَّالِثُ: حَيْثُ قُلْنَا: إنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَاسْتَثْنَى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ السَّبَبُ شَرْطًا،

تحقيق مرادهم بالسبب

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] فَالْأَوَّابُونَ عَامٌّ فِي كُلِّ أَوَّابٍ مَاضِيًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا قَالَ: فَيَجِبُ فِي هَذَا الْعُمُومِ أَنْ يُخَصَّصَ بِنَا، وَالْعِدَّةُ بِالْغُفْرَانِ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: (إنْ تَكُونُوا) وَلَا يَعُمُّ هَذَا جَمِيعَ الْخَلَائِقِ وَلَا جَمِيعَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّعَالِيقَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ، وَالْجَزَاءُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا أَسْبَابُ تِلْكَ التَّعَالِيقِ، وَصَلَاحُ الْمُخَاطَبِينَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاحِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ، لِأَنَّ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ تَخْتَصُّ فَائِدَتُهُ بِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فَالْحَقُّ الْعُمُومُ. حَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، لَا بَأْسَ بِهِ. قُلْت: وَارْتَضَاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالْقَرَافِيُّ. [تَحْقِيقُ مُرَادِهِمْ بِالسَّبَبِ] الرَّابِعُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبَبِ هُنَا السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ، كَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ؛ بَلْ السَّبَبُ فِي الْجَوَابِ. قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَسَبَقَ مَنْقُولُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبَبِ هُنَا مَا يُوَلِّدُ الْفِعْلَ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الدَّاعِي إلَى الْخِطَابِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَالْبَاعِثِ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ فِي خِطَابِ الْحُكْمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى سَبَبِهِ، أَيْ دَاعِيَتُهُ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " كَمَا سَبَقَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبَبِ عَيْنَ مَا وَقَعَ الْحُكْمُ بِسَبَبِهِ، بَلْ هُوَ أَوْ مِثْلُهُ، أَوْ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْهُ، حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ الْعِلْمُ أَنَّهُ عَلَى مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا. وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا مُتَمَسِّكَ لِلْمُسْتَدِلِّينَ بِآيَةِ السَّرِقَةِ، وَاللِّعَانِ، وَالظِّهَارِ،

وَغَيْرِهَا، عَلَى التَّعْمِيمِ، وَعَدَمِ الْقَصْرِ عَلَى السَّبَبِ، فَإِنَّ الْقَطْعَ، وَأَحْكَامَ اللِّعَانِ، وَالظِّهَارِ، ثَبَتَتْ فِيمَنْ كَانَ مِثْلَ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْعُمُومِ، وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: إلْحَاقُ مِثْلِهِ، أَوْ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، إنْ كَانَ بِالْقِيَاسِ، فَخُرُوجٌ عَنْ مَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ اللَّفْظِ، لَزِمَ اتِّحَادُ الْقَوْلِ بِالْقَصْرِ عَلَى السَّبَبِ. وَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ، ثُمَّ مِنْ أَيِّ الدَّلَالَاتِ هُوَ؟ فَلْيُتَأَمَّلْ ذَلِكَ. الْخَامِسُ: قَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ أَنْ تُتَرْجَمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ إذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ. أَوْ فِي سَبَبٍ خَاصٍّ، وَلَا يُقَالُ عِنْدَ سَبَبٍ خَاصٍّ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّك إذَا قُلْت: عِنْدَ سَبَبٍ خَاصٍّ، فَلَيْسَ لِلسَّبَبِ تَعَلُّقٌ بِهِ أَصْلًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِك: ضَرَبْت الْعَبْدَ عَلَى قِيَامِهِ، وَضَرَبْته عِنْدَ قِيَامِهِ. فَفِي الْأَوَّلِ جَعَلْت الْقِيَامَ سَبَبًا لِلضَّرْبِ بِخِلَافِ الثَّانِي. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهِيَ مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ. السَّادِسُ: هَذَا الْعَامُّ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً فِي مَوْضِعِ السَّبَبِ أَوْ السُّؤَالِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ دَلَالَتُهُ عَلَى صُورَةِ السَّبَبِ أَقْوَى، فَلِهَذَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ: إنَّهَا قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ، فَهُوَ نَصٌّ فِي سَبَبِهِ، ظَاهِرٌ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا قَطْعِيَّةً فِي السَّبَبِ لِاسْتِحَالَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُسْأَلَ عَنْ بَيَانِ مَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ فَيَضْرِبُ عَنْ بَيَانِهِ وَيُبَيِّنُ غَيْرَهُ مِمَّا لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذَا الْعَامِّ بِدَلِيلٍ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُمُومَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ صُورَةِ السَّبَبِ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الْعَامَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، وَكَوْنُهُ وَارِدًا لِبَيَانِ حُكْمِهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَوَّزَ إخْرَاجَ صُورَةِ السَّبَبِ عَنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، إجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْعَامِّ الْمُبْتَدَأِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ بَعْضِ آحَادِهِ مُطْلَقًا، وَاسْتُنْبِطَ ذَلِكَ مِنْ مُصَيِّرِهِ إلَى أَنَّ الْحَامِلَ لَا تُلَاعَنُ، مَعَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ

فِي امْرَأَةِ الْعَجْلَانِيُّ، وَكَانَتْ حَامِلًا، وَمِنْ مُصَيِّرِهِ إلَى أَنَّ وَلَدَ الْمَشْرِقِيَّةِ يَلْحَقُ بِفِرَاشِ الْمَغْرِبِيِّ مَعَ عَدَمِ الِاحْتِمَالِ، تَلَقِّيًا مِنْ قَوْلِهِ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ، وَقَدْ وَرَدَ فِي عَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ إذْ تَدَاعَى وَلَدَ وَلِيدَةِ أَبِيهِ، وَكَانَتْ رَقِيقَةً، وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الْأَمَةَ إذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لَا يَلْحَقُ السَّيِّدَ إلَّا إنْ أَقَرَّ بِهِ. فَقَالَ بِالْخَبَرِ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ، وَهُوَ الْحُرَّةُ، فَأَلْحَقَهُ بِصَاحِبِ فِرَاشِهَا، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ، وَهُوَ الْأَمَةُ فَلَمْ يَلْحَقْ وَلَدُهَا بِصَاحِبِ فِرَاشِهَا، فَاسْتُعْمِلَ عُمُومُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ، وَأُخْرِجَ مَا وَرَدَ فِيهِ عَنْ حُكْمِهِ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ عُمِلَ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ مُطْلَقًا، حَيْثُ أُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالْفِرَاشِ فِي الْحُرَّةِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ نَفْيُهُ كَالْمَغْرِبِيَّةِ مَعَ الْمَشْرِقِيِّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَكَذَا خِلَافُهُمْ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ، هِيَ سُنَّةٌ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي عِيدِ الْفِطْرِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] وَقَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي الْأَوَّلَيْنِ: الظَّنُّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ أَنْكَرَهُ الْمُقْتَرِحُ، وَقَالَ: لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثَانِ. قُلْت: وَلَوْ صَحَّ نِسْبَةُ ذَلِكَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ هَذَا لَلَزِمَ نِسْبَتُهُ إلَى مَالِكٍ أَيْضًا فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ بِالْقِيَافَةِ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ لَا الْحُرَّةِ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْحُرَّةِ.

وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّحْلِيلُ، لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ بِخِلَافِ الْحَجِّ، مَعَ أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ إنَّمَا نَزَلَتْ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمٌ بِالْعُمْرَةِ، وَتَحَلَّلَ بِسَبَبِ الْإِحْصَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: قَوْلُهُمْ: إنَّ دُخُولَ السَّبَبِ قَطْعِيٌّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِيمَا إذَا دَلَّتْ قَرَائِنُ حَالِيَّةٌ أَوْ مَقَالِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ يَشْمَلُهُ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ لَا مَحَالَةَ، وَإِلَّا فَقَدْ يُنَازِعُ الْخَصْمُ فِي دُخُولِهِ وَضْعًا بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْعَامِّ إخْرَاجَ السَّبَبِ وَبَيَانَ أَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْحُكْمِ، فَإِنَّ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَقُولُوا فِي عَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي أَمَةٍ، فَهُوَ وَارِدٌ لِبَيَانِ حُكْمِ ذَلِكَ الْوَلَدِ، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إمَّا بِالثُّبُوتِ أَوْ الِانْتِفَاءِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفِرَاشَ هِيَ الزَّوْجَةُ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُتَّخَذُ لَهَا الْفِرَاشُ غَالِبًا، وَقَالَ: الْوَالِدُ لِلْفِرَاشِ، كَانَ فِيهِ حَصْرُ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْحُرَّةِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ لِلْأَمَةِ، فَكَانَ فِيهِ بَيَانُ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا نَفْيُ السَّبَبِ عَنْ الْمُسَبِّبِ، وَإِثْبَاتُهُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَلِيقُ دَعْوَى الْقَطْعِ هُنَا، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ نِزَاعٌ فِي أَنَّ اسْمَ الْفِرَاشِ هَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ أَوْ الْحُرَّةِ فَقَطْ؟ الْحَنَفِيَّةُ يَدَّعُونَ الثَّانِيَ، فَلَا عُمُومَ عِنْدَهُمْ لَهُ فِي الْأَمَةِ، فَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ عَنْ هَذَا الْبَحْثِ. نَعَمْ، قَالَهُ: «هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» يَقْتَضِي أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِهِ عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ الْفِرَاشَ.

قُلْت: وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُعَاكِسُ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ أَصْلَهُمَا ذَهَابُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ إلَى أَنَّ التَّحَلُّلَ فِي الْحَجِّ مَخْصُوصٌ بِحَصْرِ الْعَدُوِّ وَمَنَعَاهُ فِي الْمَرَضِ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] نَزَلَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ الْحُصْرُ بِعَدُوٍّ، فَاعْتَبَرَ خُصُوصَ السَّبَبِ، وَخَالَفَهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ فَاعْتَبَرَ عُمُومَ اللَّفْظِ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَجِّ بِالْأَعْذَارِ، فَإِنَّ الْإِحْصَارَ عِنْدَ الْمُعْتَبِرِينَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِإِحْصَارِ الْأَعْذَارِ، وَالْحَصْرُ مَوْضُوعٌ لِحَصْرِ الْعَدُوِّ. قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَحَلَّ السَّبَبِ يَقْتَضِي حَصْرَ الْعَدُوِّ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَلَّ عَلَى حَصْرِ الْعَدُوِّ، كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى حَصْرِ الْأَعْذَارِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى، فَنَزَلَتْ لِتَدُلَّ عَلَى إحْصَارِ الْعَدُوِّ بِمَنْطُوقِهَا، وَعَلَى إحْصَارِ الْعُذْرِ بِمَفْهُومِهَا، فَتَنَاوَلَتْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُرِّرَ بِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَصْرِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196] وَالْأَمْنُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي زَوَالِ الْخَوْفِ مِنْ الْأَعْدَاءِ دُونَ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْأَعْذَارِ، وَأَجَابَ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا دَلَّتْ عَلَى التَّحَلُّلِ بِالْحَصْرِ رَجَعَ الْأَمْرُ إلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا بِطَرِيقِ اللَّفْظِ، وَإِنْ جَعَلْنَا حَصَرَ وَأُحْصِرَ لُغَتَيْنِ دَلَّ أُحْصِرَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَرَجَعَ لَفْظُ الْأَمْنِ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. قَالَ: وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ،

فَإِنَّ مَنْ انْكَسَرَتْ رِجْلُهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إلَى الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، يَبْقَى فِي بَقِيَّةِ عُمُرِهِ حَاسِرَ الرَّأْسِ، مُجَرَّدًا عَنْ اللِّبَاسِ، مُحَرَّمًا عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، بَعِيدٌ شَرْعًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الْكَلَامَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِحَدِيثِ: «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» . قَالَ: وَلَوْ جَازَ الْكَلَامُ فِي مَصْلَحَتِهَا لَمَا أُمِرَ الْمَأْمُورُ فِي ذَلِكَ إذَا نَابَ الْإِمَامَ شَيْءٌ، وَيَلْزَمُ مَالِكًا إخْرَاجُ مَحَلِّ السَّبَبِ مِنْ الْعُمُومِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ عَلَى شَيْءٍ نَابَ أَبَا بَكْرٍ فِي صَلَاتِهِ، لَمَّا صَلَّى بِهِمْ وَصَفَّقُوا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ» ، فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ السَّبَبِ، وَيُعْتَبَرُ اللَّفْظُ، حَتَّى لَوْ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ شَخْصٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ رَأَى أَعْمَى يَقَعُ فِي بِئْرٍ فَإِنَّهُ يُفَهِّمُهُ بِالتَّسْبِيحِ. السَّابِعُ: أَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّ السَّبَبَ دَاخِلٌ قَطْعًا أَنَّهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ حِينِ نُزُولِهَا فَكَيْفَ يَنْعَطِفُ عَلَى مَا مَضَى؟ وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ شَمِلَهُ الظِّهَارُ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ وَارِدٌ عَلَى سَبَبٍ. وَيَخُصُّ آيَةَ الظِّهَارِ وَاللِّعَانِ إشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ " الَّذِينَ " فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ " فَتَحْرِيرُ " أَيْ فَكَفَّارَتُهُمْ تَحْرِيرُ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَجَازَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَتَضَمُّنِ الْخَبَرِ مَعْنَى الْجَزَاءِ. فَإِذَا أُرِيدَ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَحَقٌّ بِالصِّلَةِ دَخَلَتْ الْفَاءُ حَتْمًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ. كَمَا لَوْ قِيلَ: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ عَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ: إنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِنَصٍّ وَدُخُولُ الْفَاءِ نَصٌّ.

إذَا عَرَفْت هَذَا فَالْآيَةُ لَا تَشْمَلُ إلَّا مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الظِّهَارُ بَعْدَ نُزُولِهَا، لِأَنَّ نَفْيَ الشَّرْطِ مُسْتَقْبَلٌ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاضِي، وَقَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْكَفَّارَةَ عَلَى أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَذَلِكَ لَا شَكَّ فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ السَّبَبُ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ إثْبَاتَ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ السَّبَبُ قَبْلَ نُزُولِهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ كَانَتْ مَعْلُومَةَ التَّحْرِيمِ، كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَى، وَوُجُوبُ الْحَدِّ فِيهِمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَالْفَاعِلُ لَهَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ إذَا كَانَ هُوَ السَّبَبُ فِي نُزُولِهَا مِنْ حُكْمِ الْمُقَارِنِ لَهَا، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِهِ فَلِذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُهَا فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلَ، وَسَبَبُ النُّزُولِ حَاضِرٌ أَوْ فِي الْحُكْمِ الْحَاضِرِ، وَأَمَّا دَلَالَةُ الْفَاءِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ يُمْنَعُ. الثَّامِنُ: أَنَّ الْعُمُومَ الْخَارِجَ مَخْرَجَ التَّشْرِيعِ أَوْلَى مِنْ الْخَارِجِ عَلَى سَبَبٍ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» مَعَ قَوْلِهِ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ» ، فَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّشْرِيعِ، وَالْأَوَّلُ أَمْكَنَ خُرُوجُهُ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ تَرَكَ الرَّاوِي ذِكْرَ سَبَبِهِ قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَصِيرُ احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ لِلْخَارِجِ عَلَى سَبَبٍ أَقْرَبَ مِمَّا

لَمْ يَخْرُجْ عَلَى سَبَبٍ، وَيَقْنَعُ فِيهِ بِدَلِيلٍ أَخَفَّ وَأَضْعَفَ. وَقَدْ يُصْرَفُ بِقَرِينَةِ اخْتِصَاصٍ بِالْوَاقِعَةِ، وَيَأْتِي فِيهَا مَا ذُكِرَ فِي بَابِ التَّرَاجِيحِ. التَّاسِعُ: لَك أَنْ تَسْأَلَ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْحُكْمَ إذَا شُرِعَ لِحِكْمَةٍ أَوْ سَبَبٍ، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ السَّبَبُ، هَلْ يَبْقَى الْحُكْمُ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ لَا يَبْقَى نَظَرًا لِلْعِلَّةِ؟ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي اسْتِحْبَابِ الذَّهَابِ إلَى الْعِيدِ مِنْ طَرِيقٍ، الرُّجُوعِ مِنْ أُخْرَى. وَتَرْجِيحِهِمْ الْمَيْلَ إلَى تَعْمِيمِ الْحُكْمِ كَمَا فِي الرَّمَلِ، وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ. وَجَعَلَ الرَّافِعِيُّ مِنْهُ أَنَّ الْعَرَايَا لَا تَخْتَصُّ بِالْمَحَاوِيجِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبٌ عَلَى الرُّخْصَةِ وَرَدَ فِي الْمَحَاوِيجِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ. الْعَاشِرُ: إذَا اعْتَبَرْنَا السَّبَبَ فَلَا يَنْبَغِي جَعْلُهُ مِنْ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، بَلْ مِنْ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. فَائِدَةٌ نُزُولُ الْآيَةِ لِمَحَلٍّ لَا يَقْتَضِي تَعَلُّقَهَا بِهِ، وَقَدْ يَخْرُجُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِي الْقَدِيمِ إلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَهُ صِيَامُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَنْ تَمَتُّعِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} [البقرة: 196] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ.

المسألة الثالثة ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم لا يقتضي التخصيص

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الْحُكْمِ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الْحُكْمِ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، بَلْ الْأَوَّلُ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ. قَالَ الْقَفَّالُ: فَصَارَ الْخَاصُّ كَأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ خَبَرَانِ: خَبَرٌ يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ غَيْرَهُ، وَخَبَرٌ يَخُصُّهُ، خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ، فَإِنَّهُ خَصَّصَ الدِّبَاغَ بِالْمَأْكُولِ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» ، مَعَ إفْرَادِهِ ذِكْرَ الشَّاةِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، مَعَ قَوْلِهِ: «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» ، إنْ صَحَّ الْخَبَرُ. وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، فَأَمَّا مَذْهَبُنَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَخَرَّجَ فِيهِ الْخِلَافُ، إلَّا أَنَّ أَجْوِبَتَهُمْ تَطَّرِدُ عَلَى الْأَوَّلِ. قَالَ: وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ لِخَوْلَةِ فِي دَمِ الْحَيْضِ: (اغْسِلِيهِ) ، وَفِي حَدِيثِ عَمَّارٍ: «إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْمَنِيِّ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ» وَحَدِيثِ أَسْمَاءَ: «حُتِّيهِ، ثُمَّ اقْرِضِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ» ، فَذُكِرَ الْمَاءُ وَهُوَ بَعْضُ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ، وَقَالَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: «وَتُرَابُهَا طَهُورًا» ، وَالتُّرَابُ بَعْضُ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: «الطَّعَامُ مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، وَقَالَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: «الْبُرُّ بِالْبُرِّ» فَاخْتَلَفَتْ أَجْوِبَةُ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ جَمِيعًا. انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصْدَرِ: إنَّمَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] وَقَوْلُهُ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] فَأَثْبَتَ الْمُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَةِ الَّتِي هَذِهِ سَبِيلُهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ وَأَنْ لَا يَثْبُتَ لِغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ الَّتِي لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّخْصِيصِ حَيْثُ التَّنَافِي. انْتَهَى. وَقَدْ حَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَسَيَأْتِي فِي التَّخْصِيصِ بِالْمَفْهُومِ، وَقَضِيَّتُهُ جَرَيَانُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ كَمَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ. وَقَدْ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ فِي عَدَمِ التَّخْصِيصِ بِأَنَّ الْمُخَصَّصَ مُنَافٍ ذِكْرَ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَيْسَ بِمُنَافٍ، فَذِكْرُ الْحُكْمِ لَيْسَ بِمُخَصَّصٍ. وَاعْتُرِضَ بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَيْسَ بِمُنَافٍ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ الْمَفْهُومِ، وَفُرِّقَ بَيْنَ مُنَافَاةِ الْحُكْمِ وَبَيْنَ مُنَافَاةِ الذِّكْرِ، فَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَيْسَ بِمُنَافٍ لِثُبُوتِهِ فِي غَيْرِهَا. وَأَمَّا الذِّكْرُ فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ مُنَافَاتِهِ لِأَصْلِ الْمَفْهُومِ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ إنَّمَا يَتَأَتَّى فِي ذِكْرِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ، فَتَخْصِيصُهُ بِمَا لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ كَالصِّفَّةِ مَثَلًا وَلَا يَجِيءُ فِي ذِكْرِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ بِذِكْرِ مَا لَا مَفْهُومَ لَهُ كَاللَّقَبِ، وَاَلَّذِينَ أَوْرَدُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَوْرَدُوهَا عَامَّةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ: لَمَّا كَانَ أَبُو ثَوْرٍ مِمَّنْ يَقُولُ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ ظُنَّ أَنَّهُ يَقُولُ بِالتَّخْصِيصِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَلَعَلَّ أَبَا ثَوْرٍ يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا مِنْ الْعَامِّ، وَتَصِيرُ قَطْعِيَّةً لِمَحَلِّ السَّبَبِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ. فَإِنْ قُلْت: فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مَا فَائِدَةُ هَذَا الْخَاصِّ مَعَ دُخُولِهِ فِي الْعَامِّ؟

قُلْت: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهُ عَدَمَ التَّخْصِيصِ، أَوْ التَّفْخِيمِ وَالْمَزِيَّةِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ، أَوْ اخْتِصَاصِهِ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْكِيدِ، إنْ جَدَّتْ وَاقِعَةٌ بَعْدَ وُرُودِ الْعَامِّ. وَقَدْ يَرْجِعُ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالِ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَامُّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ وَالْقَرِينَةُ فِيهِ الْإِفْرَادُ. وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ وَنِسْبَةُ هَذَا الْمَذْهَبِ لِأَبِي ثَوْرٍ بِهَذَا الْحَالِ، لِأَنَّ اسْتِنْتَاجَ الْكُلِّيَّاتِ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ يُعْتَمَدُ كَوْنُهَا. . . الْخُصُوصِيَّاتِ، وَيُوجَدُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ. وَأَمَّا الْفَرْدُ الْمُعَيَّنُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ لِأَمْرٍ يَخْتَصُّهُ. بَيَانُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَبُو ثَوْرٍ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ طَهَارَةِ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ، وَيُعْتَقَدُ أَنَّ الْمَأْكُولَ يَخْتَصُّ بِمَعْنًى يُنَاسِبُ التَّطْهِيرَ أَوْ التَّخْفِيفَ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ قَرِينَةً فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، كَمَا جَعَلَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَدَمَ اعْتِبَارِ دِبَاغِ جِلْدِ الْكَلْبِ قَرِينَةً تَخُصُّ هَذَا الْعُمُومَ، أَوْ يُمْنَعُ تَطْهِيرُ جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِنَهْيِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْمَذْهَبِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ أَبُو ثَوْرٍ نَصَّ عَلَى الْقَاعِدَةِ فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قُلْت: وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو ثَوْرٍ فِي كِتَابِهِ، فَقَدْ حَكَى عَنْهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ إلَى تَخْصِيصِ الدِّبَاغِ بِالْمَأْكُولِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي جِلْدِ الشَّاةِ: «هَلَّا دَبَغْتُمُوهُ» وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ» قَالَ أَبُو ثَوْرٍ: فَلَمَّا رُوِيَ الْخَبَرَانِ أَخَذْنَا بِهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِيهِمَا. انْتَهَى.

وَيُقَالُ لَهُ: هَذَانِ الْخَبَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ، خَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ. فَإِنَّ خَبَرَ السِّبَاعِ عَامٌّ فِي جُلُودِ السِّبَاعِ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ، وَخَاصٌّ بِالسِّبَاعِ. وَحَدِيثُ «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ» ، عَامٌّ فِي كِلَيْهِمَا، وَخَاصٌّ بِالدِّبَاغِ، وَيَتَأَكَّدُ فِي مِثْلِهِ التَّرْجِيحُ بِأَمْرِهِ خَارِجٌ. الثَّانِي: أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مَفْهُومُهُ مُوَافِقًا. فَإِنْ كَانَ مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ مِثْلُ: خَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ، وَسَائِمَةِ الْغَنَمِ، بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِهِ: «لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَقَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَنَحْوِهِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ، وَسَتَأْتِي. وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ. فَقَالَ: فَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْخَاصِّ، دَلِيلُ خِطَابٍ، فَإِنَّهُ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا تَنَاوَلَهُ دَلِيلُهُ، كَقَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» مَعَ قَوْلِهِ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ» ، فَتَخْرُجُ الْمَعْلُوفَةُ مِنْ قَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» . فَالْمَفْهُومُ كَالْمَنْطُوقِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَاللَّفْظُ الْخَاصُّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْعَامِّ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، مَعَ قَوْلِهِ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَهُ» .

وَقَالَ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بِالتَّخْصِيصِ بِمَا لَيْسَ لَهُ مَفْهُومٌ، كَاللَّقَبِ، فَأَمَّا مَا لَهُ مَفْهُومٌ كَالصِّفَاتِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ أَجَازُوا تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِهِ. قُلْت: وَبِهِ صَرَّحَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: إنَّ ذَلِكَ لَا يُخَصَّصُ أَمَّا إذَا كَانَ إفْرَادُ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ عَلَى مَعْنَى نَفْيِ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ إيَّاهُ كَمَا رُوِيَ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ» ، وَرُوِيَ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ، فَذِكْرُ السَّوْمِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ فِيمَا لَيْسَتْ بِسَائِمَةٍ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا زَكَاةَ إلَّا فِي السَّائِمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إفْرَادَهُ بِالذِّكْرِ عَلَى مَعْنَى مُخَالَفَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لَهُ فِي حُكْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يُجْعَلُ مُخَصَّصًا لِلْعُمُومِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ. قَالَ: وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» عَلَى أَنَّهُ تَحْدِيدٌ لَدَخَلَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِهِ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا عُرِّيَ اللَّفْظُ الْخَاصُّ مِنْ وُجُودِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْمُنَافَاةَ سِوَى خُصُوصِهِ فِي ذَلِكَ الْمُسَمَّى، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَخُصُّ الْعُمُومَ إلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِيهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ

ذكر بعض أفراد العام هل يخصص العام

فِيهَا مُتَعَلِّقًا بِصِفَةٍ، فَيَدُلُّ عَلَى مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَعْلِيلٌ يُوجَدُ فِي بَعْضِ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْعُمُومِ، فَإِذَا عُرِّيَ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ الْخِلَافُ. [ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ هَلْ يُخَصِّصُ الْعَامَّ] الثَّالِثُ: أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَقْصُرُ عَلَى وُرُودِ الْخَاصِّ بِالنَّصِّ بَلْ إذَا وَرَدَ الْعَامُّ، ثُمَّ وَرَدَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاءٌ أَوْ فِعْلٌ بِمَا يُوَافِقُ الْعُمُومَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ بَيَانٌ لِلْعُمُومِ وَمُفَسِّرٌ لَهُ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَمَثَّلَهُ بِقَطْعِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا قِيمَتُهُ ثَلَاثُ دَرَاهِمَ أَوْ عَشَرَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْ أَصْحَابُنَا ثَلَاثَةَ الدَّرَاهِمِ حَدًّا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ، وَلَا عَشَرَةً كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ الرَّأْيِ، لِأَنَّ الْعُمُومَ قَدْ ثَبَتَ بِقَطْعِ السُّرَّاقِ أَمْرًا، وَالتَّقْيِيدُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَا سُرِقَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، لِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ الْخَبَرَيْنِ فِي قِيمَةِ الْمِجَنَّيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ لِأَنَّ قِيمَتَهُمَا قَدْ تَخْتَلِفُ. الرَّابِعُ: قَيَّدَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي بَابِ الْأَوَانِي مِنْ الْمَطْلَبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَقَالَ: مَحَلُّ قَوْلِنَا إنَّ ذِكْرَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لَا يُخَصَّصُ مَا إذَا لَمْ يُعَارِضْ الْعُمُومَ عُمُومٌ آخَرُ، فَإِنْ عَارَضَهُ قُدِّمَ، وَمَثَّلَهُ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ: «هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ» ، وَرِوَايَةِ أَبِي مُوسَى: «حُرِّمَ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» ، فَاقْتَضَى الثَّانِي تَخْصِيصَ الْأَوَّلِ بِاللُّبْسِ، وَقَدْ عَارَضَ عُمُومَ الْأَوَّلِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ: «الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْأَوَانِي

مسألة إذا ذكر العام وعطف عليه بعض أفراده مما حق العموم أن يتناوله

عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْأَوَانِي غَيْرُ حَدِيثِ الِاسْتِعْمَالِ. فَائِدَةٌ لَا مَعْنَى لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا أَنَّا نَقْصُرُ الْحُكْمَ عَلَى تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، أَوْ نَقِيسُ عَلَى تِلْكَ الْوَاقِعَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا مِنْ كُلِّ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، كَمَا فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ. قَالَ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ تَخْصِيصُ الْمَعْنَى الثَّانِي. [مَسْأَلَةٌ إذَا ذُكِرَ الْعَامُّ وَعُطِفَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَفْرَادِهِ مِمَّا حَقُّ الْعُمُومَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ] مَسْأَلَةٌ إذَا ذُكِرَ الْعَامُّ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَفْرَادِهِ مِمَّا حَقُّ الْعُمُومَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، فَهَلْ يَدُلُّ فِيهِ التَّخْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ؟ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنْ وَالِدِهِ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ أَنَّهُ حَكَى خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَامِّ، لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا تَحْتَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْإِفْرَادِ فَائِدَةٌ قُلْت: وَعَلَى هَذَا جَرَى أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ جِنِّي؛ وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى لَيْسَتْ الْعَصْرَ، لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. ثُمَّ قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْعُمُومِ، وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ، أَيْ فَكَأَنَّهُ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْعُمُومِ، وَمَرَّةً بِالْخُصُوصِ. وَفَرَّعَ الرُّويَانِيُّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِدِينَارٍ، وَبِثُلُثِ مَالِهِ

المسألة الرابعة المعطوف إذا كان خاصا لا يوجب التخصيص المذكور في المعطوف عليه

لِلْفُقَرَاءِ، وَزَيْدٌ فَقِيرٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى غَيْرَ الدِّينَارِ، لِأَنَّهُ بِالتَّقْدِيرِ قَطَعَ اجْتِهَادَ الْقَاضِي، جَزَمَ بِهِ فِي الْحَاوِي وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا هَذَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ، وَبِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ الثُّلُثِ عَلَى مَا أَرَادَ الْمُوصِي. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْمَعْطُوفَ إذَا كَانَ خَاصًّا لَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ الْمَذْكُورَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ إذَا كَانَ خَاصًّا لَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ الْمَذْكُورَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَيُوجِبُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ. لَنَا أَنَّ الْعَطْفَ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ. وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ: احْتِجَاجُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحَرْبِ وَالذِّمِّيُّ، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ.

وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: بَلْ هُوَ خَاصٌّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرْبِيُّ، بِقَرِينَةِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَطْفٌ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» فَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ، عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285] ثُمَّ إنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو الْعَهْدِ هُوَ الْحَرْبِيُّ فَقَطْ بِالْإِجْمَاعِ. لِأَنَّ الْمُعَاهَدَ يُقْتَلُ بِالْمُعَاهَدِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ أَيْضًا هُوَ الْحَرْبِيُّ، تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَطْفَ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» كَلَامٌ تَامٌّ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إضْمَارٍ قَوْلِهِ: بِكَافِرٍ، لِأَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالْمُرَادُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْعَهْدَ عَاصِمٌ مِنْ الْقَتْلِ. وَقَدْ ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " إلَى ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: " فِي عَهْدِهِ "، لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: " وَلَا ذُو عَهْدٍ " لَتُوُهِّمَ أَنَّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ عَهْدٌ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ، لَا يُقْتَلُ، فَلَمَّا قَالَ: " فِي عَهْدِهِ " عَلِمْنَا اخْتِصَاصَ النَّهْيِ بِحَالَةِ الْعَهْدِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى رَأْيِكُمْ؟ إذْ لَا يَظْهَرُ

مُنَاسَبَةٌ لِقَوْلِنَا: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» مُطْلَقًا مَعَ قَوْلِنَا: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . أَجَابَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: بِأَنَّ عَدَاوَةَ الصَّحَابَةِ لِلْكُفَّارِ كَانَتْ شَدِيدَةً جِدًّا، فَلَمَّا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» خَشِيَ أَنْ يَتَجَرَّدَ هَذَا الْكَلَامُ، فَتَحْمِلُهُمْ الْعَدَاوَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَتْلِ كُلِّ كَافِرٍ مِنْ مُعَاهَدٍ وَغَيْرِهِ، فَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ مَا مَعْنَاهُ: وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي زَمَنِ عَهْدِهِ الثَّالِثُ: أَنَّ حَمْلَ الْكَافِرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْحَرْبِيِّ لَا يَحْسُنُ، لِأَنَّ هَدْرَ دَمِهِ مِنْ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ قَتْلَ مُسْلِمٍ بِهِ، وَيُبْعِدُ هَذَا الْجَوَابَ قَلِيلًا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَدْلُولَ الْحَدِيثِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] فَالْحَمْلُ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ صَدْرَ الْحَدِيثِ نَفَى فِيهِ الْقَتْلَ قِصَاصًا لَا مُطْلَقَ الْقَتْلِ، فَقِيَاسُ آخِرِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. الرَّابِعُ: سَلَّمْنَا صِحَّةَ التَّقْدِيرِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ تَسَاوِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ لَوْ لُفِظَ بِهِمَا ظَاهِرَتَيْنِ أَمْكَنَ أَنْ يُرَادَ بِإِحْدَاهُمَا غَيْرُ مَا أُرِيدَ بِهِ بِالْأُخْرَى، فَكَذَلِكَ مُنِعَ ذِكْرُ إحْدَاهُمَا، وَتَقْدِيرُ الْأُخْرَى، وَيُؤَيِّدُهُ عُمُومُ: " وَالْمُطَلَّقَاتُ " وَخُصُوصُ " وَبُعُولَتُهُنَّ " مَعَ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ. إذَا عَلِمْت هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ طُرُقُ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَرْجَمَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَرْجَمَهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَادَّعَى أَنَّهُ الصَّوَابُ كَمَا سَيَأْتِي، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرْجَمَهَا كَالْآمِدِيِّ فِي " الْأَحْكَامِ " بِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْعَامِّ: هَلْ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الْمَعْطُوفِ؟ وَهَذِهِ تَشْمَلُ مَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَهِيَ مَا لَوْ قَالَ: لَا

يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِحَرْبِيٍّ، فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ بِاقْتِضَاءِ الْعَطْفِ عَلَى الْعَامِّ الْعُمُومَ، حَتَّى لَا يُقْتَلُ الْمُعَاهَدُ بِكَافِرٍ، حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا. وَمِنْهُمْ مَنْ تَرْجَمَهَا كَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَالْهِنْدِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، بِأَنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ. وَنَاقَشَهُمْ النَّقْشَوَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ تَشْمَلُ صُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: عَامٌّ مَعْطُوفٌ عَلَى عَامٍّ، قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ، كَقَوْلِك: لَا تَضْرِبُ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرْأَةِ غَيْرُ الْقَاذِفَةِ أَوْ شَارِبَةِ الْخَمْرِ، وَوِزَانُهُ هُنَا أَنْ يُقَالَ: لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، ثُمَّ يُخَصَّصُ الْكَافِرُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ. وَالثَّانِيَةُ: عَطْفُ خَاصٍّ بِلَفْظِهِ عَلَى عَامٍّ بِلَفْظِهِ، فَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ تَخْصِيصَ الْأَوَّلِ: كَقَوْلِنَا لَا تَضْرِبْ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً كَهْلَةً؟ فَهَلْ يَخُصُّ الرَّجُلَ بِالْكَهْلِ أَيْضًا؟ وَوِزَانُهُ هُنَا أَنْ يُقَالَ: لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ بِحَرْبِيٍّ. قَالُوا: وَمِثَالُهُمْ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلثَّانِيَةِ، وَالْإِمَامُ تَرْجَمَ لِلثَّانِيَةِ وَمِثَالُهُ إنَّمَا يُطَابِقُ الْأُولَى، وَحِينَئِذٍ فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ تَخْصِيصَ الْمَعْطُوفِ، يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عِلَّتِهِ، وَنَازَعَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ " الْمَحْصُولِ " وَقَالَ: بَلْ كَلَامُهُمْ يَشْمَلُ الصُّورَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْخَاصَّ وَمُرَادُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ خَاصًّا لَفْظًا أَوْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ، وَتَبِعَهُ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ تَرْجَمَةَ الْإِمَامِ تَعُمُّ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَإِنَّ الْخَاصَّ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خُصُوصُهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ أَوْ غَيْرِهِ.

لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً، تَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مَذْكُورًا فِي الْمَعْطُوفِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا لَكِنْ لَا يَكُونُ تَقْدِيرُهُ مُسْتَفَادًا مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرًا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ مُسْتَفَادًا مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَمِنْ حَيْثُ الْخُصُوصُ مُسْتَفَادًا مِنْ تَخْصِيصٍ بِمُنْفَصِلٍ، وَالْحَدِيثُ مِنْ الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَالْبَيَانُ فِي الْجَمِيعِ لَا يَتَفَاوَتُ. انْتَهَى. وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: الْمَقْصُودُ بِالْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ أَنَّ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ إذَا عُطِفَتْ عَلَى الْأُخْرَى، وَكَانَتْ الثَّانِيَةُ تَقْتَضِي إضْمَارًا كَقَوْلِهِ: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» عَلَى مَا تَدَّعِيه الْحَنَفِيَّةُ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَقِيمُ عِنْدَهُمْ بِدُونِ إضْمَارٍ، وَإِلَّا يَلْزَمُ قَتْلُ الْمُعَاهَدِ مُطْلَقًا، فَهَلْ يُضْمَرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؟ ثُمَّ إنْ كَانَ عَامًّا اقْتَضَى الْعَطْفُ عَلَيْهِ تَقْدِيرَ الْعَامِّ، فَكَانَ الْعَطْفُ عَلَى الْعَامِّ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِذَلِكَ، أَوْ يُضْمَرُ مِقْدَارُ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْكَلَامُ فَقَطْ، لِأَنَّ مَا وَرَاءَهُ تَقْدِيرٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: بِالْأَوَّلِ، وَأَصْحَابُنَا بِالثَّانِي. وَقَدْ أَجَادَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " حَيْثُ افْتَتَحَ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ: الْمَعْطُوفُ لَا يَجِبُ أَنْ يُضْمَرَ فِيهِ جَمِيعُ مَا يُمْكِنُ إضْمَارُهُ مِمَّا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ؛ بَلْ بِقَدْرِ مَا يُفِيدُ وَيَسْتَقِلُّ بِهِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَمِيعُ مَا سَبَقَ مِمَّا يُمْكِنُ إضْمَارُهُ. انْتَهَى. وَكَذَا ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " حَيْثُ قَالَ: هَلْ يَجِبُ أَنْ يُضْمَرَ فِي الْمَعْطُوفِ جَمِيعُ مَا يُمْكِنُ إضْمَارُهُ مِمَّا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ؟ وَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُضْمَرُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَخْصُوصًا، فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَخْصُوصًا أَمْ لَا؟ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ تَقْدِيرُ مَا ذُكِرَ فِي الْأُولَى، أَوْ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْكَلَامُ فَقَطْ؟ فَنَحْنُ لَا نُقَدِّرُ إلَّا مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْكَلَامُ فَقَطْ،

وَالْحَنَفِيَّةُ يَجْعَلُونَ الْمُضْمَرَ فِي الثَّانِيَةِ هُوَ الْمُضْمَرَ فِي الْأُولَى. وَقَالُوا: حَرْفُ الْعَطْفِ يَجْعَلُ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الْحُكْمِ وَتَفَاصِيلِهِ، وَسَاعَدَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، حَتَّى قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: كَلَامُهُمْ ظَاهِرٌ جِدًّا. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَفَصَّلَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ أَنْ يُقَيَّدَ الْمَعْطُوفُ بِقَيْدٍ غَيْرِ قَيْدِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَلَا يُضْمَرُ فِيهِ، وَأَنْ يُطْلَقَ فَيُضْمَرُ فِيهِ، وَنَقَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَقُولُونَ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِخُصُوصِ الْخَاصِّ الْمَعْطُوفِ فِيمَا هُوَ مَخْصُوصُ الْمَادَّةِ كَالْحَدِيثِ، وَنَحْوِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. أَمَّا إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ، كَمَا لَوْ قَالَ: ضَرَبْت زَيْدًا وَعَمْرًا قَائِمًا فِي الدَّارِ، فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ هُنَا خَاصٌّ، وَهُوَ أَنَّ ضَرَبْت فِي حَالِ قِيَامِهِ وَحَالَ كَوْنِهِ فِي الدَّارِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ عَامٌّ، فَلَا يَقُولُونَ بِتَخْصِيصِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالضَّابِطُ أَنَّ لِلْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ أَحْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّضِحُ كَوْنُ الثَّانِيَةِ مُسْتَقِيمَةً، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَمِنْهُ فَرِيقٌ لَمْ يُتَرْجِمْ الْمَسْأَلَةَ بِالْعَطْفِ عَلَى الْعَامِّ، هَلْ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَإِذَا عَطَفْت جُمْلَةً عَلَى أُخْرَى، وَكَانَتْ الثَّانِيَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا، وَكَانَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ لَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ، وَقَدْ لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةً أَصْلًا، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} [الشورى: 24] فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَلَا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَتَّضِحَ اسْتِقَامَتُهَا إلَّا بِتَقْدِيرٍ وَإِضْمَارٍ، وَهَذَا مَوْضِعُ

الْخِلَافِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يُقَدِّرُونَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ لَهُ حَالَتَانِ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا فَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَامًّا أَيْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا، فَيَكُونُ خَاصًّا وَهَذِهِ الْحَالَةُ عِنْدَهُمْ تُشَارِكُ الثَّانِيَةُ الْأُولَى فِي جَمِيعِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ، طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ ثَلَاثًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَهَذِهِ طَالِقٌ، فَلَا يُطَلِّقُ إلَّا وَاحِدَةً لِاسْتِقْلَالِهَا، وَوَافَقَهُمْ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَالْتَزَمَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ فِي مُخْتَصَرِهِ الْأُصُولِيِّ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: ضَرَبْت زَيْدًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعَمْرًا، يَتَقَيَّدُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ أَيْضًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ عِنْدَهُ عَلَى الْكَامِلَةِ يَقْتَضِي مُشَارَكَتَهُمَا فِي أَصْلِ الْحُكْمِ وَتَفَاصِيلِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُ اخْتِيَارُ ابْنِ عُصْفُورٍ مِنْ النَّحْوِيِّينَ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ، فَإِنَّ الثَّانِيَةَ تَتَقَيَّدُ أَيْضًا بِالشَّرْطِ، وَكَذَا لَوْ قَدَّمَ الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَالُوا فِيمَا إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ وَنَحْوَهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الدِّرْهَمُ مُفَسِّرًا لِلْأَلْفِ، بَلْ لَهُ تَفْسِيرُهَا بِمَا شَاءَ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ. إنْ كَانَ الْمَعْطُوفُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا فُسِّرَتْ الْأَلْفُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ بَقِيَ الْعَدَدُ الْأَوَّلُ عَلَى إبْهَامِهِ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَأَنْتِ يَا أُمَّ أَوْلَادِي. قَالَ الْعَبَّادِيُّ: لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ قَبْلَ النِّكَاحِ لَغْوٌ، وَقَدْ رَتَّبَ طَلَاقَهَا عَلَيْهِ فَيَلْغُو، حَكَاهُ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: نِسَاءُ الْعَالَمِينَ طَوَالِقُ، وَأَنْتِ يَا فَاطِمَةُ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ عَطَفَ طَلَاقَهَا عَلَى طَلَاقِ نِسْوَةٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُنَّ، وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّهُ إذَا عَطَفَ الطَّلَاقَ عَلَى طَلَاقٍ نَافِذٍ يَقَعُ الثَّالِثَةَ: أَنْ يَشْكُلَ الْحَالُ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَى الْإِضْمَارِ،

وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ كَهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ عِنْدَنَا تَامٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرٍ، وَهُمْ يُقَدِّرُونَهُ، قَالُوا: وَلَوْ لَمْ نُقَدِّرْهُ لَكَانَ مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ امْتِنَاعُ قَتْلِ الْمُعَاهَدِ مُطْلَقًا. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ لُزُومَهُ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ امْتِنَاعُهُ، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، كَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ قَوْلِهِ: " بِكَافِرٍ " عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُقَدَّرًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِهِ " التَّجْرِيدِ " فِي الْحَدِيثِ تَقْدِيرَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ. وَلَكِنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْأَصْلُ «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ» ، ثُمَّ أَخَّرَ الْمَعْطُوفَ عَنْ الْجَارِ وَالْمَجْرُورِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُعَاهَدُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ، وَهُوَ الْحَرْبِيُّ، فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ فَرَّ مِنْ ضَرُورَةِ تَقْدِيرِ الْحَرْبِيِّ إلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ أَيْضًا، وَبِأَنَّ فِيهِ مَا سَبَقَ. الثَّانِي: أَنَّ ذُو عَهْدٍ مُبْتَدَأٌ، وَفِي عَهْدِهِ خَبَرُهُ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ ذَا عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ. وَنَحْنُ لَوْ فَرَضْنَا خُلُوَّ الْوَقْتِ عَنْ عَهْدٍ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ لَمْ يُقْتَلْ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. قَالَ: وَمِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى مَا أَنْشَدَ. أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ. بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيمُوا سُيُوفَهُمْ ... وَلَمْ تَكْثُرْ الْقَتْلَى بِهَا حَيْثُ سُلَّتْ وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ فِيهِ إخْرَاجَ الْوَاوِ عَنْ أَصْلِهَا وَهُوَ الْعَطْفُ، وَمُخَالَفَةٌ لِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى: " وَلَا ذِي عَهْدٍ " بِالْخَفْضِ. إمَّا عَطْفًا عَلَى كَافِرٍ كَمَا يَقُولُ

مسألة لفظ العام إذا كان معطوفا على عموم قبله وأمكن استعمال كل واحد منهما في نفسه

الْجُمْهُورُ، وَإِمَّا عَلَى مُسْلِمٍ كَمَا تَقُولُهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَلَكِنَّهُ خُفِضَ لِمُجَاوَرَتِهِ لِلْمَخْفُوضِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَفْهُومَهُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ مُطْلَقًا، فِي حَالَةِ كَوْنِ ذِي الْعَهْدِ فِي عَهْدِهِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ اتِّفَاقًا. [مَسْأَلَةٌ لَفْظُ الْعَامِ إذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى عُمُومٍ قَبْلَهُ وَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ] مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي لَفْظِ الْعَامِّ إذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى عُمُومٍ قَبْلَهُ، وَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ إذَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ الثَّانِي بِمَا قَبْلَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَكُلُّ مَنْ اعْتَبَرَ خُصُوصَ السَّبَبِ زَعَمَ أَنَّ الثَّانِيَ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِ الْعُمُومِ الَّذِي يَلِيه، وَمَنْ اعْتَبَرَ عُمُومَ اللَّفْظِ أَوْجَبَ اعْتِبَارَ الْعُمُومِ الثَّانِي بِظَاهِرِهِ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْطُوفِ، وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] " فَمَنْ تَابَ " كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ مُفْرَدٌ، فَلَا يَصِحُّ تَضْمِينُهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ السَّرِقَةِ مِنْ سُقُوطِ الْقَطْعِ بِالتَّوْبَةِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِنْهُ. وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْمُحَارَبَةِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] الْآيَةُ اسْتَثْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: هَذَا الْمَذْهَبُ الَّذِي أَخَتَرَتَاهُ أَوْلَى، لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] عَلَى الْمُطَلَّقَةِ، وَعَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَلَمْ يَحْمِلُوهَا عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] .

المسألة الخامسة إذا ورد اللفظ العام ثم ورد عقيبه تقييد بشرط أو غيره

[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَة إذَا وَرَدَ اللَّفْظُ الْعَامُّ ثُمَّ وَرَدَ عَقِيبَهُ تَقْيِيدٌ بِشَرْطٍ أَوْ غَيْرُهُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إذَا وَرَدَ اللَّفْظُ الْعَامُّ، ثُمَّ وَرَدَ عَقِيبَهُ تَقْيِيدٌ بِشَرْطٍ أَوْ اسْتِثْنَاءٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ حُكْمٍ، وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ، فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْعُمُومِ ذَلِكَ الْبَعْضَ أَوْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَالْمَذْهَبُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعُمُومِ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ فَقَطْ، وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، فَقَالَ: بَلْ يُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِبَعْضِ حُكْمِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوَافِقُنَا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَإِنْ خَالَفَنَا فِي مِثْلِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» . انْتَهَى. وَجَزَمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ "، وَالْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ "، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: إنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ: إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. قَالَ سُلَيْمٌ: وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا خَالَفَهُ فِي اعْتِبَارِ مَسَائِلَ خُصَّ عُمُومُ أَوَّلِهَا بِخُصُوصٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» الْحَدِيثُ. فَحَمَلَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ عَلَى الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَجْلِ آخِرِهِ. لَنَا أَنَّ الْعَامَّ إنَّمَا يُخَصُّ بِمَا يُنَافِيه. قُلْت: وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ بَابِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْآيَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُمْ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] الْآيَةُ فَدَلَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ. انْتَهَى. وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى الْوَقْفِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي

الْمُعْتَمَدِ " كَذَا رَأَيْته فِيهِ، وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْهُ أَنَّهُ يُخَصَّصُ، وَهُوَ وَهْمٌ. قُلْت: وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصًّا صَرِيحًا، لَكِنْ وَقَعَ فِي كَلَامِهِ مَا يَقْتَضِي الْأَمْرَيْنِ، فَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَخْصِيصٌ فَمَوَاضِعُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] : إنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الزَّرْعُ، لَا النَّخْلُ وَالزَّيْتُونُ، لِأَنَّ الْحَصَادَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الزَّرْعِ، فَلَمْ يُوجِبْ الزَّكَاةَ إلَّا فِي الزَّرْعِ، وَحَمَلَ الْإِتَاءُ الْعَامَّ عَلَيْهِ، لِأَجْلِ الضَّمِيرِ الْمُخَصِّصِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] : إنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ، إلَّا أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْحُرِّ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [التوبة: 41] وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنَّهُ خَاصٌّ بِالْحُرِّ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} [البقرة: 229] وَالْعَبْدُ لَا يُعْطِي شَيْئًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا تَحِلُّ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ بِقَوْلِهِ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وَقَالَ: هَذَا خَاصٌّ بِالْحُرِّ، لِقَوْلِهِ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ.

الْخَامِسُ: آيَةُ الْمُحَارَبَةِ السَّابِقَةِ. وَأَمَّا الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ، فَمِنْهَا أَنَّ ظِهَارَ الذِّمِّيِّ عِنْدَهُ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى عَقِبَ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} [المجادلة: 3] {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ. فَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا مُخَصِّصًا لِعُمُومِ {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} [المجادلة: 2] . وَمِنْهَا: أَنَّ إيلَاءَ الذِّمِّيِّ عِنْدَهُ صَحِيحٌ، مَعَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى عَقِبَهُ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُخَصِّصًا. فَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ تَخْصِيصٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ كَلَامِهِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْمُخَصِّصِ، فَيُعْمَلُ بِهِ، كَإِيلَاءِ الذِّمِّيِّ، وَظِهَارِهِ. وَقَدْ مَثَّلُوا الِاسْتِثْنَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] بَعْدَ قَوْلِهِ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَفْوَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْبَالِغَةِ الرَّشِيدَةِ، فَهَلْ يَتَخَصَّصُ النِّسَاءُ بِهِنَّ؟ قَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ: وَهَذَا لَيْسَ بِوِزَانِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَهُ {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] فَقَدْ ذَكَرَ حُكْمَ الْبُلَّغِ، وَحُكْمَ غَيْرِهِنَّ. وَمِثَالُ الصِّفَةِ قَوْلُهُ: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] ، بَعْدَ قَوْلِهِ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَيَعْنِي بِالْأَمْرِ الرَّغْبَةَ فِي رَجْعَتِهِنَّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْبَائِنَةِ، فَكَانَ الْأَوَّلُ عَامًّا فِي الْمُطَلَّقَاتِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلِهَذَا جَعَلَ أَصْحَابُنَا قَوْلَهُ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] فِيمَا يَمْلِكُ الزَّوْجَ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]

يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالرَّجْعِيِّ. وَمِثَالُ رُجُوعِ الضَّمِيرِ قَوْلُهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، فَهَذَا عَامٌّ فِي الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنِ الْمَدْخُولِ بِهَا، ثُمَّ قَوْلُهُ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي الْبَائِنِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ قَالَ: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُشْرِكِينَ. وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَدَرَكَ الْخِلَافِ أَنَّ التَّخْصِيصَ: هَلْ يَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمُضْمَرَةِ، كَمَا يَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمُظْهَرَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ الْمُتَّصِلُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} [البقرة: 249] فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى الدُّخُولِ، وَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الضَّمَائِرِ، لِأَنَّ الْمُضْمَرَ لَا يَدُلُّ بِنَفْسِهِ عَلَى جِنْسٍ مِنْ الْأَجْنَاسِ. وَإِنَّمَا يَعُودُ إلَى الْمَذْكُورِ أَوْ الْمَعْلُومِ، فَيَقِلُّ بِقِلَّتِهِ، وَيَكْثُرُ بِكَثْرَتِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى دُخُولِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَوْضُوعَهُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَعُودَ إلَى مَا قَبْلَهُ، فَإِذَا عَادَ إلَى بَعْضِ مَا قَبْلَهُ فَقَدْ خُصَّ بِبَعْضِ مَعْنَاهُ. انْتَهَى. وَجَعَلَ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] إلَى قَوْلِهِ {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] فَأَطْلَقَ تَعَالَى الِاسْمَ عَلَى مَنْ طَلُقَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَأَوْجَبَ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ مِنْ كُلِّ مُطْلَقٍ، ثُمَّ قَالَ: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] فَلَوْ كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إلَى الْكُلِّ لَجَازَ أَنْ تَعْفُوَ غَيْرُ الْبَالِغَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نِصْفُ الصَّدَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الزَّوْجِ الَّذِي لَهُ الْعَفْوُ لِامْرَآتِهِ، أَوْ لِامْرَآتِهِ عَلَيْهِ، لَكَانَ مَنْ لَا يَكُونُ لَهُ الْعَفْوُ لَا نِصْفَ لَهُ مِنْ الصَّدَاقِ. وَإِذَا بَطَلَ هَذَا عُلِمَ

أَنَّ الْخِطَابَ بِالْعَفْوِ فِي بَعْضِ الْمَذْكُورِينَ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى هَذَا الْوَصْفِ، وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ عَلَى مَا ثَبَتَ. وَكُلُّ مَا لَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَالْحُكْمُ لَهُ، وَمَا جَازَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْجَمِيعِ، فَالضَّمِيرُ عَنْ جَمِيعِهِ. وَمَثَّلَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} [العنكبوت: 8] فَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْكَافِرِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى عُمُومِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: الْكِنَايَةُ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَذْكُورٍ مُتَقَدِّمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ. وَقَدْ خَاطَبَنَا اللَّهُ بِخِطَابِ مُوَاجَهَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] وَإِنَّمَا أَرَادَ بِكُمْ، وَلَوْ خَلَّيْنَا وَالظَّاهِرَ لَقُلْنَا فِيهِ إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَطْفٍ، لَكِنْ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُوَاجَهَةِ، عَلِمْنَا عَوْدَهُ إلَيْهِمْ. نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] خَرَّجَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْوَلِيُّ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الزَّوْجَ لَوَاجَهَهُ، فَلَمَّا عَدَلَ إلَى الْكِنَايَةِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَدَّ الْكِنَايَةَ إلَى الْمُوَاجَهَةِ، وَهُوَ الزَّوْجُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَفْوَهَا وَعَفْوَ زَوْجِهَا، فَكَنَّى كَمَا كَنَّى فِي {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] : قَالَ: وَهَذَا يَجْرِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إنْ قَامَ الدَّلِيلُ صِرْنَا إلَيْهِ، وَإِلَّا حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ. قَالَ: وَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ هَذَا أَنْ يُعْطَفَ شَيْءٌ فَيَكُونَ حُكْمُ الثَّانِي حُكْمَ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95]

مسألة إذا كان أول الكلام خاصا وآخره بصيغة العموم

فَكَانَ الصَّيْدُ اسْمًا لِلْفِعْلِ، فَلَمَّا قَالَ: {لا تَقْتُلُوا} [المائدة: 95] اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى الْفِعْلِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِشَارَةَ وَقَعَتْ إلَى عَيْنِ الْمَصِيدِ، ثُمَّ عَطَفَ بِقَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة: 96] فَكَانَ الْمَعْطُوفُ الثَّانِي عَلَى الْعَطْفِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: إنَّ الْعَطْفَ عَلَى حُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ: وَلِذَلِكَ قَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ هَذَا إذَا جَرَيْنَ كَانَ لِلْفِعْلِ الثَّانِي، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُعْهَدْ أَنْ يَكُونَ لِلْفِعْلِ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ نَقْدِرْ عَلَى هَذَا رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى الْحَقِيقَةِ فِي الثَّانِي، فَكَانَ لِلْفِعْلِ. وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إنَّهُ لِلْفِعْلِ وَالْمَصِيدِ نَفْسِهِ، فَقَدْ حَرَّمَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَصِيدِ، وَإِذَا كَانَ يَقَعُ عَلَيْهِ حُمِلَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لِلْفِعْلِ قَوْلُهُ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة: 96] فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فِعْلُ الْبَرِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عَيْنَ الْمَصِيدِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، ثُمَّ قَالَ: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] فَكَانَ الْأَوَّلُ مَحْمُولًا عَلَى الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيَّةِ، وَالثَّانِي مَحْمُولٌ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا كَانَ أَوَّلُ الْكَلَامِ خَاصًّا وَآخِرُهُ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ] مَسْأَلَةٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ أَوَّلُ الْكَلَامِ خَاصًّا، وَآخِرُهُ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ - فَلَا يَكُونُ خُصُوصُ أَوَّلِهِ مَانِعًا مِنْ عُمُومِ آخِرِهِ، كَالْعَكْسِ. ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] فَإِنَّ الْأَوَّلَ فِي صِنْفٍ مِنْ الظَّالِمِينَ. وَهُمْ السُّرَّاقُ، وَالتَّوْبَةُ بَعْدَ الظُّلْمِ وَالْإِصْلَاحِ لِجَمِيعِ الظَّالِمِينَ وَقَوْلُهُ: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]

فَكَانَ هَذَا لِلْمُطَلَّقَاتِ، ثُمَّ قَالَ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ. وَذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ النَّحْوِيُّ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] كَانَ أَوَّلُهُ خَاصًّا بِالْأَوْلَادِ، وَآخِرُهُ يَشْمَلُ الْأَوْلَادَ وَالْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ إذَا وَرِثُوا، فَإِنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَلَوْ قِيلَ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الْأَوْلَادِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ: مِنْهُمْ دَلَّ عَلَى إرَادَةِ الْعُمُومِ. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا الْخِلَافُ فِي الْعَكْسِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . تَنْبِيهٌ إذَا تَقَدَّمَ الْمَعْنَى الْمُخَصَّصُ، وَتَأَخَّرَ اللَّفْظُ الْعَامُّ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا التَّخْصِيصُ، وَلِهَذَا خَصُّوا قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» بِالْوَصِيَّةِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَقَالُوا: إذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ هِيَ قَدْرُ حِصَّتِهِ، يَصِحُّ. فَلَمْ يَعْتَبِرُوا الْعُمُومَ، لِأَجْلِ سَبْقِ الْعِلَّةِ الْمُخَصِّصَةِ.

مسألة إذا ذكر العام ثم ذكر بعض أفراده بقيد أو شرط

[مَسْأَلَةٌ إذَا ذُكِرَ الْعَامُّ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بِقَيْدٍ أَوْ شَرْطٍ] مَسْأَلَةٌ وَأَمَّا إذَا ذُكِرَ الْعَامُّ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بِقَيْدٍ أَوْ شَرْطٍ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ مُرَادٌ بِمَا عَدَا الشَّرْطَ، وَيَكُونُ مُخَصِّصًا لَهُ، قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مَجْمُوعَ الرَّقَبَتَيْنِ عَلَى الْقَاتِلِ إنْ كَانَ الْقَتْلُ مِنْ عَدُوٍّ لَنَا، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمُؤْمِنَ ذِكْرًا عَامًّا، فَكَانَ الِاسْمُ يَنْظِمُ مَنْ هُوَ عَدُوٌّ لَنَا وَمَنْ هُوَ مِنْ دَارِنَا، فَلَمَّا قَالَ فِي الثَّانِيَةِ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] دَلَّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَنَّ ذِكْرَ الْأَوَّلِ فِي بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا الَّذِي فِي غَيْرِ دَارِ الْحَرْبِ، وَبِقَوْلِهِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّانِيَ مُعَلَّقٌ بِمَعْنًى لَيْسَ فِي أَوَّلِ مَا اُبْتُدِئَ بِذِكْرِهِ. اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: إذَا وَرَدَ الْعُمُومُ مُجَرَّدًا مِنْ صِفَةٍ، ثُمَّ أُعِيدَ. بِصِفَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] مَعَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ: اُقْتُلُوا أَهْلَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُخَصِّصُ مَا بَعْدَ الْعُمُومِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مباحث الخاص والخصوص والتخصيص

[مَبَاحِثُ الْخَاصِّ وَالْخُصُوصِ وَالتَّخْصِيصِ] [تَعْرِيفُ الْخَاصِّ وَالْخُصُوصِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا] ِ [تَعْرِيفُ الْخَاصِّ وَالْخُصُوصِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا] الْخَاصُّ: اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ وَمَا دَلَّ عَلَى كَثْرَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَلِهَذَا قَدَّمَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْبَحْثِ فِي الْعَامِّ تَقْدِيمًا لِلْمُفْرَدِ عَلَى الْمُرَكَّبِ. وَالْخُصُوصُ: كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَنَاوِلًا لِبَعْضِ مَا يَصْلُحُ لَهُ لَا لِجَمِيعِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: خُصُوصٌ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ مُتَنَاوِلًا لِلْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ إلَّا لَهُ، كَتَنَاوُلِ كُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُخْتَصَّةِ بِهِ لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَذَكَرَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ الزَّجَّاجُ فِي كِتَابٍ لَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) عَبَّرَ عَنْ الْمُخْرَجِ مَرَّةً بِالْخَاصِّ، وَعَنْ الْمُبْقَى مَرَّةً بِالْخَاصِّ، وَالْخُصُوصُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةً، وَفِي الْمَعَانِي الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْعُمُومِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ. وَفَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْخُصُوصِ، فَقَالَ: الْخَاصُّ يَكُونُ فِيمَا يُرَادُ بِهِ بَعْضُ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ لَفْظُهُ بِالْوَضْعِ، وَالْخُصُوصُ مَا اخْتَصَّ بِالْوَضْعِ لَا بِإِرَادَةٍ. وَقِيلَ: الْخَاصُّ مَا يَتَنَاوَلُ أَمْرًا وَاحِدًا بِنَفْسِ الْوَضْعِ، وَالْخُصُوصُ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا دُونَ غَيْرِهِ، وَكَانَ يَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ. [تَعْرِيفُ الْمُخَصَّصِ] [تَعْرِيفُ الْمُخَصَّصِ] وَأَمَّا الْمُخَصَّصُ فَيُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، يُوصَفُ الْمُتَكَلِّمُ بِكَوْنِهِ

تعريف التخصيص

مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ، وَيُوصَفُ النَّاصِبُ لِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ، يُوصَفُ الدَّلِيلُ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ، يُقَالُ السُّنَّةُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ. وَيُوصَفُ الْمُعْتَقِدُ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُخَصُّ الْكِتَابُ بِالْخَبَرِ، وَغَيْرُهُ لَا يُخَصُّ. [تَعْرِيفُ التَّخْصِيصِ] [تَعْرِيفُ التَّخْصِيصِ] وَأَمَّا التَّخْصِيصُ: وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ، فَهُوَ لُغَةً: الْإِفْرَادُ وَمِنْهُ الْخَاصَّةُ. وَاصْطِلَاحًا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ بِالْحُكْمِ، وَتَخْصِيصُ الْعَامِّ بَيَانُ مَا لَمْ يُرِدْ بِلَفْظِ الْعَامِّ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، وَرَدَ بِأَنَّ لَفْظَ الْقَصْرِ يَحْتَمِلُ الْقَصْرَ فِي التَّنَاوُلِ أَوْ الدَّلَالَةِ أَوْ الْحَمْلِ أَوْ الِاسْتِعْمَالِ. وَذَكَر ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ التَّخْصِيصَ يُطْلَقُ عَلَى قَصْرِ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا، كَمَا يُطْلَقُ الْعَامُّ عَلَى اللَّفْظِ بِمُجَرَّدِ تَعَدُّدِ مُسَمَّيَاتِهِ، كَالْعَشَرَةِ وَالْمُسْلِمِينَ لِمَعْهُودَيْنِ، وَضَمَائِرِ الْجَمْعِ. وَقِيلَ: إخْرَاجُ مَا يَتَنَاوَلُ الْخِطَابَ. وَهُوَ أَحْسَنُ، لِأَنَّ الصِّيغَةَ الْعَامَّةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمُعَارِضِ. مُقْتَضَى الْإِرَادَةِ شُمُولُ الْحُكْمِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ. فَيُخَصَّصُ بَعْضُ الْأَفْرَادِ بِالْحُكْمِ دُونَ بَعْضٍ. فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي جُمْلَةِ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ ظَاهِرًا مُخْرَجَةٌ عَنْهُ بِالتَّخْصِيصِ، وَحِينَئِذٍ فَالْإِخْرَاجُ عَنْ الدَّلَالَةِ أَوْ التَّنَاوُلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالْمُمْكِنُ إخْرَاجُ بَعْضِ الْمُتَنَاوَلِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: إذَا ثَبَتَ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِبَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ،

عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْخِطَابِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مَا عَدَاهُ، وَلَا نَقُولُ: إنَّهُ كَانَ دَاخِلًا فِي الْخِطَابِ، فَخَرَجَ عَنْهُ بِدَلِيلٍ، وَإِلَّا لَكَانَ نَسْخًا، وَلَمْ يَكُنْ تَخْصِيصًا، فَإِنَّ الْفَارِقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالتَّخْصِيصَ بَيَانُ مَا قُصِدَ لَهُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ. وَكَذَا قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّ الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ، أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ قَدْ أَرَادَ بَعْضَ مَا وُضِعَ لَهُ دُونَ بَعْضٍ، وَذَلِكَ مَجَازٌ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْخُصُوصِ الَّذِي يُوضَعُ فِي الْأَصْلِ لِلْخُصُوصِ، وَإِرَادَةُ الْبَعْضِ لَا تُصَيِّرُهُ مَوْضُوعًا فِي الْأَصْلِ لِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً لَكَانَ الْعَامُّ خَاصًّا، وَهُوَ مُتَنَافٍ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ خَاصًّا بِالْقَصْدِ كَالْأَمْرِ يَصِيرُ أَمْرًا بِالطَّلَبِ وَالِاسْتِدْعَاءِ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَوْ قَدْ خُصَّ، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ يَقُولُونَ: هُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَإِنْ أُرِيدَ الْبَعْضُ فَقَدْ تَجَوَّزَ بِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَوَضْعِهِ، فَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْوَضْعِ، وَلَمْ يُغَيِّرْ حَتَّى يُقَالَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَإِذَنْ هَذَا اللَّفْظُ مُؤَوَّلٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ وَضْعَهُ لِلْعُمُومِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ وَضْعِهِ مَجَازًا فَهُوَ عَامٌّ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ بِالْوَضْعِ، وَخَاصٌّ بِالْإِرَادَةِ أَوْ التَّجَوُّزِ إذْ قُصِدَ بِهِ بَعْضُ مَدْلُولِهِ، وَإِلَّا فَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ بِالْوَضْعِ لَا يَنْقَلِبُ عَنْ وَضْعِهِ بِالْإِرَادَةِ، قَالَا: وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيَّنٌ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ مُحَالٌ، بَلْ هُوَ عَلَامَةُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْعَامُّ بِالْوَضْعِ، أَوْ الصَّالِحُ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ الْخُصُوصَ. فَيُقَالُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ لِمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ: إنَّهُ خَصَّصَ الْعُمُومَ أَيْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. قَالَ الْقَاضِي: وَأَمَّا عِنْدَنَا يَعْنِي الْوَاقِفِيَّةَ الْمُنْكِرِينَ لِلصِّيَغِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْعَامِّ، وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ مُشْتَرَكٌ، وَيَحْتَمِلُ مِنْ اللَّفْظِ.

الفرق بين التخصيص والنسخ

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": لَمَّا كَانَ التَّخْصِيصُ إخْرَاجَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ عَنْ الْإِرَادَةِ مِنْهُ وَجَبَ قَطْعًا أَنْ يَكُونَ شَرْطُهُ قَصْدَ الْإِخْرَاجِ عَنْ الْإِرَادَةِ، وَأَمَّا الْعَامُّ فَيَتَنَاوَلُ الْأَفْرَادَ بِوَضْعِهِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ بِمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخُصَّ مِنْ الْأَفْرَادِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ إرَادَةُ الْفَرْدِ الْمُعَيَّنِ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بَعْضُ الْأَفْرَادِ، كَفَتْ الْإِرَادَةُ الْعَامَّةُ لِتَنَاوُلِ الْحُكْمِ لِجُمْلَةِ أَفْرَادِهِ حُصُولُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْدِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِالْبَالِ ذَلِكَ الْفَرْدُ بِخُصُوصِهِ. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، أَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَامِّ إرَادَةُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ بِخُصُوصِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ فِي زِيَادَاتِهِ ": الْعِبَارَاتُ أَمَارَاتُ الْإِرَادَاتِ، فَإِذَا خُصَّتْ الْعِبَارَةُ خُصَّتْ الْإِرَادَةُ، وَإِذَا عَمَّتْ عَمَّتْ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَهَلْ يَجِبُ مُقَارَنَةُ الْمُخَصِّصِ الْخِصِّيصَ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ. قَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ بِالثَّانِي، وَالْمُعْتَزِلَةُ بِالْأَوَّلِ. وَهُمَا الْقَوْلَانِ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا يَعْنِي الْمُعْتَزِلَةَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي التَّخْصِيصِ مُقَارَنَةُ اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَالْعَقْلِيُّ مَحَلُّ وِفَاقٍ فِي اشْتِرَاطِ الْمُقَارَنَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَيَأْتِي فِي بَابِ الْحَجِّ حِكَايَةُ خِلَافٍ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالتَّكْلِيفِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَا لِأَنَّهُ أَخَفُّ. [الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ] [الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ] وَاعْلَمْ أَنَّ التَّخْصِيصَ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِالنَّسْخِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِنَقْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ تَرْكُ بَعْضِ الْأَعْيَانِ، وَالنَّسْخَ تَرْكُ بَعْضِ الْأَزْمَانِ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ.

الثَّانِي: أَنَّ التَّخْصِيصَ يَتَنَاوَلُ الْأَزْمَانَ وَالْأَعْيَانَ وَالْأَحْوَالَ بِخِلَافِ النَّسْخِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْأَزْمَانَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْأَعْيَانَ وَالْأَزْمَانَ لَيْسَا مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالنَّسْخُ يَرِدُ عَلَى الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَالتَّخْصِيصُ يَرِدُ عَلَى الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. الثَّالِثُ: التَّخْصِيصُ لَا يَكُونُ إلَّا لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ بِخِلَافِ النَّسْخِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِكُلِّ الْأَفْرَادِ. وَعَلَى هَذَا فَالنَّسْخُ أَعَمُّ، قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ. لَكِنْ اخْتَارَ إمَامُهُ خِلَافَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: النَّسْخُ لَا مَعْنَى بِهِ إلَّا تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ بِطَرِيقٍ خَاصٍّ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ. وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِ " النَّسْخِ " فَقَالَ: صَرَّحَ الْأُسْتَاذُ بِأَنَّ النَّسْخَ تَخْصِيصٌ فِي الزَّمَانِ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ تَقْلِيلٌ، وَالنَّسْخَ تَبْدِيلٌ. وَقَالَ: هَذَا لَفْظٌ جَمِيلٌ، وَلَكِنْ رِيعُهُ قَلِيلٌ، وَمَعْنَاهُ مُسْتَحِيلٌ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَبْدِيلٌ، وَلَيْسَتْ بِنَسْخٍ، قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181] الْخَامِسُ: أَنَّ النَّسْخَ يَتَطَرَّقُ إلَى كُلِّ حُكْمٍ، سَوَاءٌ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَشْخَاصٍ كَثِيرَةٍ، وَالتَّخْصِيصُ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى الْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ بِمَأْمُورٍ وَاحِدٍ، وَالنَّسْخَ يَدْخُلُ فِيهِ. السَّادِسُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ يُبْقِي دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى مَا بَقِيَ تَحْتَهُ حَقِيقَةً

كَانَ أَوْ مَجَازًا عَلَى الْخِلَافِ، وَالنَّسْخُ يُبْطِلُ دَلَالَةَ حَقِيقَةِ الْمَنْسُوخِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَنِ بِالْكُلِّيَّةِ. السَّابِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ النَّسْخِ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ، وَأَمَّا التَّخْصِيصُ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَخْصُوصِ وِفَاقًا. الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى، وَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا الْإِطْلَاقُ وَقَعَ فِي كُتُبِ الْعُلَمَاءِ كَثِيرًا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ قَدْ تَنْسَخُ بَعْضَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَمَّا كُلَّهَا فَلَا، لِأَنَّ قَوَاعِدَ الْعَقَائِدِ لَمْ تُنْسَخْ، وَكَذَلِكَ حِفْظُ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ، فَحِينَئِذٍ النَّسْخُ إنَّمَا يَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، وَإِنْ جَازَ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى عَقْلًا. التَّاسِعُ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْعَبَّادِيُّ فِي زِيَادَاتِهِ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ: انْتِهَاءُ حُكْمٍ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ مَا أُرِيدَ بِالْعُمُومِ، وَالنَّسْخَ بَيَانُ مَا لَمْ يُرَدْ بِالْمَنْسُوخِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ التَّخْصِيصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِالْعَامِّ، وَمُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَنْسُوخِ، وَلَا مُقْتَرِنًا بِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَوْلٍ وَخِطَابٍ، وَالتَّخْصِيصَ قَدْ يَكُونُ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالْقَرَائِنِ وَسَائِرِ أَدِلَّةِ السَّمْعِ، وَيَقَعُ التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالنَّسْخُ لَا يَقَعُ بِهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: يَجُوزُ التَّخْصِيصُ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَالنَّسْخُ يَخْتَصُّ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ.

مسألة الحكم إذا علق بعده هل يكون تعليقه بما دونه نسخا أو تخصيصا

الرَّابِعَ عَشَرَ: التَّخْصِيصُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالنَّسْخُ عَلَى التَّرَاخِي، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ وَاقِعٌ، وَنَسْخُهُ لَا يَقَعُ بِهِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَدْخُلُ فِي غَيْرِ الْعَامِّ، بِخِلَافِ النَّسْخِ؛ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ حُكْمَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْأَمْرِ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ التَّخْصِيصَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُمُومِ عِنْدَ الْخِطَابِ مَا عَدَاهُ، وَالنَّسْخُ يُحَقِّقُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مُرَادٌ فِي حَالِ الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُرَادٍ فِيمَا بَعْدَهُ، وَكَانَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ لَا يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ، ثُمَّ الزَّمَانُ ظَرْفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْفُرُوقَ أَكْثَرُهَا أَحْكَامٌ أَوْ لَوَازِمُ ثَابِتَةٌ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. [مَسْأَلَةٌ الْحُكْمُ إذَا عُلِّقَ بَعْدَهُ هَلْ يَكُونُ تَعْلِيقُهُ بِمَا دُونَهُ نَسْخًا أَوْ تَخْصِيصًا] مَسْأَلَةٌ الْحُكْمُ إذَا عُلِّقَ بَعْدَهُ هَلْ يَكُونُ تَعْلِيقُهُ بِمَا دُونَهُ نَسْخًا أَوْ تَخْصِيصًا، فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ " الْبَحْرِ "، وَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَنَوَى بِقَلْبِهِ إلَّا وَاحِدَةً. قَالَ فِي " الْإِفْصَاحِ ": فَفِيهِ جَوَابَانِ:

مسألة الخطاب في العموم والخصوص على أربعة أوجه

أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ. وَإِنْ قُلْنَا: تَخْصِيصٌ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِهَذَا إلَى الْفَرْقِ الْحَادِيَ عَشَرَ. [مَسْأَلَةٌ الْخِطَابُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ] مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْخِطَابُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: خِطَابٌ عَامُّ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] قَالَ الشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) فِي " الرِّسَالَةِ " فَهَذَا عَامٌّ لَا خَاصٌّ. وَاعْتَرَضَ ابْنُ دَاوُد عَلَيْهِ فَقَالَ: كَيْفَ عَدَّ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْعُمُومَاتِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْهَا التَّخْصِيصُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى شَيْءٌ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] . وَرَدَّ ابْنُ سُرَيْجٍ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَمَّا عَلِمْت أَنَّ الْمُخَاطِبَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ؟ وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ " لِابْنِ دَاوُد: وَأَمَّا مَا عَرَّضَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} [الأنعام: 19] وَأَيُّ ضَرُورَةٍ دَعَتْهُ إلَى هَذَا؟ وَكَيْفَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومُ مَا أَوْمَأَ إلَيْهِ؟ وَقَدْ بَدَأَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ، فَأَخْبَرَ بِقَوْلِهِ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]

وَهَلْ تَحْتَمِلُ الْأَوْهَامُ فِي الْمُخَاطَبَةِ مَا أَوْمَأَ إلَيْهِ؟ وَلَوْلَا أَنَّ الْقُلُوبَ لَا تُطِيقُ الْكَلَامَ، لَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ. وَيَقُولُ: إنَّ الْآيَةَ تَخْرُجُ عَامَّةً فِي مَذَاهِبِ جَمِيعِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا عَرَّضَ بِهِ فِي اللَّهِ مُحَالًا خَارِجًا عَنْ الْوَهْمِ عُلِمَ أَنَّ الْخِطَابَ إنَّمَا يُخَرَّجُ عَلَى مَا يُعْقَلُ وَيُتَوَهَّمُ دُونَ مَا لَا يُعْقَلُ وَلَا يُتَوَهَّمُ، فَإِذَا لَمْ يُخَرَّجْ عَلَى مَا لَا يُتَوَهَّمُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ عُمُومٌ وَلَا خُصُوصٌ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي دَفْعِ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ دَاوُد مِمَّا يَسْتَحِيلُ انْدِرَاجُهُ فِي الصِّفَاتِ: قَدْ أَوْمَأْنَا إلَى جُمَلٍ وَكَرِهْنَا التَّفْسِيرَ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَصْحَابَهُ بَعْدَهُ يَكْرَهُونَ الْخَوْضَ فِي هَذَا، انْتَهَى. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": اعْتَرَضَ ابْنُ دَاوُد وَيَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] إنَّهُ عَامٌّ، وَجَهِلُوا الصَّوَابَ، وَذَهَبُوا عَنْ اللُّغَةِ، وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِبَارِ أَهْلِ بَغْدَادَ قَالَ: أَطْعَمْت أَهْلَ بَغْدَادَ جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيهِمْ، وَلَمْ تَقُلْ لَهُ: خَرَجْت أَنْتَ بِخُصُوصٍ، وَإِنَّمَا الْعُمُومُ فِي الْمُطْعَمِينَ سِوَاهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُطْعِمُ لَهُمْ. قَالَ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا خَالِقَ سِوَاهُ. وَثَانِيهمَا: أَنَّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِيمَا سِوَاهُ. قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَةَ " شَيْءٍ " لَا تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ، وَإِنْ شَمِلَتْ الْمَوْجُودَاتِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا، وَسَنَدُ الْمَنْعِ كَوْنُ الْأَسْمَاءِ تَوْقِيفِيَّةً، وَلِأَنَّ لَفْظَةَ شَيْءٍ مَأْخُوذَةٌ مِنْ شَاءَ. وَالشَّاءُ مِنْ الْمُحْدَثِ الَّذِي لَيْسَ بِقَدِيمٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدِيمٌ فَلَا يَصْدُقُ فِيهِ ذَلِكَ. الثَّانِي: خِطَابٌ خَاصُّ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28]

الْآيَةُ فَهَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ التَّخْيِيرُ. الثَّالِثُ: خِطَابٌ خَاصُّ اللَّفْظِ عَامُّ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] الْآيَةُ الْخِطَابُ مَعَهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأُمَّةُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 140] وَلَمْ يُنَزِّلْ فِي الْكِتَابِ إلَّا هَذِهِ الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وَقَوْلِهِ: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَلَا يُصَارُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلِ غَيْرِ الْخِطَابِ، وَأَنْكَرَ ابْنُ حَزْمٍ فِي " الْإِحْكَامِ " وُجُودَ هَذَا الْقِسْمِ، وَقَالَ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مَحْجُوبٌ بِمَا ذَكَرْنَا. الرَّابِعُ: خِطَابٌ عَامُّ اللَّفْظِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهَذَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْأَوَّلُ: نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ أَوْ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ". قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ وَإِذَا خَاطَبَ بِذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّنَا عَلَى مُرَادِهِ بِهِ. وَهَلْ يَجِبُ مُقَارَنَةُ الدَّلِيلِ الْخِطَابَ، أَوْ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى إنْكَارِ هَذَا الْقِسْمِ، لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14]

فائدة عمومات القرآن مخصوصة في الأكثر

أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مُرَادٌ بِهَا أَلْفُ سَنَةٍ كَامِلَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً أَطْلَقُوا الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ، وَخَصَّهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَصَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ فِي " الْأَحْكَامِ " وَغَيْرُهُمْ بِالْخَبَرِ وَلَمْ يَنْقُلُوا الْخِلَافَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بَلْ جَعَلُوهُ مَحَلَّ وِفَاقٍ، كَالنَّسْخِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّ الْمَانِعَ هُنَا فِي الْخَبَرِ قِيَاسُ التَّخْصِيصِ عَلَى النَّسْخِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُخَالِفَ يَمْنَعُ تَسْمِيَتَهُ عَامًّا مَخْصُوصًا، وَيَقُولُ: إنَّهُ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَنْتَهِضُ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْآيَاتِ الْمُخَصِّصَةِ، وَهُوَ قَوِيٌّ. وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ: يُشْتَرَطُ فِي التَّخْصِيصِ وُرُودُهُ فِي الْإِنْشَاءَاتِ لَا فِي الْأَخْبَارِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ، بَلْ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. [فَائِدَةٌ عُمُومَاتُ الْقُرْآنِ مَخْصُوصَةٌ فِي الْأَكْثَرِ] فَائِدَةٌ عُمُومَاتُ الْقُرْآنِ مَخْصُوصَةٌ فِي الْأَكْثَرِ، حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ عَامٌّ غَيْرُ مَخْصُوصٍ إلَّا أَرْبَعَةَ مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَكُلُّ مَنْ سُمِّيَتْ أُمًّا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ أُمِّ أُمٍّ وَإِنْ عَلَتْ، فَهِيَ حَرَامٌ. ثَانِيهَا: قَوْلُهُ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]

ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] رَابِعُهَا: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 6] خَامِسُهَا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَغَلِطَ مَنْ جَعَلَ مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] إذْ الْقُدْرَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ، لِأَنَّ الْمُمْكِنَ الْمَعْدُومَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا حَقِيقَةً فَمَا بِالْمُسْتَحِيلِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ جِنِّي فِي " الْخَصَائِصِ " فِي قَوْله تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 255] عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الصَّادِرَةَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لَيْسَتْ لَهُ، فَبَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ الْفَاسِدِ فِي الِاعْتِزَالِ.

فصل في الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص

[فَصْلٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وَالْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ] ُ اعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ مِمَّا أَثَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَقَدْ وَقَعَتْ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] : هَلْ هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ أَوْ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ؟ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَقَلَّ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ هُوَ الْأَكْثَرُ. قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ هُوَ الْأَقَلُّ. قَالَ: وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْحُكْمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ، وَهَذَا يُمْكِنُ التَّعَلُّقُ بِظَاهِرِهِ اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ. وَفَرَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَامَ الْمَخْصُوصَ مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ، وَالْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى اللَّفْظِ، وَفِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ اللَّفْظِ أَوْ يَقْتَرِنُ بِهِ. وَمِمَّنْ تَعَرَّضَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ،

فَقَالَ فِي " شَرْحِ الْإِمَامِ ": يَجِبُ أَنْ يَتَنَبَّهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِنَا: هَذَا عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ، فَإِنَّ الثَّانِيَ أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذَا أَرَادَ بِاللَّفْظِ أَوَّلًا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْعُمُومِ، ثُمَّ أَخْرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ كَانَ عَامًّا مَخْصُوصًا، وَلَمْ يَكُنْ عَامًّا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. ثُمَّ يُقَالُ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَعْضِ الَّذِي أُخْرِجَ، وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ إذَا قَصَدَ الْعُمُومَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَقْصِدَ الْخُصُوصَ بِخِلَافِ مَا إذَا نَطَقَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ مُرِيدًا بِهِ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ فِي هَذَا. وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ الْعَامَّ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ بَعْضًا مُعَيَّنًا فَهُوَ الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. وَإِنْ أَرَادَ سَلْبَ الْحُكْمِ عَنْ بَعْضٍ مِنْهُ فَهُوَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، مِثَالُهُ قَوْلُهُ: قَامَ النَّاسُ، فَإِذَا أَرَدْت إثْبَاتَ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ مَثَلًا لَا غَيْرُ فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَإِنْ أَرَدْت سَلْبَ الْقِيَامِ عَنْ زَيْدٍ فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ إنَّمَا يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ مَعْنَوِيٍّ يَمْنَعُ إرَادَةَ الْجَمِيعِ، فَيَتَعَيَّنُ لَهُ الْبَعْضُ. وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ يَحْتَاجُ إلَى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ غَالِبًا كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَالْغَايَةُ وَالْمُتَّصِلُ، نَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ، ثُمَّ يَقُولُ: مَا قَامَ زَيْدٌ. وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ هُوَ أَنْ يُطْلَقَ الْعَامُّ وَيُرَادَ بِهِ بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلُهُ. هُوَ مَجَازٌ قَطْعًا، لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي بَعْضِ مَدْلُولِهِ، وَبَعْضُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ. قَالَ: وَشَرْطُ الْإِرَادَةِ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِأَوَّلِ اللَّفْظِ، وَلَا يَكْفِي طُرُوءُهَا فِي أَثْنَائِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَقْلُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ إلَى غَيْرِهِ، وَاسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَلَيْسَتْ الْإِرَادَةُ فِيهِ إخْرَاجًا لِبَعْضِ الْمَدْلُولِ، بَلْ إرَادَةُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، كَمَا يُرَاد بِاللَّفْظِ مَجَازُهُ.

وَأَمَّا الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ فَهُوَ الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ مُخَرَّجًا مِنْهُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بِالْإِرَادَةِ، إرَادَةً لِلْإِخْرَاجِ لَا إرَادَةً لِلِاسْتِعْمَالِ. فَهِيَ تُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ، فَلَا يُشْتَرَطُ مُقَارَنَتُهَا لِأَوَّلِ اللَّفْظِ، وَلَا تَأْخِيرُهَا عَنْهُ، بَلْ يَكْفِي كَوْنُهَا فِي أَثْنَائِهِ، كَالْمَشِيئَةِ فِي الطَّلَاقِ. وَهَذَا هُوَ مَوْضُوعُ خِلَافِهِمْ فِي أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ مَجَازٌ أَوْ حَقِيقَةٌ، وَمَنْشَأُ التَّرَدُّدِ أَنَّ إرَادَةَ إخْرَاجِ بَعْضِ الْمَدْلُولِ هَلْ تُصَيِّرُ اللَّفْظَ مُرَادًا بِهِ الْبَاقِي أَوْ لَا؟ وَهُوَ يُقَوِّي كَوْنَهُ حَقِيقَةً لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْمَجَازِ، وَالنِّيَّةُ فِيهِ مُؤَثِّرَةٌ فِي نَقْلِ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ إلَى غَيْرِهِ. وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ أَنَّ عَدَّ ابْنِ الْحَاجِبِ الْبَدَلَ فِي الْمُخَصَّصَاتِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْأَوْلَى فِي قَوْلِنَا: أَكَلَتْ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ أَنَّهُ مِنْ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ، لَا الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى النَّحْوِيُّ فِي كِتَابِ " الْعَرَضُ وَالْآلَةُ ": إذَا أَتَى بِصُورَةِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، فَهُوَ مَجَازٌ إلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إذَا صَارَ الْأَظْهَرُ الْخُصُوصَ، كَقَوْلِهِمْ: غَسَلْت ثِيَابِي، وَصَرَمْت نَخْلِي، وَجَاءَتْ بَنُو تَمِيمٍ، وَجَاءَتْ الْأَزْدُ. انْتَهَى.

فصل فيما يجوز تخصيصه

[فَصْلٌ فِيمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ] ُ مِنْ حَقِّ التَّخْصِيصِ أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، فَاللَّفْظُ الَّذِي لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمَعْنَى إخْرَاجِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ إخْرَاجُ الْبَعْضِ مَعَ بَقَاءِ الْبَعْضِ، وَالْوَاحِدُ لَا بَعْضَ لَهُ، فَاسْتَحَالَ تَخْصِيصُهُ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَا يَجُوزُ تَخْصِيصٌ إلَّا فِي ذِي أَجْزَاءٍ يَصِحُّ افْتِرَاقُهَا، لِيُمْكِنَ صَرْفُهُ إلَى بَعْضٍ يَصِحُّ الْقَصْرُ عَلَيْهِ. وَاعْتَرَضَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْوَاحِدَ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ، وَهُوَ يَصِحُّ إخْرَاجُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ، لِصِحَّةِ قَوْلِك: رَأَيْت زَيْدًا وَتُرِيدُ بَعْضَهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إخْرَاجُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَيَنْبَغِي التَّفْصِيلُ. وَأَمَّا الَّذِي يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُمُومُهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ الْمَعْنَى، أَيْ الِاسْتِنْبَاطِ. فَالْأَوَّلُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا، نَحْوَ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، ثُمَّ خُصَّ الذِّمِّيُّ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ. وَالثَّانِي عَلَى ثَلَاثَةٍ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: الْعِلَّةُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَخْصِيصِهَا عَلَى مَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ الْمَنْعُ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُسَمَّاةُ هُنَاكَ بِالنَّقْصِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ،

لِأَجْلِ النُّقْصَانِ عِنْدَ الْجَفَافِ، وَوَجَدْنَا هَذِهِ الْعِلَّةَ فِي الْعَرَايَا مَعَ أَنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَهُ فِيهَا. الثَّانِي: مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ كَدَلَالَةِ التَّأْفِيفِ عَلَى حُرْمَةِ الضَّرْبِ، فَالتَّخْصِيصُ فِيهِ جَائِزٌ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَلْفُوظِ، وَهُوَ التَّأْفِيفُ فِي مِثَالِنَا هَذَا. وَمَنَعَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " مِنْ جَوَازِ تَخْصِيصِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعُمُومِ وَلَا عُمُومَ إلَّا فِي الْأَلْفَاظِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ أَجْلِ الْأَذَى، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى إجَازَةِ الضَّرْبِ مَعَ أَنَّ فِيهِ أَذًى، لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ، قَالُوا: وَهَكَذَا الْقِيَاسُ لَا يَدْخُلُهُ تَخْصِيصٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ تَنْبَنِيَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَعْلُومِ مِنْ جِهَةِ الْفَحْوَى: هَلْ هُوَ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ، وَشَرَطَ الْهِنْدِيُّ فِي الْجَوَازِ أَنْ لَا يَعُودَ نَقْصًا عَلَى الْمَلْفُوظِ كَإِبَاحَةِ ضَرْبِ الْأُمِّ إذَا فَجَرَتْ. أَمَّا إذَا عَادَ نَقَضَا عَلَى الْمَلْفُوظِ كَمَا إذَا قَالَ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] لَكِنْ أَبَاحَ لَهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى مُطْلَقًا، فَلَا يَجُوزُ هَذَا كُلُّهُ مَعَ بَقَاءِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، أَمَّا لَوْ وَرَدَ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ " التَّأْفِيفُ " مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا، بَلْ نَسْخًا لَهُ، وَلِلْمَفْهُومِ أَيْضًا، لِأَنَّ رَفْعَ الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ الْفَرْعِ. الثَّالِثُ: مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كَسَائِمَةِ الْغَنَمِ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ نَفْيُ الْإِيجَابِ عَنْ

مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ مِثْلِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ لِبَعْضِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ الْمَفْهُومُ خِلَافَ مَا ثَبَتَ لِلْمَنْطُوقِ، وَيُعْمَلُ بِذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلِينَ، فَتُخَصُّ الْمَعْلُوفَةُ الْمُعَدَّةُ لِلتِّجَارَةِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ. وَشَرَطَ الْبَيْضَاوِيُّ وَصَاحِبُ " الْحَاصِلِ " لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَصَّصُ رَاجِحًا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْإِمَامُ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ، إذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُخَصَّصِ الرُّجْحَانُ. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَخْصِيصِهِ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " وَهُوَ احْتِمَالٌ لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ مَنَعَ تَخْصِيصَ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ اللَّفْظَ، وَاخْتَارَ تَخْصِيصَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي الْمَنْعُ فِيهِمَا مُطْلَقًا. نَعَمْ هَذَا اخْتِيَارُ سُلَيْمٍ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ "، فَإِنَّهُ مَنَعَ دُخُولَ التَّخْصِيصِ لِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللَّفْظِ، إنْ تَنَاوَلَ وَاحِدًا لَمْ يَدْخُلْهُ تَخْصِيصٌ، وَإِنْ تَنَاوَلَ أَشْيَاءَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ. قَالَ " شَارِحُ اللُّمَعِ " تَخْصِيصُ دَلِيلِ الْخِطَابِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ يَنْبَنِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيهِ: هَلْ هُوَ كَالنُّطْقِ أَوْ كَالْقِيَاسِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: كَالْقِيَاسِ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالنُّطْقِ فَفِي تَخْصِيصِهِ وَجْهَانِ، ذَكَرَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الْمَعْنَى فِي فَحْوَى الْخِطَابِ. قَالَ: فَأَمَّا إذَا اسْتَقَرَّ كَانَ مَا يَرِدُ مُنَاقِضًا لَهُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ.

مسألة العموم المؤكد بكل ونحوها هل يدخله التخصيص

[مَسْأَلَةٌ الْعُمُومُ الْمُؤَكَّدُ بِكُلٍّ وَنَحْوِهَا هَلْ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ] مَسْأَلَةٌ الْعُمُومُ الْمُؤَكَّدُ (بِكُلٍّ) وَنَحْوِهَا هَلْ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ. أَحَدُهُمَا: لَا، وَنَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَازِرِيُّ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ التَّأْكِيدَ يَنْفِي التَّجَوُّزَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْبَعْضَ. وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ لِلْعُمُومِ لَمَا قَالَ: (هَلْ لَنَا مِنْ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) . وَهَذَا يَدْخُلُ فِي الْمَجَازِ لَا فِي التَّخْصِيصِ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، بِدَلِيلِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «فَأَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إلَّا أَبَا قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ» ، فَدَخَلَهُ التَّخْصِيصُ مَعَ تَأْكِيدِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] {إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] إنْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا، فَإِنْ قِيلَ: التَّأْكِيدُ هُنَا مُقَدَّرٌ حُصُولُهُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ فَالْمُؤَكَّدُ هُنَا إنَّمَا هُوَ غَيْرُ الْمُخْرَجِ. قُلْنَا: كَيْفَ يَفْعَلُ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} [طه: 56] ، وَالِاسْتِغْرَاقُ فِيهِ مُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ لَا تَتَنَاهَى؟ قَالَ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ ": وَمِمَّا زَلَّ فِيهِ النَّاقِلُونَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَمُتَّبِعِيهِ أَنَّ صِيغَةَ الْعُمُومِ مَعَ الْقَرَائِنِ تَبْقَى مُتَرَدِّدَةً، وَهَذَا إنْ صَحَّ يُحْمَلُ عَلَى مَوَانِعِ الْعُمُومِ، كَالصِّيَغِ الْمُؤَكَّدَةِ. انْتَهَى. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَرْفَعُ احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ أَيْضًا، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: يَجُوزُ التَّخْصِيصُ الْمُؤَكِّدُ، وَمَثَّلَهُ بِالْآيَةِ

مسألة في الغاية التي ينتهي إليها التخصيص

{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} [الحجر: 30] قَالَ: وَالتَّأْكِيدُ لَا يُزِيلُ احْتِمَالَ اللَّفْظِ، وَإِلَّا لَمْ يَدْخُلْهُ اسْتِثْنَاءٌ، وَبِالْجَوَازِ أَيْضًا صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ مِنْ كِتَابِهِمَا. ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمُؤَكَّدِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ بَعْدَ التَّأْكِيدِ كَوُجُودِهِ مِنْ قَبْلُ. اهـ. وَهَذَا نَظِيرُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَيْضًا فِي جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ الْمُقَيَّدِ بِالْأَبَدِيَّةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْهِنْدِيِّ فِي بَابِ النَّسْخِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ. تَنْبِيهٌ إذَا عُطِفَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ، وَقُلْنَا: إنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْعُمُومِ، وَكَأَنَّهُ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالْخُصُوصِ، وَمَرَّةً بِالْعُمُومِ - يَجِيءُ فِي تَخْصِيصِهِ هَذَا الْخِلَافُ. [مَسْأَلَةٌ فِي الْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إلَيْهَا التَّخْصِيصُ] اُخْتُلِفَ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ بَقَائِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَنَقَلَهُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَصَحَّحَهُ الرَّازِيَّ. وَقَالَ فِي الْآمِدِيَّ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَإِلَيْهِ مَال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ.

قُلْت: وَعِبَارَةُ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": الْأَوْلَى الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، وَإِيجَابُ أَنْ يُرَادَ بِهَا كَثْرَةٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهَا، إلَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الْوَاحِدِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ وَالْإِبَانَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْكَثِيرِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا. انْتَهَى. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَا نَسَبَهُ الْآمِدِيُّ إلَى الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، نَعَمْ اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيَّ. وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْكَثِيرُ. فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْعَامِّ قَبْلَ التَّخْصِيصِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْصُورٍ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": لَمْ يَحُدُّوا الْكَثْرَةَ هُنَا، بَلْ قَالُوا: تُعْرَفُ بِالْقَرَائِنِ، وَأَغْرَبَ بَعْضُهُمْ، فَادَّعَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ هُنَا الْكَثِيرَ عَدَدًا؛ بَلْ الْكَثِيرَ وُقُوعًا، وَالْغَالِبَ وُجُودًا بِحَيْثُ يَقْرُبُ أَنَّهُ مِمَّا خَطَرَ بِالْبَالِ عِنْدَ ذِكْرِ اعْتِبَارِ لَفْظِ الْعَامِّ. وَقَالَ آخَرُونَ: شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مُعْظَمَ الْأَمْرِ إمَّا فِي الْكَثِيرِ وَإِمَّا فِي الِاعْتِبَارِ، أَمَّا فِي الْكَثْرَةِ فَكَمَا إذَا قُلْت: كُلُّ إنْسَانٍ مُصَابٌ، وَكُلُّ مُحْسِنٍ مَشْكُورٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ لَمْ يُصَبْ بِمُصِيبَةٍ إلَّا أَنَّهُ يُحَدِّثُ قَائِلَ ذَلِكَ، وَيَحْسُنُ أَنْ لَا يُقْدَحَ فِي كَلَامِهِ. وَأَمَّا فِي الِاعْتِبَارِ فَكَمَا إذَا قُلْت: خَرَجَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لِلِقَاءِ الْمَلِكِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مَنْ لَهُ اعْتِبَارٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يَخْرُجُوا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَامَّ إنْ كَانَ ظَاهِرًا مُفْرَدًا " كَمَنْ " وَ " الْأَلِفُ وَاللَّامُ " نَحْوُ: اُقْتُلْ مَنْ فِي الدَّار، وَاقْفَعْ السَّارِقَ، جَازَ التَّخْصِيصُ إلَى أَهْلِ الْمَرَاتِبِ: وَهُوَ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الِاسْمَ يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَالْمُسْلِمِينَ. جَازَ إلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ، وَذَلِكَ إمَّا ثَلَاثَةٌ أَوْ اثْنَانِ عَلَى الْخِلَافِ.

قَالَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ كَذَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ فِي نُسْخَةٍ قَدِيمَةٍ وَاعْتَمَدَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " أَيْضًا فَاضْبِطْ ذَلِكَ فَقَدْ زَالَ النَّاقِلُونَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَنَقَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْهُ جَوَازَ الرَّدِّ إلَى الْوَاحِدِ مُطْلَقًا وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " عَنْهُ جَوَازَ الرَّدِّ إلَى ثَلَاثَةٍ وَلَا يَجُوزُ إلَى مَا دُونَهَا إلَّا بِمَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّ " مَنْ، وَمَا " مَحَلُّ وِفَاقٍ فَإِنَّهُ قَالَ لَنَا إنَّ كُلَّ مَا جَازَ تَخْصِيصُهُ إلَى ثَلَاثَةٍ جَازَ تَخْصِيصُهُ إلَى مَا دُونَهَا " كَمَنْ وَمَا " انْتَهَى وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فَقَالَ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ إلَى وَاحِدٍ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الصِّيغَةُ جَمْعًا " كَمَنْ، وَمَا، وَالْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ ". وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْهُ أَنَّهُ أَلْحَقَ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ كَالسَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، بِالْجَمْعِ الْمَعْرُوفِ فِي امْتِنَاعِ رَدِّهِ إلَى الْوَاحِدِ كَذَلِكَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ أَنَّ أَلْفَاظَ الْجُمُوعِ مَوْضُوعَةٌ لِلْجَمِيعِ فَفِي التَّخْصِيصِ إلَى الْوَاحِدِ إخْرَاجٌ عَنْ الْمَوْضِعِ وَلَا كَذَلِكَ " مَنْ وَمَا " وَالْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِتَنَاوُلِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ " أَيْ " " بِمَنْ، وَمَا " قُلْت وَهُوَ كَذَلِكَ، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَبِهِ صَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا أَظُنُّ الْقَفَّالَ يَقُولُ بِهِ فِي كُلِّ تَخْصِيصٍ فَإِنَّهُ لَا يُخَالِفُ فِي صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ إلَى الْوَاحِدِ بَلْ الظَّاهِرُ قَصْرُ قَوْلِهِ عَلَى مَا عَدَا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْمُخَصَّصَاتِ بِدَلِيلِ احْتِجَاجِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُمَّ الْخِلَافُ إلَّا لِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافٌ مِنْ الْمَنْقُولِ عَنْهُ ثُمَّ قُلْت وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ الْخِلَافَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ

ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى إلَّا أَنْ يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ إذَا بَقِيَ مِنْهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى جَوَازِهِ وَأَنَّهُ يَحِلُّ التَّخْصِيصُ مَحَلَّ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ مِنْ الْأَكْثَرِ وَعَكْسِهِ انْتَهَى. قَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَفَّالُ عَجِيبٌ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْبُلُوغُ فِي لَفْظِ " مَنْ " إلَى الْوَاحِدِ أَوْ الِاثْنَيْنِ يَجْعَلُهُ مَجَازًا عِنْدَهُ، فَهَلَّا جَازَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَلْفَاظِ الْجَمْعِ، وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّخْصِيصُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالْبَدَلِ فَيَجُوزُ إلَى الْوَاحِدِ، وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ ابْنُ الْمُطَهَّرِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ مُطْلَقًا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ. حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ مَا بَقِيَ فِي قَضِيَّةِ اللَّفْظِ وَاحِدٌ، وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " عَنْ مُعْظَمِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " عَنْ سَائِرِ أَصْحَابِنَا مَا عَدَا الْقَفَّالَ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي أُصُولِهِ عَنْ إجْمَاعِ أَئِمَّتِنَا. وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ " إلَى الْجُمْهُورِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. قَالَ: إلَّا أَنَّ أَلْفَاظَ الْجَمْعِ كَالرِّجَالِ وَالنَّاسِ، مَتَى بَلَغَ التَّخْصِيصُ مِنْهَا إلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ صَارَ اللَّفْظُ مَجَازًا، بِخِلَافِ لَفْظِ " مَنْ، مَا " فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَجَازًا، وَمَا أَظُنُّ أَصْحَابَنَا يُوَافِقُونَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ وَقَدْ قَالُوا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: لَوْ قَالَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا فُلَانَةَ وَفُلَانَةَ وَفُلَانَةَ يُقْبَلُ

وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ: يَجِبُ أَنْ لَا يُقْبَلَ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَفْظُ الْجَمْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لَهُ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ. انْتَهَى. وَكَلَامُ الْقَاضِي مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ الْقَفَّالِ وَالسَّادِسُ: الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": وَلَا نَعْرِفُهُ لِغَيْرِهِ، أَنَّ التَّخْصِيصَ إنْ كَانَ مُتَّصِلًا، فَإِنْ كَانَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ الْبَدَلِ جَازَ إلَى الْوَاحِدِ، نَحْوُ أَكْرِمْ النَّاسَ إلَّا الْجُهَّالَ، وَأَكْرَمُ النَّاسِ تَمِيمٌ، فَيَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَالِمُ إلَّا وَاحِدًا إنْ كَانَ بِالصِّفَةِ وَالشَّرْطِ فَيَجُوزُ إلَى اثْنَيْنِ نَحْوُ أَكْرَمُ الْقَوْمِ الْفُضَلَاءُ، أَوْ إذَا كَانُوا فُضَلَاءَ. وَإِنْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِمُنْفَصِلٍ وَكَانَ فِي الْعَامِّ الْمَحْصُورِ الْقَلِيلِ، كَقَوْلِك: قَتَلْت كُلَّ زِنْدِيقٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً، وَلَمْ يَبْقَ سِوَى اثْنَيْنِ جَازَ إلَى اثْنَيْنِ. إنْ كَانَ غَيْرَ مَحْصُورٍ أَوْ مَحْصُورًا جَازَ بِشَرْطِ كَوْنِ الْبَاقِي قَرِيبًا مِنْ مَدْلُولِ الْعَامِّ وَحَاصِلُ مَذْهَبِنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " أَنَّ الْعَامَّ إنْ كَانَ وَاحِدًا مُعَرَّفًا بِاللَّامِ، كَالسَّارِقِ وَنَحْوِهِ جَازَ تَخْصِيصُهُ إلَى أَنْ يَبْقَى وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الْمُبْهَمَةُ " كَمَنْ، وَمَا " لَا خِلَافَ فِيهِ، وَفِي مَعْنَاهُ الطَّائِفَةُ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ جَمْعًا كَالْمُسْلِمِينَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالرَّهْطِ وَالْقَوْمِ جَازَ تَخْصِيصُهُ إلَى أَنْ يَبْقَى أَقَلَّ الْجَمْعِ، وَفِي جَوَازِ تَخْصِيصِهِ إلَى أَنْ يَبْقَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْمُعْتَزِلَةِ كَمَا قَالَهُ سُلَيْمٌ. الثَّانِي: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَفَّالِ انْتَهَى وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ إلَى أَقَلَّ

مسألة العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي

مِنْ ثَلَاثَةٍ. وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِلثَّلَاثَةِ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةً، إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إلَى الْمَجَازِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ أَصْلٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، قُلْت: وَعَلَى مَا اخْتَارَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ الْجَوَازِ إلَى الْوَاحِدِ لَا يَبْقَى لِلْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ وَجْهٌ. وَقَدْ سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ: " أَقَلِّ الْجَمْعِ " كَلَامٌ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا. [مَسْأَلَةٌ الْعَامُ إذَا خُصَّ هَلْ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي] مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ إذَا خُصَّ هَلْ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي عَلَى مَذَاهِبَ أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَجَازٌ مُطْلَقًا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ خُصَّ، سَوَاءٌ كَانَ التَّخْصِيصُ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا أَوْ غَيْرَهُ. وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ. كَأَبِي عَلِيٍّ وَابْنِهِ وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": وَهُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَنَسَبَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ

إلَى الْمُحَقِّقِينَ وَنَقَلَهُ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ فِي الْأُصُولِ، وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَسْرِهَا وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَغَيْرُهُ قُلْت وَبِهِ جَزَمَ الدَّبُوسِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَالْبَزْدَوِيُّ وَحَكَوْهُ عَنْ اخْتِيَارِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَحَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ أَيْضًا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ وَضْعٌ لِلْمَجْمُوعِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ بِالْقَرِينَةِ صَارَ مَجَازًا، وَلِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ، فَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيمَا بَقِيَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ خُصَّ. بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ كَالِاسْتِثْنَاءِ. أَوْ مُنْفَصِلٍ كَدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: وَهَذَا. مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. انْتَهَى وَقَدْ وَافَقَ أَبَا حَامِدٍ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ "، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ " الْعُدَّةِ "، وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " فَجَزَمُوا عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَحَكَوْا الْخِلَافَ فِيهِ بِالْمَجَازِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " عَنْ أَكْثَرِ عُلَمَائِنَا وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ وَالْأَكْثَرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، إذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ الْجَمْعِ فَصَاعِدًا وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ

وَالثَّالِثُ: إنَّهُ إنْ خُصَّ بِمُتَّصِلٍ لَفْظِيٍّ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَحَقِيقَةٌ، أَوْ بِمُنْفَصِلٍ فَمَجَازٌ. وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، زَادَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْقَاضِي، وَنَقَلَهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " أَيْضًا قُلْت: هُوَ الَّذِي صَرَّحَ فِي " التَّقْرِيبِ " فَقَالَ مَا نَصُّهُ: وَلَوْ قَرَّرَنَا الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ أَنْ نَقُولَ: إذَا قُدِّرَ التَّخْصِيصُ بِاسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ فَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَإِنْ قُدِّرَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ فَاللَّفْظُ مَجَازٌ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَقَالَ: كُنَّا قَدْ نَصَرْنَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ مُطْلَقًا انْتَهَى قَالَ الْمُقْتَرِحُ: ذَهَبَ الْقَاضِي فِي أَحَدِ مُصَنَّفَاتِهِ إلَى أَنَّهُ مَجَازٌ مُطْلَقًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ الْمُقَارَنِ وَالْمُنْفَصِلِ، فَقَالَ: إنَّ التَّخْصِيصَ الْمُقَارَنَ لَا يُصَيِّرُ اللَّفْظَ مَجَازًا، بَلْ هُوَ بَاقٍ حَقِيقَةً، وَنَرَى أَنَّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ، وَالتَّخْصِيصُ الْمُتَأَخِّرُ نَقُولُ فِيهِ: إنَّهُ يَبْقَى مَجَازًا فِي الْبَقِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَاضِيَ مَا أَرَادَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ إلَّا فِي الِاقْتِصَارِ، وَفِيمَا عَدَا الْمُبْقَى، أَمَّا فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَضْعًا فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَالْقَاضِي إنَّمَا قَالَ: هَذَا تَفْرِيعًا عَلَى رَأْيِ الْمُعَمِّمِينَ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ الْوَقْفُ. وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، كَذَا حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَالْخَامِسُ: إنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ لَفْظِيٍّ لَمْ يَصِرْ مَجَازًا، مُتَّصِلًا كَانَ الدَّلِيلُ أَوْ مُنْفَصِلًا، وَإِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ غَيْرِ لَفْظِيٍّ كَانَ مَجَازًا، كَذَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ. وَالسَّادِسُ: إنْ خُصَّ بِالشَّرْطِ وَالتَّقَيُّدِ بِالصِّفَةِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازُ مَعْنًى فِي الِاسْتِثْنَاءِ، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ.

وَالسَّابِعُ: إنْ كَانَ الْمُخَصَّصُ مُسْتَقِلًّا فَهُوَ مَجَازٌ سَوَاءٌ كَانَ عَقْلِيًّا أَوْ لَفْظِيًّا، كَقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْعَامِّ: أَرَدْت بِهِ الْبَعْضَ الْمُعَيَّنَ. إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ. قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَلَمْ يَذْكُرُوا التَّقْيِيدَ بِالْغَايَةِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَحُكْمُهُ حُكْمُ أَخَوَاتِهِ مِنْ الْمُتَّصِلَاتِ ظَاهِرًا إذْ لَا يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا وَالثَّامِنُ أَنَّهُ مَجَازٌ فِيمَا أُخْرِجَ عَنْهُ فَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ فَحَقِيقَةٌ، لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَخْرَجْنَا مِنْ الْوُجُوبِ: الْمَجَانِينَ، وَالْحُيَّضَ وَأَصْحَابَ الْأَعْذَارِ فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْبَقِيَّةِ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَذَكَرَ الْمُقْتَرِحُ فِي " تَعْلِيقِهِ عَلَى الْبُرْهَانِ " أَنَّهُ مَعْنَى كَلَامِ الْقَاضِي قُلْت: وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ قَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي سُؤَالًا عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا خُصَّ بَعْضُ الْمُسَمَّيَاتِ، فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ. فِي الْبَاقِي لَيْسَ بِمَجَازٍ، بَلْ التَّجَوُّزُ فِي نَفْيِ الشُّمُولِ فَلَا مَجَازَ إذَنْ فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا سَاقِطٌ، لِأَنَّ مَعْنَى الْمَجَازِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لُغَةً فَتَرْكُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْمُخَصَّصِ عَنْ الْمُسَمَّيَاتِ لَا يُحَقِّقُ التَّجَوُّزَ فِيهِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ مَنْ اسْتَعْمَلَ اللَّفْظَ الَّذِي وُضِعَ فِيهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي اسْتِعْمَالٍ مَجَازًا إلَّا فِيمَا تُرِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ وَلَفْظُ الْحِمَارِ إذَا أُطْلِقَ عَلَى الْبَلِيدِ لَمْ يَكُنْ مَجَازًا لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا لِاسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ. وَإِذَا بَطَلَ طَرَفُ وَجْهِ التَّجَوُّزِ إلَى الْعَدَمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي بَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ. ثُمَّ أَوْضَحَ الْقَاضِي هَذَا فَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ إلَّا وَاحِدٌ، فَلَفْظُ الْجَمْعِ مَجَازٌ فِيهِ وِفَاقًا، وَلَمْ يُقَدِّرْ خِلَافًا وَإِنْ كَانَ يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مَعَ غَيْرِهِ

إنْ قَدَّرَ عَامًّا، فَصَرْفُ الْجَمْعِ إلَى الْوَاحِدِ كَصَرْفِ الْجَمْعِ إلَى غَيْرِ الشُّمُولِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ أَنَّ انْطِلَاقَ لَفْظِ " الْمُسْلِمِينَ " عَلَى جَمِيعِهِمْ حَقِيقَةٌ فِي وَضْعِ اللَّفْظِ، فَإِذَا أُخْرِجَ الْحُيَّضُ وَالْمَجَانِينُ تَنَاوَلَ لَفْظُ الْمُسْلِمِينَ الْبَقِيَّةَ بَعْدَ هَذَا الْإِخْرَاجِ وَالتَّخْصِيصِ، كَتَنَاوُلِهِ لَهُمْ قَبْلَ التَّخْصِيصِ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُهُمْ، فَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِيهِمْ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَجْرِ عَلَى التَّعْمِيمِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ التَّعْمِيمُ لِلَّفْظِ مَجَازًا. وَلَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً مِنْ وَجْهٍ وَمَجَازًا مِنْ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا الْمُحَالُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَتَأَمَّلْهُ. انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّ كَوْنَهُ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ بَعْضَ مُقْتَضَاهُ لَا يُنَافِي أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْبَاقِي بِجِهَةِ الْحَقِيقَةِ، وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ أَجْوَدُ الْمَذَاهِبِ بَعْدَ الْأَوَّلِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْمَنْخُولِ ". وَفِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَيْسَ لِلَّفْظِ بِقَضِيَّةِ الْوَضْعِ جِهَتَانِ، وَقَالَ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": هَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَوْ رُدَّ إلَى الْوَاحِدِ كَانَ مَجَازًا مُطْلَقًا. لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي الدَّلَالَةِ. وَالتَّاسِعُ: إنْ بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ جَمْعٌ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَاخْتَارَهُ الْبَاجِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَعَلَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ الْجَمْعِ، فَأَمَّا إذَا بَقِيَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ كَمَا لَوْ قَالَ: لَا تُكَلِّمْ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت زَيْدًا خَاصَّةً، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَجَازًا بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا فِيهِ، لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، وَالْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ لَيْسَا بِجَمْعٍ. قُلْت: لَكِنَّ الْقَاضِيَ حَكَى فِي أَوَاخِرِ كَلَامِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ

حَقِيقَةٌ فِيمَا بَقِيَ. وَإِنْ وَكَانَ أَقَلَّ الْجَمْعِ، ثُمَّ اسْتَبْعَدَهُ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْبَأْ بِهَذَا الْخِلَافِ. لَكِنَّ الْخِلَافَ فِيهِ ثَابِتٌ اسْتَدْرَكَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ عَلَيَّ الْقَاضِي فَقَالَ: وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي أُصُولِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فَمَا بَقِيَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ الْجَمْعِ اهـ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فَقَالَ: إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا وَاحِدٌ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى الْمَجَازِ فَإِنَّ الْعَامَّ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْوَاحِدِ قَالَ: وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِيهِ الِاتِّفَاقَ لَكِنَّ أَبَا حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ خَالَفَ، وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ يَبْقَى فِي تَنَاوُلِهِ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ احْتِجَاجًا مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ، فَإِذَا ثَبَتَ حَمْلُ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ، فَلَا يُسْتَنْكَرُ حَمْلُ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ عَلَى الْوَاحِدِ حَقِيقَةً. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا بَقِيَ أَقَلُّ الْجَمْعِ. قُلْت: وَحَكَى الْبَاجِيُّ عَنْ أَبِي تَمَّامٍ مِنْ شُيُوخِهِمْ أَنَّهُ يَبْقَى حَقِيقَةً، وَإِنْ انْتَهَى التَّخْصِيصُ إلَى الْوَاحِدِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ حَكَى عَنْ الْأَشْعَرِيِّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا لَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الْعُمُومِ كَانَ حَقِيقَةً. فَكَيْفَ يَصِحُّ عَلَى قَوْلِهِ إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ؟ وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: إنَّ اللَّفْظَ الْمُسْتَعْمَلَ فِيمَا بَقِيَ يُحْتَجُّ بِهِ مُجَرَّدًا مِنْ

غَيْرِ دَلَالَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي. فَإِذَا سَلِمَ هَذَا لَمْ يَبْقَ تَحْتَ قَوْلِنَا: إنَّهُ مَجَازٌ فِيمَا بَقِيَ مَعْنًى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا الْقَوْلُ أَعْنِي كَوْنَهُ مَجَازًا ضَعِيفٌ، أَمَّا عَلَى قَاعِدَةِ أَصْحَابِنَا فِي إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي مِنْ الْعُلَمَاءِ فَلَهُ دِرْهَمٌ، لَمْ يُبَيِّنْ أَوَّلَ كَلَامِهِ عَلَى قَصْدِ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ أَصْلًا، فَكَلَامُ النَّفْسِ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَ الْعُلَمَاءِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، لَا قَبْلَ التَّخْصِيصِ وَلَا بَعْدَهُ وَهِيَ فِي كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ، لِعِلْمِهِ بِمُرَادِهِ قَطْعًا، بَلْ تَعْبِيرُهُ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ إنَّمَا كَانَ تَوْطِئَةً لِلْإِتْيَانِ بِالْخُصُوصِ، كَالْجِنْسِ مَثَلًا فِي عُمُومِ مَعْنَاهُ عِنْدَمَا تُورِدُهُ فِي تَحْدِيدِ النَّوْعِ، فَإِنَّك تَأْتِي بِهِ عَامًّا ثُمَّ تُخَصِّصُهُ بِاقْتِرَانِ الْفَصْلِ بِهِ، فَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ مِنْ أَوَّلِ الْقَصْدِ أَصْلًا مُرَادًا، فَكَذَلِكَ فِي تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ، إذْ الْعُمُومُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مَعْقُولَةٌ فِي عُمُومِ اللَّفْظِيِّ كَالْمَعْنَوِيِّ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ خَارِجٌ عَنْ الْمَذَاهِبِ السَّابِقَةِ. قَالَ: وَأَمَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إنْكَارِهِمْ النَّفْسِيِّ فَهُوَ الْحَدُّ، إذَا تَصَوَّرَ اللَّفْظُ فِي الذِّهْنِ لِلتَّلَفُّظِ بِهِ، فَيَكُونُ الْخُصُوصُ إذَنْ مِنْ أَوَّلِ اللَّفْظِ. وَأَمَّا عِلْمُ السَّامِعِ بِالْعُمُومِ فَلَا يُعْتَبَرُ إذْ لَيْسَ لَهُ أَمْرٌ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ مُخَرَّجًا مِنْهُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ، فَإِرَادَةُ إخْرَاجِ بَعْضِ الْمَدْلُولِ: هَلْ تُعَيِّنُ اللَّفْظَ مُرَادًا بِهِ الْبَاقِي أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ كَانَ حَقِيقَةً، وَإِلَّا فَلَا. أَمَّا الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَجَازٌ قَطْعًا، وَلَا يَطْرُقُهُ هَذَا الْخِلَافُ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي بَعْضِ مَدْلُولِهِ، إلَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ دَلَالَةٌ مُطَابِقَةٌ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي كُلِّ فَرْدٍ فَيَطْرُقُهُ الْخِلَافُ وَهُوَ بَعِيدٌ

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَجَازٌ صَحِيحٌ فِي الْعُمُومِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ بَعْضُ مَا تَنَاوَلَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، أَمَّا مَا وَقَعَ التَّخْصِيصُ فِيهِ بَعْدَ إرَادَةِ الْعُمُومِ بِهِ إنْ صَحَّ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لَا نَسْخٌ يَقْوَى هَذَا فِيهِ. الثَّالِثُ: إطْلَاقُهُمْ. الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْمَلُ مَا لَوْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَنَقَلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ الْعَقْلَ، أَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْعَامُّ ظَنِّيًّا مِثْلَ هَذَا التَّخْصِيصِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ فِيمَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ وَالتَّفْسِيرَ دُونَ مَا لَا يَقْبَلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَهُوَ مِنْ أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ عِنْدَهُمْ كَدَلِيلِ الْعَقْلِ لَا يُخْرِجُ الْعَامَّ مِنْ الْقَطْعِ إلَى الظَّنِّ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ. فَكَذَا هُنَا الرَّابِعُ: قَدْ يُدَّعَى فِي الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَعْنِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ، أَنَّهُ لَمْ يَتَوَارَدْ الْخِلَافُ فِيهِمَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْقَائِلَ مَجَازٌ أَرَادَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ، وَالْقَائِلَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ أَرَادَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ بَيَّنَ أَنَّ وَضْعَ الشَّرْعِ فِي الْعَامِّ إذَا خُصَّ يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِلْبَاقِي فَهُوَ إذَنْ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَنْبَأَ عَنْ وَضْعِهَا الْإِجْمَاعُ فَصَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً مَجَازًا لُغَوِيًّا الْخَامِسُ: ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ الْأُصُولِيِّ، وَسُلَيْمٌ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ " أَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي، يَحْتَجُّ بِلَفْظِ الْعُمُومِ فِيمَا لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ مُجَرَّدًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَمَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِجَاجُ بِالْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ فِيمَا بَقِيَ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ ثَابِتٌ فِي الْبَاقِي، وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي كَوْنِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ حُجَّةً فَرْعُ الْكَلَامِ فِي هَذَا فَلِهَذَا أَخَّرْنَا ذِكْرَهَا، وَبِهِ يَتَّضِحُ تَقْرِيرُ مَذْهَبِنَا فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً لَكِنَّ إلْكِيَا الطَّبَرِيَّ

عَكَسَ ذَلِكَ فَقَرَّرَ كَوْنَهُ حُجَّةً. ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ فَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَجَازٌ أَمْ حَقِيقَةٌ؟ وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَقْعَدُ وَأَحْسَنُ. السَّادِسُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ احْتَجُّوا بِنُكْتَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، فَإِنَّهُ يَعْدِلُ بِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ بِالْقَرِينَةِ، فَيَكُونُ مَجَازًا. قَالَ: وَدَلِيلُنَا أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ. فَإِذَا وَرَدَ التَّخْصِيصُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبَيِّنُ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ، فَيُخْرِجُهُ عَنْهُ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيمَا بَقِيَ، بَلْ يَكُونُ مَا بَقِيَ ثَابِتًا فِيهِ بِاللَّفْظِ فَحَسْبُ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ دَلِيلَ التَّخْصِيصِ مُنَافٍ لِحُكْمِ مَا بَقِيَ مِنْ اللَّفْظِ وَمُضَادٌّ لَهُ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ وَيَثْبُتَ الْحُكْمُ مَعَ مُضَادَّتِهِ وَمُنَافَاتِهِ. قَالَ: وَيَصِيرُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عِنْدَنَا اسْمَانِ، كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ: أَحَدُهُمَا: حَقِيقَةٌ فِيهِمْ بِمُجَرَّدِهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: اُقْتُلُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، وَالْآخَرُ حَقِيقَةٌ فِيهِمْ بَعْدَ وُجُودِ قَرِينَةٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا أَهْلَ الذِّمَّةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ قَبْلَ هَذَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَعْطَوْا فُلَانًا ثَوْبًا أَبْيَضَ أَوْ أَصْفَرَ. كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً فِي الثَّوْبِ الْأَصْفَرِ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَإِذَا قَالَ: أَعْطُوا ثَوْبًا وَلَا تُعْطُوهُ غَيْرَ الْأَصْفَرِ، كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ عِنْدَ وُجُودِ الْقَرِينَةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. وَيُخَالِفُ هَذَا اسْتِعْمَالُ اسْمِ الْحِمَارِ فِي الرَّجُلِ الْبَلِيدِ، وَاسْمِ الْأَسَدِ فِي الشُّجَاعِ. لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ يَحْمِلُ عَلَيْهِ بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ الْقَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ وَهِيَ مُمَاثِلَةٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ، فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَا أُرِيدَ بِهِ. فَكَانَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ بِالْقَرِينَةِ فَكَانَ مَجَازًا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْعُمُومِ فِي الْخُصُوصِ فَإِنَّ الْقَرِينَةَ مَا بَيَّنَتْ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ. وَإِنَّمَا بَيَّنَتْ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي الْمُرَادِ بِنَفْسِهِ لَا بِالْقَرِينَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا بِالْقَرِينَةِ، وَالْقَرِينَةُ مُضَادَّةٌ لَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً فِيمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَا مَجَازًا.

مسألة العام إذا خص فإما أن يخص بمبهم أو معين

قَالَ: وَدَلَالَةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْقَرِينَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ يَعْنِي يَجْعَلُ الْجَمِيعَ مَجَازًا، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَشْرٌ إلَّا خَمْسَةً فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إقْرَارٌ بِخَمْسَةٍ: وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّلِيلِ الْمُنْفَصِلِ وَالْمُتَّصِلِ، فَإِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا اتَّصَلَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ بُنِيَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، فَكَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً فِيمَا بَقِيَ وَإِذَا انْفَصَلَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ لَمْ يُبَيِّنْ فَكَانَ مَجَازًا فِيهِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِينَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ فِي أَنَّ اللَّفْظَ بُنِيَ عَلَيْهَا وَدَالَّةٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْهُ وَمَا بَقِيَ يَكُون ثَابِتًا فِيهَا بِاللَّفْظِ لَا بِالْقَرِينَةِ فَيَخْتَارُ أَنْ لَا يَفْتَرِقَ حَالُهُمَا بِوَجْهٍ انْتَهَى. [مَسْأَلَةٌ الْعَامُّ إذَا خُصَّ فَإِمَّا أَنْ يُخَصَّ بِمُبْهَمٍ أَوْ مُعَيَّنٍ] ٍ فَإِنْ خُصَّ بِمُبْهَمٍ كَمَا لَوْ قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا بَعْضَهُمْ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَفْرَادِ، إذْ مَا مِنْ فَرْدٍ إلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْرَجُ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَجْهُولِ مِنْ الْمَعْلُومِ يُصَيِّرُهُ مَجْهُولًا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ إلَّا صَاعًا مِنْهَا لَا يَصِحُّ، وَمِثْلُهُ فِي " الْمَنْخُولِ " بِمَا لَوْ تَمَسَّكَ فِي مَسْأَلَةِ الْوِتْرِ بِقَوْلِهِ: افْعَلُوا الْخَيْرَ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ هَذَا الْأَمْرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَكُونُ مُجْمَلًا. وَهَذَا قَدْ ادَّعَى، فِيهِ جَمَاعَةٌ الِاتِّفَاقَ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَالْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ". وَقَالَ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا كَانَ الْمُخَصَّصُ مُجْمَلًا.

قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا فِي أَمْرٍ وَاجِبٍ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ مَنْ أَجَازَ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْعَامِّ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ عَلَى الْفَوْرِ. قُلْت: وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبَالَغَ فِي تَصْحِيحِ الْعَمَلِ بِهِ مَعَ الْإِبْهَامِ، وَاعْتَلَّ بِأَنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى فَرْدٍ شَكَكْنَا فِيهِ هَلْ هُوَ مِنْ الْمُخَرَّجِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَيُعْمَلُ بِهِ إلَى أَنْ يُعْلَمَ بِالْقَرِينَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُخَصِّصَ مُعَارِضٌ لِلَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُعَارِضًا عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِضْرَابِ عَنْ الْمُخَصِّصِ، وَالْعَمَلُ بِالْعَامِّ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَدْ رَدَّ الْهِنْدِيُّ هَذَا الْبَحْثَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي الْكُلِّ الْمَخْصُوصِ وَغَيْرِهِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِ صَاحِبُ " اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَعِبَارَتُهُ: وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَجْهُولًا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْخُصُوصُ أَصْلًا، بَلْ يَبْقَى النَّصُّ عَامًّا كَمَا كَانَ. كَذَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ فِي " التَّقْوِيمِ ". وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ. فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: الْخِطَابُ إذَا عُلِمَ خُصُوصُهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِمَّا يَخُصُّهُ كَيْفَ يُعْمَلُ بِهِ؟ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى إحَالَةِ هَذَا. وَقَالَ: إنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى تَأْخِيرِهِ إنْ أَجَزْنَاهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيُعْتَقَدُ فِيهِ الْعُمُومُ إلَّا مَوْضِعًا خُصَّ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْعُمُومُ أَمْضَاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ خُصُوصٌ لَخَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيَّنَهُ، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقِفُ فِي هَذَا، لِأَنِّي قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ مَخْصُوصٌ. وَلَعَلَّ الْحُكْمَ الَّذِي حُكِمَ مِنْ حَيِّزِ الْخُصُوصِ كَمَا لَوْ عَلِمَ فِي الْآيَةِ نَسْخًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْرِيَهُ عَلَى الْأَصْلِ، لِجَوَازِ النَّسْخِ. فَكَذَلِكَ التَّخْصِيصُ. انْتَهَى. وَكَذَلِكَ حَكَاهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ، مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، فَقَالُوا: إذَا خُصَّ وَجَبَ الْوَقْفُ فِيهِ إلَى الْبَيَانِ، سَوَاءٌ خُصَّ بِمَجْهُولٍ أَوْ مَعْلُومٍ، لِأَنَّهُ عِنْدَ التَّخْصِيصِ يَصِيرُ مَجَازًا فِي الْبَعْضِ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ مَجْهُولٌ فَلَمْ يَبْقَ حُجَّةً. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إنْ خُصَّ بِمَجْهُولٍ لَمْ يَثْبُتْ التَّخْصِيصُ، ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي ثَبَتَ عِنْدِي مِنْ مَذْهَبِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، سَوَاءٌ خُصَّ بِمَجْهُولٍ أَوْ مَعْلُومٍ، لَكِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى أَفْرَادِهِ تَبْقَى ظَنِّيَّةً، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ صَاحِبُ " اللُّبَابِ ": ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنْ يَبْقَى عَامًّا فِيمَا وَرَاءَ التَّخْصِيصِ، وَيَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَصَّصُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، وَلَكِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ لَا لِلْعِلْمِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّخْصِيصِ عِنْدَنَا، فَإِنَّهُ قَطْعِيٌّ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْمُخَصَّصُ مَعْلُومًا صَحَّ التَّعَلُّقُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ: لَا يَبْقَى لِلْبَاقِي عُمُومٌ، وَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ مَعْلُومًا يَبْقَى مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، أَوْ مَجْهُولًا لَا يُوجِبُهُمَا؛ بَلْ يُوقَفُ عَلَى دَلِيلٍ آخَرَ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْمُخَصَّصُ مَجْهُولًا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْخُصُوصُ أَصْلًا، بَلْ يَبْقَى النَّصُّ عَامًا كَمَا كَانَ. انْتَهَى. وَإِنْ خُصَّ بِمُعَيَّنٍ كَمَا لَوْ قِيلَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا أَهْلَ الذِّمَّةِ أَوْ الْمُسْتَأْمَنَ، فَهَلْ يَجُوزُ التَّعْلِيقُ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَارَهُ

الْآمِدِيُّ، وَالرَّازِيَّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: إنَّهُ الْأَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ الْمُتَّصِلِ بِالْخِطَابِ وَالْمُنْفَصِلِ عَنْهُ. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَلَكِنَّهُ دُونَهُ مَا لَمْ يَتَطَرَّقْ التَّخْصِيصُ إلَيْهِ، فَيُكْسِبُهُ ضَرْبًا مِنْ التَّجَوُّزِ، وَلَوْ رَجَحَ «نَهْيُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةُ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا لَكَانَ الْخَمْرُ وَالْقَاذُورَاتُ الْمُحَرَّمَةُ خَارِجَةً عَنْهَا. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي " التَّقْوِيمِ ": إنَّهُ الَّذِي صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ. قَالَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ قَطْعًا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّخْصِيصِ. وَكَذَا قَالَ السَّرَخْسِيُّ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: خُصَّ هَذَا الْعَامُّ بِالْقِيَاسِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ

لِلْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " عَنْ أَصْحَابِهِمْ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَنُقِلَ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَحَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالْغَزَالِيُّ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ، قَالَ: ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ. قَالَ: وَكَلَامُ الْوَاقِفِيَّةِ فِي الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ أَظْهَرُ لَا مَحَالَةَ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ يَصِيرُ مُجْمَلًا، وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَا إذَا كَانَ الْمُخَصَّصُ مَجْهُولًا، هَكَذَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَإِلْكِيَا، قَالَ: وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضِعٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِقَرِينَةٍ، وَمِقْدَارُ التَّأْثِيرِ لِلْقَرِينَةِ فِي اللَّفْظِ مَجْهُولٌ، فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ مَجْهُولًا. قَالَ: وَهُوَ مُتَّجِهٌ جِدًّا، وَغَايَةُ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ عَلِمُوا بِمَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ مِنْ الْعُمُومِ. وَلَهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّهُمْ نَقَلُوهُ مِنْ الْقَرَائِنِ الَّتِي شَاهَدُوهَا وَأَلِفُوهَا، وَكَانُوا بِمَرْأَى مِنْ الرَّسُولِ، وَمَسْمَعٍ مِنْ الْوَحْي. الثَّانِي: أَنَّ صِيغَةَ الْعُمُومِ لَيْسَتْ نَصًّا فِي الِاسْتِغْرَاقِ لِاحْتِمَالِ إرَادَةِ الْخُصُوصِ، وَإِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى غَالِبِ الْمُسَمَّيَاتِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَخْطُرُ بِالْبَالِ. نَعَمْ، إنْ كَانَ مَضْمُونُ التَّخْصِيصِ اسْتِثْنَاءَ مَا لَا يَشِذُّ عَنْ الذِّهْنِ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ، فَيَتَّجِهُ مَا قَالَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ، ثُمَّ قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ إلَّا بِمَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ بِأَنَّهُ إسْقَاطُ أَمْرِ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَالْمُمْكِنِ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ الْقَرِينَةِ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ، وَلَا يُقَدَّرُ وَرَاءَهُ قَرِينَةٌ هِيَ غَائِبَةٌ عَنَّا فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْعُمُومِ الَّذِي لَمْ يَتَنَاوَلْهُ تَخْصِيصٌ إجْمَاعًا لِإِمْكَانِ أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى سُؤَالٍ، وَقَرِينَةِ حَالٍ. اهـ.

وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: الْقَائِلُ بِهَذَا، إنْ كَانَ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْعُمُومَ، فَقَدْ أَثْبَتْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُثْبِتُهُ فَمِنْ نَفْسِ قَوْلِهِ يَسْقُطُ قَوْلُهُ هَذَا، لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ عَمَّا بَقِيَ لِأَنَّ الْبَعْضَ خَصَّ، وَمَا لَمْ يُخَصَّ دَاخِلٌ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ فِيمَا جَاءَ عَامًّا لِإِمْكَانِ خُصُوصِهِ، فَلَا يُحْكَمُ بِهِ، حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يُخَصَّ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ إلَى أَنَّ الصِّيغَةَ الْمَوْضُوعَةَ إذَا خُصَّتْ صَارَتْ مُجْمَلَةً، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهَا فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ كَسَائِرِ الْمَجَازَاتِ، وَإِلَيْهِ مَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ. وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: هَذَا الْمَذْهَبُ يُعْتَبَرُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْكُلِّ بِمَا هُوَ كُلٌّ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ بِالتَّخْصِيصِ أَنَّ الْكُلَّ لَيْسَ مُرَادًا بَقِيَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا، لَا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ وَلَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ مُجْمَلًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِصِفَةِ الظُّهُورِ، فَإِذَا وَرَدَ التَّخْصِيصُ، تَبَيَّنَ أَنَّ الشُّمُولَ لَيْسَ مُرَادًا، فَيَبْقَى اللَّفْظُ مُجْمَلًا، فَيَكْتَسِبُ الْإِجْمَالَ. وَالثَّالِثُ: إنْ خُصَّ بِمُتَّصِلٍ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَةِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِيمَا بَقِيَ، وَإِنْ خُصَّ بِمُنْفَصِلٍ فَلَا؛ بَلْ يَصِيرُ مُجْمَلًا. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْكَرْخِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ، وَكَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ الْكَرْخِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ: كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ فِي الْعَامِّ: إذَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِاللَّفْظِ، وَصَارَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا

عَلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ، فَيَكُون بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ، وَكَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ، فَيَقُولُ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ بَقَاءِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا فَكَانَ يَقُولُ: هَذَا بَدِيهِيٌّ، وَلَا أَقْدِرُ أَعْزِيهِ إلَى أَصْحَابِنَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ إنْ لَمْ يَمْنَعْ اسْتِفَادَةَ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ وَتَعْلِيقِهِ بِظَاهِرِهِ، جَازَ التَّعْلِيقُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، لِأَنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ أَهْلَ الذِّمَّةِ، لَا يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْقَتْلُ بِاسْمِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ، وَيُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطِ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ الظَّاهِرُ لَمْ يَجُزْ التَّعَلُّقُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لِأَنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ وَالْحِرْزِ، وَكَوْنِ الْمَسْرُوقِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِلسَّارِقِ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِعُمُومِ اسْمِ السَّارِقِ، وَيُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ تِلْمِيذِ الْكَرْخِيِّ. وَالْخَامِسُ: إنْ كَانَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ كَالْمُشْرِكِينَ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَا، كَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، فَيَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ عَلَى بَيَانِ التَّخْصِيصِ، وَهُوَ إخْرَاجُ الْحَائِضِ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ الْمُتَعَيِّنُ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ. حَكَاهُ الْقَاضِي، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَقَالَ: إنَّهُ تَحَكُّمٌ وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَعَلَّهُ قَوْلُ مَنْ لَا يُجَوِّزُ التَّخْصِيصَ إلَيْهِ، وَحُكِيَ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ أَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِهِ فِي وَاحِدٍ، وَلَا يَتَمَسَّكُ بِهِ جَمْعًا.

وَالسَّابِعُ: الْوَقْفُ، فَلَا نَقُولُ: خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ إلَّا بِدَلِيلٍ. حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَجَعَلَهُ مُغَايِرًا لِقَوْلِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْبَاقِيَ عَلَى الْخُصُوصِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: مَحَلُّ قَوْلِنَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَمَّا الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ مِنْ " تَعْلِيقِهِ " وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَهُ أَيْضًا. الثَّانِي: حَيْثُ قُلْنَا: إنَّهُ مُجْمَلٌ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ هُوَ مُجْمَلٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ الْمُرَادَ مِنْ ظَاهِرِهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ، أَوْ مُجْمَلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ؟ وَجْهَانِ: قَالَ: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الثَّانِي، لِأَنَّ افْتِقَارَ الْمُجْمَلِ إلَى الْقَرِينَةِ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيفِ بِمَا هُوَ مُرَادٌ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَافْتِقَارُ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ إلَى الْقَرِينَةِ مِنْ جِهَةِ أَنْ يُعْرَفَ بِهَا مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْخِلَافَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مَجَازٌ

لَا يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ حَقِيقَةٌ جَوَّزَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَجَازٌ، ثُمَّ أَجَازَ التَّعَلُّقَ بِهِ يَعْنِي كَالْقَاضِي صَارَ الْخِلَافُ مَعَهُ لَفْظِيًّا. كَذَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ؟ فَمَنْ قَالَ: قَطْعِيَّةٌ جَعَلَ الَّذِي خُصَّ كَاَلَّذِي لَمْ يُخَصَّ وَإِلَّا فَلَا. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إذَا وَرَدَ: هَلْ يَتَنَاوَلُ الْجِنْسَ أَوْ لَا، وَتَنْدَرِجُ الْآحَادُ تَحْتَهُ ضَرُورَةَ اشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ، أَوْ يَتَنَاوَلُ الْآحَادَ وَاحِدًا وَاحِدًا، حَتَّى يَسْتَغْرِقَ الْجِنْسَ؟ فَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَظْهَرُ عُمُومَهُ. فَإِذَا تَخَصَّصَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْعُمُومَ، وَعِنْدَ إرَادَةِ عَدَمِ الْعُمُومِ لَيْسَ بَعْضٌ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَيَكُونُ مُجْمَلًا.

فصل في تعريف المخصص

[فَصْلٌ فِي تَعْرِيفِ الْمُخَصِّصِ] [أَقْسَامُ الْمُخَصَّص] فَصْلٌ فِي الْمُخَصِّصِ تَعْرِيفُهُ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ تَعْرِيفَ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ، وَالدَّلِيلُ حَظُّهُ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ أَنَّ الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ، لِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَقَعَ بِهِ. وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الدَّلِيلُ عَلَى الْإِرَادَةِ. وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": الْمُخَصِّصُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّهَا الْمُؤَثِّرَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الدَّالِ عَلَى الْإِرَادَةِ مَجَازًا، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": الْعَامُّ يَصِيرُ عِنْدَنَا خَاصًّا بِالْأَدِلَّةِ، وَيَصِيرُ خَاصًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُخَصِّصَ حَقِيقَةٌ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ يُخَصِّصُ بِالْإِرَادَةِ أُسْنِدَ التَّخْصِيصُ إلَى إرَادَتِهِ، فَجُعِلَتْ الْإِرَادَةُ مُخَصِّصَةٌ، ثُمَّ جُعِلَ مَا دَلَّ عَلَى إرَادَتِهِ وَهُوَ الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ أَوْ غَيْرُهُ مُخَصِّصًا فِي الِاصْطِلَاحِ، وَالْمُرَادُ هُنَا إنَّمَا هُوَ الدَّلِيلُ، فَنَقُولُ: الْمُخَصِّصُ لِلْعَامِّ إمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْمُنْفَصِلُ، وَإِمَّا أَلَا يَسْتَقِلُّ، بَلْ يَتَعَلَّقُ مَعْنَاهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَالْمُتَّصِلُ.

أَقْسَامُهُ: وَقَسَّمَهُ الْجُمْهُورُ إلَى أَرْبَعَةٍ: الِاسْتِثْنَاءُ وَالشَّرْطُ وَالصِّفَةُ، وَالْغَايَةُ. وَزَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْقَرَافِيُّ: بَدَلَ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ، وَنَازَعَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِيهِ، لِأَنَّهُ فِي نِيَّةِ طَرْحِ مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ وَقَدْ وَجَدْته بِالِاسْتِقْرَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ: هَذِهِ الْخَمْسَةُ، وَسَبْعَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ: الْحَالُ، وَظَرْفُ الزَّمَانِ، وَظَرْفُ الْمَكَانِ، وَالْمَجْرُورُ، وَالتَّمْيِيزُ، وَالْمَفْعُولُ مَعَهُ، وَالْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ. فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ لَيْسَ فِيهَا وَاحِدٌ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، وَمَتَى اتَّصَلَ بِمَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ عُمُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ صَارَ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ. وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَ فِي الْحَالِ حِكَايَةُ سِيبَوَيْهِ عَنْ الْخَلِيلِ: أَنَّك إذَا قُلْت: مَرَرْت بِالْقَوْمِ خَمْسَتَهُمْ بِالنَّصْبِ كَانَ الْمَعْنَى حَصْرَ الْمَمْرُورِ فِي خَمْسَةٍ مِنْهُمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَمْرُورُ بِهِ سِتَّةً، وَإِذَا رَفَعْت الْخَمْسَةَ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَمْرُورُ بِهِ أَكْثَرَ.

الأول الاستثناء في المخصص

[الْأَوَّلُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمُخَصَّص] الْأَوَّلُ: الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ لُغَةً: بِمَعْنَى الْعَطْفِ وَالْعَوْدِ، كَقَوْلِهِمْ: ثَنَيْت الْحَبْلَ إذَا عَطَفْت بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى الصَّرْفِ وَالصَّدِّ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَنَيْت فُلَانًا عَنْ رَأْيِهِ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: لِأَنَّهُ قَدْ ثَنَّى ذِكْرَهُ مَرَّةً فِي الْجُمْلَةِ، وَمَرَّةً فِي التَّفْصِيلِ. وَاصْطِلَاحًا: الْإِخْرَاجُ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ، لِيَخْرُجَ مَا لَوْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إلَّا زَيْدًا، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي، وَسَيَأْتِي. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ بِإِخْرَاجِ الثَّانِي مِنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ بِوَاسِطَةٍ مَوْضُوعَةٍ لِذَلِكَ، فَقَوْلُنَا: الْحُكْمُ جِنْسٌ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللَّفْظِ، فَيَشْمَلُ الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْقَطِعَ، وَخَرَجَ بِالْوَسَائِطِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ نَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ، وَأَسْتَثْنِي زَيْدًا، وَخَرَجُوا وَلَمْ يَخْرُجْ زَيْدٌ. تَنْبِيهٌ الْإِخْرَاجُ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ عَامِلًا بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، إذْ الْإِخْرَاجُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ مَبْنِيًّا فَلَا إخْرَاجَ عَنْهُ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.

وَحَدَّهُ ابْنُ عَمْرُونٍ مِنْ النُّحَاةِ بِأَنْ يَنْفِيَ عَنْ الثَّانِي مَا يُثْبِتُ لِغَيْرِهِ بِإِلَّا أَوْ كَلِمَةٍ تَقُومُ مَقَامَهَا، فَيَشْمَلُ أَنْوَاعَ الِاسْتِثْنَاءِ: مِنْ مُتَّصِلٍ، وَمُنْقَطِعٍ، وَمُفْرَدٍ، وَجُمْلَةٍ، وَتَامٍّ، وَمُفَرَّغٍ، وَخَرَجَ الْوَصْفُ بِإِلَّا أَوْ غَيْرِهَا، وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْقَطِعَ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ عَلَى الْقَوْلِ بِالِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، لِتَغَايُرِ حَقِيقَتِهِمَا، إذْ الْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ، وَالثَّانِي مَجَازٌ. وَجَمَعَهُمَا ابْنُ مَالِكٍ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ، فَقَالَ: تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ فِي قُوَّةِ حَدَّيْنِ. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ " النِّهَايَةِ " أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ تَعْلِيقَ الْأَلْفَاظِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ اسْتِثْنَاءً فِي مِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِي " الْمُحِيطِ " لِلْحَنَفِيَّةِ يُسَمَّى الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلَّا وَأَخَوَاتِهَا اسْتِثْنَاءَ التَّحْصِيلِ، وَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ اسْتِثْنَاءَ التَّعْطِيلِ. قَالَ الْخَفَّافُ: الِاسْتِثْنَاءُ ضِدُّ التَّوْكِيدِ، يُثْبِتُ الْمَجَازَ وَيُحَقِّقُهُ، وَصَرَّحَ النُّحَاةُ بِأَنَّ اللَّفْظَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ، فَإِذَا جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ رُفِعَ الْمَجَازُ وَقَرَّرَهُ، فَاللَّفْظُ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ ظَنِّيٌّ، وَبَعْدَهُ قَطْعِيٌّ، وَهَذَا مُعَاكِسٌ لِقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ عَدُّوا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَامَّ قَبْلَ التَّخْصِيصِ قَطْعِيٌّ، وَبَعْدَهُ ظَنِّيٌّ. قِيلَ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ احْتِمَالَ التَّجَوُّزِ قَبْلَ التَّخْصِيصِ ثَابِتٌ، وَبَعْدَ التَّخْصِيصِ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُقَرِّرُ الْمَجَازَ فِي إخْرَاجِ شَيْءٍ، وَيُحَقَّقُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا بَقِيَ تَحْقِيقًا ظَاهِرًا لَا يُخَالِفُ مَا لَمْ تَأْتِ قَرِينَةٌ، كَمَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، إلَّا أَنَّ الْقَرِينَةَ قَبْلَهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقُوَّةُ وَهَلْ الْإِخْرَاجُ مِنْ الِاسْمِ أَوْ الْحُكْمِ أَوْ مِنْهُمَا؟ أَقْوَالٌ، أَصَحُّهَا الثَّالِثُ،

مسألة الاستثناء لا يصح إلا من مستثنى منه عام أو من عدد شائع

وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَهَلْ هُوَ إخْرَاجٌ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ أَوْ لَجَازَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، رَجَّحَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " الْأَوَّلَ. قَالَ: وَإِلَّا لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْجِنْسِ وَغَيْرِهِ، فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَ مِنْ الْجِنْسِ حَقِيقَةً وَمِنْ غَيْرِهِ مَجَازًا، ثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ عَامٍّ أَوْ مِنْ عَدَدٍ شَائِعٍ] مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ عَامٍّ أَوْ مِنْ عَدَدٍ شَائِعٍ، فَالْأَوَّلُ نَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] {إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] ، وَلِهَذَا صَحَّ: عَلَى عَشَرَةٍ إلَّا دِرْهَمًا، لِشُيُوعِ الْخَمْسِينَ فِي مُطْلَقِ الْأَلْفِ، وَالْأَلْفُ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ بِزَمَنٍ مَخْصُوصٍ، وَشُيُوعُ الْعَشَرَةِ فِي مُطْلَقِ الْعَدَدِ. وَمِثْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً، فَإِنَّ ثَلَاثًا نَكِرَةٌ شَائِعَةٌ تَقَعُ عَلَى الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، وَالْمَكْرُوهِ، وَالْمُبَاحِ. قَالَهُ الْمُوَفَّقُ حَمْزَةُ الْحَمَوِيُّ، وَسَنُعِيدُ الْخِلَافَ فِي الْعَدَدِ [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْجِنْسِ وَمِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ] مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْجِنْسِ بِلَا خِلَافٍ كَقَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، وَهُوَ الْمُتَّصِلُ، وَمِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ عَلَى الْأَصَحِّ وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ

بِالْمُنْفَصِلِ، نَحْوُ: إلَّا حِمَارًا، وَأَفْسَدَ تَعْرِيفَ الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِنَا: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إلَّا زَيْدٌ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ أَحَدٍ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ؛ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُتَّصِلُ مَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ مِنْهُ يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ، نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، وَالْمُنْقَطِعُ مَا لَا يَتَنَاوَلُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ فِيهِ الثَّانِيَ، أَوْ نَقُولُ: الْمُتَّصِلُ مَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءًا مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْمُنْقَطِعُ مَا لَا يَكُونُ. قَالَ ابْنُ سِرَاجٍ: وَلَا بُدَّ فِي الْمُنْقَطِعِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَ " إلَّا " قَدْ دَلَّ عَلَى مَا يُسْتَثْنَى مِمَّا قَبْلَهُ بِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ، وَأَوْضَحَهُ ابْنُ مَالِكٍ، فَقَالَ: لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ الدُّخُولِ فِي الْأَوَّلِ، كَقَوْلِك: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا حِمَارًا، فَإِنَّهُ بِذِكْرِ الْقَوْمِ يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ لِأَتْبَاعِهِمْ الْمَأْلُوفَاتِ، فَذَكَرَ إلَّا حِمَارًا لِذَلِكَ، فَهُوَ مُسْتَثْنًى تَقْدِيرًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلَكِنْ بِشَرْطٍ، وَهُوَ أَنْ يُتَوَهَّمَ دُخُولُهُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوَجْهٍ مَا، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، كَقَوْلِهِ: وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ فَالْيَعَافِيرُ قَدْ تُؤَانِسُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِهَا مَنْ يُؤْنَسُ بِهِ إلَّا هَذَا النَّوْعُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمُنْقَطِعَ يَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْ مِقْدَارٍ، أَوْ مِنْ مَفْهُومِ لَفْظٍ لَا مِنْ مَنْطُوقِهِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ غَالِبًا إذَا تَشَارَكَ الْجِنْسَانِ

فِي مَعْنًى أَعَمَّ، كَمَا فِي السَّلَامِ وَاللَّغْوِ الْمُتَشَارِكَيْنِ فِي أَصْلِ الْقَوْلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا - إِلا قِيلا سَلامًا} [الواقعة: 25 - 26] ، وَقَوْلِهِ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الرُّجْحَانِ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاطِنَ: الْأَوَّلُ: فِي أَنَّهُ هَلْ وَقَعَ فِي اللُّغَةِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَتَأَوَّلَهُ تَأَوُّلًا رَدَّهُ بِهِ إلَى الْجِنْسِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى. الثَّانِي: أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ، وَالصَّوَابُ وُقُوعُهُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يُنْكِرُ وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ إلَّا أَعْجَمِيٌّ. الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ فِي صِحَّتِهِ فِي الْمُخَاطَبَاتِ فِي الْعَادَاتِ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ أَصْحَابِنَا فِيهِ. فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى جَوَازِهِ وَأَبَى ذَلِكَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، فَأَمَّا مَنْ جَوَّزَهُ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا عَبْدًا قُبِلَ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] {إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] وَدَلِيلُنَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ شَرْطُهُ أَنْ يُخْرِجَ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ الِاسْمِ، غَيْرَ الْجِنْسِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّ إبْلِيسَ دَخَلَ تَحْتَ الْأَمْرِ، فَرَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أُضْمِرَ فِيهِ. وَتَأَوَّلَ قَوْمٌ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّمَا قُبِلَ ثَمَّةَ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى بَيَانِهِ، لِأَنَّهُ اقْتَضَى الْإِطْلَاقَ، وَالْمَعْنَى إلَّا مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ قَالَ: وَتَمَسَّكَ الْمُجَوِّزُ بِقَوْلِ

الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْإِقْرَارِ ": لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا عَبْدًا، فَقَدْ اسْتَثْنَى الْعَبْدَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ جِنْسِهَا. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ إلَّا قِيمَةَ الْعَبْدِ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْجِنْسِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] {إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَالْمُرَادُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} [البقرة: 34] أَيْ الْمَلَائِكَةُ وَإِبْلِيسُ، فَحُذِفَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى الْمُضْمَرِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْأَمْرِ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ. قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ بِدَلِيلٍ، فَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا. وَمِمَّنْ اخْتَارَ الْمَنْعَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْحَنَفِيَّة، وَالْأُسْتَاذِ ابْنِ دَاوُد، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنْ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ. الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ فِي الْإِقْرَارِ، وَالْخِلَافُ فِيمَا عَدَاهُ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمَاوَرْدِيِّ قَالَ: لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّتِهِ فِي الْإِقْرَارِ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. قَالَ: وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ دُونَ الْعَدَدِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا أَلْفًا جَوَّزَهُ نَظَرًا إلَى قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى، فَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةً فَمَا زَادَ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَهَا صَحَّ، وَأَلْزَمَ مَا بَقِيَ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْخِلَافَ فِيهِ، وَقَالَ: لَمْ يَسْتَعْمِلْ اللُّغَوِيُّونَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، قَالَ: وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا انْطَوَى

عَلَى التَّعَرُّضِ بِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ جِنْسًا، فَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْحَقِيقِيُّ، كَقَوْلِك: رَأَيْت النَّاسَ إلَّا زَيْدًا. قَالَ: وَقَدْ تَرِدُ صِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِلَا خِلَافٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] {إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] وَالْخَطَأُ لَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسَمَّى هَذَا الْجِنْسُ اسْتِثْنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ لَا، وَالْأَظْهَرُ الْمَنْعُ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا، فَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ مِنْ جِنْسِهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى إلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ أَنْكَرَ هَذَا فَقَدْ جَوَّزَ اسْتِثْنَاءَ الْمَكِيلِ مِنْ الْمَكِيلِ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَاسْتِثْنَاءَ الْمَوْزُونِ مِنْ الْهَيْكَلِ. اهـ. وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ تَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ، وَمِنْهُمْ الْآمِدِيُّ فِي الْإِحْكَامِ فَقَالَ: ذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّة وَالْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ إلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَاخْتَارَ التَّوَقُّفَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَانِعَ لَا يُسَمَّى مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً، بَلْ يَجْعَلُ " إلَّا " بِمَعْنَى لَكِنْ، وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ مَا يَقْتَضِيه. وَحَكَى الْمَازِرِيُّ فِي التَّعْلِيقَةِ " ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: صِحَّتُهُ، وَالِاعْتِدَادُ بِهِ مُطْلَقًا، وَعَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٌ.

وَالثَّانِي: عَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَعَزَاهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَالثَّالِثُ: إنْ قَدَّرَ بِفَرْدٍ نَحْوُ قَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً مُعَيَّنَةً اعْتَدَّ بِهِ، وَيَسْقُطُ مِقْدَارُهُ مِنْ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ بِوَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ، فَإِنَّ مَنْ لَا يُقَدَّرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَلَزِمَتْ الْجُمْلَةُ الْأُولَى. قَالَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْحَكَمِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمُسْتَصْفَى ": الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ مَنَعَهُ قَوْمٌ مِنْ جِهَةِ الْغَرَضِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَأَجَازَهُ الْأَكْثَرُونَ مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْمُجَوِّزُونَ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَدْفَعُوا وُجُودَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْمَانِعُونَ لَمْ يَقْطَعُوا الْجِهَةَ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا الْمُنْقَطِعُ عَلَى وَضْعِ الِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ: وَقَدْ حَلَّ هَذَا الشَّكَّ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فَقَالَ: إنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إبْدَالَ الْجُزْئِيِّ مَكَانَ الْكُلِّيِّ، كَمَا يُبْدَلُ الْكُلِّيُّ مَكَانَ الْجُزْئِيِّ اتِّكَالًا عَلَى الْقَرَائِنِ وَالْعُرْفِ، مَثَلًا إذَا قَالَ: مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تُفْهِمُ مَا سِوَاهُ، فَلِذَلِكَ يُسْتَثْنَى، وَيَقُولُ: إلَّا امْرَأَةً، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ كُلُّهُ مُتَّصِلًا، إلَّا أَنَّ الِاتِّصَالَ مِنْهُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَمِنْهُ فِي الْمَعْنَى خَاصَّةٌ. قَالَ: وَإِذَا تَصَفَّحَ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ وُجِدَ عَلَى مَا قَالَهُ، وَقَدْ انْفَرَدَ بِحَلِّ هَذَا الشَّكِّ. قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ النَّحْوِيُّ فِي كِتَابِ " الْعَوْنِيِّ ": أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَتَأَوَّلُوا تَأَوُّلًا بِهِ إلَى الَّذِي مِنْ الْجِنْسِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا خِلَافَ. قَالَ: لَكِنَّ النُّحَاةَ قَدَّرُوهُ " بِلَكِنَّ "، وَهُوَ غَيْرُ مُشَابِهٍ لِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، بَلْ الَّذِي أَجَازَهُ الْفُقَهَاءُ يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِامْتِنَاعِهِ، فَإِنَّهُمْ مَثَّلُوهُ بِنَحْوِ: لَهُ عَشَرَةٌ إلَّا ثَوْبًا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا اللَّفْظُ: فَإِنَّ اللُّغَةَ لَا تَسْتَعْمِلُ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمُثْبَتِ إنَّمَا تَسْتَعْمِلُهُ فِي الْمَنْفِيِّ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمُسْتَحِيلٌ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا جِيءَ بِهِ مُقَابِلًا لِلتَّأْكِيدِ. فَإِنَّمَا قُلْت: جَاءَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ إلَّا زَيْدًا، حَقَّقْت بِالِاسْتِثْنَاءِ الْإِشْكَالَ

فِي عُمُومِ الْمَجِيءِ لَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجِئْ، فَإِذَا قُلْت: جَاءَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا حَقَّقْت بِالِاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضَ لَهُمْ. وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَصَوُّرُهُ فِي: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَوْبًا، فَإِنْ قَالَ: الْمَعْنَى إلَّا ثَوْبًا وَأَكْثَرَ لَزِمَهُ الْعَشَرَةُ، فَأَيْنَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. قُلْت: وَقَوْلُهُ: فِي الْأَوَّلِ: لَا يَجُوزُ فِي الْإِثْبَاتِ مَمْنُوعٌ، بَلْ جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ سَوَّغُوهُ فِيهِ الرَّابِعُ: الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ اسْتِثْنَاءً عَلَى مَذَاهِبَ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ عَنْ ابْنِ جِنِّي، وَقَالَ الْإِمَامُ: هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ، وَعَلَى هَذَا فَإِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ هَلْ هُوَ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ الْمَعْنَوِيِّ؟ قَوْلَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَجَازٌ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ "، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ "، وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، وَاخْتَارَهُ الرُّمَّانِيُّ مِنْ النَّحْوِيِّينَ فِي " شَرْحِ الْمُوجَزِ ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ فِي " شَرْحِ الْإِيضَاحِ ": ذَهَبَ أَكْثَرُ النَّاسِ إلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْمُنْقَطِعَ اتِّسَاعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كِلَاهُمَا أَصْلٌ. انْتَهَى.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " وَالْمَازِرِيُّ، وَحَكَى الْقَاضِي قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَلَامٍ مُبْدَأٍ مُسْتَأْنَفٍ. وَقَالَ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: مُنْقَطِعٌ حَقِيقَةً، وَمَنْ قَالَ: كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي وَالْمَازِرِيُّ: الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ قُلْت: بَلْ هُوَ مَعْنَوِيٌّ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَهُ حَقِيقَةً جَوَّزَ التَّخْصِيصَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَأَيْضًا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ، أَوْ لَجَازَ دُخُولُهُ. وَاحْتَجَّ فِي " الْمَحْصُولِ " عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ، بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ اللَّفْظِ إذْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى صَارِفٍ عَنْهُ، وَلَا مِنْ الْمَعْنَى وَإِلَّا صَحَّ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِوُجُوبِ اشْتَرَاكِ كُلِّ شَيْئَيْنِ فِي مَعْنًى لَوْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " الْخِلَافَ عَلَى نَمَطٍ آخَرَ، فَقَالَ: اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: وَأَحَدُهَا: أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَجَعَلُوهُ لَغْوًا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لَفْظًا وَمَعْنًى. الثَّالِثُ: يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. قَالَ: وَهُوَ الْأَوْلَى بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا، أَوْ مِائَةُ دِينَارٍ إلَّا ثَوْبًا، يَكُونُ مُثْبِتًا لِلدِّينَارِ وَالثَّوْبِ بِالتَّقْدِيرِ.

قَالَ: وَأَمَّا إذَا اسْتَثْنَى مِنْ زَيْدٍ وَجْهَهُ. أَوْ مِنْ الدَّارِ بَابَهَا، فَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، لِأَنَّ وَجْهَ زَيْدٍ جُزْءٌ مِنْهُ. انْتَهَى. قِيلَ: وَهَذَا الْخِلَافُ غَرِيبٌ، وَقَدْ جَزَمَ الْأَصْحَابُ بِدُخُولِ بَابِ الدَّارِ فِي بَيْعِهَا، وَلَمْ يَحْكُوا خِلَافًا. قُلْت: يُؤْخَذُ مِنْ " الْمُسْتَصْفَى " الْخِلَافُ، فَإِنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَشَرَطَ هُوَ قَبْلَ ذَلِكَ كَوْنَهُ مِنْ الْجِنْسِ. قَالَ: لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَابِ، وَلَا اسْمُ زَيْدٍ عَلَى وَجْهِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مِائَةُ ثَوْبٍ إلَّا ثَوْبًا. قَالَ: وَعَلَى هَذَا قَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْجِنْسِ، وَشَرَطَ هُوَ قَبْلَ ذَلِكَ كَوْنَهُ مِنْ الْجِنْسِ، فَجَاءَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَيَجِيءُ عَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ: عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهُ بِقَوْلِك: رَأَيْت زَيْدًا إلَّا يَدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهُ بِاسْمِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا أَهْلَ الذِّمَّةِ، أَوْ إلَّا زَيْدًا، وَهُوَ الْأَشْبَهُ فِيهِ. وَأَمَّا الْخِلَافُ الْأَوَّلُ، فَذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " إذْ قَالَ: فَإِنْ عَادَ إلَى غَيْرِ جِنْسِهِ صَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَأَجَازَهُ قَوْمٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَأَبْطَلَهُ قَوْمٌ فِيهِمَا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي " الْعُدَّةِ " فِي بَابِ الْإِقْرَارِ: إذَا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْمَعْنَى، أَوْ مِنْ اللَّفْظِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ الْمَعْنَى، فَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَكَأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ مِائَةَ دِرْهَمٍ. وَالثَّانِي: مِنْ اللَّفْظِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَشْهَدُ لِهَذَا. انْتَهَى.

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ ": لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجِنْسِ هُنَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ، فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ كُلَّهَا عِنْدَهُمْ مُتَجَانِسَةٌ، بَلْ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِجِنْسٍ يُسْتَثْنَى مِنْهُ بِلَفْظٍ لَمْ يُوضَعْ لِذَلِكَ الْجِنْسِ، نَحْوُ: مَالِي ابْنٌ إلَّا بِنْتٌ، فَإِنَّ لَفْظَ الِابْنِ غَيْرُ جِنْسِ لَفْظِ الْبِنْتِ. وَقَالَ السُّهْرَوَرْدِيّ: لَا نَعْنِي بِالْجِنْسِ هُنَا الْمَنْطِقِيَّ، فَإِنَّ الثَّوْرَ مُجَانِسٌ لِلْإِنْسَانِ وَمُشَارِكٌ لَهُ فِي الْجِنْسِ الْأَقْرَبِ، بَلْ نَعْنِي بِهِ غَيْرَ الْمُشَارِكِ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَصْلُ كَوْنُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَمَعْنَى الْمُجَانِسَةِ أَنْ لَا يُقْصَرَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْمُسْتَثْنَى فِي الْفِعْلِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ سَوَاءٌ كَانَ رَاجِحًا عَلَيْهِ أَوْ لَا، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ": لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فِي الدَّارِ إلَّا رَجُلٌ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَكَانَ فِي الدَّارِ شَاةٌ لَا يَحْنَثُ، لِقُصُورِ الشَّاةِ عَلَى الْآدَمِيِّ فِي الْكَيْنُونَةِ فِي الدَّارِ، لِأَنَّ كَيْنُونَةَ الْآدَمِيِّ، فِي الدَّارِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَكَيْنُونَةَ الشَّاةِ بِطَرِيقِ الْقَصْرِ وَالتَّبَعِيَّةِ، وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فِي الدَّارِ إلَّا شَاةً فَعَبْدُهُ حُرٌّ، فَكَانَ فِيهَا آدَمِيٌّ حَنِثَ، لِقُصُورِ الشَّاةِ عَنْ الْآدَمِيِّ فِي الْكَيْنُونَةِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ الِاسْتِثْنَاءَ مُخَصِّصًا يَشْمَلُ الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْقَطِعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ وَلَا بَيَانَ، لِأَنَّهُ لَا يُخْرِجُ مِنْ الْمُسْتَثْنَى شَيْئًا، وَإِنَّمَا هُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، فَإِنْ زَعَمَ الْخَصْمُ أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ، وَأَنَّهُ مَعَ الْمُسْتَثْنَى جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، فَذَلِكَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ الْجِنْسِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

مسألة شروط صحة الاستثناء

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يُخَصَّصُ تَخْصِيصًا مَا، وَلَيْسَ كَالْمُتَّصِلِ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ يُخَصِّصُ مِنْ الْجِنْسِ أَوْ الْجُمْلَةِ، وَالْمُنْقَطِعَ يُخَصِّصُ أَجْنَبِيًّا مِنْ ذَلِكَ. قُلْت: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُتَّصِلَ يُخَصِّصُ الْمَنْطُوقَ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، وَأَمَّا الْمُنْقَطِعُ فَيُخَصِّصُ الْمَفْهُومَ، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، فَإِذَا قِيلَ: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا حِمَارًا، فَقِيلَ وُرُودُ الِاسْتِثْنَاءِ كَانَ يُفْهَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُمْ، فَالِاسْتِثْنَاءُ حِينَئِذٍ مِنْ الْمَفْهُومِ الْمُقَدَّرِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنَّمَا يَصِحُّ جَعْلُهُ مُخَصَّصًا إذَا جَعَلْنَا لِلْمَفْهُومِ عُمُومًا. [مَسْأَلَةٌ شُرُوطُ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ] مَسْأَلَةٌ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ شُرُوطٌ أَحَدُهَا الِاتِّصَالُ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَفْظًا، بِأَنْ يُعَدَّ الْكَلَامُ وَاحِدًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، نَحْوُ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَكُونَ انْفِصَالُهُ وَتَأَخُّرُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ اسْتَوْفَى غَرَضَهُ مِنْ الْكَلَامِ كَالسُّكُوتِ، لِانْقِطَاعِ نَفْسٍ أَوْ بَلْعِ رِيقٍ، فَإِنْ انْفَصَلَ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَغَا. وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَوَّزَ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ عَلَى نَحْوِ مَا جَوَّزَهُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّخْصِيصِ عَنْ الْعُمُومِ وَالْبَيَانِ عَنْ الْمُجْمَلِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ عَنْهُ، فَقِيلَ إلَى شَهْرٍ: وَقِيلَ إلَى سَنَةٍ، وَقِيلَ: أَبَدًا.

ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ، وَقَالَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ، بِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ ارْتِفَاعِ الثِّقَةِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، لِإِمْكَانِ تَرَاخِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَصِحَّ يَمِينٌ قَطُّ. وَمِنْهُمْ مِنْ أَوَّلَهُ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بِمَا إذَا نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ، ثُمَّ أَظْهَرَ نِيَّتَهُ بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ يُدَيَّنُ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَا يُدَيَّنُ فِيهِ الْعَبْدُ يُقْبَلُ ظَاهِرًا. وَقِيلَ: يَجُوزُ بِشَرْطٍ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَّا زَيْدًا: أُرِيدَ الِاسْتِثْنَاءُ، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ اسْتِثْنَاءَاتِ الْقُرْآنِ، فَيَجُوزُ فِي كَلَامِ اللَّهِ خَاصَّةً. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ التَّأْخِيرَ فِيهِ غَيْرُ قَادِحٍ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ خَيَالٌ تَخَيَّلُوهُ مِنْ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الصَّائِرِينَ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْأَزَلِيَّ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا التَّرْكِيبُ فِي جِهَاتِ الْوُصُولِ لِلْمُخَاطَبِينَ، لَا فِي كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: هُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ، فَلَا يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَكَذَلِكَ الْمُثْبَتُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ لَا تُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّمَا هُوَ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً، كَمَنْ حَلَفَ، وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْإِخْرَاجِ بِإِلَّا وَأَخَوَاتِهَا. قَالَ: وَنَقَلَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] قَالُوا: الْمَعْنَى إذَا نَسِيتَ قَوْلَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُلْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَمْ يُخَصِّصْ.

قُلْت: وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى يَمِينٍ فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ إلَى سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] قَالَ: إذَا ذَكَرَ اسْتَثْنَى، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، لَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ: لَوْ صَحَّ هَذَا عِنْدَهُ، لَاحْتَمَلَ رُجُوعَهُ إذْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ أَسْنَدَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ ذُكِرَتْ طُرُقُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي " الْمُعْتَبَرِ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمِنْهَاجِ وَالْمُخْتَصَرِ. وَحَكَى ابْنُ النَّجَّارِ فِي " تَارِيخِ بَغْدَادَ " أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ أَرَادَ الْخُرُوجَ مَرَّةً مِنْ بَغْدَادَ فَاجْتَازَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، وَإِذَا بِرَجُلٍ عَلَى رَأْسِ سَلَّةٍ فِيهَا بَقْلٌ، وَهُوَ يُحْمَلُ عَلَى ثِيَابِهِ، وَهُوَ يَقُولُ لِآخَرَ مَعَهُ: مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ، إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ تَعَالَى لِأَيُّوبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] بَلْ كَانَ يَقُولُ لَهُ: اسْتَثْنِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّحَيُّلِ فِي الْبِرِّ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: بَلْدَةٌ فِيهَا رَجُلٌ يَحْمِلُ الْبَقْلَ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا. وَمِثْلُهُ احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] فَلَوْ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِاتِّصَالِ لَمْ يَكُنْ لِشَرْعِ الْكَفَّارَةِ وَإِيجَابِهَا مَعْنًى، لِأَنَّهُ كَانَ يُسْتَثْنَى.

وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ اسْتَدْعَى أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ وَقَالَ لَهُ: كَيْفَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ يَلْحَقُ بِالْخِطَابِ وَيُغَيِّرُ حُكْمَهُ، وَلَوْ بَعْدَ زَمَانٍ. فَقَالَ: عَزَمَتْ عَلَيْك أَنْ تُفْتِيَ بِهِ، وَلَا تُخَالِفَهُ. وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ لَطِيفًا فِيمَا يُورِدُهُ، مُتَأَنِّيًا فِيمَا يُرِيدُهُ، فَقَالَ لَهُ: رَأْيُ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفْسِدُ عَلَيْك بَيْعَتَك؛ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَك، وَبَايَعَك رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ، وَاسْتَثْنَى. فَانْتَبَهَ الرَّشِيدُ، وَقَالَ: إيَّاكَ أَنْ تُعَرِّفَ النَّاسَ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَاكْتُمْهُ. وَقَالَ ابْنُ ظَفَرَ فِي " الْيَنْبُوعِ ": إذَا حَقَّقْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ضَعُفَ أَمْرُ الْخِلَافِ فِيهَا. وَتَحْقِيقُهَا أَنَّهُ لَا يَخْلُو الْحَالِفُ التَّارِكُ لِلِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الْجَزْمَ، وَتَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ، فَمَا أَظُنُّ الْخِلَافَ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا. أَوْ يَكُونُ نَوَى أَنْ يَسْتَثْنِيَ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِالِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ فَتَلَفَّظَ بِهِ، فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُعَدَّ اسْتِثْنَاؤُهُ لَغْوًا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاهِلًا عَنْ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فَهَذِهِ الصُّورَةُ صَالِحَةٌ لِلِاخْتِلَافِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهَا قَوْلُ مَنْ صَحَّحَ الِاسْتِثْنَاءَ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَشْهَدُ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْلِفْ، وَلَا تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ ذِكْرَ يَمِينٍ. انْتَهَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَلْ هُوَ حَالٌ لِلْيَمِينِ بَعْدَ انْعِقَادِهَا، أَوْ مَانِعٌ مِنْ الِانْعِقَادِ لَا حَالٌ؟ فَمَنْ قَالَ: مَانِعٌ شَرَطَ الِاتِّصَالَ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَالٌ، فَقِيلَ: بِالْقُرْبِ، وَقِيلَ: مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَأْقِيتٍ بِالْقُرْبِ. وَفِي الْبَابِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إلَّا الْإِذْخِرَ» . وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ لَمَّا قَالَ: لَأَطُوفَنَّ الْحَدِيثَ، «وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: إلَّا سَهْلَ بْنَ بَيْضَاءَ» . الشَّرْطُ الثَّانِي عَدَمُ الِاسْتِغْرَاقِ، وَإِلَّا لَتَنَاقَضَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرِقُ بَاطِلٌ، وَيَبْقَى أَصْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَالِهِ، حَكَوْا فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ وَالنَّقْلِ نِزَاعٌ فِي الْمَذَاهِبِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ رَأَيْت فِي كِتَابِ

الْمَدْخَلِ " لِابْنِ طَلْحَةَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ حِكَايَةَ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ فِي: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا، وَقَدْ حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ أَيْضًا عَنْهُ، وَنَقَلَ اللَّخْمِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ، لِأَنَّ النَّدَمَ مُنْتَفٍ بِإِمْكَانِ الرَّجْعَةِ، بِخِلَافِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا، لِظُهُورِ النَّدَمِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَيَّدُوا الْبُطْلَانَ بِمَا إذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، نَحْوُ: نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي. أَوْ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقًا فِي الْوَاقِعِ نَحْوُ: نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا هَؤُلَاءِ، وَأَشَارَ إلَيْهِنَّ، وَأَوْصَيْت لَهُ بِثُلُثِ مَالِي، إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ. كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْهِدَايَةِ " فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ الزِّيَادَاتِ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ اللَّفْظِ لَا عَلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرَ طَلَقَاتٍ إلَّا ثَمَانِيَ طَلْقَاتٍ، تَقَعُ طَلْقَتَانِ، وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَشَرَةُ لَا صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ، وَمَعَ هَذَا لَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَيُلْغَى مَا بَعْدَهُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ تَتْبَعُ صِحَّةَ اللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَتَى وَقَعَ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَهُوَ يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ

مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِعَدَمِ مِلْكِهِ، لَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ اللَّفْظِ، وَمُتَصَوَّرٌ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ النِّسْوَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ اللَّفْظُ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَأَمَّا عِنْدَنَا أَيْ الشَّافِعِيَّةِ فَهَذَا مَا لَمْ يُعَقِّبْهُ بِاسْتِثْنَاءٍ آخَرَ، فَلَوْ عَقَّبَهُ بِاسْتِثْنَاءٍ آخَرَ، نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا عَشَرَةً، إلَّا ثَلَاثَةً، فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ لَمْ يَصِحَّ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ، وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ، وَسَقَطَ مِنْ الْبَيْنِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَالْمَنْعُ مِنْهُ أَوْلَى. وَعَنْ الْفَرَّاءِ جَوَازُهُ فِي الْمُنْقَطِعِ، نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا أَلْفَيْنِ، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَفْهُومِ وَفِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ لَفْظًا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا، أَمَّا حَالًا وَحُكْمًا فَيَصِحُّ كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا فُلَانَةَ وَفُلَانَةَ وَفُلَانَةَ، وَلَيْسَ لَهُ امْرَأَةٌ سِوَاهُنَّ، فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا إلَّا ثَلَاثَةً صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ ثُمَّ إمَّا أَنْ يُسْتَثْنَى الْأَقَلُّ أَوْ الْأَكْثَرُ أَوْ الْمُسَاوِي: أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ فَجَائِزٌ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " إنْ كَانَ لَيْسَ بِوَاحِدٍ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا حَبَّةً، أَوْ إلَّا سُدُسًا. وَإِنْ كَانَ جُزْءًا صَحِيحًا كَالْوَاحِدِ، وَالثُّلُثِ فَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَهْجَنَهُ، وَقَالَ: الْأَحْسَنُ فِي الْخِطَابِ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عِنْدِي تِسْعَةٌ، وَلَا يَقُولُ عَشَرَةٌ، إلَّا وَاحِدًا. وَقَالَ فِي " شَرْحِ التَّلْقِينِ " عَنْ قَوْمٍ: إنَّهُمْ شَذُّوا، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ إلَّا

لِضَرُورَةٍ إلَيْهِ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُسُورِ، كَقَوْلِهِ: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا رُبْعَ دِرْهَمٍ، أَوْ إلَّا نِصْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالُوا: قَوْلُك: مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةً، يَعْنِي لَهُ عِنْدِي تِسْعُونَ، فَنُقِضَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] وَفِي هَذَا اسْتِثْنَاءُ الْأَقَلِّ مِنْ الْأَكْثَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ كَسْرًا فِي الْعَدَدِ، فَأَجَابُوا بِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْكَسْرِ، لِأَنَّ التَّجْزِئَةَ الْمُقْتَرَحَةَ مِنْ النِّصْفِ إلَى الْعُشْرِ، وَهَذَا كَالْكَسْرِ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ مِنْ الْأَلْفِ كَنِصْفِ الْعُشْرِ، فَصَارَ فِي مَعْنَى اسْتِثْنَاءِ الْكَسْرِ وَهَذَا مَرْدُودٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَتَكَلُّفٌ فِيهِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلنُّحَاةِ: أَحَدُهُمَا: يَمْتَنِعُ، وَعَلَيْهِ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ: وَلَمْ تَرِدْ بِهِ اللُّغَةُ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا نَقَصَ يَسِيرًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَوْ اسْتَثْنَى أَكْثَرَ لَزَالَ الِاسْمُ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: لَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي مِائَةٌ إلَّا سَبْعَةً وَتِسْعِينَ، مَا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ عَبَثًا مِنْ الْقَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَاب " الْمَسَائِلِ ": لَا يَجْرِي فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ تَأْسِيسَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى تَدَارُكِ قَلِيلٍ مِنْ كَثِيرٍ أَغْفَلْتَهُ أَوْ نَسِيتَهُ لِقِلَّتِهِ، ثُمَّ تَدَارَكْته بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَنْقُصُ نُقْصَانًا يَسِيرًا، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الشَّيْءِ، وَأَمَّا مَعَ الْكَثْرَةِ فَيَزُولُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إنَّهُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ النُّحَاةِ، وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْهُمْ، وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ، نَحْوُ: لَهُ عِنْدِي عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً. فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ. وَهُوَ قَوْلُ السِّيرَافِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ مِنْ النُّحَاةِ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]

وَالْمُتَّبِعُونَ لَهُ هُمْ الْأَكْثَرُ، بِدَلِيلِ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] . وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالْعِبَادَ الْمُضَافِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هُمْ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ، لَكِنَّهُ يَدْخُلُ الْغَاوُونَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَّصِلٌ، وَقَوْلُهُ: {إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] أَقَلُّ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. لِأَنَّ قَوْلَهُ يَتَنَاوَلُ الْمَلَكَ، وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ، وَكُلُّ الْغَاوِينَ أَقَلُّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الْمَلَائِكَةُ يَطُوفُونَ بِالْمَحْشَرِ سَبْعَةَ أَدْوَارٍ» وَذَلِكَ أَعْظَمُ مَنْ فِي الْمَحْشَرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: الْقَاطِعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْغَاوِينَ مِنْ الْمُخْلَصِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاسْتَثْنَى الْمُخْلَصِينَ مِنْ الْغَاوِينَ فِي قَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ إبْلِيسَ: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] ، فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَاوِينَ وَالْمُخْلَصِينَ أَقَلَّ مِنْ الْآخَرِ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: " مِنْهُمْ " عَائِدٌ لِبَنِي آدَمَ، وَالْمُخْلَصُ مِنْهُمْ قَلِيلٌ، وَانْفَصَلَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ: " الْمُخْلَصُونَ " هُنَا هُمْ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمَلَائِكَةُ وَسُكَّانُ السَّمَوَاتِ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ الْغَاوِينَ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ اسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ مِنْ الْأَكْثَرِ.

وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ وَجْهًا آخَرَ: وَهُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ السَّامِعُ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ جَازَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقْبُحُ إذَا اسْتَثْنَى مَا يَعْلَمُ السَّامِعَ أَنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَبْقَاهُ. وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْعَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَاخْتَارَهُ الْأَشْعَرِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ فِي " شَرْحِ التَّلْقِينِ " عَنْ ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ، قَالَ: وَذُكِرَ أَنَّهُ نَاظَرَ فِي ذَلِكَ أَبَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَذَكَرَ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَيْنِ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ "، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَمِنْ شُبَهِ الْمُجَوِّزِينَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمُخَصَّصِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَا خُصِّصَ أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ فِي الْعُمُومِ، فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إذَا قُلْنَا إنَّ اللُّغَةَ تَثْبُتُ قِيَاسًا، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ لَمْ يَتِمَّ، وَكَثِيرًا مَا يَتَّحِدُ الْمَعْنَى، وَتَخْتَلِفُ أَحْكَامُ إعْرَابِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ يَحْسُنُ إخْرَاجُ أَكْثَرِ الْعُمُومِ بِغَيْرِ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَصِحُّ بِهِ، ثُمَّ الْمَانِعُونَ لِلْأَكْثَرِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ الَّذِي يُسْتَثْنَى، فَقَالَ ابْنُ مُغِيثٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ الثُّلُثُ فَمَا دُونَهُ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. وَأَمَّا الْمُسَاوِي، فَمَنْ جَوَّزَ الْأَكْثَرَ فَهُوَ هُنَا أَجْوَزُ، وَمَنْ مَنَعَهُ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ. وَطَرَدَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ فَأَلْحَقَهُ بِأَكْثَرَ فِي الْمَنْعِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ، وَاحْتَجَّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ} [المزمل: 3] فَالضَّمِيرُ فِي (نِصْفَهُ) عَائِدٌ عَلَى اللَّيْلِ قَطْعًا، (وَنِصْفَهُ) بَدَلٌ، فَإِمَّا مِنْ اللَّيْلِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَيَكُونُ إلَّا قَلِيلًا نِصْفًا، وَإِمَّا مِنْ قَلِيلٍ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِاللَّيْلِ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا تَمَسَّكَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْأَكْثَرِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) . وَأُجِيبَ بِأَنَّ نِصْفَهُ مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: قُمْ نِصْفَهُ، لَا بَدَلَ،

لِأَنَّ النِّصْفَ لَا يُقَالُ فِيهِ: قَلِيلٌ: وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ أَوَّلًا بِقِيَامِ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلًا، فَيَكُونُ أَمْرًا بِقِيَامِ الْأَكْثَرِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: نِصْفَهُ مُخَالِفٌ لَهُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ، وَشَرْطُ النَّاسِخِ أَنْ يَكُونَ مُتَرَاخِيًا. وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: بَلْ ضَمِيرُ (نِصْفُهُ) يَعُودُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ، بَدَلُ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ، وَجَازَ وَإِنْ كَانَ الْقَلِيلُ مُبْهَمًا، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِالْعَادَةِ، أَيْ مَا يُسَمَّى قَلِيلًا فِي الْعَادَةِ وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ مَنْعَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ. قَالَ: وَلَهُ فِي الْمُسَاوِي وَجْهَانِ، وَنَقَلَ الْمَازِرِيُّ وَالْبَاجِيُّ عَنْ الْقَاضِي قَوْلَيْنِ فِي أَكْثَرَ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْمَازِرِيُّ، وَالْآمِدِيَّ عَنْ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْأَكْثَرُ وَالْمُسَاوِي. وَشَرَطُوا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ النِّصْفِ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ فِي " شَرْحِ الْجُزُولِيَّةِ " عَنْ الْبَصْرِيِّينَ. وَاَلَّذِي فِي " التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي: يَمْتَنِعُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ فِي الْأَشْبَهِ عِنْدَنَا، وَإِنْ كُنَّا قَدْ نَصَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ جَوَازَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْمَازِرِيُّ: آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي الْمَنْعُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْقَاضِي لِلْمُسَاوِي: وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: كَانَ الْقَاضِي أَوَّلًا يُجَوِّزُ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ آخِرًا فِي " التَّقْرِيبِ وَالْإِرْشَادِ " وَقَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ صَحَّ، وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْعُقُودِ، قَالُوا: وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ إذَا كَانَتْ الْكَثْرَةُ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ لَا مِنْ اللَّفْظِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ

عَلَيْهِمْ بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا عَدَدٌ مَحْصُورٌ، وَفَرَّقُوا بِوُرُودِ اللُّغَةِ فِي هَذَا دُونَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ حَمْلَ الْجِنْسِ عَلَى الْعُمُومِ إنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ لَا مِنْ جِهَةِ الْقَطْعِ عَلَى جَمِيعِ الْجِنْسِ، بِخِلَافِ الْأَعْدَادِ فَإِنَّ جَمِيعَهَا مَنْطُوقٌ بِهَا فَصَارَ صَرِيحًا. قَدْ صَرَّحُوا بِحِكَايَةِ هَذَا مَذْهَبًا آخَرَ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ صَرِيحًا، فَلَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ نَحْوُ: عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً، وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ نَحْوُ: خُذْ الدَّرَاهِمَ إلَّا مَا فِي الْكِيسِ الْفُلَانِيِّ، وَكَانَ مَا فِي الْكِيسِ أَكْثَرَ مِنْ الْبَاقِي. وَحَكَى ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي كِتَابِ " النُّكَتِ " لَهُ قَوْلًا رَابِعًا عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُمْلَةً فَيَمْتَنِعُ، نَحْوُ جَاءَ إخْوَتُك الْعَشَرَةُ إلَّا تِسْعَةً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُفَصَّلًا وَمُعَدَّدًا فَيَجُوزُ، نَحْوُ: إلَّا زَيْدًا وَبَكْرًا وَخَالِدًا إلَى أَنْ يَأْتِيَ إلَى التِّسْعَةِ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ السَّابِقِ خَامِسٌ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ السَّامِعُ الْأَكْثَرَ مِنْ الْأَقَلِّ فَيَمْتَنِعُ، وَإِلَّا جَازَ. وَيَخْرُجُ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ هُوَ جَوَازُهُ فِي الْمُنْقَطِعِ دُونَ الْمُتَّصِلِ، فَحَصَلَ سِتَّةُ مَذَاهِبَ، ثُمَّ يُضَافُ إلَيْهَا الْقَوْلُ الْآتِي: أَنَّهُ يَصِحُّ وَلَكِنْ لَمْ تَرِدْ بِهِ اللُّغَةُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْقَلِيلُ الَّذِي يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ الثُّلُثُ فَمَا دُونَهُ. وَهَاهُنَا فَوَائِدُ: إحْدَاهَا: أَشَارَ الْمَازِرِيُّ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ اعْتَذَرَ عَنْ الْمَانِعِ فِي الْأَكْثَرِ بِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ، فَرَأَى أَنَّهَا لَمْ تَسْتَعْمِلْ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ، وَمَا تَمَسَّكَ بِهِ الْخُصُومُ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ لُغَةِ الْعَرَبِ، لَكِنَّ الْعَرَبَ وَإِنْ

لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ. وَبِذَلِكَ صَرَّحَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: فَقَالَ: يَصِحُّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ فِي اللُّغَةِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ مِنْ أَئِمَّةِ النُّحَاةِ: أَجَازَ قَوْمٌ اسْتِثْنَاءَ أَكْثَرِ الْجُمْلَةِ، وَمَنَعَ آخَرُونَ فَلَمْ يُجِيزُوا أَنْ يُسْتَثْنَى إلَّا مَا كَانَ دُونَ النِّصْفِ مِنْهَا، وَلِهَذَا الْقَوْلِ يَشْهَدُ قِيَاسُ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِهِ جَاءَ السَّمَاعُ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِمُسْتَحِيلٍ فِي الْمَعْقُولِ، وَلَكِنَّ الْآخَرَ يَمْنَعُهُ، وَمَنْ ادَّعَى فِيهِ سَمَاعًا أَوْ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَادَّعَى مَا لَا أَصْلَ لَهُ. الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ ": الصَّحِيحُ فِي الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: يُسْتَثْنَى الْقَلِيلُ مِنْ الْكَثِيرِ، وَيُسْتَثْنَى الْكَثِيرُ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ يُسْتَثْنَى الْكَثِيرُ مِنْ الْقَلِيلِ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَيُقَالُ: عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً حَتَّى يَبْلُغَ تِسْعَةً. الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْعَدَدِ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِلنُّحَاةِ فِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْجَوَازُ، وَعَلَيْهِ بَنَى الْفُقَهَاءُ مَذَاهِبَهُمْ فِي الْأَقَارِيرِ وَغَيْرِهَا. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهَا نُصُوصٌ، فَالْإِخْرَاجُ مِنْهَا يُخْرِجُهَا عَنْ النَّصِّيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا قُلْت: ثَلَاثَةٌ بِهِ إلَّا وَاحِدًا كُنْت قَدْ أَوْقَعَتْ الثَّلَاثَةَ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ قَوْلِك: جَاءَ الْقَوْمُ إلَّا عَشَرَةً. وَأَجَابَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ} [العنكبوت: 14] بِأَنَّ الْأَلْفَ لَمَّا كَانَ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّكْثِيرِ. كَقَوْلِك: اُقْعُدْ أَلْفَ سَنَةٍ، تُرِيدُ بِهَا زَمَنًا طَوِيلًا، دَخَلَ الِاحْتِمَالُ فَجَازَ أَنْ يُبَيِّنَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ لِلتَّكْثِيرِ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُمْنَعُ اسْتِثْنَاءُ الْعَقْدِ نَحْوُ: قُصِدَ عِشْرُونَ إلَّا عَشَرَةً، وَيَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ مَا دُونَهُ نَحْوُ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً. الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَقْتَرِنَ قَصْدُهُ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ، فَلَوْ بَدَا لَهُ عَقِبَ الْفَرَاغِ؛ فَالْأَصَحُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ - وَادَّعَى أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ - الْمَنْعُ لِإِنْشَائِهِ بَعْدَ الْوُقُوعِ. وَإِنْ بَدَا لَهُ فِي الْأَثْنَاءِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا - وَهُوَ نَصُّ الْبُوَيْطِيِّ - صِحَّتُهُ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنْ يَلِيَ الْكَلَامَ بِلَا عَاطِفٍ، فَلَوْ وَلِيَ الْجُمْلَةَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ كَانَ لَغْوًا بِاتِّفَاقٍ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَمَثَّلَهُ: بِنَحْوِ: لَهُ عِنْدِي عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَإِلَّا دِرْهَمًا أَوْ فَإِلَّا دِرْهَمًا. وَشَرَطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ " أَنْ يَكُونَ مُسْتَرْسِلًا، فَإِنْ كَانَ فِي مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ، كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ لِفُلَانٍ إلَّا هَذَا، فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى مُعَيَّنٍ اقْتَضَى الْإِقْرَارُ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فِيهَا. فَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْبَعْضِ كَانَ رَاجِحًا، لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَ الْأَصْحَابِ الصِّحَّةُ وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ كَوْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ لِيَصِحَّ خُرُوجُ بَعْضِهِ، فَإِنْ عَادَ إلَى غَيْرِ جِنْسِهِ صَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ. وَشَرَطَ أَيْضًا أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ ضِدَّ حُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ إثْبَاتًا جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ نَفْيًا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ إثْبَاتًا، وَسَيَأْتِي.

مسألة وجود الاستثناء في لغة العرب

[مَسْأَلَةٌ وُجُودُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ] قِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ أَوْ غَيْرَ دَاخِلٍ. وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا نُسِبَ إلَيْهِ مَعَ الْقَوْمِ امْتَنَعَ إخْرَاجُهُ مِنْ النِّسْبَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ تَوَارُدُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الطَّلَاقِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا وَقَعَ لَا يَرْتَفِعُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ لَا يَصِحُّ إخْرَاجُهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ تَوَارُدُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا فُهِمَ مِنْهُ الْقِيَامُ بِمُفْرَدِهِ، وَالْقَوْمُ بِمُفْرَدِهِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ زَيْدًا، وَفُهِمَ إخْرَاجُ زَيْدٍ مِنْ الْقَوْمِ بِقَوْلِهِ: إلَّا زَيْدًا، ثُمَّ حُكِمَ بِنِسْبَةِ الْقِيَامِ بَعْدَ إخْرَاجِ زَيْدٍ. وَعَلَى هَذَا يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الَّذِي يُورَدُ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] لِأَنَّ الْعَالِمَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَا يَحْكُمُ عَلَى كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْإِسْنَادِ إلَّا بَعْدَ تَمَامِهِ. [الْمَذَاهِبُ فِي تَقْدِيرِ دَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ] وَلِقُوَّةِ هَذَا الْإِشْكَالِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي تَقْدِيرِ الدَّلَالَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَلْ هُوَ إخْرَاجٌ قَبْلَ الْحُكْمِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: وَنَسَبَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ لِلْأَكْثَرِينَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: عَشَرَةٌ، فِي قَوْلِهِ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً: سَبْعَةٌ. وَقَوْلُهُ: إلَّا ثَلَاثَةً قَرِينَةٌ مُبَيِّنَةٌ، لِأَنَّ الْكُلَّ اُسْتُعْمِلَ وَأُرِيدَ بِهِ الْجُزْءُ مَجَازًا، كَالتَّخْصِيصِ بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَرَدَّهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ إخْرَاجٌ، وَلِأَنَّ الْعَشَرَةَ نَصٌّ فِي مَدْلُولِهَا، وَالنَّصُّ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَخْصِيصٌ. وَإِنَّمَا التَّخْصِيصُ فِي الظَّاهِرِ. وَمَا قَالَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الْكُوفِيِّينَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُخْرِجُ شَيْئًا. فَإِذَا قُلْت: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، فَإِنَّك أَخْبَرْت بِالْقِيَامِ عَنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِقِيَامٍ وَلَا بِنَفْيِهِ. وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْعَشَرَةَ نَصٌّ فَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ الْخِلَافُ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ لَا يَسْتَقِيمُ غَيْرُ هَذَا الْمَذْهَبِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] فَلَوْ أَرَادَ الْأَلْفَ مِنْ لَفْظِ الْأَلْفِ لَمَا تَخَلَّفَ مُرَادُهُ عَنْ إرَادَتِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنْ الْأَلْفِ، كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعَشَرَةِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْوَاحِدِ لَمْ يُرِدْ مِنْهَا إلَّا التِّسْعَةَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ عَشَرَةً إلَّا ثَلَاثَةً بِمَنْزِلَةِ سَبْعَةٍ مِنْ غَيْرِ إخْرَاجٍ، كَاسْمَيْنِ وُضِعَا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، أَحَدُهُمَا: مُفْرَدٌ وَالْآخَرُ مُرَكَّبٌ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي " الْمَحْصُولِ "، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَاسْتَنْكَرَ قَوْلَ الْأَوَّلِينَ، وَقَالَ: إنَّهُ مُحَالٌ، لَا يَعْتَقِدُهُ لَبِيبٌ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ خَارِجٌ مِنْ قَانُونِ اللُّغَةِ إذْ لَمْ يُعْهَدْ فِيهَا لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ وُضِعَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلِأَنَّا نَقْطَعُ بِدَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِطَرِيقِ الْإِخْرَاجِ.

وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْمُقَدِّمَةِ: إنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ أَيْضًا، لِأَنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعَشَرَةِ يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ مَدْلُولِهَا، وَهُوَ خَمْسَتَانِ، وَبِإِلَّا عَنْ مَعْنَى الْإِخْرَاجِ، وَبِالْوَاحِدِ أَنَّهُ مُخَرَّجٌ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا، لَمْ يَسْتَقِمْ فَهْمُ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْهَا، كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ بَعْضِ حُرُوفِ التِّسْعَةِ عِنْدَ إطْلَاقِهَا عَلَى مَدْلُولِهَا مَعْنًى آخَرُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُصَادَرَةٌ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ الْعَشَرَةِ خَمْسَتَانِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ الدِّرْهَمِ مِنْهَا، بَلْ الْمَفْهُومُ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَةٌ لَا غَيْرُ، وَلَا " بِإِلَّا " مَعْنَى الْإِخْرَاجِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لُغَةً: الصَّرْفُ وَالرَّدُّ. وَقَوْلُهُ: كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ لَيْسَ بِنَظِيرِ مَا نَحْنُ فِيهِ، إذْ عَدَمُ فَهْمِ مَا ذُكِرَ لِعَدَمِ الْوَضْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِي غَيْرِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا ذُكِرَ لُغَةً وَعُرْفًا. وَاعْلَمْ أَنَّ قَصْدَ الْبَاجِيِّ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ التَّخْصِيصِ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ، فَإِنْ كَانَ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ فَمِنْ الْبَاقِي حَقِيقَةً، أَوْ مُنْفَصِلٍ فَإِنَّ الْبَاقِيَ مَجَازٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ: إنَّ الْكَلَامَ بِجُمْلَتِهِ يَصِيرُ عِبَارَةً عَنْ أَمْرٍ آخَرَ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ، أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُرَادٌ بِتَمَامِهِ، ثُمَّ أُخْرِجَ الْمُسْتَثْنَى، ثُمَّ حُكِمَ بِالْإِسْنَادِ بَعْدَهُ تَقْدِيرًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ ذِكْرًا، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِك: عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً، عَشَرَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ ثُمَّ أُخْرِجَتْ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ أُسْنِدَ إلَى الْبَاقِي تَقْدِيرًا، فَالْمُرَادُ بِالْإِسْنَادِ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِخْرَاجِ، وَرَجَّحَهُ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلِذَلِكَ لَا يَحْكُمُ عَالِمٌ بِلُغَةِ الْعَرَبِ بِالْإِسْنَادِ قَبْلَ تَمَامِهِ لِتَوَقُّعِ التَّغْيِيرِ قَبْلَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ غَيْرِهِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا أُورِدَ عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كَوْنِهِ إنْكَارًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَتَنَاقَضَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْمَذْهَبِ وَالْأَوَّلِ، أَنَّ الْأَفْرَادَ بِكَمَالِهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ

الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ، وَفِي الثَّالِثِ مُرَادَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا هُوَ لِتَغَيُّرِ النِّسْبَةِ لَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ الْمُرَادِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ هُوَ تَخْصِيصٌ أَمْ لَا؟ فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي لَيْسَ تَخْصِيصًا، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَخْصِيصٌ قَطْعًا، وَعَلَى الثَّالِثِ يُحْتَمَلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ خَاصٌّ لِعَدِّهِمْ إيَّاهُ مِنْ التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ وَتَطَرُّقِهِ إلَى النُّصُوصِ. قِيلَ: لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ شَرْطُهُ الْإِرَادَةُ وَالْمُقَارَنَةُ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ إلَّا فِي قَصْدِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ السَّيْفِيَّةِ " الْجَمْعُ بَيْنَ احْتِمَالِ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ تَخْصِيصًا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ مَعَ أَنَّ الْأَفْرَادَ مُرَادَةٌ بِكَمَالِهَا فِيهِ مُشْكِلٌ، فَإِنَّهُمْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ الَّذِي خَصَّ عَنْهُ وُجُودَ التَّنَاوُلِ، فَإِنْ قُلْت: يُخَصُّ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ النُّصُوصِ. قُلْت: الَّذِي قَالَ بِالْمَذْهَبِ الثَّالِثِ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ. أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَدَدِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي تَقْدِيرِ دَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقٌ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَذْهَبُ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْفَرْدَ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْعَامِّ لَيْسَ مُرَادًا مِنْهُ وَقَالَ. الْمَازِرِيُّ أَصْلُ هَذَا الْخِلَافِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْعَدَدِ هَلْ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ كَقَرِينَةٍ غَيَّرَتْ وَضْعَ الصِّيغَةِ، أَوْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَإِنَّمَا كَشَفَتْ عَنْ الْمُرَادِ بِهَا؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ كَالنُّصُوصِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ سِوَى مَا يُفْهَمُ مِنْهَا قَالَ بِالْأَوَّلِ، وَيُنَزَّلُ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَدٍ مَا، وَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى كَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِمَجْمُوعِ الدَّالِّ عَلَى الْعَدَدِ الْمُبْقَى. وَمَنْ رَأَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ لَيْسَتْ نَصًّا فَإِنَّ الْعَشَرَةَ رُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي عَشَرَةٍ نَاقِصَةٍ، رَأَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ دَلَّتْ عَلَى الْمُرَادِ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ،

كَمَا دَلَّ قَوْلُهُ: لَا تَقْتُلُوا الرُّهْبَانَ عَلَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . قَالَ: وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ ظَاهِرَةٌ. فَإِنْ قُلْنَا نَصٌّ فَلَا يَسْتَقِيمُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدْخُلُ عَلَى النُّصُوصِ، وَالتَّخْصِيصَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَذْهَبَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّك إذَا اسْتَعْمَلْت الْعَشَرَةَ فِي سَبْعَةٍ مَجَازًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُك: إلَّا ثَلَاثَةً، وَالْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمَجْمُوعَ يُسْتَعْمَلُ فِي السَّبْعَةِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ عِنْدَهُ أَنَّك تَصَوَّرْت مَاهِيَّةَ الْعَشَرَةِ، ثُمَّ حَذَفْت مِنْهَا ثَلَاثَةً ثُمَّ حَكَمْت بِالسَّبْعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ الْبَاقِي مِنْ عَشَرَةٍ أَخْرَجَ مِنْهَا ثَلَاثَةً، أَوْ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً لَهُ عِنْدِي. وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَيْءٍ بَدَأَ بِاسْتِحْضَارِهِ فِي ذِهْنِهِ، فَهَذَا الْقَائِلُ بَدَأَ بِاسْتِحْضَارِ الْعَشَرَةِ فِي ذِهْنِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ الثَّلَاثَةَ، ثُمَّ حَكَمَ، كَمَا أَنَّك تُخْرِجُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ الْكِيسِ، ثُمَّ تَرُدُّ مِنْهَا إلَيْهِ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَهَبُ الْبَاقِي وَهُوَ السَّبْعَةُ. هَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ ابْنِ الْحَاجِبِ، لَكِنَّ تَصْرِيحَهُ بِأَنَّ الْإِسْنَادَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ " إلَّا " أَدَاةٌ أُخْرِجَتْ مِنْ الِاسْمِ وَالْحُكْمِ، وَهَذَا إنَّمَا يَأْتِي عَلَى الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الِاسْمِ فَقَطْ. وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمُفْرَدَ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلَوْ اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ لَمْ يَنْتَظِمْ أَنْ يُقَالَ: الْعَامِلُ فِي الْمُسْتَثْنَى هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ النُّحَاةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْنَادِ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِخْرَاجِ، لِأَنَّ الْإِسْنَادَ لِلْجُمْلَةِ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَاهُ بِآخِرِ الْكَلَامِ، فَإِنْ عُطِفَ عَلَيْهَا " بِأَوْ " كَانَ

مسألة هل يعمل الاستثناء بطريق المعارضة أو البيان

ثَابِتًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ عُطِفَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ كَانَ ثَابِتًا لِلْمَجْمُوعِ وَإِنْ اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ كَانَ ثَابِتًا لِبَعْضِ مَدْلُولِهَا وَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ مُبَيِّنًا لِلْمُرَادِ بِالْأَوَّلِ، بَلْ يَحْصُلُ الْإِخْرَاجُ وَالْحَاصِلُ قَبْلَهُ قُصِدَ أَنْ يُسْتَثْنَى لَا بِقَصْدِ الْمَعْنَى، حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً، وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مَوْتِهَا، طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَلَوْ كَانَ مُبَيِّنًا لَزِمَهُ وَعَلَى هَذَا لَا يُسَمَّى تَخْصِيصًا [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَعْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ أَوْ الْبَيَانِ] تَتَفَرَّعُ عَلَى مَا سَبَقَ وَتَتَأَصَّلُ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَبِالْعَكْسِ، وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ أَوْ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ، فَقَالَ بِالثَّانِي، وَهُوَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ مَعْنَوِيٌّ، أَيْ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لِلْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ مَنَعَ دُخُولَهُ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إلَى صُورَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ اسْتِخْرَاجٌ صُورِيٌّ. وَنَسَبُوا لِأَصْحَابِنَا الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، مِثْلُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُعَارَضَةِ أَنْ يُثْبِتَ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ صَدْرِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْمَجْمُوعِ، وَآخِرَهُ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ إخْرَاجِ الْبَعْضِ عَنْ الْإِرَادَةِ، فَتَعَارَضَا فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ، فَتَعَيَّنَ خُرُوجُهُ عَنْ الْمُرَادِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ، كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْآخَرِينَ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِالْبَاقِي فِي صَدْرِ الْكَلَامِ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى. قُلْت: هُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ أَوْ بَيَانٌ، وَقَالَ صَاحِبُ

الْمُحِيطِ ": الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلَّمَ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، أَيْ تَكَلَّمَ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَعْدَ صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ الْمُسْتَثْنَى. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: لَوْ قَالَ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا سَالِمًا أَوْ غَانِمًا، لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا، لِأَنَّهُ فِيهِ، فَثَبَتَ حُكْمُ الشَّكِّ فِيهِمَا، وَيَصِيرُ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى بِطَرِيقِ أَنَّهُ لَا بَعْضَ وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولًا، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُسْتَثْنَى أَصْلًا، فَلَا أَثَرَ لِلْجَهَالَةِ فِيهِ. وَفِي " الْمُغْنِي " ابْنُ قُدَامَةَ: الِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا هُوَ مُبَيِّنٌ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُرَادٍ بِالْكَلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، وقَوْله تَعَالَى: {إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] عِبَارَةٌ عَنْ تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَخَرَجَ بِالْخَمْسِينَ الْمُسْتَثْنَى، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] {إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 27] فَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَا أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَفَصَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْعَدَدِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالُوا فِي غَيْرِ الْعَدَدِيِّ: إنَّهُ إخْرَاجٌ قَبْلَ الْحُكْمِ، ثُمَّ حُكْمُهُ عَلَى الْبَاقِي، وَقَالُوا فِي الْعَدَدِيِّ: لَا إخْرَاجَ، حَتَّى قَالُوا فِي إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةٌ وَكَذَا، وَلَمْ يَمْلِكْ إلَّا خَمْسِينَ لَا يَحْنَثُ قُلْت: وَمَا نَسَبُوهُ لِأَصْحَابِنَا مَمْنُوعٌ، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " الرَّوْضَةِ ": الْمُخْتَارُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ، لَا أَنَّهُ إبْطَالُ مَا ثَبَتَ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً، يَلْزَمُهُ أَرْبَعَةٌ، لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ. وَاحْتَمَلَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْعَشَرَةَ،

وَالشَّكُّ فِي الْمَنْفِيِّ. قُلْت: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْوِيَهُ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُرَادًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَكُونَ؟ وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ بَيَانًا لَأَدَّى إلَى النَّسْخِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ، فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى: قَالَ: وَمَسَائِلُ الشَّافِعِيِّ كُلُّهَا تُخَرَّجُ عَلَى الْبَيَانِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعَارُضِ، لِأَنَّ التَّعَارُضَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى، لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُسْتَقِلٌّ، وَالْمُسْتَثْنَى نَاقِصٌ، وَلِهَذَا لَا يُبْتَدَأُ بِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَى الْإِخْرَاجِ قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُخَرِّجُ الْخَمْسِينَ مِنْ الْأَلْفِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِلُبْثِهِ الْأَلْفَ بِكَمَالِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ صَالِحًا لِدُخُولِ الْخَمْسِينَ تَحْتَ الْأَلْفِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ مِنْ صَلَاحِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُرِيدٌ لِلْأَلْفِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ مَا لَبِثَ الْخَمْسِينَ، فَكَيْفَ يُرِيدُهَا؟ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ: وَضْعُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُخَرِّجَ مَا لَوْلَاهُ لَانْتَظَمَهُ، وَذَكَرَ الْإِخْرَاجَ بِاعْتِبَارِ الصَّلَاحِيَّةِ فِي اللَّفْظِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ تَبْطُلُ دَعْوَى الْقَرَافِيِّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا إخْرَاجَ فِيهِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ حَقِيقَةٌ فِيمَنْ اتَّصَفَ بِالدُّخُولِ، وَلَا يُقَالُ: خَرَجَ زَيْدٌ مِنْ الدَّارِ إذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَهَا إلَّا مَجَازًا وَقَدْ بَيَّنَّا الْمُرَادَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الصَّلَاحِيَّةِ لِلدُّخُولِ، لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ كَالتَّخْصِيصِ بِالْمُقَارِنِ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا وَرَاءَ الْخُصُوصِ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَخْصُوصَ. وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ، فَلَمْ يَكُنْ غَيْرُ الْمُحَارِبِينَ مُرَادًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الِابْتِدَاءِ.

تنبيه جعل الاستثناء من المخصصات المتصلة

وَنَظِيرُ هَذَا الْخِلَافِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ خِلَافُ أَصْحَابِنَا فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، هَلْ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قَوْلِهِ ثَلَاثَةً، أَوْ نَقُولُ: إذَا فَرَغَ مِنْ قَوْلِهِ ثَلَاثًا تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ؟ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَفَائِدَتُهُ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَتْ، ثُمَّ قَالَ: ثَلَاثًا، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ. [تَنْبِيهٌ جَعْلُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْمُخَصَّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ] تَنْبِيهٌ جَعْلُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْمُخَصَّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ وَاضِحٌ فِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ، أَمَّا لَوْ قَالَ اللَّهُ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الِاتِّصَالِ: لَا الْحَرْبِيِّينَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. فَقَالَ قَوْمٌ: يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي كَلَامِ اللَّهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الَّذِي أَرْتَضِيهِ أَنَّهُ إنْ أَبْدَى مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ كَلَامًا، وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْتَحَقَ بِالتَّخْصِيصِ بِالْمُنْفَصِلِ، وَلَمْ يُجْعَلْ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا؛ بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ، سَوَاءٌ قُدِّرَ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا. كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ، وَأَطْلَقَ الْهِنْدِيُّ تَرْجِيحَ كَوْنِهِ مُنْفَصِلًا. وَمِنْ فُرُوعِهِ لَوْ قَالَ: لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إلَّا عَشَرَةً، فَهَلْ يَكُونُ مُقِرًّا بِبَاقِي الْأَلْفِ؟ قَالَ فِي " التَّتِمَّةِ ": الْمَذْهَبُ الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ إلَّا نَفْيُ مَا قَالَهُ خَصْمُهُ، وَنَفْيُ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ غَيْرِهِ.

مسألة الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات

[مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ] مَسْأَلَةٌ. الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ عَلَى الْأَصَحِّ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَجَعَلُوا بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ وَالْحُكْمِ بِالنَّفْيِ وَاسِطَةً، وَهِيَ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَنُقِلَ فِي " الْمَعَالِمِ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْخِلَافُ فِي الثَّانِي. وَاخْتَارَ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ " الْمَعَالِمُ "، وَفِي " تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ " فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي " الْمَحْصُولِ ". وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى مِنْ الْوِفَاقِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ عِنْدَهُمْ مَوْجُودٌ كَمَا ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْمَأْخَذَ الَّذِي ذَكَرُوهُ مَوْجُودٌ فِيهِمَا، وَهُوَ أَنَّ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالنَّفْيِ وَبَيْنَ الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ وَاسِطَةً، وَهُوَ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَتَرْكُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذْ الْوَاسِطَةُ حَاصِلَةٌ. نَعَمْ، يَلْزَمُ النَّفْيُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْإِثْبَاتِ عِنْدَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اقْتَضَى ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ أَنَّ الدِّرْهَمَ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِاللُّزُومِ، لَا أَنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِعَدَمِ اللُّزُومِ، وَحِينَئِذٍ فَعَدَمُ اللُّزُومِ لَازِمٌ لَهُ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ. وَلَعَلَّ الْإِمَامَ لِهَذَا السَّبَبِ خَصَّصَ الْخِلَافَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إذْ لَا يَظْهَرُ لِلْخِلَافِ فِي الْإِثْبَاتِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّ النَّفْيَ ثَابِتٌ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ، لَكِنَّ الْمَأْخَذَ مُخْتَلِفٌ، فَعِنْدَنَا بِسَبَبِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَعِنْدَهُ بِسَبَبِ الْبَقَاءِ عَلَى الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ. فَمِنْ هُنَا ظَنَّ عَدَمَ خِلَافِهِ فِيهَا، وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ الْوَضْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ،

وَذَلِكَ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ إثْبَاتِ الْحُكْمِ، يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْحُكْمِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِخِلَافِ السُّكُوتِ عَنْ النَّفْيِ إذْ لَا مُقْتَضَى مَعَهُ لِلْإِثْبَاتِ، فَهُوَ يَحْمِلُ كَلَامَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ النَّفْسِيِّ، وَكَلِمَةَ التَّوْحِيدِ عَلَى عُرْفِ الشَّارِعِ. قُلْت: وَالْحَنَفِيَّةُ مُوَافِقُونَ لِنُحَاةِ الْكُوفَةِ، إذْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ قَوْلَك: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ فِيهِمْ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِقِيَامٍ وَلَا بِنَفْيٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ كُوفِيٌّ، فَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُهُ كَذَلِكَ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْأَدَاةَ أَخْرَجَتْ الِاسْمَ الثَّانِيَ مِنْ الْأَوَّلِ، وَحُكْمَهُ مِنْ حُكْمِهِ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمُتَّصِلِ، لَا فِي الْأَعَمِّ مِنْ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ؛ بَلْ حَكَى الْقَرَافِيُّ فِي " الْعِقْدِ الْمَنْظُومِ " عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ أَجْرَوْا ذَلِكَ فِي التَّامِّ وَالْمُفَرَّغِ، نَحْوُ: مَا قَامَ إلَّا زَيْدٌ، قَالُوا: زَيْدٌ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِالْإِثْبَاتِ، وَالْمَعْنَى مَا قَامَ أَحَدٌ إلَّا زَيْدٌ. قَالَ: وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يُعْرِبُوهُ بَدَلًا لَا فَاعِلًا، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ مُضْمَرًا، وَتَقْدِيرُهُ مَا قَامَ أَحَدٌ، فَلَا يَكُونُ زَيْدٌ فَاعِلًا. وَالنُّحَاةُ لَا يُجِيزُونَ حَذْفَ الْفَاعِلِ، نَحْنُ نَقُولُ: زَيْدٌ فَاعِلٌ بِالْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ السَّابِقِ قَبْلَ إلَّا، وَهُوَ الَّذِي نُسِبَ إلَيْهِ عَدَمُ الْقِيَامِ، فَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ»

وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ قَوْله تَعَالَى: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} [النبأ: 30] وَاحْتَجَّ الْخَصْمُ بِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِك ثَنَيْت الشَّيْءَ عَنْ جِهَتِهِ، إذَا صَرَفْته عَنْهَا فَإِذَا قُلْت: لَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ، فَهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: هَذَا الْحُكْمُ وَالثَّانِي: نَفْسُ الْعَدَمِ فَقَوْلُك إلَّا زَيْدٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى الْأَوَّلِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ تَحَقُّقُ الثُّبُوتِ؛ إذْ الِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يُزِيلُ الْحُكْمَ بِالْعَدَمِ، فَيَبْقَى الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتًا عَنْهُ غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ نَفْيٌ وَلَا إثْبَاتٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى الثَّانِي، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَحَقُّقُ الثُّبُوتِ، لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْعَدَمِ يُحَصِّلُ الْوُجُودَ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى، إذْ الْأَلْفَاظُ وُضِعَتْ دَالَّةً عَلَى الْأَحْكَامِ الذِّهْنِيَّةِ، لَا عَلَى الْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى الثَّانِي: مَا جَاءَ مِنْ وَضْعِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، «وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ» وَالْمُرَادُ فِي الْكُلِّ مُجَرَّدُ الِاشْتِرَاطِ. قَالَ: وَالصُّوَرُ الَّتِي دَلَّ فِيهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ، يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنْ اللَّفْظِ، بَلْ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَأَجَابَ عَنْ الدَّلِيلِ السَّابِقِ بِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُ الْإِثْبَاتَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، لَكِنَّهَا تُفِيدُهُ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الشَّرِيكِ.

مسألة الاستثناء من التحريم إباحة

وَأَمَّا إثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ " وَكُلُّ هَذَا عِنْدِي تَشْغِيبٌ، وَمُرَاوَغَاتٌ جَدَلِيَّةٌ، وَالشَّرْعُ خَاطَبَ النَّاسَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِهَا لِإِثْبَاتِ مَقْصُودِ التَّوْحِيدِ، وَحَصَلَ الْفَهْمُ لِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَالْقَبُولُ لَهُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا احْتِيَاجٍ إلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ وَضْعُ اللَّفْظِ لَا يَقْتَضِي التَّوْحِيدَ، لَكَانَ أَهَمُّ الْمُهِمَّاتِ تَعْلِيمَ اللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ، وَالِاكْتِفَاءُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عِنْدَنَا فِي مَحَلِّ الْقَطْعِ بِالظَّنِّ، لَكِنْ هَلْ هُوَ لِمَدْلُولِ اللَّفْظِ، أَوْ لِقَرَائِنَ اخْتَصَّتْ بِهِ لَا تَبْلُغُ إلَى الْقَطْعِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ رَاجِعٌ إلَى الشَّرْطِ، وَقَدْ اسْتَعْظَمَ الْقَرَافِيُّ شُبْهَتَهُمْ مِنْ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ» وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقَعُ فِي الْأَحْكَامِ، وَالْمَوَانِعِ وَالشُّرُوطِ. [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ] مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا الْأُصُولِيُّونَ، وَذَكَرَهَا صَاحِبُ " الذَّخَائِرِ " مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي بَابِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَاسْتُشْكِلَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ

مسألة الاستثناء من الاستثناء

الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لِلْوَاجِبِ مِنْ الْمُحَرَّمِ، لِأَنَّ الْإِحْدَادَ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ فَوْقَ الثَّلَاثِ حَرَامٌ، وَعَلَى الزَّوْجِ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى الْوَاجِبُ مِنْ الْجَائِزِ، وَالْحَرَامُ مِنْ الْمُبَاحِ، وَيُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ] يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " الْمَحْصُولِ " عَنْ بَعْضِهِمْ مَنْعَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ: حَكَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْعَهُ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا يَعْمَلُ عَامِلٌ فِي أَحَدِ الْمَعْمُولَيْنِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ: اسْتَثْنَى الْآلُ مِنْ الْقَوْمِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَتَهُ. قَالَ الْقَاضِي مُجَلِّي فِي " الذَّخَائِرِ " فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَلَمْ يَحْكِ الزَّجَّاجِيُّ سِوَاهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] أَيْ لِإِهْلَاكِهِمْ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ آلِ لُوطٍ؛ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُجْرِمِينَ بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَعْنَاهُ لَكِنَّ آلَ لُوطٍ، فَإِنَّهُمْ مُنَجَّوْنَ. ثُمَّ قَالَ:

إلَّا امْرَأَتَهُ اسْتَثْنَاهَا مِنْ الْمُنَجِّينَ وَجُعِلَتْ مِنْ الْهَالِكِينَ، فَتَكُونُ مُسْتَثْنَاةً. قَالَ: وَهَذَا قَدْحٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى الْجَوَابِ لِسَانُ الْعَرَبِ. وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ: بَابَ تَثْنِيَةِ الْمُسْتَثْنَى إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَتَقُولُ: الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ إنْ كَانَ الْبَعْضُ مَعْطُوفًا عَلَى الْبَعْضِ كَانَ الْكُلُّ عَائِدًا إلَى الْأَوَّلِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَأُسْقِطَ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْعَدَدِ، وَيَلْزَمُ الْبَاقِي نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا أَرْبَعَةً، وَإِلَّا ثَلَاثَةً، وَإِلَّا اثْنَيْنِ، فَيَلْزَمُهُ وَاحِدٌ. هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو مَنْصُورٍ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: هَذَا إذَا كَانَ الْمَجْمُوعُ نَاقِصًا عَنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا أَوْ أَزْيَدَ بَعْضَهَا أَوْ مَجْمُوعَهَا، فَإِنْ حَصَلَتْ الْمُسَاوَاةُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ فَلَا شَكَّ فِي فَسَادِهِ، وَإِنْ حَصَلَتْ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَثَلًا، وَكَانَ الثَّانِي مُسَاوِيًا لِلْأَوَّلِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رُجُوعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَتَعَذَّرَ رُجُوعُهُ إلَى الثَّانِي بِالْعَطْفِ وَالْمُسَاوَاةِ فَيَفْسُدُ لَا مَحَالَةَ. وَهَلْ يَفْسُدُ مَعَهُ الْأَوَّلُ أَيْضًا حَتَّى لَا يَسْقُطَ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ، أَمْ يُخَصُّ الثَّانِي بِالْفَسَادِ، لِأَنَّهُ نَشَأَ مِنْهُ؟ فِيهِ احْتِمَالَاتٌ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَنْقَصَ مِنْ الْأَوَّلِ، تَعَارَضَا أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَعْضُ مَعْطُوفًا عَلَى الْبَعْضِ، فَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو مَنْصُورٍ إجْمَاعَ أَصْحَابِنَا عَلَى رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ، وَيُوجِبُ ذَلِكَ الزِّيَادَةَ فِي الْأَصْلِ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمَيْنِ إلَّا دِرْهَمًا، فَأَسْقَطَ مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ اللَّذَيْنِ اسْتَثْنَاهُمَا مِنْ الْعَشَرَةِ دِرْهَمًا، فَيَبْقَى دِرْهَمٌ، فَيَلْزَمُهُ تِسْعَةٌ. وَكَذَا قَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى الَّذِي يَلِيهِ، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا أَرْبَعَةً، إلَّا ثَلَاثَةً، إلَّا اثْنَيْنِ إلَّا وَاحِدًا، لَزِمَهُ ثَمَانِيَةٌ.

وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَى الَّذِي يَلِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ إثْبَاتًا كَانَ هُوَ نَفْيًا، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا كَانَ هُوَ إثْبَاتًا، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا، إلَّا أَرْبَعًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: خَمْسًا إثْبَاتٌ. وَإِذَا قَالَ: إلَّا أَرْبَعًا كَانَ نَفْيًا، تَبْقَى وَاحِدَةٌ. فَإِذَا قَالَ: إلَّا اثْنَيْنِ فَيَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثٌ، فَإِذَا قَالَ إلَّا وَاحِدَةً كَانَ نَفْيًا فَيَبْقَى طَلْقَتَانِ. اهـ. قُلْت: لَكِنْ لَا إجْمَاعَ، فَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ الْحَنَّاطِيِّ احْتِمَالًا فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي إلَى أَوَّلِ اللَّفْظِ، أَعْنِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. قُلْت: وَهُوَ قَوِيٌّ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ لَهُ مَأْخَذٌ غَيْرُ الْقُرْبِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، إنَّمَا يَقْتَضِي الرُّجْحَانَ. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ هَذَا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْأَوَّلِ. يَعْنِي كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَمْثِلَتُهُمْ. فَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ عَادَ الْكُلُّ إلَى الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا أَرْبَعَةً، وَيَلْزَمُهُ وَاحِدٌ، وَتَبِعَهُ فِي " الْمِنْهَاجِ " وَقَالَ صَاحِبُ " الذَّخَائِرِ ": هَذَا إذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي مِمَّا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَإِنَّ الثَّانِي لَغْوٌ. وَيَعْمَلُ الْأَوَّلُ. فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا طَلْقَةً إلَّا طَلْقَةً لَغَا الثَّانِي، وَصَارَ كَقَوْلِهِ ثَلَاثٌ إلَّا طَلْقَةً، فَتَطْلُقُ طَلْقَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الثَّانِي أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ: ثَلَاثًا إلَّا طَلْقَةً إلَّا طَلْقَتَيْنِ يُلْغَى قَوْلُهُ طَلْقَتَيْنِ. قَالَ: هَذَا مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ. وَقَدْ حَكَى السِّيرَافِيُّ عَنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إعْمَالُ الِاسْتِثْنَاءَيْنِ لِجَعْلِهِمَا بِمَثَابَةِ اسْتِثْنَاءٍ وَاحِدٍ، حَتَّى لَوْ قَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا إلَّا دِرْهَمًا يَسْقُطَانِ مِنْ الْعَشَرَةِ وَيَصِيرُ مُقِرًّا بِثَمَانِيَةٍ. وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ إذَا قَالَ: مَا أَتَانِي إلَّا زَيْدٌ إلَّا عَمْرٌو يَكُونَانِ

جَمِيعًا أَتَيَاهُ. فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً، تَطْلُقُ طَلْقَةً. وَإِذَا قَالَ: ثَلَاثَةً إلَّا طَلْقَةً إلَّا طَلْقَتَيْنِ. تَطْلُقُ ثَلَاثًا، كَقَوْلِهِ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا. وَحُكِيَ عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الثَّانِي أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا أَرْبَعَةً أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ مَنْفِيًّا، كَأَنَّهُ قَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً، بَقِيَتْ سَبْعَةٌ. ثُمَّ قَالَ: إلَّا أَرْبَعَةً، فَيُضَافُ إلَى السَّبْعَةِ. فَيَصِيرُ أَحَدَ عَشَرَ، فَعَلَى هَذَا وَمِثْلُهُ الطَّلَاقُ مَعَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّا إذَا أَضَفْنَا الِاثْنَيْنِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثَّلَاثِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ صَارَ أَرْبَعًا، ثُمَّ بَقِيَتْ الثَّلَاثُ. انْتَهَى. وَمَا نَقَلَهُ عَنْ الْفَرَّاءِ، حَكَاهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا أَرْبَعَةً، تَكُونُ الثَّلَاثَةُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْعَشَرَةِ، فَيَبْقَى سَبْعَةٌ. وَيُزَالُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ، فَيَكُونُ الْمُقَرُّ بِهِ ثَلَاثَةً، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فِيمَا إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً إلَّا خَمْسَةً، لُزُومُ عَشَرَةٍ، لِأَنَّ الثَّانِيَ مُسْتَغْرِقٌ لِلْأَوَّلِ فَيُلْغِيهِ. وَذُكِرَ فِيهِ أَيْضًا فِيمَا إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا ثَلَاثَةً أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ تَوْكِيدًا، وَحَكَى فِيهِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ: أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ. أَمَّا إذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ مُسْتَغْرِقًا لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ دُونَ الثَّانِي لِأَنَّهُ مِنْ بَاطِلٍ، يَلْزَمُهُ أَرْبَعَةٌ، وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءَانِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَهَذَا أَقْيَسُ. وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ سِتَّةٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ. قُلْت: وَالثَّانِي هُوَ نَظِيرُ مَا صَحَّحُوهُ مِنْ الطَّلَاقِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ اثْنَتَانِ.

مسألة الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة يمكن عوده لجمعها ولبعضها

[مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ الْوَارِدُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ يُمْكِنُ عَوْدُهُ لِجَمْعِهَا وَلِبَعْضِهَا] مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ الْوَارِدُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ يُمْكِنُ عَوْدُهُ لِجَمْعِهَا وَلِبَعْضِهَا. وَمَثَّلَهُ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] فِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَنَّهُ يَعُودُ إلَى جَمِيعِهَا مَا لَمْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الْآيَةَ وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ " فِي بَابِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالثُّنْيَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ فِي جَمِيعِ مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ ذَلِكَ أَحَدٌ انْتَهَى وَقَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي بَابِ الْخِلَافَةِ فِي إجَازَةِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ لِمَنْ يُنَاظِرُهُ: أَرَأَيْت رَجُلًا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُك أَبَدًا، وَلَا أَدْخُلُ

لَك بَيْتًا، وَلَا آكُلُ لَك طَعَامًا، وَلَا أَخْرُجُ مَعَك سَفَرًا، وَإِنَّك لَغَيْرُ حَمِيدٍ عِنْدِي، وَلَا أَكْسُوك إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ وَاقِعًا عَلَى مَا بَعْدَ غَيْرُ حَمِيدٍ عِنْدِي، أَمْ عَلَى الْكَلَامِ كُلِّهِ؟ قَالَ: بَلْ عَلَى الْكَلَامِ كُلِّهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: إنَّهُ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. إنَّهُ الْمَحْكِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ: وَمَا وَجَدْت مِنْ كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ " الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ " إذَا تَابَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، ذَلِكَ بَيِّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَدَّهُ إلَى الْفِسْقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ بِعُمُومِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْجَمِيعِ انْتَهَى. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: نَسَبَهُ ابْنُ الْقَصَّارِ لِمَالِكٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِهِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: قَالَ الْقَاضِي: لَوْ قُلْنَا بِالْعُمُومِ فَأَوْضَحُ الْمَذَاهِبِ صَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ، وَهَذَا الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» قَالَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى كُلِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْأَخِيرَةِ خَاصَّةً، إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّعْمِيمِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي

الْمَعَالِمِ " وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " الْقَوَاعِدِ ": إنَّهُ الْأَشْبَهُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَحَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْفَارِسِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمَهَابَاذِيُّ مِنْ النَّحْوِيِّينَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ: وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَطَلْقَةً إلَّا طَلْقَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَطْلُقُ طَلْقَةً. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ أَنَّهَا تَطْلُقُ طَلْقَتَيْنِ. لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى مَا يَلِيهِ، وَهُوَ الطَّلْقَةُ وَاسْتِثْنَاءُ طَلْقَةٍ مِنْ طَلْقَةٍ بَاطِلٌ، فَيَسْقُطُ. وَتَبْقَى الطَّلْقَاتُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: قَالَ فِي " الْبُوَيْطِيِّ ": إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إلَّا أَرْبَعًا، وَقَعَتْ ثَلَاثًا. وَهَذَا إنَّمَا هُوَ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ جُمْلَتَيْنِ، وَاسْتَثْنَى إحْدَاهُمَا بِجُمْلَتِهَا، فَلَمْ يَقَعْ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى الْأَخِيرِ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ. أَيْ وَلَوْ عَادَ إلَى الْجَمِيعِ لَوَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: سِتًّا إلَّا أَرْبَعًا اهـ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَأْخَذُ مَا ظَنُّوهُ، وَإِنَّمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مُفَرَّعًا عَلَى أَنَّ الْمُفَرَّقَ لَا يُجْمَعُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. فَإِنْ قُلْنَا: يُجْمَعُ وَقَعَ طَلْقَتَانِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: سِتًّا إلَّا أَرْبَعًا، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى الْمَلْفُوظِ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْمَنْوِيِّ وَقَعَ الثَّلَاثُ ثُمَّ إنَّ هَذَا لَبْسٌ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُ

الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ " تَعْلِيقِهِ ": لَوْ قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا، فَاَلَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَتَيْنِ، ثُمَّ عَقَّبَهُمَا بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ لِمَا يَلِيه، وَهُوَ يَسْتَغْرِقُهُ، فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ فَيَبْطُلُ. كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، فَكَذَلِكَ هُنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَطَلْقَةً إلَّا طَلْقَةً يَقَعُ طَلْقَتَانِ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ إبَاحَةِ الطَّلَاقِ قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِيهَا وَجْهًا أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، وَطَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ كَانَتَا بِمَنْزِلَةِ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ دِرْهَمَانِ إلَّا دِرْهَمًا، وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ إلَّا طَلْقَةً. وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ. انْتَهَى. وَتَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِتَعْلِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمُتَقَدِّمِ كَوْنُهُ لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا تَعَلَّقَ بِالْأَخِيرَةِ صَارَ مُفِيدًا فَلَا حَاجَةَ إلَى صَرْفِهِ إلَى غَيْرِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْجُمَلَ إذَا تَعَاطَفَتْ صَارَتْ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ بِدَلِيلِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، فَإِنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى مَا تَقَدَّمَ إجْمَاعًا، فَإِنْ فَرَّقَ بِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يَتَقَدَّمُ كَمَا يَتَأَخَّرُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُوقَفَ مَا قَبْلَ الْآخَرِ عَلَى الِاتِّصَالِ بِالشَّرْطِ، وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ. قُلْنَا: هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْجَمْعِ إذْ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَا يَلِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاَلَّذِي يَلِيهِ وَالْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ فِي هَذَا الْفَرْقِ سَوَاءٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلَهُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ التَّوْبَةَ قَبْلَ الْحَدِّ وَلَا بَعْدَهُ، كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ شُرَيْحٌ، لَكِنَّهُ قَالَ بِقَبُولِهَا قَبْلَهُ لَا بَعْدَهُ، فَخَالَفَ أَصْلَهُ

تَنْبِيهٌ قِيَاسُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَقَدَّمَ اخْتَصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا الَّتِي تَلِيهِ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ وَالثَّالِثُ: وَالْوَقْفُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْأَوَّلِ وَإِلَى الْمُتَوَسِّطِ وَإِلَى الْأَخِيرِ؛ وَلَكِنْ فِي الْحَالِ تَوَقَّفَ، وَالْمُتَّبَعُ الدَّلِيلُ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى انْصِرَافِهِ لِأَحَدِهَا صِرْنَا إلَيْهِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ ": فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ عَادَ، كَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ؛ وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَنْعِهِ امْتَنَعَ، كَآيَةِ الْقَذْفِ. قَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ. وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْقَاضِي وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي " الْمُنْتَخَبِ "، وَصَرَّحَ بِهِ فِي " الْمَحْصُولِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَحَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ اخْتِيَارِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. قَالَ فَقِيلَ لَهُ: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا قَالَ الْوَاقِفُ: وَقَفْت دَارِي عَلَى [بَنِي] فُلَانٍ، وَحَبَسْت أَرْضِي عَلَى بَنِي فُلَانٍ، وَذَكَرَ نَوْعًا آخَرَ، ثُمَّ قَالَ: إلَّا الْفُسَّاقَ، فَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْكُلِّ. فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِظُهُورِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَنْوَاعِ، وَلَكِنْ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَهُمَا احْتِمَالُ عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ، أَوْ إلَى مَا يَلِيهِ، وَالتَّوَقُّفِ فِيهِ، وَلَا صَرْفَ مَعَ التَّوَقُّفِ قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا الْمَأْخَذُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ. فَإِنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْمُسْتَثْنَى، يُوجِبُ التَّوَقُّفَ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، حَتَّى لَا يَنْصَرِفَ إلَى الْعُدُولِ أَيْضًا. وَنَحْنُ نَصْرِفُ

كُلَّ الْمَالِ إلَى الْعُدُولِ، وَالتَّوَقُّفُ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، فَإِنَّا لَا نَدْرِي أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ أَمْ لَا، وَهُوَ كَالتَّوَقُّفِ فِي الْمِيرَاثِ لِلْحَمْلِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْمَازِرِيُّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ مَسْلَكَ التَّفْصِيلِ فِي التَّوَقُّفِ، فَرَأَى أَنَّ الْجُمَلَ إنْ كَانَتْ مُتَنَاسِبَةً، وَالْغَرَضُ مِنْهَا مُتَّحِدٌ، فَاللَّفْظُ مُتَرَدِّدٌ، وَلَا قَرِينَةَ؛ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْجِهَاتِ مُتَبَايِنَةَ الْمَأْخَذِ، فَالظَّاهِرُ الِاخْتِصَاصُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ لِانْقِطَاعِ مَا بَيْنَ الْجُمَلِ فِي الْمَعْنَى وَالْغَرَضِ؛ وَإِنْ أَمْكَنَ انْعِطَافُهُ عَلَى جَمِيعِهَا وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، فَقَالَ: نَعَمْ، لَوْ تَبَايَنَتْ الْجُمَلُ فِي الْأَحْكَامِ بِأَنْ يَذْكُرَ حُكْمًا، ثُمَّ يَأْخُذَ فِي حُكْمٍ آخَرَ. فَالْأَوَّلُ: مُنْقَطِعٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ، وَإِنْ صَرَّحَ بِهِ، وَالْوَاوُ هُنَا لَا تُعَدُّ مُشْرِكَةً نَاسِفَةً لِلنَّظْمِ، كَقَوْلِك: ضَرَبَ الْأَمِيرُ زَيْدًا، وَخَرَجَ إلَى السَّفَرِ، وَخَلَعَ عَلَى فُلَانٍ. قَالَ: وَهَذَا حَسَنٌ جِدًّا، وَبِهِ تَهَذَّبَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَيُغْنِي عَمَّا عَدَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ حَكَوْا قَوْلَ الْوَقْفِ عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى، وَأَنَّهُ يُغَايِرُ مَذْهَبَ الْقَاضِي مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ تَوَقَّفَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَدْلُولِهِ لُغَةً، وَالْمُرْتَضَى تَوَقَّفَ لِكَوْنِهِ عِنْدَهُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ عَوْدِهِ إلَى الْكُلِّ وَعَوْدِهِ إلَى الْأَخِيرِ فَقَطْ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُرَكَّبَاتِ لَا فِي الْمُفْرَدَاتِ. قُلْت: وَاَلَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَنَّهُ يُقْطَعُ بِعَوْدِهِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَتَوَقَّفَ فِي رُجُوعِهِ إلَى غَيْرِهَا لِمَا تَقَدَّمَ، فَجَوَّزَ صَرْفَهُ إلَى الْجَمِيعِ، وَقَصَرَهُ عَلَى الْأَخِيرَةِ، كَمَذْهَبِهِ فِي الْأَمْرِ، هَذَا لَفْظُهُ، وَهُوَ أَثْبَتُ مَنْقُولٍ عَنْهُ، لِأَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِهِ الشِّيعِيِّ. وَالرَّابِعُ: إنْ كَانَتْ الْجُمَلُ كُلُّهَا سِيقَتْ لِمَقْصُودٍ وَاحِدٍ انْصَرَفَ إلَى

الْجَمِيعِ، وَإِنْ سِيقَتْ لِأَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ. حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَالْخَامِسُ: إنْ ظَهَرَ أَنَّ الْوَاوَ لِلِابْتِدَاءِ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَالنُّحَاةَ الْبَصْرِيِّينَ إلَّا الْبَغَادِدَةَ، اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، وَإِنْ تَرَدَّدَتْ بَيْنَ الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ فَالْوَاقِفُ. وَالسَّادِسُ: إنْ كَانَتْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ إعْرَاضًا وَإِضْرَابًا عَنْ الْأُولَى اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، وَإِلَّا انْصَرَفَ إلَى الْجَمِيعِ. حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. وَاَلَّذِي وَجَدْته فِي " الْمُعْتَمَدِ " حِكَايَةُ هَذَا عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَقَرَّرَ دَلِيلَهُ. وَحُكِيَ فِي " الْمَحْصُولِ " عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ أَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقٌ عَادَ إلَى الْجَمِيعِ، وَإِلَّا اخْتَصَّ بِالْأَخِيرِ. وَقَالَ: إنَّهُ دَخَلَ التَّحْقِيقُ، وَإِنَّهُ حَقٌّ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا، وَإِنَّمَا أُخِذَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَحْدُودِ بِالْقَذْفِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا صَارَ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْجُمَلِ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ إضْرَابًا عَنْ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ الْآيَاتِ سِيقَتْ لِغَرَضٍ وَاحِدٍ، هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى تِلْكَ الْجَرِيمَةِ. انْتَهَى. وَقَدْ اخْتَارَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " أَيْضًا، فَقَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ خُرُوجًا مِنْ قَضِيَّةٍ إلَى قَضِيَّةٍ أُخْرَى لَا يَلِيقُ بِهَا عَادَ إلَى الْكُلِّ وَإِلَّا اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، وَنَظِيرُهُ: اضْرِبْ بَنِي تَمِيمٍ وَالْأَشْرَافُ هُمْ قُرَيْشٌ، إلَّا أَهْلَ الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ الْأَوَّلُ إلَى مِثْلِ هَذَا، وَأَحَدُهُمَا لَا يَلِيقُ

بِالْآخَرِ، أَوْ أَحَدُهُمَا قَضِيَّةٌ وَالْأُخْرَى قَضِيَّةٌ أُخْرَى، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَرَضَهُ مِنْ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَدَلَّ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْغَرَضِ بِالْكَلَامِ مِنْ الْعُدُولِ عَنْهُ إلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ الْكَلَامِ. وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: مَنْ اسْتَقَامَتْ طَرِيقَتُهُ فَأَكْرِمْهُ، وَمَنْ عَصَاك فَاضْرِبْهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ أَيْضًا. انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إنْ صَلُحَ الْعَوْدُ إلَى الْكُلِّ عَادَ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا تَحْرِيرٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا سَيَأْتِي، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَذْهَبًا آخَرَ. وَقَالَ فِي الْمُقْتَرَحِ: لَا خِلَافَ فِي صَلَاحِيَّةِ اللَّفْظِ لِعَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ أَوْ الْبَعْضِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَخِيرَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْ بِالْعَكْسِ؟ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِالثَّانِي، وَالشَّافِعِيُّ بِالْأَوَّلِ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْفُرُوعِ مِنْ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ فَرْعٌ، حَدَاهُمْ هَذَا الِاخْتِلَافُ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ لِذَلِكَ الْفَرْعِ، لَا أَنَّهُمْ ذَهَبُوا فِيمَا هُوَ فَرْعُ هَذَا الْأَصْلِ إلَى مَذَاهِبَ، ثُمَّ رَتَّبُوا عَلَيْهِ هَذَا الْأَصْلَ، لِأَنَّ هَذَا عَكْسُ الْوَاجِبِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْفَرْعَ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَصْلِهِ، وَيَسْتَوِي عَلَيْهِ لَا أَنْ يَتَرَتَّبَ الْأَصْلُ عَلَى فَرْعِهِ وَيَسْتَوِي عَلَيْهِ عَلَى مِقْدَارِ الْمُبْتَاعِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَا يَسْتَقِيمُ، إذًا الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ أَنْ يَسْتَوِيَ مِقْدَارُ الْمُبْتَاعِ الْمَوْزُونِ عَلَى الصَّنْجَةِ الْمُعْتَدِلَةِ. انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقَوْلِ بِعَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ عِنْدَنَا شُرُوطًا: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الْجُمَلُ مُتَعَاطِفَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَطْفٌ، فَلَا يَعُودُ إلَى الْجَمِيعِ قَطْعًا، بَلْ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرَةِ إذْ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الشَّرْطِ الْقَاضِيَانِ: أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَأَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ،

وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ، وَالْهِنْدِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا مَنْ أَطْلَقَ فَأَمْرُهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ لِوُضُوحِهِ. وَأَمْثِلَتُهُمْ وَكَلَامُهُمْ يُرْشِدُ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ بِحَالَةِ الْعَطْفِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: لَوْ قَالَ: يَا طَالِقُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْصَرِفٌ إلَى الثَّلَاثَةِ، وَوَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بِقَوْلِهِ: يَا طَالِقُ، وَلَوْ كَانَ الْعَطْفُ يُشْتَرَطُ، لَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدًا إلَى الْجَمِيعِ وَأَمَّا مَا فَهِمَهُ الْقَرَافِيُّ مِنْ جَرَيَانِ الْخِلَافِ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَفْ، فَغَرَّهُ إطْلَاقُ الرَّازِيَّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَطْفٌ فَلَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُمَا. نَعَمْ، ذَكَرَ الْبَيَانِيُّونَ أَنَّ تَرْكَ الْعَطْفِ قَدْ يَكُونُ لِكَمَالِ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] فَإِذَا كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ فَلَا يَبْعُدُ مَجِيءُ الْخِلَافِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمَا كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَالْمُؤَكِّدَةِ لِلْأُولَى، فَيَعُودُ لِلْجَمِيعِ قَطْعًا. وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ بَابَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ بِهِ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَصَدَ التَّأْكِيدَ أَنَّهُ يَعُودُ لِلْجَمِيعِ. وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَائِدَةٌ إلَى الثَّلَاثِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الْكَلَامِ، نَعَمْ، قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي " كِتَابِ الْأَيْمَانِ " فِيمَا لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ، عَبْدِي حُرُّ، أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ، وَلَا يُعْتَقُ. قَالَ: وَلْيَكُنْ هَذَا فِيمَا إذَا نَوَى صَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ أَطْلَقَ فَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَمْ

يَعُمُّهُمَا؟ قَالَ فِي " الرَّوْضَةِ ": قُلْت: الصَّحِيحُ التَّعْمِيمُ. وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا فَائِدَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْخِلَافَ جَارٍ مَعَ عَدَمِ الْعَطْفِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَخُصُّ بِمَا إذَا تَأَخَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ، بَلْ تَكُونُ فِي حَالَةِ تَأَخُّرِهِ، وَحَالَةِ تَقَدُّمِهِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، فَإِنْ كَانَ بِثُمَّ اخْتَصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ. ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي تَدْرِيسِهِ، حَكَاهُ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْوَقْفِ، بَعْدَ أَنْ صَرَّحَ أَنَّ أَصْحَابَنَا أَطْلَقُوا الْعَطْفَ. وَعَلَيْهِ جَرَى الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ، وَالْعَجَبُ أَنَّ الْأَصْفَهَانِيَّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ " حَكَاهُ عَنْ الْآمِدِيَّ، وَقَالَ: لَمْ أَرَ مَنْ تَقَدَّمَهُ بِهِ؛ لَكِنْ ذَكَرَ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ " مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ التَّمْثِيلَ: بِثُمَّ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ مَذْهَبَنَا عَوْدُهُ إلَى الْجَمِيعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ " ثُمَّ، وَالْفَاءَ، وَحَتَّى " مِثْلُ " الْوَاوِ " فِي ذَلِكَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " " بِالْفَاءِ " وَغَيْرِهَا، فَقَالَ: وَهَذِهِ سَبِيلُ جُمَلٍ عُطِفَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِأَيِّ حُرُوفِ الْعَطْفِ عُطِفَتْ، مِنْ " فَاءٍ، وَوَاوٍ " وَغَيْرِهَا. انْتَهَى. وَأَطْلَقَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْجُمَلِ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ جَامِعٌ فِي مُقْتَضَى الْوَضْعِ، وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ " الْعُدَّةِ " فَإِنَّهُ قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ احْتَجَّ بِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ تَشْتَرِكُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فَتُجْعَلَانِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، فَطَالِقٌ، إلَّا وَاحِدَةً لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ كَانَ الْإِيقَاعُ جُمْلَةً وَاحِدَةً صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ. هَذَا لَفْظُهُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ.

وَأَمَّا بَقِيَّةُ حُرُوفِ الْعَطْفِ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ " بَلْ، وَلَا، وَلَكِنْ " لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَصِحُّ عَوْدُهُ إلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ " أَوْ، وَأَمْ، وَأَمَّا " لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ لَكِنَّ الْمَاوَرْدِيَّ وَغَيْرَهُ مَثَّلُوا الْمَسْأَلَةَ بِآيَةِ الْمُحَارَبَةِ، مَعَ أَنَّ الْعَطْفَ فِيهَا بِ " أَوْ " وَحَكَى الرَّافِعِيُّ الْخِلَافَ فِي " بَلْ " قُبَيْلَ الطَّلَاقِ بِالْحِسَابِ فَقَالَ: لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثَلَاثًا، إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا - وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ - تَقَعُ وَاحِدَةٌ، بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَثِنْتَانِ بِدُخُولِ الدَّارِ. رَدًّا لِلشَّرْطِ إلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّةً. وَالثَّانِي يَرْجِعُ الشَّرْطُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، إلَّا أَنْ يَقُولَ: أَرَدْت تَخْصِيصَ الشَّرْطِ بِقَوْلِي: بَلْ ثَلَاثًا. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَتَخَلَّلَ الْجُمْلَتَيْنِ كَلَامٌ طَوِيلٌ، فَإِنْ تَخَلَّلَ اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَأَعْقَبَ كَانَ نَصِيبُهُ لِأَوْلَادِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِلَّا فَنَصِيبُهُ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ، فَإِذَا انْقَرَضُوا صُرِفَ إلَى إخْوَانِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ الْفُقَرَاءِ إلَّا أَنْ يَفْسُقُوا. حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ طُولَ الْفَصْلِ يُشْعِرُ بِقَطْعِ الْأُولَى عَنْ الثَّانِيَةِ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْجُمَلُ مُنْقَطِعَةً، بِأَنْ تُنْبِئَ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَمَّا لَا تُنْبِئُ عَنْهُ أَخَوَاتُهَا. ذَكَرَهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ. قَالَ: فَإِنْ تَوَالَتْ عِبَارَاتٌ كُلُّهَا تُنْبِئُ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِاسْتِثْنَاءٍ، كَقَوْلِك: اضْرِبْ الْعُصَاةَ، وَالْجُنَاةَ، وَالطُّغَاةَ، وَالْبُغَاةَ إلَّا مَنْ تَابَ، رَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ قَطْعًا. وَيُوَافِقُهُ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِنِيَّةِ التَّكْرَارِ، وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَفِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْجَمِيعِ قَالَ: لِأَنَّ الْكَلَامَ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِرَابِطَةِ التَّأْكِيدِ كَانَ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ.

الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْجُمَلِ تَنَاسُبٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا تَنَاسُبٌ لَا يَصِحُّ الْعَطْفُ فَضْلًا عَنْ إرَادَةِ الْبَعْضِ أَوْ الْكُلِّ. وَهَذَا الشَّرْطُ اعْتَبَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ فِي صِحَّةِ عَطْفِ الْجُمَلِ، فَمَنَعُوا عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، وَعَكْسَهُ. وَوَافَقَهُمْ ابْنُ مَالِكٍ، لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَحْسُنُ التَّمْثِيلُ بِآيَةِ الْقَذْفِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ. عُطِفَتْ عَلَى إنْشَائِيَّةٍ؛ لَكِنْ يُقَالُ: وَإِنْ كَانَتْ خَبَرِيَّةً لَفْظًا. لَكِنَّهَا إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى. نَعَمْ، مَنْ اشْتَرَطَ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ اتِّفَاقَهُمَا فِي الِاسْمِيَّةِ أَوْ الْفِعْلِيَّةِ، حَتَّى لَوْ اخْتَلَفَتَا امْتَنَعَ، لَمْ يَحْسُنْ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مِنْهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَأُولَئِكَ هُمْ} جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، بَلْ " الْوَاوُ " هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ أَوْ الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَلَامًا مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ لَمْ يَنْصَرِفْ الِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهِ. السَّادِسُ: أَنْ يُمْكِنَ عَوْدُهُ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى انْفِرَادِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَادَ إلَى مَا أَمْكَنَ، أَوْ اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ. قَالَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَابْنُ فُورَكٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي " التَّلْوِيحِ ". قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا كَآيَةِ الْجَلْدِ، فَلَا يُمْكِنُ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا إلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْجَلْدُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَزَالَتْ عَنْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَالتَّوْبَةُ لَا تَرْفَعُهُ إنَّمَا تَرْفَعُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ " قَاطِعِ الطَّرِيقِ " عَنْ ابْنِ كَجٍّ أَنَّهُ حَكَى قَوْلًا عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ بِسُقُوطِ الْجَلْدِ بِالتَّوْبَةِ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَحَكَاهُ النَّحَّاسُ فِي " مَعَانِي الْقُرْآنِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. فَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ لَهُ فِي هَذِهِ

الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ قَوْلَانِ. ثُمَّ أَكْثَرُهُمْ يُمَثِّلُونَ الْآيَةَ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَلَى تَقْدِيرِ نَظْمِ الِاخْتِصَاصِ بِالْأَخِيرَةِ: إنَّ الْأَخِيرَةَ هِيَ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ الْمَحْكُومُ بِهِ، وَأَمَّا سِمَةُ الْفِسْقِ فَهِيَ عِلَّةُ هَذَا الْحُكْمِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ إذَا تَعَقَّبَ حُكْمًا وَتَعْلِيلًا؛ فَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْكُلِّ، أَوْ إلَى الْحُكْمِ دُونَ التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَلَا سَبِيلَ إلَى رُجُوعِهِ إلَى التَّعْلِيلِ فَقَطْ. قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] فَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إلَى الْأَخِيرَةِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ حَقُّ آدَمِيٍّ، فَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَالرَّقَبَةُ حَقُّ اللَّهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ مِنْ الْآدَمِيِّ. وَكَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] يَعُودُ عَلَى الَّذِي يَلِيهِ، وَهُوَ الْجُنُبُ، لَا السَّكْرَانُ؛ فَإِنَّ السَّكْرَانَ مَمْنُوعٌ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، لِمَا لَا يُؤْمَنُ مِنْ تَلْوِيثِهِ إيَّاهُ. وَخَرَجَ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَطَلْقَةً إلَّا طَلْقَةً، فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ لِلشَّافِعِيِّ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ فِي " الْمُهَذَّبِ "، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: لِأَنَّهَا تَطْلُقُ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى مَا يَلِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَسْقُطُ وَيَبْقَى الطَّلْقَتَانِ. وَلَا يُظَنُّ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ، لِأَنَّ شَرْطَ الرُّجُوعِ إلَى الْكُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ، هُوَ مَفْقُودٌ هَاهُنَا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ دِرْهَمَانِ وَدِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا، لَزِمَ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوص، لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى دِرْهَمًا مِنْ دِرْهَمٍ قَالَهُ الرَّافِعِيُّ بَابُ الْإِقْرَارِ وَقَدْ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ " الْوَافِي " فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ "، فَقَالَ: هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْفُرُوعِ وَمَذْهَبُهُ، فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إلَى الْجَمِيعِ، وَلَا أَعْلَمُ الْفَرْقَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ

هَاهُنَا احْتَاطَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْت جَوَابَهُ. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْمُولُ وَاحِدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ وَاحِدًا وَالْمَعْمُولُ مُتَعَدِّدًا، فَلَا خِلَافَ فِي عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ، كَقَوْلِهِ: اُهْجُرْ بَنِي فُلَانٍ وَبَنِي فُلَانٍ إلَّا مَنْ صَلُحَ. فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْجَمِيعِ، إذًا لَا مُوجِبَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَلَوْ ثَبَتَ مُوجِبُ فِعْلٍ بِمُقْتَضَاهُ، نَحْوُ لَا تُحَدِّثْ النِّسَاءَ وَلَا الرِّجَالَ إلَّا زَيْدًا وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْأَمْرَيْنِ آيَةُ الْمَائِدَةِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فَاشْتَمَلَتْ عَلَى مَا فِيهِ مَانِعٌ، وَهُوَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] وَ {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْخَمْسَةِ، إذْ كَانَتْ تَذْكِيَتُهُ سَبَبَ مَوْتِهِ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَعَلُّقِ الشَّرْطِ بِالْجَمِيعِ فِي نَحْوِ: لَا تَصْحَبْ زَيْدًا، وَلَا تَزْنِ، وَلَا تُكَلِّمْ، إلَّا تَائِبًا مِنْ الظُّلْمِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ تَسَاوِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ فِي التَّعَلُّقِ بِالْجَمِيعِ. وَهُوَ صَحِيحٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى سَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مَسَدَّ الْآخَرِ، نَحْوُ اُقْتُلْ الْكَافِرَ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَاقْتُلْهُ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ. انْتَهَى. الثَّامِنُ: أَنْ يَتَّحِدَ الْعَامِلُ، فَإِنْ اخْتَلَفَ خُصَّ بِالْأَخِيرَةِ. ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَنَحْوُ اُكْسُوا الْفُقَرَاءَ، وَأَطْعِمُوا أَبْنَاءَ السَّبِيلِ، إلَّا مَنْ كَانَ مُبْتَدِعًا، وَصَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ بِأَنَّ الشَّرْطَ اتِّحَادُ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ. قَالَ: فَإِنْ اخْتَلَفَا اخْتَصَّ بِمَا يَلِيهِ، وَنَحْوُ ضَرَبَ الْأَمِيرُ زَيْدًا وَخَرَجَ إلَى السَّفَرِ، وَخَلَعَ عَلَيَّ فُلَانٌ. قَالَ: وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا. وَبِهِ يَتَهَذَّبُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ اتِّحَادُهُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، فَإِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ جَعَلَ مِنْ الْأَمْثِلَةِ: وَقَفْت، وَحَبَسْت، وَتَصَدَّقْت، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الصِّفَةِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] فَإِنَّ

الشَّافِعِيَّ يَجْعَلُ هَذَا الْوَصْفَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] مُخْتَصًّا بِالْأَخِيرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: 23] لِأَنَّ الرَّبِيبَةَ عِنْدَهُ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ، وَأُمُّ الزَّوْجَةِ تَحْرُمُ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْعَامِلِ، إذْ الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] الْإِضَافَةُ، وَفِي رَبَائِبُكُمْ حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: {مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ أَشْعَرَ بِانْقِطَاعِ الْأُولَى عَنْ الثَّانِيَةِ. وَلَك أَنْ تَقُولَ: إذَا جَعَلْنَا الْعَامِلَ فِي الْإِضَافَةِ حَرْفَ الْجَرِّ الْمُقَدَّرِ اتَّحَدَ الْعَامِلُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَهَذَا الشَّرْطُ أَيْضًا مُخَرَّجٌ مِمَّا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي الْجُمَلِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمُفْرَدَاتِ عَادَ لِلْجَمِيعِ اتِّفَاقًا وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ اخْتِيَارِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِك: أَكْرِمْ زَيْدًا وَعَمْرًا وَبَكْرًا إلَّا مَنْ فَسَقَ مِنْهُمْ. وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " وَابْنِ الْحَاجِبِ فِي جَوَابِ شُبْهَةِ الْخَصْمِ: أَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ وِفَاقٍ، وَحِينَئِذٍ فَتَعْبِيرُ أَصْحَابِنَا بِالْجُمَلِ لَيْسَ لِلتَّقَيُّدِ، وَإِنَّمَا جَرَى الْغَالِبُ. نَعَمْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَطَالِقَةً إلَّا طَلْقَةً، أَنَّهَا تَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ، فَجَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ لِمَا يَلِيهِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَمِنْ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ بِالْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا الْمُرَكَّبَةُ مِنْ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، أَوْ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَقَالَ: إنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا اللَّفْظُ الَّذِي فِيهِ شُمُولٌ، وَيَصِحُّ إخْرَاجُ بَعْضِهِ، وَلِهَذَا ذَكَرُوا مِنْ صُوَرِهَا الْأَعْدَادَ وَاحْتَجَّ بِآيَةِ الْمُحَارَبَةِ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] قَالَ: وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الْجُمْلَةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرْنَاهُ، وَبِمَا رَوَى الصَّحَابَةُ، أَنَّ

الاستثناء المتوسط

قَوْلَهُ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] فِي آيَةِ الْقَذْفِ عَائِدٌ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَأَخِّرًا عَلَى ظَاهِرِ عِبَارَاتِهِمْ بِالتَّعْقِيبِ، لَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالْخِلَافُ جَارٍ فِي الْجَمِيعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَيْمَانِ "، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ " بِعَوْدِ الصِّفَةِ السَّابِقَةِ إلَى الْجَمِيعِ، فَقَالَ فِيمَا إذَا وَقَفَ عَلَى مَحَاوِيجَ حَتَّى يَسْتَحِقُّوا، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَاوِيجِ أَقَارِبِهِ: وَالْمَحَاوِيجُ هُمْ الَّذِينَ يَكُونُ لَهُمْ حَاجَةٌ بِحَيْثُ يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ الصَّدَقَةِ. انْتَهَى. [الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَوَسِّطُ] أَمَّا الْمُتَوَسِّطُ فَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأُخْرَى فَقَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذَانِ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو مَنْصُورٍ نَحْوُ: أَعْطِ بَنِي زَيْدٍ إلَّا مَنْ عَصَاك وَأَعْطِ بَنِي عَمْرٍو. قَالَا: فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى مَا قَبْلَهُ دُونَ مَا بَعْدَهُ. قَالَا: وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَمْرِ أَوْ الْخَبَرِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُ [الْأَمْرِ] أَوْ الْخَبَرِ مَذْكُورًا فِي الثَّانِيَةِ رَجَعَ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، كَقَوْلِهِ: أَعْطِ بَنِي زَيْدٍ إلَّا مَنْ عَصَاك وَبَنِي عَمْرٍو الثَّمَنَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: فَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ يَصِيرُ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ كَالْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ. نَحْوُ أَعْطِ أَوْ أَعْطَيْت بَنِي زَيْدٍ إلَّا مَنْ أَطَاعَنِي مِنْهُمْ، وَبَنِي عَمْرٍو، فَإِنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى بِالْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِ الْفَائِدَةِ.

وَهَاهُنَا تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَنَا يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ هَلْ مَعْنَاهُ الْعَوْدُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمُفْرَدِهَا أَوْ الْعَوْدُ إلَى الْمَجْمُوعِ وَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهَا؟ فِيهِ خِلَافٌ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ " الْإِقْرَارِ " فِيمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ إلَّا خَمْسِينَ، وَأَرَادَ بِالْخَمْسِينَ الْمُسْتَثْنَاةِ جِنْسًا غَيْرَ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ قُبِلَ مِنْهُ. وَكَذَا إنْ أَرَادَ عَوْدَهُ إلَى الْجِنْسَيْنِ مَعًا أَوْ إلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَعُودُ إلَى مَا يَلِيهِ، وَعِنْدَنَا يَعُودُ إلَى الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ ثُمَّ هُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَعُودُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا جَمِيعُ الِاسْتِثْنَاءِ فَيُسْتَثْنَى مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ خَمْسُونَ وَمِنْ مِائَةِ دِينَارٍ خَمْسُونَ، وَالثَّانِي: يَعُودُ إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، فَيُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَمِنْ الدَّنَانِيرِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. وَلَمْ يُصَحِّحْ الْمَاوَرْدِيُّ شَيْئًا، وَذَكَرَهَا الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ، وَقَالَ فِي بَابِ الْعِتْقِ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ إذَا قَالَ: سَالِمٌ وَغَانِمٌ وَزِيَادٌ أَحْرَارٌ - يَعْنِي وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمْ - أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت مِنْ حُرِّيَّةِ الْأَخِيرِ وَحْدَهُ قُبِلَ مِنْهُ، وَأُعْتِقَ مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ حُرِّيَّةَ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي لَا يُقْبَلُ، لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْكِنَايَةِ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّهُ إلَى الْجَمِيعِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّهُ إلَى الْأَوَّلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَوْلَيْنِ. انْتَهَى. وَهَذَا يُخَرَّجُ مِنْهُ خِلَافٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَوْدَ إلَى وَاحِدٍ إنَّمَا هُوَ الْأَخِيرُ. قُلْتُ: وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ الَّذِي حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَا إذْ قُلْت: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي بَكْرٍ، أَوْ أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ أَوْ بَنِي بَكْرٍ إلَّا ثَلَاثَةً، هَلْ مَعْنَاهُ إلَّا ثَلَاثَةً مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ أَوْ مَجْمُوعَهُمَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ. وَيُشْبِهُ أَيْضًا تَخْرِيجَهُ عَلَى

الْخِلَافِ فِيمَا إذَا عَطَفَ بَعْضَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ أَوْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى بَعْضٍ، هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَكُونَا كَالْكَلَامِ الْوَاحِدِ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ فَالْقِيَاسُ جَعْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَائِدًا إلَى الْمَجْمُوعِ، وَيَقَعُ فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً تَقَعُ ثِنْتَانِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُجْمَعُ فَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ بِجُمْلَتِهِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَقَعُ ثِنْتَانِ أَيْضًا، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَكُونُ مِنْ وَاحِدَةٍ وَهُوَ بَاطِلٌ لِاسْتِغْرَاقِهِ، فَوَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ الْمَعْطُوفَةُ، وَيَكُونُ مِنْ ثِنْتَيْنِ، وَهُوَ صَحِيحٌ فَيَقَعُ مِنْهُمَا وَاحِدَةٌ، فَحِينَئِذٍ يَقَعُ طَلْقَتَانِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مَعًا. الثَّانِي: أَنَّ الرَّافِعِيَّ وَجَمَاعَةً مِنْ الْأَصْحَابِ مَثَّلُوا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ بِمَا لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي وَأَحْفَادِي وَإِخْوَتِي الْمُحْتَاجِينَ إلَّا أَنْ يَفْسُقَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لَا الْجُمَلِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْعَامِلُ فِي الْمَعْطُوفِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَالْمُطَابِقُ تَمْثِيلُ الْإِمَامِ فِي " الْبُرْهَانِ " بِقَوْلِهِ: وَقَفْتُ عَلَى بَنِي فُلَانٍ دَارِي، وَحَبَسْت عَلَى أَقَارِبِي ضَيْعَتِي، وَسَبَّلْتُ عَلَى خَدَمَتِي بَيْتِي إلَّا أَنْ يَفْسُقَ مِنْهُمْ فَاسِقٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا مِنْ النَّحْوِيِّينَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ ابْنَ فَارِسٍ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِ " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ " وَاخْتَارَ تَوَقُّفَ الْأَمْرِ عَلَى الدَّلِيلِ مِنْ خَارِجٍ، وَذَكَرَهَا الْمَهَابَاذِيُّ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " وَاخْتَارَ رُجُوعَهُ إلَى مَا يَلِيهِ كَالْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: وَحَمْلُهُ عَلَى أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ خَطَأٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِعَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيَسْتَحِيلُ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَمْرُونٍ فِي " شَرْحِ الْمُفَصَّلِ " فِي قَوْلِنَا: لَا حَوْلَ وَلَا

قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الثَّانِيَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِعَامِلَيْنِ، وَحَسَّنَهُ هُنَا أَنَّ مَعْنَى الثَّانِيَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْأُولَى. فَإِذَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ أَحَدِهَا فَكَأَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْهُمَا، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ سَادًّا مَسَدَّ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جُمْلَةٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَانِيهَا، وَإِنْ ظَنَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ، وَقَاسُوهَا عَلَى الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ مَتَى تَعَقَّبَ عَادَ إلَى الْكُلِّ. وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الشَّرْطُ اجْتِمَاعَ عَامِلَيْنِ عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ " لَهُمْ "، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي " لَهُمْ " أَوْ يُنْصَبُ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) لِلْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ: تُبْ أَقْبَلْ. لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَدَمُ الْفِسْقِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْفَاسِقِينَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْفِسْقِ قَبُولُ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُضْمَرُ الْفَصْلُ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ، وَلَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَهَذَا مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُسْتَثْنَى مَا قَبْلُ إلَّا؛ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْعَامِلَ " إلَّا " كَمَا صَحَّحَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ، لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِعَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ، إنْ قَالُوا بِأَنَّ الْعَامِلَ " إلَّا " فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ قَالُوا: مَا قَبْلَهَا، فَعَلَيْهِ هَذَا الْإِشْكَالُ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: قَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ مُقَدِّمِ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَمَتْبُوعُهُمْ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى

الْأَخِيرَةِ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهَذَا بَنَاهُ أَبُو عَلِيٍّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ - الْفِعْلُ الَّذِي قَبْلَ " إلَّا "، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ اللُّغَوِيُّ وَالْقِيَاسُ النَّحْوِيُّ عَلَى أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَعْمَلَ عَامِلَانِ فِي مَعْمُولٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْمَعْمُولِ أَيْضًا. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ سَوَادَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُمَا لَوْ اجْتَمَعَا لَجَازَ أَنْ يَرْتَفِعَ أَحَدُهُمَا بِضِدِّهِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَقْلًا فَلَوْ قَدَّرْنَا رَفْعَ أَحَدِ السَّوَادَيْنِ بِبَيَاضٍ لَأَدَّى إلَى اجْتِمَاعِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَامِلَانِ فِي مَعْمُولٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ أَحَدُ الْعَامِلَيْنِ بِضِدِّهِ، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا مَثَلًا يُوجِبُ الرَّفْعَ، وَالْآخَرُ يُوجِبُ النَّصْبَ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ الرَّابِعُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَقِيبَ الْجُمَلِ مُخْتَلِفٌ، فَمِنْهُ مَا يَعُودُ إلَى الْكُلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] وَفِي الْمَائِدَةِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] قِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَقِيلَ مُنْقَطِعٌ، يَعُودُ عَلَى الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا بَعْدَهَا. أَيْ مَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الْآيَةَ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ قَائِمٌ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] عَائِدٌ إلَى الْجَمِيعِ. وَمِنْهُ مَا يَعُودُ عَلَى جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، كَقَوْلِهِ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 81] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا امْرَأَتَكَ} [هود: 81] قُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ، وَبِالرَّفْعِ

عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا مَنْفِيَّةٌ. وَقَدْ تَكُونُ خَرَجَتْ مَعَهُمْ، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَهَلَكَتْ. قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَمِنْهُ مَا يَتَضَمَّنُ عَوْدَهُ إلَى الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] ، فَهَذَا رَاجِعٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الدِّيَةُ لَا الْكَفَّارَةُ. وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ آيَةَ الْقَذْفِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ثَلَاثَ جُمَلٍ، وَعَقَّبَهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَلَا يُمْكِنُ عَوْدُهُ إلَى الْأُولَى بِالِاتِّفَاقِ؛ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِبُعْدِهِ عَنْ آخِرِ مَذْكُورٍ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِخُرُوجِهِ بِدَلِيلٍ، وَهُوَ أَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَلَا إلَى الثَّانِيَةِ لِتَقَيُّدِهَا بِالتَّأْبِيدِ. وَبِهِ يَقُومُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْأَخِيرَةِ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: بَلْ رَاجِعٌ إلَى الشَّهَادَةِ فَقَطْ لِأَنَّ التَّفْسِيقَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ، وَالتَّعْلِيلُ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ هُوَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ، فَالِاسْتِثْنَاءُ بِهِ أَوْلَى. وَمِنْهُ مَا يَتَعَيَّنُ عَوْدُهُ إلَى الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 28] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] فَهُوَ عَائِدٌ إلَى النَّهْيِ الْأَوَّلِ دُونَ الْخَبَرِ الثَّانِي: وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة: 249] ، فَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ عَوْدُهُ إلَى الْأَخِيرِ، وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً لَيْسَ مِنْهُ،

وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْ مُطْلَقًا، وَمَنْ اغْتَرَفَ مِنْهُ غُرْفَةً عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52] فَإِنَّهُ عَائِدٌ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ عَوْدُهُ إلَى الْأَخِيرَةِ، وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَثْنَى " الْإِمَاءَ " مِنْ أَزْوَاجٍ. وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ» فَإِنَّهُ عَائِدٌ إلَى الْأَوَّلِ فَقَطْ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَهَذَا مَوْضِعُ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ إلَّا قَلِيلًا، وَكَقَوْلِهِ: {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} [الصافات: 10] بَعْدَ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ الْأَوَّلُ. وَجَعَلَ ابْنُ جِنِّي فِي " الْخَاطِرِيَّاتِ " مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ - إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء: 226 - 227] فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يَفْعَلُونَ، وَلَوْ كَانَ مَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا لَكَانَ مَدْحًا لَهُمْ وَثَنَاءً عَلَيْهِمْ، وَهَذَا ضِدُّ الْمَعْنَى هُنَا. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا كَانَ الْكَلَامُ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى؟ أَيْ أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا. قِيلَ: فِيهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ ذَمُّ الشُّعَرَاءِ عَلَى

الْإِطْلَاقِ صَدَقُوا أَمْ كَذَبُوا، فَالْمُرَادُ أَنَّ الشُّعَرَاءَ هَذِهِ حَالَتُهُمْ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا. قَالَ: وَحِينَئِذٍ فَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْأَوَّلِ الْأَبْعَدِ دُونَ الْآخَرِ الْأَقْرَبِ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ إلَى الْآنِ عَلَى أَصْحَابِنَا انْتَهَى. وَمِنْهُ مَا يَلْتَبِسُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان: 70] فَقَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ مِنْ الْجُمَلِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَفْظِ " مَنْ " وَهُوَ مُفْرَدٌ. الْخَامِسُ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا النَّقْلَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَوْجُودُ فِي كُتُبِهِمْ تَخْصِيصُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ " بِإِلَّا " فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ نَحْوُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ. ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " مَعَانِي الْأَدَوَاتِ "، فَقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ بِلَفْظِ الْمَشِيئَةِ يُسَمَّى التَّعْطِيلَ، لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ شَيْءٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِإِلَّا يُسَمَّى التَّحْصِيلَ، لِأَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَهُ شَيْءٌ، وَكَذَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي، وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ، وَالْآمِدِيَّ وَأَتْبَاعِهِمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ مَحَلُّ وِفَاقٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَفِي " الْبُرْهَانِ " لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: وَادَّعَى بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ: نِسْوَتِي طَوَالِقُ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَدُورِي مُحْبَسَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ، وَمَا أَرَاهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ إنْ عَقَلُوا، فَإِنْ سَلَّمُوهُ فَطَالِبُ الْقَطْعِ لَا يُغْنِي فِيهَا التَّعَلُّقُ بِهَفَوَاتِ الْخُصُومِ وَمُنَاقَضَاتِهِمْ. فَلْيَبْعُدْ طَالِبُ التَّحْقِيقِ عَنْ مِثْلِ هَذَا. انْتَهَى.

مسألة إذا تعددت الجمل وجاء بعدها ضمير جمع

فَائِدَةٌ اُخْتُلِفَ فِي " إنْ شَاءَ اللَّهُ " هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ؟ فَظَاهِرُ كَلَامِ طَائِفَةٍ دُخُولُهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَقَعْ خِلَافًا لِمَالِكٍ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا، وَقَعَ الثَّلَاثُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ ": اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، أَوْ يَكُونُ شَرْطًا يُعَلَّقُ بِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ لِعَدَمِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ. قُلْت: وَبِهِ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْإِمَامُ: لَا يَبْعُدُ عَنْ اللُّغَةِ تَسْمِيَةُ كُلِّ تَعْلِيقٍ اسْتِثْنَاءً. وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ، فَهَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ صَرَّحَ الْإِمَامُ بِالثَّانِي فَقَالَ: سَمَّاهُ أَئِمَّتُنَا اسْتِثْنَاءً تَجَوُّزًا، لِأَنَّهُ ثَنَّى بِمُوجِبِ اللَّفْظِ عَنْ الْوُقُوعِ، كَقَوْلِهِ: طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّهُ ثَنَّى اللَّفْظَ عَنْ إيقَاعِ الثَّلَاثِ، لَكِنْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتِثْنَاءً فِي قَوْلِهِ: «مَنْ أَعْتَقَ أَوْ طَلَّقَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثُنْيَاهُ» ، وَهُوَ عَامٌّ فِي قَوْلِهِ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَغَيْرِهِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَدَّدَتْ الْجُمَلُ وَجَاءَ بَعْدَهَا ضَمِيرُ جَمْعٍ] مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَدَّدَتْ الْجُمَلُ، وَجَاءَ بَعْدَهَا ضَمِيرُ جَمْعٍ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِهَا كَمَا قُلْنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوُ: اُدْخُلْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ سَائِرِ قُرَيْشٍ، وَجَالِسْهُمْ، وَالْزَمْهُمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا يَجِيءُ فِيهِ خِلَافُ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ مَأْخَذَ الْمُخَالِفِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْفَعُ بَعْضَ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ.

وَقَالَ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ: إنَّ الْمُقْتَضِي لِلدُّخُولِ فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ قَائِمٌ، وَالْمُخَرَّجُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزَالُ الْمَقْضِيُّ بِالشَّكِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الضَّمِيرِ، فَإِنَّ الضَّمِيرَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ صَالِحٌ لِلْعُمُومِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، وَلَا مُقْتَضِي لِلتَّخْصِيصِ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ. وَهَذَا إذَا كَانَ الضَّمِيرُ جَمْعًا؛ فَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، فَلَوْ قُلْت: أَتَانِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَخَالِدٌ فَقَتَلْته، لَرَجَعَ الضَّمِيرُ إلَى خَالِدٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا يَرْجِعُ إلَى مَا قَبْلَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] فَإِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى اللَّحْمِ، لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ خِلَافًا لِلْمَاوَرْدِيِّ وَابْنِ حَزْمٍ حَيْثُ أَعَادَاهُ إلَى الْخِنْزِيرِ لِأَنَّ اللَّحْمَ دَخَلَ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ هُرُوبًا مِنْ التَّكْرَارِ، وَعَمَلًا بِرُجُوعِ الضَّمِيرِ إلَى الْأَقْرَبِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي " الْإِحْكَامِ ": وَالْإِشَارَةُ تُخَالِفُ الضَّمِيرَ فِي عَوْدِهَا إلَى أَبْعَدِ مَذْكُورٍ. هَذَا حُكْمُهَا فِي اللُّغَةِ إذَا كَانَتْ الْإِشَارَةُ، بِذَلِكَ، أَوْ تِلْكَ، أَوْ أُولَئِكَ أَوْ هُوَ، أَوْ هُمْ، أَوْ هُنَّ، أَوْ هُمَا، فَإِنْ كَانَتْ بِهَذَا أَوْ هَذِهِ، فَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى حَاضِرٍ قَرِيبٍ ضَرُورَةً قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ اللُّغَوِيِّينَ، وَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَا أَنْ يَكُونَ الْقُرْءُ مِنْ حُكْمِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ الطُّهْرُ خَاصَّةً دُونَ الْحَيْضِ، وَإِنْ كَانَ الْقُرْءُ فِي اللُّغَةِ وَاقِعًا عَلَيْهِمَا سَوَاءً وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» ، كَأَنَّ قَوْلَهُ:

مسألة وقع بعد المستثنى منه والمستثنى جملة تصلح صفة لكل منهما

تِلْكَ " إشَارَةٌ تَقْتَضِي بَعِيدًا. وَأَبْعَدُ مَذْكُورٍ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: " تَطْهُرَ " فَلَمَّا تَصِحُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْعِدَّةُ الْمَأْمُورُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ صَحَّ أَنَّهُ هُوَ الْعِدَّةُ الْمَأْمُورُ بِحِفْظِهَا لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ. [مَسْأَلَةٌ وَقَعَ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى جُمْلَةٌ تَصْلُحُ صِفَةً لِكُلِّ مِنْهُمَا] مَسْأَلَةٌ إذَا وَقَعَ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى جُمْلَةٌ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَظَاهِرُ مَذْهَبِنَا رُجُوعُهَا إلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى الْمُسْتَثْنَى. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً قَضَيْته إيَّاهُ. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ ": يَكُونُ اسْتِثْنَاءً صَحِيحًا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ دُونَ الْقَضَاءِ، وَيَصِيرُ مُقِرًّا بِتِسْعِمِائَةٍ، قَدْ ادَّعَى قَضَاءَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ مُقِرًّا بِأَلْفٍ مُدَّعِيًا لِقَضَاءِ مِائَةٍ، فَيَلْزَمُهُ الْأَلْفُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْقَضَاءِ، فَجُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقَضَاءِ دُونَ الْمَقْضِيِّ.

المخصص الثاني الشرط

[الْمُخَصِّصُ الثَّانِي الشَّرْطُ] ُ قَالُوا: وَهُوَ لُغَةً: الْعَلَامَةُ، وَاَلَّذِي فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ ذَلِكَ فِي الشَّرَطِ بِالتَّحْرِيكِ، وَجَمْعُهُ أَشْرَاطٍ، وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، أَيْ عَلَامَاتُهَا: وَأَمَّا الشَّرْطُ بِالتَّسْكِينِ، فَجَمْعُهُ شُرُوطٌ فِي الْكَثِيرَةِ، وَأَشْرُطٌ فِي الْقِلَّةِ كَفُلُوسٍ وَأَفْلُسٍ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَذُكِرَ فِيهِ حُدُودٌ أَوْلَاهَا: مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ؛ فَاحْتُرِزَ بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمَانِعِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ شَيْءٌ وَبِالثَّانِي مِنْ السَّبَبِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ. وَبِالثَّالِثِ مُقَارَنَةُ الشَّرْطِ وُجُودَ السَّبَبِ فَيَلْزَمُ الْوُجُودُ، أَوْ وُجُودَ الْمَانِعِ فَيَلْزَمُ الْعَدَمُ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ لِذَاتِهِ، بَلْ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَالْمَانِعِ قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَالشَّرْطُ لَا يَتَخَصَّصُ بِالْوُجُودِ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا، لِأَنَّا كَمَا نَشْتَرِطُ فِي قِيَامِ السَّوَادِ بِمَحَلِّهِ وُجُودَ مَحَلِّهِ، يُشْتَرَطُ عَدَمُ ضِدِّهِ، وَيُشْتَرَطُ عَدَمُ الْقَدْرِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي صِحَّةِ التَّيَمُّمِ.

هل للشرط دلالة في جانب الإثبات

[هَلْ لِلشَّرْطِ دَلَالَةٌ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ] وَقَعَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ مِنْ " الْبُرْهَانِ " أَنَّ لِلشَّرْطِ دَلَالَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مُصَرَّحٌ بِهَا، وَهِيَ إثْبَاتُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ، وَالْأُخْرَى ضِمْنِيَّةٌ، وَهِيَ الِانْتِفَاءُ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الشَّرْطَ لَا دَلَالَةَ لَهُ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ فِي جَانِبِ الِانْتِفَاءِ خَاصَّةً، وَلَوْ صَحَّ مَا قَالَهُ لَمْ يَظْهَرْ فَرْقٌ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ. وَأَمَّا تَمَسُّكُ الْإِمَامِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: إنْ جِئْتنِي أَكْرَمْتُك، فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّهُ إذَا جَاءَ اسْتَحَقَّ الْإِكْرَامَ؛ لَكِنْ هَلْ ذَلِكَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ أَوْ لِأَجْلِ الْإِكْرَامِ الْمَوْقُوفِ عَلَى الشَّرْطِ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهَا إذَا دَخَلَتْ الدَّارَ تَطْلُقُ، لَا لِاقْتِضَاءِ الشَّرْطِ ذَلِكَ؛ بَلْ لِلِالْتِزَامِ وَالْإِيقَاعِ مِنْ جِهَةِ الْمُطَلِّقِ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ إلَى وَضْعِ اللُّغَةِ. وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْفِقْهِ فَدُخُولُ الدَّارِ لَيْسَ هُوَ سَبَبُ الطَّلَاقِ، إذْ لَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ تَطْلِيقُ الزَّوْجِ الْمَوْقُوفُ عَلَى الدُّخُولِ. وَقَدْ طَوَّلَ الْإِبْيَارِيُّ مَعَهُ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُنَيِّرِ، وَقَالَ: قَالَ الْإِمَامُ: إنَّ الشَّرْطَ يَدُلُّ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ صَرِيحًا، وَفِي جَانِبِ النَّفْيِ ضِمْنًا، وَمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا رُؤْيَتُهُ الْعِلَلَ تُسْتَعْمَلُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ كَثِيرًا، فَاعْتَقَدَ أَنَّ الشَّرْطَ اللُّغَوِيَّ عِلَّةٌ. قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي أَعْذَرُ مِمَّنْ رَدَّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ شَرْطٌ حَقِيقَةً قَالَ: وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إنَّمَا هِيَ إيقَاعُ الزَّوْجِ عِنْدَ الشَّرْطِ، وَإِلَّا فَالدُّخُولُ لَيْسَ عِلَّةً لِلطَّلَاقِ شَرْعًا. وَهَذَا الرَّدُّ وَهْمٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الدُّخُولَ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ عِلَّةً لِلطَّلَاقِ شَرْعًا ابْتِدَاءً؛ لَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لَهُ بِوَضْعِ الْمُطَلِّقِ وَغَرَضِهِ لِأَنَّهُ قَدْ فَوَّضَ الشَّرْعُ إلَيْهِ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِلَا سَبَبٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ فِي وَضْعِ الْأَشْيَاءِ

مسألة ينقسم الشرط إلى أربعة أقسام

أَسْبَابًا، وَلِهَذَا لَا يُعَلَّقُ الطَّلَاقُ غَالِبًا إلَّا عَلَى وَصْفٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى حِكْمَةٍ عِنْدَهُ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الدَّارُ عَوْرَةً، أَوْ فِيهَا مَا يُنَافِي غَرَضَهُ فَإِذَا ارْتَكَبَتْ الزَّوْجَةُ ذَلِكَ نَاسَبَ الْفِرَاقَ فِي غَرَضِهِ وَقَصْدِهِ، وَكَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ شَرْعًا بِدُخُولِ الدَّارِ، وَقَدْ صَارَ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ مَشْرُوطًا بِوَضْعِ الْمُعَلَّقِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَلَّلٍ شَرْعًا، وَيَصِيرُ مُعَلَّلًا بِوَضْعِ الْمُطْلَقِ فِعْلًا يَقْتَضِيهِ. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت الدَّارَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَصَدَ ذَلِكَ وَكَانَ فَصِيحًا طَلُقَتْ فِي الْحَالِ. وَكَانَ الدُّخُولُ عِلَّةً لِلطَّلَاقِ لَا شَرْطًا. [مَسْأَلَة يَنْقَسِمُ الشَّرْط إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ] وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأُولَى أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: شَرْعِيٌّ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ. فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الصَّلَاةِ وُجُودُ الطَّهَارَةِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الطَّهَارَةِ وُجُودُ الصَّلَاةِ. وَعَقْلِيٌّ كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ، فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْعِلْمِ وُجُودُ الْحَيَاةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْحَيَاةِ وُجُودُ الْعِلْمِ. وَعَادِيٌّ كَالسُّلَّمِ مَعَ صُعُودِ السَّطْحِ، فَيَلْزَمُ مِنْ صُعُودِ السَّطْحِ وُجُودُ نَصْبِ السُّلَّمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَصْبِ السُّلَّمِ صُعُودُ السَّطْحِ. وَلُغَوِيٌّ مِثْلُ التَّعْلِيقَاتِ نَحْوُ إنْ قُمْت، وَنَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَالْمُخْتَصُّ الْمُتَّصِلُ الَّذِي الْكَلَامُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ اللُّغَوِيُّ. وَالشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ أَسْبَابٌ وِفَاقًا لِلْغَزَالِيِّ وَالْقَرَافِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الشُّرُوطِ، وَلِهَذَا تَقُولُ النُّحَاةُ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ بِسَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ

الفرق بين الشرط والسبب والمانع

وَمُسَبِّبِيَّةِ الثَّانِي، وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا بِتَبَيُّنِ حَقِيقَةِ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ وَالْمَانِعِ. [الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ وَالْمَانِعِ] فَالسَّبَبُ: هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ. وَالْمَانِعُ: هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمَانِعِ وُجُودُهُ، وَفِي الشَّرْطِ عَدَمُهُ، وَفِي السَّبَبِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ وَمِثَالُهُ الزَّكَاةُ، فَالسَّبَبُ النِّصَابُ، وَالْحَوْلُ شَرْطٌ، وَالدَّيْنُ مَانِعٌ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ مَانِعًا. وَإِذْ وَضَحَتْ الْحَقِيقَةُ ظَهَرَ أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ فِي الْمَشْرُوطِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ، فَقَدْ تُوجَدُ الشُّرُوطُ عِنْدَ وُجُودِهَا كَمُوجِبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْحَوْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ، وَقَدْ يُقَارِنُ الدَّيْنَ فَيَمْتَنِعُ الْوُجُوبُ. وَأَمَّا الشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ الَّتِي هِيَ التَّعَالِيقُ نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَلْزَمُ مِنْ الدُّخُولِ الطَّلَاقُ، وَمِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ إلَّا أَنْ يَخْلُفَهُ سَبَبٌ آخَرُ. وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الشَّرْطِ عَلَى الْجَمِيعِ إمَّا بِالِاشْتِرَاكِ أَوْ الْحَقِيقَةِ فِي وَاحِدٍ وَالْمَجَازِ فِي الْبَوَاقِي أَوْ بِالتَّوَاطُؤِ إذْ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهُوَ مُجَرَّدُ تَوَقُّفِ الْوُجُودِ عَلَى الْوُجُودِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. ثُمَّ الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ يَمْتَازُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إمْكَانُ التَّعْوِيضِ عَنْهُ، وَالْإِخْلَافُ، وَالْبَدَلُ، كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَقُولُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَيَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْإِنْشَاءِ بَدَلًا عَنْ الْمُعَلَّقَةِ. وَكَمَا إذَا قَالَ: إنْ رَدَدْت عَبْدِي فَلَكَ هَذَا الدِّرْهَمُ، ثُمَّ يُعْطِيهِ إيَّاهُ قَبْلَ رَدِّ الْعَبْدِ هِبَةً، فَتَخْلُفُ الْهِبَةُ اسْتِحْقَاقَهُ إيَّاهُ بِالرَّدِّ. وَيُمْكِنُ إبْطَالُ شَرْطِيَّتِهِ كَمَا إذَا نَجَّزَ الطَّلَاقَ، أَوْ اتَّفَقَا عَلَى فَسْخِ الْجَعَالَةِ.

المسألة الثانية في صيغته الشرط

وَالشُّرُوطُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يَقْتَضِي وُجُودُهَا وُجُودًا، وَلَا تَقْبَلُ الْبَدَلَ وَلَا الْإِخْلَافَ، وَيُمْكِنُ قَبُولُهَا الْإِبْطَالَ، فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يُبْطِلُ شَرْطِيَّةَ الطَّهَارَةِ لِلْعُذْرِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي صِيغَتِهِ الشَّرْط] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةُ: فِي صِيغَتِهِ وَهِيَ " إنْ " وَهِيَ أُمُّ الْأَدَوَاتِ، لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا. وَهِيَ لِلتَّوَقُّعِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. وَ " إذَا " وَهِيَ لِلْمُحَقَّقِ كَقَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّوَقُّعِ " كَإِنْ " مَجَازًا. يَجِيءُ شَرْطًا مِنْ الْأَسْمَاءِ " مَنْ، وَمَا، وَأَيُّ، وَمَهْمَا " وَمِنْ الظُّرُوفِ " أَيْنَ وَأَنَّى، وَمَتَى، وَحَيْثُمَا، وَأَيْنَمَا وَمَتَى، وَمَا، وَكَيْفَ " يُجَازِي بِهَا مَعْنًى لَا عَمَلًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ حَقِّ الشَّرْطِ أَنْ لَا يَدْخُلَ إلَّا عَلَى الْمُنْتَظَرِ] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةُ: مِنْ حَقِّ الشَّرْطِ أَنْ لَا يَدْخُلَ إلَّا عَلَى الْمُنْتَظَرِ، لِأَنَّ مَا انْقَضَى لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ فِيهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ مُسْتَقْبَلَةً أَبَدًا، سَوَاءٌ كَانَ لَفْظُهَا مَاضِيًا مُضَارِعًا إلَّا أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ لَفْظِهَا مَا هُوَ، نَحْوُ إنْ يَقُمْ زَيْدٌ فَقَدْ أَكْرَمْته. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاءٌ، فَالْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ؛ إلَّا فِي " كَانَ " وَحْدَهَا، فَإِنَّ الْمُبَرِّدَ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهَا تَبْقَى عَلَى مُضِيِّهَا، فَتَقُولُ: إنْ كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا قُمْتُ وَ " كَانَ " مَاضِيَةٌ، وَاحْتَجَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] قَدْ كَانَ

المسألة الرابعة من أحكام الشرط إخراج ما لولاه علم إخراجه

وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهَا مُسْتَغْرِقَةٌ لِلزَّمَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَخُصُّ زَمَانًا دُونَ غَيْرِهِ، وَزَعَمَ ابْنُ السَّرَّاجِ أَنَّ الْمُبَرِّدَ احْتَجَّ بِالْآيَةِ، قَالَ: وَفِيهَا نَظَرٌ، فَلَمْ يَجْزِمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْآيَةَ قَطْعِيَّةً فِي الْمَقْصُودِ. وَالصَّحِيحُ عَدَمُ خُرُوجِهَا عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَنَزَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ " إنْ " دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُسْتَقْبَلٍ، إمَّا عَلَى إضْمَارِ: " يَكُنْ " أَيْ إنْ يَكُنْ قُلْته. وَإِمَّا عَلَى إضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: إنْ أَكُنْ فِيمَا اسْتَقْبَلَ كُنْت قُلْتُهُ، أَيْ مَوْصُوفًا بِهَذَا، أَوْ إنْ أَقُلْ كُنْتُ قُلْتُهُ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ ابْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَكُونُ غَيْرَ مُسْتَقْبَلِ الْمَعْنَى بِلَفْظِ " كَانَ " وَغَيْرِهَا إلَّا مُؤَوَّلًا. لَكِنْ مَا قَالَهُ مُسْتَدْرَكٌ " بِلَوْ، وَلَمَّا " الشَّرْطِيَّتَيْنِ. فَإِنَّ الْفِعْلَ بَعْدَهَا لَا يَكُونُ إلَّا مَاضِيًا. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: الْمَشْرُوطُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي الِاسْتِقْبَالِ، نَقُولُ: لَا أَضْرِبُ زَيْدًا حَتَّى يَقُومَ عَمْرٌو، وَلَا يَحْسُنُ لَا أَضْرِبُ زَيْدًا بِالْأَمْسِ حَتَّى يَقُومَ عَمْرٌو. فَأَمَّا الشَّرْطُ، فَقَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَرْقُوبًا فِي الِاسْتِقْبَالِ. قَالَ الْقَاضِي: وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ قَدْ يَقَعُ الشَّرْطُ كَائِنًا فِي الْحَالِ غَيْرَ مُسْتَقْبَلٍ، فَيَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: إنْ كَانَ زَيْدٌ الْيَوْمَ رَاكِبًا يَرْكَبُ غَدًا، فَيُوَافِقُ وُجُودَ الشَّرْطِ لِفِعْلِك، وَيَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَشْرُوطِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَحْسُنُ إذْ مُخَاطِبُك يَعْرِفُ أَنَّ زَيْدًا الْيَوْمَ رَاكِبٌ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَعْرِفْ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ عِنْدَ الْجَهْلِ، فَكَأَنَّك قُلْت: إنْ كَانَ أَوْضَحَ لَنَا أَنَّ زَيْدًا رَاكِبٌ قُمْتَ غَدًا، فَهَذَا الشَّرْطُ إذَنْ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَرْقُوبٌ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ أَحْكَام الشَّرْط إخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ عُلِمَ إخْرَاجُهُ] [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةُ: مِنْ أَحْكَامِهِ إخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ عُلِمَ إخْرَاجُهُ

المسألة الخامسة الشرط والمشروط قد يتحدان

كَأَكْرِمْ زَيْدًا إنْ اسْتَطَعْت، أَوَّلًا كَأَكْرِمْهُ إنْ قَامَ. ثُمَّ قَدْ يُوجَدُ دَفْعَةً كَالتَّعْلِيقِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَالْحُكْمُ عِنْدَ أَوَّلِ وُجُودِهِ. وَقَدْ يُوجَدُ عَلَى التَّعَاقُبِ كَالْحَرَكَةِ وَالْكَلَامِ؛ فَعِنْدَ آخِرِ جُزْءٍ، إذْ الْعُرْفُ بِوُجُودِهِ حِينَئِذٍ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، كَالطَّهَارَةِ لِمَنْ نَوَى وَهُوَ مُنْغَمِسٌ فِي الْمَاءِ، وَلِمَنْ تَوَضَّأَ نَاوِيًا، وَقُلْنَا بِتَفْرِيقِ الِارْتِفَاعِ، فَالْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ دَفْعَةٍ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ وُجُودُهُ حَقِيقَةً، وَلَا تَحَقُّقَ لِوُجُودِهِ إلَّا كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّانِي [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الشَّرْطُ وَالْمَشْرُوطُ قَدْ يَتَّحِدَانِ] [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةُ: الشَّرْطُ وَالْمَشْرُوطُ قَدْ يَتَّحِدَانِ، نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَدْ يَتَعَدَّدُ الشَّرْطُ، وَيَتَّحِدُ الْمَشْرُوطُ، بِأَنْ يَكُونَ لِلْمَشْرُوطِ الْوَاحِدِ شَرْطَانِ، فَإِنْ كَانَا عَلَى الْجَمْعِ لَمْ يَحْصُلْ الْمَشْرُوطُ إلَّا بِحُصُولِهِمَا مَعًا، كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَكَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْبَدَلِ حَصَلَ الْمَشْرُوطُ بِحُصُولِ أَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، أَوْ كَلَّمْت [زَيْدًا] فَأَنْتِ طَالِقٌ. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَمَتَى زِيدَ فِي شَرْطِهِ زِيدَ فِي تَخْصِيصِهِ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهُ يَحُطُّهُ فِي كُلِّ دَفْعَةٍ عَنْ رُتْبَةِ الْإِطْلَاقِ. قَالَ: وَيَنْشَأُ مِنْ جَوَازِ مَشْرُوطٍ لِمَشْرُوطٍ أَنْ لَا يُشْعِرَ انْتِفَاءُ الشَّرْطِ بِانْعِكَاسِ حُكْمِ الْمَشْرُوطِ إلَّا فِي الْعُمُومِ وَقَدْ يَتَعَدَّدُ الْمَشْرُوطُ، وَيَتَّحِدُ الشَّرْطُ بِأَنْ يَكُونَ لِلشَّرْطِ الْوَاحِدِ مَشْرُوطَاتٌ، فَإِمَّا عَلَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: إنْ زَنَيْت جَلَدْتُك، وَعَزَّرْتُك، فَإِذَا حَصَلَ الزِّنَى حَصَلَ اسْتِحْقَاقُ الْأَمْرَيْنِ. وَإِمَّا عَلَى الْبَدَلِ، كَقَوْلِهِ جَلَدْتُك أَوْ عَزَّرْتُك، وَالْمُحَقَّقُ أَحَدُهُمَا. [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ تَأْخِيرُ الشَّرْطِ عَنْ الْمَشْرُوطِ فِي اللَّفْظِ] [الْمَسْأَلَةُ] السَّادِسَةُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْ

الْمَشْرُوطِ فِي اللَّفْظِ، حَتَّى يَكُونَ كَالِاسْتِثْنَاءِ؛ بَلْ الْأَصْلُ تَقْدِيمُهُ، لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ فِي الْوُجُودِ، وَلِأَنَّهُ قِسْمٌ مِنْ الْكَلَامِ، فَكَانَ لَهُ الصَّدْرُ كَالِاسْتِفْهَامِ وَالتَّمَنِّي. وَيَجُوزُ تَأَخُّرُهُ لَفْظًا، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. قَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": وَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ، وَتَأْخِيرِهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْأَوْلَى، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَحْرَى هُوَ التَّقْدِيمُ، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ قُلْت: قَوْلُهُ لَا نِزَاعَ فِي تَقْدِيمِهِ وَتَأْخِيرِهِ مَرْدُودٌ، فَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الشَّرْطَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ كَالِاسْتِفْهَامِ، فَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ. فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ شُبِّهَ بِالْجَوَابِ، وَلَيْسَ بِجَوَابٍ. وَجَوَّزَهُ الْكُوفِيُّونَ، فَنَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، تَقْدِيرُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَا تَقْدِيرَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ؛ بَلْ هُوَ جَوَابٌ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ، وَرَدٍّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا افْتَرَقَ الْمَعْنَيَانِ، وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ. فَفِي التَّقْدِيمِ مَبْنَى الْكَلَامِ عَلَى الْجَزْمِ، ثُمَّ طَرَأَ التَّوَقُّفُ، وَفِي التَّأْخِيرِ مَبْنَى الْكَلَامِ مِنْ أَوَّلِهِ عَلَى الشَّرْطِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ قَوْلُ الْإِمَامِ: إنَّ الْأَوْلَى تَقْدِيمُ الشَّرْطِ. وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْفَرَّاءِ غَرِيبٌ. وَقَالَ الصَّفِيُّ: فِي صِحَّةِ النَّقْلِ نَظَرٌ وَإِنْ صَحَّ النَّقْلُ فَضَعْفُهُ بَيِّنٌ وَقَالَ " شَارِحُ اللُّمَعِ ": يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الشَّرْطُ فِي اللَّفْظِ، كَمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، قِيَاسًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. قَالَ: وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَقْصِدَ إلَى الشَّرْطِ. فَإِنْ جَاءَ بِهِ عَلَى جِهَةِ الْعَادَةِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَصْدُ وَجْهَانِ

المسألة السابعة قد يرد الكلام عريا عن الشرط مع كونه مرادا فيه

كَالِاسْتِثْنَاءِ. قُلْت: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْت، فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً يَقَعُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ شِئْت طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً. قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ. وَوَافَقَهُ الْأَصْحَابُ؛ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ وَاحِدَةٌ لِجَوَازِ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ وَتَأَخُّرِهِ. [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَدْ يَرِدُ الْكَلَامُ عَرِيًّا عَنْ الشَّرْطِ مَعَ كَوْنِهِ مُرَادًا فِيهِ] [الْمَسْأَلَةُ] السَّابِعَةُ: قَدْ يَرِدُ الْكَلَامُ عَرِيًّا عَنْ الشَّرْطِ مَعَ كَوْنِهِ مُرَادًا فِيهِ، وَيُبَيَّنُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41] . [الشَّرْطُ مُخَصِّصٌ لِلْأَحْوَالِ لَا لِلْأَعْيَانِ] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّامِنَةُ: نَقَلَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى مَنْعَ كَوْنِ الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَقَالَ: الشَّرْطُ لَا يُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَةِ. وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " فَقَالَ: لَا يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي التَّخْصِيصِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَقْلِيلٌ فِي الْعَدَدِ قَطْعًا بِخِلَافِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ قَوْلَك: أَعْطِ الْقَوْمَ إنْ دَخَلُوا الدَّارَ لَا يُقْطَعُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ خَارِجٌ مِنْ الْعَطِيَّةِ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ الْكُلُّ فَيَسْتَحِقُّوا الْعَطِيَّةَ، فَإِذَنْ الشَّرْطُ غَيْرُ مُخَصِّصٍ لِلْأَشْخَاصِ وَالْأَعْيَانِ كَالِاسْتِثْنَاءِ. وَإِنَّمَا هُوَ مُخَصِّصٌ لِأَحْوَالٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَمْرَ بِالْعَطِيَّةِ لَوْ كَانَ مُطْلَقًا لَا يَسْتَحِقُّونَهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَإِذَا شُرِطَ بِدُخُولِ الدَّارِ يُخَصَّصُ بِتِلْكَ الْحَالِ الَّتِي هِيَ دُخُولُ الدَّارِ. قَالَ: وَذَكَرَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ أَنَّ الشَّرْطَ بِ " إنْ " يُخَصِّصُ مَا دَخَلَهُ، إلَّا أَنْ يَدْخُلَ لِلتَّأْكِيدِ فَلَا، كَقَوْلِهِ: إنْ تَطَهَّرْت فَصَلِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّحْقِيقِ. انْتَهَى.

المسألة التاسعة وجوب اتصال الشرط في الكلام

وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الشَّرْطَ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْجَزَاءَ وَالشَّرْطَ جُمْلَتَانِ صَيَّرَهُمَا حَرْفُ الشَّرْطِ كَلَامًا وَاحِدًا، فَيَتَقَيَّدُ إحْدَاهُمَا بِقَيْدِ الْأُخْرَى وَتَخْصِيصُهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ كَذَلِكَ، وَبِذَلِكَ أَشْبَهَ الشَّرْطُ الِاسْتِثْنَاءَ، فَإِذَا قُلْت: أَكْرِمْ بَنِي فُلَانٍ إنْ كَانُوا عُلَمَاءَ، صَارَ كَقَوْلِك أَكْرِمْ بَنِي فُلَانٍ إلَّا أَنْ يَكُونُوا جُهَّالًا. وَكَذَا إذَا قَالَ: مَنْ جَاءَك مِنْ النَّاسِ فَأَكْرِمْهُ، وَمَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَهُوَ آمِنٌ. غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إخْرَاجٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالشَّرْطُ يُقَيَّدُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِخْرَاجُ إلَّا عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْفَارِضِ فِي النُّكَتِ ": الِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ الْأَعْيَانَ، وَالشَّرْطُ يُخْرِجُ الْأَحْوَالَ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: مِنْ حَقِّ الشَّرْطِ أَنْ يَخُصَّ الْمَشْرُوطَ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: إنَّمَا يَكُونُ الشَّرْطُ لِلتَّخْصِيصِ إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِلَّا فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَيُصْرَفُ بِالدَّلِيلِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ مِنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ} [الطلاق: 4] وَحُكْمُهَا فِي الْعِدَّةِ مَعَ وُجُودِ الرِّيبَةِ وَعَدَمِهَا سَوَاءٌ. وَقَالَ. ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: يَكُونُ تَخْصِيصًا إلَّا أَنْ يَقَعَ مَوْقِعَ التَّأْكِيدِ، أَوْ غَالِبُ الْحَالِ يُصْرَفُ بِالدَّلِيلِ عَنْ حُكْمِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فَإِنَّ الْخَوْفَ تَأْكِيدٌ لَا شَرْطٌ وَقَوْلُهُ: {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] . [الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وُجُوبُ اتِّصَالِ الشَّرْطِ فِي الْكَلَامِ] [الْمَسْأَلَةُ] التَّاسِعَةُ: لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ اتِّصَالِ الشَّرْطِ فِي الْكَلَامِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ تَقَيُّدُ الْكَلَامِ

المسألة العاشرة الجمل المتعاطفة إذا تعقبها شرط

بِشَرْطٍ يَكُونُ الْخَارِجُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ الْبَاقِي وَلَا يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، قَالَهُ الْإِمَامُ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا يَجِبُ تَنْزِيلُهُ عَلَى مَا عُلِمَ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا مَا يُجْهَلُ فِيهِ الْحَالُ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَيَّدَ، وَلَوْ بِشَرْطٍ لَا يَبْقَى مِنْ مَدْلُولَاتِهِ شَيْءٌ، كَقَوْلِك: أَكْرِمْ مَنْ يَدْخُلُ الدَّارَ إنْ أَكْرَمَك وَإِنْ اتَّفَقَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يُكْرِمْهُ. [الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ إذَا تَعَقَّبَهَا شَرْطٌ] [الْمَسْأَلَةُ] الْعَاشِرَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ إذَا تَعَقَّبَهَا شَرْطٌ، هَلْ يَرْجِعُ إلَى الْجَمِيعِ أَوْ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرَةِ؟ عَلَى طَرِيقَيْنِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِمَّنْ حَكَاهَا الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ الدَّلَائِلِ، فَقَالَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ قَوْمٌ: يَرْجِعُ إلَى مَا يَلِيهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَةِ الْكُلِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَرْجِعُ إلَى الْكُلِّ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ إرَادَةِ الْبَعْضِ ثُمَّ اخْتَارَ الصَّيْرَفِيُّ رُجُوعَهُ إلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ الشَّرْطَ وَقَعَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يَكُنْ آخِرَ الْمَعْطُوفَاتِ أَوْ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَأُمْضِيَ عَلَى عُمُومِهِ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ الْأَشْعَرِيَّةِ عَدَمَ عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ. قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي النُّكَتِ ": الَّذِي فِي كُتُبِ عُلَمَائِنَا كَثِيرًا رُجُوعُهُ إلَى الْجَمِيعِ. وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي رَدِّهِ إلَى الْجَمِيعِ، قَالَ: وَوَجَدْت بَعْضَ الْأُدَبَاءِ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الرُّجُوعِ إلَى مَا يَلِيهِمَا. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَطْعُ بِعَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الشَّرْطَ مَنْزِلَتُهُ التَّقَدُّمُ عَلَى الْمَشْرُوطِ، فَإِذَا أُخِّرَ لَفْظًا كَانَ كَالْمَصْدَرِ فِي الْكَلَامِ، وَلَوْ صَدَرَ

لَتَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ، فَكَذَا الْمُتَأَخِّرُ. وَعَلَى هَذَا جَرَى ابْنُ مَالِكٍ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ شَرْح التَّسْهِيلِ "، فَقَالَ: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَعَلُّقِ الشَّرْطِ بِالْجَمِيعِ فِي نَحْوِ: لَا تَصْحَبْ زَيْدًا وَلَا تَزُرْهُ وَلَا تُكَلِّمْهُ إنْ ظَلَمَنِي، وَاخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ. انْتَهَى. وَهُوَ مَا أَوْرَدَهُ الْقَفَّالُ وَالْمَاوَرْدِيُّ قَالَا: إلَّا أَنْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ. وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِيهِ اتِّفَاقَ أَصْحَابِنَا. لَكِنْ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ عَنْ ابْنِ الْحَدَّادِ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ، أَنَّ الشَّرْطَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخِيرَةِ. وَنَقَلَ أَصْحَابُ الْمُعْتَمَدِ " وَالْمَصَادِرِ " وَالْمَحْصُولِ " وِفَاقَ أَبِي حَنِيفَةَ لَنَا عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ وَالْمَاوَرْدِيَّ حَكَيَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتِصَاصَهُ بِالْأَخِيرَةِ عَلَى قَاعِدَتِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ غَلَطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة: 89] فَهُوَ عَائِدٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ لَا إلَى الرَّقَبَةِ. وَمَثَّلَ الْقَفَّالُ وَالصَّيْرَفِيُّ لِتَخْصِيصِهِ بِبَعْضِ الْمَعْطُوفَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَرَ الشَّرْطَ عَلَى الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، لِدَلِيلٍ قَامَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ رَدُّهُ إلَى الْأُمَّهَاتِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَوْ اقْتَرَنَ بِهِ لَمْ يَسْتَقِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ لَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ مَعْنًى، لِأَنَّ أُمَّهَاتِ نِسَائِنَا أُمَّهَاتُ أَزْوَاجِنَا، وَهِيَ نِسَاؤُكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ

حكم الشرط إذا تقدم على المعطوف

مِنْ أَزْوَاجِكُمْ فَكَيْفَ تَرَوْنَ أُمَّهَاتِ أَزْوَاجِنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ؟ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وَصْفٌ لِلرَّبِيبَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ رَبِيبَةٌ لِامْرَأَةٍ لِي، قَدْ دَخَلْتُ بِهَا، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ أُمُّ امْرَأَتِي مِنْ امْرَأَةٍ لَمْ أَدْخُلْ بِهَا، وَلِهَذَا بَطَلَ رُجُوعُهُ إلَى الْأُولَى. وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ وَالشَّرْطُ إلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ إذَا صَلُحَ أَنْ يُذْكَرَ مَقْرُونًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا سَبَقَ. انْتَهَى كَلَامُ الْقَفَّالِ. وَشَرَطَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ لِلْعَوْدِ إلَى الْجَمِيعِ مَا سَبَقَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ. فَقَالَ: إذَا كَانَ الْخِطَابُ عَلَى جُمَلٍ مِنْهَا مُسْتَقِلٍّ، وَلَوْ نِيطَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِشَرْطٍ لَمْ يَقْتَضِ تَعَلُّقُهُ بِالْكُلِّ، وَكَذَا إذَا تَوَالَتْ أَلْفَاظٌ عَامَّةٌ يَثْبُتُ الْمُخَصِّصُ فِي بَعْضِهَا لَمْ يُوجِبْ التَّخْصِيصَ فِيمَا عَدَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الْآيَةَ. وَاخْتَارَ الرَّازِيَّ التَّوَقُّفَ هُنَا، وَلَا بُعْدَ فِي تَوَقُّفِ الْقَاضِي فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَتَكَلُّفُ الْفَرْقِ بَيْنَهَا ضَعِيفٌ. [حُكْمُ الشَّرْطِ إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْمَعْطُوفِ] تَنْبِيهَاتٌ [حُكْمُ الشَّرْطِ إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْمَعْطُوفِ] الْأَوَّلُ: هَذَا إذَا تَأَخَّرَ الشَّرْطُ فَإِنْ تَقَدَّمَ قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: اخْتَصَّ بِمَا يَلِيهِ عِنْدَ مَنْ خَصَّهُ بِجُمْلَةٍ. قُلْت: وَصَرَّحَ الصَّيْرَفِيُّ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْمَعْطُوفَاتِ كَحُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ فِي الْعَدَدِ إلَى الْكُلِّ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِيمَا لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ امْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ، وَمَالِي

صَدَقَةٌ، وَقَصْدُ الشَّرْطِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْجَمِيعِ. وَصَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ بِأَنَّهُ إذَا قُدِّرَ لِلْعُمُومِ شَرْطٌ مُتَقَدِّمٌ أَوْ مُتَأَخِّرٌ اقْتَضَى تَخْصِيصَ الْمَشْرُوطِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ ": مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ عَوْدُ الشَّرْطِ إلَى الْجَمِيعِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الشَّرْطُ الْجُمَلَ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إنْ كَانَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ رَجَعَ إلَى جَمِيعِ مَا يُذْكَرُ عَقِبَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ رَجَعَ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ أَوْ إلَى أَبْعَدِ مَذْكُورٍ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّفْصِيلُ غَرِيبٌ. وَجَعَلَ شَارِحُ اللُّمَعِ " الْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ أَوْ الْبَعْضِ، " فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَمِيعِ تَعَيَّنَ قَطْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] الْآيَةَ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَرْجِعُ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا رَجَعَ إلَيْهَا كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى الطَّلَاقِ لَا إلَى الزِّنَا، لِأَنَّهُ صِفَةٌ، فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ. [إذَا لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ مَنْطُوقًا بِهِ فَهَلْ يَعُودُ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ] الثَّانِي: هَذَا إذَا كَانَ الشَّرْطُ مَنْطُوقًا بِهِ، فَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ؛ وَلَكِنْ دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ فِي بَعْضِ الْمَذْكُورَاتِ، فَهَلْ يَكُونُ كَالْمَنْطُوقِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ غَرِيبَةٌ لَمْ أَرَهَا إلَّا فِي تَعْلِيقِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ فِي بَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ. إنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى

الفرق بين الشرط والاستثناء

يَسْتَحِقُّونَهُ مَعَ الْغِنَى، بِخِلَافِ الْيَتَامَى فَإِنَّهُ شَرَطَ فِيهِمْ الْحَاجَةَ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الشَّرْطَ عِنْدَكُمْ إذَا نِيطَ بِآخِرِ الْكَلَامِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً رَجَعَ إلَى أَوَّلِهِ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَكُمْ فِي الْيَتَامَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مَعَ الْحَاجَةِ، فَوَجَبَ عَوْدُ هَذَا الشَّرْطِ إلَى ذَوِي الْقُرْبَى. قِيلَ لَهُ: هَذَا قَوْلٌ قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ خَطَأٌ، وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ وَالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ. هَذَا لَفْظُهُ. [الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ] [الْمَسْأَلَةُ] الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فَمَا يُفَارِقُ فِيهِ الشَّرْطُ الِاسْتِثْنَاءَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: الشَّرْطُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إثْبَاتٌ وَنَفْيٌ، فَيَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جِهَةِ إثْبَاتِهِمَا حُكْمًا وَنَفْيِهِمَا آخَرَ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ الْأَعْيَانَ، وَالشَّرْطُ يُخْرِجُ الْأَحْوَالَ. قَالَهُ ابْنُ الْفَارِضِ فِي النُّكَتِ ". وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّرْطَ يُثْبِتُ الْحُكْمَ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَيَنْفِيهِ فِي حَالِ عَدَمِهِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَجْمَعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَرُبَّمَا يَتَقَدَّمُ الْحُكْمَ شَرْطٌ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ إثْبَاتٌ وَلَا نَفْيٌ، وَيُصْرَفُ بِالدَّلِيلِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ مِنْ الْحَقِيقَةِ كَآيَةِ الْعِدَّةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ النُّطْقِ بِهِ فِي الزَّمَانِ عَنْ الْمَشْرُوطِ قَطْعًا، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى قَوْلٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْفَعَ جَمِيعَ الْمَنْطُوقِ بِهِ وَيَبْطُلَ حُكْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَجُوزَ أَنْ يَدْخُلَ الشَّرْطَ كَلَامٌ يُبْطِلُ جَمِيعَهُ بِالْإِجْمَاعِ كَقَوْلِهِ: أَنْتُنَّ طَوَالِقُ إنْ دَخَلْتُنَّ الدَّارَ، فَلَا تَدْخُلُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَيَبْطُلُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ انْتَهَى.

دخول الشرط على الشرط

وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ الْبَاقِي بِلَا نِزَاعٍ، بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى قَوْلٍ. [دُخُولُ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: يَصِحُّ دُخُولُ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ، فَيَكُونُ الثَّانِي شَرْطًا فِي الْأَوَّلِ وَيُسَمِّيهِ النَّحْوِيُّونَ اعْتِرَاضَ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ. وَشَرَطَ ابْنُ مَالِكٍ فِي تَوَالِي الشَّرْطَيْنِ عَدَمَ الْعَطْفِ. قَالَ: فَلَوْ عُطِفَا فَالْجَوَابُ لَهُمَا مَعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ - إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} [محمد: 36 - 37] وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا مِنْ تَوَالِي فِعْلَيْ شَرْطٍ لَا مِنْ تَوَالِي شَرْطَيْنِ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ " أَنَّ حُكْمَهُ بِالْعَطْفِ كَحُكْمِهِ مَعَ عَدَمِهِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ الْمَشْرُوطُ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الشَّرْطِ أَوْ عَقِبَهُ] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْمَشْرُوطُ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الشَّرْطِ أَوْ عَقِبَهُ؟ قَالَ صَاحِبُ النُّكَتِ ": ذَكَرَ أَبُو هَاشِمٍ فِي الْبَغْدَادِيَّاتِ " أَنَّهُ يَقَعُ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْهُ. قَالَ: وَالْمَحْكِيُّ عَنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ الشَّرْطِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْإِيقَاعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْإِيقَاعِ. قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي قَوْلِهِمْ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي هَاشِمٍ، وَيُلْغَى الشَّرْطُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ حُصُولُ الْمَشْرُوطِ مَعَ حُصُولِ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ هُوَ الْعَقْدُ وَالْمَشْرُوطُ حَلُّهُ، وَالْعَقْدُ وَحَلُّهُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَجَبَ أَنْ يَلْغُوَ الشَّرْطُ وَيَصِحَّ الْعَقْدُ، وَعَلَى قَوْلِ مُخَالِفِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوطَ يَقَعُ بَعْدَ الشَّرْطِ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الْأَوَّلِ، وَيَنْحَلُّ فِي الثَّانِي.

المسألة الرابعة عشرة لا يلزم في الشرط وجوابه أن يكون اللزوم بينهما ضروريا بالعقل

وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ " شَارِحُ الْمَحْصُولِ ": الْعِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ تَتَقَدَّمُ عَلَى مَعْلُولِهَا بِالذَّاتِ لَا بِالزَّمَانِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعْقُولِ. وَالشَّرْطُ مَعَ الْمَشْرُوطِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ، فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ، وَالْمُؤَثِّرُ التَّامُّ يُقَارِنُهُ وُجُودُ الْأَثَرِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ، فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ الشَّرْعِيَّ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُؤَثِّرِ الْعَقْلِيِّ، وَذَلِكَ لِمُطَابَقَةِ الشَّرِيعَةِ الْحَقِيقَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُمَا مَعًا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَرَتُّبِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ عَقِبَهُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ الْمُعَلَّقُ عَلَى الْأَصَحِّ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ لَا يَلْزَمُ فِي الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ اللُّزُومُ بَيْنَهُمَا ضَرُورِيًّا بِالْعَقْلِ] [الْمَسْأَلَةُ] الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَا يَلْزَمُ فِي الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ اللُّزُومُ بَيْنَهُمَا ضَرُورِيًّا بِالْعَقْلِ، بَلْ تَكْفِي الْمُلَازَمَةُ بِالْوَضْعِ، فَإِذَا قُلْت: إنْ جَاءَ زَيْدٌ أَكْرَمْته، فَهَذَا لَازِمٌ بِالْوَضْعِ، أَيْ وَضْعِ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ الْإِكْرَامُ لَازِمًا لِلْمَجِيءِ، وَكَلَامُ ابْنِ خَرُوفٍ مِنْ النَّحْوِيِّينَ يَقْتَضِي اللُّزُومَ الْعَقْلِيَّ؛ فَإِنَّهُ قُدِّرَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [النمل: 12] أَنَّ الْمَعْنَى: وَأَخْرِجْهَا، تَخْرُجُ وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إدْخَالِهَا خُرُوجُهَا، وَ " تَخْرُجْ " مَجْزُومٌ عَلَى الْجَوَابِ، فَاحْتَاجَ أَنْ يُقَدِّرَ جَوَابًا لَازِمًا وَشَرْطًا مَلْزُومًا حَذْفًا، لِأَنَّهُمَا نَظِيرَا مَا أَثْبَتَ لَكِنْ وَقَعَ فِي تَقْدِيرِ مَا لَا يُفِيدُ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنَّهُ إنْ أَدْخَلَهَا تَدْخُلُ. وَالصَّوَابُ - وَبِهِ قَالَ ابْنُ الصَّائِغِ مِنْ النَّحْوِيِّينَ - أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِدْخَالَ سَبَبٌ فِي خُرُوجِهَا بَيْضَاءَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَيْضًا مِنْ إخْرَاجِهَا أَنْ تَخْرُجَ بَيْضَاءَ لُزُومًا ضَرُورِيًّا إلَّا بِضَرُورَةِ صِدْقِ الْوَعْدِ؟ [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ الْحُكْمَ هُوَ الْجَزَاءُ وَحْدَهُ وَالشَّرْطُ قَيْدٌ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ وَالْحَالِ] [الْمَسْأَلَةُ] الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْجَزَاءُ

وَحْدَهُ، وَالشَّرْطُ قَيْدٌ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ وَالْحَالِ، حَتَّى إنَّ الْجَزَاءَ إنْ كَانَ خَبَرًا فَالشَّرْطِيَّةُ خَبَرِيَّةٌ. وَإِنْ كَانَ إنْشَاءً فَإِنْشَائِيَّةٌ، وَعِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّ مَجْمُوعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ، دَلَّ عَلَى رَبْطِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَثُبُوتُهُ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى الِانْتِقَاءِ عِنْدَ الِانْتِفَاءِ، وَكُلٌّ مِنْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَفَرَّعُ مَذْهَبُنَا فِي مَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَعَلَى الثَّانِي يَتَفَرَّعُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِي إنْكَارِهِ، وَسَنُبَيِّنُهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الثالث التخصيص بالصفة

[الثَّالِثُ التَّخْصِيصُ بِالصِّفَةِ] وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَعْنَوِيَّةُ لَا النَّعْتُ بِخُصُوصِهِ، نَحْوُ أَكْرِمْ الْعُلَمَاءَ الزُّهَّادَ، فَإِنَّ التَّقْيِيدَ بِالزُّهَّادِ يُخْرِجُ غَيْرَهُمْ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ الْقَضَاءِ مِنْ النِّهَايَةِ ": الْوَصْفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَعْنَاهُ التَّخْصِيصُ، فَإِذَا قُلْت: رَجُلٌ، شَاعَ هَذَا فِي ذِكْرِ الرِّجَالِ، فَإِذَا قُلْتَ: طَوِيلٌ اقْتَضَى ذَاكَ تَخْصِيصًا، فَلَا تَزَالُ تَزِيدُ وَصْفًا، فَيَزْدَادُ الْمَوْصُوفُ اخْتِصَاصًا، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْوَصْفُ قَلَّ الْمَوْصُوفُ. اهـ. وَهِيَ كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي وُجُوبِ الِاتِّصَالِ وَعَوْدِهَا إلَى الْجُمَلِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَلَا خِلَافَ فِي اتِّصَالِ التَّوَابِعِ وَهِيَ النَّعْتُ، وَالتَّوْكِيدُ، وَالْعَطْفُ، وَالْبَدَلُ؛ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِلَافُ فِي الصِّفَةِ النَّحْوِيَّةِ، وَهِيَ التَّابِعُ لِمَا قَبْلَهُ فِي إعْرَابِهِ، أَمَّا الصِّفَةُ الشَّرْطِيَّةُ فَلَا خِلَافَ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: فَأَمَّا الصِّفَاتُ وَعَطْفُ الْبَيَانِ وَالتَّوْكِيدُ وَالْبَدَلُ وَنَحْوُهَا مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ إذَا تَعَقَّبَتْ الصِّفَةُ شَيْئَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ إحْدَاهُمَا

مسألة توسط الوصف بين الجمل

بِالْأُخْرَى، نَحْوُ أَكْرِمْ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ الْمُؤْمِنِينَ عَادَتْ إلَيْهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ نَحْوُ أَكْرِمْ الْعُلَمَاءَ، وَجَالِسْ الْفُقَهَاءَ الزُّهَّادَ، فَهَاهُنَا الصِّفَةُ عَائِدَةٌ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ. وَلِلْبَحْثِ فِيهِ مَجَالٌ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إنْ كَانَتْ الصِّفَاتُ كَثِيرَةً، وَذُكِرَتْ عَلَى الْجَمْعِ عَقِبَ جُمْلَةٍ تَقَيَّدَتْ بِهَا أَوْ عَلَى الْبَدَلِ فَلِوَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا، وَإِنْ ذُكِرَتْ عَقِبَ جُمَلٍ فَفِي الْعَوْدِ إلَى كُلِّهَا أَوْ إلَى الْأَخِيرَةِ الْخِلَافُ. [مَسْأَلَةٌ تَوَسُّطُ الْوَصْفِ بَيْنَ الْجُمَلِ] فَأَمَّا إذَا تَوَسَّطَ الْوَصْفُ بَيْنَ الْجُمَلِ. فَفِي عَوْدِهِ إلَى الْأَخِيرَةِ خِلَافٌ حَكَاهُ ابْنُ دَاوُد، مِنْ أَصْحَابِنَا فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ ". قَالَ: وَبُنِيَ عَلَيْهِمَا الْقَوْلَانِ فِي إيجَابِ الْمُتْعَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ اسْتِنْبَاطًا مِنْ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] . قَالَ: وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ رَفْعُ الْجُنَاحِ عَنْ الْمُطَلِّقِينَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ، ثُمَّ إنَّهُ عُطِفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] فَإِنْ أَعَدْنَا الصِّفَةَ إلَيْهِ أَيْضًا لَمْ تَجِبْ الْمُتْعَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَتِّعُوا الْمَذْكُورَاتِ، فَإِنْ لَمْ نَعُدَّهُ وَجَبَتْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَتِّعُوا النِّسَاءَ. وَقَضِيَّتُهُ عَدَمُ تَرْجِيحِ عَوْدِهِ إلَيْهِمَا.

مسألة فائدة الصفة

[مَسْأَلَةٌ فَائِدَةُ الصِّفَةِ] الْوَصْفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَعْرِفَةٍ أَوْ نَكِرَةٍ، فَإِنْ كَانَ لِنَكِرَةٍ فَفَائِدَتُهُ التَّخْصِيصُ، نَحْوُ مَرَرْت بِرَجُلٍ فَاضِلٍ. وَمِنْهُ {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] وَإِنْ كَانَ لِمَعْرِفَةٍ فَفَائِدَتُهُ التَّوْضِيحُ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، نَحْوُ زَيْدٌ الْعَالِمُ، وَمِنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَيُسَمِّيهِ الْبَيَانِيُّونَ الْمُفَارَقَةَ. وَخَالَفَهُمْ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ تِلْمِيذُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي كِتَابِ الْبُرْهَانِ "، فَقَالَ: إذَا دَخَلَتْ الصِّفَةُ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَانَتْ لِلتَّخْصِيصِ لَا لِلتَّوْضِيحِ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْكُلِّيَّةَ لَوْ أُرِيدَتْ بِاسْمِ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ كَانَ الْوَصْفُ لَهَا نَسْخًا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِهَا الْخَاصُّ ثُمَّ الصِّفَةُ تَأْتِي مُبَيِّنَةً لِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ، فَشَرِبَ الْحَارَّ لَمْ يَحْنَثْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا الرَّاكِبَ فَكَلَّمَهُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، إذْ لَمْ تُفِدْ الصِّفَةُ فِيهِ تَقْيِيدًا، وَهُوَ حَسَنٌ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يُخَالِفُ كَلَامَهُمْ، لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ عِنْدَهُمْ فِي الْمَعْنَى. وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الصِّفَةَ إذَا وَقَعَتْ لِلنَّكِرَةِ فَهِيَ لِلتَّوْضِيحِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهَا لِلتَّخْصِيصِ، وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَارِيَّةُ عِنْدَنَا عَلَى الضَّمَانِ وَعِنْدَهُ عَلَى الْأَمَانَةِ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ» ، هَلْ مَضْمُونَةٌ لِلتَّخْصِيصِ أَوْ لِلتَّوْضِيحِ؟ فَعِنْدَنَا لِلتَّوْضِيحِ

وَعِنْدَهُ لِلتَّخْصِيصِ. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَمْلِكُ، وَمُدْرِكُهُ قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] هَلْ هَذَا الْوَصْفُ لِلتَّوْضِيحِ أَوْ لِلتَّخْصِيصِ؟ فَعِنْدَنَا لِلتَّوْضِيحِ إذْ الْعَبْدُ لَا يَخْرُجُ حَالُهُ عَنْ هَذَا، وَعِنْدَهُ لِلتَّخْصِيصِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ. تَنْبِيهٌ: اتَّفَقُوا عَلَى الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالصِّفَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ، نَحْوُ «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» . فَلِمَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَاتَّفَقُوا هُنَا؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الصِّفَةَ تَأْتِي لِرَفْعِ احْتِمَالٍ فِي أَحَدِ مُحْتَمَلَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، لِأَنَّ الرَّقَبَةَ تَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَةَ وَالْكَافِرَةَ، فَإِذَا قُيِّدَتْ زَالَ الِاحْتِمَالُ.

الرابع التخصيص بالغاية

[الرَّابِعُ التَّخْصِيصُ بِالْغَايَةِ] وَهِيَ نِهَايَةُ الشَّيْءِ وَمُنْقَطَعُهُ وَهِيَ حَدٌّ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا وَانْتِفَائِهِ بَعْدَهَا. وَلَهَا لَفْظَانِ " حَتَّى، وَإِلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} [البقرة: 187] وَقَوْلِهِ: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وَنَحْوُ أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ، حَتَّى يَدْخُلُوا أَوْ إلَى أَنْ يَدْخُلُوا، فَيَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَالْمَقْصُودُ بِالْغَايَةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى يَرْتَفِعُ بِهَذِهِ الْغَايَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ فِيمَا وَرَاءَ الْغَايَةِ لَمْ تَكُنْ الْغَايَةُ مُنْقَطِعًا، فَلَمْ تَكُنْ الْغَايَةُ غَايَةً؛ لَكِنْ هَلْ يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ ضِدِّ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَمْ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَقَطْ؟ هُوَ مَوْضُوعُ الْخِلَافِ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا مَا جُعِلَ غَايَةً فِي نَفْسِهِ فَهَلْ يَنْدَرِجُ فِي حُكْمِ الْمَعْنَى أَمْ لَا؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْآتِي فِي الْمَفْهُومِ. فَإِذَا قُلْت: اشْتَرَيْت مِنْ كَذَا إلَى كَذَا، أَوْ مِنْ كَذَا حَتَّى كَذَا، فَلَا خِلَافَ فِيمَا قَبْلَ الْغَايَةِ أَنَّهُ. دَاخِلٌ وَأَنَّ مَا بَيْنَ مُبْتَدَأِ الْغَايَةِ وَمُنْتَهَاهَا دَاخِلٌ إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ، مِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ " حَتَّى " فَتَدْخُلَ وَ " إلَى " فَلَا تَدْخُلْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَيَتَعَلَّقُ بِالْغَايَةِ إثْبَاتٌ وَنَفْيٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ

وَالشَّرْطِ، إذْ الشَّرْطُ مُوجِبٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بَعْدَهُ، وَلَا يَبْقَى بِهِ قَبْلَهُ، وَالْغَايَةُ مُوجِبَةٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا لَا بَعْدَهَا. فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْغَايَةِ شَرْطُ الْإِثْبَاتِ بِهِمَا وَالنَّفْيُ بِأَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَهَذَا غَايَةٌ. ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] وَهَذَا شَرْطٌ، فَلَا يُسْتَبَاحُ وَطْؤُهَا إلَّا بِالْغُسْلِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَتَنْتَفِي الِاسْتِبَاحَةُ بِعَدَمِهِمَا، أَوْ عَدَمِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ. وَكَذَا جَعَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْآيَةَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِغَايَةٍ وَشَرْطٍ، وَالْغُسْلُ شَرْطٌ، فَكَانَا مُعْتَبَرَيْنِ فِي إبَاحَةِ الْإِصَابَةِ. وَقَالَ الْأُصُولِيُّونَ: يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لِلْحُكْمِ غَايَتَانِ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": الْغَايَةُ هِيَ الْأَخِيرَةُ، لِأَنَّهَا الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ، وَسُمِّيَتْ الْأُولَى غَايَةً مَجَازًا لِقُرْبِهَا مِنْ الْغَايَةِ وَاتِّصَالِهَا بِهَا، وَنُوزِعَ بِأَنَّ هَاتَيْنِ غَايَتَانِ لِشَيْئَيْنِ فَمَا اجْتَمَعَ غَايَتَانِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ النَّاشِئَ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ غَايَتُهُ انْقِطَاعُ الدَّمِ، فَإِذَا انْقَطَعَ حَدَثَ تَحْرِيمٌ آخَرُ نَاشِئٌ عَنْ عَدَمِ الْغَسْلِ، فَالْغَايَةُ الثَّانِيَةُ غَايَةُ هَذَا التَّحْرِيمِ الثَّانِي. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ هُنَا غَايَتَانِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَهَا حَرْفَانِ " حَتَّى، وَإِلَى " وَلَيْسَ هُنَا غَيْرُ " حَتَّى "، فَلَوْ كَانَ الْحَرْفَانِ هُنَا لَأَمْكَنَ مَا قَالُوا، وَإِنَّمَا هُوَ نَظِيرُ قَوْلِك لَا تُكْرِمْ زَيْدًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ، فَإِذَا دَخَلَ فَأَكْرِمْهُ وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ فِي (يَطَّهَّرْنَ) فَالْغَايَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ تَأْكِيدٌ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ، أَيْ يَنْقَطِعُ حَيْضُهُنَّ، فَبَعْدَهُ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ اغْتَسَلْنَ، وَهُوَ شَرْطٌ، فَيَتَعَارَضُ مَفْهُومُ الْغَايَةِ وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ، فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ؟ الظَّاهِرُ تَقْدِيمُ مَفْهُومِ الشَّرْطِ،

وَحَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى تَكْثِيرِ الْفَوَائِدِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّأْكِيدِ. وَحَكَى التَّبْرِيزِيُّ فِي اخْتِصَارِ الْمَحْصُولِ ": فِيمَا إذَا كَانَتْ الْغَايَةُ لَهَا جُزْءَانِ أَوْ أَجْزَاءٌ خِلَافًا فِي أَنَّ الْغَايَةَ هِيَ الْأُولَى أَمْ الْأَخِيرَةُ؟ قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلَمْ أَرَهُ إلَّا فِيهِ، وَغَيْرُهُ يَحْكِي الِانْدِرَاجَ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْأَجْزَاءِ. قُلْت: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْخِلَافِ الْفِقْهِيِّ فِي أَنَّ الْحَدَثَ هَلْ يَرْتَفِعُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ بِمُجَرَّدِ غَسْلِهِ أَمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَامِ الْأَعْضَاءِ؟ الْأَصَحُّ الْأَوَّلُ. فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» فَالْحَدَثُ مُغَيًّا بِالْوُضُوءِ، وَالْوُضُوءُ ذُو أَجْزَاءٍ فَهَلْ يَرْتَفِعُ عَنْ الْعُضْوِ بِمُجَرَّدِهِ، أَمْ لَا يَرْتَفِعُ شَيْءٌ مِنْهُ حَتَّى تُوجَدَ الْغَايَةُ بِتَمَامِهَا؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «إذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ» هَلْ الْمُرَادُ تَطَهَّرَ طُهْرًا كَامِلًا، أَوْ طُهْرًا مَا حَتَّى غَسَلَ رِجْلًا. وَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ أُخْرَى وَأَدْخَلَهَا جَازَ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ، هَذَا مَأْخَذُهُ. وَحَكَى غَيْرُهُ مَذْهَبًا ثَالِثًا بِالتَّفْصِيلِ، فَقَالَ: إنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْ ذِي الْغَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَالْغَايَةُ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُنْفَصِلَةً كَقَوْلِهِ: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَالْغَايَةُ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ أَطْلَقُوا كَوْنَ الْغَايَةِ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَهَذَا الْكَلَامُ مُقَيَّدٌ بِغَايَةٍ تَقَدَّمَهَا لَفْظٌ يَشْمَلُهَا، لَوْ لَمْ يُؤْتَ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فَإِنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ لَوْ لَمْ يُؤْتَ بِهَا لَقَاتَلْنَا الْمُشْرِكِينَ، أَعْطَوْا الْجِزْيَةَ أَوْ لَمْ يُعْطُوهَا. وَوَرَاءَهُ صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا: غَايَةٌ لَمْ يَشْمَلْهَا الْعُمُومُ وَلَا صَدَقَ عَلَيْهَا اسْمُهُ، فَلَا يُؤْتَى بِهَا

إلَّا لِعَكْسِ مَا يُؤْتَى بِالْغَايَةِ فِي الْقِسْمِ قَبْلَهُ، فَإِنَّ تِلْكَ يُؤْتَى بِهَا لِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ أَوْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ؛ وَهَذِهِ يُؤْتَى بِهَا لِتَحْقِيقِ الْعُمُومِ وَتَأَكُّدِهِ وَإِعْلَامِ أَنَّهُ لَا خُصُوصَ فِيهِ، وَأَنَّ الْغَايَةَ فِيهِ ذَاكِرَةٌ بِحَالِ قَصْدٍ مِنْهُ أَنْ يَتَعَقَّبَ الْحَالَ الْأُولَى بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُهَا شَيْءٌ. وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ، عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» . فَحَالَةُ الْبُلُوغِ وَالِاسْتِيقَاظِ وَالْإِفَاقَةِ تُضَادُّ حَالَاتِ الصِّبَا وَالنَّوْمِ وَالْجُنُونِ، وَقُصِدَ بِالْغَايَةِ هُنَا اسْتِيعَابُ رَفْعِ الْقَلَمِ لِتِلْكَ الْأَزْمِنَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَدَعْ وَلَا آخِرَ الْأَزْمِنَةِ الْمُلَاصِقَةِ لِلْبُلُوغِ وَالِاسْتِيقَاظِ وَالْإِفَاقَةِ، وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِلْعُمُومِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] قُصِدَ بِهِ تَحْقِيقُ أَنَّ الْحَالَةَ الْمُلَاصِقَةَ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِمَّا شَمِلَهُ " سَلَامٌ " بِمَا قَبْلَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] فَإِنَّ حَالَةَ الطُّهْرِ لَا يَشْمَلُهَا اسْمُ الْحَيْضِ. وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: غَايَةٌ شَمِلَهَا الْعُمُومُ، أَتَتْ أَوْ لَمْ تَأْتِ، فَهَذِهِ أَيْضًا لَا يُؤْتَى بِهَا إلَّا لِتَحْقِيقِ الْعُمُومِ، كَقَوْلِك: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ. الْمُرَادُ تَحْقِيقُ قِرَاءَتِك لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ، بِحَيْثُ لَمْ تَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ قَطَعْت أَصَابِعَهُ مِنْ الْخِنْصَرِ إلَى الْبِنْصِرِ، الْمُرَادُ تَحْقِيقُ الْعُمُومِ وَاسْتِغْرَاقُهُ لَا تَخْصِيصُهُ. انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا يَشْمَلُهُ الْعُمُومُ لَوْ لَمْ يَأْتِ هُوَ مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ، وَوَرَاءَهُ صُورَتَانِ: مَا لَمْ يَشْمَلْهُ أَلْبَتَّةَ، وَمَا يَشْمَلُهُ وَإِنْ أَتَتْ. وَهَاتَانِ لَا تَكُونُ الْغَايَةُ فِيهِمَا لِلتَّخْصِيصِ هَذَا كُلُّهُ فِي حُكْمِ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ نَفْسِهَا، هَلْ يَدْخُلُ فِي الْمُغَيَّا، كَقَوْلِك: أَكَلْت حَتَّى قُمْتُ؟ هَلْ يَكُونُ الْقِيَامُ مَحَلًّا لِلْأَكْلِ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: لَا يَدْخُلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي بَرْهَانٍ ". وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْوُضُوءِ. وَالرَّابِعُ: إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ دَخَلَ وَإِلَّا فَلَا، نَحْوُ بِعْتُك التُّفَّاحَ إلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَيُنْظَرُ فِي تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَهِيَ مِنْ التُّفَّاحِ فَتَدْخُلُ أَمْ لَا، فَلَا تَدْخُلُ؟ قَالَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " فِي بَابِ الْوُضُوءِ، وَحَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ الْمُبَرِّدِ. وَالْخَامِسُ: قَالَ فِي الْمَحْصُولِ: وَهُوَ الْأَوْلَى إنْ تَمَيَّزَ عَمَّا قَبْلَهُ بِالْحِسِّ، نَحْوُ {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَإِنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَهَا خِلَافُ مَا قَبْلَهَا، وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزْ حِسًّا اسْتَمَرَّ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى مَا بَعْدَهُ، مِثْلُ: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَإِنَّ الْمِرْفَقَ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ عَنْ الْيَدِ بِمِفْصَلٍ مَحْسُوسٍ قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَقَوْلُ الْإِمَامِ: يَكُونُ مَا بَعْدَهَا مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا مَدْخُولٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَعْدَ الْغَايَةِ. وَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِلَافِ فِيهِ، وَالْخِلَافُ لَيْسَ إلَّا فِي الْغَايَةِ نَفْسِهَا. وَالسَّادِسُ: إنْ اقْتَرَنَ " بِمِنْ " لَمْ يَدْخُلْ، نَحْوُ بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَحْدِيدًا وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى " مَعَ ".

قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ ": إنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ خَرُوفٍ وَقَالَ: لَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ مِنْهُ حَرْفًا، وَلَا هُوَ مَذْهَبُهُ؛ وَاَلَّذِي قَالَهُ فِي كِتَابِهِ: إنَّ " إلَى " مُنْتَهَى الِابْتِدَاءِ. تَقُولُ: مِنْ مَكَانِ كَذَا إلَى كَذَا، وَكَذَلِكَ " حَتَّى " قَالَ: وَلَهَا فِي الْفِعْلِ حَالُ لَيْسَ " لِإِلَى ". تَقُولُ: قُمْت إلَيْهِ، فَتَجْعَلُهُ مُنْتَهَاك مِنْ مَكَانِك، وَلَا تَكُونُ " حَتَّى " هُنَا. فَهَذَا أَثَرُ " إلَى "، وَأَصْلُهَا، وَإِنْ اتَّسَعَتْ فَهِيَ أَعَمُّ فِي الْكَلَامِ مِنْ " حَتَّى ": تَقُولُ: قُمْتُ إلَيْهِ، فَتَجْعَلُهُ مُنْتَهَاك مِنْ مَكَانِك. وَلَا تَقُولُ " حَتَّاهُ ". هَذَا لَفْظُ سِيبَوَيْهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي كِتَابِهِ غَيْرَ ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَايَةِ الِانْتِهَاءِ، أَمَّا غَايَةُ الِابْتِدَاءِ فَفِيهَا قَوْلَانِ فَقَطْ. قَالَهُ الْقَرَافِيُّ. وَطَرَدَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فِيهَا، فَقَالَ: وَفِيهَا مَذَاهِبُ: يَدْخُلَانِ. لَا يَدْخُلَانِ، ثَالِثُهَا: تَدْخُلُ غَايَةُ الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ. رَابِعُهَا: إنْ قَرُبَ حِسًّا خَرَجَتْ، وَإِلَّا دَخَلَتْ. خَامِسُهَا: إنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ خَرَجَتْ. ثُمَّ قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا الْخِلَافُ مَخْصُوصٌ " بِإِلَى " وَلَا يَجْرِي فِي " حَتَّى " لِقَوْلِ النُّحَاةِ: إنَّ الْمَعْطُوفَ بِحَتَّى شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا، وَدَاخِلًا فِي حُكْمِهِ، وَآخِرُ جُزْءٍ مِنْهُ أَوْ مُتَّصِلًا بِهِ، أَوْ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ أَوْ التَّحْقِيرِ، فَقَطَعُوا بِانْدِرَاجِ مَا بَعْدَهَا فِي الْحُكْمِ، وَخَالَفَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ. قَالَ: بَلْ يَجْرِي فِيهَا وَهِيَ إذَا جَاءَتْ عَاطِفَةً لَيْسَتْ بِمَعْنَى " إلَى " فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ. وَهَاهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ مَحَلُّهُ فِي غَايَةٍ يَتَقَدَّمُهَا لَفْظٌ يَشْمَلُهَا عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.

الثَّانِي: أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُغَيَّا أَنْ يَثْبُتَ قَبْلَ الْغَايَةِ، وَيَتَكَرَّرَ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهَا، كَقَوْلِك: سِرْت مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ؛ فَإِنَّ السَّيْرَ الَّذِي هُوَ الْمُغَيَّا ثَابِتٌ قَبْلَ الْكُوفَةِ، وَيَتَكَرَّرُ فِي طَرِيقِهَا. وَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] غَايَةً لِغَسْلِ الْيَدِ، لِأَنَّ غَسْلَ الْيَدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْوُصُولِ إلَى الْإِبِطِ. فَلَيْسَ ثَابِتًا قَبْلَ الْمِرْفَقِ الَّذِي هُوَ غَايَةٌ، فَلَا يَنْتَظِمُ غَايَةً لَهُ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِمُ أَنْ لَوْ قِيلَ: اغْسِلُوا إلَى الْمَرَافِقِ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الْغُسْلِ ثَابِتٌ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَمُتَكَرِّرٌ. قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُغَيَّا غَيْرَ الْغُسْلِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: اُتْرُكُوا مِنْ آبَاطِكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ فَيَكُونُ مُطْلَقُ التَّرْكِ ثَابِتًا قَبْلَ الْمِرْفَقِ، وَيَتَكَرَّرُ إلَيْهِ، وَيَكُونُ الْغُسْلُ نَفْسُهُ لَمْ يُغَيَّ، فِي هَذَا يَتَعَارَضُ الْمَجَازُ وَالْإِضْمَارُ، فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَتَجَوَّزَ بِلَفْظِ الْيَدِ إلَى جُزْئِهَا حَتَّى يَثْبُتَ قَبْلَ الْغَايَةِ، وَلَا يُضْمَرُ. وَإِمَّا أَنْ يُضْمَرَ كَمَا يَقُولُ: هَذَا الْحَنَفِيُّ، وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] يَقْتَضِي ثُبُوتَ الصِّيَامِ بِوَصْفِ التَّمَامِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيَتَكَرَّرُ إلَى غُرُوبِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَيُشْكَلُ كَوْنُ اللَّيْلِ غَايَةً لِلصَّوْمِ التَّامِّ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِمُ، لَوْ قِيلَ صُومُوا إلَى اللَّيْلِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَتِمُّوا كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّوْمِ بِسُنَنِهِ وَفَضَائِلِهِ. وَكَرِّرُوا ذَلِكَ إلَى اللَّيْلِ، وَالْكَمَالُ فِي الصَّوْمِ قَدْ يَحْصُلُ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّوْمِ دُونَ جُزْءٍ، مِنْ جِهَةِ اجْتِنَابِ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَأْبَاهُ الصَّوْمُ، وَكَذَلِكَ آدَابُهُ الْخَاصَّةُ: كَتَرْكِ السِّوَاكِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي أُمُورِ النِّسَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَأُمِرْنَا بِتَكْرِيرِ هَذَا إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَصْحَابَنَا فِي الْفُرُوعِ صَحَّحُوا عَدَمَ دُخُولِهَا فِيهَا إذَا

التخصيص بالبدل

قَالَ: بِعْتُك مِنْ هَذَا الْجِدَارِ إلَى هَذَا الْجِدَارِ، لَمْ يَدْخُلْ الْجِدَارَانِ فِي الْبَيْعِ وَصَحَّحُوا دُخُولَ غَايَةِ الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ فِيمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ، أَوْ ضَمِنْت مَالَك عَلَيْهِ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ. فَالصَّحِيحُ لُزُومُ تِسْعَةٍ، وَلَوْ شُرِطَ فِي الْبَيْعِ الْخِيَارُ إلَى اللَّيْلِ انْقَطَعَ الْخِيَارُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ أَثْبَتَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِثَمَنٍ إلَى شَهْرٍ لَمْ يَدْخُلْ الشَّهْرُ الثَّانِي فِي الْأَجَلِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَيْنٍ بِعَشَرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ إلَى يَوْمِ الْخَمِيسِ، لَمْ يَدْخُلْ يَوْمُ الْخَمِيسِ فِي الْأَجَلِ. قَالَهُ فِي الْبَحْرِ " وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَن حَقَّهُ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ، لَمْ يَدْخُلْ رَأْسُ الشَّهْرِ فِي الْيَمِينِ؛ بَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْت " بِإِلَى " مَعْنَى " عِنْدَ " فَفِي قَبُولِهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ " وَرَجَّحَ الْقَبُولَ. [التَّخْصِيصُ بِالْبَدَلِ] أَعْنِي بَدَلَ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ، نَحْوُ أَكَلْت الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71] ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَأَنْكَرَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ. قَالَ: لِأَنَّ الْمُبْدَلَ كَالْمَطْرُوحِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ مَعْنَى الْإِخْرَاجِ، وَالتَّخْصِيصُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْإِخْرَاجِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، أَنَّ تَقْدِيرَهُ وَلِلَّهِ حِجُّ الْبَيْتِ عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَ، وَكَذَا أَنْكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ ". وَهَذَا أَحَدُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ.

التخصيص بالحال

قَالَ السِّيرَافِيُّ: زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهُ فِي حُكْمِ تَنْحِيَةِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمُبْدَلُ مِنْهُ، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إلْغَاءَهُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّ الْبَدَلَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ تَبْيِينًا لِلْأَوَّلِ كَتَبْيِينِ النَّعْتِ الَّذِي هُوَ تَمَامُ الْمَنْعُوتِ، وَهُوَ مَعَهُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَحْسُنُ عَدْلُ الْبَدَلِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي قَوْلِنَا: أَكَلْت الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ، يُشْبِهُ الْعَامَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ، لَا الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: إذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ فَلَا يَجِيءُ فِيهِ خِلَافُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي اشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْأَكْثَرِ؛ بَلْ سَوَاءٌ قَلَّ ذَلِكَ الْبَعْضُ أَوْ سَاوَاهُ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ، كَأَكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ أَوْ نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَيْهِ. الثَّانِي: يُلْتَحَقُ بِبَدَلِ الْبَعْضِ ذَلِكَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ فِي كِلَيْهِمَا بَيَانًا وَتَخْصِيصًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ. [التَّخْصِيصُ بِالْحَالِ] هُوَ فِي الْمَعْنَى كَالصِّفَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا عَادَ إلَى الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ، وَنَحْوُ أَكْرِمْ رَبِيعَةَ، وَأَعْطِ مُضَرَ، نَازِلِينَ بِك. لَكِنْ صَرَّحَ فِي الْمَحْصُولِ " بِأَنَّا نَخُصُّهُ بِالْأَخِيرَةِ عَلَى قَاعِدَةِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. [التَّخْصِيصُ بِالظَّرْفَيْنِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ] ِ نَحْوُ أَكْرِمْ زَيْدًا الْيَوْمَ، أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا، وَلَوْ تَعَقَّبَ جُمَلًا، فَظَاهِرُ

كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ الِاتِّفَاقُ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ. وَصَرَّحَ فِي الْمَحْصُولِ " فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بِأَنَّا نَخُصُّهُ بِالْأَخِيرَةِ، أَمَّا لَوْ تَوَسَّطَ فَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مَسْأَلَةِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» أَنَّ قَوْلَنَا: ضَرَبْت زَيْدًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعَمْرًا، مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُقَيِّدُونَ بِهِ الثَّانِي أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: فَأَمَّا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مِثْلُ أَنْ تَذْكُرَ جُمَلًا، ثُمَّ تَقُولَ: عَلَى أَنَّهُ أَوْ بِشَرْطِ أَنَّهُ، يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِتَعَلُّقِهِ بِالْكَلَامِ لَا بِالِاسْمِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ. التَّمْيِيزُ نَحْوُ لَهُ عِنْدِي مِلْءُ هَذَا ذَهَبًا. وَإِنْ تَعَقَّبَ جُمَلًا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ عَوْدُهُ إلَى الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي الْحَالِ، وَيَشْهَدُ لِلْخِلَافِ عِنْدَنَا مَا لَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي قَوْلٍ دِرْهَمٌ وَشَيْءٌ وَالْأَوَّلُ: ظَاهِرٌ فِي الْعَوْدِ إلَى الْجَمِيعِ وَالثَّانِي: ظَاهِرٌ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْأَخِيرَةِ. وَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، هَلْ قَوْلُهُ: دِرْهَمًا، تَفْسِيرٌ لِمَا يَلِيهِ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ، أَوْ هُوَ تَفْسِيرٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَحَكَاهُمَا الشَّاشِيُّ فِي " الْحِلْيَةِ " وَنُسِبَ الْأَوَّلُ لِلْإِصْطَخْرِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ. وَالثَّانِي: لِلْجُمْهُورِ. وَبَنَى عَلَيْهِمَا مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا. فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ، وَعَلَى الثَّانِي يَصِحُّ.

مسألة المميز إذا ورد على شيئين وأمكن أن يكون مميزا لكل واحد منهما وأن يكون مميزا للمجموع

[مَسْأَلَةٌ الْمُمَيِّزِ إذَا وَرَدَ عَلَى شَيْئَيْنِ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِلْمَجْمُوعِ] مَسْأَلَةٌ الْمُمَيِّزِ إذَا وَرَدَ عَلَى شَيْئَيْنِ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِلْمَجْمُوعِ، فِيهِ خِلَافٌ، يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ: لَوْ قَالَ: إنْ حِضْتُمَا حَيْضَةً، فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي لِلْمَجْمُوعِ، وَهُوَ مُحَالٌ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا بِمُسْتَحِيلٍ، وَمِثْلُهُ: إنْ دَخَلْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ. الْمَفْعُولُ مَعَهُ وَلَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُقَيِّدٌ لِلْفِعْلِ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَفْعُولَ لَهُ هُوَ الْغَرَضُ الْحَامِلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَهُوَ لَازِمٌ لِلْفِعْلِ فِي الْمَعْنَى، بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ مَعَهُ قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: وَفِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ الْفَاعِلُ مُصَاحِبٌ لَهُ، لَا أَنَّهُ مُشْتَرِكٌ مَعَ صَاحِبِ الْفِعْلِ فِي الْفِعْلِ. [مَسْأَلَةٌ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ إذَا أَمْكَنَ إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ بِلَفْظِهَا وَحُكْمِهَا] مَسْأَلَةٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ: اخْتَلَفُوا فِي الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ إذَا أَمْكَنَ إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ بِلَفْظِهَا وَحُكْمِهَا، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِ إحْدَاهُمَا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ أَوْ وَصْفٍ مُتَّصِلٍ بِهِمَا، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَا اتَّصَلَ بِهِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى حُكْمِهِ إلَّا بِمِثْلِ دَلِيلِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّهُ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْحُكْمِ وَاللَّفْظِ كَانَتَا كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَامِلٌ فِيهَا مَعًا، وَإِنْ اخْتَصَّتْ الدَّلَالَةُ بِإِحْدَاهُمَا.

مسألة الحكم في الضمير إذا اتصل بأحد الأجناس مع العطف

[مَسْأَلَةٌ الْحُكْمُ فِي الضَّمِيرِ إذَا اتَّصَلَ بِأَحَدِ الْأَجْنَاسِ مَعَ الْعَطْفِ] مَسْأَلَةٌ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الضَّمِيرِ، وَإِذَا اتَّصَلَ بِأَحَدِ الْأَجْنَاسِ مَعَ الْعَطْفِ فَإِنَّهُ يَعُودُ إلَى الْجَمِيعِ، كَقَوْلِهِمْ: أَعْطَيْتُ بَنِي زَيْدٍ، وَأَكْرَمْتُ بَنِي عَمْرٍو، وَأَكْرَمُونِي وَأَعْطَوْنِي. وَكَقَوْلِهِمْ: جَاءَنِي بَنُو فُلَانٍ، وَهُمْ أَكَلُوا، فَالْهَاءُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ وَالْأَلِفُ فِي الْجَمِيعِ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، لَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلِيلٍ. فَإِنْ جُمِعَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، فَإِنْ وُصِلَ الْكَلَامُ بِسِمَةِ الْجَمْعِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْإِنَاثِ كَانَتْ لِلْجِنْسِ الْمُخْتَصِّ بِهَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، كَقَوْلِك: جَاءَنِي مُسْلِمُونَ وَمُؤْمِنَاتٌ، فَأَكَلْنَ. وَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْجَمِيعِ بِدَلِيلٍ نَحْوُ فَأَكَلْنَ، وَأَكَلُوا عَلَى الِاخْتِصَارِ. وَإِنْ وُصِلَ بِالسِّمَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِجَمْعِ الذُّكُورِ. فَالظَّاهِرُ رُجُوعُهَا إلَى الذُّكُورِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْجَمِيعِ إلَّا بِدَلِيلٍ. قَالَ: وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَقْدِيمِهِمْ مَا تَعُودُ الْكِنَايَةُ إلَيْهِ عَلَى غَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ تَقْدِيمِ جِنْسِهِ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الظَّاهِرَ رَدُّ الضَّمِيرِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا ذُكِرَ حُكْمٌ وَعُقِّبَ بِشَرْطٍ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ إشَارَةٌ هَلْ تَعُودُ لِلشَّرْطِ أَوْ لِلْأَصْلِ] مَسْأَلَةٌ إذَا ذُكِرَ حُكْمٌ، وَعُقِّبَ بِشَرْطٍ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ إشَارَةٌ، هَلْ تَعُودُ لِلشَّرْطِ أَوْ لِلْأَصْلِ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَصْلُهُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْمَكِّيِّ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُكْرَهُ، وَيَلْزَمُهُ الدَّمُ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} [البقرة: 196] إلَى أَنْ قَالَ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] فَعِنْدَنَا ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الدَّمِ وَعِنْدَهُ إلَى أَصْلِ التَّمَتُّعِ.

التخصيص بالأدلة المتصلة وهي ثلاثة

[التَّخْصِيصُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَّصِلَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ] التَّخْصِيصُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهِ إلَى ذِكْرِ لَفْظِ الْعَامِّ مَعَهُ. وَقَدْ ذَكَرُوهَا ثَلَاثَةً: الْحِسُّ، وَالْعَقْلُ، وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالْحَصْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَقَدْ بَقِيَ التَّخْصِيصُ بِالْعَوَائِدِ، كَقَوْلِك: رَأَيْت النَّاسَ أَفْضَلَ مِنْ زَيْدٍ، الْعَادَةُ تَقْتَضِي بِأَنَّك لَمْ تَرَ كُلَّ النَّاسِ. وَكَذَا التَّخْصِيصُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ كَقَوْلِك لِغُلَامِك: ائْتِنِي بِمَنْ يُحَدِّثُنِي، فَإِنَّ ذَلِكَ لَنْ يَصْلُحَ لِحَدِيثِهِ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَالتَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ دُخُولَهُ فِي السَّمْعِيِّ قُلْت: وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ. فِي بَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْقَرَائِنَ قَدْ تَقْوَى فَيَتْرُكُ لَهَا إطْلَاقَ اللَّفْظِ. قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ فِي الصَّيْفِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ لَا يَشْتَرِيهِ فِي الشِّتَاءِ. قَالَ: وَقَدْ يَتَعَادَلُ اللَّفْظُ وَالْقَرِينَةُ وَيَنْشَأُ مِنْ تَعَادُلِهِمَا خِلَافٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ نُقِلَ بَعْدَ أَوْرَاقٍ عَنْ الْإِمَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ هَلْ يُوَكِّلُ؟ أَنَّ الْخِلَافَ نَاظِرٌ إلَى اللَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ، وَفِي الْقَرِينَةِ تَرَدُّدٌ فِي التَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ وَفِي هَذَا فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْقَرَائِنَ " قَدْ " يَثْبُتُ فِيهَا الْعُمُومُ. [التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ] الْأَوَّلُ (التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ) الْعَقْلِ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ضَرُورِيًّا كَانَ أَوْ نَظَرِيًّا، فَالْأَوَّلُ:

كَتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: كَتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} [آل عمران: 97] الْآيَةَ فَإِنَّا نُخَصِّصُ الطِّفْلَ وَالْمَجْنُونَ لِعَدَمِ فَهْمِهِمَا الْخِطَابَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصِّيغَةَ الْعَامَّةَ إذَا وَرَدَتْ وَاقْتَضَى الْعَقْلُ امْتِنَاعَ تَعْمِيمِهَا، فَيُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُصُوصُ مَا لَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ صِلَةٌ لِلصِّيغَةِ نَازِلَةٌ لَهُ مَنْزِلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْكَلَامِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ، أَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ مُطْلَقَ الصِّيغَةِ لَمْ يُرَدْ تَعْمِيمُهَا. وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُهُمْ التَّخْصِيصَ بِالْعَقْلِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ: مَا نَزَلَ مِنْ كِتَابٍ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ وَيَدْخُلُهُ الْخُصُوصُ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] وَذَكَرَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] فَهَذَا عَامٌّ لَا خُصُوصَ فِيهِ، فَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ وَذِي رُوحٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَاَللَّهُ خَالِقُهُ، وَكُلُّ دَابَّةٍ فَعَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا. انْتَهَى.

وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مِنْ الْعُمُومِ لِمَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِيهِ، لَوْلَا دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، فَأَمَّا الَّذِي يَسْتَحِيلُ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ الْخِطَابِ فَلَيْسَ خُرُوجُهُ عَنْهُ تَخْصِيصًا وَقَالَ فِي كِتَابِ التَّحْصِيلِ ": إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] : إنَّهُ عَامٌّ لَا خُصُوصَ فِيهِ. وَاعْتَرَضَ ابْنُ دَاوُد عَلَيْهِ بِتَخْصِيصِ كَلَامِهِ وَصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَأَجَابَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالصَّيْرَفِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ مَعْنَاهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ عُمُومِ اللَّفْظِ بِالدَّلِيلِ مَا كَانَ يَجُوزُ دُخُولٌ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ؛ فَأَمَّا الَّذِي يَسْتَحِيلُ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ خُرُوجَهُ عَنْ الْخِطَابِ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا. انْتَهَى. وَفَصَّلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ " بَيْنَ مَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَيَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِعَدَمِ الشَّرْعِ، فَإِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ وَصَارَ الْحُكْمُ لِلشَّرْعِ، فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ كَاَلَّذِي دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى نَفْيِهِ، فَيَجُوزُ نَحْوُ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فَإِنَّ الْمُرَادَ مَا خَلَا الصِّفَاتِ لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى. وَهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ تَقْيِيدًا لِكَلَامِ مَنْ أَطْلَقَ، لَا مَذْهَبًا آخَرَ. ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ: النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ، إذْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ ثَابِتٌ دُونَ اللَّفْظِ إجْمَاعًا؛ لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا، فَالْخَصْمُ لَا يُسَمِّيهِ، لِأَنَّ الْمُخَصِّصَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي التَّخْصِيصِ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ لَا الْعَقْلُ، وَلِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ سَابِقٌ، فَلَا

يَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ؛ بَلْ يَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّهُ مُخَصِّصٌ أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَلِذَلِكَ الْعَقْلُ هَذَا الْحَظُّ، وَالدَّلِيلُ لَا يُخَصُّ؛ وَلَكِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ الْقَصْدُ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ دَلِيلِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ فِي ذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى خُرُوجِ شَيْءٍ عَنْ حُكْمِ الْعُمُومِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَعْنَوِيٌّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: وَجْهُهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ، أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُوضَعُ لِغَيْرِ الْمَعْقُولِ، فَيَكُونُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ حُجَّةٌ، وَحَقِيقَةٌ عِنْدَهُ قَطْعًا. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مُخَصِّصٌ كَانَ مَجَازًا عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعَامِّ إذَا خُصَّ، فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ عَلَى هَذَا، وَلَا يَجْرِي عَلَى الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: بَلْ الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ. قَالَ: الْمَنْعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَحْسُنُ وَلَا يَقْبُحُ، وَأَنَّ الشَّرْعَ يَرِدُ بِمَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ. وَأَنْكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ. وَقَالَ النَّقْشَوَانِيُّ: الْكَلَامُ لَيْسَ فِي مُطْلَقِ الْعُمُومِ؛ بَلْ فِي الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. فَإِنَّ الْفَقِيهَ لَا يَنْظُرُ فِي غَيْرِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَكَذَا الْأُصُولِيُّ. وَحِينَئِذٍ فَالْعَقْلُ لَا مَجَالَ لَهُ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ إلَّا بِالنَّظَرِ فِي دَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ؛ فَإِذَا فَرَضْنَا نَصًّا يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْقَتْلِ، فَالْعَقْلُ إنَّمَا يُخَصِّصُهُ لَوْ أَدْرَكَ الْمَصْلَحَةَ، وَكَيْفَ يُدْرِكُهَا؟ فَلَا يُخَصِّصُهَا. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ عَنْ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَلَفُوا هَلْ يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ مَا يَمْنَعُ الْعَقْلَ إجْرَاءَ الْحُكْمِ فِيهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ، فَيُخْرِجُهُ بِهِ دَلِيلُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ كَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ أَوْجَبَ إخْرَاجَهُ عَنْهُ. قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ هُنَا: أَنَّ اللَّفْظَ إذَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

فِي إسْقَاطٍ أَوْ إيجَابٍ أَوْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ، فَهَلْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ هَذَا كَلَامُهُ، وَهُوَ أَثْبَتُ مَعْقُولٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: مِنْ أَمْثِلَتِهِمْ {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّيْءَ مَصْدَرُ شَاءَ يَشَاءُ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الذَّوَاتِ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] أَيْ مَخْلُوقُ اللَّهِ، وَنَحْوُ دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، أَيْ مَضْرُوبُ الْأَمِيرِ. فَقَوْلُنَا: هَذَا شَيْءٌ فِي الذَّوَاتِ، أَيْ مُشَاءٌ، فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ، إمَّا بِالْفِعْلِ كَالْمَوْجُودَاتِ أَوْ بِالْقُوَّةِ كَالْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ. فَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 20 - 75] وَمَا شَاكَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ إلَهًا ثَابِتًا وَنَحْوَهُ مِنْ الْمُحَالَاتِ، فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ لَا بِالْفِعْلِ، وَلَا بِالْقُوَّةِ، فَلَا يُسَمَّى شَيْئًا، فَلَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] فَلَا يُقَالُ: إنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُحَالُ لِذَاتِهِ. وَالشَّيْءُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَخُصُّ الْمَوْجُودَ لَا الْمَعْدُومَ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْمَعْدُومِ الَّذِي يَصِحُّ وُجُودُهُ شَيْءٌ وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ فَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ وَغَلِطَ الزَّمَخْشَرِيّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَأَدْخَلَ الْمُسْتَحِيلَ فِي اسْمِ الشَّيْءِ، وَإِنَّمَا هَذَا مَذْهَبُ النُّحَاةِ، فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ وَقَعَ لَهُ أَنَّ الشَّيْءَ عَامٌّ مُتَنَاوِلٌ. قَالَ: هُوَ كَمَا تَقُولُ: مَعْلُومٌ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمَعْلُومَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْتَحِيلُ، عَلَى أَنَّ أَبَا هَاشِمٍ يَقُولُ: الْعِلْمُ بِالْمُسْتَحِيلِ عِلْمٌ لَا مَعْلُومَ لَهُ

وَمِمَّا يُحَقِّقُ أَنَّ الشَّيْءَ مُخْتَصٌّ بِالْمَوْجُودَاتِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ شَاءَ يَشَاءُ إذَا قُصِدَ، فَكَأَنَّ الشَّيْءَ هُوَ الْمَقْصُودُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ الْمَوْجُودُ، لَا الْمَعْدُومُ وَالْمُسْتَحِيلُ. وَأَيْضًا فَإِطْلَاقُ الشَّيْءِ عَلَى الذَّاتِ الْكَرِيمَةِ فِيهِ خِلَافٌ، وَلَئِنْ سُلِّمَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشْكَلِ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، لَا يُشَاكِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقِيلَ: بَلْ يُسَمَّى شَيْئًا بِمَعْنَى الشَّائِي، وَالْمَخْلُوقَاتُ تُسَمَّى شَيْئًا بِمَعْنَى الْمُشَاءِ، فَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ. فَيَكُونُ مُشْتَرِكًا. الثَّانِي: مِنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنْ لَا يُخَصَّصَ إلَّا بِالْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ، وَمِنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ أَنْ لَا يُخَصَّصَ إلَّا بِالْقَضَايَا السَّمْعِيَّةِ. وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إخْرَاجُ أَمْرٍ خَاصٍّ مِنْ خِطَابٍ عَامٍّ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ لَا يَكُونُ إلَّا مُتَقَدِّمًا، بِخِلَافِ السَّمْعِيِّ. ذَكَرَهُ الْعَبْدَرِيّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ".

الثاني التخصيص بدليل الحس

[الثَّانِي التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْحِسِّ] الثَّانِي [دَلِيلُ] الْحِسِّ كَقَوْلِهِ {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] مَعَ أَنَّهَا لَمْ تُؤْتَ مَا كَانَ فِي يَدِ سُلَيْمَانَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] وَقَوْلُهُ {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] وَفِي عَدِّ هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّهُ مِنْ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُوَ خُصُوصُ مَا أُوتِيَتْهُ هَذِهِ، وَدَمَّرَتْهُ الرِّيحُ، لَا مِنْ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ. وَلَمْ يَحْكُوا هُنَا الْخِلَافَ السَّابِقَ فِي التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ، وَيَنْبَغِي طَرْدُهُ وَنَازَعَ الْغَزَالِيُّ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ دَلِيلِ الْحِسِّ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُومِ كُلِّهَا الْحِسُّ كَمَا ذَكَرَهُ فِي مُقَدِّمَةِ الْمُسْتَصْفَى "

الثالث التخصيص بالدليل السمعي وفيه مباحث

[الثَّالِثُ التَّخْصِيصُ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَفِيهِ مَبَاحِثُ] [الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِي تَخْصِيصِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَقْطُوعِ] الثَّالِثُ: الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ فِي تَخْصِيصِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَقْطُوعِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ الْمُخَصِّصَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِاللَّفْظِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ إلَّا مِنْ السُّنَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَلَنَا أَنَّهُ وَقَعَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] الْآيَةَ وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْحَوَامِلِ وَغَيْرِهِنَّ، فَخَصَّ أُولَاتِ الْحَمْلِ بِقَوْلِهِ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَخَصَّ بِهِ أَيْضًا الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . وَمَا قَالُوهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْبَيَانَ تَحَصَّلَ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَذَلِكَ أَعَمُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ أَوْ عَلَى لِسَانِهِ وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي الذَّرِيعَةِ ": الْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ، وَالْمُخَالِفُ يُسَمِّي التَّخْصِيصَ بَيَانًا. الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِمِثْلِهَا وَالْخِلَافُ فِيهِ أَيْضًا،

وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ دَاوُد أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ، لَا يَنْبَنِي أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: مَنَعَ قَوْمٌ تَخْصِيصَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ مُبَيِّنًا، فَلَوْ احْتَاجَتْ إلَى بَيَانٍ لَمْ يَكُنْ لِلرَّدِّ إلَيْهِ مَعْنًى. الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، قَوْلًا وَاحِدًا بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا، لَكِنْ حَكَى بَعْضُهُمْ فِي الْفِعْلِيَّةِ خِلَافًا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، إلَّا مَا يَحْكِي دَاوُد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَا شَكَّ فِي الْجَوَازِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ الْعِلْمَ كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوجِبُهُ. وَأَلْحَقَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ بِالْمُتَوَاتِرِ الْأَخْبَارَ الَّتِي يُقْطَعُ بِصِحَّتِهَا. كَتَخْصِيصِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ بِحَدِيثِ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» وَهُوَ مِثَالٌ لِلْقَوْلِيَّةِ. وَمَثَّلُوا لِلْفِعْلِيَّةِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] مَخْصُوصٌ بِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ رَجْمِ الْمُحْصَنِ تَنْبِيهٌ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " يَقْتَضِي أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَخُصُّ الْقُرْآنَ إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ، فَإِنْ قَالَ فِيهَا: وَيُقَالُ خَاصٌّ حَتَّى تَكُونَ

الْآيَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهَا الْخَاصُّ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلَةً لَهُ فَلَا يُقَالُ فِيهَا بِمَا لَا تَحْتَمِلُ الْآيَةَ، وَهُوَ الثَّابِتُ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارٌ» ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي نَسْخِ السُّنَّةِ الْقُرْآنَ. الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْكِتَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ أَصْحَابِنَا الْمَنْعُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: السُّنَّةُ تَقْضِي عَلَى الْكِتَابِ، وَالْكِتَابُ لَا يَقْضِي عَلَى السُّنَّةِ. تَنْبِيهٌ سَيَأْتِي فِي بَابِ النَّسْخِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ إلَّا إذَا كَانَ مَعَهَا سُنَّةٌ تُبَيِّنُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَإِلَّا خَرَجَتْ السُّنَنُ عَنْ أَيْدِينَا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَنَا هُنَا اشْتِرَاطَهُ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ فَهُوَ أَقْوَى مِنْ التَّخْصِيصِ. الْخَامِسَةُ: يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ، وَكَذَا السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْخَطَأُ فِيهِ، وَالْعَامُّ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الِاحْتِمَالُ. قَالَ

الْآمِدِيُّ: لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا، وَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ بَعْضُ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ يَكُونُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، لَا بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ، لَكِنْ حَكَى الْإِمَامُ بْنُ الْقُشَيْرِيّ الْخِلَافَ هَاهُنَا، فَقَالَ: يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ، فَالْإِجْمَاعُ مُخَصِّصٌ لَهُ كَمَا قُلْنَا فِي دَلِيلِ الْعَقْلِ. وَالْمُخَالِفُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ يُخَالِفُ فِي هَذِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا رُفِعَ عَنْ الْعَامِّ خَارِجٌ مِنْهُ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِخُرُوجِهِ وَجَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا وَأَنْ يَكُونَ نَسْخًا انْتَهَى. فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ احْتِمَالِ النَّسْخِ نَظَرٌ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْإِجْمَاعُ أَقْوَى مِنْ النَّصِّ لِأَنَّ الْخَاصَّ، لِأَنَّ النَّصَّ يُحْتَمَلُ نَسْخُهُ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ وَجَعَلَ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ. وَمَثَّلَهُ ابْنُ حَزْمٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ إنْ بَذَلُوا فَلْسًا أَوْ فَلْسَيْنِ لَمْ يَجُزْ بِذَلِكَ حَقْنُ دِمَائِهِمْ، كَمَا قَالَ: " الْجِزْيَةُ " بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ جِزْيَةً مَعْلُومَةً.

البحث الثاني في تخصيص المقطوع بالمظنون وفيه مسائل

[الْبَحْثُ الثَّانِي فِي تَخْصِيصِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ وَفِيهِ مَسَائِلُ] [الْأُولَى تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ] الْبَحْثُ الثَّانِي فِي تَخْصِيصِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنَّ الْخَبَرَ يَتَسَلَّطُ عَلَى فَحْوَاهُ، وَفَحْوَاهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَمَنْ شَكَّ أَنَّ الصِّدِّيقَ لَوْ رَوَى خَبَرًا عَنْ الْمُصْطَفَى فِي تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ لَابْتَدَرَهُ الصَّحَابَةُ قَاطِبَةً بِالْقَبُولِ، فَلَيْسَ عَلَى دِرَايَةٍ فِي قَاعِدَةِ الْأَخْبَارِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ عَلَى الْجَوَازِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ خَصُّوا قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» فَإِنْ قَالُوا: إنَّ فَاطِمَةَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) طَلَبَتْ الْمِيرَاثَ؟ قُلْنَا: إنَّمَا طَلَبَتْ النُّحْلَى لَا الْمِيرَاثَ وَخُصَّ الْمِيرَاثُ بِالْمُسْلِمِينَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» وَخَصُّوا قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]

[بِمَا وَرَدَ] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ. وَخَصُّوا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَجُوسِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَالْمَجُوسُ مُشْرِكُونَ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَا نَدَعُ كِتَابَ نَبِيِّنَا نَسْخًا، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ خَصَّ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ. أَنَّهُ تَرَكَ الْقُرْآنَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ ادَّعَى النَّسْخَ انْتَهَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا حَكَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يُقْطَعُ بِأَصْلِهِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ. وَنَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَنَّهُمْ لِأَجْلِهِ مَنَعُوا الْحُكْمَ بِالْقُرْعَةِ، وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى

أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِلظَّاهِرِ أَوْ مُبْتَدِئًا، وَلَا مَعْنَى لِإِمْكَانِ التَّخْصِيصِ مَعَ الْقَوْلِ بِحُجِّيَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ " بِهِ " فِي الْجُمْلَةِ وَخَالَفُونَا فِي التَّفْصِيلِ، فَقَالُوا: وقَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» وَهُوَ خَبَرُ وَاحِدٍ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ فَقَالُوا: بِتَحْرِيمِ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ. الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، وَمَا لَمْ يَدْخُلْهُ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهُ يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَمَا دَخَلَهُ بَقِيَ مَجَازًا، وَضَعُفَتْ دَلَالَتُهُ، وَنَقَلُوهُ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ. وَهُوَ مُشْكِلٌ بِمَا سَبَقَ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حُجَّةً لَمْ يَبْقَ لِلْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهِ فَائِدَةٌ، إذْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بَيَانُ أَنَّ الصُّورَةَ الْمَخْصُوصَةَ لَا يَتَنَاوَلُهَا حُكْمُ الْعُمُومِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ، أَوْ لَهُ حُكْمٌ مُجْمَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ لَا يَبْقَى حُجَّةً، مَعَ قَوْلِهِ بِجَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ،. وَقَدْ حَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ مِنْ كِتَابِ التَّقْرِيبِ " عَنْهُ أَنَّهُ إنْ خُصَّ بِقَطْعِيٍّ جَازَ تَخْصِيصُ بَاقِيهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ افْتِتَاحُ تَخْصِيصِهِ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَهُ قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ الْعُمُومَ إذَا خُصَّ بَعْضُهُ صَارَ مُجْمَلًا فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ لَا يُسَوِّغُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ فِيهَا. فَجُعِلَ الْخَبَرُ عَلَى التَّحْقِيقِ مُثْبِتًا حُكْمًا ابْتِدَاءً، وَلَيْسَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ التَّخْصِيصِ إذَا حَقَّقْته، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ فِي عُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرِ وَبَعْدَهُ. انْتَهَى.

وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي وَإِنَّمَا حُكِيَ عَنْهُ تَجْوِيزُ تَخْصِيصِ الْعَامِّ الَّذِي أُجْمِعَ عَلَى تَخْصِيصِهِ، أَوْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّهُ بِالتَّخْصِيصِ حِينَئِذٍ مُجْمَلًا وَمَجَازًا، فَيَجُوزُ لِذَلِكَ إعْمَالُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي تَخْصِيصِ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنْهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ كَانَتْ الْآيَةُ الْعَامَّةُ دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ جَازَ تَخْصِيصُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِالتَّخْصِيصِ كَالْمُجْمَلَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْبَيَانِ وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ. وَقَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": فَأَمَّا قَوْلُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ وَالْكَرْخِيِّ فَيُبْنَيَانِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ عِنْدَ عِيسَى مَجَازٌ، وَالْمَخْصُوصَ بِالدَّلِيلِ الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ مَجَازٌ، وَإِذَا صَارَ مَجَازًا صَارَتْ دَلَالَتُهُ مَظْنُونَةً، وَمَتْنُهُ مَقْطُوعًا، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَتْنُهُ مَظْنُونٌ وَدَلَالَتُهُ مَقْطُوعَةٌ، فَيَحْصُلُ التَّعَادُلُ. فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعُمُومِ، فَيَكُونُ قَاطِعًا فِي مَتْنِهِ وَدَلَالَتِهِ، فَلَا يُرَجَّحُ عَلَيْهِ الْمَظْنُونُ. وَهَذَا الْمَأْخَذُ الَّذِي ذَكَرُوهُ تَرَدَّدَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ، فَقَالَ: إنْ لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ، لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ، وَإِلَّا فَإِنْ ثَبَتَ وَاحْتَمَلَ اللَّفْظُ مَعَانِيَ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا، وَكَانَ اللَّفْظُ يَفْتَقِرُ عَلَى الْبَيَانِ جَازَ تَخْصِيصُهُ، وَتَبْيِينُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُهُمْ وَمَسَائِلُهُمْ، وَاحْتَجَّ بِكَلَامِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَذَكَرَهُ. قَالَ: فَنَصَّ عِيسَى عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يُخَصُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ عَلَى مَا كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ الْكَرْخِيّ؛ وَيُحْتَمَلُ

أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ الْقَوْلَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ، لِأَنَّهُ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْبَاقِي مَعَ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ مِمَّا سَوَّغَ الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِ حُكْمِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ صَارَ مَجَازًا، أَمَّا إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَعَانٍ فَيُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ بِهِ. انْتَهَى. وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ عِيسَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ عُمُومُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ خُصَّ بِالْإِجْمَاعِ فَيُزَادُ فِي تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قَالَ: وَقَالَ: وَإِنْ كَانَتْ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهَا، قُبِلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي تَفْسِيرِهَا وَتَخْصِيصِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ بِدَلِيلٍ مُقَارِنٍ جَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَرَاخِيًا، وَأَمَّا الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ ابْتِدَاءً بِدَلِيلٍ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ مُتَرَاخِيًا ابْتِدَاءً، كَمَا يَجُوزُ مُتَّصِلًا قَالَ: وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْمُتَأَخِّرِ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يَكُونُ بَيَانًا؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعَامِّ بَعْضُهُ ابْتِدَاءً كَمَا هُوَ شَأْنُ التَّخْصِيصِ؛ بَلْ يَكُونُ نَاسِخًا لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ حُكْمِ الْعَامِّ؛ بَلْ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ. الرَّابِعُ: إنْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بِمُتَّصِلٍ فَلَا، قَالَهُ الْكَرْخِيّ، لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ بِمُنْفَصِلٍ يُصَيِّرُهُ مَجَازًا عَلَى مَذْهَبِهِ، فَتَضْعُفُ دَلَالَتُهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَمَا قَالَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: ظَنِّيَّةٌ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ:

مَا قَالَهُ ابْنُ أَبَانَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَا نُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْخَامِسُ: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِوُرُودِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " وَحَكَى قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ؛ بَلْ وَرَدَ الْمَنْعُ مِنْهُ. السَّادِسُ: الْوَقْفُ. ثُمَّ قِيلَ: بِمَعْنَى لَا أَدْرِي. وَقِيلَ: بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقَعُ التَّعَارُضُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي دَلَّ الْعُمُومُ عَلَى إثْبَاتِهِ وَالْخُصُوصُ عَلَى نَفْيِهِ، وَيَجْرِي اللَّفْظُ الْعَامُّ مِنْ الْكِتَابِ. فِي بَقِيَّةِ مُسَمَّيَاتِهِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ أَصْلُهُ قَطْعِيٌّ، وَفَحْوَاهُ مَظْنُونٌ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عَكْسُهُ، فَيَتَعَارَضَانِ، فَلَا رُجْحَانَ، فَيَجِبُ الْوَقْفُ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ "، وَحَكَاهُ عَنْهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَقَالَ هُوَ مُتَّجَهٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الْجَوَازُ، لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ فِي مَسَائِلَ، كَنَفْيِ مِيرَاثِ الْقَاتِلِ بِقَوْلِهِ: «لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ» ، مَعَ قَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء: 11] وَالنَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ [الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا] مَعَ قَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَغَايَةُ الْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّ الْخَبَرَ كَانَ مُتَوَاتِرًا عِنْدَهُمْ، ثُمَّ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَصَارَ آحَادًا، فَقِيلَ لَهُمْ: قَدْ رَوَى الصِّدِّيقُ؛ «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» وَطَرَحُوا بِهِ مِيرَاثَ فَاطِمَةَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) ، فَقَالُوا: كَانُوا عَلِمُوا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَّرَهُمْ الصِّدِّيقُ. قُلْنَا: لَوْ كَانَ مُتَوَاتِرًا لَمْ يَخْفَ عَلَى فَاطِمَةَ. اهـ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: يَجِبُ عَلَى أَصْلِ الْقَاضِي أَنْ يَجْزِمَ بِالتَّخْصِيصِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ مُسَاوٍ لِعُمُومِ الْكِتَابِ لِوُقُوفِهِ فِي تَخْصِيصِهِ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي، فَكَيْفَ يُسَاوِي هُوَ مَا دُونَهُ؟

الثانية يجوز تخصيص السنة المتواترة بخبر الواحد

الثَّانِي: ذَكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي [لَا] تُجْمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، أَمَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَكَنَهْيِهِ عَنْ الْجَمْعِ، فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ قَطْعًا، وَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالتَّخْصِيصِ بِالْمُتَوَاتِرِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمِهَا، وَلَا يَضِيرُ عَدَمُ انْعِقَادِهِ عَلَى رِوَايَتِهَا. وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ ذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنَّهُ أَلْحَقَ هَذَا الْقِسْمَ بِالْمُتَوَاتِرِ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يُخَصُّ بِهِ ظَاهِرُ الْكِتَابِ عِنْدَنَا، إذَا كَانَ لَمْ يَجْتَمِعْ عَلَى تَخْصِيصِهِ كَآيَةِ الرَّضَاعِ، فَإِنْ أُجْمِعَ عَلَى تَخْصِيصِهِ جَازَ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا عَدَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ كَآيَةِ السَّرِقَةِ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. [الثَّانِيَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ] ِ، وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " وَغَيْرُهُمَا، فَإِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ ذَلِكَ، غَلَطٌ. فَرْعٌ: هَلْ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَيَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي حُجِّيَّتِهَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ امْتَنَعَ، أَوْ حُجَّةً فَكَخَبَرِ الْوَاحِدِ. ثُمَّ رَأَيْت فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ تَجْوِيزَهُ إذَا اشْتَهَرَتْ وَاسْتَفَاضَتْ. قَالَ: وَلِهَذَا أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَمَنَعْنَا بِهِ إطْلَاقَ مَا فِي بَاقِي الْآيَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ كَالْخَبَرِ سَوَاءً.

الثالثة تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس

[الثَّالِثَةُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْقِيَاسِ] الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَقَالَ ابْنُ دَاوُد فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ ": إنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ يُصَرِّحُ بِالْجَوَازِ. وَحَكَى الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو هَاشِمٍ آخِرًا. وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَسُلَيْمٌ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ طَرِيقِ الْعُمُومِ لَا الْقِيَاسِ، وَبِنَاءً عَلَى رَأْيِهِ فِي جَوَازِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ. وَبِهَذَا كُلِّهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا نَقَلَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَكَذَلِكَ حَكَوْا الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " حَكَاهُ هَكَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، وَحَكَى الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الْأَشْعَرِيِّ قَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ. قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: لَا يُتَصَوَّرُ التَّخْصِيصُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْعُمُومِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ كَمَا تَقَرَّرَ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصًا وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ مَا أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ انْتَهَى. وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الْقَائِلِينَ بِإِنْكَارِ الصِّيَغِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي الْمَحْصُولِ "، وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ عَلَى تَرْجِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: لَنَا أَنَّ الْعُمُومَ وَالْقِيَاسَ. إلَخْ، لَكِنَّهُ اخْتَارَ فِي الْمَعَالِمِ " الْمَنْعَ، وَأَطْنَبَ فِي نُصْرَتِهِ، وَهَذَا الْكِتَابُ مَوْضِعٌ لِاخْتِيَارَاتِهِ، بِخِلَافِ الْمَحْصُولِ " فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِنَقْلِ الْمَذَاهِبِ وَتَحْرِيرِ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ إنَّهُ صَرَّحَ فِي الْمَحْصُولِ " فِي

أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْحَقَّ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِيمَا سَيَأْتِي فِي السَّادِسِ. وَالثَّالِثُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ ثُمَّ رَجَعَ ابْنُهُ وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ. وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، قَالَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ": مِنْهُمْ ابْنُ مُجَاهِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ أَيْضًا، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ " عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ " وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: زَعَمُوا أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّمَا الْقِيَاسُ الْجَائِزُ أَنْ يُشَبَّهَ مَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ حَدِيثٌ بِحَدِيثٍ لَازِمٍ، فَأَمَّا أَنْ يُعْمَدَ إلَى حَدِيثٍ عَامٍّ فَيُحْمَلُ عَلَى الْقِيَاسِ، فَأَيْنَ الْقِيَاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ إنْ كَانَ الْحَدِيثُ قِيَاسًا فَأَيْنَ الْمُسَمَّى؟ قَالَ: فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَعْمَلُ فِي الْحَدِيثِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِي أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِهِ الْحُكْمُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ فِيهِ حَدِيثٌ، أَوْ قِيَاسٌ عَلَى مَوْضِعٍ فِيهِ حَدِيثٌ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ مَنْعُ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ. وَرَدَّهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَقَالَ: قَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَاحْتَمَلَ أَمْرُهُ تَعَالَى فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّدْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ. لَمَّا

جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الرَّجْعَةِ وَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ فِيهِمَا، ثُمَّ كَانَ الْإِشْهَادُ عَلَى الطَّلَاقِ غَيْرَ وَاجِبٍ، كَذَلِكَ الْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: قَدْ قَاسَ الشَّافِعِيُّ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ عَلَى الْإِشْهَادِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَخَصَّ بِهِ ظَاهِرَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ إذْ ظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ. قَالَ: وَإِمَّا الْكَلَامُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ ذَلِكَ الْقَائِلُ، فَلَمْ يَقْصِدْ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الظَّاهِرِ بِالْقِيَاسِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، فَرَوَى حَدِيثَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ» ، ثُمَّ حَكَى عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْعِلَّةُ فِي طَلَبِ الْوَلِيِّ أَنَّهُ يَطْلُبُ الْحَظَّ لِلْمَنْكُوحَةِ، وَيَضَعُهَا فِي كُفْءٍ، فَإِذَا تَوَلَّتْ هِيَ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْوَلِيِّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ يَعْمِدُ إلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَيُسْقِطُهُ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ يُفْضِي إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْوَلِيِّ وَذَلِكَ يُسْقِطُ نَصَّ الْخَبَرِ، وَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ هُنَا لَا يَجُوزُ، إنَّمَا يَجُوزُ حَيْثُ يُخَصُّ الْعُمُومُ انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّ اسْتِنْبَاطَ مَعْنًى مِنْ النَّصِّ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْعُمُومَ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ خُصَّ بِهِ وَإِلَّا فَلَا. وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَكَذَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ "، وَحَكَى الْإِمَامُ عَنْهُ إنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ

بِغَيْرِ الْقِيَاسِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " عَنْ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ. الرَّابِعُ: إنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ بِمُنْفَصِلٍ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ الْكَرْخِيّ. وَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: كُلُّ مَا لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ، فَمَا لَا يَخُصُّهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُخَصَّ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ: هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ بِوَجْهٍ قَطْعِيٍّ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِمِثْلِهِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ ": لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا تَخْصِيصُ الْعَامِّ ابْتِدَاءً بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إذَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِدَلِيلٍ يَجُوزُ رَفْعُ الْكُلِّ لَهَا مِنْ خَبَرٍ تَأَيَّدَ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ الِاسْتِفَاضَةِ، لَمْ يَقَعْ الْإِشْكَالُ فِي صَارِفِهِ إنَّمَا مِنْ جِنْسٍ دَخَلَ تَحْتَ الْخُصُوصِ، أَوْ مِنْ جِنْسِ مَا بَقِيَ تَحْتَ الْعُمُومِ، فَيَتَعَرَّفُ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ. الْخَامِسُ: إنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسَ شَبَهٍ أَوْ عِلَّةٍ فَلَا، نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الْإِصْطَخْرِيِّ، زَادَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَرْوَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ، وَمُبَارَكِ بْنِ أَبَانَ وَابْنِ عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَراييِنِيِّ الْقِيَاسُ إنْ كَانَ جَلِيًّا مِثْلُ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا، وَهُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ مَعْنَى الْأَصْلِ، كَقِيَاسِ الرِّبَا، فَالتَّخْصِيصُ بِهِ جَائِزٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا، إلَّا طَائِفَةً شَذَّتْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِمْ. وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا وَهُوَ قِيَاسُ عِلَّةِ الشَّبَهِ فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ شَذَّ فَجَوَّزَهُ.

وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: قِيَاسُ الْأَصْلِ وَقِيَاسُ الْعِلَّةِ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِهِمَا سَائِغٌ جَائِزٌ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَمَنَعَهُ دَاوُد؛ وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْمُرَادِ بِالتَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ أَنَّ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْعُمُومِ فِي اللَّفْظِ بَيْنَ الْقِيَاسِ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي اللَّفْظِ، لَا أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْمُرَادِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ نَسْخًا وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو مَنْصُورٍ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَفِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ جَوَازُهُ أَيْضًا. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْخَفِيِّ فِي مَوَاضِعَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْجَلِيِّ وَهُوَ الَّذِي قَضَى الْقَاضِي بِخِلَافِهِ. وَقِيلَ: هُوَ قِيَاسُ الْمَعْنَى، وَالْخَفِيُّ قِيَاسٌ وَقِيلَ: مَا تَتَبَادَرُ عِلَّتُهُ إلَى الْفَهْمِ مِثْلُ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» . السَّادِسُ: إنْ تَفَاوَتَ الْقِيَاسُ وَالْعَامُّ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ رُجِّحَ الْأَقْوَى، فَيَرْجِعُ الْعَامُّ بِظُهُورِ قَصْدِ التَّعْمِيمِ فِيهِ وَيَكُون الْقِيَاسُ الْعَارِضُ لَهُ قِيَاسَ شَبَهٍ، وَيُرَجَّحُ الْقِيَاسُ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ تَعَادَلَا فَالْوَقْفُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْعُنْوَانِ " وَاعْتَرَفَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ، وَكَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ " وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ

وَابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْقَرَافِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ: لَقَدْ أَحْسَنَ فِي هَذَا الِاخْتِيَارِ أَبُو حَامِدٍ، فَكَمْ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ شَاكِرٍ وَحَامِدٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": أَنَّهُ مَذْهَبٌ جَيِّدٌ، فَإِنَّ الْعُمُومَ قَدْ تَضْعُفُ دَلَالَتُهُ لِبُعْدِ قَرِينَتِهِ، فَيَكُونُ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ رَاجِحًا عَلَى الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْعُمُومِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، بِأَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ قَوِيَّ الرُّتْبَةِ، وَيَكُونَ الْقِيَاسُ قِيَاسَ شَبَهٍ، وَالْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ: أَنَّ الْعَمَلَ بِأَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ لَيْسَ مَذْهَبًا، وَلَمْ يَقُلْهُ الرَّجُلُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ مُسْتَقِلٌّ، فَتَأَمَّلْ الْمُسْتَصْفَى " تَجِدُ ذَلِكَ. وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ الْعُمُومِ أَقْوَى، ثُمَّ يَقُولُ: الْقِيَاسُ تَخْصِيصٌ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ أَرْجَحَ الظَّنَّيْنِ عِنْدَ التَّعَارُضِ مُعْتَبَرٌ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ الْمُسْتَوِي ضَرُورِيٌّ، إنَّمَا الشَّأْنُ فِي بَيَانِ الْأَرْجَحِ مَا هُوَ؟ فَفَرِيقٌ قَالُوا: إنَّ الْأَرْجَحَ الْعُمُومُ، فَلَا يُخَصُّ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ الْإِمَامُ فِي الْمَعَالِمِ " وَقَوْمٌ قَالُوا: الْأَرْجَحُ الْقِيَاسُ، فَيُخَصُّ الْعُمُومَ. وَالْقَوْلَانِ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ. السَّابِعُ: الْوَقْفُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَعَارَضَا فِيهِ، وَالرُّجُوعُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ سِوَاهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ "، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ. قَالَ: وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ دَعْوَى الْقَطْعِ مِنْ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ شَارَكَ الْقَوْلَ بِالتَّخْصِيصِ مِنْ وَجْهٍ، وَبَايَنَهُ مِنْ وَجْهٍ، أَمَّا الْمُشَارَكَةُ فَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ إسْقَاطُ الِاحْتِجَاجِ، وَالْوَاقِفُ يَقُولُ بِهِ، وَأَمَّا الْمُبَايَنَةُ، فَهِيَ أَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّخْصِيصِ يَحْكُمُ بِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَالْوَاقِفُ لَا يَحْكُمُ بِهِ.

الثَّامِنُ: إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً مُجْزِئَةً عَلَيْهَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ الْآمِدِيُّ التَّاسِعُ: إنْ كَانَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُخْرَجًا مِنْ عَامٍّ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. الْعَاشِرُ: إنْ كَانَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُخْرَجًا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْعُمُومِ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ. وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا يُخَرَّجُ مِنْ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ " فِي بَابِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ: لَا يَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِالْأَقْيِسَةِ الْجَلِيَّةِ، إذَا كَانَ التَّأْوِيلُ مُسَاغًا لَا يَنْبُو نَظَرُ الْمُنْتَصِبِ عَنْهُ، وَالشَّرْطُ فِي ذَلِكَ التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ صَدَرَ عَنْ غَيْرِ الْأَصْلِ الَّذِي فِيهِ وَرَدَ الظَّاهِرُ، فَإِنْ لَمْ يُتَّجَهُ قِيَاسٌ مِنْ مَوْرِدِ الظَّاهِرِ لَمْ يَجُزْ إزَالَةُ الظَّاهِرِ بِمَعْنَى يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ، يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَهُ وَقَصْرَهُ عَلَى بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ، كَمَا فِي جَوَازِ الْإِبْدَالِ فِي الزَّكَوَاتِ. قُلْت: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ، وَهَذَا يَصْلُحُ تَقَيُّدًا لِلْجَوَازِ، لَا مَذْهَبًا آخَرَ. وَعِبَارَةُ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ قِيَاسًا عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ قَطْعًا، وَالْقِيَاسُ الظَّاهِرُ كَالْمَعْرُوفِ بِالِاسْتِدْلَالِ كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ وَفِي الْعِتْقِ، فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ، لِخُرُوجِهِ عَنْ الْخِلَافِ بِالْإِشْكَالِ وَقَالَ شَارِحُ اللُّمَعِ ": الْجَلِيُّ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ قَطْعًا، وَأَمَّا الْخَفِيُّ

فَإِنْ كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ الْأَصْلِ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِهِ قَطْعًا، كَعِلَّةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الرِّبَا أَنَّهُ الْكَيْلُ، فَإِنَّهُمْ اسْتَنْبَطُوهَا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْعِلَّةُ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا تُوجِبُ التَّخْصِيصَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يَعْتَرِضُ الْفَرْعُ عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَنْبَطٍ مِنْ الْأَصْلِ جَازَ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَطْلَقَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ تَرْجَمَةَ الْمَسْأَلَةِ، لَكِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ لَيْسَ الْقِيَاسَ الْمُعَارِضَ لِلنَّصِّ الْعَامِّ مُطْلَقًا، فَإِنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى عُمُومِ النَّصِّ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهِ حُكْمُ الْفَرْعِ مَقْطُوعًا بِهِ، وَعِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا مَعَ تَصَادُقِهِمَا فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ صَارِفٍ قَطْعًا، فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقِيَاسِ لَا أَوَفُقُ الْخِلَافُ فِيهِ فِي أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ النَّصِّ، فَيَجِبُ اسْتِثْنَاءُ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ تَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْإِبْيَارِيُّ شَارِحُ " الْبُرْهَانِ " وَغَيْرُهُ. وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي قِيَاسِ النَّصِّ الْخَاصِّ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قِيَاسَ نَصٍّ عَامٍّ لَمْ يُخَصَّ بِهِ، بَلْ يَتَعَارَضَانِ، كَالْعُمُومَيْنِ، وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ الثَّانِي. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هَذَا كُلُّهُ فِي الْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْكِتَابِ، أَوْ عُمُومِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَوْ عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ أَيْضًا وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْكِتَابِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَمَنْ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ لَا يُجَوِّزُ

بِالْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَأَمَّا مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُجَوِّزَ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ الضَّعْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجَوِّزَ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا فِي الْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْكِتَابِ، إذْ قَدْ يَكُونُ قِيَاسُهُ أَقْوَى مِنْ عُمُومِ الْكِتَابِ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ تَخْصِيصَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهِ لِتَعَادُلِهِمَا إذْ قَدْ يَظْهَرُ لَهُ ذَلِكَ الثَّانِي: مَثَّلَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ لِلتَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وَقَوْلِهِ فِي الْإِمَاءِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي عُمُومِ مَنْ أُمِرَ بِجَلْدِهَا مِائَةً مِنْ النِّسَاءِ، ثُمَّ قِيسَ الْعَبْدُ عَلَى الْأَمَةِ، فَجُعِلَ حَدُّهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً. فَكَانَتْ الْأَمَةُ مَخْصُوصَةً، وَالْعَبْدُ مَخْصُوصًا مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَالزَّانِي} [النور: 2] بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَمَةِ قَالَ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] إلَى قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] فَاحْتَمَلَتْ إبَاحَةَ الْأَكْلِ فِي جَمِيعِ الْهَدْيِ، وَاحْتَمَلَ فِي الْبَعْضِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَدْيَ جَزَاءِ الصَّيْدِ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ؛ فَكَانَ هَذَا مَخْصُوصًا بِالْإِجْمَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ. وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ، فَكَانَ الْوَجْهُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ وَاجِبٌ، كَوُجُوبِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَوُجُوبِ مَا يَنْذُرُ الْمَرْءُ إخْرَاجَهُ مِنْ مَالِهِ، فَقِيسَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ الْوُجُوبُ وَكَانَ جَزَاءُ الصَّيْدِ خَارِجًا مِنْ الْعُمُومِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ مَخْصُوصٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي ذَلِكَ

وَمَثَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ إذَا مَاتَ، وَالْمَرْأَةُ حَامِلٌ لَا تَعْتَدُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ حَمْلٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجِهَا، وَمَنْفِيٌّ عَنْهُ قَطْعًا فَلَا تَعْتَدُّ مِنْهُ، قِيَاسًا عَلَى الْحَمْلِ الْحَادِثِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَيُخَصَّصُ بِهَذَا الْقِيَاسِ عُمُومُ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . الثَّالِثُ: أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْخِلَافِ فِي الْقَطْعِيَّاتِ؛ أَوْ مِنْ الْمُجْتَهَدَاتِ؟ قَالَ الْغَزَالِيُّ: يَدُلُّ كَلَامُ الْقَاضِي عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى عُمُومِ الْكِتَابِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ بِخَطَأِ الْمُخَالِفِ، لِأَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ إلْحَاقَ هَذَا بِالْمُجْتَهَدَات أَوْلَى، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ فِيهِ مِنْ الْجَوَانِبِ مُتَفَاوِتَةٌ، غَيْرُ بَالِغَةٍ مَبْلَغَ الْقَطْعِ انْتَهَى. وَحِينَئِذٍ فَتَوَقُّفُ الْقَاضِي إنَّمَا هُوَ عَنْ الْقَطْعِ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ الْأَرْجَحَ التَّخْصِيصُ، وَلَكِنْ عِنْدَهُ أَنَّ الْأَرْجَحِيَّةَ لَا تَكْفِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْفَنِّ عِنْدَهُ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ، وَحِينَئِذٍ فَنَحْنُ نُوَافِقُهُ عَلَى انْتِفَاءِ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا نَدَّعِي أَنَّ الظَّنَّ كَافٍ فِي الْعَمَلِ، فَلَا نَتَوَقَّفُ؛ وَهُوَ لَا يَكْتَفِي بِالظَّنِّ، فَيَتَوَقَّفُ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَعْنَى، فَإِنَّ تِلْكَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ، وَلِهَذَا تَرَدَّدَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْمَحَارِمِ، لِأَجْلِ عُمُومِ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وَالتَّخْصِيصُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الشَّهْوَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِمْ، وَكَذَا فِي الْقَاتِلِ بِحَقٍّ مَعَ حَدِيثِ: «الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ» . وَقَوْلُهُ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» اسْتَنْبَطُوا مِنْهُ مَا خَصَّصَ جِلْدَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ. وَقَدْ نَقَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ " الْفَارِقَ بَيْنَ الْمَسَائِلِ، فَقَالَ بَعْدَ

تَجْوِيزِهِ التَّخْصِيصَ بِالْقِيَاسِ: هَذَا فِيمَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا مَا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مَعْنًى مُسْتَمِرٌّ جَائِزٌ عَلَى السَّيْرِ، فَالْأَصْلُ فِيهِ التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ، وَتَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ النَّصِّ، وَلَكِنْ قَدْ يَلُوحُ مَعَ هَذَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِجِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ، فَيَتَعَيَّنُ النَّظَرُ إلَيْهِ وَهَذَا لَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُلَامَسَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] فَجَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ عَلَى الْجَسِّ بِالْيَدِ، ثُمَّ تَرَدَّدَ نَصُّهُ فِي لَمْسِ الْمَحَارِمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّعْلِيلَ لَا جَرَيَانَ لَهُ فِي الْأَحْدَاثِ النَّاقِضَةِ وَمَا لَا يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي إثْبَاتِهِ، فَلَا يَكَادُ يَجْرِي فِي نَفْيِهِ. فَمَالَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ إلَى اتِّبَاعِ اسْمِ النِّسَاءِ، وَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ: أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تُنْقَضُ بِمَسِّهِنَّ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُلَامَسَةِ الْمُضَافَةِ إلَى أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْدَاثِ يُشْعِرُ بِلَمْسِ اللَّاتِي يُقْصَدْنَ بِاللَّمْسِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُتَّجَهْ مَعْنًى صَحِيحٌ دَلَّتْ الْقَرِينَةُ عَلَى التَّخْصِيصِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ» ، فَالْحِرْمَانُ لَا يَنْسَدُّ فِيهِ تَعْلِيلٌ، فَإِذَا انْسَدَّ مَسْلَكُ التَّعْلِيلِ اقْتَضَى الْحَالُ التَّعَلُّقَ بِلَفْظِ الشَّارِعِ: تَرَدَّدَ الشَّافِعِيُّ فِي أَنَّ الْقَتْلَ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا إذَا صَدَرَ مِنْ الْوَارِثِ فَهَلْ يَقْتَضِي حِرْمَانَهُ؟ فَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْحِرْمَانِ بِكُلِّ قَتْلٍ، التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ مَعَ حَسْمِ التَّعْلِيلِ، وَوَجْهُ إثْبَاتِ الْإِرْثِ التَّطَلُّعُ إلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَلَيْسَ بِخَفِيٍّ أَنَّ قَصْدَهُ مُضَادَّةُ غَرَضِ الْمُسْتَعْجِلِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْقَتْلِ الْحَقِّ؛ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فَمَنْ عَمَّمَ تَعَلَّقَ بِالظَّاهِرِ، وَمَنْ فَصَّلَ بَيْنَ الرِّبَوِيِّ وَغَيْرِهِ تَشَوَّفَ إلَى دَرْكِ مَقْصُودٍ. وَهُوَ أَنَّ فِي الْحَيَوَانِ كَمَا نَبِيعُ الشَّاةَ بِهِ نَبِيعُ الشَّاةَ بِلَحْمِهِ. اعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يُعَمِّمُهُ قَطْعًا، كَاسْتِنْبَاطِ

مَا يُشَوِّشُ الْفِكْرَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» ، وَكَاسْتِنْبَاطِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْجَامِدِ الظَّاهِرِ الْقَالِعِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْأَحْجَارِ وَهُوَ غَالِبُ الْأَقْيِسَةِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْبُطْلَانِ، وَلِهَذَا ضَعُفَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ، أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ، لِأَنَّ الْقَصْدَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِالشَّاةِ أَوْ الْقِيمَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَجِبَ الشَّاةُ أَصْلًا، لِأَنَّهُ إذْ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لَمْ تَجِبْ الشَّاةُ، فَلَا تَكُونُ مُجْزِئَةً، وَهِيَ مُجْزِئَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَقَدْ عَادَ الِاسْتِنْبَاطُ عَلَى أَصْلِهِ بِالْبُطْلَانِ، وَاعْتِرَاضُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ هَذِهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ الْحَنَفِيَّ كَمَا يُجَوِّزُ الْقِيمَةَ يُجَوِّزُ الشَّاةَ، مَرْدُودٌ بِمَا سَأَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. تَرَدَّدَ فِيهِمَا التَّرْجِيحُ وَقَالَ إلْكِيَا فِي الْمَدَارِكِ ": الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَعْنَى، لِأَنَّ الْعُمُومَ يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ، ثُمَّ يُبْحَثَ عَنْ دَلِيلِهِ، فَإِنَّ فَهْمَ مَعْنَى اللَّفْظِ سَابِقٌ عَلَى فَهْمِ مَعْنَاهُ الْمُسْتَنْبَطِ، وَإِذَا فُهِمَ عُمُومُهُ، فَكَيْفَ يُتَّجَهُ بِنَاءُ عِلَّةٍ عَلَى خِلَافِ مَا فُهِمَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَيُتَّجَهُ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ الْعُمُومِ فِي النَّظَرِ الثَّانِي رُبَّمَا نَرَاهُ أَوْفَقَ لِمَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَمِنْهَاجِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ إمَّا بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَمَخْرَجِ الْكَلَامِ، وَإِمَّا بِأَمَارَةٍ أُخْرَى تَفْصِلُ بِالْكَلَامِ، وَذَلِكَ رَاجِحٌ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ اللَّفْظِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُقَدَّرُ مُخَالِفًا لِلَّفْظِ، وَلَكِنْ يُقَدَّرُ بَيَانًا لَهُ، فَاَلَّذِي فَهِمْنَاهُ أَوَّلًا الْعُمُومَ، ثُمَّ النَّظَرُ الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ

الْخُصُوصُ، فَغَلَبَ مَعْهُودُ الشَّرْعِ عَلَى مَعْنَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ. فَرْعٌ وَلَّدْته: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ الْمُقَيَّدِ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِطْلَاقِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ جَوَّزَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الِاسْتِنْجَاءَ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ لَهُ ثَلَاثُ أَحْرُفٍ نَظَرًا لِلْمَعْنَى، وَهُوَ الْإِزَالَةُ بِطَاهِرٍ، فِيهِ رَفْعُ قَيْدِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»

البحث الثالث في تخصيص المظنون بالقطع

[الْبَحْثُ الثَّالِثُ فِي تَخْصِيصِ الْمَظْنُونِ بِالْقَطْعِ] يَجُوزُ تَخْصِيصُ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَجِيءُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا هَاهُنَا، وَأَمْثِلَتُهُ عَزِيزَةٌ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ» فَإِنَّهُ خُصَّ مِنْهُ الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالْوَبَرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: 80] قُلْت: هَذِهِ إنْ جَعَلْنَا الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ: «حُبِّبَ إلَيْهِ الْغَنَمُ وَالْإِبِلُ» ، فَإِنْ اعْتَبَرْنَا خُصُوصَ السَّبَبِ فَلَيْسَ الْحَدِيثُ عَامًّا، وَكَذَا قَوْلُهُ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فَإِنَّهُ خُصَّ مِنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وَكَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ» فَإِنَّهُ خُصَّ مِنْ الْكَلَامِ سَبْقُ اللِّسَانِ بِالْيَمِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] وَكَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» مُخَصَّصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ] مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ، وَفِي هَذَا الْخِلَافُ أَيْضًا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: قَالَا: وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ هُنَا التَّوَقُّفُ.

مسألة منع بعض الحنابلة الإجماع بخبر الواحد في التخصيص

[مَسْأَلَةٌ مَنَعَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الْإِجْمَاعَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي التَّخْصِيصِ] مَسْأَلَةٌ مَنَعَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الْإِجْمَاعَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْخِلَافَ فِي تَخْصِيصِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فَكَذَا هُنَا. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يُتْرَكُ الْعُمُومُ لِأَجْلِ السِّيَاقِ] مَسْأَلَةٌ هَلْ يُتْرَكُ الْعُمُومُ لِأَجْلِ السِّيَاقِ؟ يُخَرَّجُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، فَإِنَّهُ تَرَدَّدَ قَوْلُهُ فِي الْأَمَةِ الْحَامِلِ إذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا: هَلْ يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ} [الطلاق: 6] وَالثَّانِي: لَا، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يُشْعِرُ بِإِرَادَةِ الْحَرَائِرِ، لِقَوْلِهِ: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَضَرَبَ أَجَلًا تَعُودُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مُضِيِّهِ إلَى الِاسْتِقْلَالِ بِنَفْسِهَا وَالْأَمَةُ لَا تَسْتَقِلُّ. وَأَطْلَقَ الصَّيْرَفِيُّ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالسِّيَاقِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " يَقْتَضِيهِ، بَلْ بَوَّبَ عَلَى ذَلِكَ بَابًا، فَقَالَ: بَابُ الَّذِي يُبَيِّنُ سِيَاقُهُ مَعْنَاهُ، وَذَكَرَ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163] فَإِنَّ السِّيَاقَ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: 163] . وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ " نَصَّ بَعْضُ أَكَابِرِ الْأُصُولِيِّينَ

الفرق بين التخصيص بالقرائن والتخصيص بالسبب

عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِالْقَرَائِنِ. قَالَ: وَيَشْهَدُ لَهُ مُخَاطَبَاتُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، حَيْثُ يَقْطَعُونَ فِي بَعْضِ الْمُخَاطَبَاتِ بِعَدَمِ الْعُمُومِ بِنَاءً عَلَى الْقَرِينَةِ، وَالشَّرْعُ يُخَاطِبُ النَّاسَ بِحَسَبِ تَعَارُفِهِمْ. [الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ بِالْقَرَائِنِ وَالتَّخْصِيصِ بِالسَّبَبِ] قَالَ: وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْك التَّخْصِيصُ بِالْقَرَائِنِ بِالتَّخْصِيصِ بِالسَّبَبِ، كَمَا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ بِالسَّبَبِ غَيْرُ مُخْتَارٍ، فَإِنَّ السَّبَبَ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُورَدَ لَفْظٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَلَا يَنْتَهِضُ السَّبَبُ بِمُجَرَّدِهِ قَرِينَةً لِرَفْعِ هَذَا، بِخِلَافِ السِّيَاقِ فَإِنَّ بِهِ يَقَعُ التَّبْيِينُ وَالتَّعْيِينُ، أَمَّا التَّبْيِينُ فَفِي الْمُجْمَلَاتِ، وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَفِي الْمُحْتَمَلَاتِ. وَعَلَيْك بِاعْتِبَارِ هَذِهِ فِي أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُحَاوَرَاتِ تَجِدُ مِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُك حَصْرُهُ قَبْلَ اعْتِبَارِهِ. انْتَهَى. [مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ] مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ، سَوَاءٌ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ. وَنَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، فَقَالَ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قُلْت: إنَّهُ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ، وَقَدْ يَرِدُ مِنْ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَى الْعُمُومِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ دَلِيلَ الْخِلَافِ يَجْرِي مَجْرَى الْقِيَاسِ فِي بَابِ الْقُوَّةِ، فَلِهَذَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ. قَالَ:

وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّلِيلُ مُسْتَخْرَجًا مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنَّهُ يَخُصُّهُ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ " يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ أَوْ مِنْ اللَّفْظِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ. فَيُخَصُّ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِفَحْوَى أَدِلَّةِ الْكِتَابِ تَوَاتُرًا، كَانَتْ السُّنَّةُ أَوْ آحَادًا، وَيُخَصُّ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَآحَادُ السُّنَّةِ بِفَحْوَى أَدِلَّةِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ السُّنَّةِ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِفَحْوَى آحَادِ السُّنَّةِ، فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ. انْتَهَى. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا أَعْرِفُ خِلَافًا فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْسُنُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْحَنَفِيَّةِ مِنْ مَنْعِهِمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي إنْكَارِ الْمَفْهُومِ، لَكِنْ أَطْلَقَ الْإِمَامُ فِي الْمُنْتَخَبِ " أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ: دَلَالَتُهُ، إنْ قُلْنَا بِكَوْنِهِ أَضْعَفَ مِنْ النُّطْقِ، فَلَا تَخْصِيصَ بِهِ، وَتَوَقَّفَ فِي الْمَحْصُولِ " فَلَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ " قَدْ رَأَيْت فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْعُمُومِ، وَفِي كَلَامِ صَفِيِّ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، أَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى التَّخْصِيصِ بِهِ. قُلْت: وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَاوِي "، فَقَالَ: مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ قِيَاسًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَذَا يَجُوزُ

تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي جَوَازِ النَّسْخِ وَجْهَانِ. اهـ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، أَعْنِي قَطْعَهُ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ مَعَ تَرْجِيحِهِ كَوْنَهُ قِيَاسًا. وَكَانَ يَتَّجِهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ، لَكِنَّهُ هُنَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ، وَرُبَّمَا أَيَّدَ ذَلِكَ بِدَعْوَى الْآمِدِيَّ وَالْإِمَامِ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيهِمَا، أَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كَمَا إذَا وَرَدَ عَامٌّ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ، كَقَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ، ثُمَّ قَالَ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» . فَإِنَّ الْمَعْلُوفَةَ خَرَجَتْ بِالْمَفْهُومِ، فَيُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْأَوَّلِ. وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ، وَمَثَّلَ بِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: إذَا وَرَدَ الْعُمُومُ مُجَرَّدًا مِنْ صِفَةٍ، ثُمَّ أُعِيدَ بِصِفَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] مَعَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ: اُقْتُلُوا أَهْلَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ، وَيُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُخَصَّصُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْعُمُومِ. اهـ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَا، فَفِي شَرْحِ اللُّمَعِ "، إنْ قُلْنَا: إنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، امْتَنَعَ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: حُجَّةٌ، ابْتَنَى عَلَى أَنَّهُ فِي أَنَّهُ كَالنُّطْقِ أَوْ كَالْقِيَاسِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: كَالنُّطْقِ، جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: قِيَاسٌ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي التَّخْصِيصِ بِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ. اهـ. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ كَجٍّ بِالْخِلَافِ، فَقَالَ: عِنْدَنَا دَلِيلُ الْخِطَابِ يَخُصُّ

الْعُمُومَ، مِثْلُ قَوْلِهِ «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ثُمَّ قَالَ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُوفَةَ لَا زَكَاةَ فِيهَا، فَخَصَّصْنَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَيَنْقُلُ الْأَوَامِرَ مِنْ الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ لَا يَخُصُّ الْعُمُومَ، بَلْ يَكُونُ الْعُمُومُ مُقَدَّمًا، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْعُمُومَ نُطْقٌ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ مَفْهُومٌ مِنْ النُّطْقِ، فَكَانَ النُّطْقُ أَوْلَى، وَلَنَا إجْمَاعُنَا نَحْنُ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى الْقَوْلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، فَجَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ انْتَهَى. قَالَتْ: قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ قَوْلَيْنِ، وَأَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ النَّصِّ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] فَكَانَ عَامًّا فِي كُلٍّ مُطَلَّقَةٍ، ثُمَّ قَالَ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] فَكَانَ مَفْهُومُهُ أَنْ لَا مُتْعَةَ لِمَدْخُولٍ بِهَا، فَخُصَّ بِهَا فِي - أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ - عُمُومُ الْمُطَلَّقَاتِ، وَامْتَنَعَ مِنْ التَّخْصِيصِ [عَلَى الْقَوْلِ] الْآخَرِ. قُلْت: وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَجَعَلَهَا مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، مِنْ بَابِ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ: قَالَ: فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَكَانَ مَرَّةً يَذْهَبُ إلَى أَنَّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةً الَّتِي فُرِضَ لَهَا أَوْ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] عَامٌّ، وَقَوْلُهُ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] بَعْضُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْعُمُومُ، لِأَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ يَقْضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] لِأَنَّهَا أَخَصُّ

قَالَ: وَقَدْ قِيلَ إنَّ آيَةَ التَّخْصِيصِ لَمْ تَرِدْ فِي تَعْرِيفِ حُكْمِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، وَإِنَّمَا يُخَصُّ الْعَامُّ إذَا كَانَ فِي الْأَخَصِّ مُرَادُ التَّخْصِيصِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّخْصِيصِ إرَادَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فَلَيْسَ هُوَ حُجَّةٌ فِي إبَاحَةِ كُلِّ مِلْكِ يَمِينٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا تَعْرِيفُ الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَا الْمَدْحُ. اهـ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمِنْ الْمُخَصِّصِ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ وَصْفَانِ، فَتَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، فَهَذَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ قَوْلًا وَاحِدًا. اهـ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ ": الْعَامُّ إنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَإِذَا ذُكِرَ بَعْضُ الْأَفْرَادِ عُلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ الْمَذْكُورَةِ، كَقَوْلِهِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» . وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْجِنْسِ، فَالْحُكْمُ لِلْعُمُومِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] فَهَذَا عَامٌّ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] الْآيَةَ. فَلَمَّا احْتَمَلَ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِمَنْ لَمْ يُمَسَّ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا هُوَ ذِكْرٌ لِبَعْضِ الْجِنْسِ الَّذِي أُرِيدَ بِالْمُتْعَةِ، وَلَمْ يَنْفِ - مَعَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا - أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي لَفْظٍ وَلَا دَلِيلَ، اقْتَضَى الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ مُطَلَّقَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقُلْ هَذِهِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» مَعَ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ. وَقُلْ: سَائِمَةُ الْغَنَمِ وَالْعَامِلَةِ كَامِلَيْنِ هُنَا. قِيلَ: لَمَّا كَانَ مَفْهُومُ قَوْلِهِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ كَذَا. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَةَ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَكَمَا لَوْ رَفَعْنَا دَلَالَةَ مَا وَرَدَ فِي الْقُلَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ: «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» أَسْقَطْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ بِالْآخَرِ، صَلُحَ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ.

ثُمَّ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّك تَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ، فَمَا أَوْجَبَهُ حُكْمُهُمَا فَالْحُكْمُ لَهُ، وَحَقُّ الْكَلَامِ مَا يُقَيَّدُ بِهِ، حَتَّى يُعْلَمَ التَّوْكِيدُ فَإِنْ كَانَ إذَا ثَبَتَ الْعُمُومُ سَقَطَ دَلَالَةُ الشَّرْطِ، فَالْحُكْمُ لِمَا فِيهِ الشَّرْطُ، وَإِنْ كُنْت إذَا أَثْبَتَهُ لَمْ تَنْفِ دَلَالَةَ الْعُمُومِ أَجْرَيْته عَامًّا إلَى أَنْ تَقُومَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْعَامِلَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمَفْهُومِ الْمُحْتَمَلِ، لَكِنْ ثَبَتَ فَيَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ. قَالَ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَلَى جَوَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] مُرَتَّبًا عَلَى قَوْلِهِ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 236] مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ، وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُنَّ مَدْخُولٌ بِهِنَّ، فَتَثْبِيتُ الْمُتْعَةِ لِلْمَمْسُوسَةِ وَغَيْرِهَا بِهَذَا الدَّلِيلِ. اهـ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْعُمُومِ الْمَنْطُوقِ، فَإِذَا قَالَ: أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، ثُمَّ قَالَ: إنْ دَخَلَ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، كَانَ الثَّانِي أَقْوَى. وَالدَّلِيلَانِ إذَا تَعَارَضَا قُضِيَ بِأَقْوَاهُمَا، وَهَذَا عَكْسُ قَوْلِ الرَّازِيَّ فِي دَعْوَاهُ ضَعْفَ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، يَعْنِي بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهُ، لِأَنَّهُ دَلِيلٌ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْآيَةِ فَأَشْبَهَ الْقِيَاسَ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: إذَا قُلْنَا: بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، فَهَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ أَوْ الْقِيَاسِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا سُلَيْمٌ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ تَخْصِيصِ الْوَصْفِ بِالْحُكْمِ قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ. وَالثَّانِي:

بِمَنْزِلَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ مَعْنَاهُ. وَيَنْبَنِي عَلَيْهِمَا مَا إذَا عَارَضَهُ لَفْظُ آيَةٍ أَوْ خَبَرٍ. فَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ أَوْ خَبَرَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ. وَعَلَى الثَّانِي يُقَدَّمُ النُّطْقُ الْمُحْتَمَلُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ أَوْ أَخَصَّ. الثَّانِي: ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ إذَا عَارَضَهُ غَيْرُ النُّطْقِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، فَأَمَّا إذَا عَارَضَ نُطْقَهُ وَأَصْلَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُسْقِطَهُ وَيُبْطِلَهُ، أَوْ يَخُصَّهُ فَقَطْ. فَإِنْ اعْتَرَضَ بِالْإِسْقَاطِ وَالْإِبْطَالِ سَقَطَ الْمَفْهُومُ، وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» . نَصَّ عَلَى الْبُطْلَانِ بِغَيْرِ " إذْنٍ "، وَمَفْهُومُهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِالْإِذْنِ، إلَّا أَنَّهُ إذْ أُثْبِتَ النُّطْقُ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، وَبَيْنَ أَنْ تُنْكِحَ نَفْسَهَا بِإِذْنِهِ، فَعِنْدَنَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ فِيهِمَا، وَعِنْدَ الْخَصْمِ يَصِحُّ فِيهِمَا، فَإِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ جَوَازُ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ جَوَازُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَقَطَ النُّطْقُ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَفْهُومُ مُسْقِطًا لِأَصْلِهِ، وَيَثْبُتُ، فَيَسْقُطُ النُّطْقُ. وَإِنْ كَانَ الْمَفْهُومُ مُعْتَرِضًا عَلَى أَصْلِهِ بِالتَّخْصِيصِ كَمَفْهُومِ قَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ، وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ» فَقَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ، يَقْتَضِي تَحْرِيمَ جِهَاتِ الِانْتِقَاعِ بِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: حَرَّمَ ثَمَنَهُ يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَ الثَّمَنِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، فَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ ذَلِكَ النُّطْقِ الْمُحَرَّمِ. فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَفْهُومَ سَقَطَ، وَلَا يُخَصَّصُ عُمُومُ أَصْلِهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ جَوَّزَ تَخْصِيصَ أَصْلِهِ بِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. لِأَنَّهُ فَرْعُ الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ، وَيُسْقِطَ شَيْئًا مِنْ حُكْمِهِ. وَأَصْحَابُ

أَبِي حَنِيفَةَ يُجِيزُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْقِيَاسِ إذَا خَصَّ أَصْلَهُ، وَلَا نُجِيزُهُ نَحْنُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا نَحْنُ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا، فَأَمَّا دَلِيلُ الْخِطَابِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ حَتَّى نَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ فِي التَّخْصِيصِ بِهِ. اهـ. وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي دَلِيلِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ الثَّالِثُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَاجِبٌ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ دَلِيلٌ مِنْ الْمَفْهُومِ، فَيَسْقُطُ حِينَئِذٍ الْمَفْهُومُ، وَيَبْقَى الْعَامُّ عَلَى عُمُومِهِ مِثَالُهُ: نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، مَعَ قَوْلِهِ: «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» فَإِنَّا لَمْ نَقُلْ بِالْمَفْهُومِ، وَخَصَّصْنَا بِهِ الْعَامَّ، كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ حَيْثُ قَصَرَ الْعُمُومَ عَلَى الطَّعَامِ، لِأَنَّ مَعَنَا دَلِيلًا أَقْوَى مِنْ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ التَّنْبِيهُ، لِأَنَّ الطَّعَامَ إذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ غَيْرُهُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْهُومِ، وَالْقِيَاسُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الطَّعَامِ بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ، هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ. عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ أَجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ، وَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ لَا يُخَصِّصُ مَا عَدَاهُ. قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الِاسْمِ اللَّقَبِ أَمَّا الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ، فَإِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ، كَالْفَاسِقِ وَالنَّائِمِ. وَاعْتَرَضَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا. وَقَالُوا: تَرَكَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ

مسألة التخصيص بفعل الرسول عليه الصلاة والسلام على القول بأنه شرع لأمته

فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ، وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ» وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَفْهُومِهِ عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ» . وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ التَّنْبِيهَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَوَجْهُ التَّنْبِيهِ أَنَّهُ إذَا أُمِرَ بِالتَّحَالُفِ، وَهُنَاكَ سِلْعَةٌ قَائِمَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِ أَحَدِهِمَا، فَإِذَا كَانَتْ تَالِفَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا، فَهَذِهِ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ تَرْكَ دَلِيلِ الْخِطَابِ لِلْأَمْرِ بِالتَّحَالُفِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُدَّعٍ، وَمُدَّعًى عَلَيْهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ مَعَ التَّلَفِ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ لَهُ الْمَفْهُومُ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى التَّخْصِيصِ. لِأَنَّهُ إسْقَاطُ بَعْضِ حُكْمِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ يُوجِبُ إثْبَاتًا وَنَفْيًا، فَإِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ يُمْكِنُ لَهُ التَّخْصِيصُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ التَّخْصِيصُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَرْعٌ لِأُمَّتِهِ] مَسْأَلَةٌ [التَّخْصِيصُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَرْعٌ لِأُمَّتِهِ] إذَا قُلْنَا بِأَنَّ فِعْلَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرْعٌ لِأُمَّتِهِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى التَّخْصِيصِ بِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ هَذِهِ إذَا قُلْنَا: إنَّهَا عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ. فَإِنْ قُلْنَا: بِالتَّوَقُّفِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّهَا غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى شَيْءٍ. انْتَهَى.

وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ مِنْهُمْ الْكَرْخِيّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الْمَنْعَ إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا إذَا تَكَرَّرَ الْفِعْلُ، فَإِنَّهُ يُخَصُّ بِهِ الْعَامُّ بِالْإِجْمَاعِ. وَالثَّالِثُ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ "، التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْفِعْلِ الظَّاهِرِ فَيُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ، وَبَيْنَ الْفِعْلِ الْمُسْتَتِرِ فَلَا يُخَصُّ بِهِ. الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ لَا يَظْهَرَ كَوْنُ الْفِعْلِ مِنْ خَصَائِصِهِ، فَيُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ، فَإِنْ اُشْتُهِرَ كَوْنُهُ مِنْ خَصَائِصِهِ فَلَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ، وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ". وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إنَّهُ الْأَصَحُّ. قَالَ: وَلِهَذَا حَمَلَ الشَّافِعِيُّ «تَزْوِيجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ» عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ. وَالْخَامِسُ: الْوَقْفُ وَنُقِلَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَشَرَطَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ لِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ كَوْنَهُ مُنَافِيًا لِلظَّاهِرِ. قَالَ: فَأَمَّا الْفِعْلُ الْمُوَافِقُ لِلظَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ،

كَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] فَلَوْ أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَارِقِ مِجَنٍّ أَوْ رِدَاءٍ فَقَطَعَهُ، لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَخْصِيصِ الْقَطْعِ بِذَلِكَ الْمَسْرُوقِ، لِأَنَّهُ بَعْضُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ. قُلْت: وَيَنْبَغِي لِأَبِي ثَوْرٍ أَنْ يُخَالِفَ فِي هَذَا كَمَا سَبَقَ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إنَّمَا يُخَصُّ الْفِعْلُ إذَا عُرِفَ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْأَحْكَامِ، كَقَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْبَيَانَ فَلَا يَرْتَفِعُ أَصْلُ الْحُكْمِ بِفِعْلِهِ الْمُخَالِفِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، «كَنَهْيِهِ عَنْ الْوِصَالِ، ثُمَّ وَاصَلَ» . وَقَالَ: «إنِّي لَسْت كَأَحَدِكُمْ» . فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِفِعْلِهِ بَيَانَ الْحُكْمِ. وَكَذَلِكَ «نَهْيُهُ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا ثُمَّ رَآهُ ابْنُ عُمَرَ

مُسْتَدْبِرًا لِلْكَعْبَةِ» ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ، لِأَنَّهُ كَانَ بَيَانًا لِلْحُكْمِ وَالنَّهْيِ. وَالنَّهْيُ مُطْلَقًا، وَيُحْمَلُ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ. وَفَصَّلَ الْآمِدِيُّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ شَامِلًا لَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: تَرْكُ الْوِصَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ثُمَّ رَأَيْنَاهُ قَدْ وَاصَلَ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَتِهِ فِي حَقِّهِ، وَيَكُونُ مُخَصِّصًا لَهُ؛ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: التَّأَسِّي بِهِ وَاجِبٌ ارْتَفَعَ الْعُمُومُ، وَصَارَ نَسْخًا؛ وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَقِيَ الْعُمُومُ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا لِلْأُمَّةِ دُونَهُ فَفِعْلُهُ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا؛ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِيهِ وَإِنْ قِيلَ أَيْضًا بِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ عَلَى الْأُمَّةِ كَانَ نَسْخًا فِي حَقِّ الْأَمَةِ لَا تَخْصِيصًا، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا [هُوَ] التَّفْصِيلُ وَلَا أَرَى لِلْخِلَافِ فِي التَّخْصِيصِ بِفِعْلِهِ وَجْهًا. قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ تَخْصِيصَهُ وَحْدَهُ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافٌ، أَوْ تَخْصِيصَ غَيْرِهِ فَلَا تَخْصِيصَ؛ بَلْ نَسْخٌ، مَعَ أَنَّهُمْ فَرَضُوا الْمَسْأَلَةَ فِي التَّخْصِيصِ. ثُمَّ قَالَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي الْوَقْفُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ التَّأَسِّي عَامٌّ، فَلَيْسَ مُرَاعَاةُ أَحَدِ الْعُمُومَيْنِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْآخَرِ، وَذَكَرَ الْهِنْدِيُّ فِي النِّهَايَةِ " هَذَا التَّفْصِيلَ وَحَكَى فِيمَا إذَا كَانَ عَامًّا لِلْأُمَّةِ دُونَهُ، فَالْفِعْلُ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لَهُ، لِعَدَمِ دُخُولِهِ. وَهَلْ يَكُونُ تَخْصِيصًا أَوْ نَسْخًا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، فِيهِ التَّفْصِيلُ. وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ خَصَّتْ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ بِفِعْلِهِ فِي رَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ:

مسألة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم واحدا من المكلفين على خلاف مقتضى العام

وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ بِالنَّسْخِ أَشْبَهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَمَثَّلَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ بِرَجْمِهِ ثُمَّ قَالَ: فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ آيَةِ الْجَلْدِ بِالْأَبْكَارِ. [مَسْأَلَةٌ تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا مِنْ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَامِّ] مَسْأَلَةٌ تَقْرِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدًا مِنْ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَامِّ، هَلْ يَكُونُ مُخَصِّصًا إذَا وُجِدَتْ شَرَائِطُ التَّقْرِيرِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْفَاعِلِ؟ قَاطَعَ فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ فِي حَقِّهِ إذْ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كَانَ نَسْخًا فِي حَقِّهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ. فَإِنْ ثَبَتَتْ مُسَاوَاتُهُ لَهُ بِقَوْلِهِ: (حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ) وَنَحْوِهِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْعَامِّ عَنْ الْبَاقِي أَيْضًا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا، إنْ خَالَفَ ذَلِكَ جَمِيعَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَامُّ، وَيَكُونُ تَخْصِيصًا إنْ خَالَفَ فِي فَرْدٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا تَقْتُلُوا الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ رَأَيْنَا أَنَّ شَخْصًا قَتَلَ مُسْلِمًا، وَأَقَرَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى ذَلِكَ. فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقْتُولَ كَانَ يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ قَتْلُهُ. وَمَثَّلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ بِأَنَّ قَوْلَهُ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ»

مَخْصُوصٌ «بِتَرْكِهِ أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ» . قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَكَذَا «تَرْكُهُ أَخْذَ الزَّكَاةِ فِي النَّوَاضِحِ» وَإِقْرَارُهُ «تَرْكَ الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ قَاعِدًا» وَإِذَا قُلْنَا بِالتَّخْصِيصِ بِالتَّقْرِيرِ، فَهَلْ نَقُولُ وَقَعَ التَّخْصِيصُ بِنَفْسِ التَّقْرِيرِ، أَمْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ خُصَّ بِقَوْلٍ سَابِقٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ فُورَكٍ وَإِلْكِيَا، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لَهُمْ، إذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ إلَّا بِأَمْرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّقْرِيرَ وَقَعَ بِهِ التَّخْصِيصُ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ وَالطَّبَرِيُّ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْحَالِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ يَقْتَضِيَ تَرْجِيحَهُ قَالَا: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي «صَلَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَاعِدًا مَعَ صَلَاةِ الصَّحَابَةِ خَلْفَهُ قِيَامًا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَسَخَ قَوْلَهُ: «إذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا» عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ

مسألة الخطاب إذا علم خصوصه ولم يدر ما خصه كيف يعمل به

يَكُونُوا لِيَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَيَنْتَقِلُوا عَنْ الْحَالَةِ الْأُولَى إلَّا لِشَيْءٍ مُتَقَدِّمٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ نَقْلًا عَنْ الْحَالِ إنَّمَا هُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَيُتَوَصَّلُ بِالْحَالِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْخِطَابُ إذَا عُلِمَ خُصُوصُهُ وَلَمْ يُدْرَ مَا خَصَّهُ كَيْفَ يُعْمَلُ بِهِ] مَسْأَلَةٌ الْخِطَابُ إذَا عُلِمَ خُصُوصُهُ، وَلَمْ يُدْرَ مَا خَصَّهُ كَيْفَ يُعْمَلُ بِهِ؟ قَالَ ابْنُ فُورَكٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: مَنْ يَقُولُ: الْبَيَانُ لَا يَتَأَخَّرُ، فَيُحِيلُ هَذَا، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ هَذَا، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُمُومُ إلَّا مَوْضِعًا خُصَّ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِأَمْرٍ يَشْتَمِلُ عَلَى الْعُمُومِ أَمْضَيْنَاهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ خُصُوصٌ لَخَصَّهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقِفُ فِي هَذَا.

فصل فيما ظن أنه من مخصصات العموم

[فَصْلٌ فِيمَا ظُنَّ أَنَّهُ مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ] ِ [التَّخْصِيصِ بِالْعَادَةِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: أَطْلَقَ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا كَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ الْعَادَةَ لَا تُخَصِّصُ وَنَقَلَهُ فِي الْقَوَاطِعِ " عَنْ الْأَصْحَابِ، وَحَكَوْا الْخِلَافَ فِيهِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْجَبَ شَيْئًا أَوْ أَخْبَرَ بِهِ بِلَفْظٍ عَامٍّ، ثُمَّ رَأَيْنَا الْعَادَةَ جَارِيَةً بِتَرْكِ بَعْضِهَا أَوْ بِفِعْلِ بَعْضِهَا، فَهَلْ تُؤَثِّرُ تِلْكَ الْعَادَةُ فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ، حَتَّى يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَرْكِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ أَمْ لَا تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَلِغَيْرِهِ؟ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا صَاحِبُ الْمَحْصُولِ " وَأَتْبَاعُهُ، وَاخْتَارَ فِيهَا التَّفْصِيلَ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ عُلِمَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، مَعَ عَدَمِ مَنْعِهِ عَنْهَا فَيُخَصُّ، وَالْمُخَصِّصُ فِي الْحَقِيقَةِ تَقْرِيرُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَإِنْ عُلِمَ عَدَمُ جَرَيَانِهَا لَمْ يُخَصَّ إلَّا أَنْ يُجْمَعَ عَلَى فِعْلِهَا، فَيَكُونُ تَخْصِيصًا بِالْإِجْمَاعِ الْفِعْلِيِّ، وَإِنْ جُهِلَ فَاحْتِمَالَاتٌ.

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، كَأَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ مَثَلًا، ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَاهُمْ عَنْ تَنَاوُلِهِ بِلَفْظٍ مُتَنَاوِلٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَكْلِ الطَّعَامِ، فَهَلْ يَكُونُ النَّهْيُ مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ بِخُصُوصِهِ أَمْ لَا، بَلْ يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا تُؤَثِّرُ عَادَاتُهُمْ؟ قَالَ الصَّفِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّهَا لَا تُخَصِّصُ، لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ، وَهُوَ عَامٌّ، وَالْعَادَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، حَتَّى تَكُونَ مُعَارِضَةً لَهُ. انْتَهَى. وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَتَفَطَّنْ لِذَلِكَ، فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ حَاوَلَ الْجَمْعَ بَيْنَ كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْآمِدِيَّ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمَا تَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُمَا حَالَتَانِ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْقِيحِ " وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْعَادَةَ السَّابِقَةَ عَلَى الْعُمُومِ يَجْعَلُهَا مُخَصِّصَةً، وَالطَّارِئَةُ بَعْدَ الْعُمُومِ لَا يُقْضَى بِهَا عَلَى الْعُمُومِ، قَالَ: وَنَظِيرُهُ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يُحْمَلُ عَلَى الْعَادَةِ الْحَاضِرَةِ فِي النَّقْدِ، لَا عَلَى مَا يَطْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَائِدِ فِي النُّقُودِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْعَوَائِدِ مَا كَانَ مُقَارِنًا لَهَا، وَكَذَا نُصُوصُ الشَّارِعِ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَخْصِيصِهَا إلَّا الْمُقَارِنُ. وَمِمَّنْ اقْتَصَرَ عَلَى إيرَادِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ فِي الْأُصُولِ، وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَقَالَ: الْعَادَةُ لَا تَخُصُّ الْعَامَّ مِنْ الشَّارِعِ، فَلَوْ عَمَّ فِي النَّاسِ طَعَامٌ وَشَرَابٌ وَكَانُوا لَا يَعْتَادُونَ تَنَاوُلَ غَيْرِهِمَا، فَإِذَا وَرَدَ نَهْيٌ مُطْلَقٌ عَنْ الطَّعَامِ لَمْ يَخْتَصَّ بِالْمُعْتَادِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْعُرْفُ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ،

وَحُمِلَ الطَّعَامُ عَلَى الْبُرِّ، لِأَنَّهُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْحِجَازِ كَذَلِكَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. قَالَ: وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَرِدَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَبَرٌ فِي بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعَادَةُ النَّاسِ تُخَالِفُهُ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ، وَإِطْرَاحُ تِلْكَ الْعَادَةِ. قَالَ: وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ خَصَّصْتُمْ عُمُومُ لَفْظِ الْيَمِينِ بِالْعَادَةِ، فَقُلْتُمْ: إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا، أَوْ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِمَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ مِنْ الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ؟ فَهَلَّا قُلْتُمْ فِي أَلْفَاظِ الشَّارِعِ مِثْلَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: نَحْنُ لَا نَخُصُّ الْيَمِينَ بِعُرْفِ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا نَخُصُّهُ بِعُرْفِ الشَّرْعِ، مِثْلُ: لَا يُصَلِّي أَوْ لَا يَصُومُ، فَيَحْنَثُ بِالشَّرْعِيِّ، أَوْ بِعُرْفٍ قَائِمٍ بِالِاسْمِ مِثْلُ: لَا يَأْكُلُ الْبَيْضَ أَوْ الرُّءُوسَ الَّذِي يُقْصَدُ بِالْأَكْلِ فَيُخَصُّ الْيَمِينُ بِعُرْفٍ قَائِمٍ فِي الِاسْمِ، فَأَمَّا بِعُرْفِ الْعَادَةِ فَلَا يُخَصُّ، فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا بِبَلَدٍ لَا يُؤْكَلُ فِيهِ إلَّا خُبْزُ الْأَرُزِّ، حَنِثَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللِّسَانِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِعُمُومِ ذَلِكَ الِاسْمِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ، لِأَنَّ الْخِطَابَ إنَّمَا يَقَعُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى حَقِيقَةِ لُغَتِهَا، فَلَوْ خَصَّصْنَاهُ بِالْعَادَةِ لَلَزِمَ تَنَاوُلُهُ بَعْضَ مَا وُضِعَ لَهُ؟ وَحَقُّ الْكَلَامِ الْعُمُومُ، وَلَسْنَا نَدْرِي: هَلْ أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَالْحُكْمُ لِلِاسْمِ، حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ. قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ اللَّهِ وَخِطَابِ رَسُولِهِ، فَأَمَّا خِطَابُ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا، فَيُنَزَّلُ عَلَى مَوْضُوعَاتِهِمْ كَنَقْدِ الْبَلَدِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَغَيْرِهِ، إذَا أَرَادُوهُ، وَإِلَّا عُمِلَ بِالْعَامِّ. وَلَا يُحَالُ اللَّفْظُ عَنْ حَقِّهِ إلَّا بِدَلِيلٍ انْتَهَى. وَقَالَ سُلَيْمٌ: لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْعَادَةِ، مِثْلُ أَنْ يَرِدَ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعَادَةُ النَّاسِ تُخَالِفُهُ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ،

وَإِطْرَاحُ تِلْكَ الْعَادَةِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَرِدُ لِنَقْلِ النَّاسِ عَنْ عَادَتِهِمْ، فَلَا يُتْرَكُ بِهَا. انْتَهَى. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ مِنْ النِّهَايَةِ ": يَجِبُ فِي خَمْسٍ شَاةٌ، أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ غَنَمِ غَالِبِ الْبَلَدِ وَغَيْرِهِ. لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي خَمْسٍ شَاةٌ» ، وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَلَفْظُ الشَّارِعِ لَا يَتَخَصَّصُ بِالْعُرْفِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ. ثُمَّ هُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي تُخَصِّصُ إنَّمَا هِيَ السَّابِقَةُ لِوَقْتِ اللَّفْظِ الْمُسْتَقَرِّ، وَقَارَنَتْهُ حَتَّى تُجْعَلَ كَالْمَلْفُوظِ بِهَا، فَإِنَّ الْعَادَةَ الطَّارِئَةَ بَعْدَ الْعَامِّ لَا أَثَرَ لَهَا، وَلَا يُنَزَّلُ اللَّفْظُ السَّابِقُ عَلَيْهَا قَطْعًا؛ وَأَغْرَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَحَكَى خِلَافًا فِي أَنَّ الْعُرْفَ الطَّارِئَ، هَلْ يُخَصِّصُ الْأَلْفَاظَ الْمُتَقَدِّمَةَ؟ الثَّانِي: أَطْلَقَ كَثِيرُونَ التَّخْصِيصَ بِالْعَادَةِ، وَخَصَّهَا الْمُحَقِّقُونَ بِالْقَوْلِيَّةِ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " الْعَادَةُ الَّتِي تُخَالِفُ الْعُمُومَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: عَادَةٌ فِي الْفِعْلِ وَالْآخَرُ عَادَةٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعُمُومِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِأَنْ يَعْتَادَ النَّاسُ شُرْبَ بَعْضِ الدِّمَاءِ، فَيُحَرِّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدِّمَاءَ بِكَلَامٍ يَعُمُّهَا، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذِهِ الْعُمُومِ. بَلْ يَجِبُ تَحْرِيمُ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مُسْتَغْرِقًا فِي اللُّغَةِ، وَيَتَعَارَفُ النَّاسُ الِاسْتِعْمَالَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَقَطْ. كَاسْمِ الدَّابَّةِ، فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ

لِكُلِّ مَا دَبَّ وَقَدْ تُعُورِفَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْلِ فَقَطْ، فَمَتَى أَمَرَنَا اللَّهُ بِالدَّابَّةِ لِشَيْءٍ حُمِلَ عَلَى الْعُرْفِ، لِأَنَّهُ بِهِ أَحَقُّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَخْصِيصٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ لَا يُعْتَادَ الْفِعْلُ أَوْ لَا يُعْتَادُ إطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى الْمُسَمَّى. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ مِثْلَهُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: إنْ كَانَتْ الْعَادَةُ فِعْلِيَّةً لَمْ تَخُصَّ الْعُمُومَ، كَغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ، هَلْ يُحْمَلُ عَلَى إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ إلَّا بِهِ، أَوْ يَعُمَّ الْمَاءَ وَالطَّعَامَ وَغَيْرَهُ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَإِنْ كَانَتْ قَوْلِيَّةً، كَأَنْ يَعْتَادَ الْمُخَاطَبُونَ إطْلَاقَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عَلَى الضَّأْنِ دُونَ مَا سِوَاهُ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. فَالشَّافِعِيُّ لَا يُخَصِّصُ بِهَذِهِ الْعَادَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُخَصِّصُ بِهَا. قَالَ: وَهَذَا فِيهَا إذَا كَانَ التَّعَارُفُ بَيْنَ غَيْرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَأَمَّا تَعَارُفُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى تَسْمِيَةٍ، فَإِنَّهُ يُرْجَعُ إلَيْهِ إذَا وَجَبَ التَّمَسُّكُ بِلُغَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعَارُفِ مَنْ سِوَاهُمْ عَلَى قَصْرِ مُسَمَّيَاتِهِمْ عَلَى بَعْضِ مَا وُضِعَتْ لَهُ، هَلْ يُقَدَّمُ الْعُرْفِيُّ أَوْ اللُّغَوِيُّ؟ وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: الْعَادَةُ إنْ كَانَتْ فِعْلِيَّةً لَمْ يُخَصَّ بِهَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: حَرَّمْت عَلَيْكُمْ أَكْلَ اللُّحُومِ، وَعَادَتُهُمْ أَكْلُ لُحُومِ الْغَنَمِ، فَيَجْرِي الْعَامُّ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَةً فِي التَّخَاطُبِ خُصَّ بِهَا الْعُمُومُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَا تَرْكَبُوا دَابَّةً، فَيُخَصُّ بِهَا الْخَيْلُ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَفْهُومُ فِي عَادَةِ التَّخَاطُبِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْخَارِجِ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ، وَهُوَ عَامٌّ غَيْرَ أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا خَصُّوهُ

بِالْأَحْدَاثِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَوْ خَرَجَ مَا لَا يُعْتَادُ كَالْحَصَى وَالدُّودِ لَمْ يَكُنْ نَاقِضًا وَإِنَّمَا صَارَ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا أُطْلِقَ لَمْ يَتَبَادَرْ الذِّهْنُ إلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ نَصًّا، وَكَانَ غَيْرُهُ غَيْرَ مُرَادٍ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي الْأَصْلِ ابْتَنَى الْخِلَافُ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ، فَإِذَا حَلَفَ بِلَفْظٍ لَهُ عُرْفٌ فِعْلِيٌّ، وَوَضْعٌ لُغَوِيٌّ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْوَضْعِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ؟ قَوْلَانِ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: شَذَّ الْآمِدِيُّ بِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمَازِرِيِّ حِكَايَةُ خِلَافٍ فِي ذَلِكَ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ. لَعَلَّهُ مِمَّا الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْقَوْلِيَّةُ بِالْفِعْلِيَّةِ. وَأَظُنُّ أَنِّي سَمِعْت الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ يَحْكِي الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُخَصِّصُ، أَعْنِي الْفِعْلِيَّةَ. وَقَالَ الْعَالَمِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: الْعَادَةُ الْفِعْلِيَّةُ لَا تَكُونُ مُخَصِّصَةً إلَّا أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى اسْتِحْسَانِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا تَخْصِيصٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالْعَادَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ إلْكِيَا: الْخِلَافُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ لَا يَعْنِي بِهَا الْفِعْلِيَّةَ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ تِلْكَ الْعَادَةِ وَإِنَّمَا الْمَعْنِيُّ بِهَا اسْتِعْمَالُ الْعُرْفِ فِي بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُمْ فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ، فَيَبْتَنِي عَلَيْهَا، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ، فَيَتَّبِعُ مَوْضُوعَ اللُّغَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيرٍ، لِأَنَّهُ قَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِالْخِلَافِ فِيهَا، وَتَرْجِيحُ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فِيهَا. وَالصَّوَابُ أَنْ يُفَصِّلَ بَيْنَ عَادَةٍ تَرْجِعُ إلَى الْفِعْلِ، وَعَادَةٍ تَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ؛ فَمَا يَرْجِعُ إلَى الْفِعْلِ يُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ فِيهِ الْعُمُومُ عَلَى الْعَادَةِ، مِثْلُ أَنْ يُحَرَّمَ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ، وَيَكُونَ الْعَادَةُ بَيْعَ الْبُرِّ مِنْهُ، فَلَا يُخَصَّصُ عُمُومُ اللَّفْظِ بِهَذِهِ الْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ.

وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْعُرْفِ اعْتَادُوا تَخْصِيصَ اللَّفْظِ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ اعْتِبَارًا بِمَا سَبَقَ الذِّهْنُ بِسَبَبِهِ إلَى ذَلِكَ الْخَاصِّ، فَإِذَا أُطْلِقَ اللَّفْظُ الْعَامُّ فَيَقْوَى تَنْزِيلُهُ عَلَى الْخَاصِّ الْمُعْتَادِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ بِاللَّفْظِ عَلَى مَا شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ. اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " الْمُعْتَزِلِيُّ: أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُونَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِالْعَادَاتِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يُخَصُّ بِالْعُرْفِ فِي الْأَقْوَالِ، وَلَا يُخَصُّ بِهِ فِي الْأَفْعَالِ فَإِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: اشْتَرِ دَابَّةً، فَاشْتَرَى كَلْبًا، كَانَ مُخَالِفًا، لِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي كُلِّ مَا دَبَّ إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ قَدْ قَيَّدَهُ بِالْخَيْلِ، وَلَوْ قَالَ اشْتَرِ لَحْمًا، فَاشْتَرَى لَحْمَ كَلْبٍ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا، لِأَنَّ الِاسْمَ عَامٌّ فِي كُلِّ لَحْمٍ، وَالْعُرْفُ فِي الْفِعْلِ خَاصٌّ فِي بَعْضِ اللُّحْمَانِ فَلَمْ يُخَصَّ الْعَامُّ بِالْعُرْفِ فِي الْفِعْلِ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالٌ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ عُرْفَ أَهْلِ اللِّسَانِ كَالدَّابَّةِ وَالْغَائِطِ، فَهَذَا لَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ قَطْعًا، إنْ قُلْنَا: إنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي اللُّغَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَتَصَرَّفُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ عُرْفِهِ، وَوَجَبَ التَّخْصِيصُ بِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ لِغَيْرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَمْ يَكُنْ الشَّرْعُ يَعْرِفُ غَيْرَ عُرْفِهِمْ فِي الِاخْتِصَاصِ، فَهَذَا يَجِبُ أَنْ تُنَزَّلَ أَلْفَاظُ الشَّارِعِ عَلَى مُقْتَضَاهَا، إمَّا فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي عُرْفِ السَّامِعِ، وَهَذَا لَا يُتَّجَهُ فِيهِ خِلَافٌ، إذْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ خِطَابِهِمْ عَلَى حَسَبِ عُرْفِهِمْ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ؟ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ لَيْسُوا أَهْلَ لُغَةٍ، وَالشَّارِعُ يَعْرِفُ عُرْفَهُمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ خِطَابُهُمْ عَلَى مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ، وَلَا يَظْهَرُ الْإِضْرَابُ عَنْ ذَلِكَ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَى مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ أَمْ لَا؟

الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ اعْتَادُوا بَعْضَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعُمُومُ، كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ اللَّحْمِ مَثَلًا، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ أَكْلَ لَحْمٍ مَخْصُوصٍ، فَهَلْ يَكُونُ النَّهْيُ مَقْصُورًا عَلَى مَا اعْتَادُوا أَكْلَهُ أَمْ لَا؟ هَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ تَخْصِيصُ الْأَيْمَانِ بِالْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ خِلَافًا لِمَا سَبَقَ عَنْ الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّهُ لَمَّا حُمِلَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّقِيقِ: «وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ» الْحَدِيثَ، عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، دُونَ الْوُجُوبِ، حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَتْ مَطَاعِمُهُمْ وَمَلَابِسُهُمْ مُتَفَاوِتَةً، وَكَانَ عَيْشُهُمْ ضَيِّقًا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ، وَخَالَفَ مَعَاشُهُ مَعَاشَ السَّلَفِ وَالْعَرَبِ فِي أَكْلِ رَقِيقِ الطَّعَامِ، وَلُبْسِ جَيِّدِ الثِّيَابِ، فَلَوْ وَاسَى رَقِيقَهُ كَانَ أَكْرَمَ وَأَحْسَنَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلَهُ مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ» ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَا عُرِفَ لِمِثْلِهِ فِي بَلَدِهِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ: فَأَنْتَ تَرَاهُ كَيْفَ خَصَّصَ عُمُومَ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِعْلَهُ فِي تِلْكَ الْأَزْمَانِ. قُلْت: إنَّمَا خَصَّصَهُ بِقَوْلِهِ: «نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ» ، وَفَسَّرَ الْمَعْرُوفَ بِالْعُرْفِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ، وَسَاعَدَهُ

التخصيص بقول الصحابي

فِي حَمْلِ الْأَوَّلِ عَادَةُ الْمُخَاطَبِينَ، وَكَلَامُنَا فِي التَّخْصِيصِ بِمُجَرَّدِ الْعَادَةِ لَا بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، فَلَيْسَ فِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ مَا ذُكِرَ. الثَّانِي: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُخَصِّصَ هُوَ تَقْرِيرُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْعَادَةُ كَاشِفَةٌ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْعَادَةُ مَوْجُودَةً فِي عَهْدِهِ أَوْ كَانَتْ، وَلَمْ يَعْلَمْهَا، أَوْ عَلِمَ بِهَا وَلَكِنْ لَمْ يَخُصَّ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْمِثَالَ السَّائِرَ لَا يَكُونُ دَلِيلًا مِنْ الشَّرْعِ إلَّا مَعَ الْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ هُوَ الْمُخَصِّصُ لَا الْعَادَةُ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا إفْرَادُهَا بِمَسْأَلَةِ التَّخْصِيصِ بِتَقْرِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا. [التَّخْصِيصُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَامًّا فَيَخُصُّهُ الصَّحَابِيُّ بِأَحَدِ أَفْرَادِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّاوِي لَهُ أَوْ لَا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ رَاوِيهِ، كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» . وَحَدِيثِ عَلِيٍّ: «قَدْ عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ، وَالرَّقِيقِ» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَخْصِيصُ الْخَيْلِ بِمَا يُغْزَى عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَمَّا غَيْرُهَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَعَنْ عُثْمَانَ

تَخْصِيصُهُ بِالسَّائِمَةِ، وَأَخَذَ مِنْ الْمَعْلُوفَةِ الزَّكَاةَ، وَعَنْ عُمَرَ نَحْوُهُ. فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَسُلَيْمٌ، وَالشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ ": يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ إذَا انْتَشَرَ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ، وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إمَّا إجْمَاعٌ أَوْ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَلَى الْخِلَافِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْتَشِرْ فِي الْبَاقِينَ، فَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَلَا يُخَصُّ بِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ: هُوَ حُجَّةٌ، تُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَهَلْ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُخَصُّ بِهِ، لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ، وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ أَوْلَى. وَالثَّانِي: لَا يُخَصُّ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَتْ تَتْرُكُ أَقْوَالَهَا لِظَاهِرِ السُّنَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ حِكَايَةِ الْوَجْهَيْنِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِحُجِّيَّتِهِ، حَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ أَيْضًا، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ "، وَنَقَلَهُمَا عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ فِي الْإِيضَاحِ ". وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلِ بِكَوْنِهِ تَخْصِيصًا عَلَى الْقَدِيمِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لَكِنْ سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَنْصُوصٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ مَعْمَرِ بْنِ نَضْلَةَ فِي تَخْصِيصِهِ الِاحْتِكَارَ بِالطَّعَامِ حَالَةَ الضِّيقِ عَلَى

تخصيص الحديث بمذهب راويه من الصحابة

النَّاسِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَخْصِيصِ الْمُرْتَدِّ بِالرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَلَا قَوْلَ مَنْ خَصَّ نَفْيَ الزَّكَاةِ عَنْ الْخَيْلِ بِبَعْضِ أَصْنَافِهَا. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ فِي الْجَدِيدِ مِنْ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَوْ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ خَالَفُوهُمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَتَلَ الْمُرْتَدَّةَ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ عَنْ الْخَيْلِ، لَمَّا سَأَلَهُ أَرْبَابُهَا ذَلِكَ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُهُمْ فَبَقِيَ الْعَامُّ عَلَى عُمُومِهِ وَمَا جَزَمُوا بِهِ مِنْ التَّخْصِيصِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مُخَالِفٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ خِلَافًا مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي تَقْلِيدِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ مَحَلُّ وِفَاقٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الظَّاهِرِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَا يَقَعُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ أَنْ يُخَصَّ الظَّاهِرُ بِهِ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ قَبُولِ قَوْلِهِ إذَا انْتَشَرَ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِمْهُ قِيَاسٌ، لِأَنَّا نُقَدِّمُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، فَإِذَا خُصَّ بِالْقِيَاسِ كَانَ بِأَنْ يُخَصَّ بِقَوْلِهِ الَّذِي هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَبَرُ غَيْرَ مُحْتَمِلٍ أَوْ عَارَضَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِالْخَبَرِ، وَيُتْرَكُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الصَّحَابِيُّ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ الْخَبَرُ عُمِلَ بِالْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فَالْعَمَلُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ. [تَخْصِيصُ الْحَدِيثِ بِمَذْهَبِ رَاوِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ] الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّاوِي، كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» فَإِنَّ لَفْظَةَ: " مَنْ " عَامَّةٌ فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَقَدْ رُوِيَ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ تُحْبَسُ وَلَا تُقْتَلُ، فَخَصَّ الْحَدِيثَ بِالرِّجَالِ، فَإِنْ قُلْنَا: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، خُصَّ عَلَى الْمُخْتَارِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": وَقَدْ نُسِبَ ذَلِكَ إلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الَّذِي يُقَلِّدُ الصَّحَابِيَّ فِيهِ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِهِ، إلَّا إذَا انْتَشَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَجُعِلَ ذَلِكَ نَازِلًا مَنْزِلَةَ الْإِجْمَاعِ. وَإِنْ قُلْنَا: قَوْلُهُ: غَيْرُ حُجَّةٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُخَصُّ بِهِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْعَدْلَ لَا يَتْرُكُ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَعْمَلُ بِخِلَافِهِ إلَّا لِنَسْخٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَلَنَا أَنَّ الْحُجَّةَ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ عَامٌّ، وَتَخْصِيصُ الرَّاوِي لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَصَّهُ بِدَلِيلٍ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ لَوْ ظَهَرَ، فَلَا يَتْرُكُ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ الْمُحَقَّقَةَ لِمُحْتَمَلٍ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَدْ يُخَالِفُ فِي هَذَا وَيَقُولُ: إنَّ الْقَرَائِنَ تُخَصِّصُ الْعُمُومِ، وَالرَّاوِي يُشَاهِدُ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا لَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُهُ، وَعَدَالَتُهُ وَتَيَقُّظُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْعُمُومَ مِمَّا لَا يُخَصُّ إلَّا بِمُوجِبٍ مِمَّا يَمْنَعُهُ أَنْ يُحْكَمَ بِالتَّخْصِيصِ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ، وَجَهَالَتُهُ دَلَالَةَ مَا ظَنَّهُ مُخَصِّصًا عَلَى التَّخْصِيصِ يَمْنَعُ مِنْهُ مَعْرِفَتُهُ بِاللِّسَانِ، وَتَيَقُّظُهُ. اهـ. وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " فِي هَذَا الضَّرْبِ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ لَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْحَدِيثِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: لَا يَخُصُّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَكَلَامُ مَنْ جَزَمَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّ تَخْرِيجَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ أَمْ لَا، لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ

الرَّاوِي لَهُ أَمْ لَا، لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى قَرَائِنَ حَالِيَّةٍ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ آخَرَ لَمْ يَرْوِ الْخَبَرَ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَلَوْ بَلَغَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ. وَإِلَى هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ يُرْشِدُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْمُخْتَصَرِ " بِقَوْلِهِ: مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَا يُخَصِّصُ، وَلَوْ كَانَ الرَّاوِي، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ إنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِهِ، لَمْ يُخَصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي بَلْ بِهِ، إنْ اقْتَضَى نَظَرُ النَّاظِرِ فِيهِ ذَلِكَ وَإِلَّا خُصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَمَثَّلَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " هَذَا الْقِسْمَ بِحَدِيثِ «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» . قَالَ: وَحَمَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى فَرَسِ الْغَازِي لِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَا يُعْرَفُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: إذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ خَبَرًا، وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ، فَاَلَّذِي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِفِعْلِهِ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ مُجَرَّدَ مَذْهَبِ الرَّاوِي لَا يُبْطِلُ الْحَدِيثَ وَلَا يَدْفَعُهُ، لَكِنْ إنْ صَدَرَ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ مِنْهُ مَصْدَرَ التَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ فَيُقْبَلُ، وَتَخْصِيصُهُ أَوْلَى. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا رَوَاهُ إذَا كَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا كَانَ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَعَمِلَ بِخِلَافِ مَا رُوِيَ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ. قَالَ وَالِاخْتِيَارُ مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ إنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا نِسْيَانَهُ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ، أَوْ فَرَضْنَا مُخَالَفَتَهُ

لِخَبَرٍ لَمْ يَرْوِهِ وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ فَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ وَإِنْ رَوَى خَبَرًا مُقْتَضَاهُ رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ يَتَحَرَّجُ فَالِاسْتِمْسَاكُ بِالْخَبَرِ، وَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَرَعِ. وَإِنْ نَاقَضَ عَمَلُهُ رِوَايَتَهُ، وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا فِي الْجَمِيعِ امْتَنَعَ التَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَعْمِدَ إلَى مُخَالَفَةِ مَا رَوَاهُ إلَّا عَنْ سَبَبٍ يُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إنْ فَعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ فَلَا احْتِجَاجَ بِمَا رَوَاهُ، وَإِنْ فَعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ أَخْرَجَهُ ذَلِكَ عَنْ رُتْبَةِ الْفِقْهِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ، كَمَا صَارَ إلَيْهِ ابْنُ أَبَانَ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ شَيْئًا يَقْتَضِي تَرْكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ. وَيُتَّجَهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ ثَمَّ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ لَوَجَبَ عَلَى هَذَا الرَّاوِي أَنْ يُثْبِتَهُ، إذْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِ مَا عَلَيْهِ مَدَارُ الْأَمْرِ، وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ الْتِبَاسٍ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ: إذَا رَوَى الرَّاوِي خَبَرًا، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُحِطْ بِمَعْنَاهُ فَمُخَالَفَتُهُ لِلْخَبَرِ لَا تَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ نَاسٍ لِلْخَبَرِ أَوْ ذَاكِرٌ لِمَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَالتَّعَلُّقُ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْنُ عَلَى تَرَدُّدٍ فِيمَا يَدْفَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ، فَلَا يُدْفَعُ الْأَصْلُ بِهَذَا التَّرَدُّدِ، بَلْ إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ خَالَفَ الْحَدِيثَ قَصْدًا وَلَمْ نُحَقِّقْهُ، فَهَذَا يُعَضِّدُ التَّأْوِيلَ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيَحُطُّ مَرْتَبَةَ الظَّاهِرِ، وَيُخَصُّ الْأَمْرُ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي عَضَّدَهُ التَّأْوِيلُ. وَقَالَ إلْكِيَا وَابْنُ فُورَكٍ: الْمُخْتَارُ أَنَّا إنْ عَلِمْنَا مِنْ حَالِ الرَّاوِي أَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا عَلِمَ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَبَ اتِّبَاعُهُ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى وَجْهِ اسْتِدْلَالٍ أَوْ تَخْصِيصًا بِخَبَرٍ آخَرَ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ. قُلْت: وَسَكَتَا عَنْ حَالَةٍ ثَالِثَةٍ، وَهِيَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ الْحَالُ. وَكَأَنَّهَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ "

فَالْأَحْوَالُ إذَنْ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُعْلَمَ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَخْرَجِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْخُصُوصُ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ الرَّاوِي فِيهِ. الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ خُصَّ الْخَبَرُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، أَوْ ضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْخَبَرِ قَطْعًا. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ مَا لِأَجْلِهِ خُصَّ الْخَبَرُ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلٍ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَالرَّاجِحُ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الرَّاوِي لِلْخَبَرِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ قَالَ: وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَإِذَا فَسَّرَهُ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ أَخَذْنَا بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» حَيْثُ فَسَّرَهُ بِالتَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ. فَأَمَّا مَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيّ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ إلَى أَنَّهُ يُخَصُّ عُمُومُ الْخَبَرِ، وَتَرْكُ ظَاهِرِهِ بِقَوْلِ الرَّاوِي وَبِمَذْهَبِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْخَبَرِ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ، فَالْمَكَانُ الَّذِي نَقْبَلُ قَوْلَهُ فِيهِ لَا يَقْبَلُونَهُ، وَالْمَكَانُ الَّذِي يَقْبَلُونَهُ لَا نَقْبَلُهُ تَنْبِيهَاتٌ [هَلْ يُخَصُّ الْحَدِيثُ بِقَوْلِ رَاوِيهِ مِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ] الْأَوَّلُ: زَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّاوِي صَحَابِيًّا، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَاهَدَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خِلَافَ مَا رَوَاهُ، فَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا غَيْرُ الصَّحَابِيِّ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافٌ فِي أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى رِوَايَتِهِ. اهـ. وَغَرَّهُ فِي ذَلِكَ بِنَاؤُهُمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الصَّحَابِيِّ، لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّخْصِيصِ بِقَوْلِ الرَّاوِي لَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابِيِّ، بَلْ وَلَا بِصُورَةِ التَّخْصِيصِ؛ بَلْ الرَّاوِي

مُطْلَقًا مِنْ الصَّحَابِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ، إذَا خَالَفَ الْخَبَرَ بِتَخْصِيصٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، حَتَّى إذَا تَرَكَهُ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ مَذْهَبُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْخَبَرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقَيِّدْ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ " بِالرَّاوِي الصَّحَابِيِّ، بَلْ أَطْلَقَ. وَلَكِنْ قَيَّدَ الْمُخَالَفَةَ بِحَالَةِ التَّخْصِيصِ، وَلَا تَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ. وَصَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ: وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ يَعْنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّحَابِيِّ فَلَوْ رَوَى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ حَدِيثًا، وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ فَالْأَمْرُ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ، وَلَكِنْ قَدْ اعْتَرَضَ الْأَئِمَّةَ أُمُورٌ أَسْقَطَتْ آثَارَ أَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِرِوَايَتِهِمْ، وَهَذَا كَرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى مُخَالَفَتِهِ، فَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي الرِّوَايَةِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِهِ تَقْدِيمُ الرَّأْيِ عَلَى الْخَبَرِ، فَمُخَالَفَتُهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى بِنَائِهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ؟ وَكَرِوَايَةِ مَالِكٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ أَيْضًا لَا تَقْدَحُ فِي الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا فِيمَا أَظُنُّ تَقْدِيمُهُ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ هَكَذَا. ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّاوِي يَرْوِي، ثُمَّ يُخَالِفُ، بَلْ يَجْرِي فِيمَنْ بَلَغَهُ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يُخَالِفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الرَّاوِي لِذَلِكَ الْخَبَرِ، حَتَّى إذَا وَجَدْنَا مَحْمَلًا، وَقُلْنَا: إنَّمَا خَالَفَ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ الرَّاوِي، فَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يُتَّجَهْ وَجْهٌ لِمُخَالَفَتِهِ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا الْمَصِيرُ إلَى اسْتِخْفَافِهِ بِالْخَبَرِ فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا قَدْحٌ فِي الْخَبَرِ، وَعِلْمٌ بِضَعْفِهِ. اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَقْدِيمِ قَوْلِ الرَّاوِي مُطْلَقَةٌ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ

الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ، وَتَعَقَّبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ هَلْ تَقَدَّمَ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ قَبْلَ سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الْحَدِيثُ، وَالْحَقُّ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ اتَّجَهَ قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ. اهـ. وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الدَّلِيلِ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ، وَهِيَ مَفْقُودَةٌ. وَهَذَا الْبَحْثُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمَسْأَلَةِ بِالصَّحَابِيِّ وَمِثَالُ تَخْصِيصِ الرَّاوِي غَيْرِ الصَّحَابِيِّ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَفِيهِ: وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَحْتَكِرُ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: كَانَ مَعْمَرٌ يَحْتَكِرُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَا يَحْتَكِرَانِ الزَّيْتَ، وَحَمَلَا الْحَدِيثَ عَلَى احْتِكَارِ الْقُوتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَالْغَلَاءِ، وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّافِعِيُّ، لَكِنَّهُ خُصِّصَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، لَا بِقَوْلِ سَعِيدٍ. نَعَمْ، قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي " الشَّهَادَاتِ ": إنَّمَا اخْتَصَّ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينُ بِالْأَمْوَالِ، لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رَوَى الْخَبَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمَّا رَوَاهُ قَالَ: وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ. وَقَوْلُ الرَّاوِي مُتَّبَعٌ فِي تَفْسِيرِ مَا يَرْوِيهِ وَتَخْصِيصِهِ. انْتَهَى. الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّاوِي أَوْ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَهُ وَانْتَشَرَ، وَلَمْ يُخَالَفْ، خُصَّ بِهِ هُوَ الصَّوَابُ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَارِدَةٌ عَلَى مَنْ أَطْلَقَ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَوْ غَيْرُهُ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ.

مسألة في تخصيص العموم بالسبب

الثَّالِثُ: إنْ عَمَلَ الرَّاوِي بِخِلَافِ الْحَدِيثِ، يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ أُخْرَى سَيَأْتِي فِي بَابِ الْأَخْبَارِ بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالسَّبَبِ] مَسْأَلَةٌ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالسَّبَبِ أَقْوَالٌ: ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَقِلِّ فَيُخَصُّ، وَغَيْرُهُ فَلَا، حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمَحْصُولِ " وَقَدْ سَبَقَتْ. [مَسْأَلَةٌ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِقَضَايَا الْأَعْيَانِ] مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِقَضَايَا الْأَعْيَانِ كَإِذْنِهِ فِي الْحَرِيرِ لِلْحَكَّةِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِصْحَابُ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ ": ذَهَبَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ. قَالَ: لِأَنَّهُ دَلِيلٌ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ مَا لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ نَاقِلٌ. فَجَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ كَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ. وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ، لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَسْقُطَ بِالْعُمُومِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِهِ. إذْ مَعْنَاهُ التَّمَسُّكُ بِالْحُكْمِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ يَنْقُلُ عَنْهُ، وَالْعُمُومُ دَلِيلٌ نَاقِلٌ.

مسألة تخصيص بعض الأفراد إذا كان هو الأعظم الأشرف

[مَسْأَلَةٌ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ إذَا كَانَ هُوَ الْأَعْظَمَ الْأَشْرَفَ] مَسْأَلَةٌ مَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ إذَا كَانَ هُوَ الْأَعْظَمَ الْأَشْرَفَ وَبَنَى عَلَيْهِ مَنْعَ إطْلَاقِ الشَّيْءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَوْ جَازَ لَلَزِمَ دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِي قَوْله تَعَالَى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا ذَكَرْنَا. حَكَاهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ

خاتمة ليس من المخصصات عطف العام على الخاص

[خَاتِمَةٌ لَيْسَ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ] خَاتِمَةٌ لَيْسَ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلَا رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلَى الْبَعْضِ خِلَافًا لِقَوْمٍ، وَلَا ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ، وَلَا وُرُودُهُ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي الْعُمُومِ.

القول في بناء العام على الخاص

[الْقَوْلُ فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ] وَالْمُرَادُ بِالْبِنَاءِ: تَخْصِيصُهُ وَتَفْسِيرُهُ لَهُ. إذَا وُجِدَ نَصَّانِ: أَحَدُهُمَا عَامٌّ، وَالْآخَرُ خَاصٌّ، وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ الْكِتَابِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْهُ، وَالْآخَرُ مِنْ السُّنَّةِ إمَّا مُتَوَاتِرًا وَغَيْرَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ السُّنَّةِ؛ إمَّا مُتَوَاتِرَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُتَوَاتِرَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ. وَالْحُكْمُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، إلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّسْخِ عِنْدَمَا يَكُونُ الْمُتَأَخِّرُ ظَنِّيًّا، وَالْمُقَدَّمُ قَطْعِيًّا، عِنْدَ مَنْ مَنَعَهُ. وَحَيْثُ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا صِرْنَا إلَيْهِ، وَنَقَلَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ النَّصَّانِ مِنْ الْكِتَابِ، وَيَسْقُطُ الْخَبَرَانِ، وَعَنْهُ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ رِوَايَتَانِ: هَلْ يُسْتَعْمَلَانِ أَوْ يَتَسَاقَطَانِ. ثُمَّ فِيهِ أَقْسَامٌ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَا مَعًا، كَأَنْ تُنَزَّلَ آيَةٌ عَامَّةٌ، ثُمَّ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهَا بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلَ التَّخْصِيصِ، كَقَوْلِهِ: زَكُّوا الْبَقَرَ وَلَا تُزَكُّوا الْعَوَامِلَ، فَالْخَاصُّ هُنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ، لِأَنَّ الْخَاصَّ مُبَيِّنٌ لِلْعَامِّ وَمُخَصِّصٌ لَهُ؛ لَكِنْ فِي الْمَحْصُولِ " أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْعَامِّ يَصِيرُ مُعَارِضًا لِلْخَاصِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: الْمُخَصِّصُ مَعَ الْعَامِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ الْجُمْلَةِ بِلَا خِلَافٍ، كَقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]

ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] فَخَصَّ حَالَ الِاضْطِرَارِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا. فَصَارَ عُمُومُ اللَّفْظِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخُصُوصِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مُقَارِنًا لِلْعَامِّ، كَمَا مَثَّلْنَا، أَوْ يَكُونَ الْعَامُّ مُقَارِنًا لِلْخَاصِّ، كَأَنْ يَقُولَ: «لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» ، ثُمَّ يَقُولُ عَقِبَهُ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» ، وَإِنْ جَوَّزْنَا نَسْخَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ، فَلَا يُمْكِنُ هُنَا، لِأَنَّ النَّاسِخَ شَرْطُهُ التَّرَاخِي، وَهُوَ هَاهُنَا مُقَارِنٌ، فَتَعَيَّنَ بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ. الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا، فَالْمُتَأَخِّرُ إمَّا الْخَاصُّ وَإِمَّا الْعَامُّ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ أَوْ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ الْخَاصُّ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ، فَهَاهُنَا يَكُونُ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ وِفَاقًا، وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا، لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِهِ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ غَيْرُ جَائِزٍ قَطْعًا، فَيُعْمَلُ بِالْعَامِّ فِي بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْعَامِّ دُونَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، فَهَذِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، فَمَنْ جَوَّزَهُ جَعَلَ الْخَاصَّ بَيَانًا لِلْعَامِّ، وَقَضَى بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ، حَكَمَ بِنَسْخِ الْعَامِّ فِي الْقَدْرِ الَّذِي عَارَضَهُ الْآخَرُ. هَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَسُلَيْمٌ، قَالَ: وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ يَخْتَصُّ بِهَا، وَإِنَّمَا يَعُودُ الْكَلَامُ فِيهَا إلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. اهـ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " نَحْوَهُ.

وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " إذَا تَأَخَّرَ الْخَاصُّ، فَإِنْ وَرَدَ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ كَانَ تَخْصِيصًا، أَوْ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ كَانَ نَسْخًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْعُمُومِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ وَلَمْ يُجَوِّزْ نَسْخَ الْحُكْمِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، كَالْمُعْتَزِلَةِ أَحَالَ الْمَسْأَلَةَ. وَمَنْ جَوَّزَهُمَا، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْخَاصَّ مُخَصِّصٌ لِلْعَامِّ، لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْعَامِّ لَكِنَّ التَّخْصِيصَ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنْ النَّسْخِ وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فَيَتَعَيَّنُ. وَنُقِلَ عَنْ مُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْخَاصَّ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ الْعَامِّ، وَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مَا يُمْكِنُ الْمُكَلَّفُ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ الِاعْتِقَادِ بِمُقْتَضَى الْعَامِّ كَانَ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مِنْ الْعَامِّ لِأَنَّهُمَا دَلِيلَانِ وَبَيْنَ حُكْمَيْهِمَا تَنَافٍ فَيُجْعَلُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ عَنْ الْإِمْكَانِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُصِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ الْعَامُّ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ فَهَاهُنَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ عِنْدَنَا، لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ مُتَيَقَّنٌ، وَمَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ ظَاهِرٌ مَظْنُونٌ، وَالْمُتَيَقَّنُ أَوْلَى. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا عُلِّلَ بِهِ. اهـ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ إلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ. وَتَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ الْفَارِضِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: إذَا تَأَخَّرَ الْعَامُّ كَانَ نَسْخًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَاصُّ، مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخُصُوصِ. قَالَ: وَكَانَ يَحْكِي شَيْخُنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا وَمَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] لِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْدُ.

ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ نَاقَضَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأُنَيْس: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» قَاضِيًا عَلَى قَضِيَّةِ مَاعِزٍ فِي اعْتِبَارِ تَكْرَارِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، مَعَ أَنَّ قَضِيَّةَ مَاعِزٍ خَاصَّةٌ مُفَسَّرَةٌ، وَقَضِيَّةَ أُنَيْسٍ عَامَّةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَالَ: الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مَنْسُوخٌ «بِأَكْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمًا وَخُبْزًا، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» ، فَنُسِخَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عَامٌّ فِي الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَتَرْكُهُ الْوُضُوءَ مِنْهَا خَاصٌّ بِهِمَا، ثُمَّ يُنْسَخُ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ مَعَ امْتِنَاعِ وُقُوعِ النَّسْخِ فِي مِثْلِهِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ، كَيْفَ مُنِعَ مِنْ إيجَابِ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لِلْقَاعِدَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَقْبَلُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَحَمَلْنَا الْحَدِيثَ عَلَى غَسْلِ الْيَدِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ زَعَمَ (أَنَّ قَتْلَ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ)

مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» فَجَعَلَ الْعَامَّ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ. وَزَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ: تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» وَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ النَّصُّ عَلَى تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَالْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ، وَلَمْ يَحْمِلُ الشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، مَعَ أَنَّ الْحَادِثَةَ وَاحِدَةٌ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَتَيْنِ فَكَيْفَ فِي وَاحِدَةٍ؟ وَالْجَوَابُ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ الْعَامُّ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْخَاصِّ، لَكِنَّهُ قَبْلَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْبِنَاءِ وَالنَّسْخِ، إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ مِنْهُمْ نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ،

فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى النَّسْخِ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ أَوْ التَّعَارُضُ فِيمَا تَنَافَيَا فِيهِ، وَجَعَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَبْنِيًّا عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. قَالَ: فَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَهُ عَنْ مَوْرِدِ اللَّفْظِ، جَعَلَهُ نَسْخًا لِلْخَاصِّ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْخَاصَّ مِنْهُمَا يَخُصُّ الْعَامَّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِهِمْ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إلَى التَّوَقُّفِ إلَى ظُهُورِ التَّارِيخِ، وَإِلَى مَا يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَوْ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالدَّقَّاقِ أَيْضًا. وَكُلٌّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ ذَهَبَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ أَصْلُهُ، أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلِأَنَّهُ بَنَى الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ مُطْلَقًا مُتَقَدِّمًا وَمُتَأَخِّرًا وَمُقَارِنًا إذَا عُلِمَ التَّارِيخُ، لَكِنْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَكُونُ الْبِنَاءُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ، وَحَالَةُ الْجَهْلِ لَا تَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، وَالْجَهْلُ بِكَوْنِ الْبِنَاءِ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ أَوْ التَّخْصِيصِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، لَا فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَلَا فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ إذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، وَيُخَصِّصُ الْعَامَّ أَوْ يَنْسَخُهُ بِهِ إذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَعِنْدَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ دَارَ الْأَمْرُ فِي الْخَاصِّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أَوْ مُخَصِّصًا أَوْ نَاسِخًا، فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ التَّوَقُّفَ إلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ ذَكَرُوا فِي التَّرْجِيحِ فِي اسْتِعْمَالِهِمَا أَوْ اسْتِعْمَالِ أَحَدِهَا وُجُوهًا، فَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّهُ قَسَّمَهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَعْمَلَ النَّاسُ بِهِمَا جَمِيعًا، فَيُسْتَعْمَلَانِ، وَيُرَتَّبُ الْعَامُّ عَلَى

الْخَاصِّ «كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك» وَتَرْخِيصُهُ فِي السَّلِمِ " وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجِبِ أَحَدِهِمَا وَيُسْقِطُوا الْآخَرَ فَيَجِبُ حَمْلُ مَا أَسْقَطُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا عَمِلُوا بِهِ. وَيَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَيَعْمَلُ بَعْضُهُمْ بِأَحَدِهِمَا، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُخَالِفُهُ، فَالْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إذَا وَرَدَا، وَتَجَرَّدَا عَنْ دَلَالَةِ النَّسْخِ، يُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا عَلَى التَّرْتِيبِ، وَإِنَّهُ إنْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِآخَرَ. قَالَ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مَتَى اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْآخَرِ، كَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَاضِيًا عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ، وَحَدِيثُ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِهِ، فَكَانَ خَبَرُ إيجَابِ الْعَشَرَةِ مُطْلَقًا قَاضِيًا عَلَيْهِ بِإِيجَابِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ، تَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ. وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ: تَرْجِيحَ الْخَاصِّ فِيهِمَا عَلَى النَّسْخِ، وَالْمُفِيدُ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، وَزَادَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: كَوْنَ أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ بَيَانًا لِلْآخَرِ بِالِاتِّفَاقِ، كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى نِصَابِ السَّرِقَةِ، وَعَدَمِ الْعَمَلِ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ التَّرْجِيحَاتِ.

مسألة تعارض المفسر والمجمل

تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: خِلَافُ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ نَصٌّ فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَتَّى لَا يَجُوزَ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ، وَحِينَئِذٍ فَإِذَا قَضَى الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ فِي جُزْءٍ تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ، وَالْعَامُّ يَقْضِي عَلَى الْخَاصِّ فِي خَبَرٍ تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ، فَيَتَعَارَضَانِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إنَّ شَرْطَ الْبِنَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّنَافِي فِي الْكُلِّ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْخَاصِّ، أَمَّا إذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّنَافِي فَلَا. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَعَلَى هَذِهِ فَإِذَا وَرَدَ عَامٌّ وَخَاصٌّ فِي طَرَفَيْ النَّهْيِ وَالنَّفْيِ فَلَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَلَا يُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ: كَمَا فِي نَهْيِهِ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ بِالْيَمِينِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ. وَالنَّهْيِ عَنْ مَسِّهِ بِالْيَمِينِ مُطْلَقًا، فَبَقِيَ دَالًّا عَلَى عُمُومِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى النَّهْيِ فِي مَحَلٍّ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ الْآخَرُ عَلَيْهِ، هَذَا إذَا ثَبَتَ لَنَا أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ مُتَعَدِّدَانِ، لَيْسَا بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ اُخْتُلِفَ فِي لَفْظِهِ. [مَسْأَلَةُ تَعَارُضِ الْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ] ِ؛ كَالْخَاصِّ وَالْعَامِّ؛ فَيُقَدَّمُ الْمُفَسَّرُ عَلَى الْمُجْمَلِ مُطْلَقًا؛ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ.

المطلق والمقيد

[الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ] ُ الْمُطْلَقُ: مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِلَا قَيْدٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَقَالَ: فِي " الْمَحْصُولِ ": مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قُيُودِهَا. وَالْمُرَادُ بِهَا عَوَارِضُ الْمَاهِيَّةِ اللَّاحِقَةُ لَهَا فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ فِي الذِّهْنِ، أَمَّا إذَا اُعْتُبِرَ مَعَ الْمَاهِيَّةِ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِهَا وَهِيَ الْكَثْرَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مَحْصُورَةً فَهِيَ الْعَدَدُ، وَإِلَّا فَالْعَامُّ قَالَ: وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمُطْلَقُ الدَّالُّ عَلَى وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ أَمْرَانِ مُغَايِرَانِ لِلْمَاهِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، زَائِدَانِ عَلَيْهَا، ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَحْدَةَ وَعَدَمَ التَّعَيُّنِ لَا يَدْخُلَانِ فِي مَفْهُومِ الْحَقِيقَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ صَاحِبُ " الْحَاصِلِ ": الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ هُوَ الْمُطْلَقُ، وَالدَّالُّ عَلَيْهَا مَعَ وَحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ هُوَ الْمَعْرِفَةُ، وَغَيْرِ مُعَيَّنَةٍ هُوَ النَّكِرَةُ. وَقَالَ صَاحِبُ " التَّنْقِيحِ ": الدَّالُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُطْلَقُ، وَيُسَمَّى مَفْهُومُهُ كُلِّيًّا، وَحَاصِلُ كَلَامِ الْإِمَامِ وَأَتْبَاعِهِ أَنَّ الْمُطْلَقَ الدَّالُّ عَلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى اشْتِرَاكِ الْمَعْنَى وَخُصُوصِيَّتِهِ، يَنْقَسِمُ إلَى لَفْظٍ لَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَإِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ تَتَّفِقُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَنُسَمِّيهِ مُطْلَقًا، فَالْمُطْلَقُ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنًى لَا يَكُونُ تَصَوُّرُهُ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ.

وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي " الْبُرْهَانِ ": جَعَلَ صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً، وَخَطَّأَ الْقُدَمَاءَ فِي حَدِّهِمْ لَهُ بِمَا سَبَقَ، مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْوَحْدَةَ وَالتَّعَيُّنَ قَيْدَانِ زَائِدَانِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ. قَالَ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَعْلَامُ الْأَجْنَاسِ كَأُسَامَةَ وَثُعَالَةَ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً. وَرَدَّ عَلَيْهِ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ "، وَقَالَ: لَمْ يَجْعَلْ الْإِمَامُ الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً، بَلْ غَايَرَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَالنَّكِرَةَ الدَّالُّ عَلَيْهَا بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ الشَّائِعَةِ، وَأَمَّا إلْزَامُهُ عِلْمَ الْجِنْسِ فَمَرْدُودٌ بِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْمَاهِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ بِقَيْدِ التَّشْخِيصِ الذِّهْنِيِّ بِخِلَافِ اسْمِ الْجِنْسِ. وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فَقَالَا: إنَّهُ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ الشَّائِعَةِ كَالنَّكِرَةِ. قَالَ فِي " الْإِحْكَامِ ": الْمُطْلَقُ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْمُطْلَقُ مَا دَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ عَرَّفَ النَّكِرَةَ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، إلَّا أَنَّ الَّذِي دَعَا الْآمِدِيَّ إلَى ذَلِكَ هُوَ أَصْلُهُ فِي إنْكَارِ الْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيِّ. وَأَمَّا ابْنُ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُ لَا يُنْكِرُهُ، بَلْ هُوَ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي إثْبَاتِهِ؛ لَكِنَّ الدَّاعِيَ لَهُ إلَى ذَلِكَ مُوَافَقَةُ النُّحَاةِ فِي عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ. قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ النَّحْوِيِّ: النَّكِرَةُ: كُلُّ اسْمٍ دَلَّ عَلَى مُسَمَّاهُ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، أَيْ فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِهَذَا وَلِهَذَا. اهـ. وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ يَعْنِي مُوَافَقَةَ ابْنِ الْحَاجِبِ لِلنُّحَاةِ، فَإِنَّ النُّحَاةَ إنَّمَا دَعَاهُمْ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُمْ فِي الْفَرْقِ، لِاشْتِرَاكِ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ فِي صِيَاغَةِ الْأَلْفَاظِ مِنْ حَيْثُ قَبُولُ " أَلْ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَلَمْ يَحْتَاجُوا إلَى الْفَرْقِ، أَمَّا الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمَا عِنْدَهُمْ حَقِيقَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ.

المطلق قسمان

أَمَّا الْأُصُولِيُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ وَجْهَ الْمُمَيِّزِ فِيهِمَا، فَإِنَّا قَطْعًا نُفَرِّقُ بَيْنَ الدَّالِّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَالدَّالُّ عَلَيْهَا بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، كَمَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الدَّالُّ عَلَيْهَا بِوَحْدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَهُوَ النَّكِرَةُ، وَمُعَيَّنَةٍ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ، فَهِيَ حَقَائِقُ ثَلَاثٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا. وَأَمَّا الْفَقِيهُ، فَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا اسْتَشْعَرَ بَعْضُهُمْ التَّنْكِيرَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ اشْتَرَطَ الْوَحْدَةَ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِيمَنْ قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُهَا غُلَامًا فَأَعْطُوهُ كَذَا، فَكَانَ غُلَامَيْنِ، لَا شَيْءَ لَهُمَا، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يُشْعِرُ بِالتَّوْحِيدِ، وَيَصْدُقُ أَنَّهُمَا غُلَامَانِ لَا غُلَامٌ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ كَانَ حَمْلُك ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، فَكَانَا ذَكَرَيْنِ، فَقِيلَ: لَا تَطْلُقُ، لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقِيلَ تَطْلُقُ، حَمْلًا عَلَى الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، فَانْظُرْ كَيْفَ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ. . [الْمُطْلَقَ قِسْمَانِ] وَأَقُولُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُطْلَقَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَ فِي الْإِنْشَاءِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِأَمْرٍ زَائِدٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمُطْلَقُ هُوَ التَّعَرُّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ، لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] . وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ فِي الْأَخْبَارِ، مِثْلُ رَأَيْت رَجُلًا، فَهُوَ لِإِثْبَاتِ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّعْيِينِ عِنْدَ السَّامِعِ، وَجُعِلَ مُقَابِلًا لِلْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى قَيْدِ الْوَحْدَةِ. وَعَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يُنَزَّلُ كَلَامُ " الْمَحْصُولِ "، وَعَلَى الثَّانِي يُنَزَّلُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَهُوَ قَطْعِيٌّ فِي الْمَاهِيَّةِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَظَاهِرٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَنَظِيرِ الْخِلَافِ فِي الْعُمُومِ، وَلِاسْتِرْسَالِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ يُشْبِهُ الْعُمُومَ، وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّهُ عَامٌّ عُمُومَ بَدَلٍ، وَالْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ

مسألة ورود الخطاب مطلقا في موضع ومقيدا في موضع

بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهَا اصْطِلَاحًا، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْمَعَانِي فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَهُمَا أَمْرَانِ نِسْبِيَّانِ بِاعْتِبَارِ الطَّرَفَيْنِ، وَيَرْتَقِي إلَى مُطْلَقٍ لَا إطْلَاقَ بَعْدَهُ كَالْمَعْلُومِ وَإِلَى مُقَيَّدٍ لَا تَقْيِيدَ بَعْدَهُ كَزَيْدٍ، وَبَيْنَهُمَا وَسَائِطُ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: الْمُطْلَقُ الْحَقِيقِيُّ: مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ فَقَطْ، وَالْإِضَافِيُّ: يَخْتَلِفُ نَحْوُ: رَجُلٍ، وَرَقَبَةٍ، فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، وَرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَمُقَيَّدٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ شَائِعٍ، وَهُمَا قَيْدَانِ زَائِدَانِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ وَالْمُقَيَّدُ مُقَابِلُهُمَا. قَالَ صَاحِبُ " خُلَاصَةِ الْمَأْخَذِ ": اخْتِيَارُ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ " أَنَّ الْمُطْلَقَ ثَابِتٌ فِي الْأَذْهَانِ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَامِّ إلَى قِيَامِ دَلِيلِ التَّعْيِينِ. فَائِدَةٌ الْعَمَلُ بِالْمُطْلَقِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُقَيَّدِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْعُمُومِ. وَلَمْ يَذْكُرُوهُ. . [مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْخِطَابِ مُطْلَقًا فِي مَوْضِعٍ وَمُقَيَّدًا فِي مَوْضِعٍ] اعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا لَا مُقَيِّدَ لَهُ، حُمِلَ عَلَى إطْلَاقِهِ، أَوْ مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقَ لَهُ حُمِلَ عَلَى تَقْيِيدِهِ، وَإِنْ وَرَدَ مُطْلَقًا فِي مَوْضِعٍ، وَمُقَيَّدًا فِي آخِرِ، فَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمُقَيَّدِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ مَقْصُورًا عَلَى الشَّرْطِ الْمُقَيَّدِ بِهِ أَمْ لَا؟ وَالثَّانِي: فِي الْمُطْلَقِ، هَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى حُكْمِ الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ لَا؟ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْبَحْثُ فِي أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ حُجَّةٌ أَمْ لَا كَمَا

سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لَمْ يُحْمَلْ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: حُجَّةٌ حُمِلَ. وَلَا بُدَّ فِي الْحَمْلِ مِنْ تَقْدِيمِ كَوْنِ الْقَيْدِ شَرْطًا فِيمَا قُيِّدَ بِهِ. وَالْأُصُولِيُّونَ قَدْ أَهْمَلُوا ذِكْرَهُ هُنَا لِوُضُوحِهِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَاعْتَبَرَا مَعْنَى الْمُقَيَّدِ، فَإِنْ كَانَ خَاصًّا ثَبَتَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا يَسْقُطُ حُكْمُهُ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] إلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فَتَقْيِيدُ التَّيَمُّمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ شَرْطٌ فِي إبَاحَتِهِ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] إلَى قَوْلِهِ: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فَلَيْسَ الْخَوْفُ شَرْطًا فِي الْقَصْرِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الْمَقْصُودُ بَعْدَ ثُبُوتِ كَوْنِ التَّقْيِيدِ شَرْطًا فِي الْمُقَيَّدِ، فَيَنْقَسِمُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ إلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ، فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالِاتِّفَاقِ، كَتَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ، وَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَشَرَطَ الْآمِدِيُّ أَنْ يَكُونَا ثُبُوتِيَّيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا إذَا قَالَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَقَالَ: لَا تَمْلِكُ رَقَبَةٌ كَافِرَةٌ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يُوجِبُ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْمُسْلِمَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَإِلْكِيَا، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ عَنْ الْقَاضِي مُحَمَّدٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي هَذَا حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ

رِوَايَةٍ رُوِيَتْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: عَجِبْت مِنْ رَجُلٍ عَظِيمٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْكُوعَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى آيَةِ الْقَطْعِ، فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ مِنْ آيَةِ الْوُضُوءِ؟ قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ بِقِيَاسٍ أَوْ عِلَّةٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْحَمْلِ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَسَيَأْتِي حِكَايَةُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهَا الْإِطْعَامُ كَمَا فِي الظِّهَارِ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا كُلِّهِ يَخْرُجُ خِلَافٌ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَيَنْبَغِي الْتِفَاتُهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، أَوْ اللَّفْظِ. فَإِنْ قُلْنَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ امْتَنَعَ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ اتِّحَادَ الْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ هُنَا مُخْتَلِفٌ، حَيْثُ أُطْلِقَ الْإِطْعَامُ وَقُيِّدَ الصِّيَامُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ، فَيُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ ظَاهَرْتَ فَاعْتِقْ رَقَبَةً. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنْ ظَاهَرْتَ فَاعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوَافِقُ فِي هَذَا الْقِسْمِ، كَمَا قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ فِي " الْأَسْرَارِ "، وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَغَيْرُهُمَا. وَلِهَذَا حُمِلَ قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مُتَتَابِعَاتٌ. وَكَذَا لَوْ قِيلَ لَهُ: تَغَدَّ عِنْدِي الْيَوْمَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى، حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِغَيْرِهِ. وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ: الْقَاضِيَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ فُورَكٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَغَيْرُهُمْ؛ وَكَإِطْلَاقِ تَحْرِيمِ الدَّمِ فِي مَوْضِعٍ، وَتَقْيِيدِهِ فِي آخَرَ بِالْمَسْفُوحِ، وَكَقَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {مِنْهُ} [المائدة: 6] . وقَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ:

نَحْنُ نَرَى مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا طَلَبًا حَثِيثًا، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ قُلْنَا: قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18] فَعَلَّقَ مَا يُؤْتِيهِ بِالْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَكَإِطْلَاقِ الْمَسْحِ فِي قَوْلِهِ: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: «إذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ» ، وَقَوْلُهُ: «عَمَّنْ تَمُونُونَ» مَعَ قَوْلِهِ: «عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى، حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَقَوْلُهُ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» مَعَ قَوْلِهِ: «إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ» . وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " الْمَحْصُولِ ": هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةُ الْمَفْهُومِ، كَقَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» وَهَذَا مُطْلَقٌ. وَقَوْلُهُ: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ»

فَهَذَا مُقَيَّدٌ بِالسَّوْمِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَفْهُومِ، حَمَلْنَا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَلَى الْخِلَافِ، وَالسَّبَبُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْمَالِ الْبَاقِي، وَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَهُوَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ. اهـ. وَظَاهِرُهُ جَرَيَانُ خِلَافِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ، فَقَالَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْقِسْمِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ يُحْمَلُ. قُلْت: إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَحْمِلُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ كَذَلِكَ، بَلْ عَمِلُوا بِالنَّصَّيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ، فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. قَالَ: وَقَدْ اخْتَلَفَ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَحَكَى الطَّرَسُوسِيُّ - بِالسِّينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ - الْخِلَافَ فِيهِ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا. وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَا إذَا كَانَ الْمُقَيَّدُ آحَادًا، وَالْمُطْلَقُ مُتَوَاتِرًا. قَالَ: فَيُبْنَى عَلَى مَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ، هَلْ هِيَ نَسْخٌ؟ وَعَلَى نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ. وَالْمَنْعُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُقَيَّدِ مُطْلَقًا. فَإِنْ كَانَتْ دَلَالَةُ الْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ، فَيُقَدَّمُ خَاصُّهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَمَنْ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ. قُلْت: وَهَكَذَا فَعَلَتْ الْحَنَفِيَّةُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، قَالُوا: لِأَنَّهُمَا فِي الصَّوْمِ وَرَدَا فِي حُكْمٍ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِمَوْضِعَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ مُقَدِّمًا التَّقْيِيدَ، وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي السَّبَبِ وَلَا مُزَاحَمَةَ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْحَمْلِ، فَاخْتَلَفُوا، فَصَحَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْحَمْلَ بَيَانٌ لِلْمَطْلُوبِ، أَيْ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُطْلَقِ هُوَ الْمُقَيَّدُ، وَقِيلَ يَكُونُ نَسْخًا أَيْ دَالًّا عَلَى نَسْخِ حُكْمِ الْمُطْلَقِ السَّابِقِ بِحُكْمِ الْمُقَيَّدِ الطَّارِئِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ فِي الْحَمْلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " بَعْدَ تَعَرُّضِهِ لِهَذَا: وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى

بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ تَقَابُلَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْقَاضِي مَعَ مَصِيرِهِ إلَى التَّعَارُضِ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى تَنْزِيلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ. اهـ. وَفِيمَا ذَكَرَهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ صَارَ إلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يُخَصَّصُ بِالْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى النَّسْخِ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ هَاهُنَا: إنَّ الْمُطْلَقَ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْمُقَيَّدِ الْمُتَقَدِّمِ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ بِمَثَابَةِ الْعَامِّ، وَالْمُقَيَّدَ بِمَثَابَةِ الْخَاصِّ، وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ الْوَقْفُ عِنْدَ جَهْلِ التَّارِيخِ، كَمَا تَوَقَّفَ هُنَاكَ. كَذَا قَالَ الْهِنْدِيُّ والأردبيلي، وَيَشْهَدُ لَهُ حِكَايَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُقَيَّدُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْمُطْلَقِ، يَكُونُ الْمُقَيَّدُ نَاسِخًا لِلْمُطْلَقِ، وَزَيَّفَهُ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَتَّجِهُ فِيمَا إذَا تَأَخَّرَ الْمُقَيَّدُ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ، وَإِلَّا فَالْحَمْلُ عَلَى النَّسْخِ مَعَ إمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الْبَيَانِ بَعِيدٌ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ عَكْسُهُ إنْ رَأَى نَسْخَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ. وَقَدْ يُقَالُ: لَا يَلْزَمُ الْقَائِلَ فِي الْعَامِّ بِالنَّسْخِ أَنْ يَقُولَ بِهِ هُنَا فِي الْمُطْلَقِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخَاصَّ يُنَاقِضُ الْعَامَّ فِي جِهَةِ مَدْلُولِهِ، فَإِنَّ الْعَامَّ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ ظَاهِرًا، وَالْخَاصَّ يَنْفِي الْحُكْمَ فِي بَعْضِهَا. فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى حُكْمِ الْمُقَيَّدِ. لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَثَلًا فِي قَوْلِهِ: (أَعْتِقْ رَقَبَةً) مَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ إثْبَاتُهُ بِقَوْلِهِ: أَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً مُنَافِيًا لِحُكْمِ الْإِطْلَاقِ مِنْ جِهَةِ الْمَدْلُولِ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِكُلِّ حَالٍ، فَصَحَّ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَقَابُلِ الْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ وَالْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ، كَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَتَقْيِيدِهَا بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَهُوَ

حمل المطلق على المقيد إذا اختلفا في السبب دون الحكم

وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ. لَكِنَّ الظِّهَارَ وَالْقَتْلَ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. أَمَّا عَكْسُهُ وَهُوَ اتِّحَادُ السَّبَبِ وَاخْتِلَافُ الْحُكْمِ. فَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ. لَا خِلَافَ فِيهِ. لَكِنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ فِي " الْمَحْصُول " جَعَلَهُ مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَبِهِ تَصِيرُ الْأَقْسَامُ أَرْبَعَةً، وَمَثَّلَهُ بِآيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ قَيَّدَ فِيهَا غَسْلَ الْيَدَيْنِ بِالْمَرَافِقِ، وَأَطْلَقَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] فَإِنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْحَدَثُ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ الْخِلَافَ فِي اتِّحَادِ السَّبَبِ وَاخْتِلَافِ الْحُكْمِ. وَنَقَلَ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَثَّلَهُ بِآيَةِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ أَيْضًا. وَكَذَا مَثَّلَ بِهَا الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". . [حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ] [مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ] [إذَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ] إذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِمُوجِبِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ تَقَيُّدَ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْآخَرِ لَفْظًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] وَكَمَا فِي الْعَدَالَةِ وَالشُّهُودِ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] يُحْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَحَمَلَ إطْلَاقَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ عَلَى الْعِتْقِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الظِّهَارِ: إنَّ عَلَيْهِ جُمْهُورَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِمْ. وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَأَقْرَبُ طَرِيقِ هَؤُلَاءِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ، وَحَقُّ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِيهِ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ قَالَ: وَهَذَا مِنْ فُنُونِ الْهَذَيَان، فَإِنَّ قَضَايَا الْأَلْفَاظِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، لِبَعْضِهَا حُكْمُ التَّعَلُّقِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلِبَعْضِهَا حُكْمُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِانْقِطَاعِ، فَمَنْ ادَّعَى تَنْزِيلَ جِهَاتِ الْخِطَابِ عَلَى حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ، وَالْأَمْرَ وَالزَّجْرَ، وَالْأَحْكَامَ الْمُتَغَايِرَةَ فَقَدْ ادَّعَى أَمْرًا عَظِيمًا، وَلَا تُغْنِي فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ إلَى اتِّحَادِ الْكَلَامِ الْأَزَلِيِّ، وَمُضْطَرِبُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْأَلْفَاظِ وَقَضَايَا الصِّيَغِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ لَا مِرَاءَ فِي اخْتِلَافِهَا، فَسَقَطَ هَذَا الظَّنُّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ حَصَلَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي تَقْيِيدَهُ بِهِ قُيِّدَ، وَإِلَّا أُقِرَّ الْمُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَصَحَّحَهُ هُوَ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُمَا. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا نَقَلُوا عَنْهُ الْأَوَّلَ، وَهُمْ أَعْرَفُ مِنْ الْآمِدِيَّ بِذَلِكَ. وَفِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى

قَالَ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَعِيبُ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَا يُقَاسُ الْمُطْلَقُ مِنْ الْكِتَابِ عَلَى الْمَنْصُوصِ. وَقَالَ: يَلْزَمُ مَنْ قَالَ هَذَا أَنْ يُجِيزَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالسُّفَهَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] مُطْلَقًا وَلَكِنَّ الْمُطْلَقَ يُقَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ إلَّا الْعَدْلُ. نَعَمْ، هَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ كَمَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِ، وَنَقَلُوهُ عَنْ ابْنِ فُورَكٍ، وَصَحَّحَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُمْدَةِ ": إنَّهُ الْأَقْرَبُ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَنَسَبَهُ إلَى الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ: لَوْ جَازَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ لِتَقْيِيدِ الْمُقَيَّدِ لَجَازَ إطْلَاقُ الْمُقَيَّدِ لِإِطْلَاقِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا. وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ قِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِلِسَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ تَارَةً يُكَرِّرُونَ الْكَلِمَةَ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَارَةً يَحْذِفُونَهَا لِلْإِيجَازِ، وَتَارَةً يُسْقِطُونَ بَعْضَهَا لِلتَّرْخِيمِ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ الْجُمْهُورِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، فَقَالَا: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ. فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ قُيِّدَ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ صَارَ كَاَلَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، فَيُعْدَلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ. قَالَا: وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إلَى وَقْفِ الْعُمُومِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصٍ أَوْ عُمُومٍ. وَهَذَا أَفْسَدُ الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُحْتَمَلَةَ يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا عَائِدًا إلَيْهَا وَلَا يُعْدَلُ بِالِاحْتِمَالِ إلَى غَيْرِهَا لِيَكُونَ النَّصُّ ثَابِتًا بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ نَفْيِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ، وَتَعَيُّنِ الْمُرَادِ بِهِ.

قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَحَيْثُ قُلْنَا: يُقَيَّدُ قِيَاسًا أَرَدْنَا بِهِ سَالِمًا عَنْ الْفُرُوقِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُهُمْ: إنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: كُلُّ دَلِيلٍ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ، يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِهِ، وَمَا لَا فَلَا، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ عَامٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. فَيَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، خِلَافًا لِلْقَاضِي، وَتَقْرِيرُهُ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَبِمَفْهُومِ الْخِطَابِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا، هَلْ الْقِيَاسُ مُخَصِّصٌ لِلْمُطْلَقِ أَوْ زَائِدٌ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمُطْلَقِ لَا الزِّيَادَةَ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فِيهِ، وَجَوَّزَ الزِّيَادَةَ بِالْقِيَاسِ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ نَسْخًا. وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ: اخْتَلَفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ فِي أَنَّ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْإِيمَانِ، هَلْ يَقْتَضِي زِيَادَةً أَوْ تَخْصِيصًا؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّ: هُوَ زِيَادَةٌ، لِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي إجْزَاءَ كُلِّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الرَّقَبَةُ، فَإِذَا اُعْتُبِرَ فِي إجْزَائِهَا الْإِيمَانُ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ. وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ: هُوَ تَخْصِيصٌ، لِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي إجْزَاءَ الْمُؤْمِنَةِ، وَالْكَافِرَةِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْإِيمَانِ يُخْرِجُ الْكَافِرَةَ، فَكَانَ تَخْصِيصًا لَا مَحَالَةَ. قَالَ: وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ مَنْ قَالَ: زِيَادَةٌ، يَمْنَعُ الْحَمْلَ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ، وَمَنْ قَالَ: تَخْصِيصُ جَوَازِ الْحَمْلِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ. لَيْسَ هَذَا بِخِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ، فَالْقَاضِي أَرَادَ أَنَّ التَّقَيُّدَ بِالصِّفَةِ نُقْصَانٌ فِي الْمَعْنَى، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَرَادَ زِيَادَةً فِي اللَّفْظِ. اهـ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْبَاطُ مِنْ مَحَلِّ التَّقْيِيدِ، فَلِيَكُنْ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، وَهُوَ عَدَمُ إجْزَاءِ الْمُرْتَدِّ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمُسْتَنْبَطَ مِنْ مَحَلِّ التَّقْيِيدِ إنْ كَانَ مَحِلًّا صَالِحًا قُبِلَ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ، لِعَدَمِ الْإِحَالَةِ.

وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى الْمَذَاهِبِ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَغْلَظَ حُكْمَيْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُطْلَقِ أَغْلَظَ حُمِلَ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلَمْ يُقَيَّدْ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُقَيَّدِ أَغْلَظَ، حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى إطْلَاقِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، لِأَنَّ التَّغْلِيظَ إلْزَامٌ، وَمَا تَضَمَّنَهُ الْإِلْزَامُ لَمْ يَسْقُطْ الْتِزَامُهُ بِالِاحْتِمَالِ. الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً، فَيُحْمَلُ كَالْإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ، أَوْ ذَاتًا فَلَا يُحْمَلُ، كَالتَّقْيِيدِ بِالْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ وَهُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْأَبْهَرِيِّ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ. الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَصْلًا، لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: الْأَصَحُّ عِنْدِي الثَّانِي. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الِاصْطِلَامِ ": وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ تَقْيِيدَ الْخِطَابِ بِشَيْءٍ فِي مَوْضِعٍ، لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ مِثْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْعُمُومِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَوْ وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ بِظَاهِرِ الْوُرُودِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقْيِيدَ لَهُ حُكْمٌ، وَالْإِطْلَاقَ لَهُ حُكْمٌ، وَحَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلُ حَمْلِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرَكَ الْخِطَابَ مِنْ تَقْيِيدٍ أَوْ إطْلَاقٍ. اهـ. قَالَ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ الْمَنْعِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالْقِيَاسِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمٍ قُصِدَ اسْتِيفَاؤُهُ. وَقِيلَ: تَخْصِيصُهُ بِالْإِيمَانِ هُوَ تَخْصِيصُهُ بِحُكْمٍ قَدْ قُصِدَ اسْتِيفَاؤُهُ.

وَقَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ النَّسْخِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهِ شَرْطَ الْإِيمَانِ وَالنَّصُّ لَا يَقْتَضِيهِ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: اقْتَضَى النَّهْيُ إجْزَاءَ مَا يُسَمَّى رَقَبَةً، فَشَرْطُ الْإِيمَانِ بِغَيْرِ مُقْتَضَى النَّصِّ. قَالَ: وَهَذَا يَقْوَى لَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى بَيَانَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ وَأَرْكَانِهِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْإِجْزَاءِ بِتَحْصِيلِ مَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَشَرْطُ النِّيَّةِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ تَخْصِيصٌ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ نُقْصَانٌ لَا زِيَادَةٌ. فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ فِيهَا مَا هُوَ نَسْخٌ، وَمَا لَيْسَ بِنَسْخٍ. [أَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُطْلَقَ هَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ أَوْ نَصٌّ فِيهِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: ظَاهِرٌ، جَازَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي التَّخْصِيصِ بِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: نَصٌّ، فَلَا يَسُوغُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ. قَالَ ابْن رَحَّالٍ: وَرَأَيْت لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. مَذْهَبًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلَا ظَاهِرٍ فِيهِ، بَلْ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلذَّاتِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلْقَيْدِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ، بَلْ يَكُونُ آتِيًا بِمَا لَمْ يُشْعِرْ بِهِ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ إيجَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ إيجَابِ الصَّلَاةِ. الثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ، تَخْصِيصٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ،

كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ فِي " الْمَنْخُولِ " هُنَا، وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ، وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. الثَّالِثُ: الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ، فَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ، فَلِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ: إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَدْ تَنَاقَضَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَقْيِيدِهِمْ رَقَبَةَ الظِّهَارِ بِاشْتِرَاطِ نُطْقِهَا، فَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُمْ إعْتَاقُ الْأَخْرَسِ، وَفِي تَقْيِيدِهِمْ الْقُرْبَى بِالْفُقَرَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُطْلَقَ كَالْعَامِّ، فَيَتَقَيَّدُ كَالتَّخْصِيصِ، وَالتَّخْصِيصُ تَارَةً يَكُونُ بِقَصْرِ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضٍ غَيْرَ مُمَيَّزٍ بِصِفَةٍ كَحَمْلِ الْفُقَرَاءِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَارَةً عَلَى مُمَيَّزٍ بِصِفَةٍ، كَحَمْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ. وَقَالَ فِي الْمُقْتَرَحِ: مُطْلَقُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الِاجْتِزَاءَ بِالْمُطْلَقِ يُؤْخَذُ مِنْ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، أَوْ مِنْ عَدَمِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارٍ زَائِدٍ، فَإِنْ قُلْنَا: بِالثَّانِي: فَالْمُطْلَقُ لَا يُشْعِرُ بِالْمُقَيَّدِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ، وَحِينَئِذٍ فَاللَّفْظُ لَا إشْعَارَ فِيهِ بِالْمُطْلَقِ، فَضْلًا عَنْ الْمُقَيَّدِ، فَلَا يُحْمَلُ، وَإِنْ قُلْنَا: مَأْخُوذٌ مِنْ إشْعَارِ اللَّفْظِ، فَهَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ أَوْ نَصٌّ فِيهِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: ظَاهِرٌ جَازَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِقِيَاسٍ عَلَى الْخِلَافِ، وَإِنْ قُلْنَا نَصٌّ فَلَا يَسُوغُ الْحَمْلُ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ بِهِ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: بَقِيَ قِسْمٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنْ يَتَّحِدَ الْمُوجِبُ، وَيَخْتَلِفَ صِنْفُ الْمُوجِبِ، كَمَا إذَا قَيَّدَ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِالْإِسْلَامِ، ثُمَّ

شروط حمل المطلق على المقيد عند الشافعية

أَطْلَقَ فِي جَانِبِ الْإِطْعَامِ ذِكْرَ الْمَسَاكِينِ، فَهَلْ يَتَقَيَّدُ بِهِ الْمِسْكِينُ بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا كَالرَّقَبَةِ الْمُعْتَقَةِ؟ وَقَدْ أَغْفَلَ الْأُصُولِيُّونَ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَاَلَّذِي أَقُولُهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْلَكَ بِهِ مَسْلَكَ الْقِيَاسِ كَمَا سَلَكْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ تَقْيِيدِ الرَّقَبَةِ فِي الظِّهَارِ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْقَتْلِ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ. . [شُرُوطُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ] [شُرُوطُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ] إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَلِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوحِ شُرُوطٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ كَالْإِيمَانِ مَعَ ثُبُوتِ الذَّوَاتِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَأَمَّا فِي إثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ مِنْ زِيَادَةٍ خَارِجَةٍ أَوْ عَدَدٍ فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا كَالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَإِنَّ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَإِنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ، لَا صِفَةٌ. وَكَذَلِكَ إيجَابُ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْوُضُوءِ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى عُضْوَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ. فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إطْلَاقُ التَّيَمُّمِ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ لِيَسْتَحِقَّ تَيَمُّمُ الْأَرْبَعَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ لَمْ يُذْكَرْ، وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ يَخْتَصُّ بِالصِّفَةِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِهَذَا حَمَلْنَا إطْلَاقَ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْمَرَافِقِ، لِتَقْيِيدِ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَرْفِقِ صِفَةٌ، وَذِكْرَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ أَصْلٌ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَتَبِعَهُ

الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ الْأَبْهَرِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا. لَكِنْ فِي تَمْثِيلِ الْقَفَّالِ وَالْمَاوَرْدِيِّ بِالتَّيَمُّمِ إلَى الْمَرَافِقِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إثْبَاتُ أَصْلٍ، إذْ هُوَ عُضْوٌ زَائِدٌ، لَا وَصْفٌ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ الْمُطْلَقُ إلَى تَقْيِيدِهَا بِعَدَدٍ، وَقَدْ مَنَعَ أَصْحَابُنَا دَعْوَى الْحَنَفِيَّةِ كَوْنَ التَّقْيِيدِ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَلَا يَتَّجِهُ مَنْعُ كَوْنِهِ زِيَادَةً إلَّا عِنْدَ كَوْنِ الزِّيَادَةِ وَصْفًا، أَمَّا إذَا كَانَتْ ذَاتًا مُسْتَقِلَّةً، فَهِيَ زِيَادَةٌ قَطْعًا. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ خِلَافًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَجَزَمَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ ابْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا. قَالَ: وَفِي هَذَا إثْبَاتُ أَصْلٍ بِغَيْرِ أَصْلٍ. اهـ. وَمِنْ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدًا، وَاخْتَارَ مِنْ الْخِصَالِ إخْرَاجَ الطَّعَامِ، أَنَّهُ يُفَرِّقُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ فَصَاعِدًا، لِأَنَّهُ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ إلَى جَمْعٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي كَفَّارَةِ الْإِتْلَافِ فِي الْحَجِّ إعْطَاؤُهَا لِجَمْعٍ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِمْ سِتَّةً لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَلَمْ يَحْمِلُوا ذَلِكَ الْمُطْلَقَ فِي الْجَمْعِ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ فِي حَمْلِهِ زِيَادَةَ أَجْرَامٍ وَهِيَ ثَلَاثَةُ مَسَاكِينَ وَإِلَّا فَلِمَ لَا يُحْمَلُ؟ الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ إلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ كَاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، فَهِيَ شَرْطٌ فِي الْجَمِيعِ، وَكَذَا تَقْيِيدُهُ مِيرَاثَ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وَإِطْلَاقُهُ الْمِيرَاثَ فِيمَا أَطْلَقَ فِيهِ، وَكَانَ مَا أُطْلِقَ مِنْ الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُطْلَقُ دَائِرًا بَيْنَ قَيْدَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ

مُخْتَلِفًا لَمْ يُحْمَلْ إطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ أَوْلَى، أَوْ مَا كَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ أَقْوَى، ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " وَإِلْكِيَا. وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَقَدْ حَكَى الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِيهِ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا، وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا. وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الْكَفَّارَاتِ، وَمَثَّلَهُ بِالصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ فِي وُجُوبِ تَتَابُعِهِ قَوْلَيْنِ، أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ قَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُوجِبُ التَّتَابُعَ، وَهُوَ صَوْمُ الظِّهَارِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] وَالْآخَرُ، يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ، وَهُوَ صَوْمُ التَّمَتُّعِ فِي قَوْلِهِ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْآخَرِ. فَتُرِكَ عَلَى إطْلَاقِهِ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ التَّتَابُعِ فِيهِ وَالتَّفْرِيقِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، لَمَّا أُطْلِقَ، وَهُوَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ حُمِلَ عَلَى إطْلَاقِهِ. اهـ. وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، قَالَ: هَذَا مِمَّا سَبَقَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يُسْبَقْ فِيهِ. وَمَثَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، فَإِنَّهُ وَرَدَ مُقَيَّدًا بِالْمَرَافِقِ، وَقَطْعُهَا فِي السَّرِقَةِ مُقَيَّدٌ بِالْكُوعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَسْحُهُمَا فِي التَّيَمُّمِ وَرَدَ مُطْلَقًا، فَهَلْ يُلْحَقُ بِالْقَطْعِ أَوْ بِالْغَسْلِ؟ هَذَا مَأْخَذُ الْخِلَافِ. قَالَ: وَالْأَصَحُّ حَمْلُهُ عَلَى مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْمُقَيَّدَيْنِ، فَيُلْحَقُ بِالْغَسْلِ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلُهُ. وَقَالَ إِلْكِيَا: يَجِبُ الْوَقْفُ، إذْ لَا قِيَاسَ. فَإِنْ غَلَبَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ تَحَقَّقَ الْقِيَاسُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " وَتَبِعَهُ فِي " الْمَحْصُولِ ": إنَّ مَنْ لَا يَرَى تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالْمُقَيَّدِ أَصْلًا، لَا يُقَيِّدُهُ هُنَا بِأَحَدِهِمَا، وَمَنْ يَرَى التَّقْيِيدَ مِنْ اللَّفْظِ لَا يَرَاهُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَنْ يُقَيَّدَ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ؛ وَأَمَّا مَنْ يَرَاهُ

بِالْقِيَاسِ فَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا إذَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْآخَرِ. اهـ. وَعَلَى هَذَا فَقِيلَ يُحْمَلُ عَلَى الْكَفَّارَةِ فِي الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهِ فِي الْقِيَاسِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْكَفَّارَةِ، بِخِلَافِ وَاجِبِ التَّتَابُعِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِلشَّافِعِيِّ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ عَدَمُ وُجُوبِ التَّتَابُعِ وَهَذَا الْبِنَاءُ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنَّمَا جَاءَ فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ حَيْثُ لَمْ تَجْرِ مَجْرَى التَّفْسِيرِ، وَلَمْ يُعَارِضْهَا خَبَرٌ، هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا أَمْ لَا؟ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ وُجُوبِ التَّفْرِيقِ فِي التَّمَتُّعِ لَيْسَ بَيْنَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا، بَلْ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا كَمَا فِي حَدِيثِ الْوُلُوغِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ: إحْدَاهُنَّ، وَأُولَاهُنَّ، وَأُخْرَاهُنَّ، فَالْمُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ؛ إذْ لَيْسَ إلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَالْقِيَاسُ هُنَا مُتَعَذِّرٌ، فَيَتَعَارَضَانِ، وَبَقِيَ الْمُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَنَقُولُ بِجَوَازِ التَّعْفِيرِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرَّاتِ عَمَلًا بِرِوَايَةِ إحْدَاهُنَّ الْمُطْلَقَةِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ. وَمِنْهُمْ صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " وَبِهِ أَجَابَ الْقَرَافِيُّ عَنْ اعْتِرَاضٍ أَوْرَدَهُ بَعْضُ قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ. فَإِنَّ قَاعِدَتَهُمْ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَكَانَ يَنْبَغِي: أُولَاهُنَّ، لِوُرُودِ إحْدَاهُنَّ وَأُولَاهُنَّ، فَأَجَابَهُ الْقَرَافِيُّ، بِأَنَّهُ قَدْ عَارَضَ رِوَايَةَ أُولَاهُنَّ رِوَايَةُ أُخْرَاهُنَّ، يُرِيدُ بِذَلِكَ، «وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» . وَيُرْجَعُ إلَى أَصْلِ الْإِطْلَاقِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْبَقَاءَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا عَلَى مَعْنَى التَّخْيِيرِ، وَمَنْعِ إجْزَاءِ الْمُتَوَسِّطِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التُّرَابُ إلَّا فِي الْأُولَى أَوْ فِي الْأَخِيرَةِ دُونَ مَا سِوَاهُمَا، حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ، وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الْبُوَيْطِيِّ "

وَذَكَرَهُ الْمَرْعَشِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُ. وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ " فِي رِوَايَةِ: أُولَاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ: الْأَقْرَبُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي، فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ بِتَعَيُّنِ الْأُولَى أَوْ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، بَلْ إمَّا بِتَعَيُّنِ الْأُولَى أَوْ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْجَمِيعِ. اهـ. وَقِيلَ: بَلْ عَلَى هَذَا يَنْبَغِي إيجَابُ كُلٍّ مِنْهُمَا: الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ فِيهِمَا، وَلَا تَنَافِيَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالثَّامِنَةِ التَّعَدُّدُ لَا الْأَخِيرَةُ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُطْلَقًا كَإِحْدَاهُنَّ، وَتَكُونُ رِوَايَةُ إحْدَاهُنَّ، وَالثَّامِنَةُ وَاحِدَةً. وَمَعْنَى رِوَايَةِ أُولَاهُنَّ يَعُودُ أَصْلُ السُّؤَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ بِأَنَّ رِوَايَةَ: أُخْرَاهُنَّ مُسَاوِيَةٌ لِإِحْدَاهُنَّ، فَيَبْقَى قَيْدٌ وَهُوَ أُولَاهُنَّ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ، لِأَنَّ أُخْرَاهُنَّ مُؤَنَّثُ آخِرَ - بِكَسْرِ الْخَاءِ -، لَا مُؤَنَّثُ آخَرَ - بِفَتْحِهَا -، وَذَاكَ لَا يُضَافُ، وَهَاهُنَا قَدْ وَقَعَ مُضَافًا، فَعُلِمَ أَنَّهُ مُؤَنَّثُ آخِرَ، فَجَاءَ الْقَيْدَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ بِأَنَّ شَرْطَ التَّعَارُضِ تَسَاوِي الرِّوَايَاتِ وَعَدَمُ وُجُودِ التَّرْجِيحِ فِي أَحَدِهَا، فَأَمَّا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَإِطْرَاحُ الْمَرْجُوحِ، لِامْتِنَاعِ إسْقَاطِ الرَّاجِحِ بِمُعَارَضَةِ الْمَرْجُوحِ. ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ". وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ لَازِمٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا اتَّفَقَ السَّبَبُ وَالْحُكْمُ، وَهُوَ هَاهُنَا كَذَلِكَ. وَيُنَاظِرُ هَذَا السُّؤَالَ سُؤَالَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ، إلَّا إذَا

كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً، أَمَّا إذَا كَانَتْ تَالِفَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَعِنْدَنَا يَتَحَالَفَانِ مُطْلَقًا، مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا» . وَرُوِيَ زِيَادَةُ: (وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ) فَلِمَ لَا حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ مَعَ اتِّحَادِ الْقَاعِدَةِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ وَرَدَ التَّقْيِيدُ بِقَيْدٍ آخَرَ مُضَادٍّ لِلْقَيْدِ السَّابِقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالْمَبِيعُ مُسْتَهْلَكٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. فَرَجَعْنَا إلَى أَصْلِ الْإِطْلَاقِ. وَأَيْضًا فَالْقَيْدَانِ ضَعِيفَا الْإِسْنَادِ. وَقَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْمَأْخَذِ مَا يَرْوِيهِ أَصْحَابُنَا مِنْ التَّقْيِيدِ بِالْهَلَاكِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ: بَاطِلٌ. الثَّانِي: أَنَّ فِي كِتَابِ فَرِيضَةِ الصَّدَقَةِ فِي فَرِيضَةِ الْإِبِلِ: «فَإِنْ زَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ» وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي الزِّيَادَةِ، وَجَاءَ مُقَيَّدًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: (فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ) فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَبَعْضِ وَاحِدَةٍ إلَّا مَا يَجِبُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَقَطْ. وَهَذَا السُّؤَالُ إنَّمَا يَرُدُّ عَلَى الْإِصْطَخْرِيِّ الْقَائِلِ بِوُجُوبِ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ فِيمَا إذَا زَادَتْ بَعْضُ وَاحِدَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ حِقَّتَانِ، وَفَاءً بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ. تَنْبِيهٌ حَيْثُ قُلْنَا بِأَصْلِ الْإِطْلَاقِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيَجِبُ حَمْلُ [كُلِّ] وَاحِدٍ مِنْ الْمُقَيَّدَيْنِ عَلَى تَقْيِيدِهِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ. قَالَا: فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى مُقَيَّدِ نَظِيرِهِ، فَيُنْظَرُ فِي صِفَتَيْ التَّقْيِيدِ فِيهِمَا، فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَمْ يُحْمَلْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَاخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِصِفَتِهِ الَّتِي قُيِّدَ بِهَا،

وَذَلِكَ مِثْلُ تَقْيِيدِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِالتَّتَابُعِ، وَصَوْمِ التَّمَتُّعِ بِالتَّفْرِيقِ، فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ، فَيُخَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصِفَةٍ، وَإِنْ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُ الصِّفَتَيْنِ وَلَمْ يَتَنَافَيَا فَفِي حَمْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى تَقْيِيدِ نَظِيرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُحْمَلُ إلَّا عَلَى مَا قُيِّدَ بِهِ، إذَا قُلْنَا الْمُطْلَقُ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالثَّانِي: يُحْمَلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَتَقْيِيدِ نَظِيرِهِ بِنَظِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَيَّدًا بِالصِّفَتَيْنِ، إذَا قُلْنَا: يَجُوزُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ مَا أُطْلِقَ مِنْ جِنْسِهِمَا عَلَى تَقَيُّدِهِمَا مَعًا، وَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَجَانِسَةِ مُقَيَّدًا بِشَرْطَيْنِ. اهـ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي بَابِ الْأَوَامِرِ وَالْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا فِي جَانِبِ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ فَلَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْلَالُ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ مَعَ تَنَاوُلِ النَّهْيِ. وَهُوَ غَيْرُ سَائِغٍ. ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. قَالَ: لَا خِلَافَ فِي الْعَمَلِ بِمَدْلُولِهِمَا وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، لِعَدَمِ التَّعَذُّرِ فَإِذَا قَالَ: لَا تُعْتِقْ مُكَاتَبًا، لَا تُعْتِقْ مُكَاتِبًا كَافِرًا، لَمْ يُعْتِقْ مُكَاتِبًا كَافِرًا وَلَا مُؤْمِنًا أَيْضًا إذْ لَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ يُعْمَلْ فِيهِمَا، لَكِنَّ صَاحِبَ " الْمَحْصُولِ " سَوَّى بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْحَمْلِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَرَافِيُّ بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ. وَأَمَّا الْأَصْفَهَانِيُّ فَتَبِعَ صَاحِبَ " الْمَحْصُولِ " وَقَالَ: حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بَلْ يَجْرِي فِي جَمِيعِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، نَقُولُ فِي الْخَبَرِ: جَاءَنِي رَجُلٌ مِنْ آلِ عَلِيٍّ، ثُمَّ تَقُولُ: جَاءَنِي بَقِيَّةُ الْعَلَوِيِّينَ. وَمِثَالُ التَّمَنِّي: لَيْتَ لِي مَالًا ثُمَّ تَقُولُ: لَيْتَ لِي جَمَلًا فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ.

قَالَ: وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَئِمَّةُ الْكَلَامَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِمَا فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ سَهُلَ تَعْدِيَتُهُ إلَى بَقِيَّةِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. اهـ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ، فَقَالَ: فَمَا كَانَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، كَانَ أَحَدُهُمَا مَبْنِيًّا عَلَى الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ» ، مَعَ قَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» . ثُمَّ قَالَ: وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ عَلَى الثَّانِي فَمَا كَانَ مُكَرَّرًا مِنْهُ كَانَ لِلتَّأْكِيدِ، وَمَا كَانَ مُفْرَدًا كَانَ مُسْتَعْمَلًا عَلَى التَّرْتِيبِ. فَإِذَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُهُ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ» ، وَرُوِيَ عَنْهُ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» جُمِعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَكَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ الْمُطْلَقُ دَاخِلًا فِي الثَّانِي، وَحُمِلَ عَلَى التَّكْرَارِ، وَاسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا مَعَ الْوَصْفِ. اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: لَا يُتَصَوَّرُ تَوَارُدُ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فِي جَانِبِ النَّفْيِ وَلَا النَّهْيِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمِثَالِ إنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ إفْرَادِ بَعْضِ مَدْلُولِ الْعَامِّ بِحُكْمٍ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ خِلَافِ أَبِي ثَوْرٍ، فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ هَاهُنَا. وَقَدْ خَرَّجَهُ الْهِنْدِيُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ فَمَنْ أَنْكَرَهُ لَمْ يُخَصِّصْ، وَمَنْ قَالَ بِهِ، خَصَّصَ النَّهْيَ الْعَامَّ بِهِ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَشَرَطَهُ أَيْضًا فِي حَمْلِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَمَثَّلَهُ بِحَدِيثِ: «لَا يَمَسَّنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ» ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: (وَهُوَ يَبُولُ) فَالْأُولَى مُطْلَقَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مُقَيَّدَةٌ، لَكِنَّ فِي تَقْيِيدِهِ بِحَالَةِ

الْبَوْلِ تَنْبِيهٌ عَلَى رِوَايَةِ الْإِطْلَاقِ، وَأَوْلَى لِأَنَّهُ إذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ الْمَسِّ بِالْيَمِينِ حَالَةَ الِاسْتِنْجَاءِ مَعَ مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فَغَيْرُهُ مِنْ الْحَالَاتِ أَوْلَى. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ خَصَّصَ النَّهْيَ بِمَسِّ الذَّكَرِ بِحَالَةِ الْبَوْلِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِالنَّهْيِ عَنْ مَسِّهِ مُطْلَقًا أَخْذًا بِالْإِطْلَاقِ. ثُمَّ قَالَ: وَيُنْظَرُ إنْ كَانَا حَدِيثَيْنِ فَالْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَمَخْرَجُهُ وَاحِدٌ، وَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ الرُّوَاةُ، فَيَنْبَغِي حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَكُونُ زِيَادَةً مِنْ عَدْلٍ، وَهِيَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ. وَهَذَا أَيْضًا يَكُونُ بَعْدَ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، وَمَا يُعْمَلُ بِهِ مِنْهُ، وَمَا لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَبَعْدَ أَنْ يُنْظَرَ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْهُومِ عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ. ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْعَامَّ فِي الذَّوَاتِ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَأَمَّا عَلَى مَا نَخْتَارُ نَحْنُ مِنْ الْعُمُومِ فِي الْأَحْوَالِ تَبَعًا لِلْعُمُومِ فِي الذَّوَاتِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ. انْتَهَى. وَبِهَذَا يَسْهُلُ جَعْلُ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ. تَنْبِيهٌ سَبَقَ فِي بَابِ الْعُمُومِ خِلَافٌ فِي أَنَّ التَّخْصِيصَ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ كَمَا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَوْ لَا؟ وَيَنْبَغِي جَرَيَانُ هَذَا الْخِلَافِ هُنَا حَتَّى يُشْتَرَطَ عَلَى قَوْلِ كَوْنِهِمَا مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ لَا مِنْ بَابِ الْخَبَرِ. اهـ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: [لَا] أَنْ يَكُونَ فِي جَانِبِ الْإِبَاحَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى لُبْسِ الْمُحْرِمِ الْخُفَّ. وَقَالَ: إنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي جَانِبِ الْإِبَاحَةِ إذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَفِي الْمُطْلَقِ زِيَادَةٌ. انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَمْكَنَ تَعَيُّنُ إعْمَالِهِمَا، فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي " الْمَطْلَبِ " فِي الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ. وَمِثَالُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «مَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» . فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَ الْعَبِيدِ لَا يَكُونُ لَهُ مَالٌ، فَيَكُونُ الْإِضَافَةُ فِيهِ لِلتَّمْلِيكِ، وَالْمَالُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُمَلِّكُهُ السَّيِّدُ إيَّاهُ، وَلَيْسَ كُلُّ عَبْدٍ يُمَلِّكُهُ السَّيِّدُ مَالًا. وَالثَّانِيَةُ تَشْمَلُ كُلَّ عَبْدٍ، فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ فِيهَا إضَافَةَ تَخْصِيصٍ لَا تَمْلِيكٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى ثِيَابِهِ الَّتِي عَلَيْهِ، لِأَنَّ كُلَّ عَبْدٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ثِيَابٍ يَخْتَصُّ بِهَا. قَالَ: فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُطْلَقَةٌ، تَنْزِلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَقْيِيدِهَا بِحَالَةِ تَمْلِيكِ السَّيِّدِ الْمَالَ لَهُ. قَالَ: وَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ هُنَا لِأَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ. الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَيَّدُ ذُكِرَ مَعَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الزَّائِدِ. فَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ هُنَا قَطْعًا، مِثَالُهُ: إنْ قَتَلْتَ، فَأَعْتِقْ رَقَبَةً، مَعَ: إنْ قَتَلْتَ مُؤْمِنًا فَأَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، فَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ هُنَاكَ عَلَى الْمُقَيَّدِ هُنَا فِي الْمُؤْمِنَةِ، لِأَنَّ التَّقْيِيدَ هُنَا إنَّمَا جَاءَ لِلْقَدْرِ الزَّائِدِ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُؤْمِنًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ إلَّا بِشَرْطِ الْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُحْبِطُ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] فَمُطْلَقٌ، قُيِّدَتْ بِهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ. هَكَذَا قَالُوا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا فِي الْقَيْدِ مِنْ الْقَدْرِ الزَّائِدِ، وَهُوَ الْخُلُودُ فِي النَّارِ. وَأَيْضًا فَلَيْسَتْ الْآيَتَانِ مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، بَلْ مِنْ بَابِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، فَنُعْمِلُ الْخَاصَّ، عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:

مسألة اللفظ المطلق إذا تطرق إليه التقييد

{وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا لَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ خَاسِرًا، فَالْمُرَادُ فِي الْآيَتَيْنِ التَّقْيِيدُ، وَلَيْسَ فِيهِمَا مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي " الْأُمِّ " عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ بِمُجَرَّدِهَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِالْمَوْتِ، عَلَى مَعْنَى ذَهَابِ الْأَجْرِ. الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ لَا يَقُومَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْ التَّقْيِيدِ، مِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] الْآيَةَ. فَلَمْ يُقَيَّدْ بِالدُّخُولِ، وَقُيِّدَ بِهِ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49] وَلَمْ يَحْمِلُوا الْمُطْلَقَ هُنَاكَ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ، وَهُوَ أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ أَوْ تَخْصِيصَ الْعَامِّ إنَّمَا يَكُونُ بِقِيَاسٍ أَوْ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ هُنَا مُنْتَفٍ لِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَحْكَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّهَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُغَسِّلُهُ، وَتَرِثُ مِنْهُ اتِّفَاقًا. وَلَوْ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمُطَلَّقَاتِ الْبَوَائِنِ لَمْ تَرِثْ، فَلَمَّا ظَهَرَ فِي الْفَرْعِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ امْتَنَعَ التَّقْيِيدُ بِالْقِيَاسِ أَوْ التَّخْصِيصُ بِهِ. . [مَسْأَلَةٌ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّقْيِيدُ] ُ، فَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْبَاقِي قَوْلَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْكِفَايَةِ " كَالْخِلَافِ فِي الْعَامِّ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ. قَالَ: وَتَمْهِيدُ هَذَا الْخِلَافِ يَسْتَدْعِي بَيَانَ عُمُومِ الْمُطْلَقِ، وَيَعْنِي بِهِ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ، كَالْعَامِّ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ يَنْقَسِمُ إلَى وَاحِدٍ بِالْجِنْسِ، وَوَاحِدٍ بِالذَّاتِ، فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الذَّوَاتِ، لِاشْتِمَالِ الْجِنْسِ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالذَّوَاتِ، بِخِلَافِ الْعَامِّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا بِالْوَضْعِ. وَأَمَّا الْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ: فَمَعْنَاهُ حَقِيقَةٌ تُوجَدُ فِي جَمِيعِ الْأَعْيَانِ، فَيَقَعُ عُمُومُ الْأَعْيَانِ ضَرُورَةَ اشْتِمَالِهَا

خاتمة المقيد لا يحمل على المطلق

عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، لَا أَنَّهَا مَدْلُولُ اللَّفْظِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْمُطْلَقَ يُفَارِقُ الْعَامَّ مِنْ وَجْهٍ، وَيُسَاوِيهِ مِنْ وَجْهٍ. قَالَ: فَالصَّائِرُونَ إلَى أَنَّهُ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ تَقْيِيدٌ لَا يَبْقَى حُجَّةٌ، قَالُوا، لِأَنَّ اللَّفْظَ كَانَ عَامًّا، لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ لِحَقِيقَةٍ يَسْتَوِي نِسْبَتُهَا إلَى الْأَعْيَانِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُطْلَقَةَ مَا كَانَتْ مُرَادَةً. فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْوَاحِدَ بِالذَّاتِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى حَقِيقَةٍ مُطْلَقَةٍ، تَسْتَوِي نِسْبَتُهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِهَا. وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ لَا لِخَلَلٍ فِي الدَّلِيلِ، وَلَا لِمَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّقِ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ، بَلْ لِمَعْنًى يَقَعُ مِنْ عَوَارِضِ التَّعْيِينِ، فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، لِوُجُودِ مُعَارِضٍ دَافِعٍ لِلْحُكْمِ وَهُوَ لَا يُبْطِلُ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْعَامِّ يُخَصُّ. . [خَاتِمَةٌ الْمُقَيَّدَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ] خَاتِمَتَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْمُقَيَّدَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ. وَوَقَعَ فِي " الْوَسِيطِ " فِي بَابِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ حَيْثُ احْتَجَّ لِلْقَوْلِ الصَّائِرِ إلَى أَنَّهُ لَوْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ. قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ هَذَا بِقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] ، وَأَطْلَقَ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ، قَوْلَهُ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] . انْتَهَى. وَفِي هَذَا حُمِلَ الْمُقَيَّدُ عَلَى الْمُطْلَقِ، فَإِنَّهُ حَمَلَ آيَةَ الْمُحَارَبَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا التَّقْيِيدُ، عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ الْأَمْرُ مُطْلَقًا، وَهُوَ السَّرِقَةُ وَهُوَ غَرِيبٌ. ثُمَّ رَأَيْت الْأَصْحَابَ قَدْ حَمَلُوا ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَسْحِ الْخُفِّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ»

مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ، لِأَنَّ لَيَالِيَهُنَّ مُقَيَّدٌ بِالْإِضَافَةِ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ الْمُسَافِرُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا يَمْسَحُ اللَّيْلَةَ الرَّابِعَةَ. وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ يَمْسَحُ لَيْلَتَهُ حَمْلًا عَلَى الْمُطْلَقِ، كَمَا لَوْ تَأَخَّرَتْ لَيْلَةُ الْيَوْمِ عَنْهُ. الثَّانِيَةُ: كَثُرَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يَقُولُوا: هَذَا مُطْلَقٌ، وَالْمُطْلَقُ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ إعْمَالُهُ فِي صُورَةٍ، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي كَذَا، فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ فِي غَيْرِهِ. وَقَدْ اسْتَعْظَمَ جَمْعٌ هَذَا السُّؤَالَ: وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى " فُرُوعِ ابْنِ الْحَاجِبِ " بِأَنَّهُ إنَّمَا يُكْتَفَى بِالْعَمَلِ بِهِ فِي صُورَةٍ حَيْثُ لَا يَلْزَمُ تَرْكُ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَى الْعُمُومِ فِيهِ، بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي كُلِّ صُورَةٍ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْعُمُومِ فِيهَا فِي الْحَالَةِ الْمُطْلَقَةِ تَرْكُ الْعُمُومِ فِيمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْعُمُومِ، مِثَالُهُ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي جَوَابِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ تَجِبُ فِيهِ النِّيَّةُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُقَرِّبُ وُضُوءَهُ» فَيَقُول الْحَنَفِيُّ: هُوَ عَامٌّ فِي التَّوَضُّؤِ، مُطْلَقٌ فِي الْوُضُوءِ، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي الْوُضُوءِ الْمَنْوِيِّ، فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ فِي غَيْرِهِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْعُمُومَ فِي التَّوَضُّؤِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ فِي الْوُضُوءِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْوُضُوءِ إلَّا وَفَاعِلُهُ مُتَوَضِّئٌ، فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ الْعُمُومِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُثَابًا عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى عُمُومِ اللَّفْظِ. وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُطْلَقَ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةً، فَنَقُولُ: يُكْتَفَى فِيهِ بِالْمَرَّةِ فِعْلًا أَوْ حُكْمًا؟ الْأَوَّلُ: مُسَلَّمٌ، الثَّانِي: مَمْنُوعٌ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُطْلَقَ إذَا فُعِلَ مُقْتَضَاهُ مَرَّةً، وَوُجِدَتْ الصُّورَةُ الْجُزْئِيَّةُ الَّتِي يَدْخُلُ تَحْتَهَا الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ، وَفِي ذَلِكَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا إذَا قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، فَفَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً، لَا يَلْزَمُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ أُخْرَى، لِحُصُولِ الْوَفَاءِ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْعُمُومَ، وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ مَرَّةً وَحَنِثَ، لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهَا ثَانِيًا، لِوُجُودِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ

فِعْلًا مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءِ الْعُمُومِ؛ أَمَّا إذَا عَمِلَ بِهِ مَرَّةً حُكْمًا، أَيْ فِي صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمُطْلَقِ، لَا يَلْزَمُ التَّقْيِيدُ بِهَا، وَلَا يَكُونُ وَفَاءً بِالْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ بِالصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ حُكْمًا أَنْ لَا يَحْصُلَ الِاكْتِفَاءُ بِغَيْرِهَا وَذَلِكَ فِيمَا خَصَّ الْإِطْلَاقَ. مِثَالُهُ إذَا قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً فَإِنَّ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ أَنْ يَحْصُلَ الْإِجْزَاءُ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى رَقَبَةً، لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ فِي كُلِّ مُعْتَقٍ مِنْ الرِّقَابِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ بِهِ، فَإِذَا خَصَّصْنَا الْحُكْمَ بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ مَنَعْنَا إجْزَاءَ الْكَافِرَةِ، وَمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ إجْزَاؤُهَا إنْ وَقَعَ الْعِتْقُ لَهَا. فَاَلَّذِي فَعَلْنَاهُ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ.

الظاهر والمؤول

[الظَّاهِرُ وَالْمُؤَوَّلُ] ُ قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهُوَ أَنْفَعُ كُتُبِ الْأُصُولِ وَأَجَلُّهَا، وَلَمْ يَزِلَّ الزَّالُّ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ. وَأَمَّا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " فَأَنْكَرَ عَلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ إدْخَالَهُ هَذَا الْبَابَ فِي فَنِّ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي شَيْءٍ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ يُورَدُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، لَكِنَّا نَذْكُرُ طَرَفًا مِنْهُ، وَلَا نُعْدِمُ النَّاظِرَ فِيهِ نَوْعَ فَائِدَةٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْخَاطِرِ اسْتِخْرَاجَ التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَنْكِرَةِ لِلْأَخْبَارِ، وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ الْوَرِعِ التَّبَاعُدُ عَنْهُ. فَالظَّاهِرُ: الْوَاضِحُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ وَالْقَاضِي لَفْظُهُ يُغْنِي عَنْ تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَهُوَ فِي أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ، وَقِيلَ: مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى مَعَ قَبُولِهِ لِإِفَادَةِ غَيْرِهِ إفَادَةً مَرْجُوحَةً، فَانْدَرَجَ تَحْتَهُ مَا دَلَّ عَلَى الْمَجَازِ الرَّاجِحِ، وَيُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي يُفِيدُ مَعْنًى، سَوَاءٌ أَفَادَ مَعَهُ غَيْرُهُ إفَادَةً مَرْجُوحَةً أَوْ لَمْ يُفْدِ. وَلِهَذَا يَخْرُجُ النَّصُّ؟ ، فَإِنَّ إرَادَتَهُ ظَاهِرَةٌ بِنَفْسِهِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ: أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ كَانَ يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَلَعَلَّهُ لَمَحَ فِيهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، فَإِنَّ النَّصَّ لُغَةً هُوَ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ الْمِنَصَّةُ. وَالنَّصُّ عِنْدَهُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ. وَهَذَا مُرَادِفٌ لِلظَّاهِرِ، وَإِلَى مَا لَا يَقْبَلُهُ، وَهُوَ النَّصُّ الصَّحِيحُ. . [مَسْأَلَةٌ الظَّاهِرُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ] مَسْأَلَةٌ [الظَّاهِرُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ] الظَّاهِرُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، بِدَلِيلِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ

مسألة الظاهر قسمان

عَلَى الْعَمَلِ بِظَوَاهِر الْأَلْفَاظِ. وَهُوَ ضَرُورِيٌّ فِي الشَّرْعِ، كَالْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَإِلَّا لَتَعَطَّلَتْ غَالِبُ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ النُّصُوصَ مُعْوِزَةٌ جِدًّا، كَمَا أَنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ قَلِيلَةٌ جِدًّا. . [مَسْأَلَةٌ الظَّاهِرُ قِسْمَانِ] مَسْأَلَةٌ وَهُوَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: الْأَلْفَاظُ الْمُسْتَعَارَةُ وَهِيَ الْمَقُولَةُ أَوَّلًا عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ اُسْتُعِيرَتْ لِغَيْرِهِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، كَاسْتِعَارَتِهِمْ أَعْضَاءَ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ الْحَيَوَانِ. قَالُوا: رَأْسُ الْمَالِ، وَوَجْهُ النَّهَارِ، وَحَاجِبُ الشَّمْسِ، وَعَيْنُ الْمَاءِ، وَكَبِدُ السَّمَاءِ، فَهَذَا الْقِسْمُ إذَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ، حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لِغَيْرِهَا. وَهُوَ الْمَجَازُ، لِأَنَّ الْمَجَازَ فِيهَا لَمْ يَغْلِبْ اسْتِعْمَالُهُ، فَإِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى صَارَ اسْمًا عُرْفِيًّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي كَقَوْلِهِمْ: الْغَائِطُ لِلْمُطْمَئِنِّ مِنْ الْأَرْضِ - كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ هُوَ الظَّاهِرُ، حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَقَدْ يَتَطَرَّقُ إلَى هَذَا الْقِسْمِ الْإِجْمَالُ، فَإِنْ تَسَاوَى الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25] فَإِنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا الْعَدْلُ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ احْتِمَالًا يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ - فَيُلْحَقُ بِالْمُجْمَلِ. وَالثَّانِي: مِنْ أَقْسَامِ الظَّاهِرِ هِيَ: أَلْفَاظُ الْعُمُومِ، فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ، مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّخْصِيصِ، عَلَى مَا سَبَقَ هُنَاكَ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ: فَهُوَ لُغَةً: الْمَرْجِعُ مِنْ آلَ إلَيْهِ الْأَمْرُ، أَيْ رَجَعَ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِيَالَةِ وَهِيَ السِّيَاسَةُ. يُقَالُ: فُلَانٌ آيِلٌ عَلَيْنَا، أَيْ سَائِسُنَا، فَكَانَ الْمُؤَوَّلُ بِالتَّأْوِيلِ، كَالْمُتَحَكِّمِ السَّائِسِ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَصَرِّفِ

فِيهِ وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ ": التَّأْوِيلُ آخِرُ الْأَمْرِ وَعَاقِبَتُهُ يُقَالُ: مَآلُ هَذَا الْأَمْرِ أَيْ مَصِيرُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] أَيْ لَا يَعْلَمُ الْآجَالَ وَالْمُدَدَ إلَّا اللَّهُ، وَاشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ مِنْ الْآلِ، وَهُوَ الْعَاقِبَةُ وَالْمَصِيرُ. وَاصْطِلَاحًا: صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ، ثُمَّ إنْ حُمِلَ لِدَلِيلٍ فَصَحِيحٌ، وَحِينَئِذٍ فَيَصِيرُ الْمَرْجُوحُ فِي نَفْسِهِ رَاجِحًا لِلدَّلِيلِ، أَوْ لِمَا يُظَنُّ دَلِيلًا فَفَاسِدٌ، أَوْ لَا لِشَيْءٍ فَلَعِبٌ، لَا تَأْوِيلٌ. فَإِذَنْ التَّأْوِيلُ: صَرْفُ اللَّفْظِ إلَى غَيْرِهِ لَا نَفْسِ الِاحْتِمَالِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيَّ: هُوَ احْتِمَالٌ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ يَصِيرُ بِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنْ الظَّاهِرِ. وَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ، لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْفَاسِدَ وَالْيَقِينِيَّ. ثُمَّ إنَّهُ جَعَلَهُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِ الِاحْتِمَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَلَا يَتَطَرَّقُ التَّأْوِيلُ إلَى النَّصِّ وَالْمُجْمَلِ، ثُمَّ لَيْسَ كُلُّ احْتِمَالٍ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ فَهُوَ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ، بَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ ظُهُورِ الْمُؤَوَّلِ، فَإِنْ كَانَتْ دَلَالَةُ الْمُؤَوَّلِ عَلَيْهِ مِنْ الْخَارِجِيِّ تَزِيدُ عَلَى دَلَالَتِهِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ قُبِلَ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الْعَبْدَرِيّ: هَذَا التَّعْرِيفُ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ لَا يَتَأَوَّلُ إلَّا الْعُمُومُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ، فَإِنَّ مِنْ التَّأْوِيلِ مَا هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَةٍ إلَى حَقِيقَةٍ، كَاللَّفْظِ الْعُرْفِيِّ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ تَصْرِفُهُ عَنْ الْعُرْفِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ مِنْهُ إلَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ. قَالَ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": اعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ

ظَاهِرِهِ، وَكَانَ الْأَصْلُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعَضَّدَ التَّأْوِيلُ بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ، لِئَلَّا يَكُونَ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ، وَقَدْ جَعَلُوا الضَّابِطَ فِيهِ مُقَابَلَةَ الظَّاهِرِ بِالتَّأْوِيلِ وَعَاضِدِهِ، وَتَقْدِيمِ الْأَرْجَحِ فِي الظَّنِّ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَقَدْ قِيلَ بِالْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَدَّعِي تَأْوِيلًا لَا يَنْقَدِحُ احْتِمَالُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ أَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ هُوَ الصَّوَابُ، غَيْرَ أَنَّا نَرَاهُمْ إذَا انْصَرَفُوا إلَى الظَّنِّ، تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْقَانُونِ. وَمِنْ أَسْبَابِهِ اشْتِبَاهُ الْمَيْلِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمَيْلِ الْحَاصِلِ مِنْ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تُحْدِثُ لِلنَّفْسِ هَيْئَةً وَمَلَكَةً تَقْتَضِي الرُّجْحَانَ فِي النَّفْسِ بِجَانِبِهَا، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ النَّاظِرُ بِذَلِكَ، وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ رُجْحَانُ الدَّلِيلِ، وَهَذَا مَحَلُّ خَوْفٍ شَدِيدٍ وَخَطَرٍ عَظِيمٍ يَجِبُ عَلَى الْمُتَّقِي اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَ نَظَرَهُ إلَيْهِ وَيَقِفَ فِكْرُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": يَجِبُ إجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ دُونَ مَآلِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى الْخِلَافِ الظَّاهِرِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَرْجُوحِ أَقْوَى مِنْ الظَّاهِرِ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ حَسَنٌ لَوْ مَشَى عَلَيْهِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ حَيْثُ يَقَعُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْعَمَلَ بِأَقْوَى الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ، وَكَلَّمَا كَانَ أَبْعَدَ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ أَقْوَى لِمَا ذَكَرْنَا، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الظَّوَاهِرَ الْمُقْتَضِيَةَ لِخِلَافِ مَا دَلَّ الْقَوَاطِعُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَعِيدِ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالْقَرِيبِ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى تَرْجِيحِ الْأَقْوَى، لِأَنَّ الْقَاطِعَ لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ عَنْ مَدْلُولِهِ، بِخِلَافِ الظَّاهِرِ. قُلْت: وَكَلَامُ صَاحِبِ " الْمُقْتَرَحِ " مِنْ الْجَدَلِيِّينَ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ دَلِيلَ التَّأْوِيلِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْجُمْهُورِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُ شَارِحِيهِ عَلَى أَنَّ دَلِيلَ التَّأْوِيلِ إنْ كَانَ رَاجِحًا، تَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا كَانَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً. وَكِلَاهُمَا يُزَيِّفُ كَلَامَ الْمُسْتَدِلِّ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ الْعَمَلِ بِدَلِيلِهِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَيُوَافِقُ كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ، وَرَجَعَ الْخِلَافُ إلَى اللَّفْظِ. .

فصل فيما يدخله التأويل

[فَصْلٌ فِيمَا يَدْخُلُهُ التَّأْوِيلُ] ُ وَهُوَ يَجْرِي فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفُرُوعُ، وَهُوَ مَحَلُّ وِفَاقٍ. وَالثَّانِي: الْأُصُولُ، كَالْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّيَانَاتِ وَصِفَاتِ الْبَارِي الْمُوهِمَةِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا، بَلْ تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا يُؤَوَّلُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَهُمْ الْمُشَبِّهَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَهَا تَأْوِيلًا، وَلَكِنَّا نُمْسِك عَنْهُ مَعَ تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عَنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، لِقَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ، وَأَوَّلُوهَا، قَالَ: وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَالْآخَرَانِ مَنْقُولَانِ عَنْ الصَّحَابَةِ، فَنُقِلَ الْإِمْسَاكُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، لِأَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الِاسْتِوَاءِ، فَقَالَتْ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِب، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَكَذَلِكَ سُئِلَ عَنْهُ مَالِكٌ، فَأَجَابَ بِمَا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ إلَّا أَنَّهُ زَادَ فِيهِ أَنَّ مَنْ عَادَ إلَى هَذَا السُّؤَالِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ. وَكَذَلِكَ سُئِلَ عَنْهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، فَقَالَ: أَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] مَا أَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] وَنُقِلَ التَّأْوِيلُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ: أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ

شَيْءٌ لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ؟ فَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ وَلِهَذَا مَنَعُوا التَّأْوِيلَ، وَاعْتَقَدُوا فِيهِ التَّنْزِيهَ عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ، وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بَلْ الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَهُ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْوَقْفِ عَلَى: وَالرَّاسِخُونَ وَنَقَلَ فِي " الْوَجِيزِ " قَوْلًا بِتَأْوِيلِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ دُونَ السُّنَّةِ. قَالَ: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ. قَالَ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى تَنَكُّبِ تَأْوِيلِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ مَعَ اعْتِقَادِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى التَّأْوِيلِ خَطَأٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُوهِمَةِ لِلْجِهَةِ وَنَحْوِهَا فِرَقٌ ثَلَاثَةٌ، فَفِرْقَةٌ تُؤَوِّلُ، وَفِرْقَةٌ تُشَبِّهُ، وَثَالِثَةٌ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ الشَّارِعُ مِثْلَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إلَّا وَإِطْلَاقُهُ سَائِغٌ وَحَسَنٌ، فَنَقُولُهَا مُطْلَقَةً كَمَا قَالُوا مَعَ التَّصْرِيحِ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّبَرِّي مِنْ التَّحْدِيدِ وَالتَّشْبِيهِ. وَلَا نُهِمُّ بِشَأْنِهَا ذِكْرًا، وَلَا فِكْرًا، بَلْ نَكِلُ عِلْمَهَا إلَى مَنْ أَحَاطَ بِهَا، وَبِكُلِّ شَيْءٍ خَبَرًا. وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَضَى صَدْرُ الْأُمَّةِ وِسَادَتُهَا، وَإِيَّاهَا اخْتَارَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَادَتُهَا، وَإِلَيْهَا دَعَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَأَعْلَامُهُ، وَلَا أَحَدَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ يَصْدِفُ عَنْهَا وَيَأْبَاهَا، وَأَفْصَحَ الْغَزَالِيُّ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِتَهْجِيرِ مَا سِوَاهَا، حَتَّى أَلْجَمَ آخِرًا فِي إلْجَامِهِ كُلَّ عَالِمٍ وَعَامِّيٍّ عَمَّا عَدَاهَا، قَالَ: وَهُوَ كِتَابُ " إلْجَامِ الْعَوَامّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ " وَهُوَ آخِرُ تَصَانِيفِ الْغَزَالِيِّ مُطْلَقًا أَوْ آخِرُ تَصَانِيفِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، حَثَّ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ. اهـ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي بَعْضِ فَتَاوِيهِ: طَرِيقَةُ التَّأْوِيلِ بِشَرْطِهِ أَقْرَبُهُمَا إلَى الْحَقِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَاطَبَ الْعَرَبَ بِمَا يَعْرِفُونَهُ، وَقَدْ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى مُرَادِهِ مِنْ آيَاتِ كِتَابِهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]

وَقَالَ لِرَسُولِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى الدَّلِيلِ فَقَدْ أَفْهَمَهُ اللَّهُ مُرَادَهُ مِنْ كِتَابِهِ، وَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى ذَلِكَ، إذْ لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ صَاحِبُهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَنَقُولُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ: إنَّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ، وَمَنْ أَوَّلَ شَيْئًا مِنْهَا فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ وَتَفْهَمُهُ فِي مُخَاطَبَاتِهَا لَمْ نُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ نُبَدِّعْهُ، وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عَنْهُ، اسْتَبْعَدْنَاهُ، وَرَجَعْنَا إلَى الْقَاعِدَةِ فِي الْإِيمَانِ بِمَعْنَاهُ مَعَ التَّنْزِيهِ. قُلْت: وَحَيْثُ سَاعَدَ التَّأْوِيلُ لُغَةَ الْعَرَبِ فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، بَلْ نَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَذَا، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ الْمُحْتَفَّةِ بِاللَّفْظِ. نَبَّهَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: مَذْهَبُ السَّلَفِ أَسْلَمُ، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ، فَقَدْ يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَقْوَى فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد أَنَّهُ أَحْوَجُ إلَى مَزِيدٍ مِنْ الْعِلْمِ وَاتِّسَاعٍ فِيهِ لِأَجْلِ أَبْوَابِ التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخُوضُوا فِيهِ. وَالْخَلَفُ خَاضُوا فِيهِ، وَأَوَّلُوهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَ مَا أَوَّلُوهُ مِمَّا يَلِيقُ أَيْضًا بِهِ هَاهُنَا مِثْلُ طَرِيقَةِ السَّلَفِ أَسْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: طَرِيقَةُ الْخَلَفِ لَمَّا كَانَ فِيهَا دَفْعُ إيهَامِ مَنْ يَتَوَهَّمُ حَمْلًا لَا يَلِيقُ كَانَتْ أَعْلَمَ مِنْ تِلْكَ. وَرَجَّحَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا طَرِيقَةَ الْخَلَفِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّلَفَ خَاضُوا أَيْضًا فِي بَعْضٍ، وَقَالُوا: إنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي لَا يَلِيقُ غَيْرُ مُرَادٍ، فَتَرْكُ الْحَمْلِ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مَسْكُوتٌ عَنْ التَّأْوِيلِ مَعَ الْخَوْضِ فِي بَعْضِهِ. وَنَبْذُ إيهَامِ مَنْ لَا يَرْتَقِي إلَى دَرَجَةِ الْفَهْمِ عَنْهُمْ إلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا لِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى إثْبَاتِهِ لَهُ تَعَالَى مِنْ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ وَفِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ، فَطَرِيقَةُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَسْلَمُ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ " التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ ": سَمِعْت الثِّقَاتِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ يَقُولُونَ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ صَرَّحَ بِتَأْوِيلِ ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: «الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» . وَالثَّانِي: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» . وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: «إنِّي لَأَجِدُ رِيحَ نَفَسِ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ» . وَنَقَلَ الرَّازِيَّ عَنْ الْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِ: " تَأْسِيسِ التَّقْدِيسِ " بَدَلَ الْحَدِيثِ الثَّانِي: «أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي» ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِ الْغَزَالِيِّ مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَانْظُرْ كَيْفَ أَوَّلَ أَحْمَدُ لِقِيَامِ الْبُرْهَان عِنْدَهُ عَلَى اسْتِحَالَةِ ظَاهِرِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ التَّأْوِيلِ. فَيَقُولُ: الْيَمِينُ تُقَبَّلُ فِي الْعَادَةِ تَقَرُّبًا إلَى صَاحِبِهَا، وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يُقَبَّلُ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مِثْلُ الْيَمِينِ لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَكِنْ فِي عَارِضٍ مِنْ عَوَارِضِهِ، فَسُمِّيَ يَمِينًا؛ وَكَذَلِكَ لَمَّا اسْتَحَالَ وُجُودُ الْأُصْبُعَيْنِ فِيهِ حِسًّا إذْ مَنْ فَتَّشَ عَنْ صَدْرِهِ لَمْ يُشَاهِدْ فِيهِ أُصْبُعَيْنِ، فَأَوَّلَهُ عَلَى مَا بِهِ تَيَسُّرُ تَغْلِيبِ الْأَشْيَاءِ، وَقَلْبُ الْإِنْسَانِ بَيْنَ لَمَّةِ الْمَلَكِ وَلَمَّةِ الشَّيْطَانِ، وَبِهِمَا يُقَلِّبُ اللَّهُ الْقُلُوبَ، فَكَنَّى بِالْأُصْبُعَيْنِ عَنْهُمَا. قَالَ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ أَحْمَدُ عَلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عِنْدَهُ الِاسْتِحَالَةُ إلَّا فِي هَذَا الْقَدْرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْرِقْ الْبَحْثَ عَنْ حَقَائِقَ

غَيْرِهَا، وَغَيْرُهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلِيِّ بَحَثَهَا، وَتَجَاوَزَا فَأَوَّلَا كَثِيرًا لِقِيَامِ مَا اسْتَحَالَ كَثِيرًا. وَأَنْكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ هَذَا عَلَى الْغَزَالِيِّ قَالَ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْ أَحْمَدَ. قُلْت: وَنَقْلُ الثِّقَةِ لَا يَنْدَفِعُ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ " مِنْهَاجِ الْوُصُولِ " عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] أَيْ أَمْرُ رَبِّك.

فصل في شروط التأويل

[فَصْلٌ فِي شُرُوطِ التَّأْوِيلِ] وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِوَضْعِ اللُّغَةِ أَوْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ أَوْ عَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ. وَكُلُّ تَأْوِيلٍ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَبَاطِلٌ. وَقَدْ فَتَحَ الشَّافِعِيُّ الْبَابَ فِي التَّأْوِيلِ فَقَالَ: الْكَلَامُ قَدْ يُحْمَلُ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ. وَيُفْصَلُ فِي مَقْصُودِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْآرَاءُ فِي التَّأْوِيلِ، وَمَدَارُهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَيُضَعَّفُ التَّأْوِيلُ لِقُوَّةِ ظُهُورِ اللَّفْظِ، أَوْ لِضَعْفِ دَلِيلِهِ أَوْ لَهُمَا. وَمِنْ الثَّانِي مَنْعُ عُمُومِ قَوْلِهِ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُهُ» حَتَّى لَا يَتَمَسَّكَ بِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ وَاجِبِ الْعُشْرِ وَنِصْفِهِ، وَكَاسْتِدْلَالِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا هَذَا مُفَصَّلٌ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، مُجْمَلٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَفِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: هَذَا مُفَصَّلٌ فِي تَحْرِيمِ الْكَنْزِ، مُجْمَلٌ فِي غَيْرِهِ. وَمِنْ الْأَوَّلِ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الِاسْتِجْمَارَ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ اسْتَجْمَرَ

فَلْيُوتِرْ» عَلَى اسْتِعْمَالِهِ الْبَخُورَ لِلتَّطَيُّبِ. فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيهِ: تَجَمَّرَ وَاسْتَجْمَرَ، وَاللَّفْظُ قَوِيٌّ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ، وَعَلَيْهِ فَهْمُ النَّاسِ. وَمِنْهُ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الْجُلُوسَ فِي قَوْلِهِ: «نَهَى عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ» عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي الْمُرَادِفِ لِلْقُعُودِ. وَمِنْهُ حَمْلُ الظَّاهِرِيَّةِ حَدِيثَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ» عَلَى بَيْضَةِ الْحَدِيدِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي خِلَافَهُ. وَمِنْهُ حَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ دَخَلَا بِذَلِكَ فِي فِطْرَتِي وَسُنَّتِي، لِأَنَّ الْحِجَامَةَ مِمَّا أَمَرَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَعْمَلَهُ، حَكَاهُ

الْبَيْهَقِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيّ، عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ نَيْسَابُورَ. وَقَسَّمَ شَارِحُ " اللُّمَعِ " تَأْوِيلَ الظَّاهِرِ إلَى ثَلَاثِهِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: تَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنًى يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا، فَهَذَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ، كَحَمْلِ الْأَمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33] عَلَى الْوُجُوبِ، وَحَمْلُهُ عَلَى النَّدْبِ بِدَلِيلٍ جَائِزٍ. لِاسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ مُرَادًا بِهِ النَّدْبُ كَثِيرًا، فَيُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّدْبُ. وَالثَّانِي: تَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنًى لَا يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا، فَهَذَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ قَبُولِ اللَّفْظِ لِهَذَا التَّأْوِيلِ فِي اللُّغَةِ. وَالثَّانِي: إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ هُنَا يَقْتَضِيهِ. وَالثَّالِثُ: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنًى لَا يُسْتَعْمَلُ أَصْلًا، فَلَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ التَّأْوِيلِ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ. . . كَقَوْلِهِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الطَّلَاقَ فِي حَالِ وَقْتِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ زَمَانُ الطُّهْرِ، فَلَوْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ. قَالَ: وَهَلْ يَجُوزُ التَّأْوِيلُ بِالْقِيَاسِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، ذَكَرَهَا فِي الْإِرْشَادِ: أَحَدُهَا: الْمَنْعُ. وَالثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ: الْجَوَازُ، لِأَنَّ مَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ جَازَ التَّأْوِيلُ بِهِ، كَأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَالثَّالِثُ: بِالْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْأُصُولِيِّينَ بِذِكْرِ ضُرُوبٍ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ هَاهُنَا كَالرِّيَاضَةِ لِلْأَفْهَامِ لِيَتَمَيَّزَ الصَّحِيحُ مِنْهَا عَنْ الْفَاسِدِ، حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهَا وَيَتَمَرَّنَ النَّاظِرُ فِيهَا. وَقَدْ أَوَّلَ الْحَنَفِيَّةُ أَشْيَاءَ بَعِيدَةً حَكَمَ أَصْحَابُنَا بِبُطْلَانِهَا:

فَمِنْهَا: تَأْوِيلُهُمْ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» بِثَلَاثِ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَيْ: ابْتَدِئْ الْعَقْدَ، إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ. عَلَى السَّبَبِ. ثَانِيهَا: أَمْسِكْ الْأَوَّلَ. وَلَعَلَّ النِّكَاحَ وَقَعَ بَعْدُ عَلَى التَّفْرِيقِ. ثَالِثُهَا: لَعَلَّهُ كَانَ قَبْلَ حَصْرِ النِّسَاءِ، وَقَبْلَ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ فَوَّضَ الْإِمْسَاكَ وَالْفِرَاقَ إلَى الزَّوَاجِ، وَلِخُلُوِّهِ عَنْ الْقَرِينَةِ الْمُعَيِّنَةِ لَهُ، وَالْإِحَالَةُ عَلَى الْقِيَاسِ مُمْتَنِعَةٌ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ السَّائِلِ لَهُ بِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَلِعَدَمِ فَهْمِهِمْ ذَلِكَ مِنْهُ، إذْ لَوْ فَهِمُوا لَجَدَّدُوا الْعَقْدَ، وَلَنُقِلَ وَإِنْ نَدَرَ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ إطْلَاقُ الْمُنَكَّرِ وَإِرَادَةُ الْمُعَيَّنِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، وَلِأَنَّ حَدِيثَ مَرْوَانَ مُصَرِّحٌ بِنَفْيِهِ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْدِيلِ الظَّاهِرِ ثُبُوتُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ. وَلَا جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ، لَكِنْ إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَالْعَقْدِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، أَوْ عَلَى مَنْ يُمْنَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَصِحُّ، وَلَا يُقِرُّهُ الْإِسْلَامُ، فَلَمَّا جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ وَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ، تَوَسَّعَ فِي تَأْوِيلِهِ وَعَضَّدَ تَأْوِيلَهُ بِالْقِيَاسِ مِنْ أَنَّهَا أَنْكِحَةٌ طَرَأَ عَلَيْهَا سَبَبٌ مُحَرِّمٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْسَخُ أَصْلُهُ مَا لَوْ نَكَحَ امْرَأَةً، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا رَضِيعَتُهُ. لَكِنَّهُ غَفَلَ عَنْ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِفَسَادِهِ. وَهِيَ أَرْبَعٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ: أَمْسِكْ، ظَاهِرٌ فِي اسْتِدَامَةِ مَا شَرَعَ فِي تَنَاوُلِهِ حَتَّى لَوْ قِيلَ لِمَنْ فِي يَدِهِ حَبْلٌ: أَمْسِكْ طَرَفَك، فُهِمَ اسْتِدَامَةُ مَا بِيَدِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَابَلَ لَفْظَةَ الْإِمْسَاكِ بِلَفْظَةِ الْمُفَارَقَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلُ تُرْتَقَعُ الْمُقَابَلَةُ لِأَنَّهُ قَدْ قَيَّدَ الْإِمْسَاكَ بِابْتِدَاءِ عَقْدٍ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ

مُفَارَقَةِ مَنْ يُرِيدُ إمْسَاكَهَا مِنْهُنَّ، وَصَارَ كَأَنَّهُ أَمَرَ بِمُفَارَقَةِ الْجَمِيعِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ فَوَّضَ لَهُ الْخِيَرَةَ فِيمَنْ يُمْسِكُ مِنْهُنَّ، وَفِيمَنْ يُفَارِقُ مِنْهُنَّ، وَعِنْدَهُمْ الْفِرَاقُ وَاقِعٌ، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْتَدِئُهُ مَا لَمْ تُوَافِقْهُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ، فَصَارَ تَخْيِيرُ التَّفْوِيضِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ لَهُ، فَقَدْ لَا يَرْضَيْنَ أَوْ بَعْضُهُنَّ الرُّجُوعَ إلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: " أَمْسِكْ " ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ. وَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْأَصْلِ، وَلَمَّا دَلَّ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ، وَلَوْ صَحَّ عِنْدِي لَقُلْت بِهِ. وَقَالَ الْعَبْدَرِيّ: الْخِلَافُ بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسِ، وَظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَرَأَى الْأُصُولِيِّينَ فِيهَا أَنَّهَا مَوْكُولَةٌ إلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ رَأَى الْخَبَرَ أَقْوَى عَمِلَ بِهِ. وَمَنْ رَأَى الْقِيَاسَ أَقْوَى عَمِلَ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا الرَّأْيُ صَحِيحًا؛ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، وَدَلَالَةُ الْمَفْهُومِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. فَكَمَا يَتَقَدَّمُ الْخَبَرُ الْقِيَاسَ فِي قُوَّةِ الدَّلَالَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ يَطْلُبُ أَوَّلًا الْإِجْمَاعَ، فَإِنْ وَجَدَهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ طَلَبَ النَّصَّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ طَلَبَ الظَّاهِرَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ طَلَبَ الْمَفْهُومَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لَكِنَّهُ ثَبَتَ جَوَازُ الِاخْتِيَارِ رُخْصَةً، وَتَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ حَدِيثَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» عَلَى الصَّغِيرَةِ، وَرُدَّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَةً فِي حُكْمِ اللِّسَانِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ الصَّبِيُّ بَعْلًا، وَأَيْضًا فَهَذَا سَاقِطٌ عِنْدَهُمْ فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ لَوْ زُوِّجَتْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ صَحِيحًا مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» ، وَأَكَّدَهُ ثَلَاثًا.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَاطِلٌ أَيْ يُؤَوَّلُ إلَى الْبُطْلَانِ غَالِبًا لِاعْتِرَاضِ الْوَلِيِّ إجَازَتَهُ لِقُصُورِ نَظَرِهِنَّ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ صَرَّحَ بِهِ مُؤَكَّدًا بِالتَّكْرَارِ مُطْلَقًا وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ نَحْوُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] فَفَرُّوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَسْمِيَةُ السَّيِّدِ وَلِيًّا، فَأَلْزَمُوا بُطْلَانَهُ بِأَنَّ نِكَاحَهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّغِيرَةِ، وَبِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ بِمَا أَصَابَ مِنْهَا، وَمَهْرُ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهَا، فَفَرُّوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، وَأَرَادُوا التَّخَلُّصَ مِنْ الْمَهْرِ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَةَ مُسْتَحِقَّةٌ، فَرُدَّ بِنُدُورِ الْمُكَاتَبَةِ وَقِلَّتِهَا فِي الْوُجُودِ، وَالْعُمُومُ ظَاهِرٌ فِيهِ، فَإِنَّ " أَيًّا " كَلِمَةٌ عَامَّةٌ، وَأَكَّدَهَا " بِمَا "، هَذَا مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ ابْتِدَاءً تَمْهِيدًا لِلْقَاعِدَةِ، لَا فِي جَوَابِ سَائِلٍ حَتَّى يَظْهَرَ تَخْصِيصُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ التَّأْوِيلِ مَقْبُولٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ إذَا عَضَّدَهُ دَلِيلٌ وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّهُ مَرْدُودٌ قَطْعًا. وَعَزَاهُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَائِلًا: إنَّهُ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْفَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْجِهَاتُ لِلتَّأْوِيلَاتِ، وَقَدْ رَأَى الِاعْتِصَامَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) اعْتِصَامُ النَّصِّ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الْأَقْيِسَةِ الْجَلِيَّةِ، فَكَانَ ذَلِكَ شَاهِدًا عَدْلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي مَا حَاصِلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَكَرَ أَعَمَّ الْأَلْفَاظِ، إذْ أَدَوَاتُ الشَّرْطِ مِنْ أَعَمِّ الصِّيَغِ، وَأَعَمُّهَا " مَا " وَ " أَيُّ " فَإِذَا فُرِضَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَانَ مُبَالَغًا فِي مُحَاوَلَةِ التَّعْمِيمِ، أَيْ أَنَّ " مَا " لَوْ تَجَرَّدَتْ، وَكَانَتْ شَرْطِيَّةً كَانَتْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَقَدْ أُتِيَ بِهَا زَائِدَةً لِلتَّأْكِيدِ، فَكَانَتْ مُقَوِّيَةً لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ " أَيْ " مِنْ التَّعْمِيمِ، كَذَا فَهِمَهُ الْمَازِرِيُّ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ " مَا " الْمُتَّصِلَةُ " بِأَيْ " شَرْطِيَّةٌ، كَمَا فَهِمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَوَافَقَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَنَسَبَاهُ إلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي، وَمَعْنَاهُ مَا عَرَفْت.

وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مُقَامَهُ. وَالْمَعْنَى فَإِطْعَامُ طَعَامٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَجَوَّزُوا صَرْفَ جَمِيعِ الطَّعَامِ إلَى وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَحَاجَةُ السِّتِّينَ كَحَاجَةِ الْوَاحِدِ فِي سِتِّينَ يَوْمًا، فَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ. وَهَذَا تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ إذْ جَعَلُوا الْمَعْدُومَ وَهُوَ " طَعَامٌ " مَذْكُورًا، لِيَصِحَّ كَوْنُهُ مَفْعُولًا لِإِطْعَامٍ، وَالْمَذْكُورُ وَهُوَ " {سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] " عَدَمًا مَعَ صَلَاحِيَّتِهِ لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا " لِإِطْعَامٍ " مَعَ إمْكَانِ قَصْدِ الْعَدَدِ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَبَرَكَتِهِمْ، وَتَضَافُرِ قُلُوبِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ لِلْمُحْسِنِ. وَهَذِهِ مَعَانٍ لَائِحَةٌ لَا تُوجَدُ فِي الْوَاحِدِ. وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلِأَنَّ " أَطْعَمَ " يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْمُهِمُّ مِنْهُمَا مَا ذَكَرَ، وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ غَيْرُ مُهِمٍّ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَدَ الْمَسَاكِينِ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الطَّعَامِ، فَاعْتَبَرُوا الْمَسْكُوتَ عَنْهُ وَهُوَ الْأَمْدَادُ، وَتَرَكُوا الْمَذْكُورَ وَهُوَ الْأَعْدَادُ، وَهُوَ عَكْسُ الْحَقِّ. أَمَّا الْمَازِرِيُّ فَانْتَصَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ بِوَجْهَيْنِ: فِقْهِيٌّ، وَنَحْوِيٌّ. أَمَّا الْفِقْهِيُّ: فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ إبْطَالُ النَّصِّ إلَّا لَوْ جَوَّزُوا إعْطَاءَ الْمِسْكِينِ الْوَاحِدِ سِتِّينَ مُدًّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ، بَلْ يُرَاعُونَ صُورَةَ الْعَدَدِ، وَيَشْتَرِطُونَ تَكْرِيرَ ذَلِكَ عَلَى الْمِسْكِينِ الْوَاحِدِ تَكْرِيرَ الْأَيَّامِ فِرَارًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ

تَعَالَى أَمَرَ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَلَمْ يُعَيِّنْ مِسْكِينًا مِنْ مِسْكِينٍ، وَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ تَعَيُّنِهِمْ فَإِذَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَتَكَرَّرَ إطْعَامُهُ بِالْغَدَاةِ، وَهُوَ بِالْغَدَاةِ مِسْكِينٌ، فَكَأَنَّهُ أَطْعَمَ مِسْكِينًا آخَرَ، فَإِذَا انْتَهَى التَّكْرَارُ إلَى سِتِّينَ يَوْمًا صَارَ مُطْعِمًا سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِكَوْنِ هَذَا الْمِسْكِينِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ. وَأَمَّا النَّحْوِيُّ فَذَكَرَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ: إنَّ الْمَصْدَرَ يُقَدَّرُ " بِمَا، وَأَنَّ " فَإِذَا قَدَّرْنَا الْمَصْدَرَ هُنَا وَهُوَ " الْإِطْعَامُ " بِمَعْنَى " مَا " اقْتَضَى ذَلِكَ مَا قَالَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَمَا يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُخْرِجُ أَبَا حَنِيفَةَ إلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي أَرَادَ، وَإِنْ صَدَرَ " بِأَنَّ " كَانَ التَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ الْأَخِيرُ يُخْرِجُ إلَى مَا يُرِيدُ. قَالَ: وَقَدْ زَاحَمْنَا أَبَا الْمَعَالِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ صِنَاعَةِ النَّحْوِ، وَذَكَرْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ تَعَلُّقًا مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فِيهَا، وَهُوَ سِيبَوَيْهِ. اهـ. وَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّ تَعْطِيلَ النَّصِّ حَاصِلٌ بِالِاتِّحَادِ سَوَاءٌ أَعْطَى فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَمْ لَا. فَقَدْ عَطَّلُوا مِنْ النَّصِّ لَفْظَ السِّتِّينَ، وَلِلشَّارِعِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الْعَدَدِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَلِأَنَّ فِي الْكَفَّارَةِ نَوْعُ تَعَبُّدٍ، وَهُوَ الْعَدَدُ، فَالتَّمَسُّكُ بِاللَّفْظِ الْمُحَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْلَى. وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَا نَقَلَهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِهِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ أَنَّ الَّذِي يُقَدَّرُ بِهِ الْمَصْدَرُ الْعَامِلُ " أَنَّ " الْمُشَدَّدَةُ النَّاصِبَةُ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ، لَا " أَنْ " الْمَصْدَرِيَّةُ وَ " مَا " الْمُقَدَّرَةُ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ بِمَنْزِلَةِ " أَنْ ". وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ مَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ إذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً لَا بِمَعْنَى الَّذِي، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَمَا يُطْعَمُ، وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ أَنْكَرَ نِسْبَةَ هَذَا التَّأْوِيلِ لِجُمْهُورِهِمْ، وَقَدَّرَهُ: إعْطَاءُ طَعَامٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ حَدِيثَ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ، فَجَوَّزُوا إخْرَاجَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ،

لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّاةِ فِيهَا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ الْإِبْدَالُ، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُؤَدِّي إلَى رَفْعِ النَّصِّ وَبُطْلَانِهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ قِيلَ إنَّ الشَّاةَ لَا تُجْزِئُ، وَلَمْ يَقُلْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: إنَّ الْقِيمَةَ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الشَّاةِ إذَا أُخْرِجَتْ وَهُوَ تَوْسِيعٌ لِلْمَخْرَجِ، لَا إسْقَاطٌ. وَإِنَّمَا النِّزَاعُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ سَدُّ الْخَلَّةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا يَبْعُدُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إعْطَاءَ الْفَقِيرِ مِنْ جِنْسِ مَالِ الْغَنِيِّ، لِيَنْقَطِعَ تَشَوُّفُ الْفَقِيرِ إلَى مَا فِي يَدِ الْغَنِيِّ. وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي إيجَابِ تَعَيُّنِهَا، وَتَجْوِيزُ الْإِبْدَالِ مُحْوِجٌ إلَى الْإِضْمَارِ وَإِيجَابِ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ خِلَافَ الْأَصْلِ. وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ حَدِيثَ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» عَلَى صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ. وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ مِنْ أَدَلِّ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ سِيَّمَا مَا وَرَدَ ابْتِدَاءً لِلتَّأْسِيسِ. فَحَمْلُهُ عَلَى النَّادِرِ مُخْرِجٌ لِلَّفْظِ عَنْ الْفَصَاحَةِ، وَتَأْوِيلُ نَفْيِ الْكَمَالِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ؛ وَحَمَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَلَى نِيَّةِ صَوْمِ الْغَدِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ يَلْهَجُ بِهِ. وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ سِيَاقَهُ النَّهْيَ عَنْ تَأْخِيرِ النِّيَّةِ عَنْ اللَّيْلِ، وَالْحَثَّ عَلَى تَقْدِيمِهَا عَلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَصُومُ فِيهِ، وَهَذَا كَالْفَحْوَى لَهُ. وَهُوَ مُضَادٌّ لِمَا ذَكَرُوهُ، وَلِأَنَّ حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْلَى، وَتَقْدِيمُ النِّيَّةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَحَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ أَقْرَبُ مِمَّا سَبَقَ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِي الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ، فَلَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ لِنَفْيِ الْكَمَالِ، وَفِيهِ لِنَفْيِ الصِّحَّةِ، لَزِمَ الِاسْتِعْمَالُ لِمَفْهُومَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]

عَلَى أَرْبَابِ الْحَاجَاتِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَرَابَةَ، فَصَرَفُوا اللَّفْظَ إلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْحَاجَةِ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ مَعَ ذَلِكَ، فَاشْتَرَطُوا الْحَاجَةَ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَرَابَةَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ لَامُ التَّمْلِيكِ وَتَرَتُّبِ الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَهِيَ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ، لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَكَيْفَ بِالْقِيَاسِ. وَكَوْنُهُ مَذْكُورًا مَعَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ مَعَ قَرِينَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ لَيْسَ قَرِينَةً فِيهِ، وَإِلَّا لَزِمَ النَّقْصُ فِي حَقِّ الرَّسُولِ لِوُجُودِهَا فِيهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ حَتَّمُوا صَرْفَ شَيْءٍ إلَى الْقَرَابَةِ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ لَكَانَ قَرِيبًا. اهـ. لَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْخُمُسَ مَقْسُومٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَيُعْطِي ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ سَهْمِ الْمَسَاكِينِ لِفَقْرِهِمْ، فَعَلَى هَذَا ذِكْرُ الْقَرَابَةِ كَالْمُقْحِمِ الْكَيَاظِمِ، وَهُوَ تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ. فَإِنْ قَالُوا: ذِكْرُ الْقَرَابَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَنْعُهُمْ كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ، لَا فِي وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ. قُلْنَا: هَذَا بَعِيدٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ دَلَالَةِ اللَّامِ وَوَاوِ الْعَطْفِ الْمُقْتَضِي لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَفِيهِ عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ مَعَ تَخَلُّلِ الْفَصْلِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي اللُّغَةِ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ عِنْدَهُ مِنْ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَقْطُوعِ بِبُطْلَانِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ لَفْظِ " الْقُرْبَى " بِالْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ مَعَ الْيُتْمِ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ. اهـ. وَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَقْرَبُ، لِأَنَّ لَفْظَ " الْيَتِيمِ " مَعَ قَرِينَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ يُشْعِرُ

بِالْحَاجَةِ فَاعْتِبَارُهَا يَكُونُ اعْتِبَارًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ، فَالْيُتْمُ الْمُجَرَّدُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ. بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّهَا بِمُجَرَّدِهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْإِكْرَامِ بِاسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُعْطُونَ الْقَرِيبَ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ، وَلَكِنْ سَبَقَ عَنْهُمْ خِلَافُهُ. وَقَوْلُهُ: لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ ذَوِي الْقُرْبَى بِالْمُحْتَاجِينَ. قِيلَ عَلَيْهِ: كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ، وَفِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْمَسَاكِينِ؟ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّخْصِيصِ التَّكْرَارُ فِي الْآيَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْيَتَامَى، فَإِنَّ الْيُتْمَ يُفِيدُ الِاحْتِيَاجَ لِلْعَجْزِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ذِكْرُ الْقَرَابَةِ يُخَصُّ فِيهِ فِي الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ تَوْكِيدُ أَمْرِهِمْ. وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ حَدِيثَ: «أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ، وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ» عَلَى أَنْ يُؤَذِّنَ بِصَوْتَيْنِ، وَيُقِيمَ بِصَوْتٍ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الِاصْطِلَامِ ": وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ إضَافَةَ الشَّفْعِ وَالْإِيتَارِ إلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ هِيَ الْكَلِمَاتُ لَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ فِيهِمَا، عَلَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَبَرِ: الْإِقَامَةُ، وَعِنْدَهُمْ كَمَا يَقُولُ سَائِرُ الْكَلِمَاتِ فِي الْإِقَامَةِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، كَذَلِكَ يَقُولُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ [قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ] بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، فَبَطَلَ التَّأْوِيلُ.

مسألة إنما الصدقات

[مَسْأَلَةٌ إنَّمَا الصَّدَقَاتُ] مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ، تَمَسَّكَ بِهَا الشَّافِعِيُّ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ عَلَى الثَّمَانِيَةِ الْأَصْنَافِ. فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ التَّمْلِيكُ، وَالْوَاوُ الْعَاطِفَةُ لِلْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ. فَيَجِبُ اشْتِرَاكُ الْجَمِيعِ فِي مِلْكِ هَذَا الْمَالِ الَّذِي هُوَ الصَّدَقَةُ. وَخَالَفَ مَالِكٌ، وَرَأَى أَنَّ اللَّامَ فِيهَا لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَبَيَانِ الْمَصْرِفِ، لَا لِلْمِلْكِ وَالتَّشْرِيكِ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ، بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا مَنْ لَيْسَ أَهْلَهَا بِقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] فَإِنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ طَلَبَهَا، فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60] الْآيَةَ، أَيْ لَيْسَ الطَّالِبُ لَهَا مُسْتَحِقًّا، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحِقُّ لَهَا هَذِهِ الْأَصْنَافُ الْمَذْكُورَةُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ مُسْتَحَقِّينَ أَنْ يَشْتَرِكُوا، بَلْ اللَّازِمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا تَخْرُجَ عَنْهُمْ، وَتَوْزِيعُهَا عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَخْذِهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَتَفْرِيقُهَا لِمَنْ يَرَاهُ مِنْ الْمُسْتَحَقِّينَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خُذْ صَدَقَةً مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ غَيْرَ صِنْفٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُقْتَصِرُ عَلَى الْإِعْطَاءِ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ مُعَطِّلٌ لَا مُؤَوِّلٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَا حَاصِلُهُ: ثُمَّ إنَّ الْحَاجَةَ لَيْسَتْ مَرْعِيَّةً فِي بَعْضِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ كَالْعَامِلِينَ، فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا لَا مِنْ جِهَةِ حَاجَتِهِمْ، وَكَالْغَارِمِينَ بِسَبَبِ حِمَالَةٍ يَحْمِلُونَهَا لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَقَدْ بَطَلَ التَّعْوِيلُ عَلَى الْحَاجَةِ.

وَقَدْ نَقَلَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ مَنْعَ الشَّافِعِيُّ الْحُكْمَ لِقُصُورٍ الْإِبْيَارِيِّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَقَالَ: اللَّامُ فِي " {لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] " إمَّا أَنْ تَكُونَ لِلتَّمْلِيكِ، أَوْ لِلْأَهْلِيَّةِ وَالِانْتِفَاعِ، كَالْجَلِّ لِلْفَرَسِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمِلْكَ صَحَّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَإِلَّا فَلَا، لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَصِحَّةِ التَّصَرُّفِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، فَيَخْرُجُ الْكَلَامُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ عَنْ مَرَاتِبِ النُّصُوصِ. فَإِمَّا أَنْ نَقُولَ إنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ، مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ فِي الْحَالَيْنِ، فَيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُفْتَقِرًا إلَى الدَّلِيلِ، أَوْ نُسَلِّمَ ظُهُورَ مَا قَالُوهُ، فَتَخْرُجَ الْمَسْأَلَةُ عَنْ تَعْطِيلِ النُّصُوصِ، وَيَكُونَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الْمَقْبُولَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ مَنْ صَارَ إلَيْهَا إلَى دَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَصْلَ اللَّامِ لِلْمِلْكِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى كَمَا رَاعَى الْحَاجَةَ رَاعَى مَنْ يُصْلِحُ ذَاتَ الْبَيْنِ، وَمَنْ يَغْرَمُ، وَكُلَّ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا تَرْغِيبًا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ ثُمَّ تَجْوِيزُ الدَّفْعِ إلَى الْغَارِمِ الْغَنِيِّ يُنَافِي كَوْنَ الْمَقْصُودِ الْحَاجَةَ. وَمِنْهَا: تَأْوِيلُ مَالِكٍ " الِاسْتِجْمَارُ " فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» عَلَى الْبَخُورِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ جَمَعَ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا سَمِعَهُ مِنْهُ الْأَعْرَابِيُّ اسْتَنْكَرَهُ. حَكَى ذَلِكَ الْمَازِرِيُّ. وَمِنْهَا: تَأْوِيلُهُ النَّهْيَ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ بِالتَّغَوُّطِ وَالْبَوْلِ عَلَيْهِ، وَيُعَضِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جَسَدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» .

مسألة تأويل الحنابلة قوله صلى الله عليه وسلم فاقدروا له على الضيق

وَمِنْهَا: تَأْوِيلُهُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الذَّمَّ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْمَدْحَ. وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِيهِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ السِّحْرِ لِأَنَّ مَبْنَى عِلْمِ الْبَيَانِ التَّخْيِيلُ. . [مَسْأَلَةٌ تَأْوِيلُ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْدُرُوا لَهُ عَلَى الضِّيقِ] مَسْأَلَةٌ تَأَوَّلَتْ الْحَنَابِلَةُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَاقْدُرُوا لَهُ» عَلَى الضِّيقِ، أَيْ ضَيَّقُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، بِأَنْ يُجْعَلَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» ، وَلِهَذَا أَوْرَدَ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّإِ " هَذَا الْحَدِيثَ عَقِيبَ الْأَوَّلِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ كَالْمُفَسِّرِ لَهُ، وَقَفَا الْبُخَارِيُّ أَثَرَهُ فِي ذَلِكَ. وَتَأَوَّلَ ابْنِ سُرَيْجٍ: «فَاقْدُرُوا لَهُ» أَيْ مَنَازِلَ الْقَمَرِ، خِطَابًا لِلْعَارِفِ بِالنُّجُومِ، وَقَوْلُهُ: (الْعِدَّةُ) خِطَابًا لِغَيْرِهِ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ. .

مسألة تأول حديث من ملك ذا رحم محرم عتق على الأصول والفصول خاصة

[مَسْأَلَةٌ تَأَوَّلَ حَدِيثَ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ خَاصَّةً] مَسْأَلَةٌ تَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا حَدِيثَ: «مَنْ مَلَك ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ» عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ خَاصَّةً، لِاخْتِصَاصِهِمَا بِأَحْكَامٍ لَا تَعُمُّ جَمِيعَ الرِّقَابِ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِتَعْطِيلِ لَفْظِ الْعُمُومِ، وَلِأَنَّهُ وَرَدَ ابْتِدَاءً لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةٍ لَا لِبَيَانِ جَوَابٍ وَسُؤَالٍ، حَتَّى يُخَصَّصَ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْحُدُودِ حَيْثُ بَدَأَ بِالْأَعَمِّ وَخَتَمَ بِالْأَخَصِّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يُخَصِّصُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» ؟ قُلْنَا: ذِكْرُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ بِعُمُومِهِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إسْنَادُهُ، بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْحُسْنِ. .

مباحث المجمل

[مَبَاحِثُ الْمُجْمَلِ] ِ الْمُجْمَلُ لُغَةً: الْمُبْهَمُ، مِنْ أَجْمَلَ الْأَمْرَ أَيْ أَبْهَمَ، وَقِيلَ: الْمَجْمُوعُ: مِنْ أَجْمَلَ الْحِسَابَ إذَا جُمِعَ، وَجُعِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَقِيلَ التَّحْصِيلُ، مِنْ أَجْمَلَ الشَّيْءَ إذَا حَصَّلَهُ. وَاصْطِلَاحًا: قَالَ الْآمِدِيُّ: مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَقِيلَ: مَا لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَابْنُ فُورَكٍ: مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ، حَتَّى بَيَانِ تَفْسِيرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إلَّا بِحَقِّهَا» . وَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] . قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْعَامُّ مُجْمَلًا وَالْخَاصُّ مُفَسِّرًا، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَامَّ جُمْلَةٌ إذْ لَيْسَ لَفْظُهُ مَقْصُورًا عَلَى شَيْءٍ مَخْصُوصٍ بِعَيْنِهِ، وَالْخَاصُّ مُفَسِّرٌ، أَيْ فِيهِ بَيَانٌ مَا قُصِدَ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ الْعُمُومُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ الْبَصْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: اعْلَمْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ اسْتَجَازُوا الْعِبَارَةَ عَنْ الْعُمُومِ بِاسْمِ " الْمُجْمَلِ "، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَتُهُ: الْمُفْتَقِرَ إلَى مَا يُبَيِّنُهُ. وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي " الْكَافِي ": هُوَ مَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا بِوَضْعِ اللُّغَةِ أَوْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ

مسألة المجمل واقع في الكتاب والسنة على الأصح

إلَى شَيْءٍ مِنْ احْتِمَالَاتِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الشَّرْعِ مِنْهُ هَذَا. . [مَسْأَلَةٌ الْمُجْمَلُ وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ] مَسْأَلَةٌ وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: النَّبِيُّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) عَرَبِيٌّ يُخَاطِبُ كَمَا يُخَاطِبُ الْعَرَبَ، وَالْعَرَبُ تُجْمِلُ كَلَامَهَا، ثُمَّ تُفَسِّرُهُ، فَيَكُونُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ: قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَبَى هَذَا غَيْرَ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ، ثُمَّ نَاقَضَ مِنْهُ فِي صِفَةِ «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» ، مَعَ قَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» وَاَلَّذِي نَاقَضَ أَصَحُّ مِنْ الَّذِي أَعْطَاهُ بَيِّنًا. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إلَى أَنَّ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ وَهَذَا أَصَحُّهُمَا. اهـ. وَقِيلَ: لَمْ يَبْقَ مُجْمَلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْمُخْتَارُ أَنَّ مَا ثَبَتَ التَّكْلِيفُ بِهِ يَسْتَحِيلُ اسْتِمْرَارُ الْإِجْمَالِ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ فَلَا يَبْعُدُ اسْتِمْرَارُ الْإِجْمَالِ فِيهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِسِرِّهِ. وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِجْمَالُ فِي الْقِيَاسِ، وَسَبَقَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالْخِطَابِ بِالْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ، «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، وَقَالَ: اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ، وَتَعَبُّدُهُمْ بِالْتِزَامِ الزَّكَاةِ قَبْلَ بَيَانِهَا. وَفِي كَيْفِيَّةِ تَعَبُّدِهِمْ بِالْتِزَامِهَا وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ قَبْلَ الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ بَعْدَ الْبَيَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ قَبْلَ الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ مُجْمَلًا، وَبَعْدَ الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ مُفَسِّرًا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: قَالُوا: إنَّ الْتِزَامَ الْمُجْمَلِ قَبْلَ بَيَانِهِ وَاجِبٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْتِزَامِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَذَكَرَهُمَا. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الثَّانِيَ مُرَادُ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْعَامِّ، هَلْ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ قَبْلَ وُرُودِ الْمُخَصِّصِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ: إنَّمَا جَازَ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْهَمُونَهُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: لِيَكُونَ إجْمَالُهُ تَوْطِئَةً لِلنَّفْسِ عَلَى قَبُولِ مَا يَتَعَقَّبُهُ مِنْ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَدَأَ فِي تَكْلِيفِ الصَّلَاةِ وَبَيَّنَهَا، لَجَازَ أَنْ تَنْفِرَ النُّفُوسُ مِنْهَا، وَلَا تَنْفِرَ مِنْ إجْمَالِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ الْأَحْكَامِ جَلِيًّا، وَجَعَلَ مِنْهَا خَفِيًّا، لِيَتَفَاضَلَ النَّاسُ فِي الْعِلْمِ بِهَا، وَيُثَابُوا عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ لَهَا، فَلِذَلِكَ جَعَلَ مِنْهَا مُفَسَّرًا جَلِيًّا، وَجَعَلَ مِنْهَا مُجْمَلًا خَفِيًّا. ثُمَّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمِنْ الْمُجْمَلِ مَا لَا يَجِبُ بَيَانُهُ عَلَى الرَّسُولِ، كَقَوْلِهِ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فَأَجْمَلَ فِيهِ النَّفَقَةَ فِي أَقَلِّهَا وَأَوْسَطِهَا وَأَكْثَرِهَا، حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْدِيرِهَا، وَسُئِلَ عَنْ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: آيَةُ الصَّيْفِ. فَوَكَلَهُ إلَى الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْبَيَانِ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْبَيَانِ الصَّادِرِ مِنْ الِاجْتِهَادِ، هَلْ يُؤْخَذُ قِيَاسًا أَوْ تَنْبِيهًا؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ تَنْبِيهًا مِنْ لَفْظِ الْمُجْمَلِ، وَشُوهِدَ أَحْوَالُهُ، «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِعُمَرَ: يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ» . فَرَدَّهُ إلَيْهَا لِيَسْتَدِلَّ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ

مسألة حكم المجمل

بَيِّنَةٍ وَشَوَاهِدَ. قَالَ: وَالثَّانِي: أَنْ يُؤْخَذَ قِيَاسًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بَيَانُهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، لِأَنَّ «عُمَرَ سَأَلَ عَنْ الْقِبْلَةِ. فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت» ؟ فَجَعَلَ الْقِبْلَةَ بِغَيْرِ إنْزَالٍ، كَالْمَضْمَضَةِ بِغَيْرِ ازْدِرَادٍ. اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَوَّلِ مِنْ التَّمْثِيلِ بِالنَّفَقَةِ يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ، فَإِنَّ بَيَانَهَا قَدْ وَرَدَ فِي قَضِيَّةِ هِنْدَ حَيْثُ قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ، فَبَيَّنَ الْإِجْمَالَ فِي الْآيَةِ بِالْكِفَايَةِ. . [مَسْأَلَةٌ حُكْمُ الْمُجْمَلِ] وَحُكْمُهُ: التَّوَقُّفُ فِيهِ إلَى أَنْ يَرِدَ تَفْسِيرُهُ، وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ فِي شَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ. قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إنْ كَانَ الِاحْتِمَالُ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ وَاقْتَرَنَ بِهِ تَنْبِيهٌ، أَخَذَ بِهِ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ تَنْبِيهٍ وَاقْتَرَنَ بِهِ عُرْفٌ عُمِلَ بِهِ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ تَنْبِيهٍ وَعُرْفٍ وَجَبَ الِاجْتِهَادُ فِي الْمُرَادِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنْ خَفِيِّ الْأَحْكَامِ الَّتِي وُكِلَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا إلَى الِاسْتِنْبَاطِ، فَصَارَ دَاخِلًا فِي الْمُجْمَلِ لِخَفَائِهِ، وَخَارِجًا مِنْهُ لِإِمْكَانِ اسْتِنْبَاطِهِ. . [تَنْبِيهٌ حَمْلُ الْمُجْمَلِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ الْمُتَنَافِيَةِ] وَقَدْ يُحْمَلُ الْمُجْمَلُ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ غَيْرِ الْمُتَنَافِيَةِ نَظِيرَ الْعَامِّ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ فِيهِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]

مسألة الإجمال إما أن يكون في حال الإفراد أو التركيب

فَإِنَّ السُّلْطَانَ مُجْمَلٌ، يَحْتَمِلُ الْحُجَّةَ وَالدِّيَةَ وَالْقَوَدَ، وَيَحْتَمِلُ الْجَمِيعَ، لَا جَرَمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُخَيِّرُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْكُلَّ بِالْإِضَافَةِ إلَى اللَّفْظِ سَوَاءٌ. قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ". . [مَسْأَلَةٌ الْإِجْمَالُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْإِفْرَادِ أَوْ التَّرْكِيبِ] ِ وَالْأَوَّلُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَعْرِيفِهِ كَلَفْظَةِ: " قَالَ " مِنْ الْقَيْلُولَةِ، وَالْقَوْلِ. " وَكَالْمُخْتَارِ " فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ. يُقَالُ: اخْتَرْت فُلَانًا فَأَمَّا مُخْتَارٌ، وَهُوَ مُخْتَارٌ. قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: وَيَفْتَرِقَانِ تَقُولُ: فِي الْفَاعِلِ، مُخْتَارٌ لِكَذَا، وَفِي الْمَفْعُولِ مُخْتَارٌ مِنْ كَذَا. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ، يُضَارِرُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ أَوْ بِكَسْرِهَا - وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا. وَمِثْلُهُ {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] فِي احْتِمَالِ الْوَجْهَيْنِ، قَالَهُ الْعَبْدَرِيّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ". وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَصْلِ وَضْعِهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعَانِيهِ مُتَضَادَّةً، كَ " الْقُرْءِ " لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ. وَ " النَّاهِلِ " لِلْعَطْشَانِ وَالرَّيَّانِ، وَ " الشَّفَقِ " لِلْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ؛ وَإِمَّا مُتَشَابِهَةً: " كَالْفَرَسِ " لِلْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ، وَالصُّورَةِ الَّتِي تُرْسَمُ عَلَى مِثَالِهِ. أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ: " كَالْعَيْنِ " لِلْعُضْوِ الْبَاصِرِ، وَيَنْبُوعِ الْمَاءِ. وَإِنْ شِئْت: قُلْت: إمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ مَعَانِيَ كَثِيرَةً بِحَسَبِ خُصُوصِيَّاتِهَا فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ، وَإِمَّا بِحَسَبِ مَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا وَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . وَقَالَ أَبُو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ أَنَّ الْمُجْمَلَ يَسْتَدْعِي

ثُبُوتَ احْتِمَالَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَهْمِ، سَوَاءٌ وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُمَا عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ وَفِي الْآخَرِ حَقِيقَةٌ. فَالْإِجْمَالُ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَهْمِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ قَدْ يَتَسَاوَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَضْعِ، وَلَا يَتَسَاوَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَهْمِ، فَلَا يَكُونُ مُجْمَلًا. وَأَيْضًا إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَسْمَاءِ كَمَا سَبَقَ، أَوْ فِي الْأَفْعَالِ كَ " عَسْعَسَ " بِمَعْنَى أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، أَوْ فِي الْحُرُوفِ، كَتَرَدُّدِ الْوَاوِ بَيْنَ الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ. فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] . وَتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْعَطْفِ وَالْحَالِ فِي قَوْلِهِ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ عَاطِفَةً أَوْهَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِضَعْفِهِمْ حَدَثَ الْآنَ، وَبِهِ احْتَجَّ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى حُدُوثِ الْعِلْمِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إعْلَامُ عِبَادِهِ؛ وَإِنْ جُعِلَتْ غَيْرَ عَاطِفَةٍ كَانَ تَقْدِيرُهُ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، عَالِمًا أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَحْذُورٌ، وَيَجِبُ إضْمَارُ " قَدْ " حِينَئِذٍ. وَنَحْوُ تَرَدُّدِ " مِنْ " بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالتَّبْغِيضِ، كَقَوْلِهِ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ: اجْعَلُوا ابْتِدَاءَ الْمَسْحِ مِنْ الصَّعِيدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: امْسَحُوا وُجُوهَكُمْ بِبَعْضِ الصَّعِيدِ، فَلِهَذَا اشْتَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ لِمَا يُتَيَمَّمُ بِهِ غُبَارٌ، يَعْلَقُ بِالْيَدِ، لِتَحَقُّقِ الْمَسْحِ بِبَعْضِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا فِي تَرْكِيبِهِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا: فِي الْمُرَكَّبِ بِجُمْلَتِهِ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ، وَلِذَلِكَ

اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِالْأَوَّلِ، وَمَالِكٌ بِالثَّانِي. وَمِنْهَا: فِي الِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» وَلَكِنْ لَا كَبَاقِي الْمَسَاجِدِ؛ بَلْ إنَّمَا أَزِيدُ أَوْ أَنْقُصُ مِنْهَا. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ؛ بَلْ إمَّا مُسَاوٍ أَوْ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَفْضَلُ. وَمِنْهَا: فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ إذَا تَقَدَّمَهُ أَمْرَانِ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ» فَضَمِيرُ الْجِدَارِ يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ عَلَى نَفْسِهِ أَيْ فِي جِدَارِ نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى جَارِهِ، أَيْ فِي جِدَارِ جَارِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا هَذَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. وَالْأَصَحُّ امْتِنَاعُ الْوَضْعِ إلَّا بِإِذْنٍ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] فَإِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبِشَارَةُ بِمِيلَادِهِ، فَيَكُونَ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهِ إسْمَاعِيلَ، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبِشَارَةُ بِنُبُوَّتِهِ، وَيَكُونَ هُوَ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ. وَمِنْهَا: فِي مَرْجِعِ الصِّفَةِ، نَحْوُ: زَيْدٌ طَبِيبٌ مَاهِرٌ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْمَهَارَةِ مُطْلَقًا، وَالْمَهَارَةُ فِي الطِّبِّ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْبَسِيطِ " مِنْ النَّحْوِيِّينَ: إذَا اجْتَمَعَتْ صِفَتَانِ فَصَاعِدًا

لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، قَالَ قَوْمٌ: الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِلْأَوَّلِ وَحْدَهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ لِمَجْمُوعِ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: قَالَ الْأَصْحَابُ: الْمُجْمَلُ عَلَى أَوْجُهٍ: مِنْهَا: أَنْ لَا يَرْجِعَ اللَّفْظُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، كَقَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إلَّا بِحَقِّهَا» فَإِنَّ الْحَقَّ يَشْتَمِلُ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَجْهُولٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] فَإِنَّهُ صَارَ مُجْمَلًا لِمَا دَخَلَهُ الِاسْتِثْنَاءُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَفْعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ احْتِمَالًا وَاحِدًا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ، فَهُوَ مُجْمَلٌ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ السَّفَرَ الطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ. قَالَ: وَهَذِهِ الْوُجُوهُ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي إجْمَالِهَا وَافْتِقَارِهَا إلَى الْبَيَانِ. انْتَهَى. وَمِنْهَا: فِي تَعَدُّدِ الْمَجَازَاتِ الْمُتَسَاوِيَةِ مَعَ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَصِيرُ مُجْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْمَجَازَاتِ، إذْ لَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى أَحَدِهَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ كَمَا هُوَ فِي الْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَوَاطِئِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إنْ لَمْ يُحْمَلْ الْمُشْتَرَكُ عَلَى مَعَانِيهِ، لَكِنَّ قَاعِدَةَ الشَّافِعِيِّ حَمْلُهُ عَلَى سَائِرِ الْمَعَانِي احْتِيَاطٌ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانٍ. أَمَّا إذَا تَكَافَأَتْ الْمَجَازَاتُ، وَتَرْجِيحُ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ كَنَفَيْ الصِّحَّةِ، كَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ. . . وَلَا صِيَامَ» أَوْ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ غَرَضًا أَوْ أَعْظَمُ مَقْصُودًا، كَرَفْعِ الْحَرَجِ، وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ فِي: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي» وَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] حُمِلَ عَلَيْهِ.

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَلْفَاظٍ مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ خَصَّصَهَا الْكِتَابُ. الثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّةٌ خَصَّصَتْهَا السُّنَّةُ، الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ بَيَّنَهَا الْكِتَابُ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الزَّكَاةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] عَلَى قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ خَصَّصَتْهَا السُّنَّةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ، وَهُمَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالتَّعْرِيفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَاحِدٌ. وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُفْرَدٌ مُعَرَّفٌ، فَإِنَّ عَمَّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَلْيَعُمَّ فِي الْآيَتَيْنِ، أَوْ الْمَعْنَى فَلْيَعُمَّ فِيهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَعُمَّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلْيَسْتَوِيَا فِيهِ، مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي آيَةِ الْبَيْعِ الْعُمُومُ، وَفِي آيَةِ الزَّكَاةِ الْإِجْمَالُ. وَسَبَقَ جَوَابُهُ فِي بَابِ الْعُمُومِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعْقُولٌ فِي اللُّغَةِ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ فِي الْبُيُوعِ الَّتِي فِيهَا الرِّبَا، فَأَمَّا بَيْعٌ لَا رِبَا فِيهِ فَدَاخِلٌ فِي عُمُومِ التَّحْلِيلِ، وَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ مُجْمَلٌ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الزِّيَادَةِ دُونَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمَأْخَذُهُ مُحْتَمَلٌ، لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ فِي الْمُفْرَدِ لِلْعُمُومِ أَوْ الْجِنْسِ الصَّادِقِ عَلَى الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ، أَوْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لِلْعُمُومِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] جَارٍ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، إذْ الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ، وَلَيْسَ كُلُّ زِيَادَةٍ حَرَامًا، وَبِهِ يُشْعِرُ تَفْصِيلُ الْإِمَامِ. وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْعُمُومِ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ لَا يَعُمُّ إلَّا عِنْدَ عَدَمِهِ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ، ثُمَّ هُوَ جَزْمٌ بِالْإِجْمَالِ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] يَقْتَضِي تَحْلِيلَ كُلِّ بَيْعٍ

وَقَوْلَهُ: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ بَيْعٍ، لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ إلَّا وَتُقْصَدُ مِنْهُ الزِّيَادَةُ، فَالرُّجُوعُ إذْنٌ إلَى بَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقِيلَ: الْبَيْعُ الَّذِي لَا زِيَادَةَ فِيهِ هُوَ بَيْعُ عَشَرَةٍ بِعَشَرَةٍ مَعَ التَّجَانُسِ، فَهُوَ حَلَالٌ لَيْسَ فِيهِ إجْمَالٌ، وَإِنَّمَا الْإِجْمَالُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ زِيَادَةً، فَبَعْضُ مَا يَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ حَلَالٌ، وَالْبَعْضُ حَرَامٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُخَصَّصَةٌ لَا مُجْمَلَةٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] الْبَعْضُ دُونَ الْكُلِّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ. وَقِيلَ: إنَّ الْبَيْعَ مُجْمَلٌ، لِأَنَّ الرِّبَا مُجْمَلٌ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْبَيْعِ، وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ مِنْ الْمَعْلُومِ يَعُودُ بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَصْلِ الْكَلَامِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الرِّبَا عَامٌّ فِي الزِّيَادَاتِ كُلِّهَا، وَكَوْنُ الْبَعْضِ غَيْرَ مُرَادٍ فَرْعُ تَخْصِيصٍ، فَلَا تَتَغَيَّرُ بِهِ دَلَالَةُ الْأَوْضَاعِ. وَمِنْهَا: الْآيَاتُ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ، كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَقَوْله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَقَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ غَيْرُ مُجْمَلَةٍ، فَتُحْمَلُ الصَّلَاةُ عَلَى كُلِّ دُعَاءٍ، وَالصَّوْمُ عَلَى كُلِّ إمْسَاكٍ، وَالْحَجُّ عَلَى كُلِّ قَصْدٍ، إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَعَانٍ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهَا فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَافْتَقَرَتْ إلَى الْبَيَانِ، هَكَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَجَعَلَهُمَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَنْقُولَةٌ، أَوْ حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ. فَمَنْ قَالَ: مَنْقُولَةٌ، قَالَ: هِيَ مُجْمَلَةٌ. قَالَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَمَنْ قَالَ: حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ. قَالَ: هِيَ عَامَّةٌ.

وَنَسَبَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " الْقَوْلَ بِالْإِجْمَالِ فِي هَذَا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَهُ مِنْ الْمُجْمَلِ، لِأَنَّ مَدْلُولَ الصَّلَاةِ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ مُخْتَلِفٌ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ الِاسْتِدْلَالَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] ، لِأَنَّ الشَّرْعَ وَإِنْ ضَمَّ إلَيْهِ أَوْصَافًا وَشُرُوطًا، فَقَدْ ضَمَّ إلَى السَّرِقَةِ فِي آيَةِ الْقَطْعِ بِهَا نِصَابًا وَحِرْزًا، وَمَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ. وَمِنْهَا: الْأَلْفَاظُ الَّتِي عُلِّقَ التَّحْرِيمُ فِيهَا عَلَى الْأَعْيَانِ، كَقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ لَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِظَاهِرِهَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُوصَفُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا الْمَوْصُوفُ بِهِمَا أَفْعَالُنَا، وَهِيَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ، فَافْتَقَرَ إلَى بَيَانِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَمَا لَا يَحْرُمُ، وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيّ، وَتِلْمِيذُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ. وَإِذَا قُلْنَا بِهَذَا، فَاخْتَلَفُوا لِأَيِّ وَجْهٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّهَا لَيْسَتْ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْهُ التَّصَرُّفُ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ وَوَطْئِهَا، وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبِي عَلِيٍّ وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، لِقَوْلِهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا، وَبَاعُوهَا، فَأَكَلُوا ثَمَنَهَا» فَدَلَّ عَلَى

أَنَّ تَحْرِيمَهَا أَفَادَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ، وَإِلَّا لَمْ يَتَّجِهْ اللَّعْنُ فِي الْبَيْعِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَسُلَيْمٌ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّ الْأَوَّلَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لَا خِلَافَ أَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمُ الْعَيْنِ نَفْسِهَا. وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمُ أَفْعَالِنَا، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ حَقِيقَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْعَيْنِ، مَجَازٌ فِي تَحْرِيمِ الْفِعْلِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي إثْبَاتِ التَّحْرِيمِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُمْ رَجَعُوا فِي ذَلِكَ إلَى شَيْءٍ آخَرَ. وَجَعَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَهُ: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ» . قَالَ: فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مُجْمَلٌ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَدْخُلُ فِي التَّحْرِيمِ، إنَّمَا تَدْخُلُ الْأَفْعَالُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُرُورَ أَوْ الْمُكْثَ، فَيَتَوَقَّفُ فِيهِ. وَقِيلَ: لَيْسَ إضْمَارُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ مُتَعَيِّنًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هِيَ عَيْنُ مَسْأَلَةِ الْمُقْتَضَى هَلْ لَهُ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ مُقَدَّرَاتِهِ أَمْ لَا؟ وَابْنُ الْحَاجِبِ مِمَّنْ يَمْنَعُ الْعُمُومَ فِي بَابِهِ، وَيَقُولُ بِهِ هَاهُنَا، إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ نَفْيِ الْإِجْمَالِ وَالْعُمُومِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ مُجْمَلٌ، لِأَنَّ الْمُجْمَلَ يُوجَدُ بِغَيْرِ النِّيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي الْجَوَازِ أَوْ الْفَضِيلَةِ، وَلَا ذِكْرَ لَهُمَا فِي الْخَبَرِ، فَلَيْسَ إضْمَارُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيهِمَا، لِأَنَّ الْعُمُومَ لِلْأَلْفَاظِ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ بِمُجْمَلٍ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ، وَإِضْمَارُ أَحَدِهِمَا خِلَافُ الْأَصْلِ، فَيَجِبُ الْعُمُومُ. قَالَ: وَقُلْت: أَمَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الشَّرْعِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي الْعَمَلِ دُونَ صِفَتِهِ، فَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ شَرْعًا إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ يُغْنِي عَنْ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: إذَا قِيلَ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، «وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» أَفَادَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إذَا وَقَعَ بِهَذَا صَحَّ، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يَصِحَّ. وَهَذَا مَعْقُولُ الْخِطَابِ. وَقِيلَ: أَرَادَ الْكَمَالَ لَا الصِّحَّةَ. وَلَنَا إذَا بَطَلَ الصِّحَّةُ، بَطَلَ الْكَمَالُ أَيْضًا. فَهُوَ أَكْثَرُ عُمُومًا فَهُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَوْلُهُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، لَيْسَ الْمُرَادُ إخْرَاجَهُ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ صِحَّتَهُ أَوْ كَمَالَهُ، لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى الصِّحَّةِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عَامِلًا بِنِيَّتِهِ. وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ. لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ، وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ الْبَعْضَ. وَحَكَاهُ فِي الْمُعْتَمَدِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ

آخَرُونَ: لَا إجْمَالَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ: يَقْتَضِي مَسْحَ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِهِمَا، وَالْبَاءَ إنَّمَا دَخَلَتْ لِلْإِلْصَاقِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِيمَا حَكَاهُ " صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ": إنَّهُ يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ. قَالَ: لِأَنَّ الْمَسْحَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى حَرْفِ التَّعَدِّيَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مَسَحْته كُلَّهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفِيدَ دُخُولُهُ الْبَاءَ فَائِدَةً جَدِيدَةً، فَلَوْ لَمْ يُفِدْ التَّبْعِيضَ لَبَقِيَ اللَّفْظُ عَارِيًّا عَنْ الْفَائِدَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مَسْحِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ، فَيَصْدُقُ بِمَسْحِ الْبَعْضِ. وَنَسَبَهُ فِي " الْمَحْصُولِ " لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا: وَهُوَ الْحَقُّ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِإِثْبَاتِهِ مَجِيءَ الْبَاءِ لِلتَّبْعِيضِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ ثُبُوتَ التَّبْعِيضِ بِالْعُرْفِ، وَاَلَّذِي فِي الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهَا تُفِيدُ فِي اللُّغَةِ تَعْمِيمَ مَسْحِ الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا يُسَمَّى رَأْسًا، وَهُوَ اسْمٌ لِلْجُمْلَةِ لَا لِلْبَعْضِ، لَكِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي إلْحَاقَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ إمَّا جَمِيعَهُ، وَإِمَّا بَعْضَهُ، فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ الْأَوْلَى، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ لَا إجْمَالَ. اهـ. قُلْتُ: وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ": فَكَانَ مَعْقُولًا فِي الْآيَةِ أَنَّ مَنْ مَسَحَ مِنْ رَأْسِهِ شَيْئًا، فَقَدْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَلَمْ تَحْتَمِلْ الْآيَةُ إلَّا هَذَا، وَهَذَا أَظْهَرُ مَعَانِيهَا، أَوْ مَسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ. قَالَ: فَدَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنْ لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ مَسْحَ رَأْسِهِ كُلِّهِ، وَإِذَا دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ مَسَحَ شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ. اهـ. فَلَمْ يَثْبُتْ التَّبْعِيضُ بِالْعُرْفِ كَمَا زَعَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ.

وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا، لِأَنَّهُ إذَا أَفَادَ إلْصَاقَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ تَعْمِيمٍ أَوْ تَبْعِيضٍ صَارَ مُحْتَمِلًا لَهُمَا، فَيَصِيرُ مُجْمَلًا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ صَارَ مُفِيدًا لِلتَّبْعِيضِ مَمْنُوعٌ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَذْهَبُ الْأَوَّلِينَ أَقْرَبُ إلَى النَّصِّ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَقْرَبُ إلَى الْفِعْلِ. وَمِنْهَا قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: آيَةُ السَّرِقَةِ مُجْمَلَةٌ، إذْ الْيَدُ لِلْعُضْوِ مِنْ الْمَنْكِبِ وَالْمَرْفِقِ وَالْكُوعِ لِاسْتِعْمَالِهَا فِيهَا، وَالْقَطْعُ لِلْإِبَانَةِ وَالشَّقِّ، لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِيهِمَا وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ، بَلْ الْيَدُ حَقِيقَةٌ فِي الْعُضْوِ إلَى الْمَنْكِبِ، وَلِمَا دُونَهُ مَجَازٌ، لِصِحَّةِ بَعْضِ الْيَدِ، وَلِفَهْمِ الصَّحَابَةِ إذْ مَسَحُوا إلَى الْآبَاطِ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، وَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْيَدُ فِي الشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً، فَالْمُطْلَقَةُ تَنْصَرِفُ إلَى الْكُوعِ بِدَلِيلِ آيَةِ التَّيَمُّمِ، وَآيَةِ السَّرِقَةِ وَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ. وَقَوْلِهِ: «فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا» وَقَوْلِهِ: «إذَا أَفْضَى بِيَدِهِ إلَى فَرْجِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَالْمُقَيَّدَةُ بِحَسَبِ مَا قُيِّدَتْ بِهِ، كَآيَةِ الْوُضُوءِ، فَلَا إجْمَالَ، وَالْقَطْعُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِبَانَةِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الشِّقِّ لِوُجُودِهَا فِيهِ، وَالتَّوَاطُؤُ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ. وَمِنْهَا: مَا وَرَدَ مِنْ الْأَوَامِرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَقَوْلُهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» فَذَهَبَ

مسألة حرف النفي قد يدخل على الماهية

الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا تُفِيدُ الْإِيجَابَ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ مَوْقُوفٌ فِيهِ إلَى دَلِيلٍ يُعَيِّنُ جِهَةً مِنْ الْجِهَاتِ، لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ الْخَبَرُ لِأَنَّا نَجِدُ مُطَلَّقَةً لَا تَتَرَبَّصُ، وَجُرْحًا لَا يَقْتَصُّ، وَثَيِّبًا لَا تُشَاوَرُ. وَاللَّفْظُ لَا يَتَعَرَّضُ لِجِهَةٍ أُخْرَى بِالنَّصِّ فَلَا بُدَّ فِي تَعْيِينِ الْجِهَةِ مِنْ دَلِيلٍ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ اللَّهِ. فَلَوْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَةِ الْخَبَرِ، لَزِمَ الْخُلْفُ فِي خَبَرِ اللَّهِ، فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى إرَادَةِ الْأَمْرِ، كَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " وَأَدْخَلَهُ فِي بَابِ الْإِجْمَالِ. . [مَسْأَلَةٌ حَرْفُ النَّفْيِ قَدْ يَدْخُلُ عَلَى الْمَاهِيَّةِ] ِ وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْأَصْلِ، كَقَوْلِهِ: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] وَقَوْلُهُ: {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية: 35] وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] ثُمَّ قَالَ: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13] فَنَفَاهَا أَوَّلًا، ثُمَّ أَثْبَتَهَا ثَانِيًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْأَصْلِ، بَلْ نَفْيَ الْكَمَالِ. وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا أُخِذَ مِنْ الْقَرِينَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَ «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» وَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، وَ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَنَحْوُهُ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ مُجْمَلَةٌ أَمْ لَا؟ فَنُقِلَ الْإِجْمَالُ عَنْ الْقَاضِيَيْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدِ الْجَبَّارِ، والْجُبَّائيّيْنِ أَبِي عَلِيٍّ وَابْنِهِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إلَّا أَنَّ الْجُبَّائِيَّيْنِ ادَّعَيَا الْإِجْمَالَ مِنْ وَجْهٍ، وَالْقَاضِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَقَالَ ابْنُ الْإِبْيَارِيِّ: إنَّمَا صَارَ الْقَاضِي

إلَى الْإِجْمَالِ، لِأَنَّهُ نَفَى الْأَسْمَاءَ الشَّرْعِيَّةَ، وَاَلَّذِي دَلَّ اللَّفْظُ عَلَى نَفْيِهِ مَوْجُودٌ، فَافْتَقَرَ إلَى التَّقْدِيرِ، وَتَعَدُّدِ الْمُقَدَّرِ. وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَهْلِ الرَّأْيِ. وَنَقَلَ الْمَازِرِيُّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْوَقْفَ. قَالَ: وَهُوَ غَيْرُ مَذْهَبِ الْإِجْمَالِ، فَيَقُولُ: يَحْتَمِلُ عِنْدِي نَفْيَ الْإِجْزَاءِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ لَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: وَالْقَائِلُ بِالْإِجْمَالِ يَقُولُ: إنَّهُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الصَّالِحَةِ لِلنَّفْيِ. قُلْتُ: وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". بَلْ صَرَّحَ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ بِأَنَّهُ بِمُجْمَلٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا عَامَّةٌ، مِنْهُمْ: الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَحَكَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إنَّهُ الظَّاهِرُ. قَالَ: وَتَجَاهَلَ قَوْمٌ فَقَالُوا: لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى دَفْعِهِ. قَالَ شَارِحُ " اللُّمَعِ ": وَاخْتَلَفُوا إلَى مَاذَا يَعُودُ النَّفْيُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إلَى نَفْيِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ النِّكَاحُ الشَّرْعِيُّ، وَالصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ، لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَهُ بِهِ الشَّرْعُ، وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ مَعَ شَرْطِهِ الْمَذْكُورِ، فَاسْتَغْنَى هَذَا عَنْ دَعْوَى الْعُمُومِ فِي الْمُضْمَرِ، وَعَنْ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى التَّنَاقُضِ، وَعَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ (- عَلَيْهِ السَّلَامُ -) بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ. وَقِيلَ: بَلْ يُرْجَعُ إلَى الصِّفَاتِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الِاعْتِدَادُ فِي الْكِفَايَةِ، كَمَا يُرْجَعُ النَّفْيُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ لَيْسَ فِي الْبَلَدِ سُلْطَانٌ، عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَقَعُ بِمَا الْكِفَايَةُ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً، فَهِيَ مَعْقُولَةٌ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَنَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الْمَلْفُوظِ بِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي النَّفْيِ إذَا وَقَعَ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَاذَا يُحْمَلُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُلْحَقُ بِالْمُجْمَلَاتِ، لِأَنَّ نَفْيَهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الذَّوَاتِ، وَمَعْلُومٌ ثُبُوتُهَا حِسًّا، فَقَدْ صَارَ الْمُرَادُ مَجْهُولًا. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خَطَأٌ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا تَضَعُ هَذَا النَّفْيَ لِلذَّاتِ فِي كُلِّ مَكَان، وَإِنَّمَا تُورِدُهُ مُبَالَغَةً، فَتَذْكُرُ الذَّاتَ، لِيَحْصُلَ لَهَا مَا أَرَادَتْ مِنْ الْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الذَّاتِ، وَسَائِرُ أَحْكَامِهَا، وَيُخَصُّ الذَّاتُ بِالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُرِدْهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ تَقْصِدْ الْعَرَبُ إلَى نَفْيِ الذَّاتِ، وَلَكِنْ لِنَفْيِ أَحْكَامِهَا، وَمِنْ أَحْكَامِهَا الْكَمَالُ وَالْإِجْزَاءُ، فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى الْعُمُومِ فِيهَا. وَأَنْكَرَ هَذَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ فِيمَا يَتَنَافَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ نَفْيَ الْكَمَالِ يُشْعِرُ بِحُصُولِ الْإِجْزَاءِ، فَإِذَا قُدِّرَ الْإِجْزَاءُ مَنْفِيًّا لِتَحَقُّقِ الْعُمُومِ، قُدِّرَ ثَابِتًا لِتَحَقُّقِ إشْعَارِ نَفْيِ الْكَمَالِ بِثُبُوتِهِ، وَهَذَا يَتَنَاقَضُ، وَمَا يَتَنَاقَضُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَمَالَ، وَصَارَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى التَّوَقُّفِ بَيْنَ نَفْيِ الْإِجْزَاءِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ، وَادَّعَوْا الِاحْتِمَالَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لَا بِمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، فَعَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ يَخْرُجُ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . وَالْقَائِلُونَ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِ الْوُجُودِ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ قَطْعًا، فَاقْتَضَتْ إيهَامًا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِ الْوُجُودِ، وَنَفْيِ الْحُكْمِ، فَصَارَ مُجْمَلًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ نَفْيِ الْجَوَازِ وَنَفْيِ الْوُجُودِ. قَالَ الْمُقْتَرِحُ: وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِمَذْهَبِ الْقَاضِي. قُلْت: قَدْ سَبَقَ التَّصْرِيحُ بِهِ عَنْهُ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ ". وَصَرَّحَ بِنَقْلِهِ عَنْهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَرَدَّهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: الصَّحِيحُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى نَفْيِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، دُونَ صِفَتِهِ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَيُغْنِي عَنْ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيهِ، يَعْنِي أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَصْلِ نَفْيُ صِفَتِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ لَفْظَ النَّفْيِ فِي الشَّرْعِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْعَيْنِ، كَقَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، وَ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» فَأَمَّا قَوْلُهُ: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ» فَإِنَّمَا أَرَادَ ذِكْرَ الْقَلْبِ، وَلَا يَصِحُّ بِدُونِهِ. وَقَوْلُهُ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» أَرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْمَكَانَ الطَّاهِرَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا» انْتَهَى. وَأَجَازَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ تَقْدِيرَ نَفْيِ الصِّحَّةِ، وَحَكَى عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ نَفْيَ الْكَمَالِ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ النَّفْيَ ظَاهِرٌ فِي الْإِجْزَاءِ. مُحْتَمِلٌ عَلَى الْخَفَاءِ لِنَفْيِ الْكَمَالِ، فَإِنْ عَضَّدَهُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ يَزِيدُ عَلَى قُوَّةِ الظُّهُورِ انْصَرَفَ إلَى الْكَمَالِ وَإِلَّا فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْإِجْزَاءِ. فَعُرْفُ الشَّرْعِ عِنْدَهُمْ عُرْفٌ مَقْصُودٌ، وَلَهُ فِي الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ تَصَرُّفٌ، وَمَعْنَى الْإِجْزَاءِ عِنْدَهُمْ أَسْمَاءُ الصُّورَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُطْلَقًا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ، وَنَفْيَ الْكَمَالِ. قَالَ: وَيَجْرِي عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: " يُوقَفُ الْمُحْتَمَلُ " يُجْعَلُ هَذَا مَوْقُوفًا، لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَالْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ اخْتَلَفُوا: هَلْ النَّفْيُ انْصَبَّ إلَى الْأَعْيَانِ وَالْأَحْكَامِ فَهُوَ عَامٌّ فِيهِمَا، ثُمَّ خُصَّتْ الْأَعْيَانُ بِدَلِيلِ الْحِسِّ أَوْ الْعَقْلِ، وَبَقِيَتْ الْأَحْكَامُ عَلَى مُوجِبِهَا، وَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ، أَوْ انْصَبَّ إلَى الْأَحْكَامِ فَقَطْ، وَلَا يُقَدَّرُ دُخُولُ الْأَعْيَانِ لِيَحْتَاجَ إلَى تَخْصِيصِهِ، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَحْسُوسَاتِ، فَهُوَ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ فِي نَفْيِ الْجَوَازِ، مُؤَوَّلٌ فِي نَفْيِ الْكَمَالِ، فَيُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَهَكَذَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ "، وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ "، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، وَنَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِهِ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْقَطَّانِ. قَالَ: وَلِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ طَرِيقَانِ: إمَّا أَنْ يَقُولَ: هُوَ بَاطِلٌ، أَوْ يَقُولَ: لَا كَذَا إلَّا بِكَذَا، فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَصْرِفُهُ عَنْهُ إلَى الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ. قَالَ: وَهَذَا مِنْ آكَدِ مَا يُخَاطَبُ بِهِ فِي إيجَابِ الشَّيْءِ. ثُمَّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " تَبَعًا لِلْقَاضِي: الَّذِي نَرْتَضِيهِ إلْحَاقُ اللَّفْظِ بِالْمُحْتَمَلَاتِ لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْكَمَالِ، وَيَسْتَحِيلُ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَلَا طَرِيقَ إلَى التَّوَقُّفِ لِتَعَيُّنِ لَفْظِ الْمُحْتَمَلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ فِي ادِّعَاءِ الْإِجْمَالِ. قُلْنَا: الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِينَ ادَّعَوْا الْإِجْمَالَ أَوَّلًا اسْتَنَدُوا إلَى تَوَقُّعِ نَفْيِ الْأَعْيَانِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ، وَنَحْنُ أَسْنَدْنَا ادِّعَاءَ الْإِبْهَامِ إلَى الْأَحْكَامِ. قَالَ: ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إذَا قُلْنَا بِإِثْبَاتِ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ لَمْ نَحْتَجْ إلَى إيضَاحِ وَجْهِ الْإِجْمَالِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: فَقَوْلُهُ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» مَنْ قَالَ: إنَّ النَّفْيَ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ، مَنَعَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ وَفَسَادِهَا. وَقَالَ: إنَّ النَّفْيَ يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ، وَالْمَصِيرُ إلَى الْجَوَازِ وَالْكَمَالِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَمَنْ جَعَلَهُ عَامًّا فِي الْجَمِيعِ زَعَمَ أَنَّهُ يُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ،

وَثُبُوتُ الْعَيْنِ بِالدَّلِيلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الظَّاهِرِ فِيمَا بَعْدَهُ. وَقَالَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. اهـ. وَالْمُخْتَارُ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ إنْ دَخَلَ عَلَى مُسَمًّى شَرْعِيٍّ، كَالصَّلَاةِ، فَالْمُرَادُ نَفْيِ الصِّحَّةِ لِإِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَيْهِ، فَلَا إجْمَالَ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَى مُسَمًّى حَقِيقِيٍّ، نُظِرَ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا حُكْمٌ وَاحِدٌ تَعَيَّنَ كَقَوْلِهِ: لَا شَهَادَةَ لِمَجْلُودٍ فِي قَذْفٍ، إذْ لَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمَانِ: الْفَضِيلَةُ، وَالْجَوَازُ فَهُوَ مُجْمَلٌ، لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ، وَنَحْوِ: (لَا يَسْتَوِي) لَا يُسَمَّى مُجْمَلًا عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِعُمُومِهِ. فَائِدَةٌ الْمُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ» مَنَعَ ابْنُ الدَّهَّانِ النَّحْوِيُّ تَقْدِيرَ مَنْ قَدَّرَ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ» ، بِقَوْلِهِ: لَا صَلَاةَ كَامِلَةٌ: مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ، لِأَنَّ الصِّنَاعَةَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا، فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ بَعْضِهَا. قَالَ: وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ لَا كَمَالَ صَلَاةٍ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ فَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ، وَكَذَا قَالَ الْعَبْدَرِيّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ": مَنْ قَدَّرَ لَا صِيَامَ صَحِيحٌ أَوْ مُجْمَلٌ، فَقَدْ أَبْعَدَ. لِأَنَّ حَذْفَ الصِّفَةِ وَإِبْقَاءَ الْمَوْصُوفِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لَمْ يَأْتِ إلَّا فِي قَوْلِهِمْ: سِيرِي سَيْرَ، وَأَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِبْقَاءُ الصِّفَةِ. .

مسألة المقدر في مثل قوله رفع عن أمتي الخطأ

[مَسْأَلَةٌ الْمُقَدَّرُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ] ُ» ] وَهَذَا الْخِلَافُ يَجْرِي فِي الرَّفْعِ أَيْضًا، نَحْوُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ، «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ الصَّبِيِّ» قَالَ الْغَزَالِيُّ. قَضِيَّةُ اللَّفْظِ رَفْعُ نَفْسِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ رَفْعُ حُكْمِهِ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ الْحُكْمُ الَّذِي عُلِمَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ إرَادَتُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ دَفْعُ الْإِثْمِ فَلَيْسَ بِعَامٍّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ مِنْ الضَّمَانِ، وَلُزُومِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ، وَلَا هُوَ يُحْمَلُ بَيْنَ الْمُؤَاخَذَةِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الذَّمِّ نَاجِزًا وَإِلَى الْعُقُوبَاتِ آجِلًا، وَبَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَضَاءِ لَا صِيغَةَ لِعُمُومِهِ حَتَّى يُجْعَلَ عَامًّا فِي كُلِّ حُكْمٍ، كَمَا لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] عَامًّا فِي كُلِّ فِعْلٍ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إضْمَارِ الْفِعْلِ. ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا إذَا وَرَدَ فِي مَوْضِعٍ لَا عَيْنَ فِيهِ فَهُوَ مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْأَثَرِ مُطْلَقًا، أَوْ نَفْيَ الْبَعْضِ. وَحَكَى شَارِحُ " اللُّمَعِ " فِي هَذَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُجْمَلٌ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي رَفْعَ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَهُوَ إمَّا الْإِثْمُ أَوْ الْحُكْمُ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: نَحْمِلُهُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَعَمِّ فَائِدَةً. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ، لِأَنَّهُ مَعْقُولٌ لُغَةً، فَإِنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: رَفَعْت عَنْك جِنَايَتَك، عُقِلَ مِنْهُ رَفْعُ الْمُؤَاخَذِ عَنْ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِنَايَةِ، فَعَلَى هَذَا [هَلْ] يَرْجِعُ الرَّفْعُ إلَى الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ، أَوْ إلَى جَمِيعِ

مسألة لفظ الشارع إذا دار بين مدلولين

الْأَحْكَامِ إلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ فِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا فِي " الْإِرْشَادِ ". وَجَمَعَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ " الْمَحْصُولِ " ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُجْمَلٌ. وَالثَّانِي: الْحَمْلُ عَلَى رَفْعِ الْعِقَابِ آجِلًا وَالْإِثْمِ نَاجِزًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنْهُ فِي الْعُرْفِ، وَلَيْسَ بِعَامٍّ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ. الثَّالِثُ: وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ فِي " الْمَحْصُولِ " حَمَلَهُ عَلَى رَفْعِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. قُلْت: وَمِمَّنْ حَكَى الثَّلَاثَةَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ "، وَنَسَبَ الثَّالِثَ لِأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِهِمْ، وَاخْتَارَ هُوَ الثَّانِيَ أَعْنِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ خَاصَّةً. . [مَسْأَلَةٌ لَفْظَ الشَّارِعِ إذَا دَارَ بَيْنَ مَدْلُولَيْنِ] مَسْأَلَةٌ فِي أَنَّ لَفْظَ الشَّارِعِ إذَا دَارَ بَيْنَ مَدْلُولَيْنِ إنْ حُمِلَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَفَادَ مَعْنًى وَاحِدًا، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْآخَرِ أَفَادَ مَعْنَيَيْنِ، وَلَيْسَ هُوَ أَظْهَرَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا، فَهَلْ هُوَ مُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْ هُوَ ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى إفَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ؟ قَالَ الْهِنْدِيُّ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى الثَّانِي، وَذَهَبَ الْأَقَلُّونَ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قُلْت: وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْإِجْمَالِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَمَنْ لَمْ.

يَجْعَلْهُ مُجْمَلًا يَجْعَلُهُ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَيَيْنِ مَجَازًا فِي الْوَاحِدِ. وَاللَّفْظُ الدَّائِرُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ مُجْمَلًا لَا يَجْعَلُهُ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا عَيْنًا، بَلْ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ احْتِمَالًا سَوَاءٌ، أَوْ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، مَجَازًا فِي الْمَعْنَيَيْنِ وَبِالْعَكْسِ، وَأَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِمَا، وَلَا يَرْجِعُ لِسَبَبِ إفَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ، ثُمَّ قَالَ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ: مَحَلُّ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَيَيْنِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُجْمَلًا؛ أَوْ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا، فَالْحَقِيقَةُ مُرَجَّحَةٌ قَطْعًا. وَظَاهِرُهُ جَعْلُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَا مَجَازَيْنِ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ حَقِيقَتَيْنِ وَلَا أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً وَالْآخَرُ مَجَازًا فَمَا بَقِيَ إلَّا أَنْ يَكُونَا مَجَازَيْنِ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَسْتَشْكِلُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ، لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمَجَازَيْنِ إلَى اللَّفْظِ نِسْبَةُ الْحَقِيقَتَيْنِ، وَالْحَقُّ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لِمُتَسَاوِيَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَا حَقِيقَتَيْنِ أَوْ مَجَازَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً مَرْجُوحَةً، وَالْآخَرُ مَجَازًا رَاجِحًا عِنْدَ الْقَائِلِ بِتَسَاوِيهِمَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ وَيَنْزِلُ كَلَامُ الْآمِدِيَّ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْجَمَةَ الْمَسْأَلَةِ هَكَذَا تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ، وَالظَّاهِرُ فِي هَذَا تَرْجِيحُ الْإِجْمَالِ، وَقَوْلُهُمْ: الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ أَكْثَرُ فَائِدَةً مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ هَذَا صَحِيحٌ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ، وَعَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ يَنْزِلُ قَوْلُ الْآمِدِيَّ وَالْهِنْدِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ أَحَدٌ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْآخَرِ ذِي الْمَعْنَيَيْنِ الْمُغَايِرَيْنِ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ، بَلْ الظَّاهِرُ الْإِجْمَالُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَجَّحَ الْمُجْمَلُ ذُو الْمَعْنَيَيْنِ، لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ فَائِدَةً.

مسألة الذي له مسمى شرعي هل هو مجمل

وَقَدْ يُمَثَّلُ لِهَذِهِ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ: «الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكَحُ» إذَا قُلْنَا: النِّكَاحُ مُشْتَرَكٌ، فَإِنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ فَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْوَطْءِ اُسْتُفِيدَ مِنْهُ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَطَأُ وَلَا يُوطَأُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْعَقْدِ اُسْتُفِيدَ مِنْهُ شَيْئَانِ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَعْقِدُ لِنَفْسِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَيُعْمَلَ بِهِ قَطْعًا، لِأَنَّهُ مُرَادٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي الْمَعْنَى الْآخَرِ. وَقَدْ يُمَثَّلُ لِهَذِهِ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فَتَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهَا، كَمَا يَقُولُ بِهِ الْخُصُومُ، أَوْ أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا، فَتُمَكَّنُ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَأْذَنَ لِمَنْ يَعْقِدُ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَعْقِدَ بِنَفْسِهَا، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ إذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا وَلِيَّ فِيهِ، وَلَا حَاكِمَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُهُ» يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ، أَوْ مِقْدَارَ مَا يَجِبُ فِيهِ، أَوْ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ خَاصَّةً. . [مَسْأَلَةٌ الَّذِي لَهُ مُسَمًّى شَرْعِيٌّ هَلْ هُوَ مُجْمَلٌ] مَا لَهُ مُسَمًّى شَرْعِيٌّ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، بَلْ اللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرِيعَةِ لَا اللُّغَةِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ طَارِئٌ عَلَى اللُّغَةِ وَنَاسِخٌ لَهَا، فَالْحَمْلُ النَّاسِخُ الْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى، وَلِهَذَا ضَعَّفُوا قَوْلَ مَنْ حَمَلَ الْوُضُوءَ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ عَلَى النَّظَافَةِ بِغَسْلِ الْيَدِ.

وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مُجْمَلٌ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَعَلَّهُ فَرَّعَهُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُثْبِتُ الْأَسَامِي الشَّرْعِيَّةَ، وَإِلَّا فَهُوَ مُنْكِرٌ لَهَا. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ، التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ مُثْبَتًا فَيُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيِّ، كَقَوْلِهِ: (إنِّي إذَنْ صَائِمٌ) فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ صِحَّةُ نِيَّةِ النَّهَارِ، وَإِنْ وَرَدَ مَنْفِيًّا فَمُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَهُمَا كَالنَّهْيِ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ صِحَّةُ صَوْمِهِمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُمْتَنِعِ مُمْتَنِعٌ. وَهَذَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ، ثُمَّ هُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَقُولُ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ. وَرَابِعُهَا: لَا إجْمَالَ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ فِي الْإِثْبَاتِ الشَّرْعِيِّ، وَفِي النَّهْيِ اللُّغَوِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ لِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّ الشَّرْعِيَّ يَسْتَلْزِمُ الصِّحَّةَ، وَالنَّهْيُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى حَمْلِ قَوْلِهِ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، مَعَ أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ. تَفْرِيعٌ: [إذَا تَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الشَّرْعِيِّ] إنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيِّ، فَلَوْ تَعَذَّرَ وَلَمْ يُمْكِنْ الرَّدُّ إلَيْهِ إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ التَّجَوُّزِ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى اللُّغَوِيِّ. أَوْ يَكُونُ مُجْمَلًا، أَوْ يُرَدُّ إلَى الشَّرْعِيِّ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ الْإِجْمَالَ. قَالَ: وَلَمْ يَثْبُتْ

أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْطِقْ بِالْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، وَلَا بِالِاسْمِ اللُّغَوِيِّ، وَلَا بِالْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ، فَتَرْجِيحُ الشَّرْعِيِّ تَحَكُّمٌ. وَتُمَثَّلُ الْمَسْأَلَةُ بِ «الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» وب «الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» قَالَ: فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُسَمَّى جَمَاعَةً، وَانْعِقَادُ الْجَمَاعَةِ وَحُصُولُ فَضِيلَتِهَا، وَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّ الشَّارِعَ بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ، وَهُوَ الْأَغْلَبُ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي كِتَابِ " الْمَجَازِ ": أَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا» فَمَحْمُولٌ عَلَى صِيغَةِ إيجَابِ النِّكَاحِ اللُّغَوِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ، كَالصَّلَاةِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى الدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ: «وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» أَيْ فَلْيَدْعُ، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الْحُرِّ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اللُّغَوِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ، وَأَمَّا نَهْيُ الْحَائِضِ عَنْ الصَّلَاةِ فَلَيْسَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ مَحْمُولَةً عَلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ لِتَعَذُّرِهِ، وَلَا عَلَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازُ تَشْبِيهٍ، لِأَنَّ صُورَةَ صَلَاتِهَا شَبِيهَةٌ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ حَقِيقَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ صَلَاتَهَا مَجَازٌ عَنْ مَجَازٍ شَرْعِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ مَجَازِ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ جُزْئِهِ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَتُجُوِّزَ بِهِ عَنْهَا، كَمَا تُجُوِّزَ عَنْهَا بِالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. .

مسألة ما له مسمى عرفي وشرعي علام يحمل عند الإطلاق

[مَسْأَلَةٌ مَا لَهُ مُسَمًّى عُرْفِيٌّ وَشَرْعِيٌّ عَلَامَ يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ] ِ؟ وَجْهَانِ خَرَّجَهُمَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْخِلَافِ فِيمَنْ نَذَرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ، هَلْ يُجْزِئُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فِي الْعُرْفِ، أَوْ لَا يُجْزِئُ إلَّا مَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ. قُلْت: الرَّاجِحُ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ الْعُرْفِيَّةُ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا لَوْ وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِسَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِي الزَّكَاةِ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ الْخَمْرَ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: إنْ رَأَيْت الْهِلَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ؟ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعِلْمِ. . [مَسْأَلَةٌ إذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْمُسَمَّى الْعُرْفِيِّ وَاللُّغَوِيِّ أَيُّهُمَا يُقَدَّمُ] إذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْمُسَمَّى الْعُرْفِيِّ وَاللُّغَوِيِّ، قُدِّمَ الْعُرْفِيُّ الْمُطَّرِدُ، ثُمَّ اللُّغَوِيُّ. كَذَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ. وَيُخَالِفُهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: مَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، وَلَا فِي اللُّغَةِ، يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ. فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَأْخِيرِ الْعُرْفِ عَنْ اللُّغَةِ. وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِوُجُوهٍ: مِنْهَا: عَدَمُ وُرُودِهِمَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي الضَّوَابِطِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ أَضْبَطُ، فَتُقَدَّمُ اللُّغَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وَهُوَ فِي الْعُرْفِ أَظْهَرُ، فَيُقَدَّمُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ فِي اللَّفْظِ الصَّادِرِ مِنْ الشَّارِعِ يُنْظَرُ فِيهِ إلَى عُرْفِهِ، وَهُوَ الشَّرْعِيُّ، ثُمَّ عُرْفِ النَّاسِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ بِمَا

يَتَعَارَفُونَهُ، ثُمَّ اللُّغَوِيُّ، وَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي الصَّادِرِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الطَّلَاق: إذَا تَعَارَضَ الْمَدْلُولُ اللُّغَوِيُّ وَالْعُرْفِيُّ فَكَلَامُ الْأَصْحَابِ يَمِيلُ إلَى اعْتِبَارِ الْوَضْعِ، وَالْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ يَرَيَانِ اتِّبَاعَ الْعُرْفِ، وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ. وَمِنْهَا: قَالَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ: مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ الْعُرْفُ الْكَائِنُ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ غَيْرُهُ. قُلْتُ: وَيَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الْأُصُولِيِّينَ مَا إذَا تَعَارَضَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ يُقَدَّمُ الْعُرْفُ. وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ مَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ حَدُّهُ فِي اللُّغَةِ، فَإِنَّا نَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ، وَلَمْ يَقُولُوا: لَيْسَ لَهُ مَعْنًى. .

البيان والمبين

[الْبَيَانُ وَالْمُبَيَّنُ] ُ قَالَ الْغَزَالِيُّ: جَرَتْ عَادَةُ الْأُصُولِيِّينَ بِعَقْدِ كِتَابٍ لَهُ. وَلَيْسَ النَّظَرُ فِيهِ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُسَمَّى كِتَابًا، فَالْخَطْبُ فِيهِ يَسِيرٌ، وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ، وَأَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِهِ أَنْ يُذْكَرَ عَقِبَ الْمُجْمَلِ، فَإِنَّهُ الْمُفْتَقِرُ إلَى الْبَيَانِ. اهـ. وَأَمْرُهُ لَيْسَ بِالسَّهْلِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَسَالِيبِ الْخِطَابِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَهَمِّهَا، وَلِهَذَا صَدَّرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ كِتَابَ " الرِّسَالَةِ ". وَالْبَيَانُ لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرِ بَيَّنَ إذَا أُظْهِرَ، يُقَالُ: بَيَّنَ بَيَانًا وَتِبْيَانًا، كَ كَلَّمَ يُكَلِّمُ كَلَامًا، وَتَكْلِيمًا، قَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ: مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَيْنِ، وَهُوَ الْفِرَاقُ، شُبِّهَ الْبَيَانُ بِهِ، لِأَنَّهُ يُوَضِّحُ الشَّيْءَ، وَيُزِيلُ إشْكَالَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: سُمِّيَ بَيَانًا لِانْفِصَالِهِ مِمَّا يَلْتَبِسُ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي، وَيُشْكِلُ مِنْ أَجْلِهِ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَيُطْلَقُ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الْمُرَادِ بِخِطَابٍ ثُمَّ يَسْتَقِلُّ بِإِفَادَتِهِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُرَادِ، وَيُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الْمُبَيِّنِ. وَلِأَجْلِ إطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا، فَلَاحَظَ الصَّيْرَفِيُّ فِعْلَ الْمُبَيِّنِ، فَقَالَ: الْبَيَانُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى حَيِّزِ

التَّجَلِّي. وَقَالَ الْقَاضِي فِي (مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ) : وَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ مَنْ خَاضَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ إيضَاحًا لِمَعْنًى وَإِظْهَارًا لَهُ، فَهُوَ بَيَانٌ لَهُ. وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّ لَفْظَ الْبَيَانِ أَظْهَرُ مِنْ لَفْظِ إخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي. وَلِلصَّيْرَفِيِّ مَنْعُ ذَلِكَ. وَنُقِضَ أَيْضًا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْحُكْمِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ إشْكَالٍ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا وَرَدَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَيَانٌ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ. وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَيَانُ الْمَعْدُومِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَبَيَانُ الْمُعَلِّمِ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ عَنْهُ لِقُصُورِهِ. وَلَعَلَّهُ يَمْنَعُ تَسْمِيَةَ مَا كَانَ ظَاهِرًا ابْتِدَاءً بَيَانًا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هَذَا الْحَدُّ لِفَرْعٍ مِنْ الْبَيَانِ، وَهُوَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ خَاصَّةً، وَالْبَيَانُ يَكُونُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ. اهـ. وَلَاحَظَ الْقَاضِي، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيَّ، وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هَاشِمٍ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ: أَنَّهُ الدَّلِيلُ فَحَدُّوهُ بِأَنَّهُ الدَّلِيلُ الْمُوَصِّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إلَى الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِالْمَطْلُوبِ. اهـ. وَلَاحَظَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ نَفْسُ الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنْ الدَّلِيلِ، فَحَدَّهُ بِأَنَّهُ تَبْيِينُ الشَّيْءِ، فَهُوَ وَالْبَيَانُ عِنْدَهُ وَاحِدٌ. كَذَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ. وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ الْعِلْمُ الْحَادِثُ، لِأَنَّ الْبَيَانَ هُوَ مَا بِهِ يَتَبَيَّنُ الشَّيْءُ، وَاَلَّذِي بِهِ تَبَيُّنٌ هُوَ الْعِلْمُ الْحَادِثُ. قَالَ: وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ مُبَيَّنٌ، لَمَّا كَانَ عِلْمُهُ لِذَاتِهِ لَا بِعِلْمٍ حَادِثٍ.

وَقَالَ الْعَبْدَرِيّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْمَذَاهِبِ: الصَّوَابُ أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَدُّهُ: أَنَّهُ انْتِقَالُ مَا فِي نَفْسِ الْمُعَلِّمِ إلَى نَفْسِ الْمُتَعَلِّمِ بِوَاسِطَةِ الدَّلِيلِ. لَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَا رَسَمَ بِهِ الْقَاضِي، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ أَقْوَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَأَكْثَرُهَا حَظًّا مِنْ إفَادَةِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْبَيَانَ إظْهَارُ الْمُرَادِ بِالْكَلَامِ الَّذِي لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ إلَّا بِهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا الْحَدُّ أَحْسَنُ الْحُدُودِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدَهُ هُوَ عَلَى الصَّيْرَفِيِّ، أَعْنِي الْوَارِدَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبْقِ إجْمَالٍ. وَقَالَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِهِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى الْبَيَانِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: هُوَ إظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ لِلْمُخَاطِبِ مُنْفَصِلًا عَمَّا يُسْتَرُ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ظُهُورُ الْمُرَادِ لِلْمُخَاطِبِ، وَالْعِلْمُ بِالْأَمْرِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ عِنْدَ الْخِطَابِ. قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: " بَانَ هَذَا الْمَعْنَى " أَيْ ظَهَرَ. وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ أَيْ الْإِظْهَارُ. اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَيَانِ: إنَّهُ الْإِفْهَامُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ: إنَّهُ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَبَيَّنُ بِهِ الْمَعْلُومُ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": أَنَّ الْبَيَانَ اسْمٌ جَامِعٌ لِأُمُورٍ مُتَّفِقَةِ الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةِ الْفُرُوعِ، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد، وَقَالَ: الْبَيَانُ أَبْيَنُ مِنْ التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ.

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقْصِدْ حَدَّ الْبَيَانِ وَتَفْسِيرَ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ أَنَّ الْبَيَانَ اسْمٌ عَامٌّ جَامِعٌ لِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ الْبَيَانِ، وَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِي أَنَّ اسْمَ الْبَيَانِ يَقَعُ عَلَيْهَا، وَمُخْتَلِفَةٍ فِي مَرَاتِبِهَا، فَبَعْضُهَا أَجْلَى وَأَبْيَنُ مِنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ مِنْهُ مَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ، وَمِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» فَأَخْبَرَ أَنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ أَبْلَغُ مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا كَالْخِطَابِ بِالنَّصِّ وَالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ، وَدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَنَحْوِهِ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ بَيَانٌ. وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبُهَا فِيهِ. اهـ. وَكَذَا قَالَ الصَّيْرَفِيُّ، وَابْنُ فُورَكٍ: مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ اسْمَ الْبَيَانِ يَقَعُ عَلَى الْجِنْسِ، وَيَقَعُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةُ الْمَرَاتِبِ فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ: أَرَادَ أَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ مِنْ وُجُوهٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَجْتَمِعُ فِي أَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْكِتَابِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ. حَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي تَقْرِيبِهِ ". وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": هَذَا لَيْسَ بِحَدٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ لِلْبَيَانِ بِأَنَّهُ يَجْمَعُهُ أَمْرٌ جَامِعٌ، وَهُوَ أَنَّهُ سُنَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَنَّهُ يَتَشَعَّبُ إلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنْ حُدَّ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِ كَانَ قَدْ حُدَّ الْبَيَانُ بِأَنَّهُ بَيَانٌ، وَذَلِكَ حَدُّ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حُدَّ الْبَيَانُ الْعَامُّ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ، وَإِنْ حُدَّ الْبَيَانُ الْخَاصُّ الَّذِي يَتَعَارَفُهُ الْفُقَهَاءُ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْكَلَامُ الْمُبْتَدَأُ إذَا عُرِفَ بِهِ الْمُرَادُ كَالْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ وَغَيْرِهِمَا. .

فصل في مراتب البيان للأحكام

[فَصْلٌ فِي مَرَاتِبِ الْبَيَانِ لِلْأَحْكَامِ] ِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ " الرِّسَالَةِ "، وَرَتَّبَهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ، بَعْضُهَا أَوْضَحُ بَيَانًا مِنْ بَعْضٍ. فَأَوَّلُهَا: بَيَانُ التَّأْكِيدِ، وَهُوَ النَّصُّ الْجَلِيُّ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَأْوِيلٌ، كَقَوْلِهِ فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ بَيَانَ التَّقْرِيرِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ وَالْعَامَّ الْمَخْصُوصَ فَيَكُونُ الْبَيَانُ قَاطِعًا لِلِاحْتِمَالِ، مُقَرِّرًا لِلْحُكْمِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ. ثَانِيهَا: النَّصُّ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِدَرْكِهِ الْعُلَمَاءُ " كَالْوَاوِ، وَإِلَى " فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، فَإِنَّ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ يَقْتَضِيَانِ مَعَانِيَ مَعْلُومَةً عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ. ثَالِثُهَا: نُصُوصُ السُّنَّةِ الْوَارِدَةُ بَيَانًا لِمُشْكِلٍ فِي الْقُرْآنِ، كَالنَّصِّ عَلَى مَا يَخْرُجُ زَمَنَ الْحَصَادِ مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ مِقْدَارُ هَذَا الْحَقِّ. وَرَابِعُهَا: نُصُوصُ السُّنَّةِ الْمُبْتَدَأَةُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَالِ، وَلَا بِالتَّفْسِيرِ وَدَلِيلُ كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ بَيَانِ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . خَامِسُهَا: بَيَانُ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِثْلُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي اُسْتُنْبِطَتْ مِنْهَا الْمَعَانِي، وَقِيسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ

إذَا اُسْتُنْبِطَتْ مِنْهُ مَعْنًى، وَأُلْحِقَ بِهِ غَيْرُهُ، لَا يُقَالُ: لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ، بَلْ يَتَنَاوَلُهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَشَارَ إلَيْهِ بِالتَّنْبِيهِ كَإِلْحَاقِ الْمَطْعُومَاتِ فِي بَابِ الرِّبَا بِالْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، إذْ حَقِيقَةُ الْقِيَاسِ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالنَّصِّ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَهْلَ التَّكْلِيفِ بِالِاعْتِبَارِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَالِاجْتِهَادِ، فَهَذِهِ مَرَاتِبُ الْبَيَانِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيهَا قَوْمٌ وَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ أَهْمَلَ قِسْمَيْنِ: وَهُمَا: الْإِجْمَاعُ، وَقَوْلُ الْمُجْتَهِدِ إذَا انْقَرَضَ عَصْرُهُ، وَانْتَشَرَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُمَا الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيّ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ، فَإِنْ كَانَ نَصًّا فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ اسْتِنْبَاطًا فَهُوَ مِنْ الْخَامِسِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَذْكُرَ أَيْضًا الْقِيَاسَ، لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إلَى النَّصِّ. قُلْنَا: لِأَجْلِ هَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَا مَدْفَعَ لِلسُّؤَالِ، لَكِنَّهُ مَدْفُوعٌ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى غَيْرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَلَيْسَ دَالًّا عَلَى مَدْلُولِهِ فَلِذَلِكَ أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ. وَالثَّانِي: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ تَعَرَّضَ لِمَرَاتِبِ الْبَيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَالْإِجْمَاعُ لَمْ يُوجَدْ فِي عَصْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلِهَذَا أَغْفَلَهُ. وَاعْتَرَضَ آخَرُونَ فَقَالُوا: لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَ الْخِطَابِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ فَهُوَ يَدْخُلُ فِي قِسْمِ الْبَيَانِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالَفَةً فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اُسْتُنْبِطَ بِالِاجْتِهَادِ، فَدَخَلَ فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ.

وَتَعَجَّبَ الْمَازِرِيُّ مِنْ الْغَزَالِيِّ كَيْفَ حَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ مَرَاتِبَ الْبَيَانِ خَمْسَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَوْضَاعِهَا. ثُمَّ قَالَ أَئِمَّتُنَا، مِنْهُمْ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: يَقَعُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ لِسِتَّةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: بِالْقَوْلِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، كَبَيَانِ نُصُب الزَّكَوَاتِ، كَقَوْلِهِ: «لَا قَطْعَ فِي تَمْرَةٍ وَلَا كِسْرَةٍ، وَالْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ» . وَالثَّانِي: بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . الثَّالِثُ: بِالْكِتَابِ كَبَيَانِهِ أَسْنَانَ الدِّيَاتِ، وَدِيَاتِ أَعْضَاءَ الْبَدَنِ، وَكَذَا الزَّكَوَاتُ. الرَّابِعُ: بِالْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ: «الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا» يَعْنِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَعَادَ الْإِشَارَةَ بِأَصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَخَنَسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ، يَعْنِي يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. قُلْت: وَكَذَلِكَ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَعَ أَبِي حَدْرَدٍ إذْ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ النِّصْفَ وَمِثْلُهُ فِي " الْمَحْصُولِ " بِإِشَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْحَرِيرِ بِيَدِهِ. وَقَالَ: هَذَا حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي. الْخَامِسُ: بِالتَّنْبِيهِ: وَهُوَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلُ الَّتِي نَبَّهَ بِهَا عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ،

كَقَوْلِهِ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ: «أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ» ؟ وَقَوْلِهِ فِي قُبْلَةِ الصَّائِمِ: «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت» . السَّادِسُ: مَا خُصَّ الْعُلَمَاءُ بِبَيَانِهِ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَهُوَ مَا فِيهِ الْوُجُوهُ الْخَمْسُ إذَا كَانَ الِاجْتِهَادُ مَوْصُولًا إلَيْهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا مِنْ أَصْلِ تَغَيُّرِ هَذَا الْفَرْعِ بِهِ، وَإِمَّا مِنْ طَرِيقِ أَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَزَادَ شَارِحُ " اللُّمَعِ ": سَابِعًا: وَهُوَ الْبَيَانُ بِالتَّرْكِ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ» ، وَقَدْ يُرْجَعُ إلَى الْبَيَانِ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ التَّرْكَ كَفٌّ، وَالْكَفُّ فِعْلٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: قَدْ رَتَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: أَعْلَاهَا رُتْبَةً مَا وَقَعَ مِنْ الدَّلَالَةِ بِالْخِطَابِ، ثُمَّ بِالْفِعْلِ، ثُمَّ بِالْإِشَارَةِ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ، ثُمَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ. قَالَ: وَيَقَعُ الْبَيَانُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِهَا كُلِّهَا خَلَا الْإِشَارَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: رَتَّبَهَا أَصْحَابُنَا، فَقَالُوا: آكَدُهَا تَبْيِينُ الشَّيْءِ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ مَعَ إعَادَتِهِ، نَحْوُ: أَعْطِ زَيْدًا أَعْطِ زَيْدًا، وَفِي الْحَدِيثِ «فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» . ثُمَّ الْمُؤَكَّدُ نَحْوُ: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] وَفِي الْحَدِيثِ: «فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ» «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ

مسألة البيان الواجب على الرسول صلى الله عليه وسلم

ذَكَرٍ» . ثُمَّ يَلِيهِ الْخِطَابُ الْمُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، ثُمَّ يَلِيهِ مَا يَرِدُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَحْوُ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ» ، «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، ثُمَّ الْكِتَابَةُ، ثُمَّ الْإِشَارَةُ بِتَحْرِيكِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ، قَالَ: وَرَأَيْت أَصْحَابَنَا يُقَدِّمُونَ مَا وَرَدَ مِنْ الْخِطَابِ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى مَعْنَاهُ لِلْعُسْرِ فِي اللِّسَانِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْهُ وَمُقَدَّمٌ عَلَيْهِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ وَإِمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى الْمُرَادِ بِأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ، وَهُمَا قِسْمَانِ مِنْ الْبَيَانِ. وَأَطْلَقَ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْبَيَانَ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ: قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَشَاهِدُهُ حَلْقُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَ الصَّحَابَةِ لَهُ أَقْوَى مِنْ أَمْرِهِ وَإِذْنِهِ فِيهِ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ. . [مَسْأَلَةٌ الْبَيَانُ الْوَاجِبُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] َ -] يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ: وَاجِبِهَا. وَمَنْدُوبِهَا، وَحَرَامِهَا، وَمَكْرُوهِهَا، وَمُبَاحِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: مَا كَانَ وَاجِبًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُهُ، أَوْ مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ، أَوْ مُبَاحًا فَمُبَاحٌ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذَا خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ جَمِيعِ الشَّرْعِيَّاتِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمًا، وَهُوَ إلْزَامٌ عَجِيبٌ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ: مَا يَلْزَمُ الرَّسُولَ بَيَانُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَالْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ، وَبِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِعْطَاءِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، وَأَنْ لَا يَرِثَ الْقَاتِلُ، وَنَحْوِهِ، يَلْزَمُ بَيَانُهُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى الْعِلْمِ بِهَا إلَّا مِنْهُ، وَفِي لُزُومِ بَيَانِهَا فِي حَقِّ اللَّهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى

الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ بِالِاجْتِهَادِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ ذَلِكَ لَزِمَهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ: الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ الْبَيَانُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَرُوِيَ أَنَّ «عُمَرَ سَأَلَهُ عَنْ الْكَلَالَةِ: فَقَالَ: يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ» ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْبَيَانِ مَا لَمْ يُتَوَصَّلْ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِبَيَانِهِ. فَأَمَّا مَا جُعِلَ فِي الْكِتَابِ بَيَانُهُ، وَكَانَ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالتَّدَبُّرِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ. قَالَ: وَمَعْقُولٌ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إبَانَةُ كُلِّ الْأَحْكَامِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إبَانَةُ الْأُصُولِ الَّتِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْفُرُوعِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: مِنْ الْمُجْمَلِ مَا وُكِلَ الْعُلَمَاءُ إلَى اجْتِهَادِهِمْ فِي بَيَانِهِ مِنْ غَيْرِ سَمْعٍ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] . فَلَمْ يَرِدْ سَمْعٌ بِبَيَانِ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّهَا. وَكَقَوْلِهِ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] فَأَجْهَلَ ذِكْرَ الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ، حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ سَاقِطٌ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الْمُسْتَقِرَّةِ. وَقَدْ «سَأَلَ عُمَرَ عَنْ الْكَلَالَةِ فَقَالَ: يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ» فَوَكَلَهُ إلَى الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْبَيَانِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيَانِ الصَّادِرِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، هَلْ يُؤْخَذُ قِيَاسًا أَوْ تَنْبِيهًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ تَنْبِيهًا مِنْ لَفْظِ الْمُجْمَلِ، وَشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِ، «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِعُمَرَ: يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ» فَرَدَّهُ إلَيْهَا، لِيَسْتَدِلَّ بِمَا تَضَمَّنَتْهَا مِنْ تَنْبِيهٍ وَشَوَاهِدِ حَالٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ قِيَاسًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بِنَاؤُهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، «لِأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ. فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت» ، فَجَعَلَ الْقُبْلَةَ مِنْ غَيْرِ إرَادَةٍ كَالْمَضْمَضَةِ مِنْ غَيْرِ ازْدِرَادٍ. انْتَهَى.

فصل في المبين

[فَصْلٌ فِي الْمُبَيَّنِ] ِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْخِطَابِ الْمُحْتَاجِ إلَى الْبَيَانِ، وَوَرَدَ بَيَانُهُ، وَعَلَى الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ الْمُسْتَغْنِي عَنْ الْبَيَانِ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَدُلَّ بِحَسَبِ الْوَضْعِ، وَهُوَ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ، أَوْ بِحَسَبِ الْمَعْنَى كَالْمَفْهُومِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ، نَحْوُ: «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ» أَوْ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ، نَحْوُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِمَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ. وَيُسَمَّى الدَّلِيلُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الْبَيَانُ مُثْبِتًا " بِكَسْرِ الْبَاء ". وَفِيهِ مَسَائِلُ:. [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْبَيَانَ يَجُوزُ بِالْقَوْلِ وَالْخِلَافُ فِي وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ] [الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى لَا خِلَافَ أَنَّ الْبَيَانَ يَجُوزُ بِالْقَوْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ. وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَقَع بَيَانًا خِلَافًا لِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنَّا، وَالْكَرْخِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ " وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يُوهِمُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ تَقَدُّمِهِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الشَّرْعِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا صِيغَةَ لَهُ، لَكِنْ أَوَّلَهُ الْهِنْدِيُّ. وَقَالَ: قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ إنَّ الْبَيَانَ مَخْصُوصٌ بِالدَّلِيلِ الْقَوْلِيِّ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّسْمِيَةُ اصْطِلَاحًا، كَمَا فِي الْعُمُومِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ مِنْ كَوْنِ الْبَيَانِ قَوْلًا، لَا فِي حَقِيقَةِ مَا يَقَعُ بِهِ الْبَيَانُ، وَلَا فِي جَوَازِهِ. وَشَرَطَ الْمَازِرِيُّ الْإِشْعَارَ بِهِ مِنْ مَقَالٍ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لِلْمُكَلَّفِ الْبَيَانُ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ.

قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مَعْنَوِيًّا، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُتَصَوَّرُ فِعْلٌ يُنْبِئُ بِمُجَرَّدِهِ عَنْ الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ إسْنَادِ ذَلِكَ إلَى قَرِينَةٍ أَمْ لَا؟ قُلْتُ: وَجَعَلَهُ السَّرَخْسِيُّ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ هَلْ يَكُونُ الْمُجْمَلُ مُتَّصِلًا بِهِ. فَمَنْ شَرَطَ الِاتِّصَالَ قَالَ: لَا يَكُونُ الْبَيَانُ إلَّا بِالْقَوْلِ إذْ الْفِعْلُ لَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْقَوْلِ. وَفِي " الْمَحْصُولِ ": لَا يُعْلَمُ كَوْنُ الْفِعْلِ بَيَانًا. إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ، أَوْ يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ قَصْدِهِ، أَوْ بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ، كَقَوْلِهِ: هَذَا الْفِعْلُ بَيَانٌ لِهَذَا الْمُجْمَلِ، أَوْ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، بِأَنْ يُذْكَرَ الْمُجْمَلُ وَقْتَ الْحَاجَةِ، أَيْ الْعَمَلِ بِهِ. ثُمَّ يُفْعَلُ فِعْلًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ سَبْعَ طُرُقٍ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْفِعْلَ يَصْلُحُ بَيَانًا، لَكِنْ بِشَرْطِ انْضِمَامِ بَيَانٍ قَوْلِيٍّ إلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ صَلَّى ثُمَّ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَصَارَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] . وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ، ثُمَّ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . أَمَّا الْفِعْلُ السَّاذَجُ فَلَا، لِأَنَّهُ بِذَاتِهِ سَاكِتٌ عَنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ. فَلَا تَتَعَيَّنُ وَاحِدَةٌ إلَّا بِدَلِيلٍ. قَالَ: اللَّهُمَّ إلَّا إذَا تَكَرَّرَ الْفِعْلُ عِنْدَهُ، يَحْصُلُ الْبَيَانُ. قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْفِعْلِ بَيَانًا: إحْدَاهَا: وُرُودُهُ عِنْدَ وَقْتِ إيجَابِهِ، لِئَلَّا يَتَأَخَّرَ الْبَيَانُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. الثَّانِي: أَنْ يُنْقَلَ إلَيْنَا فِعْلٌ غَيْرُ مُتَّصِلِ، كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْمَاءِ، ثُمَّ يُنْقَلَ إلَيْنَا مَعَ تَجْدِيدِهِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْفَضِيلَةِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتْرُكَ مَا يَلْزَمُ فَيَكُونَ نَسْخًا. الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يُقْطَعَ فِي شَيْءٍ لِيُعْلَمَ نَحْوُ: تَخْصِيصِ آيَةِ السَّرِقَةِ.

تنبيه هل يجري خلاف الفعل في الكتابة والإشارة

الْخَامِسَةُ: أَنْ يَفْعَلَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا. كَالرُّكُوعَيْنِ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ. السَّادِسَةُ: أَنْ يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ وَالزَّكَاةَ مُتَّصِلَةً بَعْدَ إجْمَالِهَا فِي النُّصُوصِ. السَّابِعَةُ: أَنْ يُعَاقِبَ عُقُوبَةً بِاعْتِقَادِ نَدْبِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ. . [تَنْبِيهٌ هَلْ يَجْرِي خِلَافُ الْفِعْل فِي الْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ] تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: هَلْ يَجْرِي خِلَافُ الْفِعْل فِي الْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ؟ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ بِهِ، وَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ، وَلِهَذَا قَطَعَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِيمَا سَبَقَ بِالْبَيَانِ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ مَعَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الْفِعْلِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ صَاحِبُ " الْوَاضِحِ " فَقَالَ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الْفِعْلِ: وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْكِتَابَةَ وَالْإِشَارَةَ يَقَعُ بِهِمَا الْبَيَانُ. الثَّانِي: إنَّمَا يَقَعُ الْفِعْلُ بَيَانًا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَوْلٌ يَصْلُحُ لِلْبَيَانِ، وَإِلَّا لَمْ يُرْجَعْ إلَى الْفِعْلِ لِأَنَّ الْقَوْلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَيَانِ، وَالْفِعْلُ إنَّمَا يُجْعَلُ بَيَانًا بِغَيْرِهِ، لَا بِنَفْسِهِ. قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْآتِي. . [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْبَيَانُ بِالتَّرْكِ] يَقَعُ الْبَيَانُ بِالتَّرْكِ أَيْضًا، كَتَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ فِعْلِهِ إيَّاهُ، فَإِنَّهُ

المسألة الثالثة البيان بالتقرير

بَيَّنَ كَوْنَهُ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَكَسُكُوتِهِ عَنْ بَيَانِ حَادِثَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَإِلَّا لَزِمَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ يَتَنَاوَلُهُ، وَالْأُمَّةُ تَتْرُكُهُ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْبَيَانُ بِالتَّقْرِيرِ] يَقَعُ الْبَيَانُ بِالتَّقْرِيرِ، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ، قَالَ: كَعِلْمِنَا بِأَنَّ عُقُودَ الْكُفَّارِ كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِلْمِهِ بِهَا، وَلَمْ يُنْكِرْهَا عَلَى فَاعِلِهَا، يَدُلُّ عَلَى إبَاحَتِهَا، وَيَجِيءُ فِيهِ مِنْ الْوُجُوهِ مَا سَبَقَ فِي الْفِعْلِ. . [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَا الْمُبَيَّنُ الْقَوْلُ أَمْ الْفِعْلُ] إذَا وَرَدَ بَعْدَ الْمُجْمَلِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِبَيَانِهِ فَمَاذَا يَكُونُ الْبَيَانُ؟ فَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي الْحُكْمِ، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا، فَإِنْ اتَّفَقَا وَعُلِمَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ الْمُبَيَّنُ قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا، وَالثَّانِي تَأْكِيدٌ لَهُ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْفِعْلُ أَضْعَفَ دَلَالَةً مِنْهُ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى تَأْكِيدِهِ، إذْ يَمْتَنِعُ التَّأْكِيدُ بِالْأَضْعَفِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، فَلَا يُقْضَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ الْمُبَيَّنُ بِعَيْنِهِ، بَلْ يُقْضَى بِحُصُولِ الْبَيَانِ بِوَاحِدٍ لَمْ يُطَّلَعْ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَوَّلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ

المسألة الخامسة بيان القرآن بالقرآن

وَالثَّانِي تَأْكِيدٌ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": [مَكَانًا يَتَمَيَّزُ عَنْهُمَا بَيَانُهَا] وَقِيلَ: هَذَا إذَا تَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْمَرْجُوحَ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ وُرُودًا، وَإِلَّا لَزِمَ التَّأْكِيدُ بِالْأَضْعَفِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا عِلْمًا كَأَمْرِهِ بَعْدَ نُزُولِ الْحَجِّ الْقَارِنَ أَنْ يَكُونَ طَوَافًا وَاحِدًا. وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَرَنَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ» . فَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَأَتْبَاعُهُ، وَابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ الْمُبَيَّنَ هُوَ الْقَوْلُ سَوَاءٌ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْفِعْلِ أَوْ مُتَأَخِّرًا، أَوْ يُحْمَلُ الْفِعْلُ عَلَى النَّدْبِ أَوْ الْوَاجِبِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْقَوْلِ عَلَى الْبَيَانِ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ إلَّا بِوَاسِطَةِ انْضِمَامِ الْقَوْلِ إلَيْهِ، وَالدَّالُّ بِنَفْسِهِ أَوْلَى. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْمُقَدَّمُ مُطْلَقًا هُوَ الْبَيَانُ كَمَا فِي صُورَةِ اتِّفَاقِهِمَا. . [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ] يَجُوزُ بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} [النساء: 7] بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الْآيَةَ. وَالسُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ، وَالْمُتَوَاتِرُ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَالْمُجْمَلُ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَمْ لَا.

المسألة السادسة لا يجب أن يكون البيان كالمبين في القوة

وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: إنْ كَانَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى لَمْ يَجُزْ، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَالْبَاجِيُّ فِي الْأَحْكَامِ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَمِمَّا أُجْمِلَ فِي السُّنَّةِ وَبَيَّنَهُ الْقُرْآنُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» الْحَدِيثَ، ثُمَّ فَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: وَقَدْ يَقَعُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ بِالْإِجْمَاعِ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَاَلَّذِي فِي كِتَابِ اللَّهِ: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَلَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَبَيَّنَ الْإِجْمَاعَ الْمُرَادَ بِهَا، وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُ الْإِجْمَاعِ بِحُكْمٍ مُبْتَدَإٍ، كَمَا يَكُونُ حُكْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، وَتَأْجِيلِ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ. . [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ كَالْمُبَيَّنِ فِي الْقُوَّةِ] وَهِيَ أَصْلُ الَّتِي قَبْلَهَا: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ إلَى أَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُبَيَّنِ فِي الْقُوَّةِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْنَى مِنْهُ، فَيُقْبَلُ الْمَظْنُونُ فِي بَيَانِ الْمَعْلُومِ، خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ، فَإِنَّهُ شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ الْأَوْسَاقِ مَعَ قَوْلِهِ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» وَمَا نَقَلَهُ عَنْ الْجُمْهُورِ

المسألة السابعة لا يجب أن يكون البيان كالمبين في الحكم

صَحَّحَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ". فَقَالَ: بَعْدَ حِكَايَةِ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ: الصَّحِيحُ جَوَازُ كَوْنِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ مَعْلُومَيْنِ أَوْ أَمَارَتَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُبَيَّنُ مَعْلُومًا، وَبَيَانُهُ مَظْنُونًا، كَمَا جَازَ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ اهـ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ أَقْوَى دَلَالَةً مِنْ الْمُبَيَّنِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَلَا يُتَوَهَّمُ فِي حَقِّ أَحَدٍ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى اشْتِرَاطِ أَنَّهُ كَالْمُبَيَّنِ فِي قُوَّةِ الدَّلَالَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ بَيَانًا لَهُ؛ بَلْ كَانَ هُوَ مُحْتَاجًا إلَى بَيَانٍ آخَرَ، بَلْ الْمُرَادُ هَلْ هُوَ كَالْمُبَيَّنِ فِي قُوَّةِ الْمَتْنِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُبَيَّنُ مَعْلُومًا، وَالْبَيَانُ مَظْنُونًا، لَا يَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَ مَنْ شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ؟ هَذَا فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ، أَمَّا فِي بَيَانِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ فَالْأَمْرُ فِيهِ أَظْهَرُ ضَرُورَةً أَنَّ الْمُبَيَّنَ هَاهُنَا أَظْهَرُ دَلَالَةً مِنْ الْمُجْمَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ، فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمُبَيَّنُ مُجْمَلًا كَفَى فِي تَعْيِينِ أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ أَدْنَى مَا يُفِيدُ التَّرْجِيحَ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا أَوْ مُطْلَقًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصُ أَوْ الْقَيْدُ فِي دَلَالَتِهِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْعَامِّ عَلَى صُورَةِ التَّخْصِيصِ، وَدَلَالَةُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَإِلَّا لَزِمَ إلْغَاءُ الْأَقْوَى لِأَجْلِ الْأَضْعَفِ وَنُقِلَ عَنْ اخْتِيَارِ الْآمِدِيَّ. [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ كَالْمُبَيَّنِ فِي الْحُكْمِ] [الْمَسْأَلَةُ] السَّابِعَةُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ كَالْمُبَيَّنِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَالَ قَوْمٌ: إذَا كَانَ الْمُبَيَّنُ وَاجِبًا كَانَ بَيَانُهُ كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ بَيَانٌ لِصِفَةِ شَيْءٍ وَاجِبٍ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ

المسألة الثامنة هل يجوز أن يتقدم المبين على المجمل

أَرَادُوا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا يَدُلُّ الْمُبَيَّنُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُبَيَّنُ وَاجِبًا، كَانَ بَيَانُهُ وَاجِبًا، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ وَاجِبٌ، سَوَاءٌ تَضَمَّنَ فِعْلًا وَاجِبًا أَمْ لَا. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ تَبَعًا لِلْمَحْصُولِ ": نُقِلَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْبَيَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُبَيَّنِ فِي الْحُكْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْمُبَيَّنَ إذَا كَانَ وَاجِبًا، كَانَ بَيَانُهُ وَاجِبًا وَإِلَّا فَلَا، لَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِشَيْءٍ وَاجِبٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، بَلْ يَنْبُو عَنْهُ، وَلَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُبَيَّنُ مِنْ الْحُكْمِ، حَتَّى يَرِدَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بَيَانًا لِلْآخَرِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ بَيَانًا لِلْآخَرِ إذَا كَانَ دَالًّا عَلَى صِفَةِ مَدْلُولِ الْآخَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، وَلَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ صِفَاتِ مَدْلُولِ الْمُبَيَّنِ أَوْ نَدْبِيَّتِهِ كَمَا دَلَّ الْمُبَيَّنُ عَلَى أَصْلِ وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِيَّتِهِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي تَأْوِيلِ مَا نَقَلَ عَنْهُ، لَكِنَّهُ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْبَيَانَ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمُبَيَّنُ عَلَى الْمُجْمَلِ] [الْمَسْأَلَةُ] الثَّامِنَةُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمُبَيَّنُ عَلَى الْمُجْمَلِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ الْقَطَّانِ فِي أُصُولِهِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَخَطَّأَهُ. وَأَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ مُقْتَرِنًا وَمُرَتَّبًا، فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ التَّفْسِيرَ يَحْتَاجُ إلَى مُفَسِّرٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُفَسِّرٌ لَمْ يَكُنْ تَفْسِيرٌ. قِيلَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا عَلِمَ مَصْلَحَتَنَا فِي ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَدَّمَ التَّفْسِيرُ، فَيَجْتَمِعَانِ جَمِيعًا، كَمَا يَرِدُ بَعْدَهُ.

المسألة التاسعة قد يكون البيان منفصلا

[الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَدْ يَكُونُ الْبَيَانُ مُنْفَصِلًا] قَدْ يَكُونُ الْبَيَانُ مُنْفَصِلًا، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مُتَّصِلًا كَتَبْيِينِهِ تَعَالَى الْمُرَادَ مِنْ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] . [الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ إذَا صَدَرَ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ فِي مَكَان أَوْ زَمَانٍ] [الْمَسْأَلَةُ] الْعَاشِرَةُ إذَا صَدَرَ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِعْلٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ فِي مَكَان أَوْ زَمَانٍ، لَمْ يَتَقَيَّدْ مُوجَبُ الْبَيَانِ بِهِمَا. وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ يَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ، وَلَا يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ، وَأَبْعَدَ قَوْمٌ فَقَالُوا: يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ. حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، ثُمَّ قَالَ: فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْقَوْلَ الصَّادِرَ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِبَيَانِ الْحُكْمِ لَا يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَ الِامْتِثَالِ بِمَكَانٍ وَلَا زَمَانٍ، فَكَذَا الْفِعْلُ. وَأَمَّا السَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فَنَقَلَ عَنْ أَصْحَابِنَا التَّقْيِيدَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَعَنْ أَصْحَابِهِمْ خِلَافَهُ. قَالَ: وَلِهَذَا كَانَ إحْرَامُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَقْتَضِي التَّقْيِيدَ بِتِلْكَ الْأَشْهُرِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ، فَتَحَصَّلَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ حَيْثُ يَلِيقُ دُخُولُهُمَا كَمَا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا.

المسألة الحادية عشرة كل ما يحتاج إلى تأخير البيان من عام وغيره حالان

[الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ مِنْ عَامٍّ وَغَيْرِهِ حَالَانِ] الْمَسْأَلَةُ] الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إلَى [تَأْخِيرِ الْبَيَانِ] مِنْ عَامٍّ، وَمُجْمَلٍ، وَمَجَازٍ، وَمُشْتَرَكٍ، وَفِعْلٍ مُتَرَدِّدٍ، وَمُطْلَقٍ لِتَأْخِيرِ بَيَانِهِ حَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي إنْ أُخِّرَ الْبَيَانُ عَنْهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُكَلَّفُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ، وَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ، كَالْإِيمَانِ، وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَالْوَدَائِعِ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالشَّيْءِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ مُمْتَنِعٌ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَمَنْ جَوَّزَهُ أَجَازَهُ، لَكِنْ لَا يَقَعُ. وَلِهَذَا نُقِلَ إجْمَاعُ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ عَلَى امْتِنَاعِهِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْحَاجَةِ لَمْ يَسْتَحْسِنْهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَقَالَ: هِيَ عِبَارَةٌ تَلِيقُ بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ بِالْمُؤْمِنِينَ حَاجَةً إلَى التَّكْلِيفِ. قَالَ: فَالْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنْ يُقَالَ: تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِ الْفِعْلِ بِالْخِطَابِ. انْتَهَى. وَهِيَ مُشَاحَّةٌ لَفْظِيَّةٌ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالْحَاجَةِ كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: تَوَجُّهُ الطَّلَبِ. وَتَرَدَّدَ بَعْضُهُمْ: هَلْ مَعْنَى التَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ تَأْخِيرُهُ عَنْ زَمَنٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْفِعْلُ إلَى زَمَنٍ آخَرَ مُمْكِنٍ؟ أَوْ مَعْنَاهُ تَأْخِيرُهُ إلَى وَقْتٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْفِعْلُ كَالظُّهْرِ مَثَلًا، هَلْ يَجِبُ بَيَانُهَا بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْوَقْتِ أَوْ لَا يَجِبُ إلَّا إذَا ضَاقَ وَقْتُهَا؟ اهـ. وَالْمُرَادُ الثَّانِي كَمَا بَيَّنَّاهُ أَوَّلًا، وَبِهِ صَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " وَغَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يُؤَخِّرُ النَّظَرَ، وَقَدْ يُخْطِئُ إذَا نَظَرَ، فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْ وَقْتِ وُرُودِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ كَالْحَجِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَا ظَاهِرَ لَهُ كَالْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَالْمُشْتَرِكَةِ، أَوْ لَهُ ظَاهِرٌ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي خِلَافِهِ، كَتَأْخِيرِ بَيَانِ التَّخْصِيصِ، وَتَأْخِيرِ بَيَانِ النَّسْخِ، وَتَأْخِيرِ بَيَانِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ الْمُسَمَّيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالصَّلَاةِ مُرَادًا بِهَا الدُّعَاءُ وَنَحْوُهُ. وَتَأْخِيرُ بَيَانِ اسْمِ النَّكِرَةِ إذَا أُرِيدَ بِهَا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ فَفِي جَوَازِ تَأْخِيرِ ذَلِكَ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: الْجَوَازُ مُطْلَقًا. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَعَلَيْهِ عَامَّةُ عُلَمَائِنَا مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ فُورَكٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْإِصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ خَيْرَانَ، وَالْقَفَّالِ، وَابْنِ الْقَطَّانِ، والطَّبَرِيِّ، وَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَجَزَمَ بِهِ الْخَفَّافَ فِي الْخِصَالِ ". وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَالْقَفَّالِ، وَعَمَّمُوا الْقَوْلَ فِي الْمُجْمَلِ وَالْعَامِّ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَسَائِرِ ضُرُوبِ الْأَخْبَارِ. وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ ابْنِ خَيْرَانَ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: وَكَانَ يُحْكَى عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَسَائِلِ الْمُطَرِّزِ: إنْ قُلْت لَك: إنَّ هَذَا يَجُوزُ فَمَا تَعْمَلُ؟ وَإِنْ قُلْت لَك: لَا يَجُوزُ فَمَا تَعْمَلُ؟ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ، وَأَتْبَاعُهُ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": هُوَ الَّذِي نَنْصُرُهُ. قَالَ: وَنَصَرَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ الْبَغْدَادِيُّ فِي " الْعُمَدِ " وَحَكَاهُ عَنْ. . . وَأَبِي هَاشِمٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَاَلَّذِي نَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَنْعُ مُطْلَقًا.

وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ عَنْ الْمُزَنِيّ وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ ابْنِ مُطَيَّنٍ، وَأَبِي الْفَرَجِ، وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ مَالِكٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِنْهُمْ شَيْخُنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وَثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي، فَقَدْ ضَمِنَ الْبَيَانَ بَعْدَ إلْزَامِ الِاتِّبَاعِ، وَقَالَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ: {وَأَهْلَكَ} [هود: 40] وَعُمُومُهُ يَتَنَاوَلُ ابْنَهُ، وَلِهَذَا سَأَلَ عَنْ إهْلَاكِهِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] وَلِهَذَا سَأَلَ ابْنُ الزِّبَعْرَى عَنْ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُجَوِّزَا أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ إلَّا وَالْبَيَانُ مَعَهُ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ فُورَكٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَسُلَيْمٌ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ أَيْضًا قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَثِيرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِلَيْهِ صَارَ ابْنُ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ دَاوُد، وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ، وَالْبَاجِيُّ عَنْ الْأَبْهَرِيِّ مِنْهُمْ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُتَّصِلًا بِالْبَيَانِ، أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ احْتِرَازًا مِنْ انْقِطَاعِهِ كَعُطَاسٍ وَنَحْوِهِ مِنْ عَطْفِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ: وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِي عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ: وَأَوْجَبُوا أَنْ لَا تَرِدَ لَفْظَةٌ إلَّا وَيَقْتَرِنُ بِهَا بَيَانُهَا، إذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا. اهـ. وَظَاهِرُ هَذَا التَّقْيِيدِ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ عِنْدَ الِاسْتِقْلَالِ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَقْلَ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ الْمَنْعَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ: هَذَا مَذْهَبٌ كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ الصَّيْرَفِيُّ قَدِيمًا، فَنَزَلَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ ضَيْفًا، فَنَاظَرَهُ فِي هَذَا، وَاسْتَنْزَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الْمُتَشَيِّعَةِ، وَلِهَذَا نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَسْأَلَةَ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ مُوَافَقَةً لِلْجُمْهُورِ. قُلْتُ: وَقَدْ رَاجَعْت كِتَابَهُ الْمُسَمَّى " بِالدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ " وَهُوَ مُجَلَّدٌ كَبِيرٌ، فَرَأَيْته فَصَّلَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ فَيَجُوزُ، وَتَأْخِيرِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَنَحْوِهِ فَيَمْتَنِعُ. وَهَا أَنَا أَسُوقُ عِبَارَتَهُ لِتَقِفَ عَلَى صَوَابِ قَوْلِهِ. قَالَ مَا نَصُّهُ: الْقَوْلُ فِي الْخِطَابِ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مِنْ ظَاهِرِهِ مُرَادُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: خِطَابٌ لَا يُعْقَلُ مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ بَيَانُهُ فَغَيْرُ لَازِمٍ، حَتَّى يَقَعَ الْبَيَانُ، كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ ظَاهِرِ الِاسْمِ، وَحِينَئِذٍ فَوَقْتُ التَّكْلِيفِ وَقْتُ الْبَيَانِ، وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْإِلْزَامِ، وَيَكُونَ فَائِدَةُ الْخِطَابِ الْإِعْلَامَ بِأَنَّهُ أَوْجَبَ الصَّلَاةَ الَّتِي سَيُبَيِّنُهَا يَلْزَمُهُمْ عِنْدَ الْبَيَانِ. قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا تَأْخِيرُ الْبَيَانِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَا يَلْزَمُهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ حِينَئِذٍ عَلَى اعْتِقَادِ خِلَافِ الْمُرَادِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْخِطَابُ الَّذِي تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ وَحَدُّهُ مِنْ ظَاهِرِ الِاسْمِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ أَكْثَرَ مِنْ لَفْظِهِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَةِ بَعْضِهِ أَوْ فِعْلِهِ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ، لِأَنَّهُ إنْ أَخَّرَهُ كَانَ الْكَلَامُ مُطْلَقًا، وَمُرَادُهُ الشَّرْطَ، فَيُوجِبُ اعْتِقَادَهُ عُمُومًا أَوْ اقْتِضَاءً أَمْرُهُ مُبَادِرًا، فَيَكُونُ قَدْ أَمَرَ بِمَا يُوجِبُ ظَاهِرُهُ خِلَافَ مُرَادِهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، لِمَا فِيهِ مِنْ اللَّبْسِ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى الْمَنْعِ.

ثُمَّ قَالَ: وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ بَعْضِ الْمُنْزَلَاتِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ بِقَطْعِ السَّارِقِ، فَيَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْحَدِّ الْمَقْطُوعِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ سَارِقٌ يَحْتَاجُ إلَى قَطْعِهِ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ الشَّافِعِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَحْكِيَ عَنْ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَلَا يُخْبِرُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْبَيَانَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ بَلْ قَدْ حَكَى عَنْهُ الْمُزَنِيّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ فِي مَسَائِلَ، وَلَا إذَا بَقِيَ تَأْخِيرٌ، وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِمَا يُنْتَقَضُ مِنْ أَصْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا لِأَصْلٍ لَهُ، وَلَا تَصِحُّ حِكَايَتُهُ عَنْهُ، فَيُضَافُ إلَيْهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْأَلِبَّاءِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَنَا بِخِطَابٍ عَامٍّ، لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ مَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ وَلَا التَّرَاخِيَ وَلَا الْبَعْضَ، وَيُرِيدُ التَّرَاخِيَ مِنْ الْوَقْتِ، أَوْ بَعْضَ مَا أَظْهَرَ اسْمَهُ وَيُعَرِّيهِ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ بِهِ عَلَى مُرَادِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ الصِّيغَةَ الْعَامَّةَ إذَا وَرَدَتْ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهَا وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ رُجُوعِهِ عَنْ مَنْعِ التَّأْخِيرِ فِيمَا نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ عَنْهُ رُجُوعُهُ عَنْ وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ ضَرُورَةً، وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَيْسَ لَهُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ يُنَازِعُهُ فِيهِ قَوْلُ الشَّاشِيِّ فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَابِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا أَعْطَى السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] فَلَمَّا أَعْطَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَمَنَعَ غَيْرَهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بَعْضُهُمْ دُونِ بَعْضٍ.

وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ، ثُمَّ إنَّ قَوْمًا مِنْ الْأَنْصَارِ شَكَوْا إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْعَرَايَا» ، فَأَطْلَقَ النَّهْيَ، ثُمَّ خَصَّهُ فِي ثَانِي الْحَالِ، وَهَذَا هُوَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ. قَالَ: وَبِهِ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي الصَّيْرَفِيَّ - يَذْكُرُ أَنَّ الْمُزَنِيّ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْبَيَانَ يَتَأَخَّرُ، حَتَّى أَخْرَجَ لَنَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَلَامَ الْمُزَنِيّ فِي " الْمَنْثُورِ " أَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُزَنِيّ كَانَ يَذْهَبُ إلَى مَا قُلْنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: جَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ خَيْرَانَ، فَرَأَيْت ابْنَ خَيْرَانَ فِيهَا ضَعِيفًا. فَقُلْتُ: لِأَبِي بَكْرٍ: مَقْصِدُنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمَعْنَى لَا الِاسْمُ فَإِذَا حَصَلَ الْمَعْنَى فَسَوَاءٌ سَمَّيْته تَأْخِيرَ الْبَيَانِ أَوْ لَمْ تُسَمِّهِ، وَذَلِكَ أَنَّا. مِثْلُ أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَقُولَ لَنَا: اقْطَعُوا السَّارِقَ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَعْضَ، وَلَا يُبَيِّنُهُ فِي الْحَالِ، وَيُبَيِّنُهُ فِي ثَانِيهِ. وَلَا نُسَمِّيهِ تَأْخِيرَ بَيَانٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَكَسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ، وَمَا يَقَعُ مِنْ الْبَيَانِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالنَّسْخِ وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ سَمَّاهُ النَّاسُ بِهَذَا الِاسْمِ. فَخَبِّرْنِي أَرَادَ اللَّهُ مِنَّا فِي الِابْتِدَاءِ الصَّلَاةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَبَدًا ثُمَّ رَفَعَهُ، أَوْ أَرَادَ مِنَّا فِي الِابْتِدَاءِ إلَى زَمَانٍ؟ فَإِنْ قُلْت: مُؤَبَّدًا، أَخْلَفْت، وَإِنْ قُلْت: مُقَيِّدًا قِيلَ لَك: فَأَيُّ شَيْءٍ نُسِخَ عَنَّا؟ فَإِنْ قُلْت: سُمِّيَ هَذَا نَسْخًا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْرٌ ثَانٍ، لِأَنَّهُ انْكَشَفَ عَنَّا مَا لَمْ يَكُنْ ظَهَرَ لَنَا. قُلْنَا: وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي التَّخْصِيصِ.

وَهُنَا تَنْبِيهٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمَاهِيرَ أَطْلَقُوا النَّقْلَ عَنْهُمْ بِالْمَنْعِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ اسْتَثْنَوْا النَّسْخَ، وَجَوَّزُوا تَأْخِيرَ بَيَانِهِ. وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ عَنْهُمْ فِي " الْمُعْتَمَدِ ". وَلِهَذَا ادَّعَى الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ "، وَالسَّمَرْقَنْدِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي " الْمِيزَانِ " الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ النَّسْخِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: بَلْ يَجِبُ تَأْخِيرُهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ النَّسْخَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ لِوَقْتِ الْعِبَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى تَكْرَارِ الْأَفْعَالِ عَلَى الدَّوَامِ، ثُمَّ يُنْسَخُ وَيُقْطَعُ الْحُكْمُ بَعْدَ حُصُولِ الِاعْتِقَادِ بِلُزُومِ الْفِعْلِ عَلَى الدَّوَامِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَرِدَ نَسْخٌ. وَالْغَزَالِيُّ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ إمَامِهِ. وَقَدْ نَاقَضَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَهُمْ إذْ النَّسْخُ عِنْدَهُمْ بَيَانُ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْبَيَانُ مُقْتَرِنًا بِمَوْرِدِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَلَيْسَ لَهُمْ عَنْ هَذَا جَوَابٌ. وَالْإِمَامُ أَخَذَهُ مِنْ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُنَا أَنْ قَالُوا: النَّسْخُ تَخْصِيصٌ فِي الزَّمَانِ، وَالتَّخْصِيصُ فِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَرِدَ اللَّفْظَةُ مُطْلَقَةً فِي الْأَزْمَانِ وَالْمُرَادُ بَعْضُهَا، فَإِنْ لَمْ يَبْعُدْ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ لَمْ يَبْعُدْ فِي الْأَعْيَانِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنَّا الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ، فَإِنَّ النَّسْخَ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ فِي الْأَزْمَانِ عِنْدِي وَعِنْدَ مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِي، وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعٌ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ فِيمَا سُقْنَاهُ، وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِيَانِ: أَبُو الطَّيِّبِ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " عَنْ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ، وَكَذَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ

أَصْحَابِنَا فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الْبَيَانَ فِي الْخِطَابِ الْعَامِّ يَقَعُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْفِعْلُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْقَوْلِ، لِأَنَّ بَيَانَهُ بِالْقَوْلِ أَسْرَعُ مِنْهُ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا الْعُمُومُ الَّذِي يُعْقَلُ مُرَادُهُ مِنْ ظَاهِرِهِ كَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ بَيَانِهِ إلَى هَذَا كَمَا فِي مَذْهَبِ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ. اهـ. وَكَذَلِكَ ابْنُ فُورَكٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فَإِنَّهُمَا حَكَيَا اتِّفَاقَ أَصْحَابِنَا عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ، ثُمَّ حَكَى خِلَافَهُمْ فِي تَأْخِيرِ اللَّفْظِ الَّذِي يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ أَوْ تَأْوِيلَ الظَّاهِرِ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ لِأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ. وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَصَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ زَادَ صَاحِبُ " الْمِيزَانِ ": وَالْجَصَّاصُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: وَهُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخًا، إذَا تَرَاخَتْ عَنْهُ، وَلَا يُجِيزُونَهَا إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ. وَلَوْ جَازَ عِنْدَهُمْ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِي مِثْلِهِ لَمَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ نَسْخًا، بَلْ بَيَانًا، وَقَدْ أَجَازُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْمُجْمَلِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلِهَذَا أَسْقَطُوا النِّيَّةَ فِي الصَّوْمِ، وَلَمْ يُوجِبْ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ نَسْخَهُ، لِأَنَّهَا عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ مِنْهُمْ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: دَلِيلُ الْخُصُوصِ إذَا اقْتَرَنَ بِالْعُمُومِ كَانَ بَيَانًا وَإِذَا تَأَخَّرَ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا، بَلْ نَسْخًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَيَانٌ. وَأَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ مُطْلَقَ الْعَامِّ قَطْعِيٌّ كَالْخَاصِّ، وَعِنْدَهُ فَيَكُونُ دَلِيلُ الْخُصُوصِ بَيَانَ التَّفْسِيرِ لَا بَيَانَ التَّغْيِيرِ. وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ "

وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَاَلَّذِي فِي " الْمُعْتَمَدِ " تَفْصِيلٌ آخَرُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَاَلَّذِي فِي " الْمُعْتَمَدِ " عَنْهُ الْمَنْعُ فِيهِمَا. وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ مَفْهُومٌ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ غَيْرُ مَفْهُومٍ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ وَجْهًا لِأَصْحَابِنَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَمَّا الْمَازِرِيُّ فَحَكَى هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ بَعْضِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَكُنْت أُصَوِّبُهُ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ: لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ بِمَا ذَكَرْنَا. وَالْخَامِسُ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْأَخْبَارِ كَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هَكَذَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعِنْدِي أَنَّ مَذْهَبَ الْكَرْخِيِّ هُوَ مَا قَدَّمْنَا قَبْلُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا الْمَذْهَبِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. اهـ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْغَزَالِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلنَّهْيِ. وَالسَّادِسُ: عَكْسُهُ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَيْضًا، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي حِكَايَةِ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ الْخِطَابُ التَّكْلِيفِيُّ، فَلَا يَذْكُرُ فِيهِمَا الْأَخْبَارَ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَالسَّابِعُ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ النَّسْخِ دُونَ غَيْرِهِ، وَحَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَأَبُو عَلِيٍّ، وَابْنُهُ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ.

وَالثَّامِنُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ كَالْمُشْتَرَكِ. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: وَالْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ جَازَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ، لِأَنَّهُ لَا مَحْذُورَ مِنْ تَأْخِيرِهِ. وَأَمَّا مَا لَهُ ظَاهِرٌ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ ظَاهِرِهِ كَالْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمَنْسُوخِ وَنَحْوِهِ جَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِ التَّفْصِيلِ دُونَ الْإِجْمَالِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْخِطَابِ، حَتَّى يَكُونَ مَانِعًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ، فَنَقُولُ مَثَلًا: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْعَامِّ هُوَ الْخَاصُّ أَوْ الْمُطْلَقُ أَوْ الْمُقَيَّدُ أَوْ النَّكِرَةُ الْمُعَيِّنُ، أَوْ هَذَا الْحُكْمُ سَيُنْسَخُ، وَأَمَّا الْبَيَانُ التَّفْصِيلِيُّ، وَهُوَ الْمُشَخَّصُ بِكَذَا مَثَلًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ. وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَالدَّقَّاقِ، وَالْقَفَّالِ، وَأَبِي إِسْحَاقَ؛ فَأَمَّا أَبُو الْحُسَيْنِ فَالنَّقْلُ عَنْهُ صَحِيحٌ: وَأَمَّا الدَّقَّاقُ فَسَبَقَ النَّقْلُ عَنْهُ بِمُوَافَقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمَّا الْقَفَّالُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الشَّاشِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ النَّقْلُ عَنْهُ بِمُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ رَأَيْت فِي كِتَابِهِ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ. قَالَ مَا لَفْظُهُ: الْبَيَانُ لِلْعَامِّ، وَالْمُجْمَلُ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، وَأَنْ يُقَارِنَهُ، وَأَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْ الْأُمُورِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمُرَادِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقَعُ التَّعَبُّدُ بِهِ. اهـ. وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ. فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَرْوَزِيِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ فَقَدْ سَبَقَ النَّقْلُ عَنْهُ بِمُوَافَقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْمَنْعِ، لَكِنْ حَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْهُ الْمَذْهَبَ الثَّالِثَ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ رِوَايَتَانِ، وَإِنْ كَانَ الشِّيرَازِيَّ فَقَدْ صَحَّحَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " الْجَوَازَ مُطْلَقًا. وَالتَّاسِعُ: وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ إنْ لَمْ يَكُنْ تَبْدِيلًا وَلَا تَغْيِيرًا جَازَ مُقَارَنًا وَطَارِئًا، وَإِنْ كَانَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ جَازَ مُقَارَنًا، وَلَا يَجُوزُ طَارِئًا بِحَالٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بَيَانَ الِاسْتِثْنَاءِ بَيَانُ تَغْيِيرٍ. قَالَ: وَالْخِلَافُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فِي بَيَانِ الْخُصُوصِ، فَعِنْدَنَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ،

فائدة خبر الواحد إذا ورد متأخرا عن عموم الكتاب

فَلَا يَجُوزُ إلَّا مُقَارَنًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ مِنْ قَبِيلِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ فَيَصِحُّ مُقَارَنًا وَطَارِئًا. قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ أَوْصَى لَهُ بِخَاتَمٍ، وَلِعَمْرٍو بِفَصِّهِ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ: إنَّ الْفَصَّ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْفَصِّ، يَكُونُ تَخْصِيصُهُ بَيَانًا كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَلَوْ فَصَلَ فَقَالَ: أَوْصَيْت لِهَذَا بِفَصِّهِ، كَانَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَوَّلِ [وَالثَّانِي] ، وَلَا يَصِيرُ بَيَانًا عِنْدَ الْفَصْلِ. قَالَ: وَأَمَّا بَيَانُ الْمُجْمَلِ مُنْفَصِلًا فَجَائِزٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا فِيمَنْ أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ شَيْئًا، يَكُونُ الْبَيَانُ إلَيْهِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا. [فَائِدَةٌ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ مُتَأَخِّرًا عَنْ عُمُومِ الْكِتَابِ] فَائِدَةٌ ذَكَرَ الْمَازِرِيُّ مِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ مُتَأَخِّرًا عَنْ عُمُومِ الْكِتَابِ رَافِعٌ لِبَعْضِ مُقْتَضَاهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ. [تَفْرِيعٌ التَّدْرِيجِ بِالْبَيَانِ] التَّفْرِيعُ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّدْرِيجِ بِالْبَيَانِ، بِأَنْ يُبَيِّنَ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ، عَلَى مَذَاهِبَ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَمَا بَعْدَهُمَا كَالْأَوَّلِ، كَمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ أَصْلِ الْبَيَانِ عَنْ اللَّفْظِ، كَمَا لَوْ قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ انْسِلَاخِ

مسألة هل يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم تأخير تبليغ ما أوحي إليه من الأحكام إلى وقت الحاجة

الشَّهْرِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ زَمَانٍ: إذَا كَانُوا حَرْبِيِّينَ، ثُمَّ قَالَ: إذَا كَانُوا رِجَالًا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَمِنْهُمْ الْقَاضِي، لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ التَّدْرِيجِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِيءُ مَا سَبَقَ فِي الْعَامِّ مِنْ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَحْكُمُ بِاللُّزُومِ إلَى أَيِّ زَمَنٍ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ فِي الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ، وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَوَّلِ يُشْعِرُ بِانْحِصَارِ التَّخْصِيصِ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ قَصَدَ بَيَانَ الْمُشْكِلِ، فَاقْتَضَى الْحَالُ إكْمَالَهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِبْهَامَ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ أَكْثَرُ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمُجْمَلِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْعُمُومِ، كَالْخِلَافِ فِي الْبَيَانِ الْأَوَّلِ. وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ إذَا أَعْلَمَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الْمُكَلَّفَ أَنَّ فِيهِ بَيَانًا مُتَوَقَّعًا، فَأَمَّا إذَا اتَّصَلَ الْبَيَانُ بِالْمُكَلَّفِينَ مِنْ غَيْرِ إشْعَارٍ وَإِعْلَامٍ فِي مَوْقِعِ الْبَيَانِ، فَلَا يَتَرَتَّبُ بَيَانٌ آخَرُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْخِيرُ تَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ] وَأَمَّا الْمَانِعُونَ لِلتَّأْخِيرِ فَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَأْخِيرُ تَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى الْجَوَازِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ وُجُوبَ مَعْرِفَتِهَا إنَّمَا هُوَ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَلَا عَمَلَ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَلَا يَجِبُ تَبْلِيغُهَا. وَمَنَعَهُ الْأَقَلُّونَ مُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْفَوْرِ، وَبِأَنَّ الْمُرَادَ: الْقُرْآنُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ. وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُنَزَّلُ قُرْآنًا وَجَبَ تَبْلِيغُهُ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْتِشَارُهُ وَإِبْلَاغُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ قُرْآنٍ لَمْ يَجِبْ تَعْجِيلُ التَّبْلِيغِ، وَرَدَّهُ لِأَنَّ حَالَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ سَوَاءٌ. الثَّانِيَةُ: فِي جَوَازِ سَمَاعِ الْمَخْصُوصِ بِدُونِ مُخَصِّصِهِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ:

مسألة حيث وجب البيان والإسماع

يَجُوزُ، وَمَنَعَهُ أَبُو الْهُذَيْلِ وَالْجُبَّائِيُّ فِي الْمُخَصِّصِ السَّمْعِيِّ دُونَ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ الْعُمُومِ. وَلَيْسَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ، لِأَنَّا إذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْمَنْعِ، فَنَحْنُ مَانِعُونَ مِنْ وُرُودِ الْعَامِّ إلَّا وَمَعَهُ الْخَاصُّ، وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ فِي تَبْلِيغِ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، سَوَاءٌ الْعَامُّ الْمُقَارِنُ لِلْخَاصِّ، وَالْمُطْلَقُ الْمُقَارِنُ لِلْمُقَيَّدِ، وَالْمُجْمَلُ الْمُقَارِنُ لِلْمُمَيَّزِ، وَالْمُبَيَّنُ بِنَفْسِهِ. [مَسْأَلَةٌ حَيْثُ وَجَبَ الْبَيَانُ وَالْإِسْمَاعُ] ُ فَإِنَّمَا يَجِبُ لِمَنْ أُرِيدَ إفْهَامُهُ قَطْعًا لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَا يَجِبُ، إذْ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْخِطَابِ، وَكُلٌّ مِنْهَا قَدْ لَا يُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ، وَقَدْ يُرَادُ. وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي كَالْعُلَمَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ الصَّلَاةِ وَأَحْكَامِ الْحَيْضِ. وَالثَّالِثُ: كَأُمَّتِنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمِلَلِ الْمَاضِيَةِ. وَالرَّابِعُ: كَالنِّسَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ أَحْكَامِ الْحَيْضِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ وَأَحَدُهُمَا بَيَانٌ فِي شَيْءٍ مُجْمَلٍ فِي آخَرَ وَالْآخَرُ كَذَلِكَ] مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ، وَأَحَدُهُمَا بَيَانٌ فِي شَيْءٍ، مُجْمَلٍ فِي آخَرَ، وَالْآخَرُ

كَذَلِكَ، مِثَالُهُ حَدِيثُ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» بَيَانٌ فِي الْإِخْرَاجِ، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ. وَحَدِيثُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» بَيَانٌ فِي الْمِقْدَارِ، مُجْمَلٌ فِي الْإِخْرَاجِ فَتَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْأَوَّلِ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ وَتَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ بِالثَّانِي فِي اعْتِبَارِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمَذْهَبُنَا مُتَرَجِّحٌ، فَإِنَّ بَيَانَ الْمِقْدَارِ مِنْ خَبَرِنَا قَاضٍ عَلَى إجْمَالِ الْمِقْدَارِ مِنْ خَبَرِهِمْ، كَمَا أَنَّ بَيَانَ الْإِخْرَاجِ مِنْ خَبَرِهِمْ قَاضٍ عَلَى إجْمَالِ الْإِخْرَاجِ مِنْ خَبَرِنَا.

المفهوم

[الْمَفْهُومُ] ُ اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ ظُرُوفٌ حَامِلَةٌ لِلْمَعَانِي، وَالْمَعَانِي الْمُسْتَفَادَةُ مِنْهَا تَارَةً تُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ وَالتَّصْرِيحِ، وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيضِ وَالتَّلْوِيحِ. وَالْأَوَّلُ: يَنْقَسِمُ إلَى نَصٍّ إنْ لَمْ يَحْتَمِلْ، وَظَاهِرٍ إنْ احْتَمَلَ. وَالثَّانِي: هُوَ الْمَفْهُومُ، وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ بِدَلَالَةِ لَفْظِ الْمَنْطُوقِ. وَسُمِّيَ مَفْهُومًا لَا لِأَنَّهُ مُفْهِمٌ غَيْرَهُ، إذْ الْمَنْطُوقُ أَيْضًا مَفْهُومٌ، بَلْ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مُجَرَّدٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى مَنْطُوقٍ، فَلَمَّا فُهِمَ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ سُمِّيَ مَفْهُومًا. قَالَ الْعَبْدَرِيّ: وَالْمَفْهُومُ يَنْقَسِمُ إلَى النَّصِّ، وَالْمُجْمَلِ، وَالظَّاهِرِ، وَالْمُؤَوَّلِ، كَانْقِسَامِ الْمَنْطُوقِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: فَمِثَالُ النَّصِّ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . فَإِنَّهُ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ أَرَادَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَكَذَا {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] . فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ قَطْعًا تَحْرِيمُ النِّكَاحِ. وَمِثَالُ الْمُحْتَمَلِ: (لَا صِيَامَ) ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْقَبُولِ أَصْلًا، أَوْ نَفْيَ الْكَمَالِ. وَقَوْلُهُ: (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ) فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَضْلِ الصَّلَاةِ أَوْ حُكْمِهَا أَوْ وَقْتِهَا اهـ.

تنبيه هل المفهوم مستفاد من دلالة العقل أو من اللفظ

[تَنْبِيهٌ هَلْ الْمَفْهُومُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلَالَةِ الْعَقْلِ أَوْ مِنْ اللَّفْظِ] وَهَلْ الْمَفْهُومُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلَالَةِ الْعَقْلِ مِنْ جِهَةِ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ، أَوْ مُسْتَفَادٌ مِنْ اللَّفْظِ؟ قَوْلَانِ، وَبِالثَّانِي قَطَعَ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ. وَرَدَّهُ الْكَرْخِيّ فِي نُكَتِهِ " بِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُشْعِرُ بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا دَلَالَتُهُ بِالْوَضْعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ اللَّفْظَ دَالًّا عَلَى شَيْءٍ مَسْكُوتٍ عَنْهُ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يُشْعِرَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمَجَازِ، وَلَيْسَ الْمَفْهُومُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَبَنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِكَوْنِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ صَارُوا إلَى الْمَفْهُومِ، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا أَخَذُوهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَقْلِ، وَقَدْ يُخْطِئُونَ، فَيَكُونُ إذْنُ نِسْبَتِهِمْ كَنِسْبَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُخَالِفِينَ. [الْمَفْهُومُ إمَّا أَنْ يَلْزَمَ عَنْ مُفْرَدٍ أَوْ مُرَكَّبٍ] تَقْسِيمٌ وَهُوَ إمَّا أَنْ يَلْزَمَ عَنْ مُفْرَدٍ أَوْ مُرَكَّبٍ، وَاللَّازِمُ عَنْ الْمُفْرَدِ إمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ الصِّدْقُ أَوْ الصِّحَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوْ الشَّرْعِيَّةُ عَلَيْهِ أَوْ لَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْتَرِنَ بِحُكْمٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ اقْتِرَانُهُ بِهِ لِتَعْلِيلِهِ كَانَ اللَّفْظُ بِهِ قَصْدًا مِنْ الشَّارِعِ فَيُبَيِّنُهُ إيمَاءً كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْقِيَاسِ. وَالْأَوَّلُ يُسَمَّى: دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ بِأَنْ يَتَوَقَّفَ تَحَقُّقُ دَلَالَةِ ذَلِكَ الْمُفْرَدِ عَلَيْهِ، إمَّا لِوُجُوبِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ» أَيْ حُكْمُ ذَلِكَ أَوْ الْمُؤَاخَذَةُ، لِأَنَّ عَيْنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مَوْجُودٌ. وَإِمَّا لِاسْتِحَالَةِ الْمَنْطُوقِ بِهِ عَقْلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . فَإِنَّ الْعَقْلَ يُحِيلُ سُؤَالَ الْجُدَرَانِ، فَالتَّقْدِيرُ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ؛ وَإِمَّا لِلصِّحَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ: اعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي، لِاسْتِدْعَائِهِ تَقْدِيرَ الْمِلْكِ، إذْ الْعِتْقُ لَا يَحْصُلُ إلَّا فِي مِلْكٍ.

وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَعْلِ الِاقْتِضَاءِ بِأَقْسَامِهِ مِنْ فَنِّ الْمَفْهُومِ هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَجَرَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فَجَعَلَاهُ مِنْ فَنِّ الْمَنْطُوقِ، وَكَذَا الْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ مَعَ تَفْسِيرِهِمَا الْمَنْطُوقَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَالْمَفْهُومَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ لَا فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ التَّوْجِيهِ، مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: سُمِّيَ الْمَفْهُومُ مَفْهُومًا، لِأَنَّهُ فُهِمَ مِنْ غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى شَامِلٌ لِلِاقْتِضَاءِ وَالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ أَيْضًا، فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَقْسَامُ مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ، لَا الْمَنْطُوقِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ وَاسِطَةً بَيْنَ الْمَفْهُومِ وَالْمَنْطُوقِ، وَلِهَذَا اعْتَرَفَ بِهَا مَنْ أَنْكَرَ الْمَفْهُومَ، وَقَدْ وَقَعَ الْبَحْثُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ. هُنَا بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ عَلَاءِ الدِّينِ الْقُونَوِيِّ وَشَمْسِ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَكَتَبَا فِيهَا رِسَالَتَيْنِ، وَانْتَصَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ لِابْنِ الْحَاجِبِ بِأَنْ فَسَّرَ الْمَنْطُوقَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، فَلَزِمَ مِنْهُ جَعْلُ الثَّلَاثَةِ مَنْطُوقًا، لِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَإِنْ لَمْ يُوَضِّحْ اللَّفْظُ لَهَا، بِخِلَافِ الْمَفْهُومِ، فَلْيُرَاجَعْ كَلَامُهُمَا. وَجَعَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ أَنْ لَا يَقْصِدَ وَهُوَ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَمَثَّلَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] الْآيَةَ. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ، أَيْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى بَيَانِهِ، إذْ الْآيَةُ

مفهوم الموافقة

سِيقَتْ لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِهِمْ سَهْمًا مِنْ الْغَنِيمَةِ، لَا لِبَيَانِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ، لَكِنْ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّهَ سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ، مَعَ إضَافَةِ الْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ. وَالْفَقِيرُ: اسْمٌ لِعَدِيمِ الْمَالِ، لَا لِمَنْ لَا تَصِلُ يَدُهُ إلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ مَالِكًا لَهُ، فَلَوْ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِمْ لَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ الْمَذْكُورَةُ مَجَازًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَضُعِّفَ بِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَكِنَّ إضَافَةَ الْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ تَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِمْ، إذْ الْأَصْلُ فِي الْإِضَافَةِ الْمِلْكُ، فَلَيْسَ حَمْلُهُمْ الْإِضَافَةَ عَلَى التَّجَوُّزِ، وَإِجْرَاءُ التَّسْمِيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ. [مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ] ِ وَالْمَعْنَى اللَّازِمُ مِنْ اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَدْلُولِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ فِي الْحُكْمِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، وَالْأَوَّلُ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ مُوَافِقٌ لِلْمَلْفُوظِ بِهِ، وَيُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ، لِأَنَّ فَحْوَى الْكَلَامِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، وَهَذَا كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ، وَيُسَمَّى أَيْضًا لَحْنَ الْخِطَابِ لَكِنَّ لَحْنَ الْخِطَابِ مَعْنَاهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] . هَكَذَا قَالَ الْأُصُولِيُّونَ.

وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَحْوَى وَلَحْنِ الْخِطَابِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَحْوَى مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَاللَّحْنُ مَا لَاحَ فِي أَثْنَاءِ اللَّفْظِ. وَالثَّانِي: الْفَحْوَى مَا دَلَّ عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَحْنُ الْقَوْلِ مَا دَلَّ عَلَى مِثْلِهِ. اهـ. وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ " أَنَّ فَحْوَى الْخِطَابِ: مَا دَلَّ الْمُظْهَرُ عَلَى الْمُسْقَطِ، وَلَحْنُ الْقَوْلِ: مَا يَكُونُ مُحَالًا عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ فِي الْأَصْلِ وَالْوَضْعِ مِنْ الْمَلْفُوظِ، وَالْمَفْهُومُ: مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْمُظْهَرَ وَالْمُسْقَطَ كَقَوْلِهِ: (فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ) ، فَالْمُرَادُ بِهِ إثْبَاتُ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ وَإِسْقَاطُهَا فِي غَيْرِهَا. وَمِثْلُ فَحْوَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . وَقَوْلُهُ: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] . أَيْ فَضُرِبَ فَانْفَلَقَ، لِأَنَّ الْفَحْوَى هُوَ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْمُرَادُ بِهِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَحْذُوفِ. قَالَ: وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِي يُجَوِّزُ الْوَقْفَ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63] ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ: {فَانْفَلَقَ} فَقُلْت لَهُ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {أَنْ اضْرِبْ} وَقَوْلَهُ: {فَانْفَلَقَ} بِمَجْمُوعِهِمَا يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْقَطِ، فَلَمْ يَجُزْ الْوَقْفُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَأَمَّا لَحْنُ الْقَوْلِ فَهُوَ غَيْرُ هَذَا، وَيُسَمَّى بِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يُذْكَرُ

ينقسم مفهوم الموافقة إلى قطعي

وَيُرَادُ غَيْرُهُ، لَكِنْ بِاللَّحْنِ مِنْ الْقَوْلِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ} [محمد: 16] . كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَهَذَا هُوَ لَحْنُ الْقَوْلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: مَاذَا قَالَ مُحَمَّدٌ آنِفًا؟ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ اسْتِكْشَافَ الْقَوْلِ، وَالْفَحْصَ عَنْ مَعْنَاهُ. وَهَذَا اللَّفْظُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ، لَكِنَّ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا قَدَّرْنَاهُ، فَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيِّنًا فِي لَحْنِ قَوْلِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ تَارَةً يَكُونُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ، إمَّا فِي الْأَكْثَرِ كَدَلَالَةِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى، فَإِنَّ الضَّرْبَ أَكْثَرُ أَذًى مِنْ التَّأْفِيفِ، وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُسْلِمِينَ: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ ثُبُوتُ الذِّمَّةِ لِأَعْلَاهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَإِمَّا فِي الْأَقَلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] مَفْهُومُهُ أَنَّ أَمَانَتَهُ تَحْصُلُ فِي الدِّرْهَمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَتَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا، كَدَلَالَةِ جَوَازِ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} [البقرة: 187] عَلَى جَوَازِ أَنْ يُصْبِحَ الرَّجُلُ صَائِمًا جُنُبًا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِلصَّائِمِ مَدُّهُ الْمُبَاشَرَةَ إلَى الطُّلُوعِ، بَلْ وَجَبَ قَطْعُهَا مِقْدَارَ مَا يَسَعُ فِيهِ الْغُسْلُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. [يَنْقَسِمُ مَفْهُوم الْمُوَافَقَةِ إلَى قَطْعِيٍّ] وَيَنْقَسِمُ إلَى قَطْعِيٍّ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ كَآيَةِ التَّأْفِيفِ، وَإِلَى ظَنِّيٍّ وَهُوَ مَا فِيهِ

احْتِمَالٌ مَعَ الظُّهُورِ، وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] فَإِنَّ هَذَا عِنْدَ طَائِفَةٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا عَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى، لَكِنْ فِيهِ احْتِمَالٌ مِنْ جِهَةِ قَصْرِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُخْطِئِ، لِكَوْنِ ذَنْبِ الْمُتَعَمِّدِ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَ، وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ إذَا كَانَ جَلِيًّا، وَتَنَازَعُوا فِي الْمَظْنُونِ فِيهِ، فَلَمْ يُوجِبْ مَالِكٌ الْكَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ شِئْت فَقُلْ إلَى ضَرُورِيٍّ وَنَظَرِيٍّ. وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمَفْهُومَ إنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ أَدْنَى احْتِمَالٍ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي هَذَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ، بِخِلَافِ اللَّفْظِيِّ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ تَارَةً يَكُونُ أَوْلَى، وَتَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا، هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَأَتْبَاعُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِيهِ الْأَوْلَوِيَّةَ، وَهُوَ قَضِيَّةُ مَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ عَنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعَلَيْهِ جَرَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مَوْضِعٍ، وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: شَرْطُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ أَقَلَّ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ مِنْ الْمَعْنَى فِي الْمَنْطُوقِ فِيهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَوْلَى وَالْمُسَاوِي وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَسْمِيَةُ الشَّافِعِيِّ لَهُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ كَوْنُ الْحُكْمِ فِي الْمَقِيسِ أَوْلَى مِنْ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، فَلَا يَحْسُنُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ الْأَوْلَوِيَّةِ تَسْمِيَتُهُ جَلِيًّا بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ أَخَصُّ مِنْهُ. وَلَوْ سُمِّيَ بِهِ لَكَانَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ، وَعَلَيْهِ يُنْزِلُونَ تَسْمِيَةَ الشَّافِعِيِّ،

دلالة النص على مفهوم الموافقة هل هي لفظية أو قياسية

لَكِنْ يُسَمِّي أَكْثَرُهُمْ الْأَوَّلَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ. وَالثَّانِي بِلَحْنِهِ. [دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى مَفْهُوم الْمُوَافَقَة هَلْ هِيَ لَفْظِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ] وَاخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَيْهِ: هَلْ هِيَ لَفْظِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ ". وَظَاهِرُ كَلَامِهِ تَرْجِيحُ أَنَّهُ قِيَاسٌ، وَهُوَ الَّذِي صَدَّرَ بِهِ كَلَامَهُ فِي " الرِّسَالَةِ "، وَأَوْضَحَهُ بِالْأَمْثِلَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُسَمَّى بَيَانًا، لِأَنَّهُ نَقَلَهُ مِنْ النَّصِّ. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ قِيَاسٌ. وَكَذَا الْهِنْدِيُّ فِي " النِّهَايَةِ ". وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ جُلَّةٌ سَيِّدُهُمْ الشَّافِعِيُّ، إلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْمُسَمَّى بِاسْمِهِ، وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَإِذَا كَانَ بِهِ عَقْلٌ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ، وَكَانَ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ فَرْعُهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فَذَكَرَهُ فِي أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": الشَّافِعِيُّ يُومِئُ إلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ. قَالَ: وَأَنْكَرَ دَاوُد الْمَفْهُومَ. قَالَ: وَذَهَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَسْرِهِمْ: الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّأْفِيفِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى مُسْتَفَادٌ مِنْ النُّطْقِ. انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى النُّطْقِ لَا مَجْرَى الْقِيَاسِ، وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ دَلَالَةَ النَّصِّ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ بِقِيَاسٍ وَلَا يُسَمَّى دَلَالَةَ النَّصِّ، لَكِنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: إنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّأْفِيفِ مَثَلًا مَنْقُولٌ بِالْعُرْفِ عَنْ مَوْضُوعِهِ اللُّغَوِيِّ إلَى الْمَنْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى.

تنبيهات الأول هل يجوز النسخ بمفهوم الموافقة

وَقِيلَ: إنَّهُ فَهْمٌ بِالسِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ، وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ كَالْغَزَالِيِّ، وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَالدَّلَالَةُ عِنْدَهُمْ مَجَازِيَّةٌ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْأَخَصِّ وَإِرَادَةِ الْأَعَمِّ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا شَرَطُوا كَوْنَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهِ. قَالَ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ دَلَالَتَهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ لَا مِنْ الْقِيَاسِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ سَامِعَ الْخِطَابِ يُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ الضَّرْبِ، وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي طُرُقِ الْقِيَاسِ، وَيُؤْمِنْ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ ": ظَنَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَأَصْلَهُ التَّأْفِيفُ، وَفَرْعَهُ الضَّرْبُ، وَعِلَّتَهُ دَفْعُ الْأَذَى. وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبًا مِنْ الْفُرُوعِ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي هَذَا أَصْلًا بِمَا يَجْعَلُوهُ فَرْعًا، وَلِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ شَرْعِ الْقِيَاسِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الْمَفْهُومَ نَظَرِيٌّ، وَهَذَا ضَرُورِيٌّ. قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هَلْ يَعْمَلُ عَمَلَ النَّصِّ؟ وَأَنَّهُ هَلْ يَجْرِي فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ؟ . [تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ هَلْ يَجُوزُ النَّسْخُ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَة] تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مِنْ فَوَائِدِهِ: أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ النَّسْخُ

الثاني القول بمفهوم الموافقة من حيث الجملة

بِهِ؟ إنْ قُلْنَا: لَفْظِيَّةٌ، جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَسَيَأْتِي فِي النَّسْخِ. وَمِنْهَا مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ صَاحِبِ " الْكَشْفِ " أَيْضًا، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَابِ الْقِيَاسِ مِنْ " الْمَنْحُولِ ": قَالُوا: فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ قِيَاسًا قُدِّمَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هُوَ قِيَاسٌ، وَلَكِنْ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْخَبَرِ، وَهَذَا مَا يَعْتَقِدُهُ فِي مَنْعِ التَّقْدِيمِ، وَالْخِلَافُ بَعْدَهُ يَرْجِعُ إلَى عِبَارَةِ. انْتَهَى. قُلْتُ: سَيَأْتِي تَقْدِيمُهُ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ. نَعَمْ، لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ. وَقَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ: مَنْ قَالَ مُسْتَنَدُهُ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْفَحْوَى قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] : إنَّ تَقْيِيدَ الْقَتْلِ بِالْخَطَأِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ يَدُلُّ عَلَى إيجَابِهَا فِي الْعَمْدِ أَوْلَى. وَهَذَا ظَاهِرٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ. وَمَنْ قَالَ: مُسْتَنَدُهُ الْقَرَائِنُ وَالسِّيَاقُ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْفَحْوَى أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ. قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَفْظٌ مِنْ الشَّارِعِ يُشْعِرُ بِنَقِيضِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، إنْ قُلْنَا: مَأْخُوذٌ مِنْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ عَلَى الظَّاهِرِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَعْتَمِدُ التَّنْبِيهَ أَوْ الْقَرَائِنَ اللَّفْظِيَّةَ تَعَارَضَ اللَّفْظَانِ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي جِهَاتِ التَّرْجِيحِ. [الثَّانِي الْقَوْلُ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ] ُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ، وَوَقَعَ فِي " الْبُرْهَانِ " وَغَيْرِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ

الثالث الحكم بنقيض مفهوم الموافقة

يُنْكِرُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بَعْدَ كَلَامٍ ذَكَرَهُ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْمَفْهُومَ سَلَّمَ الْفَحْوَى فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . قَالَ: وَأَمَّا مُنْكِرُو صِيَغِ الْعُمُومِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْمَفْهُومَ، وَهُوَ بِالتَّوْقِيفِ أَوْلَى، لَكِنْ نُقِلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ مَا يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِهِ، فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] . وَقَالَ: إذَا ذَكَرَ الْحِجَابَ فِي إذْلَالِ الْأَشْقِيَاءِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِنَقِيضِهِ فِي السَّعَادَةِ. وَأَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ، فَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ: نُقِلَ عَنْهُمْ إنْكَارُ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا حَكَى عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مَتَى تَطَرَّقَ إلَيْهِ أَدْنَى احْتِمَالٍ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي هَذَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ، بِخِلَافِ الظَّاهِرِ اللَّفْظِيِّ وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَا يَنْبَغِي لِلظَّاهِرِيَّةِ أَنْ يُخَالِفُوا فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ السَّمْعِ، وَاَلَّذِي يَرُدُّ ذَلِكَ يَرُدُّ نَوْعًا مِنْ الْخِطَابِ. قُلْتُ: قَدْ خَالَفَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهُوَ مُكَابَرَةٌ. [الثَّالِثُ الْحُكْمِ بِنَقِيضِ مَفْهُوم الْمُوَافَقَة] الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا كَمَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ بِنَقِيضِ هَذَا الْمَفْهُومِ، مِثْلُ: وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَاقْتُلْهُمَا. قَالَ: وَرَأَيْت الْأَذْرِيَّ تَرَدَّدَ فِيهِ، فَسَلَّمَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 8] . لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَمِلَ قِنْطَارًا لِمَ رَدَّهُ لِلتَّنَاقُضِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: إنَّمَا يُسْتَفَادُ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِمَا، لِأَجْلِ تَحْدِيدِ النَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ، وَأَشَارَ إلَى جَوَازِ مُضَامَّةِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بَعْضِهِمَا

الثاني مفهوم المخالفة

لِبَعْضٍ، وَمِنْ الْخِلَافِ يُلْتَفَتُ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ هَذَا: هَلْ هِيَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: نَهْيٌ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ فَاسِدِ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ: إذَا جَازَ السَّلَمُ فِي الْمُؤَجَّلِ فَفِي الْحَالِّ أَجْوَزُ، وَمِنْ الْغَرَرِ أَبْعَدُ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُقْتَضَى، وَلَيْسَ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ بُعْدَهُ عَنْ الْغَرَرِ، فَيَلْتَحِقُ بِهِ الْحَالُّ، وَالْغَرَرُ مَانِعٌ، احْتَمَلَ فِي الْمُؤَجَّلِ، وَالْحُكْمُ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ مَانِعِهِ، بَلْ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ بُعْدُهُ عَنْ الْغَرَرِ عِلَّةَ الصِّحَّةِ مِمَّا وَجَدْت فِي الْفَرْعِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ؟ . [الثَّانِي مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ] وَالثَّانِي مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ إثْبَاتُ نَقِيضِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لِلْمَسْكُوتِ وَيُسَمَّى دَلِيلَ الْخِطَابِ، لِأَنَّ دَلِيلَهُ مِنْ جِنْسِ الْخِطَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْخِطَابَ دَالٌّ عَلَيْهِ. قَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": وَقَدْ بَدَّلَ ابْنُ فُورَكٍ لَفْظَ الْمَفْهُومِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْقِسْمِ، لِمُخَالَفَتِهِ مَنْظُومَ اللَّفْظِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ: وَهَلْ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ بِضِدِّ

أقسام مفهوم المخالفة

الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَوْ بِنَقِيضِهِ؟ الْحَقُّ الثَّانِي. وَمَنْ تَأَمَّلْ الْمَفْهُومَاتِ وَجَدَهَا كَذَلِكَ. قَالَ: وَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِدْلَالِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] إذْ مَفْهُومُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ مَفْهُومُهُ عَدَمُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ صَادِقٌ مَعَ الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَالْكَرَاهَةِ، وَالْإِبَاحَةِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ، لِأَنَّ الْأَعَمَّ مِنْ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ، فَالنَّقِيضُ أَعَمُّ مِنْ الضِّدِّ. [أَقْسَامُ مَفْهُوم الْمُخَالِفَة] وَأَقْسَامُهُ عَشَرَةٌ: اقْتَصَرَ الْأُصُولِيُّونَ مِنْهَا عَلَى ذِكْرِ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَحَصَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي خَمْسٍ، فَذَكَرَ الْحَدَّ، وَالْعَدَدَ، وَالصِّفَةَ، وَالْمَكَانَ. وَالزَّمَانَ. وَأَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى شُمُولِ التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالصِّفَةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الصِّفَةَ مُقَدَّرَةٌ فِي ظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، كَكَائِنٍ، وَمُسْتَقِرٍّ، وَوَاقِعٍ، مِنْ قَوْلِك: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَالْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْجَمِيعُ عِنْدَنَا حُجَّةٌ إلَّا اللَّقَبَ. وَأَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجَمِيعَ. وَحَكَاهُ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " عَنْ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي " شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": قَدْ تَكَلَّمَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَخَلَطُوا فِيهِ، وَآخِرُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ، وَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ نَظَرَ فِي كِتَابِ " الرِّسَالَةِ "

وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ، فَلَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ كُلَّ الِانْكِشَافِ، فَحَسِبَهَا أَجْوِبَةً مُخْتَلِفَةً لِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا، فَقَالَ: إنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ بِدَلِيلٍ يَزِيدُ عَلَى نَفْسِ اللَّفْظِ، لَا بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَاهُ، مِثْلُ مَا ذَكَرَ مِنْ قِلَّةِ النَّمَاءِ، وَقِلَّةِ الْمَئُونَةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ، فَتَلَطَّفَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَنْعِ الْقَوْلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَصَرَّحَ الْقَفَّالُ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ. اهـ. قَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي " الذَّرِيعَةِ ": أَنْكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ، وَالْقَفَّالِ وَغَيْرِهِمَا. وَذَكَرَ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ إذَا تَجَرَّدَ، وَقَدْ تَحْصُلُ مِنْهُ قَرَائِنُ يَدُلُّ مَعَهَا عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، كَقَوْلِهِ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] . وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] . {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» وَقَالَ: وَقَدْ يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهُ مِثْلُ حُكْمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] وَقَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . وَقَوْلِهِ: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بِالْقَرَائِنِ. قَالَ: وَقَدْ أَضَافَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلَهُ هَذَا إلَى الشَّافِعِيِّ، وَتَأَوَّلَ كَلَامَهُ الْمُقْتَضِي لِخِلَافِ ذَلِكَ، وَبَنَاهُ عَلَيْهِ. اهـ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ: إنَّ النَّقَلَةَ نَقَلُوا عَنْهُ نَفْيَ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ، كَمَا نَقَلُوا عَنْهُ نَفْيَ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَقَدْ أُضِيفَ إلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ،

وَأَنَّهُ قَالَ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ، لِأَجْلِ اسْتِدْلَالِهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ فِي الْكَافِرِينَ: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِ " السِّيَرِ ": أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي خِطَابَاتِ الشَّرْعِ. قَالَ: وَأَمَّا فِي مُصْطَلَحِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَعَكَسَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَّا، فَقَالَ: حُجَّةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ وَغَيْرِهِمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

فصل اختلف المثبتون لمفهوم المخالفة في مواضع

[فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِمَفْهُومِ الْمُخَالِفَة فِي مَوَاضِعَ] [الْأَوَّلُ هَلْ مَفْهُوم الْمُخَالِفَة دَلِيلٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَوْ الشَّرْعُ] فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِلْمَفْهُومِ فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: هَلْ هُوَ دَلِيلٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَوْ الشَّرْعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا الْمَازِرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَوَضْعُ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي " الْمَعَالِمِ ": لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْعَامِّ. وَذَكَرَ فِي " الْمَحْصُولِ " فِي بَابِ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، فَحَصَلَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ اخْتَلَفُوا هَلْ نَفْيُ الْحُكْمِ فِيهِ عَمَّا عَدَا الْمَنْطُوقَ بِهِ مِنْ قَبِيلِ اللَّفْظِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْنَى؟ ، كَعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ هَلْ هُوَ مَلْفُوظٌ بِهِ؟ حَتَّى نَقُولَ: إنَّ الْعَرَبَ إذَا قَالَتْ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَائِمٌ مَقَامَ كَلَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُهَا فِي السَّائِمَةِ، وَالْآخَرُ نَفْيُهَا عَنْ الْمَعْلُوفَةِ، أَمْ نَقُولُ: إنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ اللَّفْظِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْنَى؟ قَالَ: وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اللَّفْظِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا خُصَّ الْمَفْهُومُ هَلْ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ؟ إنْ قُلْنَا: إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اللَّفْظِ، فَنَعَمْ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْنَى، فَلَا. اهـ. وَهَذَا الْخِلَافُ غَرِيبٌ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ أَيْضًا بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ". وَيَتَحَصَّلُ حِينَئِذٍ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ: مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.

الثاني تحقيق مقتضى مفهوم المخالفة

[الثَّانِي تَحْقِيقِ مُقْتَضَى مَفْهُوم الْمُخَالِفَة] الْمَوْضِعُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَحْقِيقِ مُقْتَضَاهُ، أَنَّهُ هَلْ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَا الْمَنْطُوقَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُثْبَتِ فِيهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، أَوْ اخْتَصَّتْ دَلَالَتُهُ بِمَا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ؟ فَإِذَا قَالَ: فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ. فَهَلْ نَفَيْنَا الزَّكَاةَ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ، أَوْ لَمْ نَنْفِ إلَّا عَنْ مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَالصَّحِيحُ تَخْصِيصُهُ بِالنَّفْيِ عَنْ مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَنْطُوقِ. وَوَجْهُ النَّفْيِ مُطْلَقًا أَنَّ السَّوْمَ كَالْعِلَّةِ فَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا، وَكَذَا صَحَّحَ سُلَيْمٌ أَنَّ النَّفْيَ عَنْ مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فَقَطْ، لَكِنْ صَحَّحَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي " أَدَبِ الْجَدَلِ " لَهُ الثَّانِي. قَالَ الشَّيْخُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. [الثَّالِثُ مَفْهُوم الْمُخَالِفَة ظَاهِرٌ لَا يَرْتَقِي إلَى الْقَطْعِ] الثَّالِثُ: أَنَّهُ ظَاهِرٌ لَا يَرْتَقِي إلَى الْقَطْعِ. وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَطْعِيًّا. وَعَلَى الْأَوَّلِ: فَهَلْ يَصِحُّ إسْقَاطُهُ بِجُمْلَتِهِ حَتَّى يَكُونَ كَإِزَالَةِ الظَّاهِرِ، أَوْ لَا وَإِنَّمَا يُؤَوَّلُ حَتَّى يُرَدَّ إلَى الْبَعْضِ كَمَا فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ؟ قَالَ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ ": يَصِحُّ إسْقَاطُهُ بِجُمْلَتِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إسْقَاطِ الْمَفْهُومِ بِكَمَالِهِ بَقِيَ اللَّفْظُ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِالنُّطْقِ، فَلَمْ يَتَعَطَّلْ اللَّفْظُ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ مِنْ الْعُمُومِ كُلُّ أَفْرَادِهِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ اللَّفْظِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إسْقَاطَ الْمَفْهُومِ بِالْكُلِّيَّةِ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ. وَحُكِيَ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ ابْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ بَقِيَّةٍ كَمَا فِي الْمَنْطُوقِ. قَالَ:

الرابع إذا دل دليل على إخراج صورة من صور مفهوم المخالفة فهل يسقط بالكلية

وَالْمُخْتَارُ خِلَافُهُ إذْ لَيْسَ الْمَفْهُومُ سَائِرُ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَعْضُ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ، فَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَعَ تَبْقِيَةِ الْمَنْطُوقِ نَسْخٌ، بَلْ هُوَ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ. . [الرَّابِعُ إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى إخْرَاجِ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ مَفْهُوم الْمُخَالِفَة فَهَلْ يُسْقِطُ بِالْكُلِّيَّةِ] الرَّابِعُ: إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى إخْرَاجِ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمَفْهُومِ، فَهَلْ يُسْقِطُ الْمَفْهُومَ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ يَتَمَسَّكَ بِهِ فِي الْبَقِيَّةِ؟ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ إذَا خُصَّ هَلْ يَكُونُ مُجْمَلًا؟ فَإِنْ قُلْنَا: يَصِيرُ مُجْمَلًا، فَالْمَفْهُومُ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَكُونُ مُجْمَلًا، فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَرْكُ الْمَفْهُومِ بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا تَلَقَّاهُ بِالنَّظَرِ إلَى فَوَائِدِ التَّخْصِيصِ، وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ إلَّا مُخَالَفَةُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِلْمَنْطُوقِ بِهِ. فَإِذَا أَثْبَتَ أَنَّ بَعْضَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ يُوَافِقُ الْمَنْطُوقَ بِهِ بَطَلَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ هِيَ الْفَائِدَةُ، فَيُطْلَبُ فَائِدَةٌ أُخْرَى. وَالْحَقُّ جَوَازُ التَّمَسُّكِ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، كَمَا إذَا قِيلَ: إنَّمَا الْعَالِمُ زَيْدٌ، وَلَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ، فَإِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ عَالِمٍ غَيْرِهِ اقْتَصَرْنَا فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْجَدِيدُ، وَيَبْقَى النَّفْيُ فِيمَا سِوَاهُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الشَّامِلَ إذَا أُخْرِجَتْ مِنْهُ صُورَةٌ بَقِيَ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا سِوَاهَا، وَعَلَى هَذَا يُقْبَلُ فِيهِ التَّخْصِيصُ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا آكُلُ السَّمَكَ مَثَلًا، وَنَوَى تَخْصِيصَ النَّفْيِ بِغَيْرِهِ يُقْبَلُ مِنْهُ. . [الْخَامِسُ هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالِفَة قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُوَافِقُهُ أَوْ يُخَالِفُهُ] الْخَامِسُ: هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُوَافِقُهُ أَوْ يُخَالِفُهُ مِنْ مَنْطُوقٍ آخَرَ؟ فِيهِ خِلَافُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ. وَحَكَى الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ وَجْهًا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ الْعُمُومِ بِنَظَرِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْخِطَابِ بِهِ، فَإِنْ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِلْمَذْكُورِ صُيِّرَ إلَيْهِ، وَإِلَّا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَذْكُورِ، وَكَانَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُخَالِفًا لَهُ. قَالَ: وَصَارَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَاسْتَدَلَّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ بِأَلْفَاظٍ سَرَدَهَا مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ.

فصل شروط مفهوم المخالفة العائدة إلى المسكوت عنه

[فَصْلٌ شُرُوطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الْعَائِدَةِ إلَى الْمَسْكُوتِ عَنْهُ] لِلْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ شُرُوطٌ: مِنْهَا مَا يَرْجِعُ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ لِلْمَذْكُورِ. فَمِنْ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِذَلِكَ الْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ، فَإِنْ كَانَ أَوْلَى مِنْهُ كَانَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ، أَوْ مُسَاوِيًا كَانَ قِيَاسًا جَلِيًّا عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يُعَارَضَ بِمَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ، فَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِنَصٍّ يُضَادُّهُ وَبِفَحْوَى مَقْطُوعٍ بِهِ يُعَارِضُهُ، كَفَهْمِ مُشَارَكَةِ الْأَمَةِ الْعَبْدَ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ، فَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلَمْ يُجَوِّزُ الْقَاضِي تَرْكَ الْمَفْهُومِ بِهِ مَعَ تَجْوِيزِهِ تَرْكَ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ، هَكَذَا نَقَلَهُ فِي " الْمَنْخُولِ ". قَالَ: وَلَعَلَّهُ قَرِيبٌ مِمَّا اخْتَرْنَاهُ فِي الْمَفْهُومِ، فَإِنَّهُ تِلْقَاءَ الظَّاهِرِ، وَالْعُمُومُ قَدْ لَا يُتْرَكُ بِالْقِيَاسِ، بَلْ يَجْتَهِدُ النَّاظِرُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ إذَا عَارَضَهُ الْعُمُومُ. اهـ. وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الْقَاضِي التَّوَقُّفُ فِي تَجْوِيزِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْ الْقَرَائِنِ، أَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ قَرِينَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِدَلَالَةِ الْخِطَابِ حُكْمٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ شَارِحُ " اللُّمَعِ ": دَلِيلُ الْخِطَابِ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، كَالنَّصِّ وَالتَّنْبِيهِ، فَإِنْ عَارَضَهُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ

سَقَطَ، وَإِنْ عَارَضَهُ عُمُومٌ صَحَّ التَّعَلُّقُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ عَارَضَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ قُدِّمَ الْقِيَاسُ. وَأَمَّا الْخَفِيُّ فَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالنُّطْقِ قُدِّمَ دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالْقِيَاسِ، فَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا يُقَدِّمُونَ كَثِيرًا الْقِيَاسَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ. قُلْت: وَمَا صَحَّحَهُ فِي مُعَارَضَةِ الْعُمُومِ هِيَ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ، لَكِنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي "؛ الْبُوَيْطِيِّ " يُخَالِفُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ صَيْدًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً ضَمِنَهُ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] وَالْحُجَّةُ فِي الْخَطَأِ قَوْلُهُ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] . فَدَخَلَ فِي هَذَا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ. اهـ. فَقَدْ قُدِّمَ هَذَا الْعُمُومُ عَلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ: مُتَعَمِّدًا. وَمِنْ الْفَوَائِدِ مَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لَا يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، وَهُوَ شَاهِدٌ لَكِنَّ شُبْهَتَهُ قَوِيَّةٌ. فَإِنَّ مَفْهُومَ قَوْله تَعَالَى: {وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] . لَا يُعَارَضُ بِالْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . لِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ وَارِدٌ فِي غَيْرِ شَرِيعَتِنَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. وَمَا قَالَهُ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ عُمُومٌ مَعْنَوِيٌّ، وَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيمُ الْمَفْهُومِ عَلَى الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ فَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ أَوْلَى. وَيَكُونُ خُرُوجُ صُوَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ كَخُرُوجِهَا مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِ الْعُمُومِ. وَمِنْهُ حَاجَةُ الْمُخَاطَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] فَذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ لِحَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ إلَيْهِ إذْ هُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى قَتْلِهِمْ، لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِ، وَنَظِيرُهُ: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] .

شروط مفهوم المخالفة العائدة للمذكور

[شُرُوطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الْعَائِدَةِ لِلْمَذْكُورِ] ِ] وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ خَارِجًا مَخْرَجَ الْغَالِبِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] . فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الرَّبَائِبِ كَوْنُهُنَّ فِي حُجُورِ أَزْوَاجِ أُمَّهَاتِهِنَّ، فَذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ لَا لِيَدُلَّ عَلَى إبَاحَةِ نِكَاحِ غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ الْخُلْعِ بِحَالِ الشِّقَاقِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، إذْ لَا يَقَعُ غَالِبًا فِي حَالِ الْمُصَافَاةِ وَالْمُوَافَقَةِ خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِذَا لَاحَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ غَيْرُ نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْمَنْطُوقَ تَطَرَّقَ الِاحْتِمَالُ إلَى الْمَنْطُوقِ، فَصَارَ مُجْمِلًا كَاللَّفْظِ الْمُجْمِلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَعَارُضُ الْفَوَائِدِ فِي الْمَفْهُومِ، كَتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْمَنْطُوقِ يُكْسِبُهُ نَعْتَ الْإِجْمَالِ، فَكَذَلِكَ تَعَارُضُ الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْمَنْطُوقِ يُكْسِبُهُ نَعْتَ الْإِجْمَالِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ الْمُغَايَرَةَ دُونَ اعْتِبَارِ الْفَائِدَةِ الْأُخْرَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا حَاجَةَ إلَى دَلِيلٍ فِي تَرْكِ هَذَا الْمَفْهُومِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ خِلَافُهُ، إذْ الشِّقَاقُ يُنَاسِبُ الْخُلْعَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بُعْدِ الْخِلَافِ وَتَعَذُّرِ اسْتِمْرَارِ النِّكَاحِ، فَلَا تُرْفَعُ الْفَحْوَى الْمَعْلُومَةُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الْعُرْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ فِي الْقُوَّةِ مَبْلَغَ مَا يُشْتَرَطُ فِي تَرْكِ مَفْهُومٍ لَا يُقْصَدُ بِالْعُرْفِ، فَإِنَّهُ قَرِينَةٌ مُوهِمَةٌ. اهـ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي

شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ مَنْشَؤُهُ طَلَبُ الْفَائِدَةِ فِي التَّخْصِيصِ، وَكَوْنُهُ لَا فَائِدَةَ إلَّا الْمُخَالَفَةُ فِي الْحُكْمِ، أَوْ تَكُونُ تِلْكَ الْفَائِدَةُ أَرْجَحَ الْفَوَائِدِ الْمُحْتَمَلَةِ، فَإِذَا وُجِدَ سَبَبٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ غَيْرَ الْمُخَالَفَةِ فِي الْحُكْمِ وَكَانَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ ظَاهِرًا، ضَعُفَ الِاسْتِدْلَال بِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِالذِّكْرِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، لِوُجُودِ الْمُزَاحِمِ الرَّاجِحِ بِالْعَادَةِ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ، إلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: (فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ) ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ بِالْمَفْهُومِ، وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ وَالْعَادَةَ السَّوْمُ، فَمُقْتَضَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ لَا يَكُونَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ مَفْهُومٌ. قُلْت: قَدْ ذَكَرَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ هَذَا السُّؤَالَ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ اشْتِرَاطَ السَّوْمِ لَمْ يَقُلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرْعِ الْعَفْوُ عَنْ الزَّكَاةِ فِيمَا أُعِدَّ لِلْقُنْيَةِ، وَلَمْ يُتَصَرَّفْ فِيهِ لِلتَّنْمِيَةِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ. هَذَا أَصْلُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ. لَكِنَّ الْقَفَّالَ قَصَدَ بِذَلِكَ نَفْيَ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا، وَقَدْ سَبَقَ رَدُّهُ. عَلَى أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " يُخَالِفُ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ: وَإِذَا قِيلَ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ كَذَا، فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْغَنَمِ غَيْرِ السَّائِمَةِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا قِيلَ فِي شَيْءٍ بِصِفَةٍ، وَالشَّيْءُ يَجْمَعُ صِفَتَيْنِ، يُؤْخَذُ حَقُّهُ كَذَا، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ مِنْ صِفَتَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلِهَذَا قُلْنَا: لَا نَأْخُذُ مِنْ الْغَنَمِ غَيْرِ السَّائِمَةِ صَدَقَةَ الْغَنَمِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْغَنَمِ، فَهَكَذَا فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، لِأَنَّهَا الْمَاشِيَةُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ دُونَ مَا سِوَاهَا. اهـ. فَلَمْ يَجْعَلْ الشَّافِعِيُّ الْغَلَبَةَ إلَّا لِذَكَرِ الْغَنَمِ حَتَّى أَلْحَقَ بِهَا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ، وَلَمْ يَجْعَلْ السَّوْمَ غَالِبًا.

وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْغَرَضُ مِنْ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ أَنْ لَا يُلْغِي الْقَيْدَ الَّذِي قَيَّدَ بِهِ الشَّارِعُ كَلَامَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ لِلْقَيْدِ فَائِدَةٌ مَا مِثْلُ إنْ خَرَجَ عَنْ الْمُعْتَادِ الْغَالِبِ فِي الْعُرْفِ كَفَى ذَلِكَ. وَذَكَرَ فِي " الرِّسَالَةِ " كَلَامًا بَالِغًا فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ: إذَا تَرَدَّدَ التَّخْصِيصُ بَيْنَ تَقْدِيرِ نَفْيِ مَا عَدَا الْمُخَصَّصَ، وَبَيْنَ قَصْدِ إخْرَاجِ الْكَلَامِ عَلَى مَجْرَى الْعُرْفِ، فَيَصِيرُ تَرَدُّدُ التَّخْصِيصِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، كَتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ جِهَتَيْنِ فِي الِاحْتِمَالِ، فَيُلْحَقُ بِالْمُحْتَمَلَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] . فَاسْتِشْهَادُ النِّسَاءِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إشْهَادِ الرِّجَالِ خَارِجٌ عَلَى الْعُرْفِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّهْرَةِ، وَهَتْكِ السِّتْرِ، وَعَسُرَ الْأَمْرُ عِنْدَ إقَامَةِ الشَّهَادَةِ، فَجَرَى التَّقْيِيدُ إجْرَاءً لِلْكَلَامِ عَلَى الْغَالِبِ، وَكَقَوْلِهِ: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ. وَخَالَفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَرَأَى الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ بِالذَّكَرِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ مِثْلُهُ بِاللَّقَبِ، وَلَكِنْ إنَّمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ الْإِشْعَارِ عَلَى مُقْتَضَى حَقَائِقِهِ مِنْ كَوْنِهِ شَرْطًا، فَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ بِاحْتِمَالٍ يُؤَوَّلُ إلَى الْعُرْفِ. نَعَمْ، يَظْهَرُ مَسْلَكُ التَّأْوِيلِ، وَيَخِفُّ الْأَمْرُ عَلَى الْمُؤَوِّلِ، فِي قَرِينَةِ الدَّلِيلِ الْعَاضِدِ لِلتَّأْوِيلِ. وَقَدْ وَافَقَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَزَادَ فَقَالَ: يَنْبَغِي الْعَكْسُ، أَيْ لَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ إلَّا إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْغَالِبَ عَلَى الْحَقِيقَةِ تَدُلُّ الْعَادَةُ عَلَى ثُبُوتِهِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ، فَالْمُتَكَلِّمُ

يَكْتَفِي بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ عَلَى ثُبُوتِهِ لَهَا عَنْ ذِكْرِ اسْمِهِ، فَإِذَا أَتَى بِهَا مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ كَافِيَةٌ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَتَى بِهَا لِتَدُلَّ عَلَى سَلْبِ الْحُكْمِ عَمَّا يُفْهِمُ السَّامِعَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ ثَابِتَةٌ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ. وَقَدْ أَجَابَ الْقَرَافِيُّ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْوَصْفَ إذَا كَانَ غَالِبًا كَانَ لَازِمًا لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِسَبَبِ الشُّهْرَةِ وَالْغَلَبَةِ، فَذِكْرُهُ إيَّاهُ مَعَ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهَا لِغَلَبَةِ حُضُورِهِ فِي الذِّهْنِ لَا لِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ غَالِبًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُذْكَرُ مَعَ الْحَقِيقَةِ إلَّا لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِهِ، لِعَدَمِ مُقَارَنَتِهِ لِلْحَقِيقَةِ فِي الذِّهْنِ حِينَئِذٍ، فَاسْتِحْضَارُهُ مَعَهُ وَاسْتِجْلَابُهُ لِذِكْرِهِ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِفَائِدَةٍ، وَالْفَرْضُ عَدَمُ ظُهُورِ فَائِدَةٍ أُخْرَى، فَيَتَعَيَّنُ التَّخْصِيصُ. وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا، وَاعْتَرَضَ بِالِاسْتِفْسَارِ. فَقَالَ: مَا تُرِيدُونَ بِالْغَالِبِ؟ أَعَادَةُ الْفِعْلِ أَمْ عَادَةُ التَّخَاطُبِ؟ فَإِنْ أُرِيدَ عَادَةُ الْفِعْلِ فَلَا نُسَلِّمُ إلَّا إذَا صَحِبَهَا عَادَةُ التَّخَاطُبِ، وَدَعْوَى أَنَّ عَادَةَ الْفِعْلِ مُسْتَلْزِمَةٌ عَادَةَ التَّخَاطُبِ ضَعِيفَةٌ بِمَنْعِ تَسْلِيمِ اللُّزُومِ. وَلِأَنَّهُ إثْبَاتُ اللُّغَةِ لِغَلَبَتِهَا، وَهُوَ وَاهٍ جِدًّا. وَإِنْ أُرِيدَ عَادَةُ التَّخَاطُبِ فَإِثْبَاتُهَا فِي مَوْضِعِ الدَّعْوَى عَسِيرٌ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ عَهْدٌ، وَإِلَّا فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ اللَّقَبِ مِنْ إيقَاعِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، إيقَاعُ الْعِلْمِ عَلَى مُسَمَّاهُ. وَهَذَا الشَّرْطُ يُؤْخَذُ مِنْ تَعْلِيلِهِمْ إثْبَاتَ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ. وَقَوْلُهُمْ فِي مَفْهُومِ الِاسْمِ إنَّهُ إنَّمَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمُسَمَّى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ زِيَادَةُ الِامْتِنَانِ عَلَى الْمَسْكُوتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْقَدِيدِ.

الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْطُوقُ خَرَجَ لِسُؤَالٍ عَنْ حُكْمِ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ، وَلَا حَادِثَةَ خَاصَّةٌ بِالْمَذْكُورِ. وَلَك أَنْ تَقُولَ: كَيْفَ جَعَلُوا هُنَا السَّبَبَ قَرِينَةً صَارِفَةً عَنْ إعْمَالِ الْمَفْهُومِ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ صَارِفًا عَنْ إعْمَالِ الْعَامِّ، بَلْ قَدَّمُوا مُقْتَضَى اللَّفْظِ عَلَى السَّبَبِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالُوهُ، فَهَلَّا جَرَى فِيهِ خِلَافٌ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِخُصُوصِ السَّبَبِ؟ لَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْمَفْهُومَ عَامٌّ. ثُمَّ رَأَيْت صَاحِبَ " الْمُسَوَّدَةِ " حَكَى عَنْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْ أَصْحَابِهِمْ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ ضَعِيفَةٌ تَسْقُطُ بِأَدْنَى قَرِينَةٌ، بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْعَامِّ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] فَلَا مَفْهُومَ لِلْأَضْعَافِ إلَّا عَنْ النَّهْيِ عَمَّا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ بِسَبَبِ الْآجَالِ، كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إذَا حَلَّ دَيْنُهُ يَقُولُ لَهُ: إمَّا أَنْ تُعْطِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، فَيُضَاعَفُ بِذَلِكَ أَصْلُ دَيْنِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ التَّفْخِيمُ وَتَأْكِيدُ الْحَالِ، كَقَوْلِهِ: (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ) فَإِنَّ التَّقْيِيدَ بِالْإِيمَانِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ لَا الْمُخَالَفَةِ، وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ: (إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ) إذْ كَانَ أَصْلُ الرِّبَا عِنْدَهُمْ وَمُعْظَمُهُ إنَّمَا هُوَ النَّسِيئَةُ. السَّادِسُ: أَنْ يُذْكَرَ مُسْتَقِلًّا، فَلَوْ ذُكِرَ عَلَى جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ لِشَيْءٍ آخَرَ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]

فَإِنَّ قَوْلَهُ: " فِي الْمَسَاجِدِ " لَا مَفْهُومَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْعِ الْمُبَاشَرَةِ، فَإِنَّ الْمُعْتَكِفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمُبَاشَرَةُ مُطْلَقًا. السَّابِعُ: أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْ السِّيَاقِ قَصْدُ التَّعْمِيمِ، فَإِنْ ظَهَرَ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ: " كُلِّ شَيْءٍ " التَّعْمِيمُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُمْكِنَةِ لَا قَصْرُ الْحُكْمِ. الثَّامِنُ: أَنْ لَا يَعُودَ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوقُ بِالْإِبْطَالِ، فَلَا يُحْتَجُّ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ الَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» إذْ لَوْ صَحَّ، لَصَحَّ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ الَّذِي نَطَقَ الْحَدِيثُ بِمَنْعِهِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَنْطُوقُ مَعْنَاهُ خَاصًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] إلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَتَقْيِيدُ التَّيَمُّمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ شَرْطٌ فِي إبَاحَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ عَامًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ، وَسَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ، كَتَقْيِيدِ الْفِطْرِ بِالْخَوْفِ، وَالْكَفَّارَةِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ. وَقَالَا: عَمَّمَ دَاوُد وَأَهْلُ الظَّاهِرِ الْحُكْمَ فِي الْمُقَيَّدِ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ، لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى النُّصُوصِ دُونَ الْمَعَانِي عِنْدَهُمْ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] وَلَا يُسْتَبَاحُ قَتْلُهُمْ مَعَ أَمْنِ إمْلَاقٍ. وَقَالَ: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]

وَلَا يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ، فَلَمَّا سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ فِي هَذَا، وَلَمْ يَصِرْ نَسْخًا، جَازَ أَنْ يَسْقُطَ غَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا سَقَطَ التَّقْيِيدُ كَانَ مُقَيَّدًا؟ قُلْنَا: يَحْتَمِلُ ذِكْرُ التَّقْيِيدِ مَعَ سُقُوطِ حُكْمِهِ أُمُورًا: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مَأْخُوذًا مِنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، لِيَسْتَعْمِلَهُ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا إذَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا، فَإِنَّ الْحَوَادِثَ غَيْرُ مُنْقَرِضَةٍ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] فَنَبَّهَ بِالْقِنْطَارِ عَلَى الْكَثِيرِ، وَبِالدِّينَارِ عَلَى الْقَلِيلِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءً. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِ مَا قُيِّدَ بِهِ، فَيَذْكُرُهُ لِغَلَبَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُفَادَاةُ الزَّوْجَيْنِ تَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْحَدِّ وَعَدَمِهِ. وَإِنْ احْتَمَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ وَغَيْرَهَا وَجَبَ النَّظَرُ فِي كُلِّ مُقَيَّدٍ، فَإِنْ ظَهَرَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِهِ سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ، وَصَارَ فِي عُمُومِ حُكْمِهِ كَالْمُطْلَقِ، وَإِنْ عُدِمَ الدَّلِيلُ وَجَبَ حُكْمُهُ عَلَى تَقْيِيدٍ، وَجُعِلَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ.

فصل في أنواع المفهوم

[فَصْلٌ فِي أَنْوَاعِ الْمَفْهُومِ] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ مَفْهُومُ اللَّقَبِ] فَصْلٌ فِي أَنْوَاعِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مَفْهُومُ اللَّقَبِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ، نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ، أَوْ اسْمِ نَوْعٍ، نَحْوُ: فِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، كَمَا قَالَهُ فِي " الْبُرْهَانِ "، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُهُ فِيهِ. وَخَالَفَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ، وَبِهِ اُشْتُهِرَ، وَزَعَمَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا غَيْرُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": ثَارَ إلَيْهِ الدَّقَّاقُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَرَأَيْت فِي كِتَابِ ابْنِ فُورَكٍ حِكَايَتَهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي " التَّلْوِيحِ ": إنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ فُورَكٍ كَانَ يَمِيلُ إلَيْهِ، وَيَقُولُ: إنَّهُ الْأَظْهَرُ وَالْأَقْيَسُ. وَحَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي " نَتَائِجِ الْفِكْرِ " عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَلَعَلَّهُ تَحَرَّفَ عَلَيْهِ بِالدَّقَّاقِ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي التَّحْقِيقِ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ إنْكَارُ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَوَائِلِ الْمَفْهُومِ فِي " الْبُرْهَانِ ": مَا صَارَ إلَيْهِ الدَّقَّاقُ صَارَ إلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ فِي " التَّمْهِيدِ " عَنْ مَنْصُوصِ أَحْمَدَ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُد، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. اهـ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ أُشِيرَ إلَى مَالِكٍ الْقَوْلُ بِهِ لِاسْتِدْلَالِهِ فِي " الْمُدَوَّنَةِ " عَلَى عَدَمِ إجْزَاءِ الْأُضْحِيَّةِ إذَا ذُبِحَتْ لَيْلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] قَالَ: فَذَكَرَ الْأَيَّامَ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّيَالِي، وَنُقِلَ الْقَوْلُ بِهِ عَنْ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَالْبَاجِيِّ، وَابْنِ الْقَصَّارِ. وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " قَوْلًا ثَالِثًا عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ فَيَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، نَحْوُ: فِي السُّودِ مِنْ النَّعَمِ الزَّكَاةُ، وَبَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ، إلَّا أَنَّ مَدْلُولَ أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ أَكْثَرُ، وَهُمَا فِي الدَّلَالَةِ مُتَسَاوِيَانِ. وَحَكَى ابْنُ حَمْدَانَ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ قَوْلًا رَابِعًا، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ فَيَكُونَ حُجَّةً، كَقَوْلِهِ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا» إذْ قَرِينَةُ الِامْتِنَانِ تَقْتَضِي الْحَصْرَ فِيهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَقَدْ سَفَّهُ الْأُصُولِيُّونَ الدَّقَّاقَ، وَمَنْ قَالَ بِمَقَالَتِهِ، وَقَالُوا: هَذَا خُرُوجٌ عَنْ حُكْمِ اللِّسَانِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: رَأَيْت زَيْدًا لَمْ يَقْتَضِ أَنَّهُ لَمْ يَرَ غَيْرَهُ قَطْعًا، وَلِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ وَالْقِيَاسِ، فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ تَخْصِيصَ الرِّبَا بِالِاسْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَلَوْ قُلْنَا بِهِ بَطَلَ الْقِيَاسُ.

قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ سَرَفٌ، لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ. ثُمَّ اخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالِاسْمِ يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُبْهَمًا، وَلَا يَتَعَيَّنُ انْتِفَاءُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ وَرَاءَ ذَلِكَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُون مِنْ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ فِي التَّخْصِيصِ نَفْيُ مَا عَدَا الْمُسَمَّى بِلَقَبِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقُولُ: رَأَيْت زَيْدًا، وَهُوَ يُرِيدُ الْإِشْعَارَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ غَيْرَهُ. فَإِنْ هُوَ أَرَادَ ذَلِكَ قَالَ: إنَّمَا رَأَيْت زَيْدًا، وَمَا رَأَيْت إلَّا زَيْدًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِاللَّقَبِ يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُبْهَمًا، وَلَا يَتَضَمَّنُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ. وَالدَّقَّاقُ يَقُولُ: يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُعَيَّنًا. وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " أَنَّهُ حُجَّةٌ مَعَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ. قَالَ: وَلِهَذَا رَدَدْنَا عَلَى ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي تَعْلِيلِهِ تَخْصِيصَ الْأَرْبَعَةِ فِي الرِّبَا بِالذِّكْرِ، حَيْثُ عَلَّلَ الرِّبَا بِالْمَالِيَّةِ الْعَامَّةِ، إنْ قُلْنَا: لَمْ تَكُنْ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ غَالِبَ مَا يُعَامَلُ بِهِ، وَكَانَ [الْحِجَازُ مَصَبَّ التُّجَّارِ] فِي الْأَعْصَارِ الْخَالِيَةِ، فَلَوْ ارْتَبَطَ الْحُكْمُ بِالْمَالِيَّةِ لَكَانَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا أَسْهَلَ مِنْ التَّخْصِيصِ، كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» فَكَانَ هَذَا مَأْخُوذًا مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَعَ التَّخْصِيصِ بِاللَّقَبِ. وَهَاهُنَا أُمُورٌ مُهِمَّةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ قَالَ فِي كِتَابِهِ " شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيَّ أَلْزَمَ الدَّقَّاقَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ فَالْتَزَمَهُ. قَالَ: وَكُنَّا نُكَلِّمُهُ فِي هَذَا فِي الدَّرْسِ، فَأَلْزَمْنَاهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ: صُمْ، يَجِبُ

أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَنْعِ الصَّلَاةِ. وَإِذَا قَالَ: صَلِّ، يَجِبُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ. فَقَالَ كَذَلِكَ أَقُولُ. فَقُلْنَا: إذَا قَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْمِ: يَا زَيْدُ تَعَالَ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْبَاقِينَ أَنْ يَأْتُوهُ. قَالَ: كَذَلِكَ أَقُولُ: فَقُلْنَا: إذَا وَصَلْنَا إلَى هَذَا سَقَطَ الْكَلَامُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَهَذَا الَّذِي رَكَّبَهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ مِمَّا يَتَخَالَجُ لِقَبُولِهِ فِي الْقُلُوبِ وَجْهٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ أَلْبَتَّةَ. قَالَ: وَلَوْ تَصَوَّرَ دَلِيلَ الْخِطَابِ لَمْ يَصِرْ إلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ صُورَتَهُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ بِلَفْظِهِ الْعَامِّ مُقَيَّدًا بِأَحَدِ أَوْصَافِهِ، نَحْوُ: اُقْتُلْ أَهْلَ الْكِتَابِ الْيَهُودَ مِنْهُمْ. قَالَ: وَكَانَ الدَّقَّاقُ إذَا جَرَى لَهُ كَلَامٌ فِي مِثْلِهِ يَذْكُرُهُ فِي مَجْلِسِ الدَّرْسِ، وَيُعِيدُهُ، وَيَتَحَجَّجُ لَهُ، وَيَنْصُرُهُ، وَرَأَيْنَاهُ كَأَنَّهُ اسْتَحَى مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رَكَّبَهُ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ، فَلَمْ نَرَهُ عَادَ إلَيْهِ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ فِي كِتَابٍ. اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِ الدَّقَّاقِ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ أَوْ تَوَقُّفِهِ فِيهِ. وَلَيْسَ مَا أُلْزِمَ بِهِ الدَّقَّاقُ بِعَجِيبٍ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَقُولُ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ النُّطْقِ بِخِلَافِهِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: إطْلَاقُ أَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا قَدْ اسْتَشْكَلَ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَدْ قَالُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ وَاحْتَجُّوا بِهِ كَاحْتِجَاجِهِمْ فِي تَعْيِينِ الْمَاءِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِحَدِيثِ: (حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ) . وَعَلَى تَعْيِينِ التُّرَابِ بِالتَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ: (وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا) . وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ اللَّقَبِ، بَلْ مِنْ قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ مَتَى انْتَقَلَ مِنْ الِاسْمِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ أَفَادَ الْمُخَالَفَةَ، فَلَمَّا تَرَكَ الِاسْمَ الْعَامَّ وَهُوَ الْأَرْضُ إلَى الْخَاصِّ وَهُوَ التُّرَابُ، جُعِلَ دَلِيلًا. وَأَمَّا فِي الِاسْمِ فَلِأَنَّ امْتِثَالَ الْمَأْمُورِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمُعَيَّنِ. وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": الْأَمْرُ إذَا تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَقَعُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِذَلِكَ الشَّيْءِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ فِعْلِهِ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ صِفَةً أَوْ لَقَبًا عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوَقُّفِ الِامْتِثَالِ عَلَيْهِ

وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَدْ اعْتَرَضَ فِي مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ الْمَاءِ فِي النَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ) بِأَنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ بِلَقَبٍ، وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. فَيُقَالُ عَلَيْهِ: مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لِضَرُورَةِ الِامْتِثَالِ، وَلَا نَظَرَ هُنَا لِكَوْنِهِ لَقَبًا أَوْ صِفَةً، وَإِنَّمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ، وَهُوَ الدَّمُ مَثَلًا. فَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّمِ يَجُوزُ غَسْلُهُ بِغَيْرِ الْمَاءِ، عَمَلًا بِالْمَفْهُومِ، لِأَنَّ الدَّمَ لَقَبٌ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ. اهـ. وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي " الذَّرِيعَةِ ": احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَا يُطَهِّرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] . فَنَقُولُ: الْحُكْمُ غَيْرُ الْمَاءِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْمِ لَا بِالصِّفَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا إنَّمَا عُوِّلَ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ يَجْرِي فِيهَا مَجْرَى الصِّفَةِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ الْمَاءُ، يُخَالِفُ اتِّصَافَهُ، فَأُجْرِيَ مَجْرَى كَوْنِ الْإِبِلِ سَائِمَةً أَوْ عَامِلَةً. وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، إذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ رَائِحَةُ التَّعْلِيلِ، فَإِنْ وُجِدَ كَانَ حُجَّةً، وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: (إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا) يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَمْنَعُ امْرَأَتَهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَجْلِ تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِالْخُرُوجِ لِلْمَسَاجِدِ، فَيَقْتَضِي بِمَفْهُومِهِ جَوَازُ الْمَنْعِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ هُنَا مَوْجُودٌ؛ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ فِيهِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ وَهُوَ مَحَلُّ الْعِبَادَةِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ التَّعَبُّدِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ.

قُلْت: وَلِهَذَا يَنْفَصِلُ الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَإِنَّ فِي اخْتِصَاصِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمَا. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْمَنْفِيَّ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَفْهُومِ وَهُوَ غَلَطٌ. فَإِذَا قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ غَانِمًا، لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِ سَالِمٍ، لَا لِأَجْلِ النَّصِّ عَلَى بَيْعِ غَانِمٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَبِيعُ إلَّا بِإِذْنٍ، وَالْحَجْرُ سَابِقٌ، وَالْإِذْنُ قَاصِرٌ، فَيَبْقَى الْحَجْرُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِذْنِ. قُلْت: قَالَ الْأَصْحَابُ: لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ هَذَا مِنْ زَيْدٍ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ مِنْهُ. فَلَا يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ غَرَضٌ فِي تَخْصِيصِهِ، لِكَوْنِ مَالِهِ أَقْرَبَ إلَى الْحِلِّ وَنَحْوِهِ. فَفِيهِ رَائِحَةُ التَّعْلِيلِ، فَلِهَذَا قُلْنَا بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَوْ مَاتَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْغَبَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ تُبَاعَ الْعَيْنُ الْفُلَانِيَّةُ مِنْ زَيْدٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُحَابَاةً صَحَّ، وَتَعَيَّنَتْ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُحَابَاةً فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ حِينَئِذٍ. وَلَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِلْأَوْلِيَاءِ غَيْرِ الْمُجْبِرِينَ: رَضِيت بِأَنْ أُزَوَّجَ مِنْ فُلَانٍ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ تَزْوِيجُهَا مِنْهُ، فَلَوْ عَيَّنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَاحِدًا، فَهَلْ يَنْعَزِلُ الْآخَرُونَ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ عَدَمُ الِانْعِزَالِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَبَنَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَلَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ: عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ. قَالَ: لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ جَحَدَ نُبُوَّتَهُ كَفَرَ. وَحَكَاهُ الْإِمَامُ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ ثَمَّ: وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافُهُ، وَفِي هَذَا نَفْيُ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ.

تعليق الحكم بالاسم

الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى " الْمُسْتَصْفَى ": يَنْبَغِي تَحَقُّقُ الْمُرَادِ بِاللَّقَبِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُرْتَجَلَ فَقَطْ، بَلْ الْمُرْتَجَلُ وَالْمَنْقُولُ مِنْ الصِّفَاتِ. وَقَدْ جَعَلَ الْغَزَالِيُّ مِنْهُ: لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ، لِأَنَّ الطَّعَامَ لَقَبٌ لِجِنْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِمَّا يُطْعَمُ إذْ لَا يُدْرَكُ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: فِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ، وَفِي الْمَاشِيَةِ زَكَاةٌ، وَإِنْ كَانَتْ " الْمَاشِيَةُ " مُشْتَقَّةً. اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنْ إلْحَاقِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ الدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِ بِاللَّقَبِ تَبِعَهُ عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ، لِأَنَّ الصِّفَةَ فِيهِ لَيْسَتْ مُتَخَيَّلَةً، إذْ الطَّعَامُ لَا يُنَاسِبُ حُكْمَ الرِّبَا. لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يَلْحَقُ بِالصِّفَةِ الصَّرِيحَةِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ يَتَضَمَّنُ صِفَةً. وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ اسْمَ الْجِنْسِ وَالْعَلَمَ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ. قَالَ: لِتَخْصِيصِ الرِّبَوِيَّاتِ السِّتَّةِ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، وَقَوْلُنَا: زَيْدٌ عَالِمٌ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: اللَّقَبُ كَالْأَعْلَامِ، وَأَلْحَقَ بِهَا أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ. قَالَ: وَغَيْرُهُ أَطْلَقَ فِي الْجَمِيعِ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ لِلْآمِدِيِّ. [تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ] قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنًى كَالْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ، وَالزَّانِي، وَالْقَاتِلِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصِّفَةِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْظُرُ فِي الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ. فَإِنْ كَانَ لِمَعْنَى اشْتِقَاقِهِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ اسْتَعْمَلَ دَلِيلَ خِطَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ لَمْ يَسْتَعْمِلْ دَلِيلَ خِطَابِهِ. فَإِنْ مَا لَا يُؤَثِّرْ فِي الْحُكْمِ لَا يَكُونُ عِلَّةً فِي الْحُكْمِ. وَالثَّانِي: اسْمُ لَقَبٍ غَيْرِ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَنَحْوِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ حُجَّةٍ.

النوع الثاني مفهوم الصفة

وَخَالَفَ فِيهِ الدَّقَّاقُ، قَالَ: وَيَلْتَحِقُ بِاللَّقَبِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ: فِي هَذَا الْمَالِ الزَّكَاةُ، وَعَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْحَجُّ، فَدَلِيلُ خِطَابِهِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، وَلَا يَدُلُّ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ عَلَى تَرْكِهَا فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا كَتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ. اهـ. [النَّوْعُ الثَّانِي مَفْهُومُ الصِّفَةِ] وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ بِأَحَدِ الْأَوْصَافِ، نَحْوُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ، وَكَتَعْلِيقِ نَفَقَةِ الْبَيْنُونَةِ عَلَى الْحَمْلِ، وَشَرْطِ ثَمَرَةِ النَّخْلِ لِلْبَائِعِ إذَا كَانَتْ مُؤَبَّرَةً، فَيَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَلَا نَفَقَةَ لِلْحَامِلِ، وَلَا ثَمَرَةَ لِبَائِعِ النَّخْلَةِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ. وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: تَقْيِيدُ لَفْظٍ مُشْتَرَكِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ مُخْتَصٍّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا غَايَةٍ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهَا النَّعْتَ فَقَطْ كَالنُّحَاةِ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ تَمْثِيلُهُمْ بِ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» ، مَعَ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ إنَّمَا هُوَ بِالْإِضَافَةِ فَقَطْ وَقَدْ جَعَلُوهُ صِفَةً. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَمُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ. وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ

عَنْ اخْتِيَارِ الْمُزَنِيّ وَالْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَابْنِ خَيْرَانَ. قَالَ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُد، وَأَبُو ثَوْرٍ. قُلْت: وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَنَقَلَهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَعْقُولٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ لَهُ وَصْفَانِ، فَوُصِفَ أَحَدُهُمَا بِصِفَةٍ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تِلْكَ الصِّفَةُ بِخِلَافِهِ. اهـ. وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ إنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ حَكَى فِي الْقَوْلِ بِهِ بِمُجَرَّدِهِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا. قَالَ الْقَاضِي: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي إثْبَاتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ: قَالَ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] مَفْهُومُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْفَاسِقِ لَا نَتَبَيَّنُهُ، وَتَمَسَّكَ أَيْضًا فِي إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ بِ {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] . قَالَ: مَفْهُومُهُ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ الْجِنَانِ، وَهَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ". وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ فِي " اللُّمَعِ "، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ. اهـ. وَبِهَذَا يُرَدُّ نَقْلُ صَاحِبِ " الْمَعَالِمِ " عَنْ مَالِكٍ مُوَافَقَةً أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ: وَلَعَلَّهُمَا يُنْقَلَانِ عَنْهُ بِالتَّخْرِيجِ فِي مَسَائِلَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ دَخَلَ النَّارَ» وَقُلْت أَنَا: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. اهـ. وَهَذَا مُصَيَّرٌ مِنْهُ إلَى الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَطَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى

نَفْيِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَقَدْ رَآهُ الْحَنَفِيَّةُ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ، وَمَنْعُهُمْ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ. اهـ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ، زَادَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": وَأَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ. قَالَ: وَأَضَافَ ذَلِكَ ابْنُ سُرَيْجٍ إلَى الشَّافِعِيِّ، وَتَأَوَّلَ كَلَامَهُ الْمُقْتَضِي بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَبَاحَ الْقَفَّالُ بِمُخَالَفَةِ الشَّافِعِيِّ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَأَمَّا ابْنُ سُرَيْجٍ فَتَلَطَّفَ، وَقَالَ: إنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ بِالْمَفْهُومِ بِدَلِيلٍ يَزِيدُ عَلَى نَفْسِ اللَّفْظِ، لَا مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ. اهـ. وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيَّ، وَصَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " فِيهِ. وَاخْتَارَ فِي " الْمَعَالِمِ " خِلَافَهُ. وَمِمَّنْ صَارَ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْأَخْفَشُ، وَابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ "، وَابْنُ جِنِّي. وَذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ جَوَابَ سُؤَالٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، فَيَكُونُ حُجَّةً، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ مِنْ مُوجِبٍ، فَلَمَّا خَرَجَ عَنْ الْجَوَابِ ثَبَتَ وُرُودُهُ لِلْبَيَانِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مَذْهَبًا آخَرَ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مِنْ أَصْلِهِ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ غَيْرُ نَفْيِ الْحُكْمِ. وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ: أَنْ يَرِدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ: (فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ) ، أَوْ مَوْرِدَ التَّعْلِيمِ، نَحْوُ: خَبَرِ التَّحَالُفِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ، أَوْ يَكُونُ مَا عَدَا الصِّفَةَ دَاخِلًا تَحْتَ الصِّفَةِ، نَحْوُ: الْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.

وَفَصَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَيْنَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ بِمَفْهُومِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا نَقَلَهُ الرَّازِيَّ عَنْهُ مِنْ الْمَنْعِ وَابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ الْجَوَازِ، وَإِلَّا فَهُمَا نَقْلَانِ مُتَنَافِيَانِ. نَعَمْ، صُرِّحَ فِي بَابِ الرِّبَا مِنْ " الْأَسَالِيبِ " بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ، فَقَالَ: إذَا عَلَّلْنَا بِالشَّيْءِ الْمُحْتَمَلِ، فَلَا تُشْتَرَطُ الْإِحَالَةُ فِي الْمَفْهُومِ، بَلْ نَقُولُ: إذَا خُصِّصَ مَوْصُوفٌ بِذِكْرٍ أَيَنْفِي الْحُكْمَ عَمَّا عَدَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْدِ إحَالَةً فِي الصِّفَةِ؟ قَالَ الْإِمَامُ: وَمِنْ سِرِّ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْعِلَلِ مِنْ السَّلَامَةِ عَنْ الْقَوَادِحِ، وَصَلَاحِيَّتِهِ اسْتِقْلَالًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْمَنْطُوقِ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْنَدُ إلَى الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يُسْنَدُ إلَى اللَّفْظِ، وَالْمُنَاسَبَةُ عِنْدَهُ مُعْتَبَرَةٌ لِتَرْجِيحِ قَصْدِ اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ، وَقَطْعِ الْإِلْحَاقِ. وَخَالَفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الشَّافِعِيَّ فِي زِيَادَةِ هَذَا الشَّرْطِ، وَقَالَ: لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا مُنَاسَبَةُ الْحُكْمِ فَالْمَوْصُوفُ بِهَا كَاللَّقَبِ. قُلْت: وَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّا إذَا أَثْبَتْنَاهُ فَهَلْ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْعِلَّةِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؟ قَوْلَانِ. وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَهَذَا شَرْطُ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَعَلَى هَذَا مَحَلُّ الْقَوْلِ بِهِ إذَا كَانَتْ الصِّفَةُ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ تَعْلِيلٌ بِهَا فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ انْتِفَائِهَا. وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ قَضِيَّةُ اخْتِيَارِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ. وَقَدْ رَدَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ هَذَا التَّفْصِيلَ عَلَى الْإِمَامِ فَإِنَّهُ خِلَافُ مَذْهَبِ

الصفة على قسمين

الشَّافِعِيُّ، وَبِأَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الِانْعِكَاسُ. اهـ. وَالْإِمَامُ قَدْ أَوْرَدَ هَذَا عَلَى نَفْسِهِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ قَضِيَّةَ اللِّسَانِ هِيَ الدَّالَّةُ عِنْدَ إحَالَةِ الْوَصْفِ عَلَى مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا وَضْعُ اللِّسَانِ وَمُقْتَضَاهُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ اللِّسَانِ بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَإِذَا قُلْنَا: حُجَّةٌ، فَهَلْ دَلَّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ أَمْ اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ ". وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ ابْنَ السَّمْعَانِيِّ حَكَاهُمَا فِي صِيَغِ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ. وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فِي " الْمَعَالِمِ " أَنَّهُ يَدُلُّ بِالْعُرْفِ لَا بِاللُّغَةِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَقْصِدُونَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ. وَأَمَّا انْتِقَاؤُهُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ فَلِأَنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالصِّفَةِ. وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلِانْتِفَاءِ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ مُمْكِنَةً، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. . [الصِّفَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ] ثُمَّ إنَّ الصِّفَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً يُقْتَصَرُ عَلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ: فِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ، وَتَارَةً تُذْكَرُ الصِّفَةُ وَالْمَوْصُوفُ مَعًا كَقَوْلِهِ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ، فَدَلَالَةُ هَذَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَقْوَى مِنْ التَّرَتُّبِ عَلَى مُجَرَّدِ الصِّفَةِ، إذْ لَوْلَا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِحَالَةِ السَّوْمِ لَوَقَعَ ذِكْرُ السَّوْمِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. [صُورَةُ مَفْهُومِ الصِّفَةِ] وَقَالَ بَعْضُهُمْ صُورَةُ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنْ تُذْكَرَ ذَاتٌ، ثُمَّ تُذْكَرَ صِفَتُهَا، كَالْغَنَمِ السَّائِمَةِ، وَالرَّجُلِ الْقَائِمِ. أَمَّا إذَا ذُكِرَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ كَالْقَائِمِ فَقَطْ، أَوْ السَّائِمَةِ فَقَطْ، فَهَلْ هُوَ كَالصِّفَةِ، أَوْ لَا مَفْهُومَ لَهُ، لِأَنَّ الصِّفَةَ إنَّمَا جُعِلَ لَهَا مَفْهُومٌ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهَا إلَّا نَفْيُ الْحُكْمِ، وَالْكَلَامُ بِدُونِهَا لَا يُحْتَمَلُ، وَأَمَّا الْمُشْتَقُّ فَكَاللَّقَبِ يَخْتَلُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَعِبَارَةُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ: الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ كَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ يَجْرِي مَجْرَى تَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ فِي اسْتِعْمَالِ دَلِيلِهِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُنْظَرُ فِي الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ، فَإِنْ صَلَحَ لِلْغَلَبَةِ اُسْتُعْمِلَ، وَإِلَّا فَلَا. اهـ.

وَجَعَلَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ " أَدَبِ الْجَدَلِ " لَهُ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الصِّفَةِ دُونَ الِاسْمِ، فَإِنَّ ذُكِرَا جَمِيعًا كَقَوْلِهِ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ» فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْ سَائِمَةِ غَيْرِ الْغَنَمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَإِلَّا لَكَانَ اسْتِدْلَالًا بِالْأَلْقَابِ. وَأَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِشَرْطَيْنِ: كَوْنُهَا غَنَمًا، وَكَوْنُهَا سَائِمَةً. وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ أَحَدِهِمَا. اهـ. وَقَدْ سَبَقَ الْوَجْهَانِ. قَالَ: فَإِنْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِنَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ كَقَوْلِهِ: حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، فَهَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَجِلْدَهُ وَشَعْرَهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ؟ وَهَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَحْمَ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِ حَلَالٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا. اهـ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: هَذَا إذَا كَانَتْ الصِّفَةُ مَقْصُودَةً، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] إلَى قَوْله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تُذْكَرْ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهَا، وَإِنَّمَا قُصِدَ بَيَانُ رَفْعِ الْحَرَجِ عَمَّنْ طَلَّقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ، هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ إيجَابُ الْمُتْعَةِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ ابْتِدَاءً غَيْرَ مُعَلَّقٍ عَلَى الصِّفَةِ. اهـ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: الْقِيَاسُ تَخْصِيصُ الْمُتْعَةِ لَهَا، لِأَنَّ الصِّفَةَ عُلِّقَ بِهَا حُكْمَانِ، فَاقْتَضَى انْتِفَاءَ الْحُكْمَيْنِ مَعًا بِانْتِفَائِهَا. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: مَوْضِعُ هَذَا الْخِلَافِ فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي تَطْرَأُ وَتَزُولُ، كَقَوْلِهِ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» ، «وَالسَّائِمَةُ فِيهَا الزَّكَاةُ» . وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَطْرَأُ، وَلَا تَزُولُ، كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، نَحْوُ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» فَفِيهِ خِلَافٌ.

تنبيهات الأول الاقتصار على الصفة والجمع بينها وبين الاسم

وَجَزَمَ الْعَبْدَرِيّ، وَابْنُ الْحَاجِّ بِاشْتِرَاطِ هَذَا، وَزَادَا شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَقِيضُ الصِّفَةِ يَخْطِرُ بِالْبَالِ. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: فَأَمَّا إذَا ذَكَرَ الِاسْمَ الْعَامَّ ثُمَّ ذَكَرَ الصِّفَةَ الْخَاصَّةَ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْرَاكِ كَقَوْلِهِ: «مَنْ بَاعَ ثَمَرَةً غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ» وَكَقَوْلِهِ: مَنْ يَلُومُ الْعُلَمَاءَ الصَّالِحِينَ؟ فَقَدْ يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَعُمُّهَا لَمَا أَنْشَأَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاكًا. وَهَذَا ضَعِيفٌ. نَعَمْ، التَّخْصِيصُ يُفْهِمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَنْطُوقُ بِهِ، أَمَّا إنَّهُ يَنْفِي الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ فَلَا. اهـ. وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ السُّهَيْلِيِّ هَذِهِ الصُّورَةُ. [تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الصِّفَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاسْمِ] تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: خَرَجَ لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الصُّوَرَ ثَلَاثٌ: الِاقْتِصَارُ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاسْمِ، ثُمَّ الصِّفَةُ فِيهِمَا إمَّا أَنْ تَتَبَدَّلَ أَوْ لَا. وَبَقِيَتْ صُورَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ تَقَدُّمَ الصِّفَةِ، نَحْوُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ وَهَذَا يَسْتَدْعِي تَجْدِيدَ عَهْدٍ بِمَا سَبَقَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّفَةِ التَّقْيِيدُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ. وَالْغَنَمُ مَوْصُوفٌ، وَالسَّائِمَةُ صِفَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. قِيلَ: وَالظَّاهِرُ تَغَايُرُهُمَا، وَأَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَفْهُومَ صِلَةٍ، لَكِنَّ الْمَفْهُومَ فِيهِمَا مُتَغَايِرٌ، فَالْمُقَيَّدُ فِي قَوْلِنَا. فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ، إنَّمَا هُوَ الْغَنَمُ. وَفِي قَوْلِنَا: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ إنَّمَا هُوَ السَّائِمَةُ، فَمَفْهُومُ الْأَوَّلِ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ، إذْ لَوْلَا التَّقْيِيدُ بِالسَّوْمِ لَشَمِلَهَا لَفْظُ الْغَنَمِ.

الثاني اقترن بالحكم المعلق بالصفة حكم مطلق

وَمَفْهُومُ الثَّانِي عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي سَائِمَةٍ غَيْرِ الْغَنَمِ كَالْبَقَرِ مَثَلًا، إذْ لَوْلَا تَقْيِيدُ السَّائِمَةِ بِإِضَافَتِهَا إلَى الْغَنَمِ لَشَمِلَهَا لَفْظُ السَّائِمَةِ. وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا التَّرْكِيبِ الثَّانِي فَمِنْ بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَفِي هَذِهِ الدَّعْوَى نَظَرٌ. [الثَّانِي اقْتَرَنَ بِالْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالصِّفَةِ حُكْمٌ مُطْلَقٌ] الثَّانِي: هَذَا إذَا تَجَرَّدَتْ الصِّفَةُ عَنْ دَلِيلٍ آخَرَ، فَلَوْ اقْتَرَنَ بِالْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالصِّفَةِ حُكْمٌ مُطْلَقٌ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي دَلِيلِ الْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ، هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُطْلَقِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] قَضِيَّتُهُ أَنْ لَا عِدَّةَ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَدَلِيلُهُ وُجُوبُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: {فَمَتِّعُوهُنَّ} فَهَلْ يَكُونُ إطْلَاقُ الْمُتْعَةِ مَعْطُوفًا عَلَى الْعِدَّةِ فِي اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ بِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَصِيرُ الْمُتْعَةُ بِالْعَطْفِ عَلَى الْعِدَّةِ مَشْرُوطَةً بِعَدَمِ الدُّخُولِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَ " مَتِّعُوهُنَّ " لَا يُقَيَّدُ بِمَا تَقَدَّمَ. . [الثَّالِثُ إنْكَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ] الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: مَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ إنْكَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ هُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرِدَ دَلِيلُ الْعُمُومِ، ثُمَّ يَرِدُ إخْرَاجُ فَرْدٍ مِنْهُ بِالْوَصْفِ، فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ كَقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الْغَنَمِ مُطْلَقًا، ثُمَّ وَرَدَ الدَّلِيلُ بِتَقَيُّدِهَا بِالسَّائِمَةِ، فَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهَا لِقِيَامِ دَلِيلِ الْعُمُومِ فَيَسْتَصْحِبُهُ، وَلَا يُجْعَلُ لِلتَّقْيِيدِ بِالْوَصْفِ أَثَرًا مَعَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَرِدَ الْوَصْفُ مُبْتَدَأً كَمَا يَقُولُ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ الطِّوَالَ،

الرابع أصل وضع الصفة أن تجيء للتخصيص في النكرات

فَأَبُو حَنِيفَةَ يُوَافِقُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الطِّوَالِ لَا يَجِبُ إكْرَامُهُمْ، فَلْيُتَفَطَّنْ لِذَلِكَ. [الرَّابِعُ أَصْلُ وَضْعِ الصِّفَةِ أَنْ تَجِيءَ لِلتَّخْصِيصِ فِي النَّكِرَاتِ] ِ، وَلِلتَّوْضِيحِ فِي الْمَعَارِفِ، نَحْوُ: مَرَرْت بِرَجُلٍ عَاقِلٍ وَزَيْدٍ الْعَالِمِ. وَقَدْ تَجِيءُ لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ، كَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِمُجَرَّدِ الذَّمِّ، نَحْوُ: الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، أَوْ لِلتَّوْكِيدِ، نَحْوُ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ لَا مَفْهُومَ لَهَا. وَقَدْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالتَّوْضِيحِ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي أَوَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَلْيُرَاجَعْ. [النَّوْعُ الثَّالِثُ مَفْهُومُ الْعِلَّةِ] ِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، مِثْلُ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِشِدَّتِهَا، وَالسُّكْرُ لِحَلَاوَتِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الشَّدِيدِ وَالْحُلْوِ لَا يُحَرَّمُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الصِّفَةَ قَدْ تَكُونُ عِلَّةً كَالْإِسْكَارِ، وَقَدْ لَا تَكُونُ، بَلْ تَتِمَّةً لِلْعِلَّةِ كَالسَّوْمِ. فَإِنَّ الْعَيْنَ هِيَ الْعِلَّةُ، وَالسَّوْمَ مُتَمِّمٌ. قَالَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ: وَالْخِلَافُ فِيهِ وَفِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَاحِدٌ، وَصَمَّمَا عَلَى إنْكَارِهِ لَا سِيَّمَا إذَا جَوَّزْنَا تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عِنْدَ ثُبُوتِهَا، وَلَا يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْعِلَّةِ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ فَقَطْ.

تنبيه فهم العلة من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب

[تَنْبِيهٌ فَهْمُ الْعِلَّةِ مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ] تَنْبِيهٌ أَمَّا فَهْمُ الْعِلَّةِ مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] فَإِنَّهُ كَمَا فُهِمَ وُجُوبُ الْقَطْعِ وَالْجَلْدِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهِ، فُهِمَ كَوْنُ السَّرِقَةِ وَالزِّنَى عِلَّةَ الْحُكْمِ. وَهُوَ إنْ كَانَ غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهِ لَكِنْ سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ فَحَوَى الْكَلَامِ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ الْغَزَالِيُّ مِنْ الْمَفْهُومِ، وَأَلْحَقَهُ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ. وَجَعَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ أَقْسَامِ الْمَنْطُوقِ غَيْرِ الصَّرِيحِ. [النَّوْعُ الرَّابِعُ مَفْهُومُ الشَّرْطِ] ِ اعْلَمْ أَنَّ الشَّرْطَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الشَّيْءِ وَلَا مُؤَثِّرًا فِيهِ. وَفِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ: مَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْحَرْفَيْنِ " إنْ، وَإِذَا " أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالظُّرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ وَمُسَبَّبِيَّةِ الثَّانِي.

وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَعْنِي اللُّغَوِيَّ لَا الشَّرْعِيَّ وَالْعَقْلِيَّ، نَحْوُ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ} [الطلاق: 6] فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ إجْمَاعًا، وَيَنْتَفِي بِعَدَمِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ الْمَفْهُومُ. قَالُوا: وَهُوَ أَقْوَى الْمَفَاهِيمِ. وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لَهُ فَاخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْكَرْخِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إلَى لُزُومِ الْقَوْلِ [بِهِ] ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ مُعْظَمِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي " أَدَبِ الْجَدَلِ " عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ - كَمَا نَقَلَهُ فِي " الْمَحْصُولِ " - إلَى الْمَنْعِ، وَقَالُوا: لَا يَنْتَفِي بِعَدَمِهِ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّعْلِيقِ، وَرَجَّحَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيَّ. وَقَدْ احْتَجَّ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي بَابِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ بِحَدِيثِ. يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: لِمَاذَا نَقْصُرُ، وَقَدْ أَمِنَّا. وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ خِفْتُمْ} ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تَعَجَّبْت مِمَّا تَعَجَّبْت مِنْهُ، فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» . قَالَ: وَهُمَا مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ، وَأَرْبَابِ اللِّسَانِ، وَعَرَفَا مِنْ الْآيَةِ أَنَّ الْمَفْهُومَ يَعْنِي الشَّرْطِيَّ حُجَّةً. وَإِنَّمَا تَرَكَاهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اهـ.

تنبيهات الأول الشرط من انعقاد السبب

وَقَدْ بَالَغَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ لِهَذَا الْمَفْهُومِ. وَقَالَ: مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهَا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، فَإِنْ سَلَّمَ الْخَصْمُ اقْتِضَاءَ الشَّرْطِ تَخْصِيصَ الْجَزَاءِ بِهِ تَعَدَّيْنَا هَذِهِ الرُّتْبَةَ، وَإِنْ اسْتَقَرَّ عَلَى النِّزَاعِ اكْتَفَيْنَا بِنِسْبَتِهِ إلَى الْجَهَالَةِ بِاللِّسَانِ أَوْ الْمُرَاغَمَةِ وَالْعِنَادِ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْعَرَبِ قَاطِبَةً أَنَّهَا وَضَعَتْ بَابَ الشَّرْطِ لِتَخْصِيصِ الْجَزَاءِ بِهِ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَنْ أَكْرَمَنِي أَكْرَمْته، فَقَدْ أَشْعَرَ بِاخْتِصَاصِ إكْرَامِهِ بِمَنْ يُكْرِمُهُ. وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنْ يُكْرِمَ مُكْرِمَهُ، وَيُكْرِمَ غَيْرَهُ أَيْضًا، فَقَدْ آلَ الْكَلَامُ مَعَهُ إلَى التَّسْفِيهِ وَالتَّجْهِيلِ وَالْإِحَالَةِ عَلَى تَعَلُّمِ مَذْهَبِ الْعَرَبِ. قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ: لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ أَكْرَمَنِي أَكْرَمْته كَمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ إكْرَامِ مُكْرِمِهِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ، هَلْ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ إكْرَامِ غَيْرِ مُكْرِمِهِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ أَمْ لَا؟ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يُوضَعْ لَأَنْ يُكْرِمَ مُكْرِمَهُ وَيُكْرِمَ غَيْرَ مُكْرِمِهِ، فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى إثْبَاتِ إكْرَامِ غَيْرِ مُكْرِمِهِ بِالِاتِّفَاقِ، لَا بِالْمَنْطُوقِ وَلَا بِالْمَفْهُومِ، وَلَمْ يَصِرْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ. وَإِنَّمَا قَالُوا: إنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا إكْرَامَ مُكْرِمِهِ خَاصَّةً، وَأَمَّا غَيْرُ مُكْرِمِهِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذَا الْوَعْدِ. وَلَا دَلَالَةَ لِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى إكْرَامِهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُحَالٍ وَلَا مُنَافٍ لِاخْتِصَاصِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ. [تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الشَّرْطَ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ] تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: سَبَقَ فِي التَّخْصِيصِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الشَّرْطِ خِلَافٌ فِي أَنَّ مَجْمُوعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ، وَالْحُكْمُ هُوَ الْجَزَاءُ، وَالشَّرْطُ قَيْدٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَالِ. وَهُوَ أَصْلُ الْخِلَافِ هُنَا. فَعَلَى الثَّانِي يُجْعَلُ التَّعْلِيقُ إيجَادًا لِلْحُكْمِ عَلَى

الثاني انتفاء الحكم قبل وجود الشرط

تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِعْدَامًا لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِ. فَصَارَ كُلٌّ مِنْ الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ حُكْمًا شَرْعِيًّا ثَابِتًا بِاللَّفْظِ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا. وَعَلَى الْأَوَّلِ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ سَكْتًا عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِ، فَصَارَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَدَمًا أَصْلًا مَبْنِيًّا عَلَى دَلِيلِ عَدَمِ الثُّبُوتِ لَا حُكْمًا شَرْعِيًّا مُسْتَفَادًا مِنْ النَّظْمِ. قَالَ فِي الْبَدِيعِ: وَنَصَّ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْخِلَافَ عَلَى حَرْفٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَنَا مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْحُكْمِ، فَالتَّعْلِيقُ سَبَبٌ عِنْدَنَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِعَدَمِ الْحُكْمِ فَيُضَافُ إلَى عَدَمِ سَبَبِهِ، وَعِنْدَهُ إلَى انْتِفَاءِ شَرْطِهِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمِلْكِ قَبْلَهُ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَكَذَا تَعْجِيلُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ مُمْتَنِعٌ، وَطَوْلُ الْحَرَّةِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. [الثَّانِي انْتِفَاءِ الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ] الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْمَنْزَعُ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِلَّا لَكَانَ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ نَسْخًا، وَلَخَلَا مِنْ الْفَائِدَةِ. وَكَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَيَقُولُ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّك طَالِقٌ، لَا تَطْلُقُ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ. فَلَوْلَا أَنَّ الشَّرْطَ يَنْفِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ قَبْلَهُ لَوَجَبَ الْوُقُوعُ عَمَلًا بِالْمُقْتَضَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ. . [الثَّالِثُ هَلْ الدَّالُّ عَلَى الِانْتِفَاءِ صِيغَةُ الشَّرْطِ أَوْ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ] الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِ هُوَ اللُّغَوِيُّ سَبَقَ، وَهُوَ مُغَايِرٌ لِلشَّرْعِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِي الْمُسَمَّى بِانْتِفَائِهِ وَلَا يُوجَدُ بِوُجُودِهِ، وَأَمَّا اللُّغَوِيُّ فَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ إلَّا فِي وُجُودِ الْمُعَلَّقِ بِوُجُودِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ لَا غَيْرُ. وَأَمَّا عَدَمُهُ فَإِمَّا لِعَدَمِ مُقْتَضِيهِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ

قَبْلَ التَّعْلِيقِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ كَمَا سَبَقَ. فَالْخِلَافُ حِينَئِذٍ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الشَّرْطِ. وَمَنْ قَالَ: الْمُعَلَّقُ بِكَلِمَةِ " إنْ " صَرِيحٌ، فَدَلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى وُجُودِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِهِ لَيْسَ إلَّا، أَمَّا الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَفْهُومِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، وَلَكِنْ هَلْ الدَّالُّ عَلَى الِانْتِفَاءِ صِيغَةُ الشَّرْطِ أَوْ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ؟ فَمَنْ جَعَلَهُ حُجَّةً، قَالَ بِالْأَوَّلِ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ قَالَ بِالثَّانِي. وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: ثُبُوتُ الْجَزَاءِ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ. وَثَانِيهَا: عَدَمُ الْجَزَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ. وَثَالِثُهَا: دَلَالَةُ النُّطْقِ عَلَى الْأَوَّلِ. وَرَابِعُهَا: دَلَالَتُهُ عَلَى الثَّانِي. فَأَمَّا الدَّلَالَةُ الْأُولَى فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَالرَّابِعُ هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْجَزَاءِ ثَابِتٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ. لَكِنْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ ثُبُوتُهُ لِدَلَالَةِ التَّعْلِيقِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ النُّفَاةِ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَالْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ فِي عِلَّتِهِ، فَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي دَلَالَةِ حَرْفِ الشَّرْطِ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ، لَا عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ. فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْأَصْلِ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ النَّاطِقُ بِكَلَامٍ. وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي سَائِرِ الْمَفَاهِيمِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ وَهُوَ مِنْ الْمُنْكِرِينَ لَهُ: انْتِفَاءُ الْمُعَلَّقِ حَالَ عَدَمِ الشَّرْطِ، لَا يُفْهَمُ مِنْ الْمُتَعَلِّقِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ النَّصِّ. قَالَ: وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الشَّرْطَ هَلْ يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ عِلَّةِ الْحُكْمِ؟ فَعِنْدَنَا يَمْنَعُ، وَعِنْدَهُمْ لَا. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ، كَانَتْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً، وَكَانَتْ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ، وَالشَّرْطُ يَمْنَعُ وُجُودَ الْحُكْمِ، وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ الشَّرْطُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ، لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً حَتَّى تُوجِبَ الْحُكْمَ، فَلَمْ يُتَصَوَّرُ اسْتِنَادُ مَنْعِ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ.

فائدة المنكرين لمفهوم الشرط

[فَائِدَةٌ الْمُنْكِرِينَ لِمَفْهُومِ الشَّرْطِ] فَائِدَةٌ الْغَزَالِيِّ مِنْ الْمُنْكِرِينَ لِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَرَأَى مُوَافَقَتَهُ لِلشَّافِعِيِّ فِي عَدَمِ النَّفَقَةِ لِغَيْرِ الْحَامِلِ، مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ عُمْدَتُهُ فِيهِ مَفْهُومُ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] . قَالَ: إنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَفْهُومِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّ انْقِطَاعَ مِلْكِ النِّكَاحِ يُوجِبُ سُقُوطَ النَّفَقَةِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ. وَالْحَامِلُ هِيَ الْمُسْتَثْنَى فَنَفْيُ غَيْرِ الْحَامِلِ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ، فَانْتَفَتْ نَفَقَتُهَا لَا بِالشَّرْطِ، لَكِنْ بِانْتِفَاءِ النِّكَاحِ الَّذِي كَانَ عِلَّةَ النَّفَقَةِ. وَهَذَا نَظِيرُ امْتِنَاعِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مِنْ الْمَفْهُومِ، وَلِهَذَا جَعَلَهُ تَخْصِيصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ لَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا يَصْلُحُ تَخْصِيصًا، لِأَنَّ الْمُخَصَّصَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، لَا عَدَمًا أَصْلِيًّا، فَهُمَا وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْحُكْمِ لَكِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَخْذِ. وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَصَّصًا وَلَا نَاسِخًا يَبْقَى الْجَوَازُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَإِنْ لَمْ يُفْهَمُ مَدْلُولُهُ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ قَبْلَ هَذِهِ الشُّرُوطِ ثَبَتَ الْحُكْمُ عَلَى الْعَدَمِ. اهـ.

النوع الخامس مفهوم العدد

[النَّوْعُ الْخَامِسُ مَفْهُومُ الْعَدَدِ] ِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ الْعَدَدِ زَائِدًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا، كَقَوْلِهِ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا» ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَهُوَ دَلِيلٌ مُسْتَعْمَلٌ كَالصِّفَةِ سَوَاءٌ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَنَقَلَهُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا الْقَاضِيَانِ: أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى، وَجَرَى عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ "، وَسُلَيْمٌ. قَالَ: وَهُوَ دَلِيلُنَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ، وَالتَّحْرِيمِ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي بَابِ الْجَمَاعَةِ مِنْ " الْمَطْلَبِ ": إنَّهُ الْعُمْدَةُ لَنَا فِي عَدَمِ تَنْقِيصِ الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ عَنْ الثَّلَاثَةِ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَتَعَجَّبْت مِنْ النَّوَوِيِّ فِي قَوْلِهِ: إنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ بَاطِلٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ: وَلَعَلَّهُ سَبَقَ الْوَهْمُ إلَيْهِ مِنْ اللَّقَبِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ عَنْ مَنْصُوصِ أَحْمَدَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُد. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَدُلُّ، وَهُوَ رَأْيِ مُنْكِرِي الصِّفَةِ كَالْقَاضِي، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَقَدْ قَالَ بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: «خَمْسٌ

فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» : إنَّهُ يَبْقَى غَيْرُهَا بِالْعَدَدِ. وَأَجَابَ عَنْ (خَمْسِ رَضَعَاتٍ) بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَنْتِفْ تَحْرِيمُ الرَّضْعَةِ، لِثُبُوتِهِ فِي إطْلَاقِ: {أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] الصَّرِيحِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: كُنْت أَسْمَعُ كَثِيرًا مِنْ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ فِي الْمَخْصُوصِ: إنَّهُ حُجَّةٌ، كَقَوْلِهِ: (خَمْسٌ فَوَاسِقُ) . وَقَوْلِهِ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ، وَدَمَانِ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمَيِّتَةِ غَيْرُ مُبَاحٍ. وَلَقِيت مُحَمَّدَ بْنَ شُجَاعٍ قَدْ احْتَجَّ بِهِ، وَلَا أَعْرِفُ جَوَابَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْهُ. قَالَ: وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يُصَرِّحَ بِالْعَدَدِ كَمَا ذَكَرْنَا فَيَكُونَ حُجَّةً، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُصَرِّحَ بِهِ كَقَوْلِهِ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، إلَى آخِرِ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الرِّبَا فِي السِّتَّةِ، كَمَا قِيلَ: خَمْسٌ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعَدَدِ إذَا وَرَدَ مَقْرُونًا بِاللَّفْظِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، ثُمَّ نَاقَضُوا أَصْلَهُمْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، فَجَعَلُوهُ أَقْوَى النَّصَّيْنِ، وَمَنَعُوا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَقَالُوا: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ التَّغْرِيبِ. وَمِمَّنْ أَنْكَرَ الْعَدَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ بَعْدَ تَفْصِيلٍ سَبَقَهُ إلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ أَيْضًا. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ، فَإِنَّهُ قَالَ:

تنبيه الأول محل الخلاف فيما لم يقصد به التكثير

الْحُكْمُ الْمُقَيَّدُ بِعَدَدٍ إنْ كَانَ مَعْلُولَ ذَلِكَ الْعَدَدِ ثَبَتَ فِي الزَّائِدِ لِوُجُودِهِ فِيهِ كَمَا فِي جَلْدِ مِائَةٍ، أَوْ حُكْمٍ بِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ يَدْفَعَانِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ وَإِلَّا يَلْزَمُ كَمَا أَوْجَبَ مِائَةُ جَلْدَةٍ. وَالنَّاقِصُ عَنْ ذَلِكَ الْعَدَدُ، إنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ وَكَانَ الْحُكْمُ إيجَابًا أَوْ إبَاحَةً ثَبَتَ فِيهِ، كَمَا أَوْجَبَ أَوْ أَبَاحَ جَلْدَ مِائَةٍ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمًا فَلَا يَلْزَمُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيهِ، كَالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، فَالتَّحْرِيمُ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْأُولَى، وَالْإِيجَابُ وَالْإِبَاحَةُ لَا يَلْزَمَانِ قَالَ: فَثَبَتَ أَنَّ قَصْرَ الْحُكْمِ عَلَى الْعَدَدِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا زَادَ أَوْ نَقَصَ إلَّا بِدَلِيلٍ. [تَنْبِيهٌ الْأَوَّلُ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّكْثِيرُ] تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّكْثِيرُ، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِهِ كَالْأَلْفِ وَالسَّبْعِينَ، وَغَيْرِهِمَا، فَمَا جَرَى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَلَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى التَّحْدِيدِ. ذَكَرَهُ ابْنُ فُورَكٍ. وَكَلَامُ الْبَاقِينَ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْحَدِيثِ مُصَرِّحٌ بِهِ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " مَا إذَا كَانَ فِي الْعَدَدِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءَ قُلَّتَيْنِ» فَإِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهِمَا أَوْلَى بِأَنْ لَا يُحْمَلَ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَحَلُّ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ نَفْسِهِ، كَاثْنَيْنِ، وَثَلَاثَةٍ. أَمَّا الْمَعْدُودُ فَلَا يَكُونُ مَفْهُومُهُ حُجَّةً، كَقَوْلِهِ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» ، فَلَا يَكُونُ تَحْرِيمُ مَيْتَةٍ ثَالِثَةٍ مَأْخُوذًا مِنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ. لَكِنَّ النَّاسَ يُمَثِّلُونَ لِمَفْهُومِ الْعَدَدِ بِقَوْلِهِ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ» وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْمُ عَدَدٍ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَدَدَ يُشْبِهُ الصِّفَةَ، وَالْمَعْدُودَ

يُشْبِهُ اللَّقَبَ، وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ مُثَنًّى، أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت: رِجَالٌ، لَمْ يُتَوَهَّمْ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ عَدَدٌ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا مَا يُفْهَمُ مِنْ التَّخْصِيصِ بِالْعَدَدِ، فَكَذَلِكَ الْمُثَنَّى، لِأَنَّهُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِاثْنَيْنِ، كَمَا أَنَّ الرِّجَالَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِمَا زَادَ، فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: (مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ) يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ حِلِّ مَيْتَةٍ ثَالِثَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَةٌ، لَمْ يَدُلَّ عَلَى عَدَمِ حِلِّ أُخْرَى. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ أَشْهَرِ حِجَجِ الْمُثْبِتِينَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ» فَعُلِمَ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ حُكْمَ مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ بِخِلَافِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ قَالَهُ رَجَاءَ حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ بِنَاءً عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ رَجَاءَهَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، لَا لِأَنَّهُ فَهِمَهُ مِنْ التَّقْيِيدِ. وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُمْ بِالطَّعْنِ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالُوا لَمْ يَصِحَّ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّهُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، لَكِنْ بِلَفْظِ سَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: فَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ: لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ، فَهِيَ رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ لَا تَصِحُّ، وَلَا تَجُوزُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ غُفْرَانُ ذَنْبِ الْكَافِرِ، وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ: لَوْ عَلِمْت أَنْ يُغْفَرَ لَهُ إذَا زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ لَزِدْت. قُلْت: هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْجَنَائِزِ بِلَفْظِ: «لَوْ عَلِمْت أَنِّي إنْ زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ، لَزِدْت عَلَيْهَا» .

النوع السادس مفهوم الحال

وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: لَا مَعْنَى لِتَوْهِينِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ، وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ اسْتِغْفَارُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِيلُ عَقْلًا، وَالْإِجَابَةُ مُمْكِنَةٌ. وَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ الْآيَةِ لَكَانَ الزَّائِدُ عَلَى السَّبْعِينَ يَقْتَضِي الْغُفْرَانَ؛ لَكِنَّهُ نَزَلَ بَعْدَهُ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى زَوَالِ حُكْمِ الْمَفْهُومِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَدِينِ. وَتَلَطَّفَ الْقَاضِي ابْنُ الْمُنِيرِ، فَقَالَ: لَعَلَّ الْقَصْدَ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّخْفِيفُ كَمَا فِي دُعَائِهِ لِأَبِي طَالِبٍ. وَقَوْلُهُ: (لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ) أَيْ أَفْعَلُ ذَلِكَ لِأُثَابَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ. وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ: إنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ نُصُوصٌ، لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ؛ بَلْ هِيَ نُصُوصٌ دَالَّةٌ بِقَرَائِن الْأَحْوَالِ إذَا قَصَدَ الْكَثْرَةَ، كَقَوْلِك: جِئْت أَلْفَ مَرَّةٍ. وَمِنْهُ حَثُّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى صَوْمِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تِسْعَةُ أَيَّامٍ خَاصَّةً، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ هَذِهِ الْعَشْرِ لَمْ يَكُنْ نَاذِرًا صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَلَا عَاصِيًا بِهَذَا اللَّفْظِ إجْمَاعًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَشَرَةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى التِّسْعَةِ تَقْرِيبًا. [النَّوْعُ السَّادِسُ مَفْهُومُ الْحَالِ] أَيْ تَقْيِيدُ الْخِطَابِ بِالْحَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]

النوع السابع مفهوم الزمان

وَهُوَ كَالصِّفَةِ. قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ لِرُجُوعِهِ إلَى الصِّفَةِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " وَإِلْكِيَا. وَمَثَّلَاهُ بِالْآيَةِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ: هَذِهِ الْوَاوُ تُنْبِئُ عَنْ حَالِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ، وَتَشْرَبُ اللَّبَنَ بِالرَّفْعِ، أَيْ فِي حَالِ شُرْبِك اللَّبَنَ. فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْحَالِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَا حَالَ فِيهِ حُكْمُهُ بِخِلَافِهِ. [النَّوْعُ السَّابِعُ مَفْهُومُ الزَّمَانِ] ِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ "، وَلَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِكَثْرَةِ الرَّاغِبِينَ إذْ ذَاكَ، كَمَا إذَا أَمَرَهُ بِبَيْعِ الْفِرَاءِ فِي الشِّتَاءِ، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْعِتْقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَعَيَّنَ، وَلَيْسَ لَهُ عِتْقُهُ فِي غَيْرِهِ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقْ زَوْجَتِي يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَهُ وَقَعَ، وَاسْتَشْكَلَهُ النَّوَوِيُّ. نَعَمْ، لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِعَشَرَةٍ فَقَالَ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ هَذَا الْمَالِ الْيَوْمَ، لَا يُجْعَلُ مُقِرًّا بِهِ، لِأَنَّ الْأَقَارِيرَ لَا تَثْبُتُ بِالْمَفْهُومِ، نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ.

النوع الثامن مفهوم المكان

[النَّوْعُ الثَّامِنُ مَفْهُومُ الْمَكَانِ] ِ، نَحْوُ: جَلَسْت أَمَامَ زَيْدٍ، مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ عَنْ شِمَالِهِ، وَنَحْوُ: اضْرِبْ زَيْدًا فِي الدَّارِ، قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] . وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ". وَلَوْ قَالَ: بِعْ فِي مَكَانِ كَذَا، تَعَيَّنَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَهُنَا بَحْثٌ نَفِيسٌ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَنْ يَكُونَا فِي الظَّرْفِ أَمْ لَا؟ مُقْتَضَى كَلَامِ النُّحَاةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ. وَقَدْ فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ مَا لَوْ قَالَ: إنْ قَذَفْت زَيْدًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ فِي الْمَسْجِدِ. وَلَوْ قَالَ إنْ قَذَفْت زَيْدًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْقَاذِفِ فِي الْمَسْجِدِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمُشَخِّصَاتِ الْحِسِّيَّةِ، فَيُشْتَرَطُ وُجُودُهَا كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِلَّا فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ الْفَاعِلِ فِي الظَّرْفِ كَالثَّانِيَةِ. وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَدِيثِ: «صَلَّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ» فَهُمْ يَقُولُونَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، وَسُهَيْلٌ خَارِجَهُ. قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْوَاقِعِ فَلَيْسَ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ فُرْجَةٌ حَتَّى يَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِثْلُهُ: «الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ» ، هَلْ

تنبيه مفهوم ظرفي الزمان والمكان راجع إلى الصفة

يَمْتَنِعُ عَلَى مَنْ بِالْمَسْجِدِ أَنْ يَبْصُقَ إلَى خَارِجِ الْمَسْجِدِ؟ فِيهِ هَذَا الْعَمَلُ. [تَنْبِيهٌ مَفْهُومُ ظَرْفَيْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ رَاجِعٌ إلَى الصِّفَةِ] ِ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ] أَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى رُجُوعِ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ إلَى الصِّفَةِ، لِأَنَّ الظَّرْفَيْنِ يُقَدَّرُ فِيهِمَا الصِّفَةُ. فَإِذَا قُلْت: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، فَالْمُرَادُ كَائِنٌ فِيهَا. وَإِذَا قُلْت: الْقِيَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَالْمُرَادُ وَاقِعٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْكَوْنُ وَالْوُقُوعُ صِفَتَانِ. [النَّوْعُ التَّاسِعُ مَفْهُومُ الْغَايَةِ وَمَدُّ الْحُكْمِ بِإِلَى وَحَتَّى] كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَقَوْلِهِ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ الْحَوْلِ، لِأَنَّ الْحَوْلَ جُعِلَ غَايَةً لِلشَّيْءِ، وَغَايَةُ الشَّيْءِ آخِرُهُ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، فَقَالَ فِي " الْأُمِّ ": وَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ غَايَةً، فَالْحُكْمُ بَعْدَ مُضِيِّ الْغَايَةِ فِيهِ غَيْرُهُ قَبْلَ مُضِيِّهَا. ثُمَّ مَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء: 101] الْآيَةَ. وَكَانَ فِي شَرْطِ الْقَصْرِ لَهُمْ بِحَالَةٍ مَوْصُوفَةٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ غَيْرُ الْقَصْرِ. اهـ.

وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ جَمْعٌ مِنْ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ الشَّرْطِيِّ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُعْظَمُ نُفَاةِ الْمَفْهُومِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ، وَصَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي ذَلِكَ. وَخَالَفَ الْأَشْعَرِيَّةُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": صَارَ مُعْظَمُ نُفَاةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ إلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِحُرُوفِ الْغَايَةِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ وَرَاءَ الْغَايَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَكُنَّا قَدْ نَصَرْنَا إبْطَالَ حُكْمِ الْغَايَةِ فِي كُتُبٍ، وَالْأَوْضَحُ عِنْدَنَا الْآنَ الْقَوْلُ بِهَا، فَإِذَا قَالَ: اضْرِبْ عَبْدِي حَتَّى يَتُوبَ، اقْتَضَى ذَلِكَ بِالْوَضْعِ الْكَفَّ عَنْ ضَرْبِهِ إذَا تَابَ، وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْمِيَتِهَا حُرُوفَ الْغَايَةِ، وَغَايَةُ الشَّيْءِ نِهَايَتُهُ. فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بَعْدَهَا لَمْ تَفْدِ تَسْمِيَتُهَا غَايَةً. قَالَ: وَهَذَا مِنْ تَوْقِيفِ اللُّغَةِ مَعْلُومٌ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ مَوْضُوعٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّك تَقْدِرُ فِي غَايَةِ الطُّهْرِ فَتَقُولُ فِي: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] تَقْدِيرُهُ فَاقْرُبُوهُنَّ، وَفِي: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَتَحِلُّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ الْقَاضِي يَقْتَضِي أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَنْطُوقِ لَا الْمَفْهُومِ فَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي، الْمُسْتَوْفَى "، وَابْنُ الْحَاجِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى " الْمُسْتَصْفَى ": عَدُّ الْأُصُولِيِّينَ الْمُغَيَّا " بِإِلَى، وَحَتَّى " فِي الْمَفْهُومِ جَهْلٌ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ بِمَا يَقْتَضِيهِ " حَتَّى وَإِلَى " لَا مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ.

تنبيه فسروا الغاية بمد الحكم بإلى وحتى

قُلْت: وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِذَلِكَ فِي الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مُرْتَبِطٌ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ كَالْغَايَةِ. وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى الْمَنْعِ تَصْمِيمًا عَلَى إنْكَارِ الْمَفْهُومِ. وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ الْأَزْدِيِّ تِلْمِيذِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَقَدْ سَبَقَ فِي التَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ مَا يَسْتَدْعِي تَجْدِيدَ الْعَهْدِ بِهِ هَاهُنَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ هُنَا كَخِلَافِ مَفْهُومِ الْحَصْرِ، قِيلَ: لَا يُفِيدُ. وَقِيلَ: مَنْطُوقٌ. وَقِيلَ: مَفْهُومٌ. . [تَنْبِيهٌ فَسَّرُوا الْغَايَةَ بِمَدِّ الْحُكْمِ بِإِلَى وَحَتَّى] تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: فَسَّرُوا الْغَايَةَ بِمَدِّ الْحُكْمِ بِإِلَى وَحَتَّى وَأَلْحَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ مَدَّهَا بِصَرِيحِ الْكَلَامِ، نَحْوُ: صُومُوا صَوْمًا آخِرُهُ اللَّيْلُ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ. الثَّانِي: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ السَّابِقَ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْمُغَيَّا؟ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ذَلِكَ كَلَامٌ فِي الْغَايَةِ نَفْسِهَا، وَالْكَلَامُ هُنَا فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ. فَلَنَا فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ثَلَاثُ قَضَايَا: غَسْلُ مَا دُونَ الْمِرْفَقِ، وَهُوَ بِالْمَنْطُوقِ، وَغَسْلُ الْمِرْفَقِ، وَهُوَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْغَايَةَ هَلْ تَدْخُلُ؟ وَعَدَمُ غَسْلِ مَا بَعْدَ الْمِرْفَقِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَفْهُومِ. الثَّالِثُ: إذَا تُصُوِّرَ فِي الْغَايَةِ تَطَاوُلٌ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِأَوَّلِهَا أَمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَامِهَا؟ هَذَا الْأَصْلُ وَلَّدْته مِنْ الْخِلَافِ فِي أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ يَجِبُ عِنْدَنَا

النوع العاشر مفهوم الاستثناء

إذَا فَرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، لِأَنَّهُ بِهِ يُسَمَّى مُتَمَتِّعًا. وَقَالَ مَالِكٌ: مَا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَا يَجِبُ دَمُ التَّمَتُّعِ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا لَمْ يَرْمِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. وَالدَّلِيلُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] فَنَحْنُ نَقُولُ: كَلِمَةُ " إلَى " لِلْغَايَةِ، فَيُكْتَفَى بِأَوَّلِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِيعَابُ، وَالْخَصْمُ يَشْرِطُهُ، وَمَبْنَى حَمْلِنَا قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَإِنَّ اسْتِيعَابَ جَمِيعِ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ شَرْطًا، فَكَذَا هُنَا. [النَّوْعُ الْعَاشِرُ مَفْهُومُ الِاسْتِثْنَاءِ] ِ، نَحْوُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إلَّا زَيْدٌ، وَنَحْوُ: مَا قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدٌ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ضِدِّ الْحُكْمِ السَّابِقِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لِلْمُسْتَثْنَى، فَإِنْ كَانَتْ الْقَضِيَّةُ السَّابِقَةُ نَفْيًا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مُثْبَتًا، أَوْ إثْبَاتًا كَانَ مَنْفِيًّا. وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ، كَالْقَاضِي، وَالْغَزَالِيِّ، وَأَصَرَّتْ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْإِنْكَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا عَمَلَ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمَنْفِيِّ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهُ الثُّبُوتُ فَقَطْ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ، فِي بَابِ التَّخْصِيصِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الثُّبُوتِ: قِيلَ: بِالْمَفْهُومِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بِالْمَنْطُوقِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَا لَهُ عَلَيَّ إلَّا دِينَارٌ، كَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالدِّينَارِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مَنْطُوقٌ لَمَا ثَبَتَتْ الْمُؤَاخَذَةُ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ.

النوع الحادي عشر مفهوم الحصر

وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فَقَالَ: نَحْوُ قَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، وَ «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» هِيَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مَعًا بِالْمَنْطُوقِ وَالْآخَرُ بِالْمَفْهُومِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: هُمَا جَمِيعًا بِالْمَنْطُوقِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالْمَفْهُومِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (لَا صِيَامَ) نَفْيٌ لِلصِّيَامِ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ، وَإِثْبَاتٌ لَهُ عِنْدَ وُجُودِهَا، كَقَوْلِك: لَا تُعْطِ زَيْدًا شَيْئًا إلَّا أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ، فَكَانَ الْعَطَاءُ وَالْمَنْعُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا، فَكَذَلِكَ هُنَا. اهـ. [النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ مَفْهُومُ الْحَصْرِ] ِ] وَلَهُ صِيَغٌ: الْأُولَى: وَهِيَ أَقْوَاهَا تَقْدِيمُ النَّفْيِ عَلَى إلَّا نَحْوُ: مَا قَامَ إلَّا زَيْدٌ، يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِثْبَاتِهِ لَهُ، وَنَحْوُ: لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ، وَهُوَ أَحَدُ نَوْعَيْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ، بَلْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ ذَلِكَ مَنْطُوقٌ لَا مَفْهُومٌ، وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " الْمُلَخَّصِ "، وَرَجَّحَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ ". وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: النَّفْيُ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْإِثْبَاتِ فَإِنْ كَانَ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ مَا عَدَاهُ، كَقَوْلِهِ: «لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ» فَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِالثَّالِثَةِ. وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءً كَقَوْلِهِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ» فَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا بِالطُّهُورِ، وَيَكُونُ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتَ فِي " إنَّمَا " مَوْقُوفًا أَنْ يَجْعَلَ مَا عَدَا النَّفْيَ مَوْقُوفًا.

وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» يُفِيدُ إجْزَاءَ الصَّلَاةِ بِالطُّهُورِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُفِيدُ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يُفِيدُ إجْزَاءَهَا. وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (إلَّا بِطُهُورٍ) يَقْتَضِي رَدَّ جَمِيعِ مَا نَفَاهُ بِقَوْلِهِ: (لَا صَلَاةَ) وَإِثْبَاتُهُ. قَالَ: وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ، وَذَهَبَ ابْنُ الدَّقَّاقِ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي النَّوَافِلِ، فَيُقَالُ: لَا صَلَاةَ نَافِلَةٍ إلَّا بِطَهَارَةٍ. وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا وَإِجْزَائِهَا بِالطَّهَارَةِ. وَقَالَ إِلْكِيَا: الْمَفْهُومُ يَجْرِي فِي النَّفْيِ كَالْإِثْبَاتِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ. قَالَ: وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إذَا قَالَ: لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ، كَانَ نَصًّا فِي الْقَطْعِ فِي الرُّبْعِ مَفْهُومًا فِي الَّذِي فَوْقَهُ وَدُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " أَمَالِيهِ ": الْإِثْبَاتُ بَعْدَ النَّفْيِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ مُفِيدٌ لِلْحَصْرِ، أَيْ يَنْفَرِدُ مَا بَعْدَ " إلَّا " بِذَلِكَ دُونَ الْعَامِّ الْمُقَدَّرِ. فَإِذَا قُلْت: مَا جَاءَ إلَّا زَيْدٌ، فَزَيْدٌ مُنْفَرِدٌ بِالْمَجِيءِ دُونَ الْآخَرِينَ الْمُقَدَّرِينَ فِي: مَا جَاءَ أَحَدٌ. وَإِذَا قُلْت: مَا زَيْدٌ إلَّا بَشَرٌ، لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ بَشَرًا غَيْرُهُ، لِأَنَّك إنَّمَا أَثْبَتَّهَا لَهُ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِنَفْيِهَا عَمَّنْ عَدَاهُ. وَهَكَذَا فِي كُلِّ مُسْتَثْنًى هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَالصِّفَةِ وَالْحَالِ. نَحْوُ: مَا جَاءَ زَيْدٌ إلَّا رَاكِبًا، وَمَا زَيْدٌ إلَّا عَالِمٌ، لَمْ تُرِدْ نَفْيَ الرُّكُوبِ وَالْعِلْمِ عَمَّنْ عَدَاهُ، وَإِنَّمَا أَرَدْت ثُبُوتَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَهُ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ. فَإِنْ قُلْت: فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْفِيٌّ عَامٌّ، وَهَذَا مُثْبَتٌ مِنْهُ دُونَهُ فَيَكُونَ الْمَعْنَى إثْبَاتَ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ. وَهُوَ غَيْرُ

مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّك إذَا قُلْت: مَا زَيْدٌ إلَّا قَائِمٌ، لَمْ يَسْتَقِمْ نَفْيُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ عَنْ زَيْدٍ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كَانَ الْقِيَاسَ، وَلَكِنَّهُ أَتَى عَلَى غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ لَامْتَنَعَ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْبَابِ فِيهِ، فَيَفُوتُ كُلُّ مَعْنَاهُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَصَدُوا إثْبَاتَ ذَلِكَ وَنَفْيَ مَا يَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ مِمَّا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» فَإِنَّ الْمَعْنَى إثْبَاتُ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ، لَا إثْبَاتُ الطَّهَارَةِ لَهَا خَاصَّةً، يَلْزَمُ أَنَّهَا إذَا وُجِدَتْ وُجِدَتْ، إذْ قَدْ تُوجَدُ الطَّهَارَةُ وَلَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ آخَرَ. الثَّانِيَةُ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي الْقُوَّةِ: الْحَصْرُ بِإِنَّمَا، نَحْوُ: إنَّمَا زَيْدٌ فِي الدَّارِ، مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي غَيْرِهَا. قَالَ إِلْكِيَا: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْغَايَةِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " فَقَالَ: وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ، وَوَالَاهُ، ثُمَّ مَاتَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِيرَاثُهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ أَعْتَقَ. وَالثَّانِي: لَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ عَمَّنْ أَعْتَقَ. وَلِهَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي ": مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا فِي قُوَّةِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ. وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو حَامِدٍ، وَالْمَرْوَرُوذِيُّ إلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فِي قُوَّةٍ (مَا، وَإِلَّا) ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَنْفِيَّ فِيهَا بِالْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ عَلَى وَجْهَيْنِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَإِذَا انْتَفَى حُكْمُ الْإِثْبَاتِ عَمَّا عَدَاهُ، فَقَدْ

مفهوم الحصر هل يفيد بالمنطوق أو المفهوم

اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُوجِبِ نَفْيِهِ عَنْهُ. أَحَدُهُمَا: أَوْجَبَهُ لِسَانُ الْعَرَبِ لُغَةً. وَالثَّانِي: أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْخِطَابِ شَرْعًا. قَالَ: وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا النَّوْعِ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ جَوَابًا أَوْ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ. اهـ. وَقَدْ قَالَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: " إنَّمَا " لِتَحْقِيقِ الْمُتَّصِلِ، وَتَمْحِيقِ الْمُنْفَصِلِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْقَاضِي الْقَوْلَ بِهِ بَعْدَ تَرَدُّدِهِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ قَوْلِك: إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وَلَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ. وَقَدْ سَمَّى أَهْلُ اللُّغَةِ ذَلِكَ تَمْحِيقًا وَتَحْقِيقًا، وَنَفْيًا وَإِثْبَاتًا، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ اقْتِضَاءُ النَّفْيِ، ثُمَّ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِدَلِيلٍ. فَمَنْ قَالَ بِالْمَفْهُومِ، قَالَ: هَذَا نَقِيضُ النَّفْيِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ تَرَدَّدَ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْحَصْرِ، مُحْتَمَلٌ فِي التَّأْكِيدِ، وَاخْتَارَهُ. وَقَدْ سَبَقَ فِي فَصْلِ الْحُرُوفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى " إنَّمَا " بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ. وَفِيهِ مَا يَتَعَيَّنُ اسْتِحْضَارُهُ هُنَا. الثَّالِثَةُ: حَصْرُ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ سَوَاءٌ كَانَ الْخَبَرُ مَقْرُونًا بِاللَّامِ نَحْوَ: الْعَالِمُ زَيْدٌ، أَوْ مُضَافًا نَحْوَ: صَدِيقِي زَيْدٌ، يُفِيدُ حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ عَهْدٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِإِفَادَتِهِ الْحَصْرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْهَرَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَأَنْكَرَهَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَتَبِعَهُمْ الْآمِدِيُّ. [مَفْهُومُ الْحَصْرِ هَلْ يُفِيدُ بِالْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ] وَاخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الْحَصْرَ بِالْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ؟ فَذَهَبَ

الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ إلَى الْأَوَّلِ، وَاسْتَدَلَّ فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} [الحشر: 24] قَالَ: وَهَذَا التَّرْكِيبُ يُفِيدُ الْحَصْرَ. وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى الثَّانِي. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِنَّمَا أَفَادَ الْحَصْرَ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْ الْخَبَر أَوْ مُسَاوِيًا، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ لُغَةً وَعَقْلًا، فَلَا يَجُوزُ: الْحَيَوَانُ إنْسَانٌ، وَلَا: الزَّوْجُ عَشَرَةٌ، بَلْ: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَالْعَشَرَةُ زَوْجٌ. وَالْعَرَبُ لَمْ تَتَّبِعْ إلَّا الصِّدْقَ، وَالْمُسَاوِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا فِي مُسَاوِيهِ. وَالْأَخَصُّ مَحْصُورًا فِي أَعَمِّهِ. وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ أَخَصَّ، وَلَا مُسَاوِيًا. قَالُوا: فَلَوْ لَمْ تَقْتَضِ الْحَصْرَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ أَعَمَّ مِنْ الْخَبَرِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. بَيَانُهُ: أَنَّا إذَا قُلْنَا: الْعَالِمُ زَيْدٌ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلْجِنْسِ قَطْعًا وَلَا لِلْعَهْدِ، فَتَعَيَّنَ. أَنْ تَكُونَ لِمَاهِيَّةِ الْعَالِمِ، وَتِلْكَ الْمَاهِيَّةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِ زَيْدٍ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ انْحَصَرَتْ الْعَالِمِيَّةُ فِي زَيْدٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِهِ فَتَكُونُ أَعَمَّ مِنْ زَيْدٍ، وَزَيْدٌ أَخَصُّ مِنْهَا. وَقَدْ أَخْبَرْتُمْ عَنْهَا فَلَزِمَ الْإِخْبَارُ بِالْأَعَمِّ عَنْ الْأَخَصِّ، كَمَا ادَّعَيْنَا. قِيلَ: وَهَذَا الدَّلِيلُ إنَّمَا يَتِمُّ بِجَعْلِ الْعَالِمِ مُخْبِرًا عَنْهُ. وَزَيْدٌ مُخْبِرًا بِهِ. أَمَّا لَوْ جَعَلَ الْعَالِمَ خَبَرًا مُقَدَّمًا عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ: الْعَالِمُ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ الْعَالِمُ. ثُمَّ نَقُولُ: الْعَالِمُ زَيْدٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَأَيْضًا لَوْ جَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْعَالِمِ لِلْمَعْهُودِ، وَهِيَ مَعْنَى الْكَامِلِ وَالْمُشْتَهِرِ فِي الْعَالِمِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ، وَلَا يُفِيدُ الْحَصْرَ. هَذَا إذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ مَعْرِفَتَيْنِ، وَقَدْ خُيِّرْنَا فِيهِمَا، أَمَّا إذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ مَعْرِفَةً وَالْخَبَرُ نَكِرَةً، نَحْوُ: زَيْدٌ قَائِمٌ، فَلَا حَصْرَ فِيهَا قَطْعًا، فَإِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ زَيْدٌ فِي الْقِيَامِ قَطْعًا. وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ: صَدِيقِي زَيْدٌ، فَلَيْسَ

بِصَحِيحٍ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ، وَيَكُونُ الْمُبْتَدَأُ لَفْظًا خَاصًّا لَا عَامًّا، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي هَذَا الْغَلَطِ كَوْنُ الصَّدَاقَةِ لَفْظًا عَامًّا. نَعَمْ، هُوَ عَامٌّ إذَا انْفَرَدَ فَلَمْ يَقَعْ خَبَرًا وَلَا مُبْتَدَأً وَلَا صِفَةً، فَيُقَالُ: " صَدِيقِي " يَصْلُحُ لِلْخَبَرِيَّةِ عَنْ وَاحِدٍ وَعَنْ أَكْثَرَ، فَإِذَا وُصِفَ بِهِ مَوْصُوفٌ أَوْ أُخْبِرَ بِهِ عَنْ مُبْتَدَأٍ كَانَ مُفْرَدًا إذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ أَوْ الْمَوْصُوفُ مُفْرَدًا. فَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ أَوْ الْمَوْصُوفُ مُثَنًّى أَوْ جَمْعًا كَانَ هُوَ كَذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمُقَدَّرَةُ فِيهِ، فَإِنَّمَا تُقَدَّرُ عَلَى وَفْقِ مَنْ تَعُودُ عَلَيْهِ. مِثَالُهُ: زَيْدٌ صَدِيقِي هُوَ، وَالزَّيْدَانِ صَدِيقِي هُمَا، وَالزَّيْدُونَ صَدِيقِي هُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ: زَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّك إنْ أَخَّرْت صَدِيقِي كَانَتْ الصَّدَاقَةُ غَيْرَ مَحْصُورَةٍ فِي زَيْدٍ، وَإِنْ قَدَّمْته كَانَتْ مَحْصُورَةً فِيهِ، وَكَلَامُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ فِي الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ غَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَزَعَمَ أَيَّهُمَا قُدِّمَ فَهُوَ الْمُبْتَدَأُ. وَقَالَ قَوْمٌ: بِاسْتِوَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَوَجَّهَ قَوْمٌ قَوْلَ الْإِمَامِ: إنَّ " صَدِيقِي " مُقْتَضٍ لِلْخَبَرِيَّةِ، لِإِفَادَتِهِ النِّسْبَةَ إلَى زَيْدٍ، فَإِذَا كَانَ خَبَرًا وَأَخَّرْته لَمْ يَلْزَمْ الْحَصْرُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ أَعَمَّ، كَقَوْلِك: زَيْدٌ عَالِمٌ، فَإِذَا قَدَّمْته مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا فَلَمْ تُقَدِّمْهُ إلَّا لِغَرَضٍ، وَلَا غَرَضَ إلَّا قَصْدُ الْحَصْرِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْرِفَتَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا كَانَ أَسْبَقُهُمَا الْمُبْتَدَأَ، فَإِذَا قُلْت: زَيْدٌ صَدِيقِي، فَلَا حَصْرَ لِجَوَازِ عُمُومِ الْخَبَرِ، وَإِذَا قُلْت: صَدِيقِي زَيْدٌ أَفَادَ الْحَصْرَ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ صَدِيقِي، فَلَوْ قَدَّرْت الْخَبَرَ عَامًّا لَمْ يَسْتَقِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُطَابَقَتِهِ، وَأَنْ لَا صَدِيقَ سِوَاهُ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَيْسَ الْقَوْلَانِ بِقَوِيَّيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْمَعْرِفَتَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْمُقَدَّمُ هُوَ الْمُبْتَدَأُ

المبتدأ إذا كان معرفة والخبر نكرة هل يفيد الحصر

مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَحِينَئِذٍ: فَقَوْلُك: صَدِيقِي زَيْدٌ أَوْ زَيْدٌ صَدِيقِي، إمَّا أَنْ تُرِيدَ بِالصَّدِيقِ مَعْهُودًا أَوْ عُمُومَ الْأَصْدِقَاءِ، فَإِنْ قَصَدَ وَاحِدًا، وَقَدَّمَ زَيْدًا أَوْ أَخَّرَهُ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَإِنْ قَصَدَ عُمُومَ الْأَصْدِقَاءِ وَقَدَّمَ زَيْدًا أَوْ أَخَّرَهُ، وَجَبَ الْعُمُومُ. فَإِذَا قُلْت: صَدِيقِي زَيْدٌ، أَيْ إنَّ كُلَّ صَدَاقَةٍ لِي مَحْصُورَةٌ فِي زَيْدٍ، أَوْ زَيْدٌ صَدِيقِي، فَزَيْدٌ هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ، لَا صَدِيقَ سِوَاهُ، وَجَبَ الْحَصْرُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَلَوْ سَلَّمَ تَعْيِينَ " صَدِيقِي " لِلْخَبَرِيَّةِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْخَاصُّ فَلَا عُمُومَ فِي التَّقْدِيمِ أَوْ التَّأْخِيرِ أَوْ أُرِيدَ الْمَعْنَى فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ. وَإِنَّمَا فُهِمَ التَّغَايُرُ لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ: الْعَالِمُ زَيْدٌ، وَلَيْسَ هُوَ نَظِيرَهُ. [الْمُبْتَدَأِ إذَا كَانَ مَعْرِفَةً وَالْخَبَرُ نَكِرَةً هَلْ يُفِيدُ الْحَصْرَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُبْتَدَأِ إذَا كَانَ مَعْرِفَةً، وَالْخَبَرُ نَكِرَةً، هَلْ يُفِيدُ الْحَصْرَ؟ فَقِيلَ: لَا يُفِيدُ أَصْلًا. وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُ «فَلْيَتَّقِ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» . وَقِيلَ: يُفِيدُهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ يُفِيدُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ: إنَّهُ بِالْمَفْهُومِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلُوهُ. قَالَ: وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ الْمُتَلَقَّى مِنْ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ. وَمَنْ قَالَ: زَيْدٌ صَدِيقِي لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ الصَّدَاقَةِ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَوْ قَالَ: صَدِيقِي زَيْدٌ اقْتَضَاهُ. قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ ادِّعَاءُ إجْمَاعِ أَهْلِ اللِّسَانِ عَلَيْهِ،

مسألة في اللام الجنسية

لِأَنَّهُ غَيَّرَ نَظْمَ الْكَلَامِ، فَدَلَّ عَلَى قَصْدِ الِاهْتِمَامِ وَحَصْرِ الصَّدَاقَةِ فِيهِ، وَهُوَ تَابِعٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَكَذَلِكَ اخْتَارَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ مَنْطُوقٌ، وَجَعَلَهُ دُونَ " إنَّمَا " فِي الْقُوَّةِ، وَكَذَلِكَ إِلْكِيَا، وَقَالَ: إنَّ تَلَقِّي الْحَصْرِ فِيهِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، فَجَعَلَ جِنْسَ التَّحْرِيمِ مَحْصُورًا فِي الْمُسْكِرِ. وَالصَّدَاقَةُ مُبْتَدَأً، وَالْمُبْتَدَأُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِ وَضْعًا، وَالصَّدَاقَةُ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِصَرْفِهَا إلَى الْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جِنْسُ الصَّدَاقَةِ مَحْصُورٌ فِي زَيْدٍ. وَلَوْ قَالَ: زَيْدٌ صَدِيقِي، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا صَدِيقَ سِوَاهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الصَّدَاقَةَ خَبَرًا، وَلَمْ يَجْعَلْهَا مُبْتَدَأً، فَلَمْ يَعْرِفْهُ الْمُخَاطَبُ. قَالَ: وَيُتَلَقَّى الْحَصْرُ مِنْ فَحَوَى اللَّفْظِ، وَنَظْمِ الْكَلَامِ. قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ: إنَّ تَلَقِّي الْمَفْهُومِ مِنْ الْفَحْوَى لَا يَسْقُطُ، لِظُهُورِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ الْعَادَةِ أَوْ السُّؤَالِ حَتَّى يَجُوزَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] فِي نَفْيِ الْحُكْمِ حَالَةَ الْمُصَافَاةِ. قَالَ: فَيَرْجِعُ حَاصِلُ نَظَرِ الْإِمَامَ إلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَكِنَّ حُكْمَ الْمُخَالَفَةِ يُتَلَقَّى مِنْ الْفَحْوَى، فَهُوَ يَدُلُّ بِالْمَنْطُوقِ لَا بِالْمَفْهُومِ. اهـ. [مَسْأَلَةٌ فِي اللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ] مَسْأَلَةٌ هَذِهِ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي اللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ أَمَّا الَّتِي لِلتَّعْرِيفِ أَيْ لِلْعَهْدِ فَلَا. ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الذَّخَائِرِ " مِنْ الْفُقَهَاءِ. قَالَ فِي بَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى زَوَائِدِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي

مسألة إفادة ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر الحصر

بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَبْلَهُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» فَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّهَا لِلْبَائِعِ فِيمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. فَأَجَابَ: لِلْمَذْهَبِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ لِلتَّعْرِيفِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْخَرَاجُ فِي مُقَابَلَةِ مِثْلِ هَذَا بِالضَّمَانِ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ قِيَامُ الدَّلِيلِ مِنْ خَارِجِ أَنَّ ضَمَانَ الْغَاصِبِ وَالْمَقْبُوضِ عَنْ فَسْخِ الْبَيْعِ وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الضَّمَانُ فِيهَا، وَلَا خَرَاجَ لِلضَّامِنِ بِالضَّمَانِ. وَقَدْ كَانَتْ قِصَّةُ الْحَدِيثِ فِي بَيْعٍ وُجِدَ فِيهِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخَرَاجِ بِمِلْكٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَمَانًا. إذْ لَا حَصْرَ إلَّا فِي اللَّقَبِ وَاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ. هَذَا كَلَامُهُ. [مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ الْحَصْرَ] الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، نَحْوُ: زَيْدٌ هُوَ الْعَالِمُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9] . {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] . ذَكَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ ": صَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] . فَإِنَّهُ لَمْ يُسَقْ إلَّا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُمْ الْغَالِبُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43] .

مسألة تقديم المعمولات على عواملها

{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ إلَّا لِلْفَائِدَةِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] سِوَى الْحَصْرِ. [مَسْأَلَةٌ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولَاتِ عَلَى عَوَامِلِهَا] تَقْدِيمُ الْمَعْمُولَاتِ عَلَى عَوَامِلِهَا، نَحْوُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] . وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " وَغَيْرُهُ بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحَصْرِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا خِلَافَ فِي إفَادَةِ هَذَا الْحَصْرِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ لَا الْمَنْطُوقِ. وَذَكَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ أَيْضًا. وَرَدَّهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " شَرْحِ الْمُفَصَّلِ "، وَالشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ. وَقَالَ: الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِلِاهْتِمَامِ وَالْعِنَايَةِ. فَقَالَ: كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الَّذِي شَأْنُهُ أَهَمُّ، وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعَنَى، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مُهْتَمًّا بِهِمَا أَوْ بِعِنَايَتِهِمَا. اهـ. وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْفَاعِلِ الَّذِي يَتَعَدَّاهُ فِعْلُهُ إلَى مَفْعُولٍ. قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُك: ضَرَبَ زَيْدًا عَبْدُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ. . . إلَى آخِرِهِ. وَلَيْسَ هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ، لَا فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْفَاعِلِ. وَذَكَرَهُ فِي بَابِ: " مَا يَكُونُ فِيهِ الِاسْمُ مَبْنِيًّا عَلَى الْفِعْلِ ". قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُك: زَيْدًا ضَرَبْت، فَالِاهْتِمَامُ وَالْعِنَايَةُ هُنَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ سَوَاءٌ مِثْلُهُ فِي ضَرَبَ زَيْدٌ عُمْرًا، وَضَرَبَ زَيْدًا

عَمْرٌو، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي شَابَهُ بِهَا تَقْدِيمَ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ أَوْ الْعَكْسِ فِي الْمِثَالَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إلَّا الِاهْتِمَامُ، وَلَا يَبْقَى ذَلِكَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهَا إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْعَامِلِ وَهِيَ الْحَصْرُ. وَالْحَقُّ أَنَّ التَّقْدِيمَ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ، وَقَدْ يُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِقَرَائِنَ، وَهُوَ الْغَالِبُ، وَقَدْ اجْتَمَعَ الِاخْتِصَاصُ وَعَدَمُهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40 - 41] فَإِنَّ التَّقْدِيمَ فِي الْأُولَى قَطْعًا. لِلِاخْتِصَاصِ، وَفِي " إيَّاهُ " قَطْعًا لِلِاخْتِصَاصِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ غَالِبٌ لَا لَازِمٌ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 84] {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10] إنْ جَعَلْنَا مَا بَعْدَ الظَّرْفِ مُبْتَدَأً. وَقَدْ رَدَّ صَاحِبُ " الْفَلَكِ الدَّائِرِ " الْقَاعِدَةَ بِالْآيَةِ الْأُولَى. قِيلَ: وَرَدَّ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " شَرْحِ الْمُفَصَّلِ " الْقَاعِدَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر: 66] مَعَ قَوْلِهِ: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا} [الزمر: 2] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ سَوَاءٌ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، فَإِنَّهُ حَيْثُ أَخَّرَ الْمَعْمُولَ أَتَى بِمَا يَنُوبُ عَنْ التَّقْدِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مُخْلِصًا} وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ مَعَ التَّقْدِيمِ دَلَّ عَلَى إفَادَتِهِ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ، وَلَعَلَّ ابْنَ الْحَاجِبِ أَرَادَ الْآيَةَ الْأُخْرَى، وَهِيَ: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14] فَقَدْ ذَكَرَ " مُخْلِصًا " فِيهِمَا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ فِي " الْفَلَكِ الدَّائِرِ ": الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ إلَّا بِالْقَرَائِنِ، وَإِلَّا فَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ التَّصْرِيحُ بِهِ مَعَ عَدَمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31] وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الرَّوَاسِي لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْأَرْضِ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118] وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِهِ، فَقَدْ كَانَتْ حَوَّاءُ كَذَلِكَ. وَقَوْلِهِ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَا نَفَشَتْ إلَّا فِيهِ، لِأَنَّ النَّفْشَ: انْتِشَارُ الْغَنَمِ مِنْ غَيْرِ رَاعٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] فُقِدَ الظَّرْفُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ إلَّا حُكْمَهُمْ. وَقَالَ: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصْلِحْ زَوْجَةَ أَحَدٍ غَيْرِهِ. قَالَ: وَفِي الْكِتَابِ أَلْفُ آيَةٍ مِثْلُ هَذِهِ تُبْطِلُ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لَا بِمُجَرَّدِ الصِّيغَةِ. اهـ. وَأَنْتَ إذَا عَرَفْت قَيْدَ الْعِلَّةِ سَهُلَ الْأَمْرُ. نَعَمْ، لَهُ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْمُولُ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَضْعِ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى مُقَدَّمًا حَقِيقَةً، كَأَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمُبْتَدَأِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْمُولًا لِخَبَرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِمَصْلَحَةِ التَّرْكِيبِ، مِثْلُ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ، وَالْحَصْرَ، وَالْقَصْرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ مِنْ الْحَصْرِ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُقَيِّدٌ لِلِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ. وَحَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى

مسألة إفادة لام التعريف في الخبر الحصر

أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ حُجَّةٌ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفِدْ الْحَصْرَ لَمْ يُفِدْ الِاخْتِصَاصَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ. وَخَالَفَهُمْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ إعْطَاءُ الْحُكْمِ لِشَيْءٍ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ، فَهُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَالْحَصْرُ إعْطَاءُ الْحُكْمِ لَهُ وَالتَّعَرُّضُ لِنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، فَفِي الِاخْتِصَاصِ قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي الْحَصْرِ قَضِيَّتَانِ. فَإِذَا قُلْت: لَا قَائِمَ إلَّا زَيْدٌ فَفِيهِ إثْبَاتُ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ. وَهَلْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ خِلَافٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ مَا إذَا قُلْت بَعْدَهُ: وَعَمْرٌو، وَهَلْ هُوَ نَسْخٌ أَوْ تَخْصِيصٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْطُوقِ فَهُوَ نَسْخٌ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَفْهُومِ فَتَخْصِيصٌ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَصْرَ غَيْرُ الِاخْتِصَاصِ قَوْله تَعَالَى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74] فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَقْصُرُ رَحْمَتَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لِأَنَّهَا لَا تُقْصَرُ، وَلَا تَخْتَصُّ بِهَا، لِأَنَّهَا لَا تُخْتَصُّ، بَلْ مَدْلُولُ الْآيَةِ أَنَّهُ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَغَيْرُهُمْ يُعْرِضُ عَنْهُ. تَنْبِيهٌ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ، فَإِنَّ الْخَبَرَ مَعْمُولٌ لِلْمُبْتَدَأِ عَلَى الصَّحِيحِ. [مَسْأَلَةٌ إفَادَةِ لَامِ التَّعْرِيفِ فِي الْخَبَرِ الْحَصْرَ] مَسْأَلَةٌ [فِي إفَادَةِ لَامِ التَّعْرِيفِ فِي الْخَبَرِ الْحَصْرَ] لَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْخَبَرِ، نَحْوُ: زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ. ذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي

مسألة التعليل بالمناسبة

نِهَايَةِ الْإِعْجَازِ " وَهُوَ مُقْتَضٍ حَصْرَ الْخَبَرِ فِي الْمُبْتَدَإِ عَكْسَ الْحَصْرِ فِي الْمُبْتَدَإِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَكُونُ مَحْصُورًا فِي الثَّانِي. فَإِذَا قُلْت: الصَّدِيقُ هُوَ الْخَلِيفَةُ، وَزَيْدٌ هُوَ الْمُحَدِّثُ، أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا غَيْرُهُ. وَاللَّازِمُ ثُبُوتُهُ فِي هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ هُوَ النَّقِيضُ لَا الْحَصْرُ، وَلَا الْخِلَافُ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: قَدْ ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ أَنَّ لِلْحَصْرِ أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ: " إنَّمَا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ "، نَحْوُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَلَفْظُ " ذَلِكَ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وَالْإِضَافَةُ، كَقَوْلِهِ: (تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ) . قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ لَفْظَةُ: " إنَّمَا ". قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ لِمَالِكٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ لَامَ كَيْ عِنْدَهُ مِنْ حُرُوفِ الْحَصْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَكْلِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ بِقَوْلِهِ: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] . [مَسْأَلَةُ التَّعْلِيلِ بِالْمُنَاسَبَةِ] قَالَ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": الْخِلَافِيُّونَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ التَّعْلِيلُ بِالْمُنَاسَبَةِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ، لِأَنَّ قَوْلَنَا: افْعَلْ كَذَا لِكَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ فَلَعَلَّهُ لِكَذَا، فِي الْعُرْفِ وَالِاسْتِعْمَالِ. فَإِذَا قَالَ: أَعْطَيْت هَذَا لِفَقْرِهِ، لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يَقُولَ: أَعْطَيْته لِعِلْمِهِ.

كتاب النسخ

[كِتَابُ النَّسْخِ] ِ وَالنَّظَرُ فِيهِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ. أَمَّا فِي اللُّغَةِ: فَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِبْطَالَ وَالْإِزَالَةَ، وَمِنْهُ نَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَالرِّيحُ آثَارَ الْقَدَمِ. وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْقُرُونِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْعَسْكَرِيُّ. وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ بَعْدَ الثُّبُوتِ، وَمِنْهُ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ أَيْ نَقَلْته. وَهُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] . وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْأَرْوَاحِ وَالْمَوَارِيثِ. وَسُمِّيَ قَوْمٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُتَنَاسِخَةَ. لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَنْتَقِلُ مِنْ هَيْكَلٍ إلَى هَيْكَلٍ، وَمِنْ قَالِبٍ إلَى قَالِبٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِزَالَةِ مَجَازٌ فِي النَّقْلِ. وَعَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ، وَالرَّازِيَّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. وَذَهَبَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّقْلِ، وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا لَفْظًا لِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِمَا، وَذَهَبَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " إلَى أَنَّهُ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ التَّوَاطُؤُ، لِأَنَّ بَيْنَ نَسْخِ الشَّمْسِ الظِّلَّ وَنَسْخِ الْكِتَابِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا، وَهُوَ الرَّفْعُ، وَهُوَ

فِي نَسْخِ الظِّلِّ بَيِّنٌ، لِأَنَّهُ زَالَ بِضِدِّهِ. وَفِي نَسْخِ الْكِتَابِ مُقَدَّرٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْكَلَامَ الْمَنْقُولَ بِالْكِتَابَةِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَفَادًا إلَّا مِنْ الْأَصْلِ، فَكَانَ لِلْأَصْلِ بِالْإِفَادَةِ خُصُوصِيَّةٌ، فَإِذَا نَسَخْتُ الْأَصْلَ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةُ، وَارْتِفَاعُ الْأَصْلِ وَالْخُصُوصِيَّةِ سَوَاءٌ فِي مُسَمَّى الرَّفْعِ. وَقِيلَ: الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هُوَ التَّغْيِيرُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ، وَنَبَّهَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَلَى أَنَّ نَسَخْت الْكِتَابَ لَيْسَ مِنْ بَابِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ لَمْ يَنْتَقِلْ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ يُشْبِهُ الْمَنْقُولَ. ثُمَّ قِيلَ: الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: بَلْ مَعْنَوِيٌّ يُبْنَى عَلَيْهِ جَوَازُ النَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ، فَمَنْ قَالَ: حَقِيقَةٌ فِي الْإِزَالَةِ مَجَازٌ فِي النَّقْلِ جَوَّزَهُ، وَمَنْ قَالَ: حَقِيقَةٌ فِيهِمَا مَنَعَهُ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ النَّسْخِ فِي الشَّرْعِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ مَنْقُولٌ إلَى مَعْنًى فِي الشَّرْعِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ فِي الشَّرْعِ مَعْنًى مُمَيَّزًا يَجْرِي مَجْرَى اسْمِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو هَاشِمٍ: إنَّهُ يُفِيدُ مَعْنًى فِي الشَّرْعِ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ بِاللُّغَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُفِيدُ إزَالَةَ مِثْلِ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ، كَمَا يُفِيدُ فِي اللُّغَةِ الْإِزَالَةَ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ قَصَرَهُ عَلَى إزَالَةِ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِنَا: " دَابَّةٌ " فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ، لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ مَا يَدِبُّ. اهـ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ، كَمَا نُقِلَ اسْمُ الصَّلَاةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الشَّرْعِ بِرَفْعِ مِثْلِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ الرَّفْعُ عَامًّا كَمَا خُصِّصَتْ الدَّابَّةُ بِالِاسْمِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا يَدِبُّ عَلَيْهَا.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَدِّهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِخِطَابٍ. وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ مَا يَحْصُلُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَرْفَعُ. وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى التَّعَلُّقِ، وَهُوَ حَادِثٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ نَفْسُهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَالْمُرَادُ ارْتِفَاعُ دَوَامِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى تَكَرُّرِهِ، لَا ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْخِطَابُ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ. وَتَقْيِيدُهُ بِالشَّرْعِيِّ يُخْرِجُ الْعَقْلِيَّ، كَالْمُبَاحِ الثَّابِتِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ حَرَّمَ فَرْدًا مِنْ تِلْكَ الْأَفْرَادِ لَمْ يُسَمَّ نَسْخًا، وَقُلْنَا. بِخِطَابٍ، لِيَعُمَّ وُجُوهَ الْأَدِلَّةِ، وَلْيَخْرُجْ الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ النَّسْخُ فِيهِمَا، وَلَا بِهِمَا، وَلْيَخْرُجْ ارْتِفَاعُهُ بِالْمَوْتِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى نَسْخًا، وَكَمَنْ سَقَطَ رِجْلَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: نُسِخَ عَنْهُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ. وَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي " الْمَحْصُولِ " مِنْ أَنَّهُ نَسْخٌ ضَعِيفٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ قَيْدَ " التَّرَاخِي " لِيَخْرُجَ الْمُتَّصِلُ بِالْحُكْمِ، كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ، لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِغَايَةِ الْحُكْمِ، وَلَا يُسَمَّى نَسْخًا، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ قَدْ مَنَعَ أَوَّلَهُ. وَقَوْلُنَا: " رَفْعُ حُكْمٍ " يُغْنِي عَنْ هَذَا

الْقَيْدِ، إذْ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الرَّفْعَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الثُّبُوتِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا ثُبُوتَ الْحُكْمِ، لِأَنَّهَا تَخْصِيصَاتٌ. وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ غَيْرَ مُرَادٍ. وَقَوْلُنَا: بِخِطَابٍ أَيْ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُرِدْ الثَّانِي، لَكَانَ حُكْمُ الْأَوَّلِ بَاقِيًا. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ النَّسْخِ رَفْعًا هُوَ مُخْتَارُ الصَّيْرَفِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَابْنِ الْإِبْيَارِيِّ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ رَاجِعٌ إلَى كَلَامِ اللَّهِ. وَهُوَ قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمُ لَا يُرْفَعُ وَلَا يُزَالُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَرْفُوعَ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ النِّسْبِيِّ لَا ذَاتُهُ وَلَا تَعَلُّقُهُ الذَّاتِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ شَارِحِي " الْبُرْهَانِ ": الْحَقُّ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ الرَّفْعُ، وَلَا يَلْزَمُهُ مَا أَلْزَمَهُ الْإِمَامُ مِنْ التَّنَاقُضِ فِي التَّعَلُّقِ. فَإِنَّ الْقَاضِيَ بَنَى عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ يُفَارِقُ الْإِرَادَةَ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ يَتَعَلَّقُ بِمُتَعَلِّقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى الِاتِّحَادِ فِي نَفْسِهِ، وَالِاخْتِلَافُ رَاجِعٌ إلَى التَّعَلُّقِ، فَالْأَمْرُ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّلَبِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ، فَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَطْلُوبِ عَلَى الدَّوَامِ قَطْعًا، وَتَكُونُ الْإِرَادَةُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَطْلُوبِ نَفْسِهِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَيَكُونُ هَذَا التَّعَلُّقُ بَيَانًا لِلْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ، أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ الدَّوَامُ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بَعْضُ الْأَزْمِنَةِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْعِلْمُ بِالدَّوَامِ، وَلَا تَنَاقُضَ فِي تَعَلُّقِ الطَّلَبِ بِمُتَعَلِّقٍ وَاحِدٍ عَلَى صِفَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، مَطْلُوبًا عَلَى التَّأْبِيدِ فِي الْوَقْتِ، وَفِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ فِي وَقْتٍ آخَرَ لَمْ يَخْتَلِفْ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ التَّعَلُّقُ وَالزَّمَانُ. وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ هَذَا أَنْ لَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ،

تعريف النسخ

وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي وَقْتَيْنِ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ النَّسْخِ إلَى بَيَانِ الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ. [تَعْرِيفُ النَّسْخِ] وَحَدَّهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى انْتِهَاءِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مَعَ التَّأْخِيرِ عَنْ مَوْرِدِهِ، وَأَلْزَمُوا عَلَيْهِ كَوْنَ النَّسْخِ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَنْسَخَ بِمَا بِهِ يُخَصِّصُ، فَيَنْسَخُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَبِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَإِلَى كَوْنِهِ بَيَانًا ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَسُلَيْمٌ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَغَيْرُهُمْ. وَحَكَاهُ فِي " الْمَعَالِمِ " عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَاخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ. وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ النَّسْخَ تَخْصِيصًا وَبَيَانًا، أَيْ أَنَّ الْخِطَابَ الثَّانِي بَيَّنَ أَنَّ الْأَزْمِنَةَ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهَا مُرَادًا مِنْ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ. فِي الْأَعْيَانِ كَذَلِكَ. وَأَوْرَدُوا عَلَى مَنْ حَدَّهُ بِالرَّفْعِ بِأَنَّ الرَّافِعَ الْحَادِثَ إنْ وُجِدَ حَالَ وُجُودِ الْأَوَّلِ لَمْ يُنَافِهِ، وَإِنْ وُجِدَ حَالَ عَدَمِهِ لَمْ يَعْدَمْهُ، لِامْتِنَاعِ إعْدَامِ الْمَعْدُومِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّفْعَ كَالْكَسْرِ وَالِارْتِفَاعَ كَالِانْكِسَارِ، وَلِذَلِكَ يَجْعَلُونَ

الرَّفْعَ كَفَسْخِ الْعُقُودِ. وَقَالُوا أَيْضًا: إنَّمَا عَدَلْنَا إلَى الْبَيَانِ احْتِرَازًا عَنْ تَعَارُضِ الرَّافِعِ وَالدَّافِعِ، وَالرَّفْعُ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الدَّفْعِ، وَهَذَا مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّفْعَ وَالدَّفْعَ مِنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْأَلْفَاظُ دَلَائِلُ عَلَى إرَادَةِ الشَّارِعِ، وَالشَّارِعُ لَهُ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالثَّانِي أَيْضًا بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِدَوَامِ الْحُكْمِ أَبَدًا أَوْ إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ الرَّفْعُ. أَمَّا إذَا تَعَلَّقَ بِالدَّوَامِ فَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ رَفْعُهُ، لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ خِلَافِ مَعْلُومِهِ. وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ انْتِهَاؤُهُ إلَى الْوَقْتِ، وَإِذَا كَانَ الِانْتِهَاءُ وَاجِبًا فِي ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الرَّفْعُ الثَّانِي لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ ارْتِفَاعُهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِالِانْتِهَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَمْتَنِعُ الرَّفْعُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ تَعَلَّقَ بِالِانْتِهَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْحَادِثِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. وَتَحْرِيرُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ لَهُ انْعِدَامٌ. وَتَحَقَّقَ انْعِدَامُهُ، لِانْعِدَامِ مُتَعَلَّقِهِ، لَا لِانْعِدَامِ ذَاتِ الْحُكْمِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَأَخِّرَ اللَّاحِقَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَافِيًا لِلْأَوَّلِ، وَأَنَّ عِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ عَدَمُ الْأَوَّلِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عَدَمِ الْأَوَّلِ هَلْ هُوَ مُضَافٌ إلَى وُجُودِ الْحُكْمِ الْمُتَأَخِّرِ؟ فَيُقَالُ: إنَّمَا ارْتَفَعَ الْأَوَّلُ لِوُجُودِ الْمُتَأَخِّرِ اللَّاحِقِ، أَوْ لَا يُضَافُ إلَيْهِ بَلْ يُقَالُ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ انْتَهَى، لِأَنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُغَيًّا إلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ لِلَّهِ، وَقَدْ عَلِمْنَاهَا بِالْحُكْمِ اللَّاحِقِ الْمُتَأَخِّرِ، فَإِذْنُ النِّزَاعِ فِي اسْتِنَادِ عَدَمِ السَّابِقِ إلَى وُجُودِ

اللَّاحِقِ، فَالْأُسْتَاذُ يَقُولُ: الْحُكْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَلَاحِيَّةُ الدَّوَامِ، لِكَوْنِهِ مُغَيًّا إلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا نَعْرِفُهَا إلَّا بَعْدَ وُرُودِ النَّاسِخِ، فَيَكُونُ النَّسْخُ بَيَانًا، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ وَهْمُ مَنْ قَالَ: إنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ. وَقَدَّرَ ابْنُ الْمُنِيرِ كَوْنَهُ لَفْظًا بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ يُثْبِتُونَ رَفْعًا مَعَ الْبَيَانِ، وَالْأُصُولِيُّونَ يُثْبِتُونَ بَيَانًا مَعَ الرَّفْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ ثَابِتًا وَهُوَ بَعْدَ النَّسْخِ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا رَفْعًا يُنَاقِضُ الْإِثْبَاتَ وَيُجَامِعُهُ. وَالْأُصُولِيُّونَ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ كَانُوا عَلَى ظَنٍّ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنْسَخُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَحْكَامِ الْقَرَارُ وَعَدَمُ النَّسْخِ، ثُمَّ بِالنَّسْخِ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ الْأَوَّلِ نَسْخَهُ فِي الزَّمَانِ الْمَخْصُوصِ، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ قَدِيمَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا اتِّفَاقًا فَلَا يَبْقَى لِلْخِلَافِ مَحَطٌّ. وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ: إنَّ انْتِهَاءَ غَايَةِ الْحُكْمِ يُنَافِي بَقَاءَهُ، وَلَا نَعْنِي بِالرَّفْعِ إلَّا ذَلِكَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِرَافِعٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْخِلَافَ هُنَا مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أَنَّ زَوَالَ الْأَعْرَاضِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالضِّدِّ. فَمَنْ قَالَ بِبَقَائِهَا قَالَ: إنَّمَا يَنْعَدِمُ الضِّدُّ الْمُتَقَدِّمُ لِطَرَيَانِ الطَّارِئِ، وَلَوْلَاهُ لَبَقِيَ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِبَقَائِهَا قَالَ: إنَّهُ يَنْعَدِمُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَحْدُثُ الضِّدُّ الطَّارِئُ وَلَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إعْدَامِ الضِّدِّ الْأَوَّلِ. وَقَالَ إِلْكِيَا: زَعَمَ الْقَاضِي أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا جَعَلْنَا النَّصَّ الْأَوَّلَ مُوجِبًا حَقِيقَةً تَامًّا، وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْوُجُوبُ بِاقْتِضَائِهِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ انْتِهَاءُ الْأَوَّلِ فِي عِلْمِ اللَّهِ بِالنَّسْخِ بِأَمْرٍ يُخَالِفُ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ، وَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُ وَضْعِ أَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ. وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أَنَّ النَّسْخَ ظُهُورُ مَا يُنَافِي اشْتِرَاطَ اسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ

بِقَوْلِهِ: افْعَلْ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لِلطَّلَبِ، وَلَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يُنْهَى عَنْهُ. وَيَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: افْعَلْ إنْ لَمْ أَنْهَكَ عَنْهُ. وَقَالَ: اخْتَرْت عَلَى هَذَا الرَّأْيِ النَّسْخَ قَبْلَ مُضِيِّ إمْكَانِ الْفِعْلِ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُونَ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّهُ لَا ثُبُوتَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ. فَقِيلَ: لِلْإِمَامِ، فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ؟ فَقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ الْمَقْرُونُ بِاللَّفْظِ، وَالنَّسْخُ مُتَرَاخٍ. وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَرَى ظُهُورَ الْمُنَافِي بِالْإِضَافَةِ إلَى اعْتِقَادِنَا التَّأْبِيدَ فِيهِ، وَعَلَى رَأْيِ الْفُقَهَاءِ: النَّسْخُ لَا يُصَادِفُ الْأَمْرَ، بَلْ يُصَادِفُ اسْتِمْرَارَهُ، وَعَلَى رَأْيِ الْآخَرِينَ لَا يُصَادِفُ لَا الْبَقَاءَ وَلَا الْأَمْرَ، وَلَكِنْ يَبْقَى الْحُكْمُ فِي الِاسْتِقْبَالِ. وَهُوَ إنَّمَا يُصَادِفُ مَا اعْتَقَدْنَاهُ فِيهِ، فَيَرْفَعُ اعْتِقَادَنَا، وَالْبَقَاءُ ظَاهِرٌ فِي اعْتِقَادِنَا، وَهُوَ فِي حَقِّ اللَّهِ انْتِهَاءٌ. فَعَلَى هَذَا النَّاسِخِ لَا يُضَادُّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ، وَلَا تُتَصَوَّرُ الْمُضَادَّةُ فِي إمْضَاءِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِطَرِيقِ الْبَدَاءِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ. وَحَدَّتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ زَائِلٌ، وَذَكَرُوا مَثَلًا لِيَحْتَرِزُوا بِهِ عَنْ الرَّفْعِ، وَجَوَّزُوا نَسْخَ الْعِبَادَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِهَا. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ " الزِّيَادَاتِ ": اُخْتُلِفَ فِي النَّسْخِ فَقِيلَ: إزَالَةُ فَرْضِ الْعَمَلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقِيلَ: بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْعِبَادَةِ. وَقِيلَ: انْتِهَاءُ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّرَاخِي بِدَلِيلٍ لَوْلَاهُ

لَوَجَبَ اسْتِرْسَالُهُ عَلَى عَدَمِ الْعُمُومِ. وَقِيلَ: قَطْعُ حُكْمٍ تُوُهِّمَ دَوَامُهُ. قِيلَ: وَهَذَا أَصْلُ الْعِبَارَاتِ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ. اهـ. وَالْحَدُّ الثَّانِي حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَضَعَّفَهُ بِأَنَّ النَّسْخَ يَجْرِي فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ ": النَّاسِخُ مِنْ الْقُرْآنِ الْأَمْرُ نَزَّلَهُ اللَّهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِخِلَافِهِ، كَمَا حُوِّلَتْ الْقِبْلَةُ. وَقَالَ فِي " الرِّسَالَةِ ": وَهَكَذَا كُلُّ مَا نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ نَسْخُهُ تَرْكَ فَرْضِهِ، وَكَانَ حَقًّا فِي وَقْتِهِ، وَتَرْكُهُ حَقٌّ إذَا نَسَخَهُ، فَيَكُونُ مَنْ أَدْرَكَ فَرْضَهُ مُطِيعًا بِاتِّبَاعِ الْفَرْضِ النَّاسِخِ لَهُ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي النَّسْخِ عِنْدَنَا هُوَ أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، وَيُرِيدُ مِنْهُ بَعْضَهَا وَلَا يَكْشِفُ ذَلِكَ. ثُمَّ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ ثَانٍ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ. قَالَ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ عَلَى هَذَا، إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا مَعَ الْأَمْرِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي النَّسْخِ. انْتَهَى. وَالْحَقُّ أَنَّ النَّسْخَ لِلْحُكْمِ كَالْفَسْخِ لِلْعَقْدِ، كَالْكَسْرِ لِلصَّحِيحِ، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّ الْفَسْخَ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ مِنْ حِينِهِ لَا يَجِيءُ هُنَا.

تنبيه الفرق بين التخصيص والنسخ

[تَنْبِيهٌ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ] سَبَقَ فِي بَابِ التَّخْصِيصِ تَفْرِيقُ بَعْضِهِمْ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ التَّخْصِيصَ يَرْفَعُ بَعْضَ الْحُكْمِ، وَالنَّسْخَ يَرْفَعُ الْكُلَّ. وَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلْ قَدْ يَكُونُ النَّسْخُ رَافِعًا لِلْبَعْضِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ إذَا أَثْبَتَ الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ الْعَامِّ، ثُمَّ رَفَعَ بَعْضَهُ يَكُونُ نَسْخًا لِذَلِكَ الْبَعْضِ، كَمَا يُنْسَخُ الْكُلُّ. وَمَثَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِالْعَرَايَا. وَإِنْ كَانَ الْأَصْحَابُ جَعَلُوهُ مِنْ التَّخْصِيصِ، لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ عَامٌّ، ثُمَّ رَفَعَ بَعْضَهُ بِالْعَرَايَا، وَقَوْلُهُ: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» إيرَادٌ عَلَى عُمُومِهِ تَمْرًا أَوْ غَيْرَ تَمْرٍ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ إبَاحَةُ الْعَرَايَا نَسْخًا لِذَلِكَ الْبَعْضِ، لَا تَخْصِيصًا، لِأَنَّ التَّخْصِيصَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ، وَلَا يَكُونُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ إرَادَةِ اللَّافِظِ ابْتِدَاءً، وَبِهِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ.

فصل في أركان النسخ

[فَصْلٌ فِي أَرْكَانِ النَّسْخِ] أَرْكَانُ النَّسْخِ ثَلَاثَةٌ: النَّاسِخُ، وَالْمَنْسُوخُ، وَالْمَنْسُوخُ عَنْهُ. أَمَّا النَّاسِخُ فَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَتَسْمِيَةُ خِطَابِهِ الدَّالِّ عَلَى النَّسْخِ نَاسِخًا تَوَسُّعٌ، إذْ بِهِ يَقَعُ النَّسْخُ، كَمَا يُقَالُ: صَوْمُ رَمَضَانَ نَاسِخٌ لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَالْمَنْسُوخُ هُوَ الْمُزَالُ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْمُرْتَفِعُ أَوْ الْمُبَيَّنُ عَلَى الْخِلَافِ. وَالْمَنْسُوخُ عَنْهُ هُوَ الْمُتَعَبِّدُ بِالْعِبَادَةِ الْمُزَالَةِ. . [مَسْأَلَةٌ النَّسْخُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَاءَ] وَلَا يَسْتَلْزِمُ النَّسْخُ الْبَدَاءَ إذْ النَّسْخُ بِأَمْرٍ، وَالْبَدَاءُ الظُّهُورُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ وَالْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا اسْتِلْزَامَهُ. فَلَزِمَهُمْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ، فَقَالَتْ الْيَهُودُ: لَا يَجُوزُ النَّسْخُ عَلَيْهِ لِامْتِنَاعِ الْبَدَاءِ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ الرَّافِضَةُ: يَجُوزُ الْبَدَاءُ عَلَيْهِ لِجَوَازِ النَّسْخِ مِنْهُ. وَالْكُلُّ كُفْرٌ. وَالثَّانِي أَغْلَظُ إذْ يُمْكِنُ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُكَفَّرُ بِأَنْ يُجْعَلَ التَّعَبُّدُ بِكُلِّ شَرْعٍ مُغَيَّا إلَى ظُهُورٍ آخَرَ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي النَّسْخِ يُؤَدِّي إلَى جَوَازِ الْبَدَاءِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ بِصِيغَتِهِ عِنْدَهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَعْيَانِ وَالْأَزْمَانِ، حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ يَخُصُّهُ، وَلَفْظُ الْعُمُومِ فِي الْأَزْمَانِ لَا يَقْتَرِنُ بِهِ

مَا يُنْسَخُ بَعْضُهُ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ الْمَنْسُوخِ، مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ، فَلَا بُدَّ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ أَنَّهُ قَصَدَ إيجَابَ الْعِبَادَاتِ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ يَدُلُّ دَلِيلٌ آخَرُ بَعْدَهُ عَلَى النَّسْخِ. اهـ. وَقَالَ إِلْكِيَا: لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَاءَ، لِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الثَّابِتِ زَائِلٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ غَيْرُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَأَنَّ وَقْتَ النَّهْيِ عَنْهُ غَيْرُ وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَبَنَوْا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ نَسْخَ الْفِعْلِ قَبْلَ وَقْتِ إمْكَانِهِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ فَجَوَّزُوهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ، وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ لِمَفْسَدَةٍ، لَا أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ عَبَثًا، وَتَقْدِيرُ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ قَبْلَ إمْكَانِ الْأَوَّلِ ضَرْبٌ مِنْ الْبَدَاءِ، وَغَايَةُ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ مَشْرُوطٌ بِبَقَائِهِ أَوْ مَشْرُوطٌ بِانْتِفَاءِ النَّهْيِ. فَإِذَا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ زَالَ الشَّرْطُ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ الْفِعْلِ غَيْرَ الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ. وَلَيْسَ كَمَا إذَا قَالَ: أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا وَكَذَا. وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مُتَّصِلًا بِهِ، لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ الْفِعْلِ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ. وَهَاهُنَا النَّهْيُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْأَمْرِ، فَهُوَ كَقَوْلِك: أَمَرْتُكُمْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْهَرَ لَكُمْ مَا يُنَافِيهِ. فَائِدَةٌ [تَحْقِيقٌ لُغَوِيٌّ فِي لَفْظِ الْبَدَاءِ] حَكَى ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي كِتَابِ " النُّكَتِ " عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ لَفْظَ الْبَدَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْبُدُوُّ مِنْ بَدَا الشَّيْءُ يَبْدُو بَدْوًا وَبُدُوًّا، إذَا ظَهَرَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي " فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ ": وَهَذَا لَيْسَ

بِصَحِيحٍ، فَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا اللَّفْظَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي قَصِيدَتِهِ فِي " الْمَمْدُودِ وَالْمَقْصُورِ " فَقَالَ: تُوصَى وَعَقْلُك فِي بَدَا ... فَكَذَاك رَأْيُك ذُو بَدَاءٍ قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: الْبَدَا الْمَقْصُورُ مَوْضِعٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَالْبَدَاءُ الْمَمْدُودُ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَدَا لِي فِي الْأَمْرِ، تُرِيدُ: تَغَيَّرَ رَأْيِي فِيهِ عَمَّا كَانَ. قُلْت: وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُحْكَمِ " عَنْ سِيبَوَيْهِ، فَقَالَ: بَدَا الشَّيْءُ يَبْدُو بَدْوًا وَبُدُوًّا وَبَدَاءً، الْأَخِيرَةُ عَنْ سِيبَوَيْهِ. وَفِي " صِحَاحِ " الْجَوْهَرِيِّ: بَدَا لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَدَاءً مَمْدُودٌ. وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ بَرِّيٍّ، فَقَالَ: صَوَابُهُ بَدَاءٌ بِالرَّفْعِ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي " الرَّوْضِ ": الْمَصْدَرُ الْبُدُوُّ وَالْبَدْوُ، وَالِاسْمُ الْبَدَاءُ. وَلَا يُقَالُ فِي الْمَصْدَرِ بَدَا لَهُ بُدُوٌّ، كَمَا لَا يُقَالُ: ظَهَرَ لَهُ ظُهُورٌ بِالرَّفْعِ، لِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ وَيَبْدُو هَاهُنَا هُوَ الِاسْمُ، نَحْوُ الْبَدَاءِ. قَالَ: وَمِنْ أَجْلِ أَنَّ الْبُدُوَّ الظُّهُورُ كَانَ الْبَدَاءُ فِي وَصْفِ الْبَارِئِ سُبْحَانَهُ مُحَالًا، لِأَنَّهُ لَا يَبْدُو لَهُ شَيْءٌ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ، وَقَدْ يَجِيءُ بَدَا بِمَعْنَى أَرَادَ مَجَازًا كَحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي الثَّلَاثَةِ: الْأَقْرَعُ وَالْأَعْمَى وَالْأَبْرَصُ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بَدَا لِلَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ.

مسألة النسخ جائز عقلا وواقع شرعا

تَنْبِيهٌ مَنَعَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إطْلَاقَ لَفْظِ التَّبْدِيلِ عَلَى النَّسْخِ، فَإِنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَإِقَامَةُ النَّاسِخِ مُقَامَهُ، وَذَلِكَ يُوهِمُ الْبَدَاءَ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] . . [مَسْأَلَةٌ النَّسْخُ جَائِزٌ عَقْلًا وَوَاقِعٌ شَرْعًا] مَسْأَلَةٌ [النَّسْخُ جَائِزٌ عَقْلًا وَوَاقِعٌ شَرْعًا] النَّسْخُ جَائِزٌ عَقْلًا وَوَاقِعٌ سَمْعًا، خِلَافًا لِلْيَهُودِ غَيْرِ الْعِيسَوِيَّةِ، وَبَعْضِ غُلَاةِ الرَّوَافِضِ. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ عَقْلًا. وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ عَقْلًا وَمَنَعَهُ شَرْعًا، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ. قَالَ: وَلِذَلِكَ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَسَمَّاهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ تَخْصِيصًا. فَقِيلَ: هُوَ إنْكَارٌ لِلْوُقُوعِ، وَهُوَ مَنْقُولُ الْآمِدِيَّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ عَنْهُ. وَقِيلَ: إنَّمَا أَنْكَرَ الْجَوَازَ، وَهُوَ مَنْقُولُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَسُلَيْمٍ، وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّانِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ خِلَافَهُ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ إنْكَارُ النَّسْخِ لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ لَا يَرْتَفِعُ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْتَهِي بِنَصٍّ دَلَّ عَلَى انْتِهَائِهِ، فَلَا يَكُونُ نَسْخًا. اهـ. وَحَاصِلُهُ صَيْرُورَةُ الْخِلَافِ لَفْظِيًّا، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سَيِّدِنَا

مسألة نسخ الحكم وإن لم يقترن به إعلام

مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَوْلُ بِصِحَّةِ النَّسْخِ، حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ إنْكَارِهِ إنْكَارُ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ شَرْعَ الْمَاضِينَ كَانَ مُغَيَّا إلَى ظُهُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللَّفْظِ. وَهُنَا مُبَاحَثَةٌ مَعَ الْيَهُودِ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا، وَهِيَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ التَّعَبُّدَ فِي الشَّرَائِعِ بِالْعِبَادَاتِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ قِيَاسًا عَلَى التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ التَّعَبُّدَ بِالتَّوْحِيدِ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ إلَى الْكُفْرِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَيَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِالصَّلَاةِ مَثَلًا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِاسْتِغْرَاقِ الزَّمَانِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَيَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِالتَّوْحِيدِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ مَعَ كَمَالِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَدْ جَوَّزُوا تَرْكَ التَّوْحِيدِ. وَإِنْ قَالُوا: لَا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشَّرَائِعِ. وَحِينَئِذٍ فَلَا امْتِنَاعَ فِي اخْتِلَافِ التَّعَبُّدِ بِالشَّرَائِعِ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَالْعَدَدِ، وَالْوَقْتِ، وَالزِّيَادَةِ، وَالنَّقْصِ. . [مَسْأَلَةٌ نَسْخُ الْحُكْم وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إعْلَامٌ] مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إعْلَامٌ بِأَنَّهُ سَيُنْسَخُ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَعَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ فِي الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] الْآيَةَ. قَالُوا: فَهَذِهِ قَرِينَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَنْسَخُ الْقِبْلَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: رَأَيْت بَعْضَ مَنْ كَانَ يُظْهِرُ التَّوْحِيدَ، وَيُتَّهَمُ

مسألة لا يتحقق النسخ إلا مع التعارض

بِالْإِلْحَادِ يَزْعُمُ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْرُونٍ بِاللَّفْظِ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَائِنٌ بَعْدُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَقْتَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: فَهَذَا قَوْلُ الْيَهُودِ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِهِ. اهـ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ الْمَنْسُوخِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَإِلَّا لَكَانَ تَلْبِيسًا. وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ النَّسْخِ مِنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: سَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إنَّ كُلَّ آيَةٍ مَنْسُوخَةٍ فَفِي ضِمْنِ تِلَاوَتِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا لَيْسَ بِثَابِتٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، مِثْلُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] نَبَّهَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا لَا يَدُومُ، فَنَسَخَتْهَا آيَةُ النُّورِ بِقَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الْآيَةَ. وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» . قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ فِي كُلِّ آيَةٍ مَنْسُوخَةٍ، لَكِنَّهُ مُعْتَضِدٌ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ نَسْخًا، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شَوَاهِدِ الْمَنْسُوخِ. . [مَسْأَلَةٌ لَا يَتَحَقَّقُ النَّسْخُ إلَّا مَعَ التَّعَارُضِ] مَسْأَلَةٌ لَا يَتَحَقَّقُ النَّسْخُ إلَّا مَعَ التَّعَارُضِ، فَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ فَلَا.

مسألة المنسوخ

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: نُسِخَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ، وَنَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ سِوَاهَا. فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لَا مُنَافَاةَ فِيهِ. وَإِنَّمَا وَافَقَ نَسْخُ عَاشُورَاءَ فَرْضَ رَمَضَانَ وَنَسْخُ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ فَرْضَ الزَّكَاةِ، فَحَصَلَ النَّسْخُ مَعَهُ لَا بِهِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: حَكَى بَعْضُ مَشَايِخِنَا خِلَافًا فِي أَنَّ النَّسْخَ فِي الْأَمْرِ أَوْ الْمَأْمُورِ. فَقِيلَ: وَقَعَ فِي الْأَمْرِ. وَقِيلَ: فِي الْمَأْمُورِ نَفْسِهِ. وَالْأَمْرُ هُوَ الْقَوْلُ. وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُخَاطَبُ. قَالَ: وَاَلَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ النَّسْخَ وَقَعَ فِي الْأَمْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّسْخَ يَقَعُ فِي الْآيَةِ. وَمِمَّنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا الْخِلَافِ ابْنُ حَزْمٍ فِي " الْإِحْكَامِ ". وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْأَمْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ فِعْلُنَا. وَفِعْلُنَا إنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنَّا فَقَدْ فَنَى وَلَا يَنْهَى عَمَّا مَضَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَقَعَ بَعْدُ، فَكَيْفَ يُنْسَخُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الْآيَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ هِيَ الْمَنْسُوخَةُ لَا أَفْعَالَنَا الْمَأْمُورَ بِهَا وَالْمَنْهِيَّ عَنْهَا. . [مَسْأَلَةٌ الْمَنْسُوخُ] مَسْأَلَةٌ الْمَنْسُوخُ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الْحُكْمُ الثَّابِتُ نَفْسُهُ. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: مِثْلُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. وَاَلَّذِي قَادَهُمْ إلَى ذَلِكَ مَذْهَبُهُمْ فِي أَنَّ الْأَوَامِرَ مُرَادَةٌ، وَأَنَّ الْحُسْنَ صِفَةٌ نِسْبِيَّةٌ لِلْحَسَنِ. وَمُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ، وَقَدْ قَامَتْ الْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَوَامِرَ لَا تَرْتَبِطُ بِالْإِرَادَةِ، عَلَى أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ فِي الْأَحْكَامِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لَا بِصِفَةٍ نِسْبِيَّةٍ. قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ. .

مسألة اعتقاد الأمر بالشيء قبل ورود الناسخ

[مَسْأَلَةٌ اعْتِقَادُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُرُودِ النَّاسِخِ] مَسْأَلَةٌ يَجِبُ اعْتِقَادُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُرُودِ النَّاسِخِ إنْ بَقِيَ الْأَمْرُ بِهِ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ عَنْهُ بِضِدِّهِ، وَإِنْ جَوَّزْنَا النَّسْخَ قَبْلَ الْفِعْلِ. وَلَا يَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصَّصِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: أَمَّا فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُقْطَعُ بِالْحُكْمِ قَبْلَ ظُهُورِ نَاسِخِهِ، لِأَنَّ دَوَامَهُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِجَوَازِ نُزُولِ الْوَحْيِ بِمَا يَنْسَخُهُ. وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَدْ انْتَفَى احْتِمَالُ النَّسْخِ وَصَارَ الْبَقَاءُ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ. . [مَسْأَلَةٌ نَسْخُ النَّسْخِ] مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ نَسْخُ النَّسْخِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِجَوَازِهِ أَوَّلًا قَدْ يَتَّفِقُ فِي الثَّانِي. وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ عَنْهُ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا أُحِلَّ، ثُمَّ حُرِّمَ، ثُمَّ أُحِلَّ، ثُمَّ حُرِّمَ، إلَّا الْمُتْعَةَ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا نُسِخَتْ خَمْسَ مَرَّاتٍ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ابْنُ حَزْمٍ فِي " الْإِحْكَامِ ". وَقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ حُكْمًا بِغَيْرِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْسَخَ ذَلِكَ الثَّانِيَ [بِثَالِثٍ] ، وَذَلِكَ الثَّالِثَ بِرَابِعٍ، وَهَكَذَا كُلَّمَا زَادَ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أُحِيلَتْ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَصَحَّ التَّكْرِيرُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: نُسِخَتْ الْقِبْلَةُ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَا نِكَاحُ الْمُتْعَةِ، وَلُحُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَلَا أَحْفَظُ رَابِعًا. قُلْت: وَادَّعَى بَعْضُهُمْ تَكَرُّرَ النَّسْخِ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ. .

مسألة شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع

[مَسْأَلَةٌ شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسِخَةٌ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ] مَسْأَلَةٌ شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاسِخَةٌ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ عِيسَى بُعِثَ مُقَرِّرًا لِشَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، أَوْ بِشَرِيعَةٍ مُبْتَدَأَةٍ حَكَاهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي " الْمَطْلَبِ " ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَمْ يَنْسَخْ كُلَّ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] لِأَنَّهُ لَمْ يُحْلِلْ لَهُمْ كُلَّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مِنْهُ الزِّنَى وَالْقَتْلَ وَالسَّرِقَةَ، وَإِنَّمَا أَحِلَّ لَهُمْ السَّبْتَ، وَلَحْمَ الْإِبِلِ، وَأَشْيَاءُ مِنْ الْحِيتَانِ وَالطَّيْرِ تَخْفِيفًا عَنْهُمْ. وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا لَمْ تُوجِبْهُ شَرِيعَةُ مُوسَى. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ: رُوِيَ أَنَّ الرُّسُلَ بَعْدَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ شَرِيعَتُهُمْ وَاحِدَةً مُوَافِقَةً لِشَرِيعَةِ مُوسَى، إلَى أَنْ جَاءَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِشَرِيعَةٍ مُجَدِّدَةٍ. قَالَ: وَمَنَعَ الْقَاضِي كَوْنَ الرَّسُولِ الثَّانِي يَأْتِي بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْأَوَّلِ سَوَاءً، أَيْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ إذَا كَانَتْ شَرِيعَةُ الْأَوَّلِ مَحْفُوظَةً يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالتَّوَاتُرِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ إذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُعْلَمْ مِنْ جِهَتِهِ إلَّا مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ قَبْلُ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ رَسُولًا لَا شَرِيعَةَ مَعَهُ أَصْلًا لِمَا بَيَّنَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، كَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَأَجَابَ الْإِمَامُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ. .

فصل في بيان الحكمة في نسخ الشرائع

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي نَسْخِ الشَّرَائِعِ] ِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " وَهُوَ أَنَّ الشَّرَائِعَ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا يُعْرَفُ نَفْعُهَا بِالْعَقْلِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. وَمِنْهَا سَمْعِيَّةٌ لَا يُعْرَفُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا مِنْ السَّمْعِ. فَالْأَوَّلُ: يَمْتَنِعُ طُرُوُّ النَّسْخِ عَلَيْهَا كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ أَبَدًا، وَمَجَامِعُ هَذِهِ الشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ أَمْرَانِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] . وَالثَّانِي: مَا يُمْكِنُ طَرَيَان النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَيْهِ أُمُورٌ تَحْصُلُ فِي كَيْفِيَّةِ إقَامَةِ الطَّاعَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِبَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَفَائِدَةُ نَسْخِهَا أَنَّ الْأَعْمَالَ الْبَدَنِيَّةَ إذَا وَاظَبُوا عَلَيْهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ صَارَتْ كَالْعَادَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَظَنُّوا أَنَّ أَعْيَانَهَا مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا. وَمَنَعَهُمْ ذَلِكَ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَتَمْجِيدُهُ، فَإِذَا غَيَّرَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ رِعَايَةُ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَالْأَرْوَاحِ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ انْقَطَعَتْ الْأَوْهَامُ عَنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ تِلْكَ الصُّوَرِ وَالظَّوَاهِرِ إلَى عَلَّامِ السَّرَائِرِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ وُجُوهًا: مِنْهَا: أَنَّ الْخَلْقَ طُبِعُوا عَلَى الْمَلَالَةِ مِنْ الشَّيْءِ، فَوَضَعَ فِي كُلِّ عَصْرٍ شَرِيعَةً جَدِيدَةً لِيَنْشَطُوا فِي أَدَائِهَا. وَمِنْهَا: بَيَانُ شَرَفِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ نَسَخَ بِشَرِيعَتِهِ شَرَائِعَهُمْ، وَشَرِيعَتُهُ لَا نَاسِخَ لَهَا. وَمِنْهَا: مَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ كَطَبِيبٍ يَأْمُرُ بِدَوَاءٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِخِلَافِهِ لِلْمَصْلَحَةِ.

وَمِنْهَا: مَا فِيهِ مِنْ الْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَفْعِ الْخِدْمَةِ وَمُؤْنَتِهَا عَنْهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَجَرَيَانُ النَّسْخِ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا يُؤْذِنُ بِرَفْعِهَا فِي الْجَنَّةِ {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] . وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " أَنَّ فَائِدَةَ النَّسْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَالتَّخْفِيفُ عَنْهُمْ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِأَثْقَلَ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ رَحْمَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا. .

فصل في شروط النسخ

[فَصْلٌ فِي شُرُوطِ النَّسْخِ] الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ شَرْعِيًّا لَا عَقْلِيًّا، أَيْ قَدْ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ، ثُمَّ رُفِعَ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَفْعَلُهُ النَّاسُ بِعَادَةٍ لَهُمْ أُقِرُّوا عَلَيْهَا، ثُمَّ رُفِعَ كَاسْتِبَاحَتِهِمْ الْخَمْرَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى عَادَةٍ كَانَتْ لَهُمْ إلَى أَنْ حُرِّمَ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا. وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمَنْسُوخِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، فَإِنَّ الْمُقْتَرِنَ كَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَلَيْسَ ذَلِكَ نَاسِخًا لِلصَّوْمِ نَهَارًا، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] . قَالَ إِلْكِيَا: هَذَا إذَا كَانَتْ الْغَايَةُ مَعْلُومَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُجْمَلَةً وَهِيَ الَّتِي رَمَزَ الشَّرْعُ إلَيْهَا، وَلَوْ لَمْ تَرِدْ أَمْكَنَ إجْرَاءُ حُكْمِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] فَهَلْ يُجْعَلُ بَيَانُ الْحُكْمِ عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ السَّابِقِ بَعْدَهَا نَسْخًا لِلْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ أَمْ لَا؟ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ نَسْخٌ بِحَقِّ شَرْعِيَّةِ الْجَلْدِ بَعْدَ قَوْلِهِ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ كَمَا لَوْ قَالَ: افْعَلُوهُ إلَى أَنْ أَنْسَخَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِخِطَابٍ شَرْعِيٍّ، فَارْتِفَاعُ الْحُكْمِ بِمَوْتِ

نسخ الحكم المعلق بالتأبيد

الْمُكَلَّفِ أَوْ جُنُونِهِ لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَإِنَّمَا هُوَ سُقُوطُ التَّكْلِيفِ جُمْلَةً. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَرْفُوعُ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ يَقْتَضِي دُخُولُهُ زَوَالَ الْمُغَيَّا بِغَايَةٍ، فَلَا يَكُونُ نَسْخًا عِنْدَ وُجُودِهَا. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ أَقْوَى مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ، فَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ مِنْهُ لَمْ يَنْسَخْهُ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يُزِيلُ الْقَوِيَّ. قَالَ إِلْكِيَا: وَهَذَا مِمَّا قَضَى بِهِ الْعَقْلُ، بَلْ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَنْسَخُوا نَصَّ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. السَّادِسُ: وَذَكَرَهُ إِلْكِيَا أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضَى بِالْمَنْسُوخِ غَيْرَ الْمُقْتَضَى بِالنَّاسِخِ، حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْبَدَاءُ. قَالَ: وَلَا يُشْتَرَطُ بِالِاتِّفَاقِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ النَّاسِخُ مُتَنَاوِلًا لِمَا تَنَاوَلَهُ الْمَنْسُوخُ، أَعْنِي التَّكْرَارَ وَالْبَقَاءَ، إذْ لَا يُمْنَعُ فَهْمُ الْبَقَاءِ بِدَلِيلٍ آخَرَ سِوَى اللَّفْظِ، وَمِنْ هُنَا يُفَارِقُ التَّخْصِيصَ. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ نَسْخًا، مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا. فَلَا يَدْخُلُ النَّسْخُ أَصْلَ التَّوْحِيدِ بِحَالٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَكَذَا مَا عُلِمَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ يَتَأَبَّدُ وَلَا يَتَأَقَّتُ فَلَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ، كَشَرِيعَتِنَا هَذِهِ. قَالَ سُلَيْمٌ: وَكُلُّ مَا لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ. وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي الْأَخْبَارِ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا عَلَى خِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ. وَكَذَا قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ: الضَّابِطُ فِيمَا يُنْسَخُ مَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ مِنْ حُسْنٍ لِقُبْحٍ. . [نَسْخِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالتَّأْبِيدِ] وَاعْلَمْ أَنَّ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالتَّأْبِيدِ وَجْهَيْنِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّ صَرِيحَ التَّأْبِيدِ مَانِعٌ مِنْ احْتِمَالِ النَّسْخِ. قَالَ: وَأَشْبَهَهُمَا الْجَوَازُ. قُلْت: وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ إلَى مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ

فِي " الْمُعْتَمَدِ " إلَى الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ: لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي لَفْظِ التَّأْبِيدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُبَالَغَةُ لَا الدَّوَامُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ كَالْمُؤَكَّدِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ انْقِطَاعُ الْمُؤَبَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] الْآيَةَ جَازَ انْقِطَاعُهُ بِالنَّسْخِ كَالْمُطْلَقِ. وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ الْمُؤَكَّدِ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": ظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ جَوَازُ نَسْخِ الْحُكْمِ الْمُصَرَّحِ فِيهِ بِكَلِمَةِ التَّأْبِيدِ، وَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ الْجَصَّاصُ: الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا امْتِنَاعُ نَسْخِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ الْحُكْمِ بَاقِيًا عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهُ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَالدَّبُوسِيُّ، والبزدويان الْأَخَوَانِ، وَادَّعَى شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ فِي " الْكَشْفِ " الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ التَّنْصِيصَ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الزَّمَانِ بِخُصُوصِهِ يَمْنَعُ النَّسْخَ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِمَا إذَا كَانَ إنْشَاءً، نَحْوُ: صُومُوا أَبَدًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ خَبَرًا مِثْلَ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا،

مسألة في وقت النسخ

فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ. وَفِي كَلَامِ الْآمِدِيَّ إشَارَةٌ إلَيْهِ. وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ إذْ يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِ الْخَبَرِ الْخِلَافُ. وَكَذَلِكَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِي أَوَّلِ النَّسْخِ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ: هَذَا الْحُكْمُ مُؤَبَّدٌ لَا يَنْسَخُهُ شَيْءٌ، فَهَلْ يَجُوزُ تَقْدِيرُ نَسْخِهِ؟ قُلْنَا: لَا، لِأَنَّ فِي تَقْدِيرِ وُرُودِهِ تَجْوِيزَ الْخُلْفِ. اهـ. وَلَكِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ لَا خُصُوصِيَّةَ لَهَا بِالْمُؤَبَّدِ، فَإِنَّ الْخَبَرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَمْتَنِعُ فِيهِ النَّسْخُ، لَا مِنْ حَيْثُ التَّأْبِيدُ. وَصَوَابُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: التَّقْيِيدُ بِالتَّأْبِيدِ لَا يَزِيدُ حُكْمًا مُتَجَدِّدًا، بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْخَبَرِ أَمْ الْإِنْشَاءِ. أَمَّا فِي الْخَبَرِ فَلَا خِلَافَ، وَأَمَّا فِي الْإِنْشَاءِ فَعَلَى الْمُخْتَارِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا مَنَعَ ابْنُ الْحَاجِبِ بَعْضَ الْإِنْشَاءَاتِ فَكَأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّأْبِيدُ قَيْدًا فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، نَحْوُ: صُومُوا أَبَدًا، فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِلْوُجُوبِ وَبَيَانًا لِمُدَّةِ بَقَائِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ فَلَا يَجُوزُ. قُلْت: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى. . [مَسْأَلَةٌ فِي وَقْتِ النَّسْخِ] يَجُوزُ النَّسْخُ بَعْدَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَالْعَمَلِ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَسَوَاءٌ عَمِلَ بِهِ كُلُّ النَّاسِ كَاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ بَعْضُهُمْ كَفَرْضِ

النسخ قبل الفعل على أقسام

الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نُسِخَتْ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. . [النَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ عَلَى أَقْسَامٍ] [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ النَّسْخُ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِهِ] وَأَمَّا النَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ فَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِهِ، كَمَا إذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِبْرِيلَ أَنْ يُعْلِمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوُجُوبِ شَيْءٍ عَلَى الْأُمَّةِ، ثُمَّ يَنْسَخُهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِ، فَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّسْخِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ اسْتِمْرَارِ الْفَرْضِ، لِيَخْرُجَ عَنْ الْبَدَاءِ إلَى الْإِعْلَامِ بِالْمُدَّةِ. قَالَا: وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ مِنْ فَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً، ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ بِخَمْسٍ، فَكَانَ عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيرِ دُونَ الْفَرْضِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْتَقِرُّ بِنُفُوذِ الْأَمْرِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ أَمْرٌ إلَّا عِنْدَ اسْتِقْرَارِ الْخَمْسِ. انْتَهَى. وَقَدْ حَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي ذَلِكَ الِاتِّفَاقَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَإِلْكِيَا. وَقَالَ: لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ، لِأَنَّ النَّسْخَ نَوْعُ تَكْلِيفٍ أَوْ حَطُّ تَكْلِيفٍ، فَإِنْ كَانَ إلَى بَدَلٍ كَانَ تَكْلِيفًا وَإِلَّا حَطَّ تَكْلِيفٍ، وَقَدْ شُرِعَ لِمِثْلِ مَا شُرِعَ لَهُ أَصْلُ التَّكْلِيفِ. وَالْعِلْمُ شَرْطٌ لِحُصُولِ أَصْلِ التَّكْلِيفِ إلَّا حَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ الْإِمْكَانُ عَلَيْهِ، فَالنَّسْخُ مِثْلُهُ بِلَا فَرْقٍ. قَالَ: وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ هَلْ يَلْزَمُهُمْ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالتَّدَارُكِ أَوْ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِمْ؟ وَيَنْبَغِي التَّغَايُرُ، عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ

هَلْ يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَوْ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَا مَزِيدَ عَلَى حُسْنِ هَذَا. اهـ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " فِي آخِرِ بَابِ النَّسْخِ: نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِهِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَمَنَعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْعِلْمِ. وَزَعَمُوا أَنَّ النَّسْخَ قَبْلَ الْعِلْمِ يَتَضَمَّنُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقَ، فَإِذَا قَضَيْنَا بِصِحَّتِهِ صَحَّ النَّسْخُ حِينَئِذٍ. قَالَ: وَاحْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقِصَّةِ الْمِعْرَاجِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ خَمْسِينَ صَلَاةً، ثُمَّ نَسَخَهَا قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِوُجُوبِهَا، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدُ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَدْ عَلِمَ، وَلَكِنَّهُ قَبْلَ عِلْمِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ. وَعِلْمُ الْجَمِيعِ لَا يُشْتَرَطُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ اسْتَقَرَّ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا اعْتِمَادَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ. اهـ. وَظَهَرَ أَنَّ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ الْأَزْدِيُّ تِلْمِيذُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ " اللَّامِعِ " لَهُ: مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْأَمْرُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَدْ يُنْسَخُ عَنْهُ الْأَمْرُ أَمْ لَا؟ ثُمَّ قَالَ: عِنْدَنَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَدْ يُنْسَخُ عَنْهُ الْأَمْرُ إذَا بَلَغَهُ، وَتَأَدَّى إلَيْهِ لَزِمَهُ الْمَصِيرُ إلَى مُوجَبِ النَّاسِخِ. قَالَ عَبْدُ الْجَلِيلِ الرَّبَعِيُّ فِي شَرْحِهِ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَإِنْ تَجَوَّزَ فِي قَوْلِهِ: يَصِحُّ، وَحَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: يَجِبُ، إذْ

لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْأَمْرِ نَسْخًا أَنْ يُبَلَّغَ الْمَأْمُورُ، وَإِنَّمَا الْبَلَاغُ شَرْطُ الِامْتِثَالِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا حِينَ عَدَمِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ حَاتِمٍ وَاللَّفْظُ لَهُ: يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: قَدْ نُسِخَ عَنْهُ الْأَمْرُ، وَإِذَا بَلَغَهُ لَزِمَهُ الْمَصِيرُ إلَى مُوجَبِ النَّاسِخِ لَا بِالْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، بَلْ بِاعْتِقَادٍ لَهُ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ فَبَلَغَهُ أَنَّهُ أَمْرٌ، ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَصِيرَ إلَى مُوجَبِ النَّاسِخِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ: مِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا، أَمَّا إذَا لَمْ يَبْلُغْهُ الْمَنْسُوخُ، فَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ النَّاسِخِ، كَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ حُكْمُ الْمَنْسُوخِ. اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِالْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ، اتَّفَقَتْ الْأَشَاعِرَةُ عَلَى جَوَازِهِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَنْعِهِ. وَحَكَى الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ التَّعْرِيفِيَّةِ، فَمَنَعُوهُ فِي الْأَوَّلِ وَجَوَّزُوهُ فِي الثَّانِي، كَتَكْلِيفِ الْغَافِلِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. اهـ.

وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسِخَ إذَا كَانَ مَعَ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَسُلَيْمٌ، وَغَيْرُهُ وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ وُصُولِهِ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَبْلَ تَبْلِيغِهِ إلَيْنَا، هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَسُلَيْمٌ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعِدَّةِ " وَغَيْرُهُمْ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْأُصُولِيِّينَ، وَاخْتَارَ الثُّبُوتَ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ ". وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": إنَّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَنَصَرَهُ. وَنُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْنَا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَجَزَمَ بِهِ الرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " لِلْجُمْهُورِ. وَقَالَ: وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسْخُ شَرَطُوا فِيهِ الْبَلَاغَ، فَوَجَبَ كَوْنُ الْخِلَافِ لَفْظِيًّا. اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُتَمَكِّنُ وَهُوَ [الثَّابِتُ] فِي حَقِّهِ. وَالثَّانِي: غَيْرُ الْمُتَمَكِّنِ وَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ لَا بِمَعْنَى الِامْتِثَالِ، وَلَا بِمَعْنَى ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَثْبُتُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي كَالنَّائِمِ، وَلَمْ يَصِرْ أَحَدٌ إلَى ثُبُوتِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": إنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَوْ قُدِّرَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ أَقْدَمَ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ يَكُونُ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُ، بَيْدَ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَيُعْذَرُ لِجَهْلِهِ. اهـ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. فَإِنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيَّ قَالَ: إنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَصِحُّ عَمَلُهُ بِالْمَنْسُوخِ إلَى وَقْتِ عِلْمِهِ بِالنَّسْخِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَحْسُنُ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ

عِلْمِهِ بِالنَّسْخِ، لَكِنَّهُ يُعْذَرُ. قَالَ: وَلِأَجْلِ هَذَا الْخِلَافِ خَرَّجُوا عَمَلَ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي التَّأْثِيمِ، وَهَلْ يَثْبُتُ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ إذْ هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ؟ هَذَا فِيهِ تَرَدُّدٌ، لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ تَتَّصِلْ بِنَا، لِأَنَّ الْعَادَةَ تَخْصِيصُ جَانِبِ النَّسْخِ بِالذِّكْرِ دُونَ الْحُكْمِ الْمُبْتَدَأِ. اهـ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ. وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُخَاطَبُ بِحُكْمِ الْأَوَّلِ إلَى أَنْ يَبْلُغَهُ النَّسْخُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ نَاسِخًا قَبْلَ الْبُلُوغِ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ لِلْمَعْدُومِ عَلَى شَرْطِ الْوُجُودِ، أَوْ لَا يَتَّصِفُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ؟ قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الْحَقِيقِيُّ مَعَ الَّذِينَ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُمْ يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحُكْمَ يَرْتَفِعُ عَمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ. وَقَدْ تَبِعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَاضِيَ فِي جَعْلِ الْخِلَافِ لَفْظِيًّا. قَالَ: لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ عَلَيْهِمْ الْأَخْذَ بِالنَّاسِخِ قَبْلَ بُلُوغِهِ، فَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. وَإِنْ أُرِيدَ إلْزَامُ التَّدَارُكِ فَلَا مَنْعَ قَطْعًا. وَقَدْ قَالَ: بَلْ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَحْتَاجُ فِي التَّدَارُكِ إلَى خِطَابٍ جَدِيدٍ، أَوْ يَكْفِي النَّاسِخُ؟ وَقَدْ سَبَقَ عَنْ إلْكِيَا مَا يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُهُ هُنَا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ ": وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى إلْحَاقِهَا بِالْمُجْتَهَدَات، حَتَّى نَقَلُوا فِيهَا قَوْلَيْنِ مِنْ الْوَكِيلِ إذَا عُزِلَ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ. هَذَا كُلُّهُ إذَا بَلَّغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ بَلَّغَهُ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ كَقَضِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَهَلْ يُسَمَّى نَسْخًا أَمْ لَا؟ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ تَسْمِيَتُهُ

القسم الثاني النسخ بعد علم بعض المكلفين بوجوبه

بِهِ، وَمَنَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَقَعْ قَطُّ إلَّا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي. قَالَ: وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِلتَّخَلُّصِ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ لَجَازَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْبَقَرَةِ حِينَ أُمِرُوا بِذَبْحِهَا حَتَّى رَاجَعُوا، وَعَيَّنَ لَهُمْ فَرَدُّوا، فَيَنْبَغِي تَسْمِيَتُهُ نَسْخًا؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ حَادِثٌ بَعْدَ الْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ قَدْ وُجِّهَ بِهِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الَّذِي لَمْ يُوَاجَهْ بِهِ الْمَفْرُوضُ عَلَيْهِ، وَلَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ. قَالَ: وَلَا يُسَمِّي أَحَدٌ هَذَا نَسْخًا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ النَّسْخُ فِي السَّمَاءِ إذَا كَانَ هُنَاكَ تَكْلِيفٌ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُسْرِيَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، كَنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بَدَاءً، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنَعُوا كَوْنَ الْإِسْرَاءِ يَقَظَةً. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ " تَأْلِيفُهُ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اسْتَجَازَ أَنْ يُطْلَقَ اللَّفْظُ بِنَسْخِ الشَّيْءِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ. قِيلَ: الْقَاشَانِيُّ يُسَمِّي الرُّجُوعَ مِنْ خَمْسِينَ صَلَاةً إلَى خَمْسٍ نَسْخًا، فَخَرَجَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِك الْأُمَّةَ. انْتَهَى. . [الْقِسْمُ الثَّانِي النَّسْخُ بَعْدَ عِلْمِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ بِوُجُوبِهِ] الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ عِلْمِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ بِوُجُوبِهِ، وَهَذِهِ هِيَ مَسْأَلَةُ الْمِعْرَاجِ، وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهَا، وَقَدْ ذَكَرَهَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ فِي

القسم الثالث أن يعلم المكلف بوجوب النسخ عليه لكن لم يدخل وقته

الْبَحْرِ "، فَقَالَا: إنْ أَبْلَغَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْبَعْضِ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَائِبِينَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَشْبَهَهُمَا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ اسْتَدَارُوا وَبَنَوْا، وَلَمْ يَسْتَأْنِفُوا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ ": إذَا نَزَلَ النَّسْخُ عَلَى الرَّسُولِ ثَبَتَ النَّسْخُ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّهِمْ فِي قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. وَمِنْ قَائِلٍ: لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ ذَلِكَ بِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ. ثُمَّ نَصَرَ الشَّيْخُ الْأَوَّلَ، وَأَجَابَ عَنْ قِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ، بِأَنَّ الْقِبْلَةَ يَجُوزُ تَرْكُهَا بِالْأَعْذَارِ، وَلِهَذَا تُتْرَكُ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا فِي نَوَافِلِ السَّفَرِ، فَلِهَذَا لَمْ يُؤَمَّرُوا بِالْإِعَادَةِ. وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَذْهَبًا ثَالِثًا بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ وَخِطَابِ الْوَضْعِ. فَمَنَعَهُ فِي الْأَوَّلِ وَجَوَّزَهُ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْغَافِلِ وَنَحْوِهِ. . [الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ بِوُجُوبِ النَّسْخْ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ] الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَسَّعًا كَمَا لَوْ قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ غَدًا، ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ، ثُمَّ يُنْسَخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، أَوْ يُؤْمَرَ بِالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا، ثُمَّ يُنْسَخَ قَبْلَ مُضِيِّ وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِهَا. فَهَاهُنَا اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إلَى الْجَوَازِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَسُلَيْمٌ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَنَقَلَهُ غَيْرُهُمْ عَنْ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ، قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَقِّ.

وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِمُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ، إلَى الْمَنْعِ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إنَّهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ، وَلِهَذَا حَدَّ النَّسْخَ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى زَوَالِ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. قَالَ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْأَشَاعِرَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهُوَ قَوْلُ شُيُوخِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الصَّيْرَفِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَعَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَهَكَذَا حَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْمَنْعَ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ. وَنَقَلَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ الصَّيْرَفِيِّ الْجَوَازَ، وَهُوَ الَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِهِ. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ، وَعَلَيْهِ مَشَايِخُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَذَكَرَ الْبَزْدَوِيُّ أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي نَسْخِهَا، وَإِنَّمَا الْمَشْرُوطُ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْعَزْمِ. وَقَالَ صَاحِبُ " اللُّبَابِ ": اخْتَلَفُوا فِي التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِجَوَازِ النَّسْخِ؟ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا مِثْلُ: أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ، وَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَعَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّهُ شَرْطٌ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخنَا، وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْأَمْرُ مُعَلِّقًا بِوَقْتٍ جَازَ نَسْخُهُ قَبْلَ مَجِيءِ الْوَقْتِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُنَجَّزًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِامْتِثَالِ بِهِ فِيهِ وَقَعَ الْخِلَافُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الِاعْتِقَادِ شَرْطٌ. اهـ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: شَرْطُ جَوَازِ النَّسْخِ عِنْدَنَا التَّمَكُّنُ مِنْ عَقْدِ الْقَلْبِ، وَأَمَّا الْفِعْلُ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْفِعْلِ شَرْطٌ. قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: لَا نَسْخَ عَلَى

القسم الرابع أن يدخل وقت المأمور به لكن ينسخ قبل فعله

الْحَقِيقَةِ إلَّا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِنَسْخِ الشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَلَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ نَفْسِ مَا أُمِرَ بِهِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ. وَقِيلَ: إنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطٍ أَنْ يَنْهَى عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِإِيقَاعِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْمُغَايَرَةِ عَلَى طُرُقٍ: إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْفِعْلِ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْأَمْرِ، فَإِذَا نُهِيَ عَنْهُ قَبْلَ وَقْتِهِ زَالَ الْأَمْرُ بِهِ، فَصَارَ لِذَلِكَ مَأْمُورًا بِهِ عَلَى وَجْهٍ، وَمَنْهِيًّا عَنْ إيقَاعِهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ. وَقِيلَ: إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ مَعَ انْتِفَاءِ النَّهْيِ عَنْهُ بَدَلَ الْأَوَّلِ مَعَ بَقَاءِ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْفِعْلِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهُ. وَقِيلَ: بِشَرْطِ أَنْ يَخْتَارَهُ الْمُكَلَّفُ وَيَعْزِمَ عَلَيْهِ، فَإِذَا نَهَى عَنْهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُهُ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ الْقَوْلِ بِالْحَاجَةِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ هَلْ هُوَ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ بِالْفِعْلِ فَيَصِحُّ نَسْخُهُ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ فَلَا يَصِحُّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ؟ وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ فَائِدَةَ الْأَمْرِ عَلَى تَقْدِيرِ تَجْوِيزِ النَّسْخِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ لِلَّهِ يَكُونُ عَلَى مَحْضِ الِابْتِلَاءِ، وَيَتَحَقَّقُ الِابْتِلَاءُ فِي التَّكْلِيفِ بِاعْتِقَادِ الْوُجُوبِ. . [الْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الْمَأْمُورِ بِهِ لَكِنْ يُنْسَخُ قَبْلَ فِعْلِهِ] ِ، إمَّا لِكَوْنِهِ مُوَسِّعًا، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَشْرَعَ فَيَنْسَخَ. فَقَالَ سُلَيْمٌ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعِدَّةِ ": إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِهِ، وَجَعَلَا الْخِلَافَ فِيمَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " وَالْقَاضِي

مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَكَذَا نَقَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ". قَالَ: لِلْمَعْنَى الَّذِي جَازَ نَسْخُهُ بَعْدَ إيجَادِهِ، وَهُوَ انْقِلَابُ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةً، وَكَذَا الْآمِدِيُّ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ لَا بَعْدَهُ. وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " مُصَرِّحٌ بِهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَبْدَرِيّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى " فَقَالَ: النَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ ثَلَاثُ صُوَرٍ: إحْدَاهَا: أَنْ يَرِدَ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا تَقَعُ فِيهِ الْعِبَادَةُ كُلُّهَا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرِدَ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يَقَعُ فِيهِ بَعْضُهَا. فَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ فِيهِمَا، لِأَنَّ شَرْطَ الْأَمْرِ حَاصِلٌ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْفِعْلِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ قَبْلَ وَقْتِهِ الْمُعْتَدِّ بِهِ ثُمَّ يُنْسَخُ قَبْلَ دُخُولِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. اهـ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَرَافِيِّ وَغَيْرِهِ حَيْثُ أَجْرَوْا خِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ هُنَا. نَعَمْ، الْخِلَافُ ثَابِتٌ بِنَقْلِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ فِي بَعْضِ الْمُؤَلَّفَاتِ الْقَدِيمَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَالْكَرْخِيِّ خَالَفَ فِيهِ. وَقَالَ: لَا يَجُوزُ النَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ، سَوَاءٌ مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُهُ أَمْ لَمْ يَمْضِ. وَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا حِكَايَةَ الْخِلَافِ فِي النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَهُوَ يَشْمَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ، فَقَالَ: إذَا وَرَدَ

النَّسْخُ قَبْلَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَقَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ الِاعْتِقَادِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ بَعْدَ الْعَمَلِ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ. وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ إلَّا إنْ مَضَى بَعْدَ الِاعْتِقَادِ زَمَانُ الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ، لِاخْتِصَاصِ النَّسْخِ بِتَقْدِيرِهِ التَّكْلِيفَ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بِمُضِيِّ زَمَانِهِ. اهـ. وَقَضِيَّتُهُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ مُطْلَقًا فِيمَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ وَبَعْدَهُ. وَعَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ. وَالثَّانِي: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يُنْقَلَ مِنْ فَرْضٍ إلَى إسْقَاطِهِ فَيَجُوزَ، لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ حَصَلَ فِيهِ الْإِثْبَاتُ لِلتَّخْفِيفِ، وَهَذَا الْوَجْهُ رَأَيْته مَحْكِيًّا فِي كِتَابِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قَالَ: بَابُ ذِكْرِ نَسْخِ الْفَرْضِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، بِإِسْقَاطِهِ أَوْ بِالنَّقْلِ إلَى غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَسْت أَحْفَظُ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْئًا نَصًّا إلَّا مَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إذَا فَرَضَ شَيْئًا اسْتَعْمَلَ عِبَادَهُ بِهِ مَا أَحَبَّ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ مِنْهُ إذَا شَاءَ. هَذَا مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ أَوْ الْمَنْعَ، لَكِنَّهُ إلَى الْمَنْعِ أَقْرَبُ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى جَوَازِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُرِضَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ صَلَاةً حَيْثُ أُسْرِيَ بِهِ، ثُمَّ رُدَّ إلَى خَمْسٍ، فَصَارَ نَسْخًا قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ. وَكَذَلِكَ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ فِي الذَّبْحِ، وَنَسْخُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ، وَعَهْدُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ قُرَيْشٍ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَذَلِكَ نَقْلٌ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الشَّيْءِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَأَمَّا الِانْفِصَالُ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ شَيْءٍ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ بِأَيِّ وُجُوهٍ النَّسْخِ كَانَ نَقْلًا مِنْ فَرْضٍ إلَى غَيْرِهِ، أَوْ مِنْ وُجُوبٍ إلَى إسْقَاطٍ أَوْ مِنْ حَظْرٍ إلَى إبَاحَةٍ أَوْ عَكْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيمَا نُقِلَ مِنْ فَرْضٍ إلَى إسْقَاطٍ، لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ قَدْ حَصَلَ مِنْهُ الِامْتِنَانُ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] فَامْتَنَّ بِالتَّخْفِيفِ بَعْدَ التَّغْلِيظِ، فَهَذَا جَائِزٌ، فَأَمَّا إذَا نُقِلَ مِنْ فَرْضٍ إلَى مِثْلِهِ أَوْ أَغْلَظَ مِنْهُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْضِعَ الِامْتِنَانِ وَلَا الْمَقْصِدَ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ إلَّا فِعْلَ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَالنَّقْلُ عَنْ ذَلِكَ إلَى مِثْلِهِ لَا مَقْصِدَ فِيهِ يُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِعْلًا، إلَّا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مَقْصِدٌ مُعْتَزِلِيٌّ مَعْرُوفٌ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا حَمَلَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ مُرَاعَاةُ مَذْهَبِهِمْ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، فَأَرَادُوا تَصْحِيحَ مَذْهَبِهِمْ. فَسَمَّوْا مَا وَقَعَ التَّأْخِيرُ فِيهِ نَسْخًا، لِئَلَّا يَلْزَمَهُمْ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ، فَعَدَلُوا عَنْ تَسْمِيَتِهِ بَيَانًا إلَى النَّسْخِ، لِذَلِكَ قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْقَاشَانِيُّ. وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ بِتَأْخِيرِ الْبَيَانِ أَوْلَى ثَمَّ، وَأَشْبَهَ بِمَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي فَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ سَاقِطٌ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا نُقِلَ مِنْ فَرْضٍ إلَى إسْقَاطٍ. وَالِامْتِنَانُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ثَابِتٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَهُوَ نَفْيُ جَوَازِ ذَلِكَ مُطْلَقًا. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهَا كُلُّهَا نَسْخٌ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَمْرِ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَقِصَّةُ إبْرَاهِيمَ أُتِيَ فِيهَا بِالْإِضْجَاعِ، وَإِمْرَارِ السِّكِّينِ، وَالطَّعْنِ بِهِ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ النَّجْوَى، فَقَدْ فَعَلَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَقِصَّةُ الصَّلَاةِ لَا نُسَمِّيهِ نَسْخًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْأَمْرُ إلَّا بِخَمْسٍ. وَأَمَّا قِصَّةُ الصُّلْحِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ الصُّلْحَ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَرَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرِّجَالَ، وَمَنَعَ مِنْ رَدِّ النِّسَاءِ، وَأَعْطَوْا الْغَرَضَ مِنْهُ، فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ بَعْدَ الْفِعْلِ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ وُقُوعَ النَّسْخِ بَعْدَ أَنْ يُفْعَلَ بَعْضُهُ. هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِهِ.

القسم الخامس أن يدخل وقته فيشرع في فعله لكنه ينسخ قبل تمامه

[الْقِسْمُ الْخَامِسُ أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُهُ فَيَشْرَعَ فِي فِعْلِهِ لَكِنَّهُ يُنْسَخُ قَبْلَ تَمَامِهِ] ِ. وَقَدْ سَبَقَ التَّصْرِيحُ مِنْ كَلَامِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ بِجَوَازِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَقَدْ جَعَلَهَا الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ " مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا، وَلَكِنَّ مُقْتَضَى قَوْلِنَا الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: إذَا أَتَى بِبَعْضِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْتِيُّ بِهِ تَحْصُلُ بِهِ مَصْلَحَةٌ، أَوْ لَا تَحْصُلُ، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ كَمَا إذَا أُمِرَ بِإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ يَأْتِي بِهِ إلَى قَرِيبٍ مِنْ الشَّاطِئِ، وَكَانَ الْغَرِيقُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ السِّبَاحَةُ إلَى طُلُوعِ الْبَرِّ، فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ وَأَشْبَاهَهَا لَا يَجُوزُ فِيهَا النَّسْخُ. وَإِنْ حَصَلَ بَعْضُ الْمَقْصُودِ، كَمَا إذَا أُمِرَ بِإِشْبَاعِ الْجَائِعِ، وَسَقْيِ الْعَطْشَانِ، وَإِكْسَاءِ الْعُرْيَانِ، فَفَعَلَ الْبَعْضُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْبَاقِي، لِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ مَقْصُودٌ. . [الْقِسْمُ السَّادِسُ أَنْ يَقَعَ النَّسْخُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ فِعْلِهِ] الْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَقَعَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ فِعْلِهِ: مُقْتَضَى اسْتِدْلَالِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِالِاتِّفَاقِ، وَوُجِّهَ بِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهِ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْوَقْتُ، وَإِذَا انْتَفَى فَلَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ لِامْتِنَاعِ رَفْعِ الْمَعْدُومِ، لَكِنْ صَرَّحَ الْآمِدِيُّ فِي الْإِحْكَامِ بِالْجَوَازِ، وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ. قِيلَ: وَلَا يَتَأَتَّى الْأَمْرُ إذَا صُرِّحَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، أَوْ قُلْنَا: الْأَمْرُ بِالْأَدِلَّةِ يَسْتَلْزِمُهُ، وَالصَّوَابُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ، فَإِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةُ قَطَعَ بِهِ، فَقَالَ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": نَسْخُ الشَّيْءِ قَبْلَ فِعْلِهِ ضَرْبَانِ: نَسْخٌ لَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ شُيُوخِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى جَوَازِهِ، وَنَسْخٌ لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ، لِأَنَّ مِثْلَ الْفِعْلِ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ مَفْسَدَةً. قَالَ: وَلَا فَرْقَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ أَنْ يَعْصِيَ الْمُكَلَّفُ أَوْ يُطِيعَ. اهـ. فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ خِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجِيءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ هِيَ

مَحَلُّ وِفَاقٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. لَكِنَّ الْقَاضِيَ فِي " التَّقْرِيبِ " صَرَّحَ بِجَرَيَانِ خِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: لَا يَسْتَحِيلُ عِنْدَنَا أَنْ يُنْسَخَ الْفِعْلُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَبَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهِ الَّذِي وَقَّتَهُ بِهِ، لَا عَلَى أَنْ يُقَالَ لِلْمُكَلَّفِ: لَا تَفْعَلُهُ فِي الْوَقْتِ الْمَاضِي الَّذِي كَانَ قَدْ وُقِّتَ بِهِ لِاسْتِحَالَتِهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ النَّسْخُ لَهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَمَعَ فِعْلِهِ، وَبَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهِ، بِأَنْ تُعَادَ الْقُدْرَةُ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ عَلَى تَرْكِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ، ثُمَّ يُؤْمَرُ الْمُكَلَّفُ بِأَنْ يَفْعَلَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً فِيمَا بَعْدُ إذَا عَرَفَهُ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ الَّذِي وُقِّتَ لَهُ ثَانِيًا: لَا تَفْعَلْهُ فَقَدْ نَهَيْنَاك عَنْهُ هَذَا جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَيَكُونُ نَسْخًا لِلشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَقَبْلَ إيقَاعِهِ، وَمُنِعَ إيقَاعُهُ فِي وَقْتِهِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ إعَادَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يُنْكِرُونَهُ، وَعَلَى إعَادَةِ الْبَاقِي مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِ الْبَاقِي، فَلِذَلِكَ أَحَالُوا نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ تَقَضِّي وَقْتِهِ، إمَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ، أَوْ لِاسْتِحَالَةِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا. وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّسْخِ فَلَمْ يَعْرِفْ مَا أَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَحْذَرْ الْفَقِيهُ السَّلِيمُ مِنْ بِدْعَتِهِمْ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ تَرْجَمَ الْمَسْأَلَةَ بِالنَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالْأُصُولِ: إنَّمَا قُلْنَا: نُسِخَ الْحُكْمُ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَلَمْ نَقُلْ: قَبْلَ فِعْلِهِ، لِأَنَّ الْمُخَالِفَ يَقُولُ: يَجُوزُ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَهُوَ نَسْخُ الْفِعْلِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَمَا بَعْدَهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّسْخَ إذَا وَرَدَ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إيجَابُ مُقَدِّمَاتِ الْفِعْلِ، وَكُلُّ النَّسْخِ عِنْدَنَا هَكَذَا، لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلزَّمَانِ، وَبَيَانٌ لِمَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ، كَالتَّخْصِيصِ فِي الْأَعْيَانِ. وَلَا نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ نَسَخَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا فِعْلَهُ، وَأَرَادَ إيجَابَهُ، لِاسْتِلْزَامِهِ الْبَدَاءَ، وَهُوَ مُحَالٌ. اهـ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: جَوَّزَ الْجُمْهُورُ النَّسْخَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَجَعَلُوا الْحَقِيقَةَ إذَا قَالَ لَهُمْ: صَلُّوا غَدًا، وَاقْتُلُوا زَيْدًا، ثُمَّ مَنَعَهُمْ مِنْهُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، إنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِهِ عَلَى وَصْفٍ إنْ وُجِدَ سَقَطَ الْأَمْرُ كَأَنْ قَالَ: صَلُّوا غَدًا، وَاقْتُلُوا زَيْدًا إنْ لَمْ تَمُوتُوا. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْخَفَّافُ فِي " الْخِصَالِ ": كُلُّ نَسْخٍ فَإِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ مَا مَضَى يَسْتَحِيلُ لُحُوقُ النَّسْخِ لَهُ، لِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الزَّمَانِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ النَّسْخَ قَبْلَ الْفِعْلِ. وَلِهَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ بِالنَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ مُخْتَلَّةٌ، يَعْنِي لِأَنَّهَا تُفْهِمُ صِحَّةَ النَّسْخِ بَعْدَ الْفِعْلِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَا نَسْخَ أَبَدًا إلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّهُ رَفْعٌ أَوْ بَيَانٌ، إذْ لَا يَنْعَطِفُ النَّسْخُ عَلَى سَابِقٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ، هَلْ يَجُوزُ نَسْخُ الْفِعْلِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتَهُ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ وَقْتِ الْأَمْرِ بِهِ مَا يَسَعُهُ؟ فَأَهْلُ الْحَقِّ عَلَى جَوَازِهِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَنْعِهِ، ثُمَّ احْتَجَّ بِقِصَّةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ نَسَخَ الْأَمْرَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ لَا يُطَابِقُ الْمُدَّعَى بِظَاهِرِهِ. وَصَوَّرَ الْغَزَالِيُّ الْمَسْأَلَةَ فِي النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ. وَأَبُو الْحُسَيْنِ فِي النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: قَبْلَ مُضِيِّ مِقْدَارِ مَا يَسَعُهُ مِنْ وَقْتِهِ، لِيَشْمَلَ مَا إذَا حَضَرَ وَقْتُ الْفِعْلِ، وَلَكِنْ لَمْ يَمْضِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ أَيْضًا. قُلْت: وَالْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ، قِيلَ: أَرَادُوا بِهِ نَسْخَ الْخِطَابِ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ بِهِ عَمَلٌ أَلْبَتَّةَ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَتَوَجَّهُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ الْحُكْمِ الْمُتَلَقَّى مِنْ الْخِطَابِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ مُقْتَضَاهُ أَلْبَتَّةَ.

الثَّالِثُ: أَصْلُ الْخِلَافِ هُنَا الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ، وَكَذَلِكَ يَعْلَمُ الْمَأْمُورُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِامْتِثَالِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ يَمْنَعُونَهُ، وَلِهَذَا أَنْكَرُوا ثُبُوتَ الْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِالشَّرْطِ، فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَمْتَنِعُ كَالْمُعْتَزِلَةِ لَزِمَهُ هُنَا عَدَمُ جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِهِ، إذْ لَا يَتَمَكَّنُ قَبْلَ الْوَقْتِ فَلَا أَمْرَ، وَالنَّسْخُ يَسْتَدْعِي تَحَقُّقَ الْأَمْرِ السَّابِقِ، فَيَسْتَحِيلُ النَّسْخُ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَيَلْزَمُ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ مُوَافَقَتُهُمْ هُنَا، لِأَنَّهُ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ. أَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ كَالْجُمْهُورِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ بِجَوَازِهِ، وَأَنْ لَا يَقُولَ بِذَلِكَ، لِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ دَلِيلِ تَخْصِيصِهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعَ تِلْكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَعْنِي فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ كَمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ، بَلْ فِي عَدَمِ الْجَوَازِ فَقَطْ. وَفِي " تَقْرِيبِ " الْقَاضِي أَنَّ أَصْلَ الْخِلَافِ هُنَا الْخِلَافُ الْكَلَامِيُّ فِي جَوَازِ إعَادَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا. مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّسْخِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ إشْعَارُ الْمُكَلَّفِ بِوُقُوعِهِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَدْ سَبَقَتْ.

مسألة نسخ الحكم إلى غير بدل

[مَسْأَلَةٌ نَسْخُ الْحُكْمِ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ] مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّسْخِ أَنْ يَخْلُفَهُ بَدَلٌ، كَمَا فِي نَسْخِ الصَّدَقَةِ فِي مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ، وَالْإِمْسَاكِ بَعْدِ الْإِفْطَارِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ. حَكَاهُ الْإِمَامُ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ". وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِأَنَّهُ يَجُوزُ ارْتِفَاعُ التَّكْلِيفِ عَنْ الْمُخَاطَبِينَ جُمْلَةً، فَلَأَنْ يَجُوزَ ارْتِفَاعُ عِبَادَةٍ بِعَيْنِهَا لَا إلَى بَدَلٍ أَوْلَى. قَالَ: وَالْمُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ لَا يُجَوِّزُونَ ارْتِفَاعَ التَّكْلِيفِ. فَلِهَذَا خَالَفُونَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَهَذَا مَثَارُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. اهـ. لَكِنَّ الْمَجْزُومَ بِهِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " لِأَبِي الْحُسَيْنِ: الْجَوَازُ، وَإِنَّمَا نَسَبَ الْأُصُولِيُّونَ الْمَنْعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَوَازِ، أَمَّا الْوُقُوعُ فَالْجُمْهُورُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَقَعْ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي " الرِّسَالَةِ ": وَلَيْسَ يُنْسَخُ فَرْضٌ أَبَدًا إلَّا إذَا أُثْبِتَ مَكَانَهُ فَرْضٌ، كَمَا نُسِخَتْ قِبْلَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأُثْبِتَ مَكَانَهَا الْكَعْبَةُ. قَالَ: وَكُلُّ مَنْسُوخٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا. وَقَالَ

الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَعْدَ ذِكْرِ نَسْخِ التَّوَجُّهِ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ: وَهَذَا مَعَ إبَانَتِهِ لَك أَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَنَّ سُنَّةً حَوَّلَهُ اللَّهُ عَنْهَا إلَى سُنَنٍ أُخْرَى غَيْرِهَا يَصِيرُ إلَيْهَا النَّاسُ بَعْدَ الَّتِي حَوَّلَ عَنْهَا، لِئَلَّا يَذْهَبَ عَلَى عَامَّتِهِمْ النَّاسِخُ، فَيَثْبُتُونَ عَلَى الْمَنْسُوخِ، وَلِئَلَّا يَشْتَبِهَ عَلَى أَحَدٍ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسُنُّ، فَيَكُونُ فِي الْكِتَابِ شَيْءٌ يَرَى بَعْضُ مَنْ جَهِلَ اللِّسَانَ أَوْ الْعِلْمَ بِمَوْقِعِ السُّنَّةِ مَعَ الْكِتَابِ بِمَعَانِيهِ أَنَّ الْكِتَابَ يَنْسَخُ السُّنَّةَ. اهـ. كَلَامُهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ، بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْجَمَاهِيرِ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ قَدْ يَقَعُ بِلَا بَدَلٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الصَّيْرَفِيُّ فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ "، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِ " النَّاسِخِ " أَنَّهُ يُنْقَلُ مِنْ حَظْرٍ إلَى إبَاحَةٍ، أَوْ إبَاحَةٍ إلَى حَظْرٍ، أَوْ يَجْرِي عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِ الْمَفْرُوضِ. وَمَثَّلَهُ بِالْمُنَاجَاةِ. وَكَانَ يُنَاجَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا تَقْدِيمِ صَدَقَةٍ، ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ، ثُمَّ أَزَالَ ذَلِكَ، فَرَدَّهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ شَاءُوا تَقَرَّبُوا بِالصَّدَقَةِ إلَى اللَّهِ، وَإِنْ شَاءُوا نَاجَوْهُ مِنْ غَيْرِ صَدَقَةٍ. قَالَ: فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ مَكَانَ فَرْضٍ فَتَفْهَمُهُ. اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ يُنْقَلُونَ مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ إلَى مِثْلِهِ، وَلَا يُتْرَكُونَ غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ. وَهَذَا صَحِيحٌ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَنْسُوخٍ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مَعْنَى قَوْلِنَا: لَا يُنْسَخُ الشَّيْءُ إلَّا بِمِثْلِهِ، يَعْنِي مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ النَّاسِخِ، كَالنَّقْلِ مِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ، أَوْ مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّدْبِ أَوْ إلَى الْفَرْضِ، فَأَمَّا إنْ أُرِيدَ إسْقَاطُهُ فَنَسْخُهُ إمَّا أَنْ يُنْسَخَ بِرَسْمٍ مَعَ ثُبُوتِ الرَّسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِقَرَارِ رَسْمِهِ، وَإِمَّا بِرَفْعِ رَسْمِهِ مَعَ حُكْمِهِ بِأَنْ يُنْسَى، فَيَسْتَغْنِي بِذَلِكَ عَنْ رَسْمٍ يُرْفَعُ بِهِ كَسُورَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إنَّ النَّسْخَ يَكُونُ بِأَنْ يُبَدِّلَ مَكَانَهُ شَيْئًا، جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الْفَرَائِضِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى أَمْرٍ ثَانٍ بِعِبَارَةِ أُخْرَى، وَالْفَرْضُ الْأَوَّلُ قَدْ تَغَيَّرَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَمَرَ بِهِ أَرَادَ: فِي زَمَانٍ يُوصَفُ، إنَّمَا خَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْنَا، وَقُدِّرَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْفَرْضَ الْأَوَّلَ قَدْ تَغَيَّرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَكَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ الْكُلَّ وَاجِبٌ، فَإِذَا سَقَطَ الْبَعْضُ تَغَيَّرَ الِاعْتِقَادُ الَّذِي كُنَّا قَدْ اعْتَقَدْنَاهُ، فَلَا مَحَالَةَ يَتَغَيَّرُ شَيْءٌ مَا مِنْ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ. اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّوَرَ أَرْبَعٌ: الْأُولَى: جَوَازُ النَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ، لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ خِلَافُ الْمُعْتَزِلَةِ. الثَّانِيَةُ: وُقُوعُهُ بِلَا بَدَلٍ أَصْلًا بِحَيْثُ يَعُودُ الْأَمْرُ كَهُوَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ، وَيُتْرَكُونَ غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَنَعَ الشَّافِعِيُّ وُقُوعَهُ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا عَقْلًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ ". الثَّالِثَةُ: يُبَدَّلُ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، إمَّا إحْدَاثُ أَمْرٍ مُغَايِرٍ لِمَا كَانَ وَاجِبًا أَوَّلًا كَالْكَعْبَةِ قَبْلَ الْقُدْسِ، أَوْ الْحُكْمِ بِإِبَاحَةِ مَا كَانَ وَاجِبًا كَالْمُنَاجَاةِ، وَالنَّسْخُ لَمْ يَقَعْ إلَّا هَكَذَا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَبِهِ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ "، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ جَوَازَ النَّسْخِ لَا إلَى بَدَلٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ؟ وَلَوْ وَجَبَتْ عِبَادَةٌ فَمِنْ ضَرُورَةِ نَسْخِ وُجُوبِهَا إبَاحَةُ تَرْكِهَا، وَالْإِبَاحَةُ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ الْحُكْمِ الثَّابِتِ أَوَّلًا، وَهُوَ الْوُجُوبُ. قُلْنَا: مِنْ مَذْهَبِ مَنْ يُخَالِفُنَا أَنَّ الْعِبَادَةَ

لَا تَقَعُ إلَّا بِعِبَادَةٍ، وَلَا يُجَوِّزُونَ نَسْخًا بِإِبَاحَةٍ عَلَى أَنَّ مَا طَالَبْتُمُونَا بِهِ يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يُقَالَ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ نَسَخَ حُكْمَ الْعِبَادَةِ، وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ، فَهَذَا مِمَّا يُعْقَلُ وَلَا يُنْكَرُ، فَإِنْ اسْتَرْوَحُوا فِي مَنْعِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الْآيَةَ. وَهِيَ مُصَرِّحَةٌ بِإِثْبَاتِ الْبَدَلِ، قُلْنَا: هَذَا إخْبَارٌ بِأَنَّ النَّسْخَ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ النَّسْخِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. اهـ. فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَعْدَ أَنْ جَوَّزَ وُقُوعَهُ لَا إلَى بَدَلٍ. الرَّابِعَةُ: وُقُوعُهُ بِبَدَلٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ تَأْصِيلًا لِأَمْرٍ آخَرَ، كَالْكَعْبَةِ بَعْدَ الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ الشَّافِعِيُّ كَمَا تُوُهِّمَ عَلَيْهِ. .

فصل النسخ ببدل

[فَصْلٌ النَّسْخُ بِبَدَلٍ] فَصْلٌ النَّسْخُ بِبَدَلٍ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ فِي التَّخْفِيفِ أَوْ التَّغْلِيظِ، كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْكَعْبَةِ. الثَّانِي: نَسْخُهُ إلَى مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ كَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِالْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا. الثَّالِثُ: نَسْخُهُ إلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ كَالْعَكْسِ، وَلِوُقُوعِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْقِتَالَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نَسَخَهُ بِفَرْضِ الْقِتَالِ. وَنَسَخَ الْإِمْسَاكَ فِي الزِّنَا بِالْجَلْدِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ إلَى الْمَنْعِ، وَإِلَيْهِ صَارَ ابْنُ دَاوُد، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ فَقِيلَ: مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنْفِيرِ. وَقِيلَ: بَلْ الشَّرْعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]

، وَزَعَمَ الْهِنْدِيُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ قَالَ بِالْوُقُوعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي قَوْلًا أَنَّهُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ. وَذَكَرَ ابْنُ بَرْهَانٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ نَقَلَ الْمَنْعَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَكَذَا حَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ. قُلْت: كَأَنَّ مُسْتَنَدَ النَّقْلِ عَنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ ": إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ أَثْبَتَهَا، وَأُخْرَى نَسَخَهَا رَحْمَةً وَتَخْفِيفًا لِعِبَادِهِ. هَذَا لَفْظُهُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ النَّاسِخَ يَكُونُ أَخَفَّ مِنْ الْمَنْسُوخِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ النَّسْخَ رَحْمَةً وَتَخْفِيفًا، وَمَا نُسِخَ بِأَغْلَظَ مِنْهُ كَانَ تَشْدِيدًا لَا تَخْفِيفًا. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يُرِدْ بِهِ جَمِيعَ أَنْوَاعِ النَّسْخِ، بَلْ الْبَعْضَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ مُخَرَّجٌ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَطْلَقَ اللَّفْظَ عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ النَّسْخِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ، نَقْلٌ مِنْ تَغْلِيظٍ إلَى تَخْفِيفٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْفَرَائِضَ، وَأَرَادَ مَا لَمْ يَلْزَمْ إثْبَاتُهُ مِنْ الْفَرَائِضِ، فَأُسْقِطَ. قُلْت: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا هُوَ الْأَشْبَهُ. وَقَدْ قَالَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ شَيْءٌ نَقْطَعُ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي النَّسْخِ. وَالصَّحِيحُ: الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لِلِابْتِلَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَصْلَحَةٍ تَارَةً فِي النَّقْلِ إلَى مَا هُوَ أَخَفُّ وَتَارَةً أُشَقُّ. الثَّالِثُ: نَسْخُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى النَّسْخِ بِالْأَثْقَلِ، كَاَلَّذِي كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ التَّخْيِيرِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ بِالْفِدْيَةِ وَالصِّيَامِ بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] الْآيَةَ. ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] .

مسألة دخول النسخ في جميع الأحكام الشرعية

وَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إلَى مَا سَقَطَ وُجُوبُهُ إلَى النَّدْبِ، كَنَسْخِ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ إلَى ثَبَاتِهِ لِلِاثْنَيْنِ، فَكَانَ ثَبَاتُهُ لِلْعَشَرَةِ مَنْدُوبًا، وَنَسْخِ وُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَجُعِلَ نَدْبًا وَإِلَى مَا سَقَطَ وُجُوبُهُ إلَى الْإِبَاحَةِ كَتَرْكِ الْمُبَاشَرَةِ بِاللَّيْلِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ النَّوْمِ، إلَى مَا سَقَطَ تَحْرِيمُهُ إلَى الْإِبَاحَةِ كَزِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ. . [مَسْأَلَةٌ دُخُولُ النَّسْخِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ] مَسْأَلَةٌ يَدْخُلُ النَّسْخُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ يَدْخُلُ النَّسْخُ فِي كُلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِيمَا حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ ذَاتِيٌّ أَوْ لَازِمٌ لَهُ كَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ. وَوَافَقَهُمْ الصَّيْرَفِيُّ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ. فَقَالَ: الْأَشْيَاءُ فِي الْعُقُودِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ النَّهْيُ عَنْهُ، وَهُوَ الِاعْتِرَافُ لِلْمُنْعِمِ بِالْإِحْسَانِ، وَلِلْخَالِقِ بِالتَّعْظِيمِ، وَاعْتِقَادُ تَوْحِيدِهِ. وَالثَّانِي: مَحْظُورٌ لَا تَجُوزُ إبَاحَتُهُ كَإِبَاحَةِ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَنَحْوِهِ.

مسألة نسخ المقرون بكلمة التأبيد

وَالثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ الْعِبَادُ بِهِ، وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَأْتُوا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ وَالْأَمْرَ بِهِ لَا يَدْفَعُهُ الْعَقْلُ، فَجَازَ أَنْ يُوقِعَهُ اللَّهُ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَفِي مَكَان دُونَ مَكَان، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَقَعُ النَّسْخُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ النَّسْخُ فِي التَّوْحِيدِ، وَلَا فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، هَذَا لَفْظُهُ. وَهَكَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِهِ: لَا يَجُوزُ النَّسْخُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ، وَالِاتِّبَاعِ لِرُسُلِهِ، وَالْكُفْرِ بِالشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِ اللَّهِ. اهـ. وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ عَنْ سُلَيْمٍ. وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى جَوَازِ زَوَالِ التَّكَالِيفِ بِأَسْرِهَا عَنْ الْمُكَلَّفِ لِزَوَالِ شَرْطِهِ كَالْعَقْلِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى اللَّهُ الْمُكَلَّفَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ سُبْحَانَهُ إلَّا إذَا جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ. وَاخْتَلَفُوا فِي زَوَالِهَا بِالنَّسْخِ فَمَنَعَهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَالْغَزَالِيُّ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّكْلِيفَ بِمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيِّ حَيْثُ ذَكَرَا فِيهِ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى مَا يَسْتَحِيلُ شَرْعًا كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ نُسِخَ وُجُوبُ الْمَكْتُوبَاتِ الْخَمْسِ أَوْ صَوْمُ رَمَضَانَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْحَالِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ جَوَازُهُ، لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ كَغَيْرِهَا، لَكِنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا كَمَا ذَكَرْنَا عَلَى الْمَنْعِ. . [مَسْأَلَةٌ نَسْخِ الْمُقِرُّونَ بِكَلِمَةِ التَّأْبِيدِ] مَسْأَلَةٌ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْمُقِرُّونَ بِكَلِمَةِ التَّأْبِيدِ قَوْلَانِ. حَكَاهُمَا صَاحِبُ

مسألة في نسخ الأخبار

الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ". وَقَالَ: قَالَ الْجَصَّاصُ: الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْمَنْعُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَهُ بَاقِيًا عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهُ مُؤَقَّتًا. قَالَ: وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ جَوَازُهُ كَالْمُطْلَقِ، وَكَلِمَةُ التَّأْبِيدِ تُسْتَعْمَلُ لِلدَّوَامِ الْمَعْهُودِ. قُلْت: وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي التَّخْصِيصِ لِلْحُكْمِ الْمُؤَكِّدِ. . [مَسْأَلَةٌ فِي نَسْخِ الْأَخْبَارِ] ِ [الْخَبَر] إمَّا أَنْ يَنْسَخَ لَفْظَهُ أَوْ مَدْلُولَهُ. وَالْأَوَّلُ: إمَّا أَنْ يَنْسَخَ تَكْلِيفًا بِأَنْ يُخْبِرَ بِهِ، أَوْ تِلَاوَتَهُ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فِيمَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ كَإِيمَانِ زَيْدٍ أَمْ لَا. وَسَيَأْتِي حَدِيثُ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا» ، لِأَنَّهُ مِنْ الْمَنْسُوخِ تِلَاوَتُهُ، وَهُوَ خَبَرٌ، لَكِنْ هَلْ يَجُوزُ نَسْخُ تَكْلِيفِنَا بِالْإِخْبَارِ عَمَّا لَا يَتَغَيَّرُ تَكْلِيفًا بِالْإِخْبَارِ بِنَقِيضِهِ؟ مَنَعَهُ الْمُعْتَزِلَةُ، لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَالتَّكْلِيفُ فِيهِ قَبِيحٌ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَنَا. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَلَا مَانِعَ مِنْ التَّكْلِيفِ بِالْخَبَرِ نَقِيضَ الْحَقِّ. وَالثَّانِي: وَهُوَ نَسْخُ مَدْلُولِهِ وَثَمَرَتِهِ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُلَقَّبَةُ بِنَسْخٍ

الْأَخْبَارِ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، فَنَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ بِأَنْ لَا يَقَعَ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ كَصِفَاتِ اللَّهِ، وَخَبَرِ مَا كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ السَّاعَةِ وَآيَاتِهَا، كَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ "، لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصِحُّ تَغْيِيرُهُ بِأَنْ يَقَعَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا، أَوْ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا، أَوْ خَبَرًا عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّانِ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ، وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ إلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا، وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " إلَى الْمُعْظَمِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى الْمَنْعِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ فِي " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ "، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، وَالْجُبَّائِيُّ، وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: إنَّهُ الْحَقُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ، وَمَنَعَ فِي الْمَاضِي لِأَنَّهُ يَكُونُ تَكْذِيبًا، دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ، لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرْفَعَ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَنْ لَمْ يَفِ بِالْوَعْدِ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا. وَهَذَا التَّفْصِيلُ جَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ فِي " الْمِنْهَاجِ "، وَسَبَقَهُمَا إلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، فَقَالَ الْخَبَرُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُمْنَعُ نَسْخُهُ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ لَنَا عَنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَقَوْلِهِ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] .

وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ بَابِ الْأَخْبَارِ الْكَائِنَةِ كَقَوْلِهِ: مَنْ صَلَّى دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ زَنَى دَخَلَ النَّارَ، فَهَذَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ، فَيُقَالُ بَعْدَ ذَلِكَ: مَنْ صَلَّى أَدْخَلْته النَّارَ عَلَى حَسَبِ الْمَصْلَحَةِ. اهـ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ اسْتِثْنَاءٍ جَازَ نَسْخُهُ، قَالَ ابْنُ مُقْلَةَ فِي كِتَابِهِ " الْبُرْهَانِ ": كَمَا وَعَدَ قَوْمَ يُونُسَ بِالْعَذَابِ إنْ لَمْ يَتُوبُوا، فَلَمَّا تَابُوا كَشَفَهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: يَجُوزُ مُطْلَقًا إذَا كَانَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ وَالْخَبَرُ عَامٌّ، فَيُبَيِّنُ النَّاسِخُ إخْرَاجَ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْمَشْهُورُ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ، لِأَنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ، وَذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ. وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ جَوَازَهُ، لَكِنْ جَوَازًا مُقَيَّدًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي صُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، نَحْوُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] . وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ تَابِعًا لِلْحُكْمِ، فَيَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ.

نسخ الخبر الذي بمعنى الأمر والنهي

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ النَّسْخِ وَهَلْ هُوَ رَفْعٌ أَوْ بَيَانٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي؟ فَقَالَ: ذَهَبَ كُلُّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ، وَلَيْسَ بِرَفْعٍ حَقِيقِيٍّ إلَى جَوَازِ النَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. قَالَ: وَأَمَّا نَحْنُ إذَا صِرْنَا إلَى أَنَّهُ رَفْعٌ لِثَابِتٍ حَقِيقِيٍّ، وَأَنَّ الْمُبَيَّنَ لَيْسَ بِنَسْخٍ أَصْلًا، فَلَا نَقُولُ عَلَى هَذَا بِنَسْخِ الْأَخْبَارِ، لِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ حِينَئِذٍ تَجْوِيزَ الْخُلْفِ فِي خَبَرِ اللَّهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَهَذَا بِخِلَافِ تَجْوِيزِ النَّسْخِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ. اهـ. وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَنْ وَافَقَ الْقَاضِيَ، فِي تَفْسِيرِهِ بِالرَّفْعِ وَقَالَ بِتَجْوِيزِ النَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ. وَلَمْ يَقِفْ الْهِنْدِيُّ عَلَى كَلَامِ الْقَاضِي، فَقَالَ: لَا يُتَّجَهُ الْخِلَافُ إنْ فَسَّرْنَا النَّسْخَ بِالرَّفْعِ، لِأَنَّ نَسْخَهُ حِينَئِذٍ يَسْتَلْزِمُ الْكَذِبَ. وَإِنَّمَا يَتِمُّ إذَا فَسَّرْنَاهُ بِالِانْتِهَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ حِينَئِذٍ أَنْ يُرَادَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ الْأَزْمِنَةِ لَا بَعْضِهَا. . [نَسْخُ الْخَبَرِ الَّذِي بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ] الثَّانِي: أَنَّ الْخِلَافَ أَيْضًا فِي الْخَبَرِ الْمَحْضِ أَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ، نَحْوُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ نَسْخِهِ اعْتِبَارًا بِمَعْنَاهُ. قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ. قَالَ: وَأَمَّا نَقْلُ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ الْخِلَافَ فِي الْخَبَرِ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ خَبَرًا لَفْظًا وَمَعْنًى. قُلْت: لَكِنْ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى مَنْعِ نَسْخِ الْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ حُكْمًا

النسخ في الوعد والوعيد

شَرْعِيًّا، اعْتِبَارًا بِلَفْظِهِ. حَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " وَشَرْحِهَا "، وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْخَبَرِ إلَّا إذَا كَانَ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرُ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: يَجُوزُ نَسْخُ الْأَمْرِ وَإِنْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْأَخْبَارِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِاخْتِصَاصِ الْأَخْبَارِ بِالْإِعْلَامِ، وَاخْتِصَاصِ الْأَوَامِرِ بِالْإِلْزَامِ. . [النَّسْخُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ] الثَّالِثُ: النَّسْخُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، نَقَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ عَنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْعَ النَّسْخِ فِيهِمَا. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَكَذَلِكَ فِي الْوَعْدِ لِأَنَّهُ إخْلَافٌ، وَالْخُلْفُ فِي الْإِنْعَامِ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ، وَبِهِ صَرَّحَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ. وَأَمَّا الْوَعِيدُ كَآخِرِ الْبَقَرَةِ فَنَسْخُهُ جَائِزٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. قَالَ: وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ خُلْفًا، بَلْ عَفْوًا وَكَرَمًا. وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ السَّابِقِ جَوَازُ نَسْخِهِمَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ أَنَّ الْوَعِيدَ هَلْ هُوَ خَبَرٌ مَحْضٌ؟ أَوْ هُوَ مَعَ ذَلِكَ إنْشَاءٌ؟ كَصِيَغِ الْعُقُودِ الَّتِي تَقْبَلُ النَّسْخَ، لِكَوْنِهِ إخْبَارًا عَنْ إرَادَةِ الْمُتَوَعِّدِ وَعَزْمِهِ؟ كَالْخَبَرِ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُتَضَمِّنِ خَبَرَهُ عَنْ طَلَبِهِ الْمُتَضَمِّنِ إرَادَتَهُ الشَّرْعِيَّةَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] عَظُمَ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فَلَمَّا ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، نَسَخَهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] » .

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا النَّصُّ بِمَعْنَى التَّخْصِيصِ، فَإِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى وَرَدَتْ مَوْرِدَ الْعُمُومِ، فَبَيَّنَتْهَا الَّتِي بَعْدَهَا: أَنَّ مِمَّا لَا يَخْفَى لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ دَفْعَهُ عَنْ قَلْبِهِ. قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ النَّسْخِ عَلَى الِاتِّسَاعِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ لَكَانَ مُؤَاخَذًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَبَرًا مُضَمَّنًا لِحُكْمٍ، وَكَأَنَّهُ حَكَمَ بِمُؤَاخَذَةِ عِبَادِهِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَتَعَبُّدِهِمْ بِهِ، فَلَمَّا قَابَلُوهُ بِالطَّاعَةِ خَفَّفَ عَنْهُمْ، وَوَضَعَ عَنْهُمْ حَدِيثَ النَّفْسِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] خَبَرًا مُضَمَّنًا لِحُكْمٍ، أَيْ مُحَاسِبُكُمْ بِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] الْآيَةَ. قَالَ: وَهَذَا كَتَبْته مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.

الرابع هل يرد النسخ في الدعاء

قَالَ: وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّسْخُ لَا يَجْرِي فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ، وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْكَذِبِ وَالْخُلْفِ، وَيَجْرِي عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِيمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ، لِجَوَازِ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ، بِخِلَافِ إخْبَارِهِ عَمَّا فَعَلَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الشَّرْطِ فِيهِ وَهَذَا أَصَحُّ الْوُجُوهِ، وَعَلَيْهِ تَأَوَّلَ ابْنُ عُمَرَ الْآيَةَ، وَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الْعَفْوِ وَالتَّخْفِيفِ. وَلَيْسَ بِخُلْفٍ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: فَإِنَّ سَبَّبَ عَلَى أَحَدِنَا إدْخَالَ الْوَعِيدِ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ فَقَدْ وَهَمَ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ إنْ شَاءَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا الْوَعِيدُ وَالْوَعْدُ، فَلَمَّا كَانَا مُعَلَّقِينَ عَلَى مَا يُجَوِّزُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ جَازَ نَسْخُهُمَا. نَعَمْ، قَدْ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارٌ ظَاهِرُهَا الْإِطْلَاقُ، وَقُيِّدَتْ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] . فَقَدْ جَاءَ تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41] وَنَحْوِهِ. فَقَدْ يَظُنُّ مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ. وَقَالَ ابْنُ حَاتِمٍ الْأَزْدِيُّ فِي " اللَّامِعِ ": وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ فَلَا تُنْسَخُ، لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْعِبَادِ. وَقَالَ شَارِحُهُ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا نُؤْمَرُ أَنْ نُوقِعَ أَفْعَالَنَا فِي أَوْقَاتٍ تُعَيَّنُ لَهَا. . [الرَّابِعُ هَلْ يَرِدُ النَّسْخُ فِي الدُّعَاءِ] ِ؟ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللَّهُمَّ الْعَنْ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ» قَالَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ " مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ ": وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ:

مسألة نسخ جميع القرآن ممتنع

«اللَّهُمَّ أَيُّمَا رَجُلٍ سَبَبْته أَوْ شَتَمْته فَاجْعَلْ ذَلِكَ قُرْبَةً إلَيْك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: (أَيُّمَا مُؤْمِنٍ) . . [مَسْأَلَةٌ نَسْخُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ مُمْتَنِعٌ] ٌ] يَمْتَنِعُ نَسْخُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا نَسْخُ بَعْضِهِ فَجَائِزٌ خِلَافًا لِأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْإِمَامُ.

فصل في وجوه النسخ في القرآن

[فَصْلٌ فِي وُجُوهِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ] ِ وَقَسَمَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ إلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ، وَبَقِيَ رَسْمُهُ، وَثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ وَرَسْمُهُ، كَنَسْخِ آيَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ. فَالْمَنْسُوخُ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ مَرْفُوعُ الْحُكْمِ، وَالنَّاسِخُ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ. وَمَنَعَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التِّلَاوَةِ حُكْمُهَا، فَإِذَا انْتَفَى الْحُكْمُ فَلَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهَا. حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْجَوَازِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هَكَذَا مَثَّلُوا بِآيَةِ الْعِدَّةِ، وَعِنْدِي أَنَّهَا مِنْ الْمَخْصُوصِ، لِأَنَّ فِيهَا تَخْصِيصَ بَعْضِ الشُّرُوطِ بِالْإِيجَابِ وَبَعْضِهَا بِالْإِسْقَاطِ. الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَرَسْمُهُ، وَثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ وَرَسْمُهُ، كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَصِيَامِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقِبْلَةَ مِنْ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَزَعَمَ

أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالسُّنَّةِ لَا بِالْقُرْآنِ. الثَّالِثُ: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ، وَرُفِعَ رَسْمُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، كَقَوْلِهِ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] بِقَوْلِهِ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ) . وَقَالَ عُمَرُ: كُنَّا نَقْرَؤُهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ: زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَأَثْبَتهَا، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّجْمَ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ إنَّمَا ثَبَتَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قُلْنَا: هَذَا مُقَرِّرٌ لِحُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ. وَيُعْرَفُ أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ. وَقَدْ يُضَعَّفُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَى التَّأْسِيسِ وَإِثْبَاتَ الرَّجْمِ ابْتِدَاءً أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَأْكِيدِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ مُبَيِّنًا لِلسَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِآيَةِ الرَّجْمِ، بَلْ هُوَ إمَّا مُسْتَقِلٌّ بِإِثْبَاتِهِ أَوْ مُبَيِّنٌ لِلسَّبِيلِ مِنْ الْآيَةِ الْأُخْرَى. الرَّابِعُ: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ، وَرَسْمُهُ، وَنُسِخَ رَسْمُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ. كَالْمَرْوِيِّ عَنْ عَائِشَةَ (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسِ

رَضَعَاتٍ، فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ مِمَّا يُتْلَى مِنْ الْقُرْآنِ) . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَالْعَشْرُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَالْخَمْسُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ حِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ لَمْ يُثْبِتُوهَا رَسْمًا، وَحُكْمُهَا بَاقٍ عِنْدَ هُمْ. وَقَوْلُهَا: وَهِيَ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: يَعْنِي أَنَّهُ يُتْلَى حُكْمُهُ دُونَ لَفْظِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ نَسْخُ تِلَاوَتِهِ قُرْآنًا، فَهَذَا أَوْلَى. وَإِنَّمَا احْتَجْنَا لِهَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْيَوْمُ، وَأَنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَكَانَ الْمَنْسُوخُ مَرْفُوعَ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ، وَالنَّاسِخُ بَاقِيَ التِّلَاوَةِ. وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ نَسْخِ اللَّفْظِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ، وَمِنْ نَسْخِ حُكْمِهِ مَعَ بَقَاءِ لَفْظِهِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي أَحَدُهُمَا إلَى أَنْ يَبْقَى الدَّلِيلُ وَلَا مَدْلُولَ، وَالْآخَرُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَرْتَفِعَ الْأَصْلُ وَيَبْقَى النَّاسِخُ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْجَوَازُ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ وَالْحُكْمَ فِي الْحَقِيقَةِ شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَجَازَ نَسْخُ أَحَدِهِمَا، وَتَبْقِيَةُ الْآخَرِ كَالْعِبَادَتَيْنِ. وَجَزَمَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بِامْتِنَاعِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ التِّلَاوَةِ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى أَثَرِ عُمَرَ السَّابِقِ كَوْنُهُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذَا، فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ كَفَرَ، وَبِمِثْلِ هَذَا لَا يَكْفُرُ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قُرْآنًا، فَكَيْفَ يُدَّعَى نَسْخُهُ؟ وَالرَّجْمُ مَا عُرِفَ بِهَذَا،

بَلْ بِحَدِيثِ مَاعِزٍ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَا تَثْبُتُ بِهِ تِلَاوَةُ مَا هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ وَحُكْمُهُ مَعًا، فَإِنَّا لَا نَعْقِلُ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا حَتَّى نَعْقِلَ كَوْنَهُ قُرْآنًا، وَكَوْنُهُ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ فِي الْقِسْمَيْنِ أَعْنِي فِي مَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ وَعَكْسِهِ. وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ فَوُجُودُهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، وَكَذَلِكَ نَسْخُهُمَا جَمِيعًا، لَا يُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، لِقَوْلِ عُمَرَ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا. قُلْنَا: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِارْتِفَاعِ تِلَاوَتِهِ، فَلَمْ يَكْتُبْهُ لِأَنَّهُ نُسِخَ رَسْمُهُ. وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يُقَالَ: زَادَ فِي الْقُرْآنِ الْمُثْبَتِ، لَكَتَبْت ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ) لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ، بَلْ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَنَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ مُمْتَنِعٌ، سَوَاءٌ كَانَ قُرْآنًا أَوْ خَبَرًا. قُلْنَا: وَالرَّجْمُ أَيْضًا لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ، بَلْ بِالْآحَادِ. وَغَايَتُهُ أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ إجْمَاعًا، وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ بِنَاسِخٍ، وَغَايَتُهُ الْكَشْفُ عَنْ نَاسِخٍ مُتَوَاتِرٍ، وَقَدْ تَكُونُ سُنَّةً مُتَوَاتِرَةً، وَلَيْسَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا مُتَوَاتِرًا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَأَجَابَ الْهِنْدِيُّ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ بِأَنَّ التَّوَاتُرَ شَرْطٌ فِي الْقُرْآنِ الْمُثْبَتِ

بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ. أَمَّا الْمَنْسُوخُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِيهِ، بَلْ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَكِنَّ الَّذِي قَدْ ثَبَتَ ضِمْنًا بِهَا لَا يَثْبُتُ بِهِ اسْتِقْلَالًا، كَالنَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْقَوَابِلِ، وَكَقَبُولِ قَوْلِ الرَّاوِي فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ أَنَّهُ قَبْلَ الْآخَرِ عَلَى رَأْيٍ، وَإِنْ لَزِمَ نَسْخُ الْمَعْلُومِ بِقَوْلِهِ. وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ زَمَانَنَا هَذَا لَيْسَ زَمَانَ نَسْخٍ، وَفِي زَمَانِ النَّسْخِ لَمْ يَقَعْ النَّسْخُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: الْقُرْآنُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَكِنْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَالْعَهْدُ بِهِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: وَهِيَ مِمَّا يُتْلَى، أَيْ فِي حَقِّ الْحُكْمِ. وَضُعِّفَ هَذَا بِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَجُوزُ بِذَلِكَ. وَأَجَابَ آخَرُونَ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] مُطْلَقٌ فِي الْإِرْضَاعِ، وَالْخَبَرُ جَاءَ لِبَيَانِ الْعَدَدِ، فَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ الْعَدَدِ، وَالتَّغَيُّرُ إنَّمَا يَلْحَقُ بِخَبَرِ عَائِشَةَ، فَالْآيَةُ إذَا كَانَتْ مُبَيَّنَةً بِالْخَبَرِ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ كَانَ الْمَتْلُوُّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، يَعْنِي وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] إذَا ثَبَتَ بِالْخَبَرِ بَيَانُ قَدْرِ الزَّكَاةِ نِصْفُ دِينَارٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْخَبَرِ، فَكَانَ قِرَاءَةُ الزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ قِرَاءَةَ نِصْفِ دِينَارٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جِوَارِ نَسْخِ الْآخَرِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ، أَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ، فَلَا يَبْعُدُ نَسْخُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ. وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلثَّانِي. فَرْعٌ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُحَدِّثِ مَسُّ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ قَالَ الْآمِدِيُّ: تَرَدَّدَ فِيهِ الْأُصُولِيُّونَ، وَالْأَشْبَهُ الْمَنْعُ. وَخَالَفَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَ: الْأَشْبَهُ الْجَوَازُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا. وَلِذَلِكَ

تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِذِكْرِهِ فِيهَا. وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ بَابِ حَدِّ الزِّنَى أَنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ حَكَى عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ وَجْهًا أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ قَارِئٌ آيَةَ الرَّجْمِ فِي الصَّلَاةِ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ. وَأَمَّا الْمَنْسُوخُ حُكْمُهُ دُونَ لَفْظِهِ فَلَهُ حُكْمُ مَا لَمْ يُنْسَخْ بِالْإِجْمَاعِ. الْخَامِسُ: مَا بَقِيَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَلَا نَعْلَمُ الَّذِي نَسَخَهُ، كَالْمَرْوِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، لَابْتَغَى أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَانٍ. وَلَا يَمْلَأُ فَاهُ إلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. وَقَالَ: كَانَ هَذَا قُرْآنًا فَنُسِخَ خَطُّهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: قِيلَ: إنَّهُ فِي سُورَةِ ص، وَفِي رِوَايَةٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: فَلَا نَدْرِي أَشَيْءٌ نَزَلَ أَمْ شَيْءٌ كَانَ يَقُولُهُ، وَكَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ فِي أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ: إنَّهُمْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. فَكُنَّا نَقْرَأُ: أَنْ قَدْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ قَرَأَ عَلَيْهِ: لَمْ يَكُنْ، وَقَرَأَ فِيهَا: إنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ

لَا الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ، وَمَنْ تَعَجَّلَ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرْ» . قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. هَكَذَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ هَذَا الْقِسْمَ فِي " الْحَاوِي "، وَمَثَّلَهُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَ: هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ حَقِيقَةً وَلَا يَدْخُلُ فِي حَدِّهِ، وَعَدَّهُ غَيْرُهُ مِمَّا نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ مَعْنَاهُ. وَعَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " مِمَّا نُسِخَ خَطُّهُ وَحُكْمُهُ، وَحِفْظُهُ يُنْسَى مَعَ رَفْعِ خَطِّهِ مِنْ الْمُصْحَفِ، وَلَيْسَ حِفْظُهُ عَلَى وَجْهِ التِّلَاوَةِ، وَلَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ عَنْ اللَّهِ، وَلَا يَحْكُمُ بِهِ الْيَوْمَ أَحَدٌ. قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ نَحْوَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ. السَّادِسُ: نَاسِخٌ صَارَ مَنْسُوخًا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا لَفْظٌ مَتْلُوٌّ، كَالْمَوَارِيثِ بِالْحَلِفِ وَالنُّصْرَةِ، نُسِخَ بِالتَّوَارُثِ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ، ثُمَّ نُسِخَ التَّوَارُثُ بِالْهِجْرَةِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا يَدْخُلُ فِي النَّسْخِ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ تَكَلُّفٌ، وَلَيْسَ يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا النَّسْخُ. وَجَعَلَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ التَّوْرِيثَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ قِسْمِ مَا عُلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ نَاسِخُهُ. قَالَ: وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فَهُوَ مَنْسُوخٌ لَا نَدْرِي نَاسِخَهُ. وَقِيلَ نَاسِخُهُ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] . وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي وُجُوهِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا أُنْسِيَ فَرُفِعَ بِلَا نَاسِخٍ يُعْرَفُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ رَسْمٌ وَلَا حُكْمٌ، مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَرُفِعَتْ. قَالَ: وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ، أَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ فَإِنَّمَا يَقَعُ فِي الْحُكْمِ، فَأَمَّا الرَّسْمُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ. .

مسألة نسخ المتواتر بالآحاد

مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّاسِخِ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْمَنْسُوخِ فِي التِّلَاوَةِ. وَهَذَا كَالْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَقَاءِ بِالْبَيْتِ سُنَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَقَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، لِأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَلَكِنَّ كِتَابَتَهَا فِي الْمُصْحَفِ جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَ بِهِ النُّزُولُ، كَذَلِكَ نَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَشَبَّهُوهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] وَهَذَا نَزَلَ بَعْدَ أَنْ تَوَلَّوْا عَنْ الْقِبْلَةِ الْأُولَى، وَتَوَجَّهُوا إلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] وَقَوْلُهُ: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُحَوَّلْ بَعْدُ. وَقَوْلُهُ: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} نَزَلَ قَبْلَ التَّحْوِيلِ، وَقَوْلُهُ: {مَا وَلَّاهُمْ} نَزَلَ بَعْدَ التَّحْوِيلِ، فَلَمْ يَأْتِ التَّرْتِيبُ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى مُقْتَضَى النُّزُولِ، فَتَفَهَّمَ هَذَا الْفَصْلَ فَإِنَّهُ دَقِيقُ الْمَسْأَلَةِ، عَزِيزُ الْأَمْثِلَةِ. [مَسْأَلَةٌ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ] لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِمِثْلِهَا، وَالْآحَادِ بِالْآحَادِ، وَالْآحَادِ بِالْمُتَوَاتِرِ، وَأَمَّا نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ سُنَّةً أَوْ قُرْآنًا بِالْآحَادِ، فَالْكَلَامُ فِي الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ.

أَمَّا الْجَوَازُ عَقْلًا فَالْأَكْثَرُونَ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ عَنْ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " فَقَالَ: لَا يَسْتَحِيلُ عَقْلًا نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ شَرْعًا. وَمَنَعَهُ الْهِنْدِيُّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ سُلَيْمٍ فِي " التَّقْرِيبِ " أَنَّ غَيْرَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ بِمَنْعِهِ عَقْلًا، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ إلْكِيَا: لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَنْ قَالَ: إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الظَّنَّ، وَكِتَابُ اللَّهِ قَطْعِيٌّ، فَكَيْفَ يُرْفَعُ الْمَقْطُوعُ بِمَظْنُونٍ؟ فَإِنَّ هَذَا شَاعَ مِمَّا يَلُوجُ فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ مُفْضِيًا إلَى الظَّنِّ، لَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُسْتَنِدٌ إلَى قَاطِعٍ، وَذَلِكَ الْقَاطِعُ أَوْجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلَ بِالظَّنِّ، وَلَوْلَاهُ لَمَا صِرْنَا إلَى الْعَمَلِ بِهِ. فَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ مَقْطُوعٌ، وَالظَّنُّ وَرَاءَ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا مَا رَفَعْنَا الْمَقْطُوعَ بِمَظْنُونٍ. وَأَمَّا الْوُقُوعُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا إلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَعِبَارَتُهُمَا: لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ. وَهَكَذَا عِبَارَةُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ "، وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ "، وَلَمْ يَحْكِيَا خِلَافًا. وَيَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِهِمْ عَلَى نَفْيِ الْوُقُوعِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَدِلَّتُهُمْ صَرِيحَةً فِي نَفْيِ الْجَوَازِ.

مسألة نسخ القرآن بالسنة

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ مِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ إلَى وُقُوعِهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ احْتِجَاجًا بِقِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ، حَكَاهَا ابْنُ عَقِيلٍ، وَأَلْزَمَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنَّهُ احْتَجَّ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقِصَّةِ قُبَاءَ. وَفَصَلَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالْغَزَالِيُّ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، وَالْقُرْطُبِيُّ بَيْنَ زَمَانِ الرَّسُولِ وَمَا بَعْدَهُ، فَقَالَا: بِوُقُوعِهِ فِي زَمَانِهِ. وَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ قَطْعًا لَا يَنْسَخُهُ مَظْنُونٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِزَمَانِ الرَّسُولِ. وَكَأَنَّ الْفَارِقَ أَنَّ الْأَحْكَامَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ فِي مَعْرِضِ التَّغَيُّرِ، وَفِيمَا بَعْدَهُ مُسْتَقِرَّةٌ، فَكَانَ لَا قَطْعَ فِي زَمَانِهِ. [مَسْأَلَةٌ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ] وَأَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ السُّنَّةُ آحَادًا فَقَدْ سَبَقَ الْمَنْعُ، وَكَرَّرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ نَقْلَ الِاتِّفَاقِ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ بَرْهَانٍ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي " شَرْحِ مَقَالَاتِ الْأَشْعَرِيِّ ": إلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَإِلَيْهِ يَذْهَبُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ. وَكَانَ يَقُولُ:

إنَّ ذَلِكَ وُجِدَ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَكَانَ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا. اهـ. وَمِنْ خَطِّ ابْنِ الصَّلَاحِ نَقَلْته. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقَالُوا: لَيْسَ لِأَبِي حَنِيفَةَ نَصٌّ فِيهِ، وَلَكِنْ نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ، وَاخْتَارَهُ. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَسَائِرِ الْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ ": إنَّهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا، يَعْنِي الْحَنَفِيَّةَ. قَالَ الْبَاجِيُّ: قَالَ بِهِ عَامَّةُ شُيُوخِنَا، وَحَكَاهُ أَبُو الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ: وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَهُ لِلْوَارِثِ لِلْحَدِيثِ، فَهُوَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ} [البقرة: 180] الْآيَةَ. قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا سَهْوٌ، لِأَنَّ مَالِكًا صَرَّحَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ. [مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ] وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً، وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَالْخَفَّافُ فِي كِتَابِ " الْخِصَالِ "، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَأَجْمَعَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْمَنْعِ، وَرَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ فِي آخِرِ كِتَابِ " الْوَدَائِعِ " لِابْنِ سُرَيْجٍ.

وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَطَعَ الشَّافِعِيُّ جَوَابَهُ بِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، وَتَرَدَّدَ فِي عَكْسِهِ. قُلْت: وَسَيَأْتِي عَنْ الشَّافِعِيِّ حِكَايَةُ خِلَافٍ فِي نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، فَلْيَجِئْ هُنَا بِطَرِيقٍ أَوْلَى، أَوْ نَقْطَعُ بِالْمَنْعِ فِي الْعَكْسِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَوْلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ أَوْ الشَّرْعُ؟ قَالَ: وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ جَمِيعًا. وَكَذَا قَالَهُ قَبْلَهُ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَعِبَارَتُهُ: وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ شَرْعًا وَلَا عَقْلًا، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. اهـ. وَفِيمَا قَالَاهُ نَظَرٌ، بَلْ قُصَارَى كَلَامِهِ مَنْعُ الشَّرْعِ، كَيْفَ وَالْعَقْلُ عِنْدَهُ لَا يُحَكَّمُ، ثُمَّ قَالَ: وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ دُونَ الْعَقْلِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا. فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الشَّيْخُ فِي " التَّبْصِرَةِ "، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": أَنَّ الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ، وَلَوْ وَرَدَ بِهِ كَانَ جَائِزًا وَهَذَا أَصَحُّ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: الشَّرْعُ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُجَوِّزًا فِيهِ. اهـ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي ": صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَوَافَقَهُ أَصْحَابُهُ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ أَوْ الشَّرْعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ عَقْلًا، وَادَّعَى أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِمَنْعِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ نُسِخَتْ بِسُنَّةٍ. اهـ.

وَقَالَ فِي كِتَابِهِ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ": أَجْمَعَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمِيهِمْ. وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي طَرِيقِ الْمَنْعِ مِنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى اسْتِحَالَتِهِ، وَبِهِ نَقُولُ. وَهُوَ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ. وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] فَلَا تَكُونُ السُّنَّةُ خَيْرًا وَلَا مِثْلَهَا، فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهَا بِهَا، وَلَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَأَجَزْنَا نَسْخَ الْآيَةِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْعَقْلَ يُجِيزُ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِالْمَنْعِ مِنْهُ إلَّا أَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي الْقُرْآنِ آيَةً مَنْسُوخَةً بِسُنَّةٍ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ قَالَ بِنَفْيِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، وَالْقَلَانِسِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمِمَّنْ نَفَى الْجَوَازَ السَّمْعِيَّ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ ". وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ غَلِطَ النَّاسُ فِي النَّقْلِ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، فَنَقُولُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": وَأَبَانَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا نَسَخَ مَا نَسَخَ بِالْكِتَابِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَكُونُ نَاسِخَةً

لِلْكِتَابِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لِلْكِتَابِ بِمِثْلِ مَا نَزَلَ بِهِ نَصًّا، وَمُفَسِّرَةٌ مَعْنًى بِمَا أُنْزِلَ مِنْهُ حُكْمًا. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] فَفِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} [يونس: 15] مَا وَصَفْته مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ كِتَابَ اللَّهِ إلَّا كِتَابُهُ، كَمَا كَانَ الْمُبْتَدِئُ بِفَرْضِهِ، فَهُوَ الْمُزِيلُ الْمُثْبَتُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] وَهُوَ أَشْبَهُ مَا قِيلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] . انْتَهَى لَفْظُهُ. وَمَنْ صَدَّرَ هَذَا الْكَلَامَ قِيلَ عَنْهُ: إنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ. وَقَدْ اسْتَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: هَفَوَاتُ الْكِبَارِ عَلَى أَقْدَارِهِمْ، وَمَنْ عُدَّ خَطَؤُهُ عَظُمَ قَدْرُهُ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ كَثِيرًا مَا يَنْصُرُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَلَمَّا وَصَلَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ كَبِيرٌ، وَلَكِنَّ " الْحَقَّ " أَكْبَرُ مِنْهُ. قَالَ إلْكِيَا فِي " التَّلْوِيحِ ": لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مَنَعَ جَوَازَ نَسْخِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا فَضْلًا عَنْ الْمُتَوَاتِرِ، فَلَعَلَّهُ يَقُولُ دَلَّ عُرْفُ الشَّرْعِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ قَاطِعٌ مِنْ السَّمْعِ تَوَقَّفْنَا، وَإِلَّا فَمَنْ الَّذِي يَقُولُ إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يُحْكَمُ بِقَوْلِهِ مِنْ نَسْخِ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَقْلِ. قَالَ: وَالْمُغَالُونَ فِي حُبِّ الشَّافِعِيِّ لَمَّا رَأَوْا هَذَا الْقَوْلَ لَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ قَدْرِهِ، كَيْفَ وَهُوَ الَّذِي مَهَّدَ هَذَا الْفَنَّ وَرَتَّبَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ أَخْرَجَهُ، قَالُوا: لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ هَذَا الْعَظِيمِ مَحْمَلٌ، فَتَعَمَّقُوا فِي مَحَامِلَ ذَكَرُوهَا.

قَالَ: وَغَايَةُ الْإِمْكَانِ فِي تَوْجِيهِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَكَانَ اجْتِهَادُهُ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ قَطْعًا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَيِّنَ الرَّسُولُ بِاجْتِهَادِهِ مَا يُخَالِفُ نَصَّ الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّ اجْتِهَادَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنِدٍ فِي الشَّرْعِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَلُوحَ لَهُ مِنْ وَضْعِ الشَّرْعِ مَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْكِتَابِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى النَّسْخِ أَصْلًا. الثَّانِي: لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] يَحْتَمِلُ الْكِتَابَ وَغَيْرَهُ مِمَّا هُوَ أَجْزَلُ فِي الْمَثُوبَةِ وَأَصْلَحُ فِي الدَّارَيْنِ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] . عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِمَا تَقَدَّمَ مَا تَفَرَّدَ هُوَ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ. فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَصَالِحِ أَوْ إنْشَائِهَا أَوْ إزَالَتِهَا عَنْ الصُّدُورِ. وَقَدْ قِيلَ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] بَعْدَ النَّسْخِ إذَا قَدَّمَ النَّسْخَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخُ حُكْمِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ خَيْرٌ مِنْهَا لَكُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو الطَّيِّبِ سَهْلِ بْنُ سُهَيْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ كِتَابًا فِي نُصْرَةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَتِلْمِيذُهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَكَانَا مِنْ النَّاصِرِينَ لِهَذَا الرَّأْيِ، وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِهِ " النَّاسِخِ "، حَكَى نَصَّ الشَّافِعِيِّ بِالْمَنْعِ وَقَرَّرَهُ. وَقَالَ: قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: كُنْت أَتَأَوَّلُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدِيمًا فِي الْمَنْعِ، أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُجَوِّزْهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ، حَتَّى تَدَبَّرْت هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَا يَكُونُ مَعْنَى خَيْرٍ مِنْهَا: حُكْمًا لَكُمْ خَيْرٌ مِنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ؟

وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ؟ فَقَالَ: هَذَا هَذَيَانٌ، لِأَنَّ الْآمِرَ قَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بَعْدَهُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا جَارٍ فِي قُدْرَةِ الرَّبِّ الْآمِرِ بِهِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ قُدْرَتِهِ الَّتِي تُعْجِزُ الْخَلْقَ عَنْ إبْدَالِ هَذَا الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ الَّذِي يَعْجِزُ الْخَلْقُ عَنْ افْتِعَالِ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي جَاءَ بِهِ صَادِقٌ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] عَلَى عَجِيبِ قُدْرَتِهِ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي إنْزَالِ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ بَدَلًا مِنْ الْآيِ الْمُعْجِزِ، وَإِذْ هِيَ آيَاتٌ مُعْجِزَاتٌ لِلْخَلْقِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلِذَلِكَ أَتَى بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ. وَمَعْنَى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] أَيْ فِي عَيْنِهَا، وَيَجُوزُ إطْلَاقُ ذَلِكَ وَالْمُرَادُ أَكْثَرُ ثَوَابًا فِي التِّلَاوَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذَا كَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ بَعْدَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا كِفَايَةٌ، ثُمَّ أَخَذَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَنْعِ، وَفِيهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهِيَ تَحْرِيرُ النَّقْلِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا يَذْهَبُ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إلَى مَنْعِ الْوُقُوعِ، ثُمَّ ثَبَتَ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَاعْرِفْ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّاسَ خَلَطُوا فِي النَّقْلِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَنْعِ حَرَّرَهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَجِمَاعُ مَا أَقُولُهُ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُنْسَخْ قَطُّ بِسُنَّةٍ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُرِنَا

ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يُحِلْ جَوَازَ الْعِبَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِرَفْعِ حُكْمِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَا يَجُوزُ لِلدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَقِيَامُ الدَّلِيلِ عِنْدَهُ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ كَذَا بِالْخَبَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قِيَامِ الدَّلِيلِ، فَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ: يَمْتَنِعُ أَنْ تَنْسَخَ السُّنَّةُ الْقُرْآنَ. اهـ. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " فَقَالَ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا ابْنُ بَرْهَانٍ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُ امْتِنَاعُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَجُوزُ عَقْلًا، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بِأَدِلَّةِ السَّمْعِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِالشَّافِعِيِّ مَعَ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ فِي هَذَا الْفَنِّ. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَمْنَعْ الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ، بَلْ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَلْبَتَّةَ لَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِهِ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ قَائِلُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِهِ الْمُحَالُ فَبَاطِلٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعَقْلَ يُقْتَضَى تَقْبِيحَهُ فَهُوَ قَوْلٌ مُعْتَزِلِيٌّ، وَالشَّافِعِيُّ بَرِيءٌ مِنْ الْمَقَالَتَيْنِ. فَإِنْ قُلْت: فَمَا وَجْهُ قَوْلِ سُلَيْمٍ، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ: إنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ جَمِيعًا؟ وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " أَنَّ الشَّافِعِيَّ مَنَعَ مِنْهُ بِالْعَقْلِ، وَكَذَا الْبَاجِيُّ. قُلْت: مَنْ نَقَلَ عَنْهُ الْمَنْعَ الشَّرْعِيَّ فَقَطْ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ، فَيُرَجَّحُ عَلَى نَقْلِ هَؤُلَاءِ، وَلَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ كُلٍّ مِنْ الْمَقَالَتَيْنِ لَرَجَعْنَا إلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ كَلَامَهُ فِي نَفْيِ الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا، لَا الْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا احْتَجَّ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ الصُّعْلُوكِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ،

وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، إلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ نَسْخَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ مَانِعٌ مِنْهُ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَقَالَ فِي الْمُقْتَرَحِ: لَمْ يُرِدْ الشَّافِعِيُّ مُطْلَقَ السُّنَّةِ، بَلْ أَرَادَ السُّنَّةَ الْمَنْقُولَةَ آحَادًا، وَاكْتَفَى بِهَذَا الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي السُّنَنِ الْآحَادُ. قُلْت: وَالصَّوَابُ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يُوجَدَانِ مُخْتَلِفَيْنِ إلَّا وَمَعَ أَحَدِهِمَا مِثْلُهُ نَاسِخٌ لَهُ، وَهَذَا تَعْظِيمٌ عَظِيمٌ، وَأَدَبٌ مَعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفَهْمٌ بِمَوْقِعِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَقَعْ عَلَى مُرَادِ الشَّافِعِيِّ، بَلْ فَهِمُوا خِلَافَ مُرَادِهِ حَتَّى غَلِطُوا وَأَوَّلُوهُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ فِيهِ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَهَا. وَقَدْ احْتَجَّ مَنْ خَالَفَ الشَّافِعِيَّ بِآيٍ مِنْ الْكِتَابِ نُسِخَتْ أَحْكَامُهَا، وَلَا نَاسِخَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا نَسَخَتْهَا السُّنَّةُ الَّتِي كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اُسْتُغْنِيَ عَنْ نَقْلِهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَصَارَتْ آحَادًا، كَوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِقَوْلِهِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَأَجَابَ الصَّيْرَفِيُّ بِأَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْ، وَالرَّسُولُ بَيَّنَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: نُسِخَ بِآيَةٍ أُخْرَى لَمْ يُنْقَلْ رَسْمُهَا وَنَظْمُهَا إلَيْنَا، كَمَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الممتحنة: 11] فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ الْيَوْمَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ سُنَّةٌ نَاسِخَةٌ، فَإِنْ جَازَ لَكُمْ الْحَمْلُ عَلَى سُنَّةٍ لَمْ تَظْهَرْ، جَازَ لَنَا الْحَمْلُ عَلَى كِتَابٍ لَمْ يَظْهَرْ. انْتَهَى. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَا يُقَالُ: إنَّ الرَّجْمَ نُسِخَ بِالْجَلْدِ عَنْ الزَّانِي، لِأَنَّ الرَّجْمَ رَفْعٌ. . . لَمْ يَكُنْ الْجَلْدُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، فَحَظُّ السُّنَّةِ الْبَيَانُ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْمُرَادِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ السُّنَّةَ لِلْبَيَانِ، فَمُحَالٌ أَنْ يُنْسَخَ الشَّيْءُ بِمَا يُبَيِّنُهُ قَالَ: وَإِنَّمَا جَازَ نَسْخُ بَعْضِ الْقُرْآنِ بِبَعْضِهِ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ حُجَّةِ الْكُفَّارِ،

أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ الْمُعْجِزِ وَلَيْسَ هَذَا فِي السُّنَّةِ. انْتَهَى. فَإِنْ قِيلَ قَدْ نُسِخَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ بِنَهْيِهِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ. قُلْنَا: الْآيَةُ اجْتَمَعَ فِيهَا لَفْظَانِ مُتَعَارِضَانِ، فَيَتَعَيَّنُ صَرْفُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، فَلَفْظُ: {أُوحِيَ} مَاضٍ، لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا حِينَ وُرُودِ الْآيَةِ. وَلَفْظُ " لَا " لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبِلِ بِنَصِّ سِيبَوَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى: 13] وَالْمُرَادُ الِاسْتِقْبَالُ ضَرُورَةً، وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ " لَا " لِأُوحِيَ، أَوْ صَرْفِ أُوحِيَ لِلَفْظِ " لَا "، فَإِنْ صَرَفْنَا " لَا " لِلَفْظِ أُوحِيَ، فَلَا نَسْخَ لِعَدَمِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَإِنْ عَكَسْنَا كَانَ تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. وَمِمَّا عَارَضَ بِهِ الْخُصُومُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَمِلَ بِأَحَادِيثِ الدِّبَاغِ مَعَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فَنَسَخَ الْكِتَابَ بِالسُّنَّةِ، وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لَا النَّسْخِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ شَاةِ مَيْمُونَةَ، وَقَوْلُهُ: «هَلَّا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا؟ فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ مَيْتَةٍ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ حِينَئِذٍ» . فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] تَحْرِيمُ الْأَكْلِ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِ وَهُوَ اللَّحْمُ، فَلَمْ تَتَنَاوَلْ الْآيَةُ الْجِلْدَ، وَهَذَا جَوَابٌ آخَرُ.

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: إذَا قُلْنَا بِامْتِنَاعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَمَاذَا يُفْعَلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا أَبُو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ " أَدَبِ الْجَدَلِ ": أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْآيَةِ وَتَرْكُ الْخَبَرِ، إذْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا يَنْسَخُ الْآيَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهَا نُسِخَتْ بِمِثْلِهَا أَوْ بِمَا يَجُوزُ نَسْخُهَا بِهِ بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ بَعْدَهُ بِخِلَافِهِ. قَالَ: فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا، وَقُلْنَا بِالْمَنْعِ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ. [نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْمُسْتَفِيضِ مِنْ السُّنَّةِ] الثَّانِي: أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لِلْآحَادِ وَالتَّوَاتُرِ وَسَكَتُوا عَنْ الْمُسْتَفِيضِ، لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهِ النَّقْشَوَانِيُّ. وَقَالَ: قَدْ جَوَّزُوا التَّخْصِيصَ بِهِ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي النَّسْخِ آكَدُ، وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " فِي بَابِ الْأَخْبَارِ. وَحَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ جَوَازَ نَسْخِ الْكِتَابِ بِهِ. قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ، وَجَوَّزَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكِتَابِ بِهِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِنَسْخٍ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ فِي " الْحَاوِي " أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ، فَإِنَّهُ حَكَى الْخِلَافَ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، كَمَا نُسِخَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ بِحَدِيثِ: (لَا وَصِيَّةَ) . قَالَ: وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا نَسَخَهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ، وَكَانَتْ السُّنَّةُ بَيَانًا. الثَّالِثُ: فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: «كَلَامِي

مسألة نسخ السنة بالقرآن

لَا يَنْسَخُ كَلَامَ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ بَعْضُهُ بَعْضًا» ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي " الْكَامِلِ ": إنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. . [مَسْأَلَةٌ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ] وَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، فَمَنْ جَوَّزَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَأَوْلَى أَنْ يُجَوِّزَ هَذَا وَأَمَّا الْمَانِعُونَ هُنَاكَ فَاخْتَلَفُوا. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ: حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَسُلَيْمٌ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَصَحَّحُوا الْجَوَازَ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: هُوَ قَوْلُ الْمُعْظَمِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ الْأَوْلَى بِالْحَقِّ، وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ هُنَا مَعَ مَنْعِهِ هُنَاكَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ تَصْحِيحُهُ، لَكِنْ حَكَى الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْهُدْنَةِ أَنَّ الْمَنْعَ مَنْسُوبٌ إلَى أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " فِي بَابِ الْقَضَاءِ: ظَاهِرُ مَذْهَبِنَا وَجْهَانِ

أَوْ قَوْلَانِ. التَّرَدُّدُ مِنْهُ. وَقَالَ: الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ. كَالْعَكْسِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَجُوزُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ آكَدُ مِنْ السُّنَّةِ، وَخَرَّجُوا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ كَلَامٍ تَأَوَّلَهُ فِي " الرِّسَالَةِ ". انْتَهَى. [مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ] وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِهِ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ " عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ إلَّا السُّنَّةَ، وَأَنَّ الْكِتَابَ لَا يَنْسَخُ السُّنَّةَ، وَلَا الْعَكْسُ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ " مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ، وَلَعَلَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ، وَلَوَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَظْهَرُهُمَا مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ، وَهُوَ أَوْلَى بِالْحَقِّ انْتَهَى. وَقَدْ اسْتَعْظَمَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ هَاهُنَا أَيْضًا. وَقَالَ: تَوْجِيهُهُ عَسِرٌ جِدًّا، وَالْمُمْكِنُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا قَالَ عَنْ اجْتِهَادٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الْكِتَابُ مِنْ بَعْدُ بِخِلَافِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْرِيرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِيهَامِ الْمُخَالَفَةِ. وَقَالَ فِي " تَعْلِيقِهِ ": قَدْ صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي " رِسَالَتَيْهِ " جَمِيعًا: إنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَعَلَى ذَلِكَ مِنْ هَفَوَاتِهِ، وَهَفَوَاتُ الْكِبَارِ عَلَى أَقْدَارِهِمْ، وَمَنْ عُدَّ خَطَؤُهُ عَظُمَ قَدْرُهُ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ كَثِيرًا مَا يَنْصُرُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَلَمَّا وَصَلَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ كَبِيرٌ، لَكِنَّ الْحَقَّ أَكْبَرُ مِنْهُ، ثُمَّ نَصَرَ هُوَ الْحَقَّ. قَالَ إلْكِيَا: وَالْمُتَغَالُونَ فِي مَحَبَّةِ الشَّافِعِيِّ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَلِيقُ

بِهِ طَلَبُوا لَهُ مَحَامِلَ، فَقِيلَ: إنَّمَا قَالَ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ لِلرَّسُولِ، فَإِذَا جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي. بِنَصِّ الْكِتَابِ وَحَكَمَ ثُمَّ أَرَادَ الرَّسُولُ نَسْخَهُ بِاجْتِهَادِهِ، لَا يَجُوزُ لَهُ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُؤَدِّي إلَى بَيَانِ أَمَدِ الْعِبَادَةِ، وَلَا يَهْدِي إلَى مِقْدَارِ وَقْتِهَا. وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ مَنَعَ مِنْ النَّسْخِ بِالْمُتَوَاتِرِ، وَقَضِيَّةُ هَذَا الْكَلَامِ تَجْوِيزُ نَسْخِ الْقُرْآنِ لِلسُّنَّةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ، وَبَيَانُهُ أَنَّ مَا كَانَ بَيَانًا فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالنَّصِّ كَانَ ثُبُوتُهُ عَنْهُ بِاجْتِهَادِ الرَّسُولِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ اسْتِخْرَاجٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْكِتَابِ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: الشَّافِعِيُّ يَمْنَعُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ لِسُنَّةٍ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. قُلْت: وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ " بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ: وَهَكَذَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةٌ لِرَسُولِهِ، وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ سَنَّ فِيهِ غَيْرَ مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ [لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ] إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا مِمَّا يُخَالِفُهَا، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي سُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ تُنْسَخُ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ؟ قِيلَ: لَوْ نُسِخَتْ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ، كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سُنَّةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ السُّنَّةَ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ بِسُنَّتِهِ الْأَخِيرَةِ، حَتَّى يُقِيمَ الْحُجَّةَ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ الشَّيْءَ يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ كَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي تَأْخِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ صَلَاةَ النَّبِيِّ بِذَاتِ الرِّقَاعِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا وَصَفْت قَبْلَ هَذَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَنَّ سُنَّةً، [فَأَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ

فِي تِلْكَ السُّنَّةِ نَسْخَهَا أَوْ مَخْرَجًا إلَى سَعَةٍ] مِنْهَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ بِهَا، حَتَّى [يَكُونُوا] إنَّمَا صَارُوا مِنْ سُنَّتِهِ إلَى سُنَّتِهِ الَّتِي بَعْدَهَا، فَنَسَخَ اللَّهُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا فِي الْخَوْفِ إلَى أَنْ يُصَلُّوهَا كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَقْتِهَا، وَنَسَخَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[سُنَّتَهُ] فِي تَأْخِيرِهَا بِفَرْضِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ ثُمَّ سُنَّتِهِ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَقْتِهَا كَمَا وَصَفْت. انْتَهَى. وَمِنْ صَدْرِ هَذَا الْكَلَامِ أُخِذَ مِنْ قَبْلُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تُنْسَخُ بِالْكِتَابِ، وَلَوْ تَأَمَّلَ عَقِبَ كَلَامِهِ بَانَ لَهُ غَلَطُ هَذَا الْفَهْمِ. وَإِنَّمَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرَّسُولَ إذَا سَنَّ سُنَّةً ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَا يَنْسَخُ ذَلِكَ الْحُكْمَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَسُنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً أُخْرَى مُوَافِقَةً لِلْكِتَابِ تَنْسَخُ سُنَّتَهُ الْأُولَى، لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ حُكْمٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَمِيعًا، وَلَا تَكُونُ سُنَّةً مُنْفَرِدَةً تُخَالِفُ الْكِتَابَ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَحْدَثَ إلَى آخِرِهِ، صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَشْتَرِطُ لِوُقُوعِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ سُنَّةً مُعَاضِدَةً لِلْكِتَابِ نَاسِخَةً، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُنْسَخُ السُّنَّةُ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعًا، لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَلِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْكُلَّ مِنْ اللَّهِ. وَالْأُصُولِيُّونَ لَمْ يَقِفُوا عَلَى مُرَادِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ هَذَا أَدَبٌ عَظِيمٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ مُرَادُهُ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: يَرِدُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْمُنْفَرِدُ بِلَا سُنَّةٍ، وَالسُّنَّةُ الْمُنْفَرِدَةُ بِلَا كِتَابٍ. قِيلَ: الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ قَائِمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَمِيعًا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِتَبْلِيغِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْعِلْمِ بِاتِّبَاعِهِ لَهُ، مَا تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ الْأَمْرِ بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِقَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} [الحشر: 7] ، فَاجْتَمَعَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ دَلِيلَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا حَاصِلٌ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ. قِيلَ:

نَعَمْ، وَلَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ بِاَللَّهِ، وَأَكْثَرُ أَدَبًا وَمُسَارَعَةً إلَى مَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَلَا يَبْقَى مَكَانُ إزَالَةِ الشُّبْهَةِ عَنْ النَّاسِ، وَإِزَالَةِ عُذْرِهِمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ سُنَّةٌ تُخَالِفُ الْكِتَابَ إلَّا بَيَّنَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بَيَانًا صَرِيحًا بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ مَنْ فِي قَلْبِهِ رَيْبٌ بِأَحَدِهِمَا وَيَتْرُكَ الْآخَرَ. وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ إلَى الْإِفْصَاحِ بِهِ. وَقَدْ وَقَعَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَنَبَّهَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا، مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِهِ " النَّاسِخِ ". فَقَالَ: وَقَدْ نَقَلَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَتَيْنِ "، فَذَكَرَ الْكَلَامَ السَّابِقَ ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ " مَنْعَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا يَنْسَخُ السُّنَّةَ، وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ فِي سُنَّةٍ سَنَّهَا غَيْرَ مَا سَنَّ الرَّسُولُ لَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا غَيْرَ السُّنَّةِ الْأُولَى، حَتَّى تَنْسَخَ سُنَّتُهُ الْأَخِيرَةُ سُنَّتَهُ الْأُولَى. وَقَالَ أَيْضًا فِي الْقَدِيمَةِ فِي مُنَاظَرَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ حِكَايَةً عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ، فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَتَأَوَّلُ عَلَى سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يُزْعَمُ أَنَّ الْكِتَابَ يُنْسَخُ بِسُنَّةٍ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْكِتَابِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذًا أَصَبْت. وَهَذَا قَوْلُنَا، فَكَيْفَ لَا نَقُولُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ " عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الرَّسُولِ لَا تُنْسَخُ إلَّا بِسُنَّةٍ، وَأَنَّ الْكِتَابَ لَا يَنْسَخُ السُّنَّةَ، وَلَا السُّنَّةُ تَنْسَخُ الْكِتَابَ، وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ فِيمَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سُنَّةٌ إنَّمَا يَأْتِي أَمْرٌ ثَانٍ يَنْسَخُ سُنَّتَهُ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِنَسْخِهِ، وَسُنَّتُهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ، لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْبَيَانُ بِالنَّسْخِ، فَلَا يُوجَدُ لِرَسُولِ اللَّهِ سُنَّةٌ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ خِلَافُهَا،

إلَّا جُعِلَ الْقُرْآنُ نَاسِخًا، أَوْ جُعِلَتْ السُّنَّةُ إذَا كَانَ ظَاهِرُهَا خِلَافَ الْقُرْآنِ نَاسِخَةً لِلْقُرْآنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يَخْرُجَ أَكْثَرُ السُّنَنِ مِنْ أَيْدِينَا. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ مَا يُوجِبُ أَنَّ الْقُرْآنَ يَنْسَخُ السُّنَّةَ، إلَّا أَنَّهُ فِي أَيْدِينَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى مَا يُمْكِنُ مِنْهُمَا، وَاَلَّذِي يُمْكِنُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالنَّصِّ بِعِلْمِنَا ذَلِكَ، ثُمَّ سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ السُّنَّةُ أَوْ تَأَخَّرَتْ، لِأَنَّهَا إنْ تَقَدَّمَتْ فَالْكَلَامُ الْعَامُّ مُثْبَتٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ بَيَانٌ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ فَهِيَ تَفْسِيرُهُ، وَهِيَ بَيَانٌ. وَمَنْ جَعَلَهَا مَنْسُوخَةً فَإِنَّمَا يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نَتْرُكَ الْمُفَسَّرَ بِالْمُجْمَلِ، وَالنَّصَّ بِالْمُجْمَلِ، وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ مِنَّا قُلْنَا لَهُ: بَلْ بَيَانٌ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالْبَيَانِ بِهِ. فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ النَّصِّ بِمَا يَحْتَمِلُ الْمَعَانِي. قَالَ: وَهَذَا جُمْلَةٌ مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمَا قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِيهِ. اهـ. وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ صَحِيحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَأْتِي بِرَفْعِ حُكْمِ الْقُرْآنِ أَبَدًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنُ السُّنَّةَ إلَّا أَحْدَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً تُبَيِّنُ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى قَدْ أُزِيلَتْ بِهَذِهِ الثَّانِيَةِ كَلَامٌ صَحِيحٌ، أَحَالَ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ تَأْتِي بِرَفْعِ الْقُرْآنِ الثَّابِتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قِيَامِ الْأَدِلَّةِ، وَأَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ الْقُرْآنُ بِرَفْعِ السُّنَّةِ، بَلْ قَدْ وَجَدَهُ، ثُمَّ قَرَنَهُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سُنَّةٍ مَعَهُ تُبَيِّنُ أَنَّهُ أَزَالَ الْحُكْمَ، لِئَلَّا يَجُوزَ أَنْ يُجْعَلَ عُمُومُ الْقُرْآنِ مُزِيلًا لِمَا بَيْنَهُ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِوَهْمِ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ مُزِيلٌ لِحُكْمِ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] مُزِيلٌ لِتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَنَحْوِهِ. وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ صَلَاةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ: {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] فَقَالَ: وَهَذَا مِنْ الَّذِي قُلْت لَك: إنَّ اللَّهَ إذَا أَحْدَثَ لِرَسُولِهِ فِي شَيْءٍ سُنَّةً - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا بُدَّ مِنْ سُنَّةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ سُنَّتَهُ

الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ بِسُنَّتِهِ الْأَخِيرَةِ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَفَعَ الْحُكْمَ بِالْآيَةِ فَفَعَلَ هَذِهِ السُّنَّةَ، لِأَنَّ الرَّافِعَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ هِيَ الْمُثْبِتَةُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ رَفَعَ حُكْمَ مَا سَنَّهُ، وَبَيَانًا لِلْأُمَّةِ، أَلَا تَرَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ زَالَ بِمَا أَمَرَ، وَصَارَ هُوَ الْفَرْضَ بِفِعْلِهِ امْتِثَالًا لِلْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ، وَبَيَانًا لِلْأُمَّةِ أَنَّهُ قَدْ أُزِيلَ مَا سَنَّهُ، فَيُعْلِمُ بِسُنَّتِهِ الثَّانِيَةِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَزَالَ سُنَّتَهُ الْأُولَى لِمَا وَصَفْت مِنْ احْتِمَالِ تَرْتِيبِ الْآيَةِ عَلَى السُّنَّةِ، لِئَلَّا يُشْكِلَ ذَلِكَ فِي التَّرْتِيبِ وَالْفَرْضِ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ فِيمَا عَقَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقُرَيْشٍ بِنَقْضِ اللَّهِ الصُّلْحَ مِنْ رَدِّ الْمُؤْمِنَاتِ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الَّذِي رَفَعَ السُّنَّةَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": أَمَّا وُرُودُ آيَةٍ عَلَى مُنَاقَضَةِ مَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ فَجَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ النَّاسِخُ لِخَبَرِهِ دُونَ الْآيَةِ. قَالَ: وَهَذَا كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي كَوْنِ الْآيَةِ نَاسِخَةً لِلْخَبَرِ وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ الْمَصِيرُ إلَى اسْتِحَالَتِهِ، وَلَعَلَّهُ عَنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْسَخُ، وَلَا يُبَيِّنُ، وَإِنَّمَا النَّاسِخُ اللَّهُ. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": كَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِتَجْوِيزِ وُرُودِ الْقُرْآنِ بِلَفْظٍ يَنْفِي الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالسُّنَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ النَّسْخُ بِهِ حَتَّى يُحْدِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْقُرْآنِ سُنَّةً لَهُ أُخْرَى يُبَيِّنُ بِهَا انْتِفَاءَ حُكْمِ السُّنَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَانَ ظَاهِرُهُ يَنْفِي حُكْمَ السُّنَّةِ، وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى رَفْعِهِ لَهَا، وَلَوْ كَانَ مَا هَذَا حُكْمُهُ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ فِي رَفْعِ حُكْمِ السُّنَّةِ لَفْظُ سُنَّةٍ أُخْرَى يَنْفِي حُكْمَهَا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَلْتَبِسُ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ، فَيَظُنُّ سَامِعٌ لَفْظَ الْآيَةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ رَفْعُ حُكْمِ السُّنَّةِ؟ قُلْنَا: إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ اللَّفْظُ غَيْرَ مَا يُضَادُّ حُكْمَ السُّنَّةِ ارْتَفَعَ التَّوَهُّمُ.

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ سُنَّةَ رَسُولِهِ، غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ اللَّهَ إذَا نَسَخَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ، إمَّا بِالسُّنَّةِ أَوْ بِكِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إجَازَةِ نَسْخِ اللَّهِ سُنَّةَ نَبِيِّهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْبَيَانُ بِالنَّسْخِ فَتَخْرُجَ السُّنَنُ مِنْ أَيْدِينَا، فَإِذَا انْضَمَّ إلَى السُّنَّةِ الْأُولَى وَإِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي أَتَى بِرَفْعِهِ سُنَّةٌ أُخْرَى تَبَيَّنَ أَنَّ السُّنَّةَ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ، فَقَدْ زَالَ مَا يُخَوِّفُ مِنْ اخْتِلَاطِ الْبَيَانِ بِالنَّسْخِ، وَلَا يُبَالَى بَعْدَ ذَلِكَ أَيُّهُمَا النَّاسِخُ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ: الْكِتَابُ لِلسُّنَّةِ، أَوْ السُّنَّةُ لِلسُّنَّةِ، وَلَيْسَ فِي أَيْدِينَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ الْكِتَابُ السُّنَّةَ، كَمَا أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ " أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْسَخُ سُنَّةً إلَّا وَمَعَهَا سُنَّةٌ لَهُ تُبَيِّنُ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ، وَإِلَّا خَرَجَتْ السُّنَنُ مِنْ أَيْدِينَا. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مُحْتَمِلَةً لِلْخُصُوصِ، ثُمَّ جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ بَيَانٌ مِنْهُ لَهَا، فَإِذَا جُعِلَتْ نَاسِخَةً لَهُ فَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى إبْطَالِ الْوَضْعِ الَّذِي وَضَعَ اللَّهُ لَهُ نَبِيَّهُ مِنْ الْإِبَانَةِ عَنْ مَعْنَى الْكِتَابِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا هِيَ بَيَانٌ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. قِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ وَالْآيَةُ إذَا جَعَلْنَا النَّاسِخَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ النَّاسِخُ، وَأَنَّ الَّذِي يُنَافِيهِ مَنْسُوخٌ، كَقَوْلِهِ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» . تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: قَسَمَ الصَّيْرَفِيُّ مَا يَأْتِي مِنْ الْقُرْآنِ بِرَفْعِ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ فَبِالْخِطَابِ يُعْلَمُ رَفْعُهُ، كَقَوْلِهِ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] الْآيَةَ. وَكَصُلْحِ الرَّسُولِ لِقُرَيْشٍ عَلَى أَنْ يَرُدُّ النِّسَاءَ إلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] فَهَذَا يُعْلَمُ مِنْ ظَاهِرِ الْخِطَابِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ أُزِيلَ، وَيَكُونُ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: يَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ كَآيَةِ الْوَصَايَا مَعَ الْمِيرَاثِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَجْمَعَ الْوَصِيَّةَ وَالْمِيرَاثَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ إلَّا أَنْ تَأْتِيَ سُنَّةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ الْآيَةَ رَافِعَةٌ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . قَالَ: وَمِثْلُ أَنَّ عُمُومَ آيَةٍ عَلَى سُنَّةٍ، فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ سُنَّةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ السُّنَّةَ الْأُولَى قَدْ أُزِيلَ حُكْمُهَا بِبَيَانِ السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي الْجَوَازِ هَلْ هُوَ الشَّرْعِيُّ أَوْ الْعَقْلِيُّ؟ فِيهِ مَا سَبَقَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّ الْعَقْلِيَّ مَحَلُّ وِفَاقٍ، فَقَالَ بَعْدَمَا سَبَقَ: ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَرِيقِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ فِي الشَّرْعِ مَعَ جَوَازِهِ فِي الْعَقْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا تُوجَدُ سُنَّةٌ إلَّا وَلَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَصْلٌ كَانَتْ فِيهِ بَيَانًا لِمُجْمَلِهِ، فَإِذَا وَرَدَ الْكِتَابُ بِنَسْخِهَا كَانَ نَسْخًا لِمَا فِي الْكِتَابِ مِنْ أَصْلِهَا، فَصَارَ ذَلِكَ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ. وَالثَّانِي: يُوحِي إلَى رَسُولِهِ بِمَا تَحَقَّقَهُ مِنْ أُمَّتِهِ، فَإِذَا أَرَادَ نَسْخَ مَا سَنَّهُ الرَّسُولُ أَعْلَمَهُ بِهِ، حَتَّى يَظْهَرَ نَسْخُهُ، ثُمَّ يَرِدُ الْكِتَابُ بِنَسْخِهِ تَأْكِيدًا لِنَسْخِ رَسُولِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ. وَالثَّالِثُ: نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، فَيَكُونُ أَمْرًا مِنْ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّسْخِ، فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْآمِرُ بِهِ، وَالرَّسُولُ هُوَ النَّاسِخُ، فَصَارَ ذَلِكَ نَسْخَ السُّنَّةِ

بِالْكِتَابِ. الثَّالِثُ: حَكَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ طَرِيقًا آخَرَ فِي الِامْتِنَاعِ، وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ يَقِفُ فِي تَأْوِيلِ مُجْمَلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا لَا يُشْرِكُهُ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ. فَلَيْسَتْ لَهُ سُنَّةٌ لَا كِتَابَ فِيهَا إلَّا وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي الْكِتَابِ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا، فَخَصَّ اللَّهُ رَسُولَهُ بِعِلْمِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ آيَةً نَسَخَتْ سُنَّةً، لِأَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ قَدْ تَكُونُ مَأْخُوذَةً مِنْ جُمْلَةِ الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُ ذَلِكَ بَعْدُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ أَصْلًا. وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا بَيَّنَهُ فَهُوَ بَيَانٌ لِجُمْلَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَدْ عَلِمَهَا دُونَنَا. قَالَ: وَبُطْلَانُهُ مَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. قُلْت: قَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ الرِّسَالَةِ قَوْلًا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، ثُمَّ حَكَى الرَّازِيَّ عَنْ هَذَا الْقَائِلِ اسْتِقْرَاءَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ نُسِخَتْ عِنْدَهُ سُنَّةٌ إلَّا وَقَدْ وُجِدَ لَهَا حِكْمَةٌ مِنْ الْكِتَابِ، نَحْوُ: مَا ادَّعَوْهُ مِنْ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ، وَتَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ، وَالْفِطْرِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ، فَقَدْ يَكُونُ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وَشُرْبُ الْخَمْرِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُرْبَهَا لَا يَحِلُّ وَفِيهِ إثْمٌ، وَيَحْرُمُ مَا يَحِلُّ لِلْمُفْطِرِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] أَيْ عَلَى الصِّفَةِ، قَالَ: وَإِنْ وَرَدَ مَا لَمْ يَطَّلِعْ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ الْكِتَابِ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ. ثُمَّ زَيَّفَ الرَّازِيَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَرَدَّ هَذَا كُلَّهُ. الرَّابِعُ: أَشَارَ الدَّبُوسِيُّ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا نَشَأَ

مسألة ورود السنة بيانا لمجمل الكتاب

مِنْ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ أَوْ بَيَانٌ؟ فَالشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّهُ بَيَانٌ، وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُوهِمُ النَّسْخَ جَعَلَهُ مِنْ قِسْمِ الْبَيَانِ. وَعِنْدَنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ، فَاضْطُرِرْنَا إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَبِالْعَكْسِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيَّر فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ": طَرِيقُ النَّظَرِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُونَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَجَفَّ بِهِ الْقَلَمُ، فَلَا تَتَوَقَّعْ فِيهِ الزِّيَادَةَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْمَعَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنْ الَّذِي نُسِخَ بِالسُّنَّةِ، وَلَا الْعَكْسِ، قَطَعْنَا بِالْوَاقِعِ، وَاسْتَغْنَيْنَا عَنْ الْكَلَامِ عَلَى الزَّائِدِ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ أَبَدًا. قَالَ: وَهَا هُنَا مَزَلَّةُ قَدَمٍ لَا بُدَّ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ نَجِدُ حُكْمًا مِنْ السُّنَّةِ مَنْسُوخًا، وَنَجِدُ فِي الْكِتَابِ حُكْمًا مُضَادًّا لِذَلِكَ الْمَنْسُوخِ، فَيَسْبِقُ الْوَهْمُ إلَى أَنَّهُ النَّاسِخُ، وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّا قَدْ نَجِدُ فِي السُّنَّةِ نَاسِخًا، فَلَعَلَّ الْمَوْجُودَ فِي السُّنَّةِ هُوَ الَّذِي نَسَخَ، وَالْمَوْجُودَ فِي الْكِتَابِ نَزَلَ بَعْدَ أَنْ اسْتَقَرَّ النَّسْخُ، فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُ ذَلِكَ هُوَ النَّاسِخُ، ثُمَّ نُتْبِعُ ذَلِكَ بِالْأَمْثِلَةِ. . [مَسْأَلَةٌ ورود السُّنَّةُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ] مَسْأَلَةٌ إذَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، كَقَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وَبَيَّنَ الرَّسُولُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: فَمَا كَانَ مِنْ السُّنَّةِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِالسُّنَّةِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ إنَّمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ لَا بِالسُّنَّةِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مُجْمَلًا فَفَسَّرَتْهُ السُّنَّةُ، أَوْ عَامًّا فَخَصَّصَتْهُ، أَوْ مُتَشَابِهًا أَوْ بَيَانًا لِلنَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ، مِثْلُ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ فِيمَا كَانَ بَيَانًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي اُحْتِيجَ إلَى تَفْسِيرِهَا، فَأَمَّا مَا ضُمَّ هُوَ إلَيْهَا، فَيَجُوزُ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ. .

مسألة نسخ كل واحد من القول والفعل بالآخر

[مَسْأَلَةٌ نُسِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ بِالْآخَرِ] ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِالْقَوْلِ، وَأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِالْفِعْلِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ نَسْخُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُنَّةٌ يُؤْخَذُ بِهَا. وَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّارِقِ: فَإِنْ عَادَ فِي الْخَامِسَةِ فَاقْتُلُوهُ» ، ثُمَّ رُفِعَ إلَيْهِ سَارِقٌ فِي الْخَامِسَةِ، فَلَمْ يَقْتُلْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَقَالَ: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» ، ثُمَّ رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ مَنْسُوخٌ. وَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي إيجَابِ الْقُعُودِ إذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَاعِدًا أَنَّهُ نُسِخَ بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِ مَوْتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ نَسْخُ الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ إذَا عُلِمَ كَوْنُهُمَا مُثْبِتَيْنِ لِحُكْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ، فَأَمَّا النَّسْخُ بِإِقْرَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْفِعْلِ أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ. قَالَ: وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي نَسْخِ قَوْلِهِ بِفِعْلِهِ فَأَجَازَهُ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ. وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ.

مسألة الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْأَفْعَالِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهَا دَالَّةً عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ دَلَالَةِ صَرِيحِ الْقَوْلِ، وَالشَّيْءُ إنَّمَا يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَقْوَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إذَا أَقَرَّ عَلَى غَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ، هَلْ يَدُلُّ إقْرَارُهُ عَلَى نَسْخِ الْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ نَسْخٌ، كَمَا يَقَعُ بِهِ التَّخْصِيصُ عَلَى قَوْلِنَا: إنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. وَمَنْ تَوَقَّفَ فِي الْفِعْلِ قَالَ: وَيُسْتَدَلُّ بِإِقْرَارِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَبَقَهُ قَوْلٌ نُسِخَ بِهِ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ فِعْلَهُ يَقَعُ تَخْصِيصًا، وَيَقَعُ مُتَعَدِّيًا، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ قَوْلٌ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ سُنَّةً فَاتَّبَعُوهُ، فَأَضَافَهَا إلَيْهِ تَنْوِيهًا بِذِكْرِهِ، لَمَّا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِيَ بِهِ. وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ جَعَلَ سُكُوتَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ نَسْخًا لَهُ. [مَسْأَلَةٌ الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ] ِ أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَنْسَخُ، فَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ، وَالنَّسْخَ لَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ. هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسُلَيْمٌ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ.

وَجَعَلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ فِي زَمَانِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ بِدُونِ قَوْلِهِ لَاغٍ؛ وَأَمَّا مَعَهُ فَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ، وَقَوْلُ الْغَيْرِ لَاغٍ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ إلَّا بَعْدَ زَمَانِهِ فَلَا يُمْكِنُ نَسْخُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِتَعَذُّرِهِمَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَلَا بِإِجْمَاعٍ آخَرَ، لِأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ الثَّانِيَ إنْ كَانَ لَا عَنْ دَلِيلٍ فَهُوَ خَطَأٌ. وَإِنْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ فَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ، فَكَانَ خَطَأً، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ خَطَأً، فَاسْتَحَالَ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَتَعَذَّرَ نَسْخُ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَوْ انْتَسَخَ لَكَانَ انْتِسَاخُهُ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ عَدَمِ تَصَوُّرِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي حَيَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذَا جَوَّزْنَا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِي زَمَانِهِ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَلَعَلَّهُمْ اجْتَهَدُوا فِي مَسْأَلَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي " الْمُعْتَمَدِ " بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ حُكْمًا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ عَلَى عَهْدِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ إجْمَاعٌ وَقَعَ فِي زَمَانِهِ. قُلْنَا: يَجُوزُ، وَإِنَّمَا مَنَعْنَا الْإِجْمَاعَ بَعْدَهُ أَنْ يُنْسَخَ. وَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَالْمَنْسُوخُ الدَّلِيلُ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، لَا حُكْمُهُ. وَقَدْ اسْتَشْكَلَ الْقَرَافِيُّ فِي " شَرْحِ التَّنْقِيحِ " هَذَا الْحُكْمَ، وَنَقَلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنِ بَرْهَانٍ جَوَازَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَانِهِ. قَالَ: وَشَهَادَةُ الرَّسُولِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ مُتَنَاوِلَةٌ لِمَا فِي زَمَانِهِ وَمَا بَعْدَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ

نَاسِخًا وَلَا مَنْسُوخًا، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقِرُّ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، وَالنَّسْخُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَحْيِ. قَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى: وَهَذَا غَيْرُ كَافٍ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِجْمَاعِ عِنْدَنَا مُسْتَقِرَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ قَبْلَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ وَبَعْدَهُ. قَالَ: فَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، أَيْ لَا يَقَعُ ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى خِلَافِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَقَوْلُهُ: إنَّ الْإِجْمَاعَ نَاسِخٌ لِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ. انْتَهَى. وَأَمَّا كَوْنُهُ يُنْسَخُ بِهِ فَكَمَا لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا لَا يَكُونُ نَاسِخًا، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَنْعَقِدُ بَعْدَ زَمَانِهِ لَمْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْسَخَ مَا كَانَ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ فِي زَمَانِهِ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، لِأَنَّهُ يَكُونُ إجْمَاعًا عَلَى خِلَافِهِ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ نَسَخْتُمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ حَدِيثُ الْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا اسْتَدَلَّ بِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ نَسْخِهِ فَصَارَ مَنْسُوخًا بِغَيْرِ الْإِجْمَاعِ، لَا بِالْإِجْمَاعِ، فَصَارَ الْإِجْمَاعُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَلِيلًا عَلَى النَّسْخِ، لَا أَنَّهُ وَقَعَ بِهِ النَّسْخُ. قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ".

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَوَجَدْنَا خَبَرًا بِخِلَافِهِ اسْتَدْلَلْنَا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى سُقُوطِ الْخَبَرِ، لَا نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ، وَكَذَا قَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ: لَيْسَ لِلْإِجْمَاعِ حَظٌّ فِي نَسْخِ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُشَرِّعُونَ، وَلَكِنَّ إجْمَاعَهُمْ يَدُلُّ عَلَى الْغَلَطِ فِي الْخَبَرِ أَوْ رَفْعِ حُكْمِهِ، لَا أَنَّهُمْ رَفَعُوا الْحُكْمَ، وَإِنَّمَا هُمْ أَتْبَاعٌ لِمَا أُمِرُوا بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ لَا بِنَفْسِهِ، بَلْ بِمُسْتَنَدِهِ. فَإِذَا رَأَيْنَا نَصًّا صَحِيحًا وَالْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ، اسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى نَسْخِهِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ اطَّلَعُوا عَلَى نَاسِخٍ، وَإِلَّا لَمَا خَالَفُوهُ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يُورَدَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ: وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَهَذَا عِنْدَنَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُومٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَكَلَامُ الرَّسُولِ وَحْيٌ مَحْفُوظٌ. اهـ. وَمِمَّنْ جَوَّزَ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ " وَمَثَّلَهُ بِحَدِيثِ الْوَادِي الَّذِي فِي الصَّحِيحِ حِينَ نَامَ الرَّسُولُ وَأَصْحَابُهُ، فَمَا أَيْقَظَهُمْ إلَّا حَرُّ الشَّمْسِ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «فَإِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ عَنْ صَلَاةٍ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَذْكُرُهَا، وَمِنْ الْغَدِ لِلْوَقْتِ» . قَالَ: فَأَعَادَ الصَّلَاةَ الْمَنْسِيَّةَ بَعْدَ قَضَائِهَا حَالَ الذِّكْرِ وَفِي الْوَقْتِ مَنْسُوخٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ. وَمَثَّلَهُ أَيْضًا بِحَدِيثٍ أَسْنَدَهُ إلَى زِرٍّ قَالَ: «قُلْت لِحُذَيْفَةَ: أَيَّ سَاعَةٍ تَسَحَّرْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: هُوَ النَّهَارُ إلَّا أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ» . فَقَالَ: أَجْمَعَ

الْمُسْلِمُونَ أَنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ يُحَرِّمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ عَلَى الصَّائِمِ مَعَ بَيَانِ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] انْتَهَى. وَدَعْوَاهُ النَّسْخَ فِي الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] صَرِيحٌ فِي التَّقْيِيدِ بِالْفَجْرِ، فَهُوَ النَّاسِخُ حِينَئِذٍ لَا الْإِجْمَاعُ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْأُمَّةَ لَمَّا أَجْمَعَتْ عَلَى تَرْكِ ظَاهِرِهِ دَلَّ إجْمَاعُهُمْ عَلَى نَسْخِهِ لَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ هُوَ النَّاسِخُ. وَقَالَ إلْكِيَا: يُتَصَوَّرُ نَسْخُ الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ الْأَوَّلِينَ إذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَحَدِهِمَا، فَنَقُولُ: إنَّ الْخِلَافَ نُسِخَ وَجُزِمَ الْقَوْلُ بِهِ مَعَ إجْمَاعِ الْأَوَّلِينَ عَلَى جَوَازِ الِاخْتِلَافِ. قُلْنَا: الصَّحِيحُ أَنَّ الْخِلَافَ الْأَوَّلَ يَزُولُ بِهِ، وَمَنْ قَالَ: يَزُولُ بِهِ، قَالَ: هَذَا لَا يُعَدُّ نَاسِخًا، لِأَنَّهُمْ إنَّمَا سَوَّغُوا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ، كَالْغَائِبِ عَنْ الرَّسُولِ لَا يَجْتَهِدُ إلَّا بِشَرْطِ فَقْدِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعُ كَالنَّصِّ فِي ذَلِكَ، وَالِاخْتِلَافُ مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ. وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنْ نَصَّ الرَّسُولُ ذَلِكَ الْحُكْمَ الْمُخَالِفَ لَمْ يَكُنْ حُكْمَ اللَّهِ، وَهُنَا الْإِجْمَاعُ بَعْدَ الْخِلَافِ لَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْخِلَافَ لَمْ يَكُنْ شَرْعِيًّا، وَإِنَّمَا اُعْتُرِضَ عَلَى دَوَامِ حُكْمِ الْخِلَافِ نَسْخًا، فَإِنْ قِيلَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، فَهُوَ نَسْخُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْخِلَافِ لَا مَحَالَةَ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": وَأَمَّا إجْمَاعُ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَهْجُورَ بَطَلَ فِي نَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَذَاهِبُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا، وَأَيْضًا فَلِفَقْدِ شَرْطِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ ذَابٌّ وَنَاصِرٌ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": وَأَمَّا نَسْخُ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ فَمِثْلُ أَنْ تُجْمِعَ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ يُجْمِعُ الْمَانِعُونَ بَعْدَهُمْ عَلَى قَوْلٍ

مسألة القياس لا ينسخ ولا ينسخ به

وَاحِدٍ، فَيَكُونُ الصَّحَابَةُ مُجْمِعِينَ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، وَالْمَانِعُونَ مُجْمِعِينَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ. قَالَ: وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِهِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَإِنْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فَشَرْطُهُ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ. . [مَسْأَلَةُ الْقِيَاسِ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ] ِ أَمَّا كَوْنُهُ نَاسِخًا فَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِهِ، وَمِنْهُمْ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَإِلْكِيَا فِي " التَّلْوِيحِ "، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسُلَيْمٌ، وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي " التَّحْصِيلِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَنَقَلَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَكَلَامِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي " تَعْلِيقِهِ " فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَنَقَلَهُ فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، قَالُوا: فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُسْتَعْمَلُ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ النَّصُّ. وَلِأَنَّهُ دَلِيلٌ مُحْتَمَلٌ، وَالنَّسْخُ يَكُونُ بِأَمْرٍ مَقْطُوعٍ، وَلِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْأُصُولِ مَا يُخَالِفُهُ، فَفِي نَسْخِ الْأُصُولِ بِالْقِيَاسِ تَحْقِيقُ الْقِيَاسِ دُونَ شَرْطِهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَلِأَنَّهُ إنْ عَارَضَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا فَالْقِيَاسُ فَاسِدُ الْوَضْعِ،

وَإِنْ عَارَضَ قِيَاسًا آخَرَ، فَتِلْكَ الْمُعَارَضَةُ إنْ كَانَتْ بَيْنَ أَصْلِيِّ الْقِيَاسِ، فَهَذَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ النَّسْخُ قَطْعًا، إذْ هُوَ مِنْ بَابِ نَسْخِ النُّصُوصِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لَا يَقَعُ النَّسْخُ إلَّا بِدَلِيلٍ تَوْقِيفِيٍّ، وَلَا حَظَّ لِلْقِيَاسِ فِيهِ أَصْلًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَرِدَ خَبَرٌ لِمَعْنًى، ثُمَّ يَرِدُ نَاسِخٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَيَرْتَفِعُ هُوَ وَدَلَالَتُهُ، كَمَا لَوْ حُرِّمَ بَيْعُ الْبُرِّ بِالْبُرِّ لِلْأَكْلِ، فَقِسْنَا كُلَّ مَأْكُولٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُحِلَّ الْبُرُّ بِالْبُرِّ، فَيَصِيرُ مَا قِسْنَاهُ عَلَيْهِ حَلَالًا، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لِلْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَهُ مَا أَوْجَبَهُ فِي غَيْرِهَا، فَمَتَى أَزَالَ حُكْمَهَا بَطَلَ حُكْمُ مَا تَعَلَّقَ بِهَا، وَلَيْسَ هَذَا نَسْخًا بِالْقِيَاسِ، إنَّمَا هُوَ نَسْخٌ لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِالْمَنْصُوصِ. وَقَالَ: كَذَلِكَ مَا أَقَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَحْلِيلُ عَيْنِهِ، وَالْقِيَاسُ يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ. انْتَهَى. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا بِكُلِّ دَلِيلٍ يَقَعُ بِهِ التَّخْصِيصُ. حَكَاهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْجَزَرِيُّ فِي أَجْوِبَةِ " التَّحْصِيلِ ": لَوْ دَلَّ نَصٌّ عَلَى إبَاحَةِ النَّبِيذِ مَثَلًا كَمَا يَقُولُ: مَنْ يُبِيحُهُ، ثُمَّ دَلَّ نَصٌّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَكَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ إبَاحَةِ النَّبِيذِ، ثُمَّ قِسْنَا التَّحْرِيمَ فِي النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ، كَانَ الْقِيَاسُ الثَّانِي نَاسِخًا. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ: تَقَدُّمِ إبَاحَةِ النَّبِيذِ، وَكَوْنِ التَّحْرِيمِ فِي النَّبِيذِ بِالْقِيَاسِ لَا بِالنَّصِّ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَحِينَئِذٍ يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الْقِيَاسِ نَاسِخًا لِلنَّصِّ. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُنْسَخُ بِهِ الْمُتَوَاتِرُ وَنَصُّ الْقُرْآنِ، وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ إنَّمَا يُنْسَخُ بِهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ فَقَطْ. الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْجَلِيِّ، فَيَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ، وَبَيْنَ الْخَفِيِّ فَلَا يَجُوزُ. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ، إجْرَاءً لَهُ مُجْرَى التَّخْصِيصِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ

عَنْ الْأَنْمَاطِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْقِيَاسُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْقُرْآنِ يُنْسَخُ بِهِ الْقُرْآنُ، وَالْقِيَاسُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ السُّنَّةِ يُنْسَخُ بِهِ السُّنَّةُ. وَحَكَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْهُ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. وَقَالَ: جَوَّزَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ. وَحَكَى الْبَاجِيُّ عَنْ الْأَنْمَاطِيِّ التَّفْصِيلَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِخِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ مَفْهُومُ الْخِطَابِ، وَهُوَ لَيْسَ بِقِيَاسٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يَجْرِي مُجْرَى النَّصِّ. وَقَسَمَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ الِاسْتِدْلَالِ، كَقَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ قِيَاسًا لَا لَفْظًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِي جَوَازِ النَّسْخِ بِهِ وَجْهَانِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْمَنْعِ. الثَّانِي: مَا عُرِفَ كَنَهْيِهِ عَنْ الضَّحِيَّةِ بِالْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ، فَكَانَتْ الْعَمْيَاءُ قِيَاسًا عَلَى الْعَوْرَاءِ، وَالْعَرْجَاءِ عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ نَقْصَهَا أَكْثَرُ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ، وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِالِاتِّفَاقِ، لِجَوَازِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ فِي الْفَرْعِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ. الثَّالِثُ: مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ بِاسْتِدْلَالٍ ظَاهِرٍ بِتَأَدِّي النَّظَرِ، كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ، وَقِيَاسِ الْعَبْدِ عَلَيْهَا فِي تَنْصِيفِ الْحَدِّ، فَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ

بِهِ، وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. اهـ. الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً، كَقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِأَجْلِ الشِّدَّةِ، فَهَذَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ مَعَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ، وَيُرْفَعُ بِهِ حُكْمُ تَحْلِيلِ الْأَنْبِذَةِ الَّتِي فِيهَا الشِّدَّةُ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَنْبَطَةً فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُسْتَنْبَطَ مِنْ خِطَابٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ الْخِطَابِ الْمُعَارِضِ لَهَا، فَهَذَا قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِنَسْخِهَا لِلْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ. وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الشَّرْعُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُسْتَخْرَجَةً مِنْ خِطَابٍ سَابِقٍ عَلَى الْخِطَابِ الْمُعَارِضِ لَهَا، فَهَذَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَرِدَ شَرْعٌ بِنَسْخِهَا لِلْخِطَابِ الْمُتَأَخِّرِ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ تَحْرِيمُ الْمُبَاحِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، ثُمَّ يَرِدُ الْخِطَابُ الْمَنْسُوخُ بَعْدَ الْعِلَّةِ النَّاسِخَةِ بِالْإِبَاحَةِ فَيَجْتَمِعُ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ التَّكْلِيفَ. قَالَ الْبَاجِيُّ فِي أَحْكَامِهِ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَفَصَلَ الْآمِدِيُّ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً فَيَصِحُّ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ قَطْعِيًّا كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا، لَكِنْ لَيْسَ نَسْخًا، لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِخِطَابٍ، وَالنَّسْخُ عِنْدَهُ هُوَ الْخِطَابُ، وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً فَلَا يَكُونُ نَاسِخًا. وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا التَّفْصِيلِ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ يَعْنِي الْعِلَّةَ مَنْصُوصَةً، فَالْأَقْرَبُ أَنَّ النَّاسِخَ هُوَ مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ، وَلَكِنْ فَعَلْنَا بِشَرْطٍ، وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ. وَقَالَ: أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يَنْسَخُ بِالِاتِّفَاقِ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْسُوخًا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَفِيهِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا نُسِخَ الْأَصْلُ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْقِيَاسِ؟ قَالَ: وَصُورَتُهُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي عَيْنٍ بِعِلَّةٍ، وَيُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، ثُمَّ يُنْسَخُ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ، فَإِذَا بَطَلَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ بَطَلَ فِي الْفَرْعِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": نُقِلَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ أُصُولِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ لَمْ تُنْسَخْ. وَنُقِلَ عَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ. قَالَ: وَالْحَقُّ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ بِالْكِتَابِ، لَا السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ. وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يَجُوزُ. اهـ. وَكَذَا قَالَ إلْكِيَا: قِيلَ لَا يَصِحُّ نَسْخُهُ، لِأَنَّهُ مَعَ الْأُصُولِ، فَمَا دَامَتْ الْأُصُولُ ثَابِتَةً فَنَسْخُهُ لَا يَصِحُّ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدَنَا بَعْدَ الرَّسُولِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ، بَلْ يَظْهَرُ مُخَالِفٌ أَوْ لَا يَظْهَرُ، وَكَيْفَمَا قُدِّرَ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا، وَإِنْ كَانَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ إنْ قُلْنَا بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْغَائِبِ عَنْهُ، بِنَاءً عَلَى الْأُصُولِ. فَإِذَا طَرَأَ نَاسِخٌ بَعْدَهُ صَحَّ نَسْخُ الْقِيَاسِ، ثُمَّ يَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ نَسْخُ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ تَبَعٌ لِلْأُصُولِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ ارْتَفَعَ التَّبَعُ. وَأَطْلَقَ سُلَيْمٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقِيَاسِ. قَالَ: لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ أَصْلِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ أَصْلِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ ": مَنَعَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنْ نَسْخِ الْقِيَاسِ. قَالَ: لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأُصُولِ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ ثُبُوتِهَا رَفْعُهُ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ.

وَقَالَ فِي الدَّرْسِ: إنْ كَانَ مَعْلُومَ الْعِلَّةِ جَازَ نَسْخُهُ. قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ نَصَّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْبُرِّ هِيَ الْكَيْلُ، وَأَمَرَ بِالْقِيَاسِ، لَكَانَ ذَلِكَ كَالنَّصِّ فِي تَحْرِيمِ الْأُرْزِ، فَكَمَا جَازَ أَنْ يُحَرِّمَ الْأَرُزَّ ثُمَّ يَنْسَخَهُ جَازَ أَنْ يَنْسَخَ عَنَّا تَحْرِيمَ الْأُرْزِ الْمُسْتَفَادِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَيَمْنَعُ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْبُرِّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ ": إنَّمَا يُنْسَخُ بِقِيَاسٍ أَجْلَى مِنْهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي " الْمَحْصُولِ " تَبَعًا لِصَاحِبِ " الْمُعْتَمَدِ "، وَابْنِ الصَّبَّاغِ: يُنْسَخُ الْقِيَاسُ إنْ كَانَ فِي حَيَاتِهِ، فَلَا يَمْتَنِعُ رَفْعُهُ بِالنَّصِّ، وَبِالْإِجْمَاعِ، وَبِالْقِيَاسِ، أَمَّا بِالنَّصِّ فَبِأَنْ يَنُصَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْفَرْعِ بِخِلَافِ حُكْمِ الْقِيَاسِ بَعْدَ اسْتِمْرَارِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ، وَأَمَّا بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ إذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ قِيَاسًا، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَانَ إجْمَاعُهُمْ رَافِعًا لِحُكْمِ الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِلْقَوْلِ الْآخَرِ، وَأَمَّا بِالْقِيَاسِ فَبِأَنْ يَنُصَّ عَلَى صُورَةٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَيَجْعَلَهُ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِي ذَلِكَ الْفَرْعِ. وَيَكُونَ أَمَارَةُ عِلِّيَّتِهَا أَقْوَى مِنْ أَمَارَةِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ لَا يُسَمَّى نَسْخًا فِي اللَّفْظِ، كَمَا إذَا أَفْتَى الْمُجْتَهِدُ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ ظَفِرَ بِالنَّصِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلْأَوَّلِ، فَإِنْ قُلْنَا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، كَانَ هَذَا الْوُجْدَانُ نَسْخًا لِقِيَاسِهِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ الْأَوَّلُ مُتَعَبَّدًا بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ النَّصُّ الَّذِي وَجَدَهُ آخِرًا نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقِيَاسِ.

قَالَ صَاحِبُ " التَّحْصِيلِ ": وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَفِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ نَظَرٌ، فَلْيَتَأَمَّلْهُ النَّاظِرُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ تَجْوِيزَهُ نَسْخَ الْقِيَاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِجْمَاعِ، يُنَاقِضُ قَوْلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ: إنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ فِي زَمَانِهِ، كَمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ، وَنَقْلُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى بُطْلَانِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ الْخِلَافُ ثَابِتٌ فِي تَجْوِيزِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ كَمَا سَبَقَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ مُطْلَقًا، فَإِنَّا وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، كَالْقِبْلَةِ إذَا لَمْ يُعَيِّنْهَا، فَإِنَّهُ تَكْلِيفٌ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: نُقِلَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ مَنَعَ نَسْخَ الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا تُنْسَخُ أُصُولُهُ، وَأُصُولُهُ بَاقِيَةٌ لَمْ تُنْسَخُ. وَنُقِلَ عَنْهُ الْجَوَازُ، وَالْحَقُّ الْبَيِّنُ مَا قَسَمَهُ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: إذَا كَانَ الْقِيَاسُ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ جَازَ نَسْخُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْقِيَاسِ، فَإِذَا قَالَ: لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَنَبَّهَ عَلَى عِلَّتِهِ فَعَدَّيْنَاهَا إلَى الْأُرْزِ، ثُمَّ وُجِدَ نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ يَقْتَضِي إبَاحَةَ بَيْعِ الْأُرْزِ بِالْأُرْزِ مُتَفَاضِلًا، فَإِنَّهُ نَسْخٌ لِحُكْمِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ بَعْدَ الْوَفَاةِ تَجَدُّدُ شَرْعٍ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِي الْقِيَاسِ إنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً، فَهِيَ فِي مَعْنَى النَّصِّ، وَيُمْكِنُ نَسْخُهُ بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ فِي مَعْنَاهُ لَوْ ذَهَبَ إلَيْهِ ذَاهِبٌ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى نَاسِخِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا ظَنَّهُ، فَرُفِعَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ بَعْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى النَّاسِخِ لَا يَكُونُ

المسألة الثانية الحكم الثابت بالقياس نسخ أصله يوجب نسخه

نَسْخًا مُتَجَدِّدًا، بَلْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَنْسُوخًا، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً فَحُكْمُهَا فِي حَقِّهِ غَيْرُ ثَابِتٍ بِالْخِطَابِ، فَرَفْعُهُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ الظَّفَرِ بِذَلِكَ مُعَارَضَةٌ، وَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا، لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِخِطَابٍ، لِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ الْخِطَابُ. . [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ نَسْخُ أَصْلِهِ يُوجِبُ نَسْخَهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ نَسْخُ أَصْلِهِ يُوجِبُ نَسْخَهُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَصُورَتُهُ مَا لَوْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى حُكْمٍ، وَعَلَّلَهُ بِعِلَّةٍ، وَأَلْحَقَ غَيْرَهُ بِهِ، ثُمَّ نُسِخَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ، فَهَلْ يَرْتَفِعُ فِي الْفَرْعِ؟ عِنْدَنَا يَرْتَفِعُ. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: يَبْقَى، لِأَنَّهُ لَوْ زَالَ لَكَانَ زَوَالُهُ نَسْخًا بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ لَا يَكُونُ فَرْعًا. وَفَصَلَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ بَيْنَ أَنْ يُنْسَخَ الْأَصْلُ لَا إلَى بَدَلٍ. فَلَا يَبْقَى الْفَرْعُ. وَبَيْنَ أَنْ يُنْسَخَ إلَى بَدَلٍ فَيَبْقَى. وَهُوَ غَرِيبٌ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْحَقُّ أَنَّ الْمَعْنَى يَبْقَى اسْتِدْلَالًا، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ شَرْطَ الِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ الْعَامِلِ بِهِ أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَصْلٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ أَلْغَاهُ النَّاسِخُ. وَمُنْشَأُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَحْثُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً شَرْعًا، هَلْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ تَلَازُمَهُمَا؟ وَالْحَنَفِيَّةُ يَعْتَقِدُونَهُمَا مُنْفَكَّيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ أَحَدِهِمَا بُطْلَانُ الْآخَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْبِيرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّفْعِ وَقَعَ فِي عِبَارَاتٍ لِسُلَيْمٍ فِي.

التَّقْرِيبِ "، وَابْنِ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ "، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ "، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ تَعْبِيرِ غَيْرِهِمْ كَابْنِ بَرْهَانٍ، وَالْهِنْدِيِّ وَغَيْرُهُمَا بِالنَّسْخِ، لِأَنَّ أَصْحَابَنَا لَا يَقُولُونَ: إنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ يُنْسَخُ بِارْتِفَاعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، بَلْ يَزُولُ لِزَوَالِ كَوْنِ الْعِلَّةِ مُعْتَبَرَةً، وَالْحُكْمُ إذَا زَالَ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ، لَا يُقَالُ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ. قَالُوا: لَوْ كَانَ نَسْخُ الْأَصْلِ نَسْخَ الْفَرْعِ لَكَانَ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ إذَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ لِلْفَرْعِ، وَأُجِيبَ بِمَنْعِهِ، إذْ لَا جَامِعَ وَهُوَ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ، بَلْ هُوَ لِزَوَالِ حُكْمِ الْأَصْلِ إذْ الْعِلَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ فِي زَوَالِ الْحُكْمِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَسْخٌ حَقِيقَةً، إذْ زَوَالُ الْحُكْمِ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ لَيْسَ نَسْخًا بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ "، وَغَيْرُهُمْ: قَدْ بَنَتْ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَصْلِهِمْ فَرَعَيْنَ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالنَّبِيذِ الْمُسْكِرِ النِّيءِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ مَطْبُوخًا. وَقَدْ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّيءِ، وَأَلْحَقُوا بِهِ الْمَطْبُوخَ قِيَاسًا، ثُمَّ نُسِخَ التَّوَضُّؤُ بِالنِّيءِ، وَبَقِيَ التَّوَضُّؤُ بِالْمَطْبُوخِ. وَالثَّانِي: ادَّعَوْا أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ يَجِبُ صَوْمُهُ، وَيَجُوزُ إيقَاعُ النِّيَّةِ فِيهِ نَهَارًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ، فَلِيَصُمْ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إيقَاعُ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ، وَأُلْحِقَ بِهِ

رَمَضَانُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَوْمٌ. ثُمَّ نُسِخَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَبَقِيَ الْقِيَاسُ مُسْتَمِرًّا فِي رَمَضَانَ. وَقَدْ نُوزِعَ فِي هَذَا الْمِثَالِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ مُغَايِرٌ لِلْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ تَرْكُ التَّبْيِيت، وَالْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ إنَّمَا هُوَ وُجُوبُ الصَّوْمِ، وَلَيْسَتْ مَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَقَالَ إلْكِيَا: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى جَوَازِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ الْمَنْسُوخِ فِي أَمْثِلَةٍ، لَا بُدَّ مِنْ مُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى بَعْضِهَا. كَقَوْلِهِمْ فِي صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ: كَانَ وَاجِبًا، وَجَوَّزَهُ الرَّسُولُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، ثُمَّ نُسِخَ وُجُوبُهُ، فَادَّعَوْا أَنَّ النَّسْخَ يَرْجِعُ إلَى تَبْدِيلِ النِّيَّةِ، وَمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ جَوَازِ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ بَاقٍ بِحَالِهِ، لَا يَتَأَثَّرُ بِنَسْخِهِ، فَإِذَا عَرَفْنَا تَمَاثُلَ الْحُكْمَيْنِ عِنْدَ وُجُوبِهَا مِنْ النِّيَّةِ، فَالنَّسْخُ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِهِمَا فِي الْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ الْمَعْنَى الْمَنْقُولُ مِنْهُ. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا حَسَنٌ لَا رَيْبَ فِيهِ. نَعَمْ، لَوْ نُسِخَ الْأَصْلُ لَا إلَى بَدَلٍ، فَالْفَرْعُ لَا يَبْقَى دُونَ الْأَصْلِ. وَهَاهُنَا نَسْخٌ إلَى بَدَلٍ كَمَا إذَا نُسِخَ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ فِي الْمَطْعُومَاتِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فَرْعًا بِلَا أَصْلٍ، وَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ: إنَّ التَّوَضُّؤَ بِالنَّبِيذِ جَائِزٌ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَإِنْ تَمَّ أَدَاؤُهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ نَقْعُ

مسألة في نسخ المفهوم

التَّمْرِ، وَلَكِنْ يُفْهَمُ مِنْهُ إجْزَاؤُهُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، حَيْثُ إنَّ هَذَا فَرْعٌ بِلَا أَصْلٍ. قَالَ: وَقَدْ يَلْتَبِسُ بِهَذَا مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ تَلَقِّيًا مِنْ قَوْلِهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] ثُمَّ فَعَلَ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَكَانَ التَّيَمُّمُ بِذَلِكَ أَوْلَى، ثُمَّ رَوَى الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فَأَكْثَرَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. فَلَمْ يَعْقِلْ مِنْ حُكْمِ النَّسْخِ مَا عَقَلَ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ الظَّانِّ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ دَلَّ عَلَيْهَا. . [مَسْأَلَةٌ فِي نَسْخِ الْمَفْهُومِ] وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى مَفْهُومِ مُخَالَفَةٍ وَمَفْهُومِ مُوَافَقَةٍ. أَمَّا الْمُخَالَفَةُ، فَيَجُوزُ نَسْخُهُ مَعَ نَسْخِ الْأَصْلِ وَبِدُونِهِ، كَقَوْلِهِ: «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» ، فَإِنَّهُ نُسِخَ مَفْهُومُهُ بِقَوْلِهِ: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ» ، وَبَقِيَ أَصْلُهُ وَهُوَ وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنْ الْإِنْزَالِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: دَلِيلُ الْخِطَابِ يَجُوزُ نَسْخُ مُوجِبِهِ، وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِمُوجِبِهِ، لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِهِ. اهـ.

نسخ مفهوم الموافقة والنسخ به

وَمَا ذَكَرَهُ فِي نَسْخِهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ "، وَأَمَّا النَّسْخُ بِهِ، فَقَالَ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ ": يَجُوزُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النُّطْقِ عَلَى الْمَذْهَبِ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ كَالْقِيَاسِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. اهـ. وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَقْوَى الْمَفَاهِيمِ، وَهُوَ مَا قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ مَنْطُوقٌ كَالْحَصْرِ وَالشَّرْطِ، وَبَيْنَ مَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْطُوقِ. وَأَمَّا نَسْخُ الْأَصْلِ بِدُونِهِ فَفِي جَوَازِهِ احْتِمَالَانِ لِلصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ: قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْعَدَمِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ، فَإِذَا بَطَلَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْقَيْدُ بَطَلَ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا نَسْخُ الْأَصْلِ نَسْخُ الْمَفْهُومِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنْ يُرْفَعَ الْعَدَمُ، وَيَحْصُلَ الْحُكْمُ الثُّبُوتِيُّ، بَلْ الْمَعْنَى فِيهِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَدَمُ الَّذِي كَانَ شَرْعِيًّا، وَيَرْجِعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلُ. وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي بَابِ الْمَفْهُومِ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ اللَّفْظُ، وَيَبْقَى دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِلَّفْظِ، فَهُوَ تَابِعٌ لَهُ، وَفَرْعٌ عَنْهُ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْقُطَ الْأَصْلُ، وَيَكُونَ الْفَرْعُ بَاقِيًا. . [نَسْخُ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَالنَّسْخُ بِهِ] وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، فَهَلْ يَجُوزُ نَسْخُهُ وَالنَّسْخُ بِهِ؟ أَمَّا كَوْنُهُ نَاسِخًا، فَجَزَمَ الْقَاضِي بِجَوَازِهِ، فِي " التَّقْرِيبِ " وَقَالَ: لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ النَّسْخِ بِمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الْكِتَابِ، وَظَاهِرُهُ، وَجَوَازُهُ بِمَا اقْتَضَاهُ فَحْوَاهُ، وَلَحْنُهُ، وَمَفْهُومُهُ، وَمَا أَوْجَبَهُ الْعُمُومُ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ عِنْدَ مُثْبِتِهَا، لِأَنَّهُ كَالنَّصِّ أَوْ.

أَقْوَى مِنْهُ. انْتَهَى. وَكَذَا جَزَمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، قَالَ: لِأَنَّهُ مِثْلُ النُّطْقِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. قَالَ: لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَهُ قِيَاسًا، فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ نَسْخُ النَّصِّ بِهِ. وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ يُنْسَخُ بِهِ مَا يُنْسَخُ بِمَنْطُوقِهِ، وَهُوَ عَجِيبٌ. فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، وَغَيْرِهِمْ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي "، وَالشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَسُلَيْمٌ، وَصَحَّحَا الْمَنْعَ. قَالَ سُلَيْمٌ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّهُ قِيَاسٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَلَا يَقَعُ النَّسْخُ بِهِ. وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ: لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ النَّصِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ. قَالَ: وَالثَّانِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ: الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ فِي فَرْعِهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ، صَارَ الْفَرْعُ كَالنَّصِّ، فَجَازَ بِهِ النَّسْخُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نَصًّا فِي الْقُرْآنِ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نَصًّا فِي السُّنَّةِ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ السُّنَّةُ دُونَ الْقُرْآنِ. قَالَ: وَمِنْ هَاهُنَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 65] مَعَ قَوْلِهِ {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] الْآيَةَ أَنَّ نَسْخَ مُصَابَرَةِ عِشْرِينَ مِئَتَيْنِ بِمُصَابَرَةِ عِشْرِينَ أَرْبَعِينَ عُلِمَ

بِالْقِيَاسِ أَوْ بِاللَّفْظِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عُلِمَ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ الْعِشْرِينَ، وَإِنَّمَا قِسْنَاهُ عَلَى حُكْمِ الْمِئَتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عُلِمَ بِاللَّفْظِ. اهـ. وَمُنْشَأُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ أَوْ لَا: أَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ أَوْ عَقْلِيَّةٌ الْتِزَامِيَّةٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَفْظِيَّةٌ جَازَ نَسْخُهَا، وَالنَّسْخُ بِهَا كَالْمَنْطُوقِ، وَإِنْ كَانَتْ عَقْلِيَّةً، كَانَتْ قِيَاسًا جَلِيًّا، وَالْقِيَاسُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْسُوخًا، فَتَارَةً يَتَوَجَّهُ النَّسْخُ إلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ اللَّفْظِ، وَتَارَةً يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّفْظِ، فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَى اللَّفْظِ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، وَيَكُونُ نَسْخًا لِلْفَحْوَى عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، وَإِنْ تَوَجَّهَ إلَى الْفَحْوَى فَقَطْ، وَحُكْمُ اللَّفْظِ بَاقٍ، فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ: أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَالنَّصَّيْنِ، يَجُوزُ نَسْخُ أَحَدِهِمَا مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ. وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ عَنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، قَالَ: بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ اللَّفْظِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ لَفْظَيْنِ، فَجَازَ نَسْخُ أَحَدِهِمَا مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ الْآخَرِ. اهـ. وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ، قَالَ: لِأَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ مِنْ الْمُشْتَبِهَاتِ، وَنَسْخُ بَعْضِ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ بَعْضٍ سَائِغٌ. قَالَ: وَيُفَارِقُ الْقِيَاسُ حَيْثُ يَمْتَنِعُ نَسْخُهُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ، لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَصْلِ صِحَّةُ الْفَرْعِ، فَمَا دَامَ الْأَصْلُ بَاقِيًا وَجَبَتْ صِحَّتُهُ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَصَحَّحَهُ سُلَيْمٌ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ نُطْقِهِ مُوجِبٌ لِفَحْوَاهُ وَمَفْهُومِهِ، فَلَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْفَحْوَى مَعَ بَقَاءِ مُوجِبِهِ كَمَا لَا يُنْسَخُ الْقِيَاسُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": فَأَمَّا نَسْخُ الْفَحْوَى مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ.

فَجَوَّزَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي " الْعُمَدِ ". وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقْضًا لِلْغَرَضِ، وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الدَّرْسِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ إلَّا وَقَدْ انْتَقَضَ الْغَرَضُ، لِأَنَّهُ إذَا حُرِّمَ التَّأْفِيفُ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْظَامِ لِلْأَبَوَيْنِ كَانَتْ إبَاحَةُ مَضَرَّتِهِمَا نَقْضًا لِلْغَرَضِ. وَفَصَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْمَنْطُوقِ لَا تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ، كَإِكْرَامِ الْوَالِدِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَأْفِيفِهِ، فَيَمْتَنِعُ نَسْخُ الْفَحْوَى لَتَنَاقُضِ الْمَقْصُودِ. وَإِنْ احْتَمَلَتْ النَّقْضَ جَازَ، لِاحْتِمَالِ الِانْتِقَالِ مِنْ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ: لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، يَقْصِدُ بِذَلِكَ حِرْمَانَهُ لِغَضَبِهِ، فَفَحْوَاهُ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ أَكْثَرَ مِنْهُ. فَإِذَا نَسَخَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: أَعْطِهِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، وَلَا تُعْطِهِ دِرْهَمًا جَازَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ عِلَّةِ حِرْمَانِهِ إلَى عِلَّةِ مُوَاسَاتِهِ. وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْجَوَازِ، فَفِي اسْتِتْبَاعِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا نَسْخَ الْآخَرِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ نَسْخَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْآخَرِ، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، لِتَلَازُمِهِمَا. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِ أَحَدِهِمَا نَسْخُ الْآخَرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَسْخَ الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْفَحْوَى، لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ التَّابِعِ بِدُونِ مَتْبُوعِهِ، وَنَسْخُ الْمَفْهُومِ لَا يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْأَصْلِ، وَجَعَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " الْمَذْهَبَ، وَنُقِلَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ نَسْخَ الْمَنْصُوصِ لَا يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمَفْهُومِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ. قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ إذَا نُسِخَ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِسَاخُ الْمَفْهُومِ، لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ التَّابِعِ مَعَ فَقْدِ الْأَصْلِ. وَوَجَّهَ غَيْرُهُ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ مِنْ النَّصِّ، فَلَا يَكُونُ رَفْعُ الْأَصْلِ مُسْتَلْزِمًا لِرَفْعِهِ.

زوال الحكم لزوال سببه لا يكون نسخا

قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ مُتَّجِهٌ. وَلِهَذَا لَوْ صَرَّحَ بِنَفْيِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ، وَتَحْرِيمِ الضَّرْبِ لَمْ يَكُنْ تَنَاقُضًا، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: نَسْخُ الْوُجُوبِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ أَلْزَمُ. وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ نَسْخَ قَوْلِهِ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» لَا يَقْتَضِي نَسْخَ مَفْهُومِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِقَتْلِ عَبْدِ غَيْرِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّا إنْ قُلْنَا: الْفَحْوَى ثَبَتَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، فَهِيَ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ صَرِيحَةٌ، وَعَلَى الضَّرْبِ الْتِزَامِيَّةٌ فَهُمَا دَلَالَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ إحْدَاهُمَا رَفْعُ الْأُخْرَى، وَإِنْ قُلْنَا: ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَفْعَ حُكْمِ الْأَصْلِ مُوجِبًا لِرَفْعِ حُكْمِ الْفَرْعِ، لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الْفَرْعِ دُونَ أَصْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ نَسْخًا، وَإِنَّ رَفْعَ حُكْمِ الْفَرْعِ لَا يُوجِبُ رَفْعَ حُكْمِ الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ التَّابِعِ رَفْعُ الْمَتْبُوعِ. [زَوَالَ الْحُكْمِ لِزَوَالِ سَبَبِهِ لَا يَكُونُ نَسْخًا] فَرْعَانِ الْأَوَّلُ: زَعَمَ فِي " الْمَحْصُولِ " أَنَّ الْعَقْلَ يَكُونُ نَاسِخًا فِي حَقِّ مَنْ سَقَطَتْ رِجْلَاهُ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ سَاقِطٌ عَنْهُ. وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ زَوَالَ الْحُكْمِ لِزَوَالِ سَبَبِهِ لَا يَكُونُ نَسْخًا كَمَا سَبَقَ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": لَا خِلَافَ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ إلَى مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ مِنْ نَاحِيَةِ ضَرُورَتِهِ أَوْ دَلِيلِهِ نَعَمْ، حَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ ارْتِفَاعَ الْحُكْمِ لِارْتِفَاعِ شَرْطِهِ أَوْ سَبَبِهِ يُسَمَّى نَسْخًا. الثَّانِي: وَقَعَ فِي الْمَحْصُولِ فِي مَسْأَلَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ مَا يَقْتَضِي جَعْلَ الْمَوْتِ نَسْخًا، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ كُلُّ حُكْمٍ مَنْسُوخًا وَانْتَقَضَ

مسألة في الزيادة على النص هل تكون نسخا لحكم النسخ

حَدُّ النَّسْخِ. وَأَشْكَلَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ النَّسْخُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ النَّسْخَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَكَمْ مَوْتٍ وَقَعَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ، وَلَوْ صَحَّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ نَسْخًا بِالنِّسْبَةِ إلَى جُمْلَةِ الْحُكْمِ، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَيِّتٍ، وَيَصِحُّ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ غَيْرَ الشَّرْعِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَشْوِيشٌ لِلْقَوَاعِدِ. [مَسْأَلَةٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ هَلْ تَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ النَّسْخِ] ِ؟ اعْلَمْ أَنَّ الزَّائِدَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ أَوْ لَا، الْأَوَّلُ الْمُسْتَقِلُّ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَوَّلِ كَزِيَادَةِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَيْسَ بِنَسْخٍ، لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ التَّنَافِي. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ كَزِيَادَةِ صَلَاةٍ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَلَيْسَ بِنَسْخٍ أَيْضًا عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهَا تَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] لِأَنَّهَا تَجْعَلُهَا غَيْرَ الْوُسْطَى. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: وَيَلْزَمُهُمْ زِيَادَةُ عِبَادَةٍ عَلَى الْعِبَادَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّهَا تَجْعَلُهَا غَيْرَ الْأَخِيرَةِ، وَتُغَيِّرُ عَدَّهَا وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. الثَّانِي: الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى الرَّكَعَاتِ، وَالتَّغْرِيبِ،

وَصِفَةُ رَقَبَةِ الْكَفَّارَةِ مِنْ الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا، وَكَاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ مَعَ قَوْلِهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فَإِنَّ اشْتِرَاطَهَا يَكُونُ تَغْيِيرًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِالْمَذْكُورِ فِيهِ. فَاخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْجُبَّائِيِّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَسَوَاءٌ اتَّصَلَتْ بِالْمَزِيدِ عَلَيْهِ أَمْ لَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مَانِعَةً مِنْ إجْرَاءِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مَانِعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ، وَإِلْكِيَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ: إنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَقَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا هِيَ تَخْصِيصُ عُمُومٍ، يَعْنِي حَتَّى يَجُوزَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَسْخٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَسَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي السَّبَبِ أَوْ الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا: إنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ تُوجِبُ النَّسْخَ، حَكَاهُ الصَّيْمَرِيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ، وَإِلْكِيَا: عُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» : مَنْسُوخٌ فِي وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ تَضَمَّنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَصُّهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا غُسْلَ فِيمَا سِوَاهُ،

وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. وَإِنَّمَا صَارَ مَنْسُوخًا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» إنَّمَا دَلَّ مِنْ حَيْثُ دَلِيلُ الْخِطَابِ، فَهُوَ نَسْخٌ لِلْمَفْهُومِ لَا نَسْخٌ لِلنَّصِّ مِنْ حَيْثُ الزِّيَادَةُ. انْتَهَى. وَلَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْآتِي الْقَائِلُ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ مَا نَفَاهُ الْمَفْهُومُ، وَمَا لَمْ يَنْفِهِ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ يَجْعَلُ مَا نَفَاهُ الْمَفْهُومُ نَسْخًا لِلنَّصِّ، وَأَصْحَابُنَا لَا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلنَّصِّ أَلْبَتَّةَ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَسْخٌ لِلْمَفْهُومِ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ نَسْخَ النَّصِّ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يُجْعَلُ نَسْخًا لِلنَّصِّ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَّا بِذَلِكَ فِي نَسْخِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إلَّا هَذَا الْوَجْهَ الضَّعِيفَ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ يَنْفِي الزِّيَادَةَ بِفَحْوَاهُ، فَإِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ، كَقَوْلِهِ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ دَلِيلُهُ نَفْيَ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ، فَإِنْ زِيدَتْ الزَّكَاةُ فِي الْمَعْلُوفَةِ كَانَ نَسْخًا، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُهَا لَا يَنْفِي تِلْكَ الزِّيَادَةَ فَوُجُودُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا، حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَصَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرُهُمَا. وَالرَّابِعُ: إنْ غَيَّرَتْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ تَغْيِيرًا شَرْعِيًّا حَتَّى صَارَ لَوْ فُعِلَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى حَدِّ مَا كَانَ يُفْعَلُ مِثْلَهَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَيَجِبُ اسْتِئْنَافُهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، كَزِيَادَةٍ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ لَوْ فُعِلَ عَلَى حَدِّ مَا يَكُونُ يُفْعَلُ قَبْلَ الزِّيَادَةِ يَصِحُّ فِعْلُهُ، لَمْ يَكُنْ نَسْخًا كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ. حَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " " وَالْقَوَاطِعِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ والإستراباذيِّ وَالْبَصْرِيِّ.

قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَأَيْته فِي " التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأُمُورٍ، ثُمَّ شَرَطَ الْقَاضِي لِكَوْنِهَا نَسْخًا إذَا غَيَّرَتْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلَمَ وُرُودُهَا بَعْدَ اسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ الْغَرَضِ عَارِيًّا مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ. وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ فَهُوَ نَسْخٌ، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ رَابِعَةٍ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ انْفَصَلَتْ لَمْ يَكُنْ، كَضَمِّ التَّغْرِيبِ إلَى الْجَلْدِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ. وَالْخَامِسُ: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُغَيِّرَةً حُكْمَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَانَتْ نَسْخًا. وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ حُكْمَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ كَانَتْ مُقَارِنَةً لَهُ لَمْ تَكُنْ نَسْخًا، فَزِيَادَةُ التَّغْرِيبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْجَلْدِ نَسْخٌ، وَكَذَا لَوْ زِيدَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِشْرُونَ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِي لَا تَسْقُطُ مِنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فَكَوُجُوبِ سَتْرِ الْفَخِذِ، ثُمَّ يَجِبُ سَتْرُ بَعْضِ الرُّكْبَةِ، فَلَا يَكُونُ وُجُوبُ سَتْرِ بَعْضِهَا نَسْخًا، حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ ": وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ رَفَعَتْ حُكْمًا عَقْلِيًّا، أَوْ مَا ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ لَمْ تَكُنْ نَسْخًا، لِأَنَّا لَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ الْأَحْكَامَ، وَمَنْ يَعْتَقِدُ إيجَابَهُ لَا يَعْتَقِدُ رَفْعَهَا نَسْخًا، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ رَفْعَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ تَكُونُ نَسْخًا، كَقَوْلِهِ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَفَحْوَاهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ، فَلَوْ وَرَدَ خَبَرٌ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ كَانَ نَاسِخًا لِهَذِهِ الْفَحْوَى، لِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.

حَكَى هَذَا التَّفْصِيلَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ: إنَّهُ الْحَقُّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَنَقَلَاهُ عَنْ اخْتِيَارِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، يَعْنِي فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ ". وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ أَجْوَدُ الطُّرُقِ وَأَحْسَنُهَا. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَا يَتَّجِهُ عَلَى قَوْلِنَا إنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ، وَحِينَئِذٍ لَا يَتَّجِهُ لِلْآمِدِيِّ، وَالرَّازِيِّ الْقَوْلُ بِهِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " عَنْ الْقَاضِي: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ شَرْطًا فِي الْمَزِيدِ عَلَيْهِ كَانَتْ نَسْخًا، وَإِلَّا فَلَا. وَاَلَّذِي فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ " خِلَافُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَرَّرَ مَا سَبَقَ. نَعَمْ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ شَرْطٍ لِلْعِبَادَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا نَسْخًا لَهَا، لِأَنَّهَا إنْ فُعِلَتْ مَعَ عَدَمِهِ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً، فَإِذَا فُعِلَتْ مَعَ عَدَمِهَا لَمْ تَكُنْ صَلَاةً. قَالَ: وَأَمَّا زِيَادَةُ التَّرْتِيبِ وَالنِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ النُّقْصَانِ فِي حُكْمِ النَّصِّ لَا الزِّيَادَةِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] الْآيَةَ الْإِجْزَاءُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ، فَإِذَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِإِيجَابِ النِّيَّةِ وَالتَّرْتِيبِ، جَعَلَتْ بَعْضَ مَا كَانَ مُجْزِئًا غَيْرَ مُجْزِئٍ، فَصَارَ بِمَثَابَةِ تَقْيِيدِ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْكَفَّارَةِ بِالْأَيْمَانِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ إطْلَاقِهَا وَإِجْزَاءِ جَمِيعِ الرَّقَبَاتِ مُؤْمِنَةً وَكَافِرَةً. فَإِنْ قُلْت: لَهَا حُكْمٌ وَإِنْ كَانَ نُقْصَانًا. قِيلَ: إذَا أُورِدَ بِالنَّصِّ كَانَ تَخْصِيصَ عُمُومٍ، وَإِلَّا فَهُوَ نَسْخٌ. انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ لَا حَاصِلَ لَهَا، وَلَيْسَتْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ عِنْدَ الْكُلِّ أَنَّ مَا رَفَعَ حُكْمًا شَرْعِيًّا كَانَ نَسْخًا، لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِي مَقَامِ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ أَوْ بَيَانٌ، وَمَا لَا فَلَيْسَ

بِنَسْخٍ. فَالْقَائِلُ: أَنَا أَفْصِلُ بَيْنَ مَا رَفَعَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَمَا لَمْ يَرْفَعْ، كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ نَسْخًا فَهِيَ نَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا لَا حَاصِلَ لَهُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ، هَلْ يَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَيَكُونُ نَسْخًا، أَوْ لَا، فَلَا يَكُونُ؟ فَلَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تَنْسَخُ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرْفَعُ، لَوَقَعَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَسْخٍ، وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي أَنَّهَا: هَلْ هِيَ رَفْعٌ أَوْ لَا؟ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ فِيمَا لَوْ لَطَّخَ ثَوْبَ الْعَبْدِ بِالْمِدَادِ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَجْهَانِ، مَنْشَؤُهُمَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا هَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَغْرِيرًا؟ وَالْأَصَحُّ: لَا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْبَسُ ثَوْبَ غَيْرِهِ عَارِيَّةً، فَلَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تَعْزِيرٌ، لَوَقَعَ عَلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ، أَوْ عَلَى عَدَمِهِ لَوَقَعَ عَلَى عَدَمِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَجْعَلُوا مَذَاهِبَهُمْ مُغَايِرَةً لِلْمَذَاهِبِ السَّابِقَةِ، بَلْ عَرَضُوا الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَةِ النَّسْخِ لِيُعْتَبَرَ بِهِ، وَذَكَرَ السَّمَّانِيُّ فِي " الْكِفَايَةِ " أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: يَدُلُّ كَانَتْ نَسْخًا، وَإِلَّا فَلَا. وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ وَكَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، فَلَا يُنْسَخُ إلَّا بِقَاطِعٍ كَالتَّغْرِيبِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُ نَسْخًا نَفَاهُ، لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَسْخًا قَبِلُوهُ إذْ لَا مُعَارَضَةَ. وَقَدْ رَدُّوا بِذَلِكَ أَخْبَارًا صَحِيحَةً لَمَّا اقْتَضَتْ زِيَادَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ. فَرَدُّوا أَحَادِيثَ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَأَيْمَانِ الرَّقَبَةِ، وَاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ. وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا حَدِيثَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ نَاسِخًا لِآيَةِ الْوُضُوءِ، وَالْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِالتَّوَضُّؤِ بِالنَّبِيذِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، وَقَدْ رَجَعَ فِيهِ إلَى الْحَدِيثِ، وَخَالَفَ عَادَتَهُ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ، وَحَدِيثِ الْقُرْعَةِ

بَيْنَ الْعَبِيدِ لَمَّا خَالَفَ الْأُصُولَ وَالْقِيَاسَ. فَتَحَصَّلَ مِنْ مَذْهَبِهِ طَرْحُ حَدِيثٍ لَمْ يُخَالِفْهُ قِيَاسٌ، وَاسْتِعْمَالُ حَدِيثٍ جَاءَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ. وَإِنَّمَا قَصَرْنَا حَدِيثَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِالْأَمْوَالِ دُونَ غَيْرِهَا لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ مَعَنَا قَائِلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْكُهُ أَصْلًا كَالْحَنَفِيَّةِ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَإِذَا قَالَتْ الْأُمَّةُ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُ ثَالِثٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْحَاجَةِ، لِأَنَّهُ سَهْمٌ مِنْ الْخُمُسِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِالْحَاجَةِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ السِّهَامِ. فَقُلْت لَهُ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] وَلَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِالْقِيَاسِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: وَمَنْ زَادَ الْخَلْوَةَ عَلَى الْآيَتَيْنِ الْوَارِدَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ، وَتَكْمِيلِ الْمَهْرِ بِخَبَرِ عُمَرَ مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ، كَانَ حَاكِمًا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِرَأْيِهِ. وَنَقَضَ عَلَيْهِمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ أَيْضًا، فَإِنَّ زِيَادَةَ التَّغْرِيبِ إنْ كَانَتْ نَسْخًا لَزِمَكُمْ أَنْ يَكُونَ إدْخَالُ نَبِيذِ التَّمْرِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ نَسْخًا لِآيَتَيْ الْوُضُوءِ

وَالتَّيَمُّمِ، فَهُوَ مُسَاوٍ لِزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ وَإِنْظَارِهِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ انْفَصَلُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْمَاءِ لِقَوْلِهِ: «ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ» قِيلَ لَهُمْ: فَيَكُونُ حِينَئِذٍ رَافِعًا لِإِطْلَاقِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ مِنْ الْمِيَاهِ، وَتَقْيِيدُ مَدْلُولِ النَّصِّ الْمُطْلَقِ نَسْخٌ لِلنَّصِّ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: فَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَوَازُ الزِّيَادَةِ بِالْقِيَاسِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ بَعْدَمَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ. وَفَصَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ "، فَقَالَ: الْمَزِيدُ عَلَيْهِ إنْ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَازَ إثْبَاتُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ مِمَّا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ بِهِ. قَالَ: وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَقِدُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُقْبَلُ إذَا وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَعْتَبِرُ لِلْعَمَلِ بِهِ شَرَائِطَ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَلْتَفِتُ إلَى ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ أَطْلَقَ النَّصَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَمِرُّ إذَا سَمَّيْنَا الظَّوَاهِرَ نُصُوصًا، فَإِنْ قُلْنَا: الظَّاهِرُ لَا يُسَمَّى نَصًّا، فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مُسْتَدْرَكَةٌ، لِأَنَّ تَغْيِيرَ النُّصُوصِ الَّتِي لَا احْتِمَالَ فِيهَا نَسْخٌ لَا مَحَالَةَ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمَازِرِيُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ. فُرُوعٌ الْأَوَّلُ: لَوْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ الزَّكَاةَ فِي مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ، فَهَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِهَا فِي السَّائِمَةِ؟ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ نَفْيُ إيجَابِهَا فِي الْمَعْلُوفَةِ، فَلَوْ وَجَبَتْ فِيهَا لَكَانَتْ زِيَادَةً نَفَاهَا الْمَفْهُومُ، فَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْمَفْهُومِ لَا يَكُونُ نَسْخًا، لِأَنَّهُ

لَمْ يَرْفَعْ شَيْئًا مِنْ مَدْلُولِهِ، وَإِنَّمَا رَفَعَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ. وَمَنْ قَالَ بِهِ كَانَ نَسْخًا لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مُرَادٌ مِنْ الْكِتَابِ. الثَّانِي: لَوْ زِيدَتْ رَكْعَةٌ فِي الصُّبْحِ بِحَيْثُ صَارَتْ ثَلَاثًا، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: لَيْسَ بِنَسْخٍ لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الصُّبْحِ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ وَلَا بِإِجْزَائِهَا، لِأَنَّهُمَا يَجْزِيَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: نَسْخُ تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَالتَّحْرِيمُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالزِّيَادَةِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: هَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ. لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالرَّكْعَتَيْنِ مُقْتَضِيًا لِلنَّهْيِ عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يُمْكِنُ اسْتِفَادَتُهُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. فَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ. انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ كَلَامَنَا فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ هَلْ هِيَ نَسْخٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ، لَا فِي كَوْنِهَا نَسْخًا لِأَمْرٍ آخَرَ. وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": إنَّهُ نَسْخٌ، كَوُجُوبِ التَّشَهُّدِ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَوَافَقَهُ الْآمِدِيُّ لِلرَّدِّ بِهِ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ، وَنَازَعَهُ الْهِنْدِيُّ. الثَّالِثُ: زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ لَا يُزِيلُ نَفْيَ وُجُوبِ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ، وَهَذَا النَّفْيُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالشَّرْعِ، لِأَنَّ إيجَابَ الْمِائَةِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إيجَابِهَا مَعَ نَفْيِ الزَّائِدِ وَثُبُوتِهِ، وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ لَا إشْعَارَ لَهُ بِمَا بِهِ الِامْتِيَازُ، لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ، وَرَفْعُ الثَّابِتِ بِالْعَقْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: هُوَ نَسْخٌ، فَقَالَ: زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ نَسْخٌ لِتَحْرِيمِهِ، إذْ كَانَ يَحْرُمُ التَّغْرِيبُ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَيْسَ كَلَامَنَا، إلَّا فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ نَسْخٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْجَلْدُ لَا غَيْرُهُ.

الرَّابِعُ: إذَا أَوْجَبَ اللَّهُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عَيْنًا، ثُمَّ خَيَّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، أَوْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، ثُمَّ زَادَ ثَالِثًا وَهُوَ الْعِتْقُ، فَهَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ؟ قَالَ الْإِمَامُ، وَالْآمِدِيَّ: لَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْكُلِّ وَاجِبًا عَلَى التَّعْيِينِ وُجُوبُهُ، وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَوُجُوبُهُ لَمْ يَرْتَفِعْ، وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ عَدَمُ قِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ، وَإِنَّمَا يُنْتَقَضُ النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ، فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إنَّهُ نَسْخٌ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَالتَّعْيِينَ حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ، وَقَدْ رُفِعَ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي وَهُوَ الصَّوَابُ. الْخَامِسُ: إذَا زِيدَ فِي الطَّهَارَةِ اشْتِرَاطُ غَسْلِ عُضْوٍ زَائِدٍ عَلَى الْأَعْضَاءِ السِّتَّةِ، فَلَا يَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِ غَسْلِهَا، إذْ هِيَ وَاجِبَةٌ مَعَ وُجُوبِ غَسْلِ الْعُضْوِ الزَّائِدِ، وَلَا لِإِجْزَائِهَا. السَّادِسُ: قَبِلَ أَصْحَابُنَا خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَرَدَّهُ الْحَنَفِيَّةُ، لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] قَالُوا: فَإِنَّ الْأَمْرَ كَانَ دَائِرًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَزِيدَ ثَالِثٌ، وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْكِتَابَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ وَالْآيَةَ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ فِي الِاسْتِشْهَادِ، وَالْحَدِيثَ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَالِاسْتِشْهَادُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَهُوَ حَسَنٌ. لَا يُقَالُ: مَفْهُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ، وَيَمْنَعُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ، لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يَمْتَنِعُ اسْتِشْهَادُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِذَلِكَ، إذْ يَمْتَنِعُ الْإِرْشَادُ فِي الِاسْتِشْهَادِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِهِ.

مسألة النقصان من العبادة هل هو نسخ لها

السَّابِعُ: تَقْيِيدُ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْأَيْمَانِ. [مَسْأَلَةٌ النُّقْصَانُ مِنْ الْعِبَادَةِ هَلْ هُوَ نَسْخٌ لَهَا] لَا خِلَافَ أَنَّ النُّقْصَانَ مِنْ الْعِبَادَةِ نَسْخٌ لِمَا أُسْقِطَ مِنْهَا، لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا فِي جُمْلَةِ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ أُزِيلَ وُجُوبُهُ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَسْخِ الْبَاقِي فَيَنْظُرُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَيْهِ كَسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهَا، فَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ لِلْعِبَادَةِ، نَقَلَهُ الْآمِدِيُّ، وَالرَّازِيَّ. لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ فِي كَلَامِهِ مَا يُشْعِرُ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَبِهِ صَرَّحَ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ ". وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّتُهَا مِنْ شَرْطٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ، أَصَحِّهَا أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ لِلْعِبَادَةِ، وَيَكُونُ بِمَثَابَةِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ، وَالْآمِدِيَّ، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: إنَّهُ الْحَقُّ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ الْكَرْخِيِّ. وَقِيلَ: نَسْخٌ لَهَا. وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَفَصَلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمُنْفَصِلِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا لَهَا، فَنَسْخُ الْوُضُوءِ لَا يَنْسَخُ الصَّلَاةَ، وَبَيْنَ الْجُزْءِ كَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ نَسْخًا لَهَا، وَوَافَقَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْجُزْءِ، وَتَرَدَّدَ فِي الشَّرْطِ، وَصَحَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ، لِأَنَّ الشَّرْطَ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الْمَشْرُوطِ بِخِلَافِ الْجُزْءِ. أَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُنْفَصِلَتَانِ، وَقِيلَ بِهِ مُطْلَقًا لِزَوَالِ إجْزَائِهَا

دعوى ابن الحاج أن النسخ يرد على الحكم لا على العبادة

بِدُونِهِ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ مِمَّا لَا تُجْزِئُ الْعِبَادَةُ قَبْلَ النَّسْخِ إلَّا بِهِ فَيُنْسَخُ، سَوَاءٌ الْجَزَاءُ وَالشَّرْطُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تُجْزِئُ الْعِبَادَةُ قَبْلَ النَّسْخِ مَعَ عَدَمِهِ كَالْوُقُوفِ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَسَتْرِ الرَّأْسِ، فَلَيْسَ بِنَسْخٍ حَكَاهُ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ ". وَقَالَ إلْكِيَا: الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ هُنَا نَحْوُ مَا سَبَقَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ الْخِلَافَ فِي الشَّرْطِ الْمُتَّصِلِ نَحْوِ الِاسْتِقْبَالِ، فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ كَالْوُضُوءِ، قَالَ: فَإِيرَادُ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْخِلَافِ فِي الْكُلِّ. قُلْت: وَبِالْأَوَّلِ صَرَّحَ صَاحِبُ " الْمُسَوَّدَةِ "، فَقَالَ: الْخِلَافُ فِي الْمُتَّصِلِ كَالتَّوَجُّهِ، فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ كَالْوُضُوءِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا لَهَا إجْمَاعًا، لَكِنَّ ابْنَ السَّمْعَانِيِّ طَرَدَ الْخِلَافَ فِي الْكُلِّ، فَقَالَ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا لَوْ قَدَّرْنَا نَسْخَ الْوُضُوءِ أَوْ نَسْخَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَفِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ يَكُونُ الْكَلَامُ ظَاهِرًا فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلصَّلَاةِ. قَالَ: فَأَمَّا فِي إسْقَاطِ الْجُزْءِ كَالرُّكُوعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إذَا زِيدَتْ رَكْعَةٌ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَجِيءُ هُنَا مَذْهَبُ عَبْدِ الْجَبَّارِ مِنْ التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ [يَكُونَ النَّسْخُ] لِغَيْرِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ أَوْ لَا. [دَعْوَى ابْنِ الْحَاجِّ أَنَّ النَّسْخَ يَرِدُ عَلَى الْحُكْمِ لَا عَلَى الْعِبَادَةِ] تَنْبِيهٌ [دَعْوَى ابْنِ الْحَاجِّ أَنَّ النَّسْخَ يَرِدُ عَلَى الْحُكْمِ لَا عَلَى الْعِبَادَةِ] نَازَعَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي " نُكَتِ الْمُسْتَصْفَى " [فِي] تَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ بِنَسْخِ بَعْضِ الْعِبَادَةِ، وَقَالَ إنَّمَا نَشَأَ هَذَا مِنْ ظَنِّهِمْ كَوْنَ الْعِبَادَةِ تُنْسَخُ، وَهُوَ فَاسِدٌ

لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْخِطَابِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَصْلِ الْعِبَادَةِ لَا عَلَى الْعِبَادَةِ، كَالْخِطَابِ الْوَارِدِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ تُجْزِئُ، ثُمَّ يَرِدُ خِطَابٌ آخَرُ بِأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، بَلْ يُجْزِئُ بَدَلًا مِنْهَا رَكْعَتَانِ، فَأَمَّا الْعِبَادَةُ فَهِيَ الْمَحِلُّ الْقَابِلُ. قَالَ: فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إذَا رَفَعَ الْخِطَابُ الْإِجْزَاءَ عَنْ عِبَادَةِ لَهَا أَجْزَاءٌ، وَلَا يُوجِبُهُ لِبَعْضِهَا، مِنْ حَيْثُ هُوَ بَعْضٌ لَهَا، بَلْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ لِمَا هُوَ مُسَاوٍ لِبَعْضِهَا، فَقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَرْفَعْ حُكْمَهَا رَأْسًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ النَّسْخَ وَارِدٌ عَلَى الْحُكْمِ، لَا عَلَى الْعِبَادَةِ، فَيَنْدَفِعُ هَذَا الْخَيَالُ.

فصل في دلائل النسخ

[فَصْلٌ فِي دَلَائِلِ النَّسْخِ] ِ إذَا وَرَدَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَلَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُمَا اُسْتُدِلَّ عَلَى نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: اقْتِضَاءُ اللَّفْظِ لَهُ، بِأَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَيَكُونُ الْمُتَقَدِّمُ مَنْسُوخًا، وَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْمُرَادُ بِالتَّقَدُّمِ التَّقَدُّمُ فِي التَّنْزِيلِ، لَا التِّلَاوَةِ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَابِقَةٌ فِي التِّلَاوَةِ عَلَى الْعِدَّةِ بِالْحَوْلِ، مَعَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا، وَاقْتِضَاءُ اللَّفْظِ إمَّا بِالتَّصْرِيحِ كَقَوْلِهِ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَهُ لِثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ بِقَوْلِهِ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ الْفِطْرِ، وَقَوْلُهُ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] الْآيَةَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ يَتَضَمَّنُ التَّنْبِيهَ عَلَى النَّسْخِ، كَمَا نَسَخَ الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ حَدَّ الزِّنَى بِقَوْلِهِ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] فَنَبَّهَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِدَامَةِ فِي الْإِمْسَاكِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» ، وَإِمَّا بِالِاسْتِدْلَالِ بِأَنْ تَكُونَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ مَكِّيَّةً، وَالْأُخْرَى مَدَنِيَّةً فَعُلِمَ أَنَّ الْمُنْزَلَ بِالْمَدِينَةِ نَاسِخٌ لِلْمُنْزَلِ بِمَكَّةَ. قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُ. الثَّانِي: بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: هَذَا نَاسِخٌ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، كَقَوْلِهِ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» . الثَّالِثُ: فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرَجْمِ مَاعِزٍ، وَلَمْ يَجْلِدْهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمُهُ بِالْحِجَارَةِ» مَنْسُوخٌ، ذَكَرَهُ

ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ قَالُوا: إنَّ الْفِعْلَ لَا يَنْسَخُ الْقَوْلَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِالْفِعْلِ عَلَى تَقَدُّمِ النَّسْخِ بِالْقَوْلِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ مَنْسُوخًا بِمِثْلِهِ مِنْ الْقَوْلِ، لَكِنَّ فِعْلَهُ بَيَّنَ ذَلِكَ الْقَوْلَ. الرَّابِعُ: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، كَنَسْخِ رَمَضَانَ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَنَسْخِ الزَّكَاةِ سَائِرَ الْحُقُوقِ فِي الْمَالِ، ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَيْضًا، وَكَذَا حَدِيثُ: «مَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ، فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ» وَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى تَرْكِ اسْتِعْمَالِهِمْ هَذَا، فَدَلَّ عُدُولُهُمْ عَنْهُ عَلَى نَسْخِهِ. انْتَهَى. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، فِيمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، فَقَالَ: وَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إلَّا بِخَبَرٍ - عَنْ الرَّسُولِ - آخَرَ مُؤَقَّتٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، أَوْ بِقَوْلِ مَنْ سَمِعَ الْحَدِيثَ أَوْ الْعَامَّةِ. انْتَهَى. وَجَرَى عَلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي " النَّاسِخِ " مِنْ كِتَابِهِ، وَالشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي "، وَقَالَ: يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُبَيِّنًا لَا نَاسِخًا. وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي: يُسْتَدَلُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَعَهُ خَبَرًا بِهِ وَقَعَ النَّسْخُ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ. وَلَمْ يَجْعَلْ الصَّيْرَفِيُّ

الْإِجْمَاعَ دَلِيلًا عَلَى تَعْيِينِ النَّصِّ لِلنَّسْخِ، بَلْ جَعَلَهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ النَّسْخِ وَالْغَلَطِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: فَإِنْ أُجْمِعَ عَلَى إبْطَالِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ غَلَطٌ، وَالْأَمْرُ ثَابِتٌ. انْتَهَى. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْ غَلَطٌ، أَيْ مِنْ جِهَةِ بَعْضِ رُوَاتِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: إذَا رُوِيَ حَدِيثٌ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَنْسُوخٌ أَوْ غَلَطٌ مِنْ الرَّاوِي. هَذَا لَفْظُهُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بَعْدَ الرَّسُولِ، وَبَعْدَهُ يَرْتَفِعُ النَّسْخُ، وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُرْفَعُ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا يُنَزَّلُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ. الْخَامِسُ: نَقْلُ الرَّاوِي الصَّحَابِيِّ تَقَدُّمَ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَتَأَخُّرَ الْآخَرِ، إذْ لَا مَدْخَلَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، كَمَا لَوْ رُوِيَ أَنَّ أَحَدَهُمَا شُرِعَ بِمَكَّةَ، وَالْآخَرَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ أَحَدَهُمَا عَامَ بَدْرٍ وَالْآخَرَ عَامَ الْفَتْحِ، فَإِنْ وُجِدَ مِثَالُ هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ، كَقَوْلِ جَابِرٍ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» ، وَكَقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: كَانَ «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْغُسْلِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ إنْ كَانَ الْخَبَرَانِ غَيْرَ مُتَوَاتِرَيْنِ، أَمَّا إذَا قَالَ فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ: إنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْآخَرِ، فَفِي قَوْلِهِ خِلَافٌ، وَجَزَمَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " بِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ الْمَظْنُونُ فِي نَسْخِ الْعُلُومِ، إذْ الشَّيْءُ يُقْبَلُ بِطَرِيقِ الضِّمْنِ وَالتَّبَعِ، وَلَا يُقْبَلُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ ثُبُوتَ النَّسَبِ وَإِنْ كُنَّ لَوْ شَهِدْنَ بِالنَّسَبِ ابْتِدَاءً لَمْ يُقْبَلْ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هَذَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ فِي قَبُولِهِ لَا فِي وُقُوعِهِ، مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ ثُبُوتُ الْآخَرِ، وَالْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ لَا نِزَاعَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": لَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ النَّسْخِ

بِالْمُتَأَخِّرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ [الرَّاوِي] لِلْحَدِيثَيْنِ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْمَعُهُمَا الِاثْنَانِ فِي وَقْتَيْنِ وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ، وَشَرَطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ كَوْنَ الرَّاوِي لَهُمَا وَاحِدًا، قَالَ: فَإِنْ كَانَ رَاوِي الْمُتَقَدِّمِ غَيْرَ رَاوِي الْمُتَأَخِّرِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ خَبَرَ وَاحِدٍ كَانَ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرِ، لَمْ يَصِرْ مَنْسُوخًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُتَأَخِّرِ، وَإِنْ كَانَا مُتَوَاتِرَيْنِ أَوْ آحَادًا، فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ. هَذَا كُلُّهُ إنْ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا مُتَأَخِّرٌ، فَإِنْ قَالَ: هَذَا نَاسِخٌ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرَ دَلِيلَهُ فَوَاضِحٌ. قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسْخُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَوْ ذَكَرَ دَلِيلَهُ، لَكِنْ يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ اقْتَضَى النَّسْخَ عُمِلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ أَرْسَلَهُ إرْسَالًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي النَّسْخِ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ. قُلْت: وَاَلَّذِي فِي " الْمُعْتَمَدِ " أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ إنْ عَيَّنَهُ، فَقَالَ: هَذَا نَسْخٌ لِهَذَا، لَمْ يُرْجَعْ إلَيْهِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَالَهُ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ بَلْ قَالَ: هَذَا مَنْسُوخٌ قَبْلُ. وَحَكَى الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ " هَذَا التَّفْصِيلَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي النَّسْخِ مَا لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَعْتَقِدَ مَا لَيْسَ بِنَسْخٍ نَسْخًا، وَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي أَسْبَابِ النَّسْخِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ، وَكَاعْتِقَادِ آخَرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ» مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ مَنْ

قَالَ: إنَّ مَسْحَ الْخُفِّ نَسْخٌ بِالْكِتَابِ. وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَعَلَّلَهُ بِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا صَحَّحَهُ فِي " اللُّمَعِ "، وَسُلَيْمٌ، وَصَرَّحَ ابْنُ بَرْهَانٍ بِأَنَّهُ الْمَذْهَبُ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ " الْأَوْسَطِ ": إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ هَذَا مَنْسُوخٌ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ مَذَاهِبَ النَّاسِ فِي النَّسْخِ مُخْتَلِفَةٌ، فَرُبَّ شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ نَاسِخًا، وَلَيْسَ بِنَاسِخِ، وَلِأَنَّ النَّسْخَ إسْقَاطٌ لِلْحَدِيثِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَجَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى، وَإِلْكِيَا فِي " التَّلْوِيحِ " وَعَلَّلَهُ بِمَا سَبَقَ، ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: إنْ كَذَا كَانَ حُكْمًا ثَابِتًا مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّهُ نُسِخَ الْآنَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بِهِ نُسِخَ، فَإِنَّ الْكَرْخِيّ كَانَ يُتَابِعُهُ، كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ ذُكِرَ لَهُ فِي التَّشَهُّدِ: التَّحِيَّاتُ الزَّاكِيَاتُ. قَالَ: كَانَ هَذَا ثُمَّ نُسِخَ. وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّضَاعِ أَنَّهُمَا قَالَا: قَدْ كَانَ التَّوْقِيتُ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا. قَالَ: وَاَلَّذِي رَآهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ بِأَنَّهُ نَاسِخًا لِلْأَيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ نَاسِخًا لَهَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ اعْتَقَدَهُ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ إطْلَاقًا، وَلَا يَذْكُرُ مَا لِأَجْلِهِ النَّسْخُ، وَلَوْ ذَكَرَهُ لَكَانَ مِمَّا لَا يُنْسَخُ بِهِ. قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لِأَمْرٍ لَا يَلْتَبِسُ، وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِ. قَالَ: وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّاوِي مَضْمُونَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ انْتَهَى. وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ. وَفَصَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نَصٌّ آخَرُ يُخَالِفُ

مَا ادَّعَى نَسْخَهُ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ النَّصُّ النَّاسِخُ، وَيَكُونُ حَاصِلُ الصَّحَابِيِّ الْإِعْلَامُ بِالْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ، وَقَوْلُهُ يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ أَوْمَأَ إلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، لَمْ يَصِرْ إلَى قَوْلِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ النَّاسِخَ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: هَذَا مَنْسُوخٌ، فَقِيلَ: يُقْبَلُ مُطْلَقًا وَقِيلَ بِالْمَنْعِ. وَقِيلَ: إنْ أَطْلَقَ قُبِلَ. وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى نَاسِخٍ زَعَمَ أَنَّهُ الَّذِي نَسَخَهُ، نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ النَّسْخَ حُكِمَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: وَلَسْت أَحْفَظُ فِي هَذَا عَنْ أَصْحَابِنَا شَيْئًا، وَلَكِنْ عِنْدِي إنْ كَانَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ وَصِفَتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُخَرَّجَ فِيهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي صِفَةِ النَّسْخِ وَشُرُوطِهِ وَجَبَ قَبُولُهُ. انْتَهَى. وَأَطْلَقَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ النَّسْخَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَكَذَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي مَسْأَلَةِ قَوْلِ الرَّاوِي: أُمِرْنَا، وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ، وَمِنْهُمْ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ السَّابِقِ ذَكَرَهُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ عَائِشَةَ فِي الرَّضَعَاتِ إنَّ الْعَشْرَ مِنْهَا نُسِخْنَ بِالْخَمْسِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} [الأحزاب: 50] لِأَجْلِ قَوْلِ عَائِشَةَ: «مَا مَاتَ الرَّسُولُ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ النِّسَاءَ اللَّاتِي حُظِرْنَ عَلَيْهِ» . لَكِنْ أَجَابَ الْقَاضِي عَنْ هَذَا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْسَخُوا بِقَوْلِ عَائِشَةَ، بَلْ بِحُجَّتِهَا فِي النَّسْخِ، فَلِأَجَلْ الْآيَةِ وَالتَّأَوُّلِ لَهَا قَالُوا وَقَالَتْ ذَلِكَ.

وَوَرَاءَ ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَسَخْتُ عَنْكُمْ كَذَا. قَالَ الْقَاضِي: وَيَجِبُ قَبُولُهُ إذَا كَانَ الْمَنْسُوخُ مِنْ غَيْرِ الْآحَادِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ، لَمْ يَرْفَعْ مِثْلَ هَذَا، إلَّا أَنْ يَنْضَمَّ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ. الثَّانِي: هَذَا كُلُّهُ إذَا صَرَّحَ بِالنَّسْخِ قِيَاسًا، وَأَمَّا إذَا قَالَ قَوْلًا يُخَالِفُ الْحَدِيثَ، فَلَا يَقْتَضِي نَسْخَ النَّصِّ سَوَاءٌ انْتَشَرَ أَمْ لَا. قَالَهُ الْقَاضِي أَيْضًا. قَالَ: وَمَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ حُجَّةً إذَا انْتَشَرَ، وَلَمْ يُحْفَظْ لَهُ مُخَالِفٌ تُرِكَ بِهِ حُكْمُ النَّصِّ، وَتَبَيَّنَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ. الثَّالِثُ: إذَا كَانَ رَاوِي أَحَدِهِمَا مُتَقَدِّمَ الصُّحْبَةِ، وَالْآخَرُ مُتَأَخِّرًا، فَقَسَمَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَنْقَطِعَ صُحْبَةُ الْأَوَّلِ عِنْدَ صُحْبَةِ الثَّانِي، فَيَكُونُ الْحُكْمُ الَّذِي رَوَاهُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلَّذِي رَوَاهُ الْأَوَّلُ كَرِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَنْقَطِعَ صُحْبَةُ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ صُحْبَةِ الْمُتَأَخِّرِ، فَلَا تَكُونُ رِوَايَةُ الْمُتَأَخِّرِ الصُّحْبَةِ نَاسِخَةً لِرِوَايَةِ الْمُتَقَدِّمِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ رَاوِيًا لِمَا تَأَخَّرَ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَاوِيًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِثْبَاتُ النَّسْخِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ مُمْتَنِعٌ، كَرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّشَهُّدِ، فَلَا تَكُونُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ نَاسِخَةً لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنْ يَطْلُبُ التَّرْجِيحَ مِنْ خَارِجٍ. اهـ. وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ ذَكَرَهُ إلْكِيَا، وَصَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " وَمَثَّلَا بِهِ، وَجَزَمَا

بِهِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ خَالَفَهُمْ. قَالَ فِي " الْمَصَادِرِ ": وَشَرَطَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي صَحِبَهُ آخِرًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا قَبْلَ صُحْبَتِهِ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرَاهُ أَوَّلًا وَيَسْمَعَ مِنْهُ، وَهُوَ مُصَاحِبٌ لَهُ، ثُمَّ رَآهُ ثَانِيًا وَيَخْتَصُّ بِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَجَزَمَ بِعَدَمِ النَّسْخِ، وَكَذَا الْهِنْدِيُّ، قَالَ: وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ بِكَوْنِ رَاوِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مِنْ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ، أَوْ يَكُونُ إسْلَامُهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ إسْلَامِ رَاوِي الْآخَرِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". وَأَطْلَقَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَابْنُ بَرْهَانٍ أَنَّ رِوَايَةَ الْمُتَأَخِّرِ صُحْبَةً نَاسِخَةٌ لِرِوَايَةِ الْمُتَقَدِّمِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي لِأَحَدِهِمَا أَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِ الْآخَرِ، أَوْ بَعْدَ قِصَّتِهِ، وَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلشَّيْخِ فِي " اللُّمَعِ "، وَجَزَمَ سُلَيْمٌ فِي صُورَةِ الْمَوْتِ بِأَنَّ رِوَايَةَ الْمُتَأَخِّرِ نَاسِخَةٌ. الْخَامِسُ: مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ لِلْوَاقِعَتَيْنِ، كَحَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» . قَالَ الشَّاشِيُّ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إنَّمَا صَحِبَهُ مُحْرِمًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ شَدَّادٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِ الْفَتْحِ، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَمَانٍ. السَّادِسُ: كَوْنُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ شَرْعِيًّا، وَالْآخَرِ مُوَافِقًا لِلْعَادَةِ، فَيَكُونُ

مسألة إذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ بوجه من الوجوه

الشَّرْعِيُّ نَاسِخًا لِلْمُعْتَادِ، كَخَبَرِ مَسِّ الْفَرْجِ. ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ، وَمَنَعَهُ الْقَاضِي، وَالْغَزَالِيُّ. لِأَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِتَقْرِيرِ الْوَصْفِ، ثُمَّ يَرِدُ نَسْخُهُ، وَرَدُّهُ إلَى مَا كَانَ فِي الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْمُوَافِقَ لِلْعَقْلِ لَمْ يَرِدْ بَعْدَ نَقْلِ حُكْمِهِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي ": دَلَائِلُ النَّسْخِ يُقَدَّمُ أَحَدُهَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ جُهِلَ عُدِلَ إلَى الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ الرَّسُولِ، فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ عُمِلَ بِهِ، وَكَانَتْ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةً لَا نَاسِخَةً، فَإِنْ عُدِمَ عُدِلَ إلَى الثَّالِثِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، فَإِنْ فُقِدَ عُدِلَ إلَى الرَّابِعِ، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْتَعْمَلًا وَالْآخَرُ مَتْرُوكًا، كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ نَاسِخًا، وَالْمَتْرُوكُ مَنْسُوخًا، فَإِنْ فُقِدَ عُدِلَ إلَى الْخَامِسِ، وَهُوَ التَّرْجِيحُ بِشَوَاهِدِ الْأُصُولِ وَالْأَدِلَّةِ وَكَانَ غَايَةُ الْعَمَلِ بِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الرَّابِعِ يُنَازِعُهُ قَوْلُ الصَّيْرَفِيِّ: إذَا وُجِدَ حُكْمَانِ مُتَمَاثِلَانِ، وَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّ السَّابِقَ مِنْهُمَا نُسِخَ بِالْآخَرِ، وَذَلِكَ كَصَوْمِ عَاشُورَاءَ مَعَ صَوْمِ رَمَضَانَ، جَاءَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ فَرْضُ رَمَضَانَ نُسِخَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَنَقُولُ: اتَّفَقَ نَسْخُهُ عِنْدَ ثُبُوتِ فَرْضِ رَمَضَانَ، لَا أَنَّهُ نَسَخَهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لَهُ، وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ أَيْضًا. [مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يُعْلَمْ النَّاسِخُ مِنْ الْمَنْسُوخِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ] ِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: فَالْوَجْهُ التَّوَقُّفُ إلَى التَّبَيُّنِ بِهِ، وَلَا يُتَخَيَّرُ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: إنْ عُلِمَ اقْتِرَانُهُمَا مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَعِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُقُوعِ، وَإِنْ جَوَّزَهُ قَوْمٌ، وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ، فَالْوَاجِبُ إمَّا الْوُقُوفُ عَنْ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا أَوْ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا إنْ أَمْكَنَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَهُمْ يَشْمَلُ مَا إذَا عُلِمَ اقْتِرَانُهُمَا وَذَلِكَ لَا يَقَعُ، وَمَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ الْحَالُ، أَوْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُتَأَخِّرٌ، وَلَكِنْ لَمْ تُعْرَفْ عَيْنُهُ، وَمَا إذَا عُلِمَ الْمُتَأَخِّرُ، ثُمَّ نُسِيَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ فِي الْجُمُعَتَيْنِ، وَالنِّكَاحِ، وَعَقْدِ الْأَمَانِ لِاثْنَيْنِ، وَمَوْتِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَقَارِبِ بِهَدْمٍ أَوْ غَرَقٍ. فَأَمَّا إذَا عُلِمَ عَيْنُ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ ثُمَّ نُسِيَ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْيِيرِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ الْوَقْفُ.

خاتمة أمور لا يثبت بها النسخ

[خَاتِمَةٌ أُمُورٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا النَّسْخُ] ُ لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ بِالتَّرْتِيبِ فِي الْمُصْحَفِ وَقَدْ سَبَقَ، وَلَا بِكَوْنِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ أَخَفَّ مِنْ الْآخَرِ خِلَافًا لِلْقَائِلَيْنِ بِأَنَّهُ لَا يُنْسَخُ الشَّيْءُ إلَّا بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّةِ النَّسْخِ، وَأَنَّ الْأَخَفَّ هُوَ النَّاسِخُ وَالْأَغْلَظَ هُوَ الْمَنْسُوخُ، حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَلَا بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا يُوَافِقُ الْحَظْرَ وَالْآخَرِ الْإِبَاحَةَ، خِلَافًا لِلْقَائِلَيْنِ بِأَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ النَّاسِخَ مَا يَقْتَضِي الْحَظْرَ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ يُعَيِّنُ الْعَوْدَ إلَى الْإِبَاحَةِ ثَانِيًا، فَجُعِلَتْ الْآيَةُ الْمُبِيحَةُ تَأْكِيدًا لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الْإِبَاحَةِ، وَالْآيَةُ الَّتِي فِيهَا الْحَظْرُ نَاقِلَةً عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِبَاحَةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ آيَةَ الْإِبَاحَةِ نَاسِخَةً، وَيَجْعَلُ الَّتِي فِيهَا الْحَظْرُ مُؤَكِّدَةً لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَظْرِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا خِلَافُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلَيْسَتْ الْأَشْيَاءُ عِنْدَهُ عَلَى الْحَظْرِ وَلَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، بَلْ هِيَ عَلَى مَا شَرَعَ اللَّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى النَّسْخِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مباحث السنة

[مَبَاحِثُ السُّنَّةِ] [الْكِتَابُ الثَّانِي] مَبَاحِثُ السُّنَّةِ [تَعْرِيفُ السُّنَّةِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا] . السُّنَّةُ لُغَةً: الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ، وَأَصْلُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: سَنَنْت الشَّيْءَ بِالْمِسَنِّ إذَا أَمْرَرْته عَلَيْهِ، حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهِ سُنَنًا أَيْ طَرَائِقَ. وَقَالَ إلْكِيَا: مَعْنَاهَا الدَّوَامُ. فَقَوْلُنَا: سُنَّةٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِإِدَامَتِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَنَنْت الْمَاءَ إذَا وَالَيْت فِي صَبِّهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُهَا الطَّرِيقَةُ الْمَحْمُودَةُ، فَإِذَا أُطْلِقَتْ انْصَرَفَتْ إلَيْهَا، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ مُقَيَّدَةً، كَقَوْلِهِمْ: مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، وَتُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ فِي عُرْفِ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ، وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّمَا يُطْلِقُونَهَا عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَطْلَقَهَا بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ هُنَا عَلَى الْوَاجِبِ، وَالْمَنْدُوبِ، وَالْمُبَاحِ، وَتُطْلَقُ فِي مُقَابَلَةِ الْبِدْعَةِ، كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ: وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: سُنَّةُ

مسألة السنة المستقلة بتشريع الأحكام

أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: فَرْضُ اللَّهِ وَسُنَّتُهُ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ. وَقَالَ الدَّبُوسِيُّ: ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّنَّةَ الْمُطْلَقَةَ عِنْدَ صَاحِبِنَا تَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى اتِّبَاعَ الصَّحَابِيِّ إلَّا بِحُجَّةٍ، كَمَا لَا يُتَّبَعُ مَنْ بَعْدَهُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ اسْتِعْمَالُ السَّلَفِ إطْلَاقَ السُّنَّةِ عَلَى طَرَائِقِ الْعُمَرَيْنِ وَالصَّحَابَةِ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَتُطْلَقُ عَلَى مَا تَرَجَّحَ جَانِبُ وُجُودِهِ عَلَى جَانِبِ عَدَمِهِ تَرْجِيحًا لَيْسَ مَعَهُ الْمَنْعُ مِنْ النَّقِيضِ، وَتُطْلَقُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا: عَلَى مَا صَدَرَ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْأَقْوَالِ، وَالْأَفْعَالِ وَالتَّقْرِيرِ، وَالْهَمِّ، وَهَذَا الْأَخِيرُ لَمْ يَذْكُرْهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ. [مَسْأَلَةٌ السُّنَّةُ الْمُسْتَقِلَّةُ بِتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ] ِ وَلِهَذَا لَمْ يُفْرِدْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ السُّنَّةَ عَنْ الْكِتَابِ. وَقَالَ: كُلُّ مَا يَقُولُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعْنًى، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ مُنَزَّلَةٌ كَالْقُرْآنِ مُحْتَجًّا

بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] فَذَكَرَ السُّنَّةَ بِلَفْظِ التِّلَاوَةِ كَالْقُرْآنِ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ آتَاهُ مَعَ الْكِتَابِ غَيْرَ الْكِتَابِ، وَهُوَ مَا سَنَّهُ عَلَى لِسَانِهِ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا إنِّي قَدْ أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ قَالَ: «دَخَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمَّا حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ» . قَالَ الْحَافِظُ الدَّارِمِيُّ: يَقُولُ: «أُوتِيتُ الْقُرْآنَ، وَأُوتِيتُ مِثْلَهُ» مِنْ السُّنَنِ الَّتِي لَمْ يَنْطِقْ بِهَا الْقُرْآنُ بِنَصِّهِ، وَمَا هِيَ إلَّا مُفَسِّرَةٌ لِإِرَادَةِ اللَّهِ بِهِ، كَتَحْرِيمِ لَحْمِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَلَيْسَا بِمَنْصُوصَيْنِ فِي الْكِتَابِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ مِنْ طَرِيقِ ثَوْبَانَ فِي الْأَمْرِ بِعَرْضِ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": مَا رَوَاهُ أَحَدٌ ثَبَتَ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ، وَقَدْ حَكَمَ إمَامُ الْحَدِيثِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ.

مسألة السنن عند الشافعي ثلاثة أقسام

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ ": قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: الزَّنَادِقَةُ وَالْخَوَارِجُ وَضَعُوا حَدِيثَ: «مَا أَتَاكُمْ عَنِيفًا عَرِّضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْته، وَإِنْ خَالَفَ فَلَمْ أَقُلْهُ» . قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَقَدْ عَارَضَهُ قَوْمٌ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَعْرِضُهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَوَجَدْنَاهُ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِيهِ: لَا يُقْبَلُ مِنْ الْحَدِيثِ إلَّا مَا وَافَقَ الْكِتَابَ، بَلْ وَجَدْنَا فِيهِ الْأَمْرَ بِطَاعَتِهِ، وَتَحْذِيرَ الْمُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ حَكَمَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ يُقَالُ فِيهَا: آيٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي بَابِ فَرْضِ طَاعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لَوْلَا بَيَانُ الرَّسُولِ مَا كُنَّا نَعْرِفُ كَيْفَ نَأْتِيهَا، وَلَا كَانَ يُمْكِنُنَا أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ مِنْ الشَّرِيعَةِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ كَانَتْ طَاعَتُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ طَاعَةً لِلَّهِ. [مَسْأَلَةٌ السُّنَنُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ] ٍ] قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ نَصَّ كِتَابٍ، فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ نَصِّ الْكِتَابِ. وَالثَّانِي: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ جُمْلَةَ كِتَابٍ، فَبَيَّنَ عَنْ اللَّهِ مَا أَرَادَ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِمَا. وَالثَّالِثُ: مَا سَنَّ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ [لَهُ بِمَا] فَرَضَ مِنْ طَاعَتِهِ، وَسَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ تَوْفِيقِهِ لِرِضَاهُ، أَنْ يَسُنَّ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ إلَّا وَلَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ جَاءَتْهُ رِسَالَةُ اللَّهِ فَأَثْبَتَ سُنَّتَهُ بِفَرْضِ اللَّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أُلْقِيَ فِي رُوعِهِ كَمَا سَنَّ. انْتَهَى. وَبِالْقَوْلِ الثَّانِي جَزَمَ أَبُو الْحَكَمِ بْنُ بُرْجَانَ، وَبَنَى عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى " بِالْإِرْشَادِ "، وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ مُفَصَّلًا، وَقَالَ: كُلُّ حَدِيثٍ فَفِي الْقُرْآنِ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ تَعْرِيضًا أَوْ تَصْرِيحًا، وَمَا قَالَ مُنْشِئٌ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِيهِ أَصْلُهُ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ، وَعَمِهَ عَنْهُ مَنْ عَمِهَ. قَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] أَلَا يُسْمَعَ إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» . وَقَضَى بِالرَّجْمِ، وَلَيْسَ هُوَ نَصًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَكِنْ تَعْرِيضٌ مُجْمَلٌ فِي قَوْلِهِ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8]

وَأَمَّا تَعْيِينُ الرَّجْمِ مِنْ عُمُومِ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَتَفْسِيرُ هَذَا الْمُجْمَلِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ بِحُكْمِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، وَبِأَمْرِهِ بِهِ، وَمَوْجُودٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وَقَوْلُهُ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وَهَكَذَا جَمِيعُ قَضَائِهِ وَحُكْمِهِ. وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الطَّالِبُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِ وَبَذْلِ وُسْعِهِ، وَيَبْلُغُ مِنْهُ الرَّاغِبُ فِيهِ حَيْثُ بَلَّغَهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ لِأَنَّهُ وَاهِبُ النِّعَمِ. قَالَ: وَقَدْ نَبَّهَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا الْمَطْلَبِ بِمَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ خِطَابِهِ. مِنْهَا قَوْلُهُ عَنْ الْجَنَّةِ: «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَهُوَ يَعْمَلُ لَهَا، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَهُوَ يَعْمَلُ لَهَا» ، ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ: «إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا» ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] فَأَعْلَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَوَاضِعِ حَدِيثِهِ مِنْ الْقُرْآنِ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى مِصْدَاقِ خِطَابِهِ مِنْ الْكِتَابِ؛ لِيَسْتَخْرِجَ عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ مَعَانِيَ حَدِيثِهِ مِنْهُ، طَلَبًا لِلْيَقِينِ وَحِرْصًا مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمْ الِارْتِيَابَ، وَأَنْ يَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ.

مسألة حاجة الكتاب إلى السنة

[مَسْأَلَةٌ حَاجَةُ الْكِتَابِ إلَى السُّنَّةِ] ِ] قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْكِتَابُ أَحْوَجُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ السُّنَّةِ إلَى الْكِتَابِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُرِيدُ أَنَّهَا تَقْضِي عَلَيْهِ، وَتُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ: أَنَّ السُّنَّةَ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ. فَقَالَ: مَا أَجْسُرُ عَلَى هَذَا أَنْ أَقُولَهُ وَلَكِنْ أَقُولُ: إنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْكِتَابَ وَتُبَيِّنُهُ

القسم الأول من أقسام السنة الأقوال

[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَقْسَام السَّنَة الْأَقْوَالُ] الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الْأَقْوَالُ وَالْمُرَادُ بِهَا الَّتِي لَا عَلَى وَجْهِ الْإِعْجَازِ، وَيَنْقَسِمُ إلَى نَصٍّ، وَظَاهِرٍ مُجْمَلٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ سَبَقَتْ مَبَاحِثُ الْأَقْوَالِ بِأَقْسَامِهَا مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَالْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. قَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ فِي كِتَابِ " فَهْمِ السُّنَنِ ": وَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى، فَمِنْهَا: مَا يَبْتَدِئُ ثَمَّ بِتَعْلِيمِ عَامَّتِهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ. وَمِنْهَا: مَا يَسْأَلُهُ بَعْضُهُمْ عَنْهُ فَيُخْبِرُهُمْ. وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ السَّبَبُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لِيُعْلِمَهُ بِسَبَبِهِ، فَيُبَيِّنُهُ فِي ذَلِكَ تَبْيِينًا لَهُ، أَوْ يَنْهَى عَنْهُ، كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَا سَبَقَهُمْ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ، «فَجَاءَ مُعَاذٌ فَدَخَلَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَبْدَأْ بِمَا سُبِقَ، ثُمَّ قَضَى مَا سُبِقَ بِهِ، لَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ مُعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ فَافْعَلُوا ذَلِكَ» ، رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذٍ. وَمِنْهَا: مَا يُحْتَكَمُ فِيهِ إلَيْهِ، فَيَقْضِي بَيْنَ بَعْضِهِمْ بِذَلِكَ إيضَاحًا لِمَا أَحَبَّ اللَّهُ وَتَعْلِيمًا لَهُمْ، وَذَلِكَ كَتَعْلِيمِهِ الصَّلَاةَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَتَعْلِيمِهِ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

القسم الثاني من أقسام السنة الأفعال

[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَام السَّنَة الْأَفْعَالُ] الْقِسْمُ الثَّانِي الْأَفْعَالُ وَعَادَتُهُمْ يُقَدِّمُونَ عَلَيْهَا الْكَلَامَ عَلَى الْعِصْمَةِ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَيْهَا وُجُوبُ التَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِ. [عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ] وَالْكَلَامُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا أَمَّا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا تُشْتَرَطُ الْعِصْمَةُ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ فِي السَّمْعِ وُقُوعُهَا. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الصَّوَابُ عِصْمَتُهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنْ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَالتَّشْكِيكِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَعَاضَدَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ بِتَبْرِئَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ النَّقِيصَةِ مُنْذُ وُلِدُوا، وَنَشْأَتِهِمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ عَدَمَ امْتِنَاعِهَا عَقْلًا، وَأَنَّ الرَّوَافِضَ ذَهَبُوا إلَى امْتِنَاعِهَا، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ هَضْمَهُ وَاحْتِقَارَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْحِكْمَةِ، وَالْأَصَحُّ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَمِنْهُمْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ السَّمْعَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْعِصْمَةِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَأَمَّا دَلَالَةُ الْعَقْلِ فَمَبْنِيَّةٌ عَلَى فَاسِدِ أَصْلِهِمْ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَوُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ وَالْمَصْلَحَةِ.

وَأَمَّا بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالْإِرْسَالِ بِالْمُعْجِزَةِ، فَقَدْ دَلَّتْ الْمُعْجِزَةُ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى صِدْقِهِ، وَهَلْ دَلَالَتُهَا عَقْلِيَّةٌ أَوْ عَادِيَةٌ؟ خِلَافٌ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. فَكُلُّ أَمْرٍ يُنَافِي دَلَالَتَهَا فَهُوَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مُحَالٌ عَقْلًا. وَالْكَلَامُ فِي الْعِصْمَةِ يَرْجِعُ إلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: فِي الِاعْتِقَادِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي وُجُوبِ عِصْمَتِهِمْ عَمَّا يُنَاقِضُ مَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ، وَهُوَ الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْكُفْرُ بِهِ. وَثَانِيهَا: أَمْرُ التَّبْلِيغِ، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحَالَةِ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ فِيهِ. وَثَالِثُهَا: فِي الْأَحْكَامِ وَالْفَتْوَى، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ فِيهَا وَلَوْ فِي حَالِ الْغَضَبِ، بَلْ يُسْتَدَلُّ بِشِدَّةِ غَضَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ. وَرَابِعُهَا: فِي أَفْعَالِهِمْ وَسِيَرِهِمْ، فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَحَكَى الْقَاضِي إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا عَلَى عِصْمَتِهِمْ فِيهَا، وَيَلْحَقُ بِهَا مَا يُزْرِي بِمَنَاصِبِهِمْ كَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَالدَّنَاءَاتِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ، هَلْ هُوَ الشَّرْعُ أَوْ الْعَقْلُ؟ فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ أَئِمَّتِنَا: يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ عَقْلًا؛ لِأَنَّهَا مُنَفِّرَةٌ عَنْ الِاتِّبَاعِ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ عَنْ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ. قَالَ: وَإِلَيْهِ مَصِيرُ جَمَاهِيرِ أَئِمَّتِنَا. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ مُقْتَضَى الْمُعْجِزَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إنَّهَا مُمْتَنِعَةٌ سَمْعًا، وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَيْهِ. وَلَوْ رَدَدْنَا إلَى الْعَقْلِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُحِيلُهَا وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا، وَابْنُ بَرْهَانٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: إنَّهُ الْمُسْتَقِيمُ عَلَى أُصُولِنَا. وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: إنَّهُ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُهُ، وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا لَمْ يُسْنِدْهُ إلَى الْمُعْجِزَةِ فِي التَّحَدِّي، فَإِنْ أَسْنَدَهُ إلَيْهَا كَانَ امْتِنَاعُهُ عَقْلًا.

العصمة من الصغائر

[الْعِصْمَةُ مِنْ الصَّغَائِرِ] ِ] وَأَمَّا الصَّغَائِرُ: الَّتِي لَا تُزْرِي بِالْمَنَاصِبِ، وَلَا تَقْدَحُ فِي فَاعِلِهَا، فَفِي جَوَازِهَا خِلَافٌ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ مَبْنِيٌّ أَوَّلًا عَلَى ثُبُوتِ الصَّغِيرَةِ فِي نَفْسِهَا، فَمَنْ نَفَاهَا كَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الْآمِرِ، فَلَا تَجُوزُ عِنْدَهُ عَلَيْهِمْ. وَالْعَجَبُ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْإِرْشَادِ " وَافَقَ الْأُسْتَاذَ عَلَى مَنْعِ تَصَوُّرِ الصَّغَائِرِ فِي الذُّنُوبِ وَخَالَفَهُ هُنَا، وَالصَّحِيحُ تَصَوُّرُهَا. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ، هَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِمْ؟ وَإِذَا جَازَتْ، فَهَلْ وَقَعَتْ مِنْهُمْ أَمْ لَا؟ وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا عَنْ الْأَكْثَرِينَ الْجَوَازَ عَقْلًا. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَأَمَّا السَّمَاعُ فَأَبَاهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالصَّحِيحُ صِحَّةُ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ، وَتُتَدَارَكُ بِالتَّوْبَةِ. اهـ. وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ عَدَمَ الْوُقُوعِ. قَالَ: وَأَوَّلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ، وَحَمَلُوهَا عَلَى مَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَعَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَصِّلُونَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ قَاطِعٌ فِي ذَلِكَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَالظَّوَاهِرُ مُشْعِرَةٌ بِالْوُقُوعِ. وَنَسَبَ الْإِبْيَارِيُّ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ الْوُقُوعَ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ قَالُوا: لَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ. وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ تَجْوِيزَ الصَّغَائِرِ وَوُقُوعَهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَمِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ. وَقَالَ فِي الْإِكْمَالِ: إنَّهُ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَنْبِيهِهِمْ عَلَيْهِ، إمَّا فِي الْحَالِ عَلَى رَأْيِ

جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَوْ قَبْلَ وَفَاتِهِمْ عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ. وَالْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ جَمِيعًا، وَعَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ، وَابْنُ فُورَكٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ " الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ " وَقَالَ: إنَّهُ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ". وَنَقَلَهُ فِي " الْوَجِيزِ " عَنْ اتِّفَاقِ الْمُحَقِّقِينَ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي " زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ " عَنْ الْمُحَقِّقِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي أَوَّلِ الشَّهَادَاتِ مِنْ تَعْلِيقِهِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ وَرَدَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْخَبَرِ حُمِلَ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: عَلَى مَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، أَوْ فَعَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَتْحِ الشِّهْرِسْتَانِيّ، وَالْقَاضِي عِيَاضٍ، وَالْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ عَطِيَّةَ الْمُفَسِّرِ فَقَالَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ} [البقرة: 128] : الَّذِي أَقُولُ بِهِ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْجَمِيعِ، وَأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ: «إنِّي لَأَتُوبُ فِي الْيَوْمِ وَأَسْتَغْفِرُ سَبْعِينَ مَرَّةً» ، إنَّمَا هُوَ رُجُوعُهُ مِنْ حَالَةٍ إلَى أَرْفَعَ مِنْهَا لِمَزِيدِ عُلُومِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، فَهُوَ يَتُوبُ مِنْ الْمَنْزِلَةِ الْأُولَى إلَى الْأُخْرَى، وَالتَّوْبَةُ هُنَا لُغَوِيَّةٌ. وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الْعِصْمَةَ مِنْهَا عَمْدًا، وَجَوَّزَهَا سَهْوًا،

معنى العصمة

وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّتِهِمْ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ تَجُبُّ الْعِصْمَةُ مِنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ؛ لِالْتِحَاقِهَا حِينَئِذٍ بِالْكَبَائِرِ. وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعِصْمَةِ عَنْ الصَّغِيرَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْخِسَّةِ وَسُقُوطِ الْمُرُوءَةِ وَالْحِشْمَةِ. قَالَ: بَلْ الْمُبَاحُ إذَا أَدَّى إلَى ذَلِكَ كَانَ مَعْصُومًا مِنْهُ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِصْمَةَ عِنْدَ قَصْدِ الْمَكْرُوهِ. [مَعْنَى الْعِصْمَةِ] [مَعْنَى الْعِصْمَةِ] ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْعِصْمَةِ، اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَقِيلَ الْمَعْصُومُ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِالْمَعَاصِي. وَقِيلَ: يُمْكِنُهُ ثُمَّ الْأَوَّلُونَ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: إنَّهُ يَخْتَصُّ فِي نَفْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ بِخَاصِّيَّةٍ، تَقْتَضِي امْتِنَاعَ إقْدَامِهِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: هُوَ مُسَاوٍ لِغَيْرِهِ فِي خَوَاصِّ بَدَنِهِ، وَلَكِنْ فَسَّرَ الْعِصْمَةَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ حَكَاهُ فِي " الْمَحْصُولِ ". وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِإِمْكَانِ الْوُقُوعِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ مَنَعَهُمْ مِنْهَا بِأَلْطَافِهِ بِهِمْ مِنْ صَرْفِ دَوَاعِيهِمْ عَنْهَا بِمَا يُلْهِمُهُمْ إيَّاهُ مِنْ تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ أَوْ كَمَالِ مَعْرِفَةٍ وَنَحْوِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15] ، وَقَالَ التِّلِمْسَانِيُّ: الْمَعْنِيُّ بِالْعِصْمَةِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ تَهْيِئَةُ الْعَبْدِ لِلْمُوَافَقَةِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى خَلْقِ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ طَاعَةٍ أُمِرُوا بِهَا، وَالْقُدْرَةُ تُقَارِنُ وُقُوعَ الْمَقْدُورِ، كَمَا قَالُوا: إنَّ التَّوْفِيقَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَإِذَنْ الْعِصْمَةُ تَوْفِيقٌ عَامٌّ، وَرَدَّتْ الْمُعْتَزِلَةُ الْعِصْمَةَ إلَى خَلْقِ أَلْطَافٍ

مسألة وقوع النسيان من النبي

تُقَرِّبُ فِعْلَ الطَّاعَةِ، وَلَمْ يَرُدُّوهَا إلَى الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَهُمْ عَلَى الشَّيْءِ حَاصِلَةٌ لِضِدِّهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَلَا تُطْلَقُ الْعِصْمَةُ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لَهُمْ فِي التَّحَمُّلِ بِمَا يُؤَدُّونَهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْت: وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ ": وَأَسْأَلُهُ الْعِصْمَةَ. [مَسْأَلَةٌ وُقُوعُ النِّسْيَانِ مِنْ النَّبِيِّ] ِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] وَأَمَّا النِّسْيَانُ: فَلَا امْتِنَاعَ فِي تَجْوِيزِ وُقُوعِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَذَلِكَ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ نَبِيِّهِ نِسْيَانَهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُكْتَبَ قُرْآنًا. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَاَلَّذِي نَقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ عَقْلًا إلَّا أَنْ نَقُولَ: النَّبِيُّ لَا يَقَعُ فِي نِسْيَانٍ، وَنُقِيمُ الْمُعْجِزَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ عَقْلًا، فَالظَّوَاهِرُ تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ، بَلْ يُنَبَّهُونَ عَلَى قُرْبٍ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ فِيهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ التَّرَاخِي فِي التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ لَا يَنْقَرِضُ زَمَانُهُمْ وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى النِّسْيَانِ، وَادَّعَى فِيهِ الْإِجْمَاعَ لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: مَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ فَنَسِيَ، فَالْحُكْمُ كَمَا قَالَ: فَأَمَّا مَا أُمِرَ

بِهِ ثُمَّ نَسِيَ، فَلَا أُبَعِّدُ أَنْ يَنْسَى ثُمَّ لَا يَتَذَكَّرُ حَتَّى يَنْقَرِضَ زَمَانُهُ، وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى النِّسْيَانِ، مِثْلُ أَنْ يَنْسَى صَلَاةً، ثُمَّ لَا يَتَذَكَّرُهَا. اهـ. وَفَصَّلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّسْخِ بَيْنَ مَا لَا يَحْفَظُهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَالنَّبِيُّ مَعْصُومٌ مِنْ النِّسْيَانِ قَبْلَ التَّبْلِيغِ وَبَعْدَهُ، فَإِنْ حَفِظَهُ جَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْبَشَرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي: حَسِبْت أَنَّهَا رُفِعَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمْ تُرْفَعْ، وَلَكِنْ نُسِّيتُهَا» . وَقَالَ: ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَى امْتِنَاعِ النِّسْيَانِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى جَوَازِهِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فَادَّعَى فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَحَكَى الْخِلَافَ فِي بَعْضِهَا. قَالَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَا طَرِيقُهُ التَّبْلِيغُ فِيهِ مِمَّا يُقْطَعُ بِدُخُولِهِ تَحْتَ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ، فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْإِجْمَاعِ، وَمَا طَرِيقُهُ التَّبْلِيغُ وَالْبَيَانُ لِلشَّرَائِعِ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، فَيُحْمَلُ كَلَامُ الرَّازِيَّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا، وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى التَّصْدِيقِ، أَمْ لَا؟ فَمَنْ جَعَلَهُ دَاخِلًا فِيهَا مَنَعَهُ، وَقَالَ: لَوْ جَازَ تَبَعَّضَتْ دَلَالَةُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى التَّصْدِيقِ، وَمَنْ جَعَلَهُ غَيْرَ دَاخِلٍ فِيهَا جَوَّزَهُ لِعَدَمِ انْتِقَاصِ الدَّلَالَةِ. وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى امْتِنَاعِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْأَقْوَالِ الْبَلَاغِيَّةِ، وَخَصَّ الْخِلَافَ بِالْأَفْعَالِ، وَأَنَّ الْأَكْثَرِينَ ذَهَبُوا إلَى الْجَوَازِ، وَأَنَّ الْمَانِعِينَ تَأَوَّلُوا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي سَهْوِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّهُ تَعَمَّدَ ذَلِكَ لِيَقَعَ النِّسْيَانُ فِيهِ بِالْفِعْلِ، وَخَطَّأَهُمْ فِي ذَلِكَ لِتَصْرِيحِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالنِّسْيَانِ

بِقَوْلِهِ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيت فَذَكِّرُونِي» ، وَلِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْعَمْدِيَّةَ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَالْبَيَانُ كَافٍ بِالْقَوْلِ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْفِعْلِ، وَحَيْثُ [قُلْنَا] بِالْجَوَازِ، فَالشَّرْطُ - بِالِاتِّفَاقِ - أَنْ لَا يُقَرَّ أَحَدُهُمْ عَلَيْهِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ لِمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالتَّشْرِيعِ. وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ اتِّصَالًا لِتَنْبِيهٍ بِالْوَاقِعَةِ، وَمِيلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ إلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَأَمَّا الْأَقْوَالُ فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ ذَلِكَ فِيهَا، وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْتُبُ كُلَّ مَا أَسْمَعُ مِنْك؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَإِنِّي لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا» . قَالَ: وَتَنْزِيهُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاجِبٌ بُرْهَانًا وَإِجْمَاعًا كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، وَفِي كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ مَا يَقْتَضِي وُجُودَ خِلَافٍ فِيهِ، وَهُوَ مُؤَوَّلٌ عَلَى مَا لَيْسَ طَرِيقُهُ الْبَلَاغَ. وَقَالَ الرَّازِيَّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ فَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعِصْمَةِ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ عَمْدًا وَسَهْوًا، وَمِنْهُمْ مِنْ جَوَّزَهُ سَهْوًا، وَلَا يَحْسُنُ حِكَايَةُ الْخِلَافِ بَعْدَ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَكَلَامُهُ مُوَافِقٌ لِجُمْهُورِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَأَمَّا مَا لَيْسَ سَبِيلُهُ الْبَلَاغَ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْوَحْيِ وَلَا بِالْأَحْكَامِ، فَاَلَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ تَنْزِيهُ النَّبِيِّ عَنْ أَنْ يَقَعَ خَبَرُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ، لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَلَطًا، وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كُلِّ حَالٍ: رِضَاهُ وَغَضَبِهِ، وَمِزَاحِهِ؛ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّحَابَةِ عَلَى تَصْدِيقِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ.

عصمة الملائكة

[عِصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ] ِ] هَذَا كُلُّهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَدْ تَكَلَّمَ الْقَاضِي عَلَى عِصْمَتِهِمْ، وَقَالَ: أَمَّا الرُّسُلُ مِنْهُمْ فَالْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ: هُمْ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ كَالْأَنْبِيَاءِ فِي حَقِّ الْأُمَمِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَلَعَلَّهُ بَنَى هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَلَى تَفْضِيلِهِ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الرُّسُلِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَأَمَّا مَنْ عَدَّ الرُّسُلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ بِثُبُوتِ عِصْمَتِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِالْمُقَرَّبِينَ مِنْهُمْ، كَالْحَمَلَةِ وَالْكَرُوبِيِّينَ وَنَحْوِهِمْ، وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْعِصْمَةِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ: وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، بِدَلِيلِ قِصَّةِ إبْلِيسَ، وَقَدْ كَانَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. [هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْلَعَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ النُّبُوَّةِ] فَرْعٌ [هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْلَعَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ النُّبُوَّةِ؟] ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ. إنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْلَعَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ النُّبُوَّةِ؟ قُلْنَا: هَذَا لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.

جواز الإغماء على الأنبياء

قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ خَلَعَ كَيْفَ يَكُونُ أَحْوَالُ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ؟ قُلْنَا: كَانَتْ تُرَدُّ إذَنْ أَوْ تُزَالُ، وَأَمَّا شَرْعًا فَمَنْ ثَبَتَتْ لَهُ الْعِصْمَةُ لَا تَزُولُ عَنْهُ. قَالَ: وَلَا مُعَوَّلَ عَلَى مَا نَقَلَهُ الضُّعَفَاءُ مِنْ أَنَّ بَلْعَمَ بْنَ بَاعُورَاءَ كَانَ نَبِيًّا، فَخَلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ ذَلِكَ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ. [جَوَازُ الْإِغْمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ] مَسْأَلَةٌ [جَوَازُ الْإِغْمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ] أَطْلَقَ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ جَوَازَ الْإِغْمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَرَضٌ، وَنَقَلَ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ فِي تَعْلِيقِهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ عَنْ الدَّرْكِ أَنَّ الْإِغْمَاءَ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ سَاعَةً وَسَاعَتَيْنِ. فَأَمَّا الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ فَلَا يَجُوزُ كَالْجُنُونِ. [وُقُوعُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ مِنْ النَّبِيِّ] مَسْأَلَةٌ [وُقُوعُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يَمْتَنِعُ فِعْلُ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْعِصْمَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ، لَا يَفْعَلُهُ لِيُبَيِّنَ بِهِ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ التَّأَسِّي؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَإِذَا فَعَلَهُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِهِ، وَانْتَفَتْ الْكَرَاهَةُ، [وَقِيلَ] بَلْ [فِعْلُ الْمَكْرُوهِ] فِي حَقِّهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَفْضَلُ لِأَجْلِ تَكْلِيفِهِ الْبَيَانَ. وَقَدْ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْفِعْلِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُنَا فِي وُضُوئِهِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، وَنُقِلَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ حَمَلُوا وُضُوءَهُ بِسُؤْرِ الْهِرِّ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.

شرط إلحاق فعل النبي بقوله

[شَرْطُ إلْحَاقِ فِعْلِ النَّبِيِّ بِقَوْلِهِ] تَنْبِيهٌ [شَرْطُ إلْحَاقِ فِعْلِهِ بِقَوْلِهِ] شَرَطَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ فِي كِتَابِهِ كَوْنَ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُلْحَقًا بِقَوْلِهِ أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَيْهِ، أَوْ بَعْضَهُمْ، أَوْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ هُوَ وَيُظْهِرَهُ لَهُمْ لِيَأْخُذُوهُ عَنْهُ، يَعْنِي فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ. قُلْت: وَكَذَلِكَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي خَلَوَاتِهِ مِنْ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُهُ يَفْعَلُونَهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي إظْهَارِ الْبَيَانِ، كَمَا فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَالِاغْتِسَالِ مِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِدْبَارُهُ الْكَعْبَةَ فِي الْبُنْيَانِ وَنَحْوِهِ، وَشَرَطَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " أَنْ يَكُونَ لَوْلَا مُبَاشَرَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ مَا كُنَّا نَفْعَلُهُ، وَإِنَّمَا نَفْعَلُهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَلَّ عَلَى الْفِعْلِ دَلِيلٌ آخَرُ غَيْرُ فِعْلِهِ لَمْ نَكُنْ مُتَأَسِّينَ. [أَقْسَامُ الْأَفْعَالِ] [أَقْسَامُ الْأَفْعَالِ] وَأَمَّا تَقْسِيمُ الْأَفْعَالِ: فَفِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ هَوَاجِسِ النَّفْسِ وَالْحَرَكَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، كَتَصَرُّفِ الْأَعْضَاءِ وَحَرَكَاتِ الْجَسَدِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: فَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ أَمْرٌ بِامْتِنَاعٍ وَلَا نَهْيٌ عَنْ مُخَالَفَةٍ، أَيْ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ. [الثَّانِي مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ وَوَضَحَ فِيهِ أَمْرُ الْجِبِلَّةِ] ِ، كَأَحْوَالِهِ فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ بِخُصُوصِهِ، وَكَذَلِكَ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ". وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَمَّا حَجَّ جَرَّ خِطَامَ نَاقَتِهِ حَتَّى بَرَّكَهَا

الثالث ما احتمل أن يخرج عن الجبلية إلى التشريع

حَيْثُ بَرَكَتْ نَاقَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَرُّكًا بِآثَارِهِ الظَّاهِرَةِ. [الثَّالِثُ مَا احْتَمَلَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْجَبَلِيَّةِ إلَى التَّشْرِيعِ] ِ بِمُوَاظَبَتِهِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ، كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاللُّبْسِ وَالنَّوْمِ، وَهُوَ دُونَ مَا ظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، وَفَوْقَ مَا ظَهَرَ فِيهِ الْجِبِلِّيَّةُ، وَقَدْ يَخْرُجُ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ، إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّشْرِيعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شَرْعِيٌّ؛ لِكَوْنِهِ مَنْصُوبًا لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: اسْقِنِي قَائِمًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ قَائِمًا. وَقَدْ صَرَّحَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ بِحِكَايَةِ الْخِلَافِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ لِلْأَصْحَابِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ يَصِيرُ سُنَّةً وَشَرِيعَةً، وَيُتَّبَعُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُتَّبَعُ فِيهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. هَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ فِي " شَرْحِ التَّرْتِيبِ "، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ فِي " الْأُصُولِ ": يُعْلَمُ تَحْلِيلُهُ عَلَى أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ، وَيُتَوَقَّفُ فِيهِ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ عَلَى الْبَيَانِ.

وَهَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ إلْكِيَا، وَعَلَّلَ الْوَقْتَ بِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِيقَاعِ، وَالْمَصَالِحُ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ. قَالَ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِلْأُصُولِيِّينَ مُتَّجَهٌ إلَّا أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ مُبَاحٌ؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ سُئِلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَأَجَابَتْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَبْتَعِدُ عَنْ ذَلِكَ. اهـ. وَجَزَمَ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ «عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ. قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُك تَصْنَعُ أَرْبَعًا، وَفِيهَا: رَأَيْتُك تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ؟ فَقَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُهَا» . وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاِتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَنَبَذَهُ، وَقَالَ: إنِّي لَمْ أَلْبَسْهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ» . وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ مَا يَقْتَضِي انْقِسَامَ هَذَا الْقِسْمِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَتَرَقَّى إلَى الْوُجُوبِ، كَإِيجَابِ الشَّافِعِيِّ الْجُلُوسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ» . وَثَانِيهَا: مَا يَتَرَقَّى إلَى النَّدْبِ، كَاسْتِحْبَابِ أَصْحَابِنَا الِاضْطِجَاعَ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ بَيْنَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَرْءُ تَهَجَّدَ أَوْ

لَا؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ» ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَمْرِ بِهِ فَمَعْلُولٌ. ثَالِثُهَا: مَا يَجِيءُ فِيهِ خِلَافٌ، كَدُخُولِهِ مَكَّةَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءَ وَخُرُوجِهِ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءَ، وَحَجِّهِ رَاكِبًا، وَذَهَابِهِ إلَى الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ، وَرُجُوعِهِ فِي أُخْرَى، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا: هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْجِبِلِّيِّ، فَلَا

الرابع ما علم اختصاصه به

يُسْتَحَبُّ؟ أَوْ عَلَى الشَّرْعِيِّ فَيُسْتَحَبُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إذَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا لِمَعْنًى، وَلَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِهِ فَعَلْنَاهُ، وَمِنْ طَرِيقٍ الْأَوْلَى إذَا عَرَفْنَا أَنَّهُ فَعَلَهُ لِمَعْنًى يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَفْعَلُهَا اتِّبَاعًا لَهُ، سَوَاءٌ عَرَفْنَا أَنَّهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ أَمْ لَا، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الَّذِي مَالَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ذَكَرَهُ فِي اسْتِحْبَابِ تَخَالُفِ الطَّرِيقَيْنِ فِي الْعِيدِ. وَعَنْ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَعْنًى فَزَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يُفْعَلُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالثَّانِي: قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُفْعَلُ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ مِنْ " الشَّامِلِ ": قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إذَا عَقَلْنَا مَعْنَى مَا فَعَلَهُ، وَكَانَ بَاقِيًا، أَوْ لَمْ نَعْقِلْ مَعْنَاهُ، فَإِنَّا نَقْتَدِي بِهِ فِيهِ، فَأَمَّا إذَا عَقَلْنَا مَعْنَى فِعْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ الْغَرَضُ بِهِ بَاقِيًا لَمْ نَفْعَلْهُ؛ لِزَوَالِ مَعْنَاهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ نَقْتَدِي بِهِ، وَإِنْ زَالَ مَعْنَاهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] الْآيَةَ. لِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ لِإِظْهَارِ الْقُوَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ صَارَ سُنَّةً، وَإِنْ زَالَ مَعْنَاهُ، وَبَقِيَ قِسْمٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ لَا يُعْلَمَ السَّبَبُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " الرَّوْضَةِ ": يُسْتَحَبُّ التَّأَسِّي قَطْعًا. [الرَّابِعُ مَا عُلِمَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ] ِ كَالضُّحَى وَالْوِتْرِ، وَالْمُشَاوَرَةِ وَالتَّخْيِيرِ لِنِسَائِهِ، وَالْوِصَالِ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ - فَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَتَوَقَّفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَمْتَنِعُ التَّأَسِّي بِهِ؟ وَقَالَ: لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ

الخامس ما يفعله لانتظار الوحي

لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ فِي أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا النَّوْعِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَنَا مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ التَّوَقُّفِ. وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْمَازِرِيُّ. وَفَصَّلَ الشَّيْخُ الْحَافِظُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمُحَقَّقِ فِي الْأَفْعَالِ " بَيْنَ الْمُبَاحِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ التَّشَبُّهُ فِيهِ بِهِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَبَيْنَ الْوَاجِبِ فَيُسْتَحَبُّ التَّشَبُّهُ، وَكَذَلِكَ التَّنَزُّهُ عَنْ الْمُحَرَّمِ، كَأَكْلِ ذِي الرِّيحِ الْكَرِيهَةِ، وَطَلَاقِ مَنْ تُكْرَهُ صُحْبَتُهُ. قَالَ: وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ لِمَنْ فَهِمَ الْفِقْهَ وَقَوَاعِدَهُ، وَلَعَلَّ الْإِمَامَ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الصَّحَابَةَ فَعَلُوا ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّأَسِّي، بَلْ لِأَدِلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ. قُلْت: وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. وَقَسَّمَا هَذَا النَّوْعَ إلَى مَا أُبِيحَ لَهُ وَحُظِرَ عَلَيْنَا كَالْمَنَاكِحِ. وَإِلَى مَا أُبِيحَ لَهُ وَكُرِهَ لَنَا كَالْوِصَالِ وَإِلَى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَنُدِبَ لَنَا كَالسِّوَاكِ، وَالْوِتْرِ وَالضُّحَى. [الْخَامِسُ مَا يَفْعَلُهُ لِانْتِظَارِ الْوَحْيِ] ِ، كَابْتِدَاءِ إحْرَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ حَيْثُ أَبْهَمَهُ مُنْتَظِرًا لِلْوَحْيِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إطْلَاقُ الْإِحْرَامِ أَفْضَلُ مِنْ تَعْيِينِهِ تَأَسِّيًا، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ. قَالَ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ ": وَهَذَا عِنْدِي هَفْوَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ إبْهَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولٌ عَلَى انْتِظَارِ الْوَحْيِ قَطْعًا، فَلَا مَسَاغَ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ. [السَّادِسُ مَا يَفْعَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ عُقُوبَةً] ً، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمَعْنَى قِيَاسًا عَلَيْهِ، أَمْ عَلَى الظَّاهِرِ؟ . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: مَا يَفْعَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ،

السابع ما يفعله مع غيره

إنْ تَعَلَّقَ بِهِ أَحَدُ طَرَفَيْهِ كَالْبُيُوعِ وَالْأَنْكِحَةِ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ فِي غَيْرِهِ مُسْتَدَلٌّ عَلَى إبَاحَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ أَوْصَافِهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَأْتِيهِ مِنْ عِبَادَاتِهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مُتَدَاعِيَيْنِ أَوْ عَلَى جِهَةِ التَّوَسُّطِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ بِلَا خِلَافٍ، وَيَجْرِي مَجْرَى الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ. قَالَ: وَمَا تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ أَمْلَاكِ الْغَيْرِ فَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ السَّبَبِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ وُجُوهِ الِاسْتِبَاحَةِ. [السَّابِعُ مَا يَفْعَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ] ِ إعْطَاءً، وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الرَّضْخَ لِلْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ. قَالَ: وَالْمَشْهُورُ وُجُوبُهُ، لَمْ يَتْرُكْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّضْخَ قَطُّ، وَلَنَا فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. [الثَّامِنِ الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ] ُ عَمَّا سَبَقَ، فَإِنْ وَرَدَ بَيَانًا، كَقَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، أَوْ لِآيَةٍ كَالْقَطْعِ مِنْ الْكُوعِ الْمُبَيِّنِ لِآيَةِ السَّرِقَةِ، فَهُوَ دَلِيلٌ فِي حَقِّنَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَحَيْثُ وَرَدَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ إنْ كَانَ وَاجِبًا فَوَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ، كَأَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْكُسُوفِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَمَنْ أَبَاهُ مَنَعَ بَيَانَ الْمُجْمَلِ بِالْفِعْلِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ وَرَدَ مُبْتَدَأً، فَإِنْ عُلِمَتْ صِفَتُهُ فِي حَقِّهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ، فَمَا حُكْمُ الْأُمَّةِ فِيهِ؟

اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ، أَصَحُّهَا: أَنَّ أُمَّتَهُ مِثْلُهُ، إلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ. وَثَانِيهَا: كَمَا لَمْ تُعْلَمْ صِفَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَثَالِثُهَا: مِثْلُهُ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ غَيْرِهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ خَلَّادٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَرَابِعُهَا: الْوَقْفُ، قَالَهُ الرَّازِيَّ: وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ شَرْعًا لَنَا إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْأَصْحَابُ. وَعِنْدِي أَنَّ مَا فَعَلَهُ عَلَى جِهَةِ التَّقَرُّبِ سَوَاءٌ عُرِفَ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى جِهَةِ التَّقَرُّبِ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِنَّهُ شَرْعٌ لَنَا، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ يُفْصِحْ عَنْهَا الْمُحَقِّقُونَ، وَأَنَا أَقُولُ: إذَا عَلِمْنَا أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ، فَإِنْ عَلِمْنَاهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَعَلَيْنَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِفِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا، بَلْ مَرْجِعُنَا إلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ خُصُوصِيَّتِهِ، وَإِنْ عَلِمْنَاهُ مُخْتَصًّا بِهِ، فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي خَصَائِصِهِ، وَإِنْ شَكَكْنَا فَلَا دَلِيلَ عَلَى الْوُجُوبِ إلَّا أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ فِيمَا لَمْ تُعْلَمْ صِفَتُهُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى فَرْضِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الصِّفَةِ أَوَّلًا، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَوْقَعَهُ نَدْبًا فَهُوَ عَلَى اخْتِيَارِنَا النَّدْبَ فِي

مَجْهُولِ الصِّفَةِ، أَوْ مُبَاحًا، فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ. اهـ مُلَخَّصًا. وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ صِفَتَهُ فِي حَقِّهِ، فَتَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ: فَذَهَبَتْ طَوَائِفُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى حَمْلِهِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَكِنْ يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ. قَالَ: وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ الْقَفَّالِ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَذَهَبَ الْوَاقِفِيَّةُ إلَى الْوَقْفِ، وَنَسَبَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ لِأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَيُحْكَى عَنْ الدَّقَّاقِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَحَكَاهُ فِي " اللُّمَعِ " عَنْ الصَّيْرَفِيِّ، وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَمْ يَحْكِ الْإِمَامُ قَوْلَ الْإِبَاحَةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْقُرْبَةِ لَا يُجَامِعُ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ، لَكِنَّ ابْنَ السَّمْعَانِيِّ حَكَاهُ حَمْلًا عَلَى أَقَلِّ الْأَحْوَالِ، وَكَذَا الْآمِدِيُّ صَرَّحَ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ الْآتِي فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا. وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِأَنَّ الْقَصْدَ بِفِعْلِ الْمُبَاحِ جَوَازُ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَيُثَابُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى هَذَا الْقَصْدِ، فَهُوَ قُرْبَةٌ فِي حَقِّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، بَلْ كَانَ مُجَرَّدًا مُطْلَقًا، وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ الْآتِي، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّحْقِيقُ فِيمَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ دُنْيَوِيٌّ كَالتَّنَزُّهِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ، وَإِلَّا كَانَ ظَاهِرًا فِي النَّدْبِ، وَيَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ. وَأَمَّا حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ

فِي حَقِّنَا وَحَقِّهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ، وَنَسَبُوهُ لِابْنِ سُرَيْجٍ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ زَلَلٌ فِي النَّقْلِ عَنْهُ، وَهُوَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ ذَلِكَ. وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ عَنْ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ خَيْرَانَ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرِيِّ، وَأَكْثَرِ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا، كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَنَصَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَقَالَ: إنَّهُ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. لَكِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا فِيمَا ظَهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَنَصَرَ أَدِلَّتَهُ. قَالَ: وَأَخَذُوهُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ [فِي الرَّدِّ] عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي سُنَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوَامِرِهِ: أَجْمَعْنَا أَنَّ الْأَمْرَ يَخْتَصُّ بِهِ الظَّاهِرُ، فَهُوَ إذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي " الْمَعَالِمِ ". وَمِنْ هَذَا الْبَابِ جُلُوسُهُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا فِعْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَرَأَى الشَّافِعِيُّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ، وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ التَّأَسِّي فِي حَقِّنَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَاخْتَارَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ اللَّائِقُ بِأُصُولِهِمْ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ أَئِمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ فِي كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ، وَفُرُوعُ الْمَذْهَبِ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، مِنْهُمْ الْكَرْخِيّ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ عَلَى طَرِيقَيْنِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّا نُدْرِكُ الْوُجُوبَ بِالْعَقْلِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّا نُدْرِكُهُ بِالسَّمْعِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: الصَّحِيحُ

أَنَّهُ لَا أَقِيسُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ، وَالْمُخَالِفُ يُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: دَلِيلُ السَّمْعِ دَلَّ عَلَيْهِ، فَيَرْجِعُ النِّزَاعُ إلَى دَلِيلِ السَّمْعِ، إذَنْ لَا مُتَعَلَّقَ لَهُمْ، وَالْأَلْفَاظُ دَلَّتْ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ، وَتَهْدِيدُ تَارِكِ التَّأَسِّي بِهِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسُلَيْمٌ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ وَالْقَفَّالِ الْكَبِيرِ. فَأَمَّا النَّقْلُ عَنْ الْقَفَّالِ فَصَحِيحٌ، فَقَدْ رَأَيْته فِي كِتَابِهِ، وَعِبَارَتُهُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَنَا أُسْوَةٌ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِهِ حَتَّى يُوقَفَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَأَمَّا الصَّيْرَفِيُّ فَسَيَأْتِي عَنْهُ الْوَقْفُ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: إنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَأَطْنَبَ أَبُو شَامَةَ فِي نُصْرَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَلَا يُفِيدُ إلَّا ارْتِفَاعَ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ لَا غَيْرُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَنَقَلَهُ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ " عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ "، وَأَطْنَبَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْأَوَّلِينَ، وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَيْسَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَصْحَابِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَنَسَبُوهُ إلَى الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ، فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ: وَلَا أَدْرِي أَفَرْضٌ أَوْ تَطَوُّعٌ؟ وَلَا أَدْرِي الْفَرِيضَةُ تُجْزِئُ عَنْهَا أَمْ لَا؟ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ إنْ صَلَّاهُمَا أَنَّ عَلَيْنَا صَلَاتَهُمَا، وَإِنَّمَا مَنَعَنَا مِنْ إيجَابِهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّوَافَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ وَاجِبٍ.

قَالَ: وَذَكَرَ أَيْضًا فِي الْأَمْرِ قَوْلَ عَائِشَةَ: «فَعَلْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ، اغْتَسَلْنَا» وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إنْزَالٌ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمَهْرَ. وَلَمْ يَعُدْ إلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، بَلْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] وَبِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى إيجَابِ الْمَهْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إنْزَالٌ، فَكَذَلِكَ الْغُسْلُ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ عِنْدَهُ وَاجِبًا لَكَانَ أَوْلَى مَا يَحْتَجُّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: وَالْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ أَوَّلُوا هَذَا إلَى قَوْلِهِمْ. اهـ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَى الْوَقْفِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْوَقْفِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ الصَّيْرَفِيُّ كَمَا رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ فِي كِتَابِهِ " الدَّلَائِلِ "، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ. قَالَ: وَاخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الدَّقَّاقُ وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ، وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ "، وَنَقَلَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ ابْنُ كَجٍّ وَالدَّقَّاقُ وَالسُّرَيْجِيُّ قَالَ: وَقَالُوا: لَا نَدْرِي إنَّهُ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدَبِ أَوَلِلْإِبَاحَةِ؛ لِاحْتِمَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ. وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ. وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ جِدًّا عَنْ الْمَذْهَبِ، إلَّا أَنَّهُ أَقْيَسُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، وَصَحَّحَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَذَكَرَهُ عَنْ أَحْمَدَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِلْوَقْفِ فِي أَفْعَالِهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا الْوَقْفُ فِي تَعْدِيَةِ

حُكْمِهِ إلَى الْأُمَّةِ، وَثُبُوتِ التَّأَسِّي، وَإِنْ عُرِفَتْ جِهَةُ فِعْلِهِ، وَالثَّانِي: الْوَقْفُ فِي تَعْيِينِ جِهَةِ فِعْلِهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ، وَإِنْ كَانَ التَّأَسِّي ثَابِتًا، وَهُوَ بِهَذَا يَئُولُ إلَى قَوْلِ النَّدْبِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَظْرِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ، وَتَبِعَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ جَوَّزَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَعَاصِي، وَهُوَ سُوءُ فَهْمٍ. فَإِنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَقُولُ: إنَّ غَيْرَهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ فِيهَا. لَا إنْ وَقَعَ مِنْهُ يَكُونُ حَرَامًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَقَالَا: ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اتِّبَاعُهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا عَلَى الْحَظْرِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَمًا فِي تَثْبِيتِ حُكْمٍ، فَبَقِيَ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ. تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ يَجْرِي فِي حُكْمِ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ حُكْمَنَا حُكْمُهُ فِي الْأَفْعَالِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ النَّفِيسِ قَالَ فِي كِتَابِهِ " الْإِيضَاحِ ": الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا وَهُوَ دُنْيَوِيٌّ كَالتَّنَزُّهِ، فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ، وَإِلَّا كَانَ ظَاهِرًا فِي النَّدْبِ، وَيَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَحَكَى الْخِلَافَ السَّابِقَ.

مسألة حكم التأسي بالرسول في فعله

الثَّانِي: مَا أَطْلَقُوهُ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ إذَا وَقَعَ بَيَانًا يَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُبَيِّنِ فِي الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ، أَثَارَ فِيهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بَحْثًا، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ الْمُجْمَلَ مُبَيَّنٌ بِأَوَّلِ الْأَفْعَالِ وُقُوعًا، فَإِذَا تَبَيَّنَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ بَعْدَهُ بَيَانًا لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِالْأَوَّلِ، فَيَبْقَى فِعْلًا مُجَرَّدًا لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. مِثَالُهُ قَوْلُهُ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] وَصَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ» ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) «أَنَّهُ افْتَتَحَهَا بَعْدَ التَّكْبِيرِ بِالْفَاتِحَةِ» فَيَتَعَارَضَانِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُسْتَدَلِّ بِهِ بَيَانًا، فَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، بَلْ قَدْ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ كَرِوَايَةِ مَنْ رَأَى فِعْلًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَبَقَنَا لَهُ. هَذِهِ التَّقَاسِيمُ كُلُّهَا فِي الْأَفْعَالِ بَعْدَ السَّمْعِ، وَأَمَّا أَفْعَالُهُ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ فَحُكْمُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا، وَسَيَأْتِي. [مَسْأَلَةٌ حُكْمُ التَّأَسِّي بِالرَّسُولِ فِي فِعْلِهِ] مَسْأَلَةٌ [حُكْمُ التَّأَسِّي بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِعْلِهِ] التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاجِبٌ فِيمَا سِوَى خَوَاصِّهِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وَقَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك. وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَفَسَّرُوا التَّأَسِّي بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا فَعَلَ فِعْلًا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ، وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَهُ كَذَلِكَ، وَإِنْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ أَوْ النَّدْبِ، وَجَبَ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ أَنَّهُ كَذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِهَذَا مَنْ عَرَفَ الْفِعْلَ وَحُكْمَهُ، إذْ لَوْ وَجَبَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ لَكَانَ تَعَلُّمُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ.

الطرق التي بها تعرف جهة الفعل من كونه واجبا ومندوبا ومباحا من فعل النبي

[الطُّرُقِ الَّتِي بِهَا تُعْرَفُ جِهَةُ الْفِعْلِ مِنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا وَمَنْدُوبًا وَمُبَاحًا مِنْ فِعْلُ النَّبِيِّ] فِي بَيَانِ الطُّرُقِ الَّتِي بِهَا تُعْرَفُ جِهَةُ الْفِعْلِ مِنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا، وَمَنْدُوبًا، وَمُبَاحًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمُتَابَعَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ. اعْلَمْ أَنَّ فِعْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَنْحَصِرُ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ مِنْهُ إجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ عِنْدَنَا، بَلْ لَا يَتَصَوَّرُ مِنْهُ وُقُوعُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ، فَهُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ التَّرْكِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ مَكْرُوهًا لَنَا، ثُمَّ الطَّرِيقُ قَدْ يَعُمُّ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَقَدْ يَخُصُّ الْبَعْضَ. فَالْعَامُّ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنُصَّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ الْقِسْمِ الْفُلَانِيِّ. ثَانِيهَا: أَنْ يُسَوِّيَهُ بِفِعْلٍ عُلِمَتْ جِهَتُهُ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَقَعَ امْتِثَالًا لِآيَةٍ مُجْمَلَةٍ، دَلَّتْ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَقَعَ بَيَانًا لِآيَةٍ مُجْمَلَةٍ دَلَّتْ عَلَى أَحَدِهَا. وَأَمَّا الْخَاصُّ بِالْوُجُوبِ، فَعُرِفَ بِطُرُقٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَقَعَ عَلَى صِفَةٍ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّهَا أَمَارَةُ الْوُجُوبِ، كَالصَّلَاةِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ. ثَانِيهَا: أَنْ يَقَعَ قَضَاءً لِعِبَادَةٍ عُلِمَ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَقَعَ جَزَاءَ شَرْطٍ كَفِعْلِ مَا وَجَبَ بِالنَّذْرِ. قُلْنَا: إنَّ النَّذْرَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ.

رَابِعُهَا: أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ لَأَخَلَّ بِتَرْكِهِ. خَامِسُهَا: ذَكَرَ الصَّيْرَفِيُّ أَنْ يَفْعَلَهُ فَصْلًا بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ جَزَاءً، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65] وَكَذَلِكَ مَا أَخَذَهُ مِنْ مَالِ رَجُلٍ وَأَعْطَاهُ لِآخَرَ، فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَخْذَ وَاجِبٌ. سَادِسُهَا: أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ، كَالْإِتْيَانِ بِالرُّكُوعَيْنِ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ. فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ مُبْطِلَةٌ فِي غَيْرِ الْخُسُوفِ، فَمَشْرُوعِيَّتُهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى نَقَلُوهُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي إيجَابِ الْخِتَانِ، وَهُوَ مُنْتَقِضٌ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ. مِنْهَا سُجُودُ السَّهْوِ، وَالتِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَلَمَّا جَازَ لَمْ يَجِبْ. وَكَذَلِكَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى التَّوَالِي فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْخَفَّافُ فِي الْخِصَالِ: فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْنَا إلَّا فِي خَصْلَتَيْنِ، أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بَيَانًا أَوْ يُقَارِنُهُ دَلَالَةٌ. وَأَمَّا الْخَاصُّ بِالنَّدْبِ فَأُمُورٌ: مِنْهَا قَصْدُ الْقُرْبَةِ مُجَرَّدًا عَنْ أَمَارَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَنْدُوبًا، وَبِكَوْنِهِ قَضَاءً لِمَنْدُوبٍ، وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَى الْفِعْلِ ثُمَّ يُخِلُّ بِتَرْكِهِ، كَتَرْكِهِ الْجُلُوسَ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا تَرْكُهُ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ بَعْدَ وُجُوبِهِ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ فِيهِ. قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَمِنْهَا بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلٍ آخَرَ ثَبَتَ [عَدَمُ] وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يَقَعُ بَيْنَ وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ النُّدُوبِ آكِدٌ مِنْ بَعْضٍ.

مسألة ما فعله الرسول مرة واحدة

قَالَ الْقَفَّالُ فِي " مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ ": وَمِمَّا تُعْرَفُ بِهَا الْآكَدِيَّةُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَوَاقِعِ الشُّكْرِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى مَا لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا أَدَاؤُهُ فِي جَمَاعَةٍ، فَيَكُونُ آكَدَ مِمَّا شَرَعَهُ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ شَعَائِرِ الْفَرَائِضِ. وَمِنْهَا التَّوْقِيتُ، فَالْفِعْلُ الْمُؤَقَّتُ أَفْضَلُ مِمَّا لَا وَقْتَ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ مِنْ مَعَالِمِ الْفُرُوضِ. وَجُعِلَ مِنْهُ الْوِتْرُ وَالرَّوَاتِبُ، وَمَا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَهُ فِي الرُّتْبَةِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ " مِنْ أَسْبَابِ الْآكَدِيَّةِ أَنَّ مَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ آكَدُ مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَهَذَا خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَتُعْرَفُ الْإِبَاحَةُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ وَتَنْتَفِي نَدْبِيَّتُهُ وَوُجُوبُهُ بِالْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، فَيُعْرَفُ أَنَّهُ مُبَاحٌ: قَالَ فِي الْمَحْصُولِ: وَبِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ رَاجِحَ التَّرْكِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ رَاجِحِ التَّرْكِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ رُجْحَانِ الْفِعْلِ فَثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَبِأَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ نَهْيٍ مِنْهُ، فَيُعْلَمُ زَوَالُ النَّهْيِ. وَمِثْلُهُ بِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ قُعُودًا خَلْفَ الْإِمَامِ الْقَاعِدِ، ثُمَّ صَلَّى قَاعِدًا، وَالنَّاسُ قِيَامٌ خَلْفَهُ. قَالَ: وَهَذَا إنَّمَا يَقَعُ فِي السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ. [مَسْأَلَةٌ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ مَرَّةً وَاحِدَةً] مَسْأَلَةٌ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً وَاحِدَةً يَأْتِي بِهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ. فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ فِي شَيْءٍ يَتَكَرَّرُ فِعْلُهُ كَثِيرًا، فَيَفْعَلُهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ عَلَى الْوَجْهِ [الْجَائِزِ] ؛ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَيُوَاظِبُ غَالِبًا عَلَى فِعْلِهِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهِ، كَالْوُضُوءِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا [كُلُّهُ ثَابِتٌ، وَالْكَثِيرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَمَّا الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فَلَمْ يَتَكَرَّرْ، وَإِنَّمَا] جَرَى

مسألة دخول الزمان والمكان فيما وقع من الأفعال للبيان

مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا يَقَعُ مِنْهُ إلَّا عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهِ، كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ "، وَرَدَّ بِهِ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ دُونَ بَلَدِهِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. [مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِيمَا وَقَعَ مِنْ الْأَفْعَالِ لِلْبَيَانِ] ِ] إذَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا لِبَيَانٍ، دَخَلَ فِي ذَلِكَ هَيْئَةُ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فَإِنَّمَا يَدْخُلَانِ حَيْثُ يَلِيقُ دُخُولُهُمَا، كَمَا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَقِيلَ: إنَّ تَكْرِيرَهُ لِلْفِعْلِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَكَان وَاحِدٍ، يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مَا وَقَعَ فِيهِ. وَقَدْ سَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ الْبَيَانِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْلُ النَّبِيِّ وَفِعْلُهُ الْمُوَافِقَانِ لِلْقُرْآنِ هَلْ هُمَا بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ أَوْ بَيَانُ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ] مَسْأَلَةٌ [قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلُهُ الْمُوَافِقَانِ لِلْقُرْآنِ هَلْ هُمَا بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ أَوْ بَيَانُ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ] نَقَلَ السَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَصْحَابِهِمْ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَوْلَهُ مَتَى وَرَدَ مُوَافِقًا لِلْقُرْآنِ، يُجْعَلُ صَادِرًا عَنْ الْقُرْآنِ وَبَيَانًا لِمَا فِيهِ. قَالَ: وَالشَّافِعِيَّةُ يَجْعَلُونَهُ بَيَانَ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا قُلْنَا: بَيَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّيَمُّمَ فِي حَقِّ الْجُنُبِ صَادِرٌ عَمَّا فِي الْقُرْآنِ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {أَوْ لامَسْتُمُ} [النساء: 43] الْجِمَاعُ دُونَ الْمَسِّ بِالْيَدِ، وَهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ بَيَانَ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ، وَيَحْمِلُونَ قَوْلَهُ: {أَوْ لامَسْتُمُ} [النساء: 43] عَلَى الْمَسِّ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَمَّا فِي الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شُرِعَ فِي الْحُكْمِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ فِي

مسألة طرق إثبات فعل النبي

الظَّاهِرِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْآيَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ بَيَانُ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ. قُلْت: وَسَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ عَكْسُهَا. [مَسْأَلَةٌ طُرُقُ إثْبَاتِ فِعْلِ النَّبِيّ] مَسْأَلَةٌ [طُرُقُ إثْبَاتِ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] إذَا قُلْنَا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، فَلَنَا فِي مَعْرِفَتِهِ ثَلَاثَ طُرُقٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُنْقَلَ إلَيْنَا أَنَّهُ فَعَلَهُ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا، كَفِعْلِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ التَّحَرُّمِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالِاعْتِدَالِ، فَإِنَّهُ مَنْقُولٌ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَعَلَ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا فِعْلُهُ. الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ هَذَا الْفِعْلُ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ لَا يُوَاظِبُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى الْأَفْضَلِ، وَكَقَوْلِنَا: الْوُضُوءُ الْمُرَتَّبُ الْمَنْوِيُّ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ أَفْضَلَ الْخَلْقِ لَا يُوَاظِبُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، فَثَبَتَ إتْيَانُهُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا مِثْلُهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ تَرَكَ النِّيَّةَ وَالتَّرْتِيبَ، لَوَجَبَ عَلَيْنَا تَرْكُهُ؛ لِدَلِيلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ كَمَا تَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ تَكُونُ فِي التُّرُوكِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا تَرْكُهُ، ثَبَتَ أَنَّهُ مَا تَرَكَهُ، بِفِعْلِهِ، وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّحِيَّاتِ» ، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ مِنْ إجْمَاعٍ أَوْ نَصٍّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا، حَكَمْنَا بِهِ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُ عُمُومٍ، وَإِلَّا فَهِيَ وَاجِبَةٌ، لَكِنْ لَا نَطْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِمُخَالَفَةِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَلَا يُفِيدُ الْقِيَاسُ، كَقَوْلِهِمْ: الْقِيَامُ هَيْئَةٌ مُعْتَادَةٌ، وَلَا تَتَمَيَّزُ الْعَادَةُ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَةِ، إلَّا بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ،

مسألة يحصل بفعل النبي جميع أنواع البيان

فَلَا جَرَمَ كَانَتْ وَاجِيَةً أَعْنِي الْقِرَاءَةَ لَا غَيْرُ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَهَاهُنَا مُخَالَفَةٌ لِلْعَادَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً حَاجَةٌ إلَى الذِّكْرِ، فَلَا تَجِبُ التَّسْبِيحَاتُ، فَهَذِهِ ضَعِيفَةٌ فِي مُقَابَلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ. [مَسْأَلَةٌ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّبِيّ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ، كَنَهْيِهِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً لَهَا سَبَبٌ، فَكَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَكَنَهْيِهِ عَنْ الْقَوَدِ فِي الطَّرَفِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ أَقَادَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّهْيِ الْكَرَاهَةَ فِي وَقْتٍ دُونَ التَّحْرِيمِ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ النَّسْخُ، فِي بَابِهِ. فَإِنْ تَعَارَضَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ فِي الْبَيَانِ فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا: تَقْدِيمُ الْقَوْلِ لِتَعَدِّيهِ بِصِيغَتِهِ. وَالثَّانِي: تَقْدِيمُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى وَأَقْوَى فِي الْبَيَانِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ لِتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى.

فصل في تعارض الفعلين

[فَصَلِّ فِي تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ] فَصْلٌ سَنَتَكَلَّمُ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ عَلَى تَعَارُضِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُنَا عَلَى تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ؛ لِتَعَلُّقِهِ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى تَعَارُضِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. [تَعَارُضُ الْفِعْلَيْنِ] أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْبَعْضُ مِنْهَا نَاسِخًا لِبَعْضٍ، أَوْ مُخَصِّصًا لَهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاجِبًا، وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ لَهُ، وَتَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ هُوَ النَّاسِخُ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ الْأَوَّلَ لَا يَنْتَظِمُ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ، هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ " الْمَحْصُولِ " ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: التَّخْيِيرُ. وَثَانِيهَا: تَقْدِيمُ الْمُتَأَخِّرِ كَالْأَقْوَالِ إذَا تَأَخَّرَ بَعْضُهَا. وَالثَّالِثُ: حُصُولُ التَّعَارُضِ وَطَلَبُ التَّرْجِيحِ مِنْ خَارِجٍ. قَالَ: كَمَا اتَّفَقَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، صُلِّيَتْ عَلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ صِفَةٍ، يَصِحُّ مِنْهَا سِتَّةَ عَشَرَ خَيَّرَ أَحْمَدُ فِيهَا، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَتَرَجَّحُ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ لِهَيْئَةِ الصَّلَاةِ،

وَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ الْأَخِيرَ مِنْهَا إذَا عُلِمَ، وَحَكَى صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ ابْنِ رُشْدٍ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَفْعَالِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَقْوَالِ، وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ وَائِلٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ «رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ» وَعَدَمُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَجُوزُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فَالنَّسْخُ، وَإِنْ جُهِلَ فَالتَّرْجِيحُ، وَإِلَّا فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ كَالْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ فَلَا تَعَارُضَ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: فِي " الْمَنْخُولِ " إذَا نُقِلَ فِعْلٌ، وَحُمِلَ عَلَى الْوُجُوبِ، ثُمَّ نُقِلَ فِعْلٌ يُنَاقِضُهُ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يُقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتِهَاءٌ لِمُدَّةِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَهَذَا مُحْتَمَلٌ فَيُتَوَقَّفُ فِي كَوْنِهِ نَاسِخًا، وَنَعْلَمُ انْتِهَاءَ ذَلِكَ الْحُكْمِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ. قَالَ: وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ إلَى أَنَّهُ نَسْخٌ، وَتَرَدَّدَ فِي الْقَوْلِ الطَّارِئِ عَلَى الْفِعْلِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْفَرْقِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَأَطْلَقَ إلْكِيَا عَدَمَ تَصَوُّرِ تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا عُلِمَ بِدَلَالَةٍ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إدَامَتُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَا بَعْدَهُ نَاسِخًا لَهُ. قَالَ: وَعَلَى مِثْلِهِ بَنَى الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ. فَقَالَ: وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَخْبَارُ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ آخَرُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَانَ يُؤْخَذُ مِنْ

مَرَاسِيمِ الرَّسُولِ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ. وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقُشَيْرِيّ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا وَقَعَ بَيَانًا، كَقَوْلِهِ: « (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) » فَآخِرُ الْفِعْلَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْسَخَ الْأَوَّلَ، كَآخِرِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ بِمَثَابَةِ الْقَوْلِ. اهـ. وَهَذَا مِنْ صُوَرِ مَا ذَكَرَهُ إلْكِيَا. وَصَرَّحَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْقَاضِي بِأَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي لَا يَقَعُ فِيهَا التَّعَارُضُ هِيَ الْمُطْلَقَةُ الَّتِي لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ مِنْ الرَّسُولِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَوَقَّفُ فِيهَا الْوَاقِفِيَّةُ، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا التَّعَارُضُ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ صِيَغٌ فِيهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَعَارُضُ الذَّوَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَغَايِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْأَوْقَاتِ، وَلَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِيُصْرَفَ التَّعَارُضُ إلَى مُوجِبَاتِ الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ مَوْقِعَ الْبَيَانِ، فَإِذَا اخْتَلَفَا وَتَنَافَيَا، وَلَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، فَالتَّعَارُضُ فِي مُوجِبِهِمَا كَالتَّعَارُضِ فِي مُوجِبِ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ: وَلَا يَرْجِعُ التَّعَارُضُ إلَى ذَاتَيْ الْفِعْلَيْنِ، بَلْ التَّلَقِّي وَالْبَيَانِ الْمَنُوطِ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ فِي مَعْنَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا. ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُ مَا نَقُولُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ تَجْوِيزُهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَحَدِهِمَا مَا يَتَضَمَّنُ حَظْرًا، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا أَمْ لَا. قَالَ: وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَا صِيَغَ لَهَا. ثُمَّ فَصَّلَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ بَيْنَ مَا يَقَعُ بَيَانًا، وَمَا لَا يَقَعُ بَيَانًا، كَقَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَآخِرُ الْفِعْلَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْسَخَ الْأَوَّلَ كَآخِرِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ بِمَثَابَةِ الْقَوْلِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ بَيَانًا فَإِنْ كَانَ فِي مَسَاقِ الْقُرَبِ فَالِاخْتِيَارُ أَنَّهُ عَلَى النَّدْبِ، فَلْيَجْرِ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْفِعْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ، كَالْقَوْلَيْنِ الْمُؤَخَّرَيْنِ.

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَجَدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ، وَكَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ قَبْلُ، فَرَأَى الْعُلَمَاءُ الْأَخْذَ بِذَلِكَ أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ تَبَعًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِيمَا إذَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلَانِ مُؤَرَّخَانِ مُخْتَلِفَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ التَّمَسُّكُ بِآخِرِهِمَا، وَاعْتِقَادُ كَوْنِهِ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ. وَقَالَ: وَقَدْ ظَهَرَ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ إلَى هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ: صَحَّ فِيهَا رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ وَرِوَايَةُ خَوَّاتٍ. ثُمَّ رَأَى الشَّافِعِيِّ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ مُتَأَخِّرَةٌ، وَقَدَّرَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِي غَزْوَةٍ سَابِقَةٍ. وَرُبَّمَا سَلَكَ مَسْلَكًا آخَرَ فَسُلِّمَ اجْتِمَاعُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ، وَرَآهُمَا مُتَعَارِضَيْنِ، ثُمَّ رَجَّحَ أَحَدَهُمَا، فَرَجَّحَ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ لِقُرْبِهَا مِنْ الْأُصُولِ، فَإِنَّ فِيهَا قِلَّةَ الْحَرَكَةِ وَالْأَفْعَالِ، وَهِيَ أَقْرَبُ إلَى الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، بَلْ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ " يَقْتَضِي عَكْسَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَخَوَّاتٌ مُتَقَدِّمُ الصُّحْبَةِ وَالسِّنِّ، فَجَعَلَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ. وَصَرَّحَ قَبْلَهُ بِأَنَّهُ رَجَّحَهَا لِمُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ أَقْوَى فِي مُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ. وَنَقَلَ إلْكِيَا فِي مِثْلِ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَتَلَقَّى مِنْهُمَا جَوَازَ الْفِعْلَيْنِ، وَيُحْتَاجُ فِي تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إلَى دَلِيلٍ. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَهَذَا مَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ: إنَّهُ ظَاهِرُ نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ [إنْ] اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْفِعْلَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ [تَوَقَّفْنَا فِي الْأَفْضَلِ] ، وَإِنْ ادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ [يَتَمَسَّكُ] بِرِوَايَةٍ بُطْلَانَ مَذْهَبِ صَاحِبِهِ [فَيُتَوَقَّفُ] وَلَا يُفْهَمُ الْجَوَازُ فِيهِمَا، [فَإِنَّهُمَا] مُتَعَارِضَانِ، وَيُعْلَمُ أَنَّ الْوَاقِعَ [مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أَحَدُهُمَا، وَلَا يُرَجَّحُ، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ وَاحِدٍ [فَنَحْكُمُ بِهِ وَنَتَوَقَّفُ] فِي الْآخَرِ. وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ، وَقَدْ رَجَّحَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ [لِقُرْبِهِ] إلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إذَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلَانِ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَأْوِيلُ أَحَدِهِمَا طُلِبَ التَّأْرِيخُ حَتَّى يُعْلَمَ الْآخِرُ، فَيَكُونُ هُوَ النَّاسِخَ، كَتَعَارُضِ الْقَوْلَيْنِ. هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَرَأَى الْقَاضِي أَنَّ النُّسَخَ هَاهُنَا لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ كَمَا دَعَتْ فِي الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَقْصُورٌ عَلَى فَاعِلِهِ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَلَيْسَ كَالصِّيَغِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَعَانٍ مُتَضَادَّةٍ. فَإِذَا وَجَدْنَا فِعْلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، حَمَلْنَاهُمَا عَلَى التَّجْوِيزِ وَالْإِبَاحَةِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَلَيْسَ الْقَاضِي مِنْ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَالصَّحِيحُ اتِّبَاعُ آخِرِ الْفِعْلَيْنِ. قَالَ: وَادَّعَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِتَأَخُّرِ رِوَايَةِ خَوَّاتٍ، فَإِنَّهَا فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَرِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ فِي غَيْرِهَا، وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا. قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ بَعْدَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ قَدَّمَ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ لِضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ، وَفِي التَّعَادُلِ بَيْنَهُمَا نَظَرٌ، فَذَكَرَهُ. قَالَ: وَأَشَارَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّ الْمُخْتَارَ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الْأَخْذِ بِآخِرِ الْأَمْرَيْنِ تَارِيخًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ اتِّبَاعُ آخِرِ الْفِعْلَيْنِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) قَدَّمُوا الْمُتَأَخِّرَ تَقْدِمَةً أَوْلَى وَأَفْضَلَ، لَا تَقْدِمَةَ نَاسِخٍ عَلَى مَنْسُوخٍ. اهـ.

التعارض بين القول والفعل

وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تُخَالِفُ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِي نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، إلَّا إذَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى تَكَرُّرِ هَذَا الْفِعْلِ الْخَاصِّ فِي حَقِّهِ، وَحَقِّ الْأُمَّةِ، فَحِينَئِذٍ إذَا تَرَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَتَى بِمُنَاقِضٍ لَهُ، أَوْ أَقَرَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى عَمَلٍ يُنَاقِضُهُ، كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِنَسْخِ الثَّانِي، وَعَلَى قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمَازِرِيِّ لَا يُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ لِذَلِكَ الْفِعْلِ، بَلْ يَكْتَفُونَ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى اقْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُطْلَقًا أَوْ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا أَوْ إبَاحَةً عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. فَمَتَى وَقَعَ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَقِيضُ ذَلِكَ الْفِعْلِ شُرِعَ لِلْأُمَّةِ الثَّانِي أَيْضًا، كَمَا كَانَ الْأَوَّلُ مَشْرُوعًا لَهُمْ، لَكِنْ هَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ نَسْخَ الْأَوَّلِ وَإِزَالَةَ الْحُكْمِ، أَوْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ جَائِزًا؟ وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ؟ هَذَا هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ الْإِمَامِ وَالْمَازِرِيُّ يَمِيلُ إلَى النَّسْخِ. أَمَّا إذَا نُقِلَ إلَيْنَا أَخْبَارٌ مُتَعَارِضَةٌ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا أَحَدُهَا كَيْفَ كَانَ، فَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِي الْكُلِّ، كَسُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ أَوْ الْأُذُنَيْنِ، فَهُنَا يُرَجَّحُ مَا يَتَأَيَّدُ بِالْأَصْلِ، فَنُرَجِّحُ الْمَنْكِبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَقْلِيلُ الْأَفْعَالِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا أَقَلُّ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا التَّرْجِيحُ حُكِمَ بِالتَّخْيِيرِ، كَأَخْبَارِ قَبْضِ الْأَصَابِعِ فِي التَّشَهُّدِ. [التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ] [التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ] وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ: وَيَتَحَصَّلُ مِنْ أَفْرَادِهِ

سِتُّونَ صُورَةً، وَبَيَانُهُ بِانْقِسَامِهَا أَوَّلًا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ عَلَى الْقَوْلِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُجْهَلَ التَّارِيخُ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إمَّا أَنْ يَتَعَقَّبَ الثَّانِي الْأَوَّلُ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ، أَوْ يَتَرَاخَى أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَهَذَانِ قِسْمَانِ آخَرَانِ، وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتِهِ، أَوْ خَاصًّا بِهِ، أَوَخَاصًّا بِهِمْ. وَالْفِعْلُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَكْرَارِهِ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُجُوبِ تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ فِيهِ، وَإِمَّا أَلَا يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْرَارِ دُونَ التَّأَسِّي أَوْ الْعَكْسُ. هَذَا حَصْرُ التَّقْسِيمِ فِيهَا، وَبَيَانُ ارْتِقَائِهَا إلَى الْعَدَدِ الْمُتَقَدِّمِ، أَنَّك إذَا ضَرَبْتَ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا تَعَقُّبُ الْفِعْلِ لِلْقَوْلِ أَوْ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، وَتَعَقُّبُ الْقَوْلِ لِلْفِعْلِ أَوْ تَرَاخِيهِ عَنْهُ فِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَنْقَسِمُ إلَيْهَا مِنْ كَوْنِهِ يَعُمُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ يَخُصُّهُ، أَوْ يَخُصُّ الْأُمَّةَ حَصَلَ فِيهَا اثْنَا عَشَرَ قِسْمًا، وَمَجْهُولُ الْحَالِ مِنْ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْقَوْلِ وَخُصُوصِهِ [لَهُ ثَلَاثَةٌ] أَيْضًا. فَهَذِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ قِسْمًا، تَضْرِبُهَا فِي أَقْسَامِ الْفِعْلِ الْأَرْبَعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّكْرَارِ وَالتَّأَسِّي أَوْ عَدَمِهَا أَوْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَنْتَهِي إلَى السِّتِّينَ صُورَةً مِنْ غَيْرِ تَدَاخُلٍ، وَأَكْثَرُهَا لَا يُوجَدُ فِي السُّنَّةِ، وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ يَخْتَلِفُ، وَيَطُولُ الْكَلَامُ فِيهِ، وَلَا تُوجَدُ هَذِهِ السِّتُّونَ مَجْمُوعَةً هَكَذَا فِي كِتَابِ أَحَدٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْخَطِيبِ فِي الْمَحْصُولِ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ مِنْ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ إمَّا أَنْ يَتَعَقَّبَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْ يَتَرَاخَى عَنْهُ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ تُضْرَبُ

فِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَنْقَسِمُ الْقَوْلُ إلَيْهَا مِنْ كَوْنِهِ عَامًّا لَنَا وَلَهُ، أَوْ خَاصًّا بِهِ، أَوْ خَاصًّا بِنَا، فَيَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا، وَالْمَجْهُولُ الْحَالِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ ثَلَاثَةٌ أُخْرَى بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْقَوْلِ وَخُصُوصِهِ أَيْضًا. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ فِي الْإِحْكَامِ انْقِسَامَ الْفِعْلِ إلَى الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَكَرُّرِهِ وَتَأَسِّي الْأُمَّةِ أَوْ لَا، أَوْ يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ دُونَ التَّأَسِّي أَوْ عَكْسُهُ، فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَضَرَبْتَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ صُورَةً فِي الْأَرْبَعَةِ حَصَلَ سِتُّونَ، وَقَدْ ذَكَرَ خِلَافًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ السِّتِّينَ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَاطَبِينَ، وَقَدْ فَعَلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُطْلَقًا، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْعُمُومِ، كَنَهْيِهِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ ثُمَّ صَلَاتُهُ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا قَضَاءً لِسُنَّةِ الظُّهْرِ، وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَنَهْيِهِ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْبُيُوتِ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِفِعْلِهِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا، وَجَعَلُوا الْفِعْلَ أَحَدَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي خُصِّصَ بِهَا الْعُمُومُ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ أَوْ تَأَخَّرَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ، وَبُنِيَ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنْ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ دَلَّ الْقَوْلُ عَلَى نَسْخِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِدُخُولِ الْمُخَاطَبِ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ عِنْدَ الْمَانِعِينَ لَهُ. وَالثَّانِي: جَعْلُ الْفِعْلِ خَاصًّا بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِمْضَاءُ الْقَوْلِ عَلَى عُمُومِهِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: وَنَسَبَهُ إلَى الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَعَلَى جَعْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قَرَنَ حَجًّا إلَى عُمْرَةٍ فَلْيَطُفْ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا» أَوْلَى مِمَّا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طَافَ طَوَافَيْنِ، لَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ قَوْلًا، وَالثَّانِي: حِكَايَةَ فِعْلٍ.

وَالثَّالِثُ: التَّوَقُّفُ، كَدَلِيلَيْنِ تَعَارَضَا فِي الظَّاهِرِ وَيُطْلَبُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ، وَجَعَلَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " الْخِلَافَ فِيمَا إذَا وَرَدَ قَوْلٌ مُجْمَلٌ، ثُمَّ صَدَرَ بَعْدَهُ فِعْلٌ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مَحَلَّ الْخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ كَانَ نَاسِخًا لِلْقَوْلِ إنْ تَأَخَّرَ، وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَفِيهِ مَا يَأْتِي مِنْ الْخِلَافِ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْقَوْلُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَيُجْهَلُ التَّارِيخُ فِي تَقَدُّمِهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ. كَقَوْلِهِ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: «كُلْ مِمَّا يَلِيك» ) وَتَتَبُّعُهُ الدُّبَّاءَ فِي جَوَانِبِ الصَّحْفَةِ. وَكَنَهْيِهِ عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا، وَعَنْ الِاسْتِلْقَاءِ، وَوَضْعِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي مِثْلِ هَذَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ لِقُوَّتِهِ بِالصِّيغَةِ، وَأَنَّهُ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَرْهَانٍ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَجَزَمَ بِهِ إلْكِيَا. قَالَ: لِأَنَّ فِعْلَهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَحَقُّ قَوْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّاهُ، " فَإِذَا اجْتَمَعَا تَمَسَّكْنَا بِقَوْلِهِ، وَحَمَلْنَا فِعْلَهُ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَالْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ "، وَالْآمِدِيَّ فِي " الْأَحْكَامِ "، وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ.

وَالثَّانِي: تَقْدِيمُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ، وَنُقِلَ عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا شَيْئَانِ، لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَنَصَرَهُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ". وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ مَحَلَّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيمَا إذَا تَعَارَضَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ فِي بَيَانِ مُجْمَلٍ، دُونَ مَا إذَا كَانَا مُبْتَدَأَيْنِ، وَبِهِ صَرَّحَ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى ". وَعَكَسَ الْقُرْطُبِيُّ، فَجَعَلَ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ، وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ مَحَلَّ هَذَا الْخِلَافِ أَيْضًا فِيمَا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ الْخَاصُّ عَلَى تَكَرُّرِ هَذَا الْفِعْلِ فِي حَقِّهِ، وَعَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ، وَعَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْمُعَارِضَ لَهُ خَاصٌّ بِهِ أَوْ بِالْأُمَّةِ، وَجُهِلَ التَّارِيخُ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ تَقْدِيمَ الْقَوْلِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ إذَا كَانَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَالْوَقْفُ. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مِثْلِ مَا مَثَّلْنَا بِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى لَمْ يَذْكُرْهَا أَهْلُ الْأُصُولِ هُنَا، وَهُوَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَجَعْلُ الْفِعْلِ بَيَانًا لِذَلِكَ، أَوْ حَمْلُ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عَلَى صُورَةٍ خَاصَّةٍ لَا تَجِيءُ فِي الْأُخْرَى كَالِاسْتِلْقَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إذَا بَدَتْ مِنْهُ الْعَوْرَةُ، وَجَائِزٌ إذَا لَمْ تَبْدُ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِيهَا بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِحَالَةِ تَعَذُّرِ إمْكَانِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهُ الَّذِي يَقَعُ فِيهَا التَّعَارُضُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا يَتَّجِهُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِحَمْلِ فِعْلِهِ عَلَى الْوُجُوبِ، فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْوَقْفِ، فَلَا شَكَّ عِنْدَهُمْ فِي تَقْدِيمِ الْقَوْلِ

مُطْلَقًا، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَإِلْكِيَا: إنْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ وَمَضَى وَقْتُ وُجُوبِهِ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، أَوْ فَعَلَ ضِدَّهُ عَلِمْنَا نَسْخَهُ، كَتَرْكِهِ قَتْلَ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ بَعْدَ أَمْرِهِ بِهِ. وَإِنْ فَعَلَ مَا يُضَادُّهُ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ دَلَّ عَلَى نَسْخِ حُكْمِ قَوْلِهِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ، وَلَمْ يُنْسَخْ عِنْدَ مَنْ مَنَعَهُ، وَإِنْ قَدَّمَ الْفِعْلَ كَانَ الْقَوْلُ نَاسِخًا لَهُ. وَقَدْ اسْتَشْكَلَ جَعْلُ الْفِعْلِ نَاسِخًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ النَّاسِخِ مُسَاوَاتُهُ لِلْمَنْسُوخِ، أَوْ أَقْوَى، وَالْفِعْلُ أَضْعَفُ، وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَاوَاةُ بِاعْتِبَارِ السَّنَدِ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ فِعْلًا، وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يُفَصَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُقَالُ: الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ إنْ كَانَ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبِحَضْرَتِهِ، فَقَدْ اسْتَوَيَا، وَإِنْ نُقِلَا إلَيْنَا تَعَيَّنَ أَنْ لَا يُقْضَى بِالنَّسْخِ إلَّا بَعْدَ اسْتِوَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرًا وَالْآخَرُ آحَادًا مَنَعْنَا نَسْخَ الْآحَادِ لِلْمُتَوَاتِرِ. قَالَ: وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَمَّا الْقَوْلُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْفِعْلُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا تَعَارَضَا، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ الْفِعْلُ عَلَى خَصَائِصِهِ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ.

القسم الثالث التقرير

[الْقِسْمُ الثَّالِثُ التَّقْرِيرُ] ُ وَصُورَتُهُ: أَنْ يَسْكُتَ النَّبِيُّ (- عَلَيْهِ السَّلَامُ -) عَنْ إنْكَارِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ قِيلَ، أَوْ فُعِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ، وَعَلِمَ بِهِ. فَذَلِكَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ فِعْلِهِ فِي كَوْنِهِ مُبَاحًا، إذْ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: هُوَ أَنْ يَرَاهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ، أَوْ يُخْبَرُ عَنْهُمْ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الطَّاعَةَ مِنْ عَمَلٍ فِي فَرْضٍ أَوْ عَمَلٍ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الْحِلَّ أَوْ التَّحْرِيمَ عِنْدَهُمْ، لَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، كَأَكْلِهِمْ الضَّبَّ بِحَضْرَتِهِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ الْوَدَائِعِ ": هُوَ عَلَى النَّدْبِ فَقَطْ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَالْمَانِعُونَ مِنْ التَّعَلُّقِ بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُسَلِّمُونَ أَنَّ تَقْرِيرَهُ لِغَيْرِهِ شُرِعَ لِنَفْيِ رَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ التَّقْرِيرِ بِالْمُقَرَّرِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ

بِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا دَلَّ التَّقْرِيرُ عَلَى انْتِفَاءِ الْحَرَجِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ بِمَنْ قُرِّرَ، أَوْ يَعُمُّ سَائِرَ الْمُكَلَّفِينَ؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ تَعُمُّ، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ارْتَفَعَ فِي حَقِّ وَاحِدٍ ارْتَفَعَ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ، وَذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى الثَّانِي، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ، وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيُّ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْجُمْهُورِ. هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ التَّقْرِيرُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا، وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ لِذَلِكَ الْفِعْلِ مَعْنًى يَقْتَضِي جَوَازَ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لِلْعُمُومِ، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا قُرِّرَ. وَقَالَ الرَّازِيَّ: إنْ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْوَاحِدِ حُكْمُهُ فِي الْكُلِّ، كَانَ ذَلِكَ التَّقْرِيرُ تَخْصِيصًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَإِلَّا فَلَا، وَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ عِنْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى قَطْعَ الْإِلْحَاقِ وَالِاخْتِصَاصِ بِمَنْ قُرِّرَ فَقَطْ، وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ التَّعَدِّيَ إلَى الْكُلِّ، وَقَدْ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ بِأَنَّ الْفِعْلَ إذَا سَبَقَ تَحْرِيمُهُ فَيَبْقَى تَقْرِيرُهُ نَسْخًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَوْلَا أَنَّ التَّقْرِيرَ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ لَكَانَ تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ تَقْرِيرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلصَّلَاةِ قِيَامًا خَلْفَهُ وَهُوَ جَالِسٌ نَاسِخٌ لِأَمْرِهِ السَّابِقِ بِالْقُعُودِ.

شروط حجية التقرير

الْأَمْرُ الثَّانِي: إذَا تَضَمَّنَ رَفْعَ الْحَرَجِ إمَّا خَاصًّا أَوْ عَامًّا، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، أَوْ لَا، يَقْضِي بِكَوْنِهِ مُبَاحًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ نَدْبًا، بَلْ يُحْتَمَلُ، فَيَتَوَقَّفُ؟ ذَهَبَ الْقَاضِي إلَى الثَّانِي، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْإِبَاحَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الِاسْتِبَاحَةِ لِمَا أَقَرَّ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا إلْكِيَا، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبَاحٌ بِالْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا بِسَبَبٍ، وَهَذَا مِنْهُمْ تَعَلُّقٌ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُبَاحٌ بِالشَّرْعِ حِينَ أُقِرُّوا عَلَيْهَا، وَهُمَا الْوَجْهَانِ فِي أَصْلِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، هَلْ كَانَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى حَظَرَهَا الشَّارِعُ أَوْ عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى أَبَاحَهَا؟ وَلَمْ يَقِفْ الشَّيْخُ السُّبْكِيُّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَسَأَلَهُ الصَّدْرُ بْنُ الْوَكِيلِ، فَلَمْ يَسْتَحْضِرْ فِيهِ نَصًّا، وَرَجَّحَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلٍ، حَتَّى يُعْرَفَ حُكْمُهُ. فَمِنْ هُنَا دَلَّ التَّقْرِيرُ عَلَى الْإِبَاحَةِ [شُرُوطُ حُجِّيَّةِ التَّقْرِيرِ] [شُرُوطُ حُجِّيَّةِ التَّقْرِيرِ] إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّمَا يَكُونُ التَّقْرِيرُ حُجَّةً بِشُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ لَفْظِ التَّقْرِيرِ، وَخَرَجَ مِنْ هَذَا مَا فُعِلَ فِي عَصْرِهِ مِمَّا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَالِبًا، كَقَوْلِهِمْ: كُنَّا نُجَامِعُ وَنَكْسَلُ، وَمَا فُعِلَ فِي عَهْدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَمْ يُعْلَمْ انْتِشَارُهُ انْتِشَارًا يَبْلُغُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَهَلْ يُجْعَلُ ذَلِكَ سُنَّةً وَشَرِيعَةً مِنْ شَرَائِعِهِ؟ جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُلَخَّصِ " بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي

شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْأَقِطِ: هَلْ يَجُوزُ فِي الْفِطْرَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ بَلَغَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا كَانُوا يُخْرِجُونَهُ فِي الزَّكَاةِ فِي الْأَقِطِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ أَقِطٍ» ، فَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِي هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، وَأَضَافَهُ إلَى عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ مِمَّا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ حُمِلَ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَيَكُونُ شَرْعًا لَنَا، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَخْفَى، فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذِكْرُهُ حُمِلَ عَلَى إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيمَا كَثُرَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى، كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: «كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ» قَالَ: وَعَلَى هَذَا إذَا خَرَّجَ الرَّاوِي الرِّوَايَةَ مَخْرَجَ الْكَثِيرِ بِأَنْ قَالَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، حُمِلَتْ الرِّوَايَةُ عَلَى عَمَلِهِ وَإِقْرَارِهِ، وَصَارَ كَالْمَنْقُولِ شَرْعًا، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظِ التَّكْثِيرِ، كَقَوْلِهِ: فَعَلُوا كَذَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَلَا يَثْبُتُ شَرْعٌ بِاحْتِمَالٍ. أَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ أَوْ أَطْلَقَ فَسَيَأْتِي. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْإِنْكَارِ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ. فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ خَصَائِصِهِ عَدَمَ سُقُوطِ وُجُوبِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، وَعَدَمَ السُّقُوطِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ خَوْفٌ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ إخْبَارِ اللَّهِ بِعِصْمَتِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: وَإِنَّمَا اخْتَصَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِوُجُوبِهِ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]

الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْكِرْهُ لَكَانَ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِلَّا لَأَمَرَ بِتَرْكِهِ. اهـ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يُعْقَلُ هَذَا الشَّرْطُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: كَوْنُ الْمُقَرِّ عَلَى الْفِعْلِ مُنْقَادًا لِلشَّرْعِ، سَامِعًا مُطِيعًا، فَالْمُمْتَنِعُ كَالْكَافِرِ لَا يَكُونُ التَّقْرِيرُ فِي حَقِّهِ دَالًّا عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَأَلْحَقَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُنَافِقَ، وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ؛ لِأَنَّا نُجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ ظَاهِرًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ وَالِانْقِيَادِ فِي الْجُمْلَةِ، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " فِي تَقْرِيرِ الْمُنَافِقِ خِلَافًا، وَمَالَ إلْكِيَا إلَى مَا قَالَهُ إمَامُهُ. قَالَ:؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ كَثِيرًا مَا يَسْكُتُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ عِلْمًا مِنْهُ أَنَّ الْعِظَةَ لَا تَنْفَعُ مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ حَقِيقًا بِهِمْ، وَشَرَطَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ كَوْنَ التَّقْرِيرِ بَعْدَ ثُبُوتِ الشَّرْعِ، وَأَمَّا مَا كَانَ يُقِرُّ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ، حِينَ كَانَ دَاعِيًا إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الثَّانِي، وَشَرَطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ إنْكَارٌ سَابِقٌ قَالَ: وَإِذَا ذَمَّ الرَّسُولُ فَاعِلًا بَعْدَ إقْرَارِهِ عَلَى فِعْلِ مِثْلِهِ، دَلَّ عَلَى حَظْرِهِ بَعْدَ إبَاحَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ هُوَ الذَّمُّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، دَلَّ عَلَى الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ. قَالَ: وَإِذَا عُلِمَ مِنْ حَالِ مُرْتَكِبِ الْمُنْكَرِ أَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ يَزِيدُهُ إغْرَاءً عَلَى مِثْلِهِ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ غَيْرُ الرَّسُولِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ؛ لِئَلَّا يَزْدَادَ مِنْ الْمُنْكَرِ بِالْإِغْرَاءِ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ الرَّسُولُ فَفِي إنْكَارِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ لِمَا ذُكِرَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ إنْكَارُهُ لِيَزُولَ بِالْإِنْكَارِ تَوَهُّمُ الْإِبَاحَةِ. قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ

صور التقرير

أَظْهَرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الرَّسُولُ مُخَالِفًا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْحَظْرَ شَرْعٌ مُخْتَصٌّ بِالرَّسُولِ دُونَ غَيْرِهِ، وَشَرَطَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ أَنْ لَا نَجِدَ لِلسُّكُوتِ مَحْمَلًا سِوَى التَّقْرِيرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ. فَلَوْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِبَيَانِ حُكْمٍ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ، فَرَأَى إنْسَانًا عَلَى أَمْرٍ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، فَلَا يَكُونُ تَرْكُهُ ذَلِكَ تَقْرِيرًا إذْ لَا يُمْكِنُهُ تَقْرِيرُ جَمِيعِ الْمَوَانِعِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ: وَلِهَذَا أَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي صَدْرِ الشَّرْعِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ الْأَمْرُ لَا يُدَّعَى فِيهِ النَّسْخُ، بَلْ إذَا ثَبَتَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ فَهُوَ النَّسْخُ. فَأَمَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قَرَّرَ الرَّسُولُ فِيهِ حُكْمًا، فَلَا يُقَالُ: كَانَ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمُ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا ثُمَّ نُسِخَ، إذْ رُبَّمَا لَمْ يَتَفَرَّغْ الرَّسُولُ لِبَيَانِهِ، أَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ. مِثَالُهُ: قَوْلُ الْخَصْمِ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ: كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ انْتِفَاءُ الْحَظْرِ فِي الْمَنْكُوحَاتِ، ثُمَّ طَرَأَ الْحَظْرُ، فَنُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَهَذَا مُجَازَفَةٌ: إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنَّهُمْ كَانُوا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْعًا، بَلْ جَرْيًا عَلَى حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ. ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ بَيَانًا مُبْتَدَأً، وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُكْمَ، لَمْ يُقْطَعْ بِمَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ التَّقْرِيرِ، بَلْ يُقَالُ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ إذْ لَا عُثُورَ فِيهِ عَلَى شَرْعٍ؛ لِانْدِرَاسِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهَذَا لَا يُقْضَى فِيهِ بِحُكْمٍ أَصْلًا. اهـ. [صُوَرُ التَّقْرِيرِ] [صُوَرُ التَّقْرِيرِ] ثُمَّ فِي التَّقْرِيرِ صُوَرٌ تَعَرَّضَ لَهَا الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": إحْدَاهَا: أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ وُقُوعِ فِعْلٍ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، هَلْ هُوَ مِنْ

لَوَازِمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْ بَيَانِ كَوْنِهِ لَازِمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِإِتْلَافٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ تَعَلُّقِ الضَّمَانِ أَوْ عَدَمِهِ، كَإِتْلَافِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ مَثَلًا، فَسُكُوتُهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهِ، وَكَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ عَلَى وَجْهٍ مَا، وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْهُ دَلَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ. وَثَانِيَتُهَا: أَنْ يُسْأَلَ عَنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، لَا يَلْزَمُ مِنْ سُكُوتِهِ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ظَنُّ الْفَاعِلِ أَوْ الْقَائِلِ يَقْتَضِي أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ امْتِنَاعِهِ، فَهَلْ يَكُونُ هَذَا السُّكُوتُ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَازِ، بِنَاءً عَلَى ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنَّ الْمُطَلِّقَ إنَّمَا أَرْسَلَ الثَّلَاثَ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ بَقَاءَ النِّكَاحِ، فَيَقْضِي ظَنُّهُ بِكَوْنِ الْمَفْسَدَةِ وَاقِعَةً عَلَى تَقْدِيرِ امْتِنَاعِ الْإِرْسَالِ. هَذَا إذَا ظَهَرَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ وَالْحَاضِرِينَ عَقِبَ طَلَاقِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِاللِّعَانِ، وَإِلَّا فَيَكُونُ الْبَيَانُ وَاجِبًا لِمَفْسَدَةِ الْوُقُوعِ فِي الْإِرْسَالِ. وَمِثَالُهُ أَيْضًا: اسْتِبْشَارُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِإِلْحَاقِ الْقَائِفِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَسَبَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَإِنَّ الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ إلْحَاقَ الْقَائِفِ يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ الْإِلْحَاقَ مَفْسَدَةٌ

فِي صُورَةِ الِاشْتِبَاهِ، وَنَسَبُ أُسَامَةَ لَاحِقٌ بِالْفِرَاشِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمَفْسَدَةُ عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الطَّاعِنُونَ فِي النِّسْبَةِ اعْتَقَدُوا أَنَّ إلْحَاقَ الْقَافَةِ صَحِيحٌ، اقْتَضَى ذَلِكَ الظَّنُّ مِنْهُمْ مَعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا عَدَمَ الْمَفْسَدَةِ فِي إلْحَاقِ الْقَائِفِ. وَثَالِثَتُهَا: أَنْ يُخْبَرَ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَيَسْكُتُ عَنْهُ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ، كَمَا لَوْ قِيلَ بِحَضْرَتِهِ: هَذَا الْفِعْلُ وَاجِبٌ أَوْ مَحْظُورٌ إلَى غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحْكَامِ. وَرَابِعَتُهَا: أَنْ يُخْبَرَ بِحَضْرَتِهِ عَنْ أَمْرٍ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ، فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ دَلِيلًا عَلَى مُطَابَقَتِهِ؟ كَحَلِفِ عُمَرَ بِحَضْرَتِهِ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ الدَّجَّالُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ هُوَ؟ وَفِي تَرْجَمَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ. قَالَ الشَّيْخُ: وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَدُلُّ؛ لِأَنَّ مَأْخَذَ الْمَسْأَلَةِ وَمَنَاطَهَا أَعْنِي كَوْنَ التَّقْرِيرِ حُجَّةً هُوَ الْعِصْمَةُ مِنْ التَّقْرِيرِ عَلَى بَاطِلٍ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ الْبُطْلَانِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ تَحَقُّقُ الْعِصْمَةِ. نَعَمْ، التَّقْرِيرُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْيَمِينِ عَلَى حَسَبِ الظَّنِّ، وَأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ حَلَفَ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ. اهـ. وَيَلْتَحِقُ بِالتَّقْرِيرِ صُوَرٌ أُخْرَى. إحْدَاهَا: ذَكَرَهَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَهِيَ مَا يَبْلُغُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْهُمْ، وَيَعْلَمُهُ ظَاهِرًا مِنْ حَالِهِمْ، وَتَقَرَّرَ عِنْدَهُ مِنْ عَادَاتِهِمْ، مِمَّا سَبِيلُهُ الِانْتِشَارُ وَالِاشْتِهَارُ، فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِنَكِيرٍ، كَنَوْمِ الصَّحَابَةِ قُعُودًا يَنْتَظِرُونَ

الصَّلَاةَ، فَلَا يَأْمُرُهُمْ بِتَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ، وَكَعِلْمِهِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا، وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ. قَالَ: وَيَتَّصِلُ بِهَذَا مَا اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِهِ مِنْ إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فِي أَشْيَاءَ سَكَتَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْهَا مِنْ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَهَا كَمَا يَتَّخِذُونَ الْكُرُومَ وَالنَّخِيلَ، وَكَانَ الْأَمْرُ فِي إرْسَالِهِ الْمُصَدِّقِينَ وَالسُّعَاةَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ ظَاهِرًا بَيِّنًا، وَكَانَ إذَا بَعَثَهُمْ كَتَبَ لَهُمْ الْكُتُبَ، فَتُقْرَأُ بِحَضْرَتِهِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهَا، فَلَوْ كَانَ يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ لَأَمَرَ بِأَخْذِهِ، وَلَوْ أَمَرَ لَظَهَرَ كَمَا ظَهَرَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي فِيهَا الْوُجُوبُ لِلْأَخْذِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهَا، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبِيعُونَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهَا لَمْ تَجْرِ بِهَذَا الْمَجْرَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِنَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ كَانَ يَبْلُغُهُ هَذَا الْفِعْلُ عَنْهُمْ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ بَيْعِهِنَّ مِنْ وُجُوهٍ، فَلَمْ يُعْتَرَضْ بِهِ عَلَى تِلْكَ الدَّلَالَةِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ مِنْ صُوَرِ كَوْنِ الشَّيْءِ مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَلَا يَتَعَرَّضُ فِيهِ بِالْأَخْذِ وَالْإِيجَابِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي الْخَضْرَاوَاتِ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ، فَلَمْ يَبْلُغْهُمَا أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهَا الزَّكَاةَ أَوْ أَوْجَبَهَا. قَالَ: وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ تَرْكُهُ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْفَرْضِ، فَأَمَّا الْمُبَايَعَاتُ وَالْإِجَارَةُ الَّتِي لَمْ تَرِدْ فِيهَا النُّصُوصُ الْمُبَيِّنَةُ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، فَلَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ دَلِيلًا عَلَى الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوَاتِ، وَقَدْ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُودَعَةِ فِي النُّصُوصِ، وَلَا يَكْفِي إقَامَةُ الدَّلَالَةِ فِي مِثْلِ الْخَضْرَاوَاتِ، بَلْ الْأَخْذُ وَالتَّقَدُّمُ بِالْإِحْرَامِ إنْ كَانَ فِيهَا فَرْضٌ. اهـ.

أحكام سكوت النبي

[أَحْكَامُ سُكُوتِ النَّبِيِّ] أَحْكَامُ سُكُوتِهِ] ثُمَّ تَكَلَّمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى أَحْكَامِ سُكُوتِهِ، وَقَدْ نَقَلَهَا إلَى دَلِيلِ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا هُنَاكَ فَلْتُرَاجَعْ، وَقَدْ ذَكَرَهَا إلْكِيَا، وَهُوَ أَنْ يَسْكُتَ عَمَّا لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ، وَمِمَّا ذُكِرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُسْتَفْتِي لَيْسَ خَبِيرًا بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ بَصِيرًا بِالْأَحْكَامِ. قَالَ: فَسُكُوتُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِثْلِ ذَلِكَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا لَزِمَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَبَيَّنَهُ. وَمِثَالُهُ: مَا رُوِيَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا مُحْرِمًا جَاءَ إلَى الرَّسُولِ، وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مُضَمَّخٌ بِالْخَلُوقِ، فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: انْزِعْ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ الصُّفْرَةَ، وَاصْنَعْ فِي حَجَّتِك مَا تَصْنَعُ فِي عُمْرَتِك» ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهَا؛ لِجَهْلِ الْأَعْرَابِيِّ، فَإِنَّ مَنْ جَهِلَ جَوَازَ اللُّبْسِ، فَهُوَ بِالْفِدْيَةِ أَجْهَلُ، وَكَذَلِكَ سُكُوتُهُ فِي قَضِيَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الْمَجَامِعِ عَنْ بَيَانِ حَالِ الْمَرْأَةِ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَحْدَاثِ؛ لِأَنَّ الْأَحْدَاثَ مُقْصَاةٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَحْدَاثِ لَذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَوْ كَانَ حَدَثًا كَانَ

مِنْ الْأَحْدَاثِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، وَاقْتِبَاسُ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَاسِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ: بَيَّنَ جِبْرِيلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتَيْنِ، وَلَمْ يُبَيِّنُ لِلْمَغْرِبِ وَقْتَيْنِ، وَإِنَّمَا جَاءَ مُبَيِّنًا لِلْأَوْقَاتِ، فَلَوْ كَانَ لَهَا وَقْتَانِ لَبَيَّنَهُ جِبْرِيلُ. قَالَ: وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ لَمْ تَشْمَلْهُ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ ذِكْرٌ فِيهَا، كَمَا لَوْ أَتَى بِزَانٍ فَأَمَرَ بِالْجَلْدِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَهْرَ، وَالْعِدَّةَ وَنَحْوَهُمَا، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْتَجُّ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَالُ بِهِ عَلَى الْبَيَانِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا سُكُوتُ الرَّاوِي، قَدْ يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَإِذَا سَاقَ الرَّاوِي قَضِيَّةً ظَهَرَ مِنْهَا أَنَّهُ بَعْدَ اسْتِغْرَاقِهَا بِالْحِكَايَةِ أَنَّهُ لَمْ يُغَادِرُ مِنْ مَشَاهِيرِ أَحْكَامِهَا شَيْئًا كَمَا نَقَلَ الرَّاوِي قَضِيَّةَ مَاعِزٍ مِنْ مُفْتَتَحِهَا إلَى مُخْتَتَمِهَا، وَلَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ جَلَدَ، وَرُدَّ عَلَى هَذَا مِنْ ظَنِّ الْمُعْتَرِضِ أَنَّ الْجَلْدَ لَا يَتَشَوَّفُ إلَى نَقْلِهِ عِنْدَ نَقْلِ الرَّجْمِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَفَلٍ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَيُجَابُ بِأَنَّ سِيَاقَ الْقَضِيَّةِ وَاسْتِغْرَاقَهُ بِتَفَاصِيلِهَا بِالْحِكَايَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْجَلْدِ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الْجَلْدِ، إذْ لَوْ جَرَى الْجَلْدُ لَنَقَلَهُ. وَمِنْهُ: حِكَايَةُ الْمَوَاقِعِ فِي الصُّوَرِ النَّادِرَةِ، وَالظَّنُّ بِالرَّاوِي أَنَّهُ إذَا نَقَلَ الْحَدِيثَ أَنْ يَنْقُلَ بِصُورَتِهَا إذَا كَانَتْ الصُّورَةُ نَادِرَةً، فَإِذَا سَكَتَ عَنْهَا فَسُكُوتُهُ حُجَّةٌ. مِثَالُهُ: مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَقَادَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ» ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ: لَعَلَّ كَافِرًا قَتَلَ كَافِرًا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى نُدُورٍ، وَتَشَوُّفِ الطِّبَاعِ إلَى نَقْلِ الْغَرَائِبِ، وَهَذَا حَسَنٌ. اهـ. الثَّانِيَةُ: إذَا اسْتَبْشَرَ مِنْ فِعْلِ الشَّيْءِ أَوْ قَوْلِهِ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ جَائِزًا حَسَنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحْسِنُ مَمْنُوعًا مِنْهُ. يَبْقَى أَنَّهُ هَلْ اسْتَحْسَنَهُ

لِكَوْنِهِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ شَرْعًا؟ أَوْ لِكَوْنِهِ لِغَرَضٍ عَادِيٍّ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرُقَهُ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلِكَوْنِهِ مَبْعُوثًا لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ، وَأَمَّا غَضَبُهُ، وَتَغَيُّرُ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ مِنْ شَيْءٍ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ هَلْ ذَلِكَ الْمَنْعُ عَلَى جِهَةِ التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهِيَةِ؟ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ، وَالْمَرْجِعُ فِي هَذَا النَّظَرُ فِي قَرَائِنِ أَحْوَالِهِ وَقْتَ غَضَبِهِ، فَيُحْكَمُ بِهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ فَالظَّاهِرُ التَّحْرِيمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِبْشَارَ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْجَوَازِ مِنْ السُّكُوتِ، وَلِذَلِكَ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ فِي إثْبَاتِ الْقِيَافَةِ وَإِلْحَاقِ النَّسَبِ بِهَا بِاسْتِبْشَارِ النَّبِيِّ بِقَوْلِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَقَدْ بَدَتْ لَهُ أَقْدَامُ زَيْدٍ وَأُسَامَةَ: إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَاسْتَضْعَفَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ "، وَقَالَ: إنَّمَا سُرَّ بِكَلِمَةِ صِدْقٍ صَدَرَتْ مِمَّنْ هُوَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ عَلَى مُنَاقَضَةِ قَوْلِهِمْ لَمَّا قَدَحُوا فِي نِسْبَةِ أُسَامَةَ إلَى زَيْدٍ، إذْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَأَذَّى بِهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَلْحَقَ نَسَبَهُ بِمَعْلُومٍ عِنْدَهُ. اهـ. وَرَدَّ عَلَيْهِ الطَّرَسُوسِيُّ، وَقَالَ: لَوْ احْتَجَّ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ لَدُحِضَتْ حُجَّتُهُ عِنْدَهُمْ، وَلَقَالُوا: كَيْفَ تَحْتَجُّ عَلَيْنَا بِالرَّمْزِ وَالْقِيَافَةِ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهِ؟ وَنَقَلَ إلْكِيَا أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ أُورِدَ عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ بِالرَّسُولِ، وَقَوْلُ مُجَزِّزٍ لَغْوٌ، إذْ الْقَائِفُ يُقْضَى بِهِ

فِي بَيَانِ نَسَبٍ مُلْتَبِسٍ، وَلَكِنْ كَانَ الِاسْتِبْشَارُ لِانْقِطَاعِ مَظَاهِرِ الْكُفَّارِ عَنْ نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. فَقَالَ مُجِيبًا: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَافَةِ أَصْلٌ لَمْ يَسْتَبْشِرْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ التَّلْبِيسَ، وَقَدْ كَانَ شَدِيدَ النَّكِيرِ عَلَى الْكُهَّانِ وَالْمُنَجِّمِينَ، وَمَنْ لَا يَسْتَنِدُ قَوْلُهُمْ إلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْقِيَافَةُ مُعْتَبَرَةً، لَكَانَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

القسم الرابع ما هم به الرسول

[الْقِسْمُ الرَّابِعُ مَا هَمَّ بِهِ الرَّسُولُ] الْقِسْمُ الرَّابِعُ مَا هَمَّ بِهِ وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ لِلْخَطِيبِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مَعَ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ تَنْكِيسَهُ بِجَعْلِ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ مُحْتَجًّا «بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَسْفَلَهَا، فَيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا، فَلَمَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ قَلَبَهَا عَلَى عَاتِقِهِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَيُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِمَا هَمَّ بِهِ الرَّسُولُ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ قَالَ الْأَصْحَابُ - وَمِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِحْرَامِ نَقْلًا عَنْ الشَّافِعِيِّ -: إنَّهُ يُقَدَّمُ الْقَوْلُ عَلَى الْفِعْلِ، ثُمَّ الْهَمُّ.

القسم الخامس الإشارة

[الْقِسْمُ الْخَامِسُ الْإِشَارَة] الْقِسْمُ الْخَامِسُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ كَإِشَارَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إلَى أَيَّامِ الشَّهْرِ الْكَامِلِ، حَيْثُ قَالَ: «الشَّهْرُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ أَشَارَ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَبَضَ فِي الثَّالِثَةِ الْإِبْهَامَ» ، فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ، وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَقَوْلُهُ: " الشَّهْرُ " عَامٌّ فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا مَعْهُودَ يَصِيرُ إلَيْهِ، وَهَذَا مُبْطِلٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ رَمَضَانَ لَا يَنْقُصُ، حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ".

القسم السادس الكتابة

[الْقِسْمُ السَّادِسُ الْكِتَابَةُ] ُ: مِثْلُ كِتَابَتِهِ إلَى عُمَّالِهِ فِي الصَّدَقَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَزَادَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: التَّنْبِيهَ عَلَى الْعِلَّةِ، كَحَصْرِهِ الرِّبَا فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ، تَنْبِيهًا عَلَى جَرَيَانِهِ فِي كُلِّ مَا شَارَكَهَا. قَالَ: وَيُقَدَّمُ الْقَوْلُ، ثُمَّ الْفِعْلُ، ثُمَّ الْإِشَارَةُ، ثُمَّ الْكِتَابَةُ، ثُمَّ التَّنْبِيهُ عَلَى الْعِلَّةِ، وَهَذَا ذَكَرَهُ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ، فَذَكَرَ أَنَّ سُنَّتَهُ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَرْبَعٍ: الْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ، وَالتَّقْرِيرِ. ثُمَّ قَالَ: وَالرَّابِعُ: أَنْ يَرَوْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَفْعَلُ أَوْ يَتْرُكُ، فَيَفْهَمُهُ أَخِصَّاؤُهُ عَنْهُ، وَمَا أَرَادَ بِهِ، فَيَتَدَيَّنُوا بِذَلِكَ؛ لِفَهْمِهِمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ مُرَادَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ فِي الظَّاهِرِ أَقَلَّ مِنْ الْمَعْنَى كَنَهْيِهِ عَنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الرِّبَوِيَّةِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ طَعَامٍ لَهُ مَرْجُوعٌ وَاحِدٌ، يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ فِي الرَّبَّا، وَأَجْمَعُوا فَقَالُوا: كُلُّ مَا لَمْ يُسَمِّهِ لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَيْنِهِ فَهُوَ لَنَا مُبَاحٌ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ فِي الْبَقَرِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْجَوَامِيسَ كَذَلِكَ إذْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَذَكَرَ لِذَلِكَ نَظَائِرَ.

القسم السابع الترك

[الْقِسْمُ السَّابِعُ التَّرْكُ] ُ] لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَرْكِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ دَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّهُ لَوْ دَلَّ عَلَيْهِ لَدَلَّ التَّرْكُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إذَا تَرَكَ الرَّسُولُ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَمَّا قُدِّمَ إلَيْهِ الضَّبُّ، فَأَمْسَكَ عَنْهُ، وَتَرَكَ أَكْلَهُ، فَأَمْسَكَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَتَرَكُوهُ إلَى أَنْ قَالَ لَهُمْ: إنِّي أَعَافُهُ» ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَعْنًى، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إذَا فَعَلَهُ لِمَعْنًى زَالَ، هَلْ يَبْقَى سُنَّةً، وَمِثَالُهُ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَرَكَهَا خَشْيَةَ الِافْتِرَاضِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى زَالَ بَعْدَهُ، فَمِنْ ثَمَّ حَصَلَ الْخِلَافُ فِي اسْتِحْبَابِهَا. [الْحُكْمُ فِي حَادِثَةٍ لَمْ يَحْكُمْ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَظِيرِهَا بِشَيْءٍ] إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَحْكُمْ فِيهَا بِشَيْءٍ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَنَا أَنْ نَحْكُمَ فِي نَظِيرِهَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْلِهِمْ: تَرْكُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْحُكْمَ فِي حَادِثَةٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ الْحُكْمِ فِي نَظِيرِهَا، وَقَالَ: هَذَا كَرَجُلٍ شَجَّ رَجُلًا شَجَّةً، فَلَمْ يَحْكُمْ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

بِحُكْمٍ، فَيُعْلَمُ بِتَرْكِهِ لِذَلِكَ أَنْ لَا حُكْمَ لِهَذِهِ الشَّجَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ التَّوَقُّفُ، وَلَنَا أَنَّ عَدَمَ نَصِّ اللَّهِ فِي الْحَادِثَةِ عَلَى حُكْمٍ لَا يُوجِبُ تَرْكَ الْحُكْمِ فِي نَظِيرِهَا، فَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ.

الكلام في الأخبار

[الْكَلَامُ فِي الْأَخْبَارِ] [الْمَوْطِنُ الْأَوَّلُ مَدْلُولِ الْخَبَرِ] ِ اعْلَمْ أَنَّ أَسَاسَ النُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْأَخْبَارِ، وَأَكْثَرُ الْأَخْبَارِ مُسْتَفَادٌ مِنْهَا، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ فَحَقِيقٌ الِاهْتِمَامُ بِهِ؛ لِمَا يُؤَمَّلُ لِمَعْرِفَتِهِ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالْكَلَامُ فِي الْخَبَرِ فِي مَوَاطِنَ: الْمَوْطِنُ الْأَوَّلُ فِي مَدْلُولِهِ أَمَّا لُغَةً: فَمُشْتَقٌّ مِنْ الْخَبَارِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الرَّخْوَةُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يُثِيرُ الْفَائِدَةَ، كَمَا أَنَّ الْأَرْضَ الْخَبَارَ تُثِيرُ الْغُبَارَ إذَا قَرَعَهَا الْحَافِرُ، وَيُطْلَقُ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: الْمُحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْأُصُولِيِّينَ. وَثَانِيهَا: عَلَى مُقَابِلُ الْمُبْتَدَأِ نَحْوُ: قَائِمٍ، مِنْ زَيْدٌ قَائِمٌ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ نَحْوِيٌّ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ؛ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُفْرَدٌ لَا يَحْتَمِلُهُمَا، وَاَلَّذِي يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ إنَّمَا هُوَ الْمُرَكَّبُ قَسِيمُ الْإِنْشَاءِ لَا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ أَصْلَ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْإِفْرَادُ،

وَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْكَلَامِ، وَلِهَذَا ضُعِّفَ مَنْعُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ كَوْنَ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ طَلَبِيَّةً، نَظَرًا إلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَالطَّلَبُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ، وَمَا عُلِّلَ بِهِ بَاطِلٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَثَالِثُهَا: عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْإِنْشَاءِ وَالطَّلَبِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ: أَخْبَارُ الرَّسُولِ مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ تَسْمِيَةُ الْحَدِيثِ بِالْخَبَرِ، وَمُعْظَمُ السُّنَّةِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَاصِلَ جَمِيعِهَا آيِلٌ إلَى الْخَبَرِ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمُخْبَرِ عَنْ وُجُوبِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي النَّوَاهِي. قَالَ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَيْسَ آمِرًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَإِنَّمَا الْآمِرُ حَقًّا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَصِيَغُ الْأَمْرِ مِنْ الْمُصْطَفَى فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ عَنْ اللَّهِ. وَالثَّانِي: إنَّمَا سُمِّيَتْ أَخْبَارًا لِنَقْلِ الْمُتَوَسِّطِينَ، وَهُمْ يُخْبِرُونَ عَمَّنْ يَرْوِي لَهُمْ، وَمَنْ عَاصَرَ الرَّسُولَ كَانَ إذَا بَلَغَهُ لَا يَقُولُ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ، بَلْ يَقُولُ: أَمَرَنَا، فَالْمَنْقُولُ إذًا اسْتِجْدَادُ اسْمِ الْخَبَرِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ إلَى حَيْثُ انْتَهَى. تَعْرِيفُ الْخَبَرِ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: فَيُطْلَقُ الْخَبَرُ عَلَى الصِّيغَةِ، كَقَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ، ثُمَّ

قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَقِيلَ: حَقِيقَةٌ فِي النَّفْسَانِيِّ، مَجَازٌ فِي اللِّسَانِيِّ، وَقِيلَ عَكْسُهُ، كَالْخِلَافِ فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِهِ، وَنُقِلَ عَنْ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْخَبَرِ، وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ خَبَرًا إذَا انْضَمَّ إلَى اللَّفْظِ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ إلَى الْإِخْبَارِ بِهِ، كَمَا قَالُوا فِي الْأَمْرِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ صِيغَةً تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: زَيْدٌ قَائِمٌ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْخَبَرِ، هَلْ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ؟ فَاخْتَارَ السَّكَّاكِيُّ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ التَّعْرِيفِ، وَكَذَا الْإِمَامُ الرَّازِيَّ. قَالَ:؛ لِأَنَّ تَصَوُّرَهُ ضَرُورِيٌّ، إذْ تَصَوُّرُنَا مَوْجُودٌ ضَرُورِيٌّ، وَهُوَ خَبَرٌ خَاصٌّ، وَالْعَامُّ جُزْؤُهُ، فَتَصَوُّرُهُ تَابِعٌ لِتَصَوُّرِ الْكُلِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُفَرِّقُ بِالضَّرُورَةِ بَيْنَ مَعْنَى الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ، وَالضَّرُورِيُّ لَا يُحَدُّ فَكَذَا الْخَبَرُ قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، إذْ الضَّرُورِيُّ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ، كَمَا فُعِلَ. سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ، لَا بِالْخَبَرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرًا، وَقَوْلُهُمْ: الْعَامُّ هُوَ جُزْءُ الْخَاصِّ، قُلْنَا يَلْزَمُ انْحِصَارُ الْأَعَمِّ فِي الْأَخَصِّ، وَهُوَ مُحَالٌ. ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِالْعَرَضِ الْعَامِّ، كَالْأَسْوَدِ، وَلَيْسَ السَّوَادُ جُزْءًا مِنْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ انْتِقَاضُهُ بِالْحَدِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ إنَّهُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ أَوْ الْكَذِبَ لِذَاتِهِ، أَيْ الصَّالِحَ؛ لَأَنْ يُجَابَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ: بِصِدْقٍ، أَوْ كَذَبَ.

حد الخبر

وَقُلْنَا: لِذَاتِهِ لِيَخْرُجَ مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ بِالتَّقْدِيرِ، كَمَا يُقَدِّرُ النَّحْوِيُّ فِي النِّدَاءِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمُرَادُ مَا يَحْتَمِلُهُ بِصِيغَتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْعَوَارِضِ لِكَوْنِ مُخْبِرِهِ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا، وَأَتَى بِصِيغَةٍ " أَوْ " لِيَحْتَرِزَ بِهَا عَنْ السُّؤَالِ الْمَشْهُورِ: وَهُوَ أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ وَخَبَرَ رَسُولِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ، وَهَذَا إنَّمَا يَرِدُ إذَا ذُكِرَ بِالْوَاوِ، وَأَمَّا إذَا قِيلَ بِاحْتِمَالِهِ أَحَدَهُمَا فَلَا يَرِدُ وَقَدْ فَسَّرْنَا الِاحْتِمَالَ بِالْقَبُولِ الَّذِي يُقَابِلُهُ عَدَمُ الْقَبُولِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَنْتَفِي ذَلِكَ الْوُجُوبُ بِأَنَّ كُلَّمَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَلَا يَضُرُّ اسْتِعْمَالُ " أَوْ " فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّرْدِيدَ فِي أَقْسَامِ الْمَحْدُودِ لَا الْحَدِّ، وَالِاعْتِرَاضُ بِلُزُومِ اجْتِمَاعِهِمَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّعْبِيرِ اتِّحَادُ الْمَحْمُولِ وَالْمَوْضُوعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إلَّا فِي الْجُزْئِيِّ، وَالْمَحْدُودُ إنَّمَا هُوَ الْكُلِّيُّ. [حَدُّ الْخَبَرِ] قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ ": فَإِنْ قِيلَ: مَا حَدُّ الْخَبَرِ؟ قُلْنَا: مَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ، وَذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنَّهُ مَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَمَا قُلْنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يَصِحُّ دُخُولُ الْكَذِبِ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَصِحُّ دُخُولُ الصِّدْقِ فِيهِ، وَرَدَّهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَجِيءَ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ يُشْعِرُ بِقَبُولِ الضِّدَّيْنِ، وَالْمَحَلُّ لَا يَقْبَلُ إلَّا أَحَدَهُمَا، لَا هُمَا مَعًا، فَالْمُقْتَضِي الْمَجِيءُ " بِأَوْ " وَغَلَّطَهُ الْقَرَافِيُّ، وَقَالَ: بَلْ الْمَحَلُّ يَقْبَلُ الضِّدَّيْنِ مَعًا، كَمَا يَقْبَلُ النَّقِيضَيْنِ مَعًا، وَإِنَّمَا الْمَشْرُوطُ بِعَدَمِ هَذَا وُقُوعُ الْآخَرِ الْمَقْبُولِ، لَا قَبُولُهُ، وَالْمُحَالُ اجْتِمَاعُ الْمَقْبُولَيْنِ لَا إجْمَاعُ الْقَبُولَيْنِ، وَهَذَا وَاجِبٌ، وَالْأَوَّلُ: مُسْتَحِيلٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَنَافِي الْمَقْبُولَيْنِ تَنَافِي الْقَبُولَيْنِ. وَلِهَذَا يُقَالُ: الْمُمْكِنُ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَهُمَا

مُتَنَاقِضَانِ، وَالْقَبُولَانِ يَجِبُ اجْتِمَاعُهُمَا لَهُ لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ أَحَدُ الْقَبُولَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْوُجُودَ كَانَ مُسْتَحِيلًا، وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْعَدَمَ كَانَ وَاجِبًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِمْكَانُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الْقَبُولَيْنِ، وَإِنْ تَنَافِي الْمَقْبُولَانِ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي ذَلِكَ الْتِبَاسَ الْمَقْبُولَيْنِ بِالْقَبُولَيْنِ قُلْت: لَمْ يَنْفِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَّا الْمَقْبُولَيْنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْحَدَّ يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمَقْبُولَيْنِ، وَقِيلَ: مَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ يَرْجِعَانِ إلَى نِسْبَتَيْنِ وَإِضَافَتَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُمَا الْمُطَابَقَةُ فِي الصِّدْقِ، وَعَدَمُهَا فِي الْكَذِبِ، وَالْمُطَابَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ نِسْبَتَانِ بَيْنَ اللَّفْظِ وَمَدْلُولِهِ، وَأَمَّا التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ فَيَرْجِعَانِ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمَا، فَقَدْ يُوجَدُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ مَعَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عِنْدَ مُوَافَقَةِ الْأَخْبَارِ لِلْوَاقِعِ وَبِدُونِهِمَا إنْ كَانَ كَذِبًا، فَقَدْ يَصْدُقُ وَلَيْسَ بِصَادِقٍ، وَيَكْذِبُ وَلَيْسَ بِكَاذِبٍ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهَذَا الْحَدُّ سَلِمَ مِمَّا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا فِي كُلِّ خَبَرٍ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ قَالَ: إنَّ صَاحِبَ هَذَا الْحَدِّ مَا زَادَ عَلَى أَنْ وَسَّعَ الدَّائِرَةَ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا نَوْعَانِ لِلْخَبَرِ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِهِ، فَلَوْ عُرِفَ بِهِمَا لَزِمَ الدَّوْرُ. وَأُجِيبَ بِمَنْعِ نَوْعِيَّتِهِمَا، بَلْ هُمَا صِفَتَانِ عَارِضَتَانِ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لِلْإِنْسَانِ.

مسألة تعريف الكذب

[مَسْأَلَةٌ تَعْرِيفُ الْكَذِبِ] ِ] الْكَذِبُ: الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، مَعَ السَّهْوِ وَالْعَمْدِ، وَشَرَطَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الْعَمْدَ، وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا» . [تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لَهُمَا أَيْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ] وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لَهُمَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ، وَادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ الْخَبَرَ إلَّا لِلصِّدْقِ، وَلَيْسَ لَنَا خَبَرُ كَذِبٍ. قَالَ: وَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُنَا: الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ مِنْ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَظَنَّ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ احْتِمَالَ الْخَبَرِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ إلَّا الصِّدْقَ؛ لِاتِّفَاقِ اللُّغَوِيِّينَ وَالنُّحَاةِ عَلَى أَنَّ

الثاني الكذب الخبر المخالف للمخبر عنه ماضيا كان أو مستقبلا

مَعْنَى قَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ، حُصُولُ الْقِيَامِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ، وَإِنَّمَا احْتِمَالُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَرَافِيُّ مُصَادِمٌ لِإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا مَدْلُولُهُ الْحُكْمِ بِحُصُولِ الْقِيَامِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. [الثَّانِي الْكَذِبَ الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا] الثَّانِي: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْكَذِبَ الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا، خِلَافًا لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ بِالْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ "، وَلِابْنِ قُتَيْبَةَ، حَيْثُ خَصَّا الْكَذِبَ بِمَا مَضَى، وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَيُقَالُ لَهُ: خُلْفٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ: كَذِبٌ. لَنَا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عَنْ الَّذِينَ نَافَقُوا: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر: 11] وَكَذِبُهُمْ فِي خَبَرِهِمْ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ يَشْكُوا حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» ، وَفِي جَانِبِ الصِّدْقِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ» فَاسْتَعْمَلَ الصِّدْقَ فِي الْخَبَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ يُوصَفُ بِهِمَا مَاضِيًا وَمُسْتَقْبَلًا، لَكِنْ لَهُ وَصْفٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْخُلْفُ وَالْوَفَاءُ.

الثالث الخبر ما يحتمل الصدق والكذب هل هو خاص بالكلام الذي له خارج عن كلام النفس

وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ يُفْهِمُ أَنَّ الْكَذِبَ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي إذْ قَالَ: لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، وَضَعَّفَ سُؤَالَ مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: غَدًا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ كَاذِبًا، وَالْكَذِبُ حَرَامٌ، فَكَيْفَ لَا يُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ؟ فَقَالَ: وَالْحَالَةُ هَذِهِ آيَةٌ أَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَلَا كَذِبَ فِيهِ، وَالْوَعْدُ إنْشَاءٌ لَا خَبَرٌ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَنْ لَمْ يَفِ بِالْوَعْدِ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ الْمُنَافِقِ: «إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» ، فَسَمَّاهُ مُخْلِفًا، لَا كَاذِبًا، وَلَوْ كَانَ الْإِخْلَافُ كَذِبًا دَخَلَ تَحْتَ عُمُومِ «إذَا حَدَّثَ كَذَبَ» . وَقَدْ يُقَالُ: إذَا لَمْ يَدْخُلْهُ الْكَذِبُ، لَا يَكُونُ خَبَرًا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ مَا يُفِيدُ الْكَذِبَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا تَقُولُ: سَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ، وَيَصِحُّ فِيهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، وَالْوَعْدُ إنْشَاءٌ لَا خَبَرٌ. [الثَّالِثُ الْخَبَرُ مَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْكَلَامِ الَّذِي لَهُ خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ] الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: الْخَبَرُ مَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْكَلَامِ الَّذِي لَهُ خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ أَمْ يَجْرِي فِي لَفْظِ " خَ بَ رَ "؟ وَقَدْ اضْطَرَبَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي الثَّانِي، فَجَعَلُوهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مَخْصُوصًا بِالصِّدْقِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ هَذَا النَّوَى فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ التَّمْيِيزَ، فَلَا يَكْتَفِي بِأَيِّ عَدَدٍ كَانَ، إنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْإِخْبَارِ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ فِي الْحَاوِي ": أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالْخَبَرِ، فِيمَا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الصِّدْقُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِمَا، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبِشَارَةِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا فِي الْخَبَرِ فَكَلَامُهُمْ مُخْتَلِفٌ فِيهِ، فَقَدْ قَالُوا فِيمَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِمَجِيءِ زَيْدٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَجِيئِهِ كَاذِبَةً أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ؛ لِوُجُودِ الْإِخْبَارِ بِقُدُومِهِ، وَهُوَ لَا يَشْتَرِطُ فِيهِ الْمُطَابَقَةَ. وَلَوْ

قَالَ: مَنْ أَخْبَرَتْنِي مِنْكُمَا بِكَذَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَأَخْبَرَتَاهُ صَدَقَتَا أَوْ كَذَبَتَا طَلُقَتَا، وَجَعَلَ الْفُورَانِيُّ الْخَبَرَ لِلصِّدْقِ فَقَطْ إذَا قُرِنَ بِحَرْفِ الْبَاءِ؛ لِأَنَّهُ لِلْإِلْصَاقِ، فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْمُخْبَرِ بِهِ حَتَّى يُلْصَقَ بِهِ الْخَبَرُ، فَإِذَا قَالَ: إنْ أَخْبَرْتِنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَأَخْبَرَهُ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا، عَتَقَ الْعَبْدُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ أَخْبَرْتِنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَأَخْبَرَهُ كَاذِبًا لَا يَحْنَثُ عِنْدَ الْفُورَانِيِّ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ " لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: إنْ أَخْبَرْتَنِي بِخُرُوجِ فُلَانٍ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ، فَلَكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَأَخْبَرَهُ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْعَشَرَةَ؟ نُظِرَ، إنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي خُرُوجِهِ مِنْ الْبَلَدِ اسْتَحَقَّ، وَإِلَّا فَلَا، وَالنُّكْتَةُ فِي الْجَعَالَةِ، فَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ ثُمَّ بَحَثَ مَعَهُ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هَلْ يَتَقَيَّدُ الْخَبَرُ بِالصِّدْقِ؟ فَلَوْ كَانَ كَاذِبًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِانْتِفَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّلَ بِهِ. قُلْت: وَلَعَلَّ الْقَفَّالَ يَخُصُّ ذَلِكَ بِحَالَةِ وُجُودِ الْبَاءِ، كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ تِلْمِيذِهِ الْفُورَانِيِّ، وَالثَّانِي: يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ هَلْ يَنَالُهُ تَعَبٌ أَمْ لَا؟ قُلْت: وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ " مِنْ زَوَائِدِهِ قَبْلَ هَذَا تَصْرِيحَ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي بِكَذَا، فَلَهُ كَذَا، فَأَخْبَرَهُ إنْسَانٌ فَلَا شَيْءَ

الموطن الثاني صدق الخبر وكذبه بماذا يكونان

لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى عَمَلٍ. اهـ. فَجُعِلَ هَذَا مِنْ زَوَائِدِهِ، وَأَقَرَّ الرَّافِعِيَّ عَلَى الْبَحْثِ الثَّانِي هُنَاكَ، وَيَتَحَصَّلُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ ثَالِثُهَا: إنْ اقْتَرَنَ بِالْبَاءِ وَإِلَّا فَلَا. [الْمَوْطِنُ الثَّانِي صِدْقَ الْخَبَرِ وَكَذِبَهُ بِمَاذَا يَكُونَانِ] الْمَوْطِنُ الثَّانِي فِي أَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ وَكَذِبَهُ بِمَاذَا يَكُونَانِ؟ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ صِدْقُ الْخَبَرِ وَكَذِبُهُ بِنَفْسِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِدَلِيلٍ يُضَافُ إلَيْهِ، وَالْمَشْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوَاسِطَةِ أَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ، سَوَاءٌ وَافَقَ الِاعْتِقَادَ أَمْ لَا، وَكَذِبَهُ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ، وَعَنْ صُورَةِ الْجَهْلِ احْتَرَزَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا» ، الْحَدِيثَ. وَقَالَ النَّظَّامُ: صِدْقُهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ، سَوَاءٌ وَافَقَ الْوَاقِعَ أَمْ لَا، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا فَأَخْبَرَ بِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى خِلَافِ الْوَاقِعِ، يُقَالُ لَهُ: مَا كَذَبَ، وَلَكِنْ أَخْطَأَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ فِيمَنْ شَأْنُهُ كَذَلِكَ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ، لَا الْكَذِبُ مُطْلَقًا. الثَّانِي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] كَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] مَعَ كَوْنِهِ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوهُ، فَلَوْ كَانَتْ الْعِبْرَةُ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يُكَذِّبْهُمْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى: لَكَاذِبُونَ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ، فَهِيَ إخْبَارٌ عَنْ اعْتِقَادِهِمْ، وَهُوَ غَيْرُ

أقام المدعي بينة ثم قال هي كذب

مَوْجُودٍ، أَوْ كَاذِبُونَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ إخْبَارَهُمْ شَهَادَةً؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ إذَا خَلَا عَنْ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ شَهَادَةً، أَوْ لَكَاذِبُونَ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فِي زَعْمِهِمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ خَبَرٌ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ حَالُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ، فَيَكُونُ كَذِبًا عِنْدَهُمْ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَاحْتَجَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِلْمَشْهُورِ بِ {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73] وَلَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْقَائِلِينَ لِذَلِكَ غَيْرُ عَالِمِينَ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ، وَأَصْرَحُ مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْكَذِبِ بِالْمُطَابَقَةِ الْخَارِجِيَّةِ، أَوْ بِهَا مَعَ الِاعْتِقَادِ. [أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً ثُمَّ قَالَ هِيَ كَذِبٌ] فَائِدَةٌ مِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً، ثُمَّ قَالَ: هِيَ كَذِبٌ، امْتَنَعَ الْحُكْمُ بِهَا، وَفِي بُطْلَانِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ، اخْتِيَارُ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ " نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِمَا فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّخْصُ ذَلِكَ وَأَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ بِكَذِبِ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ. فَلَهُمْ حُكْمُ الْكَاذِبِينَ إذْ رَضَوْا بِخَبَرٍ يُجَوِّزْنَ كَذِبَهُ جَوَازًا غَيْرَ بَعِيدٍ، وَذَلِكَ رِضًى بِالْكَذِبِ.

الموطن الثالث انحصار الخبر في ذي الصدق والكذب

[الْمَوْطِنُ الثَّالِثُ انْحِصَارِ الْخَبَرُ فِي ذِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ] الْمَوْطِنُ الثَّالِثُ فِي انْحِصَارِهِ فِي ذِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا» لِدَلَالَتِهِ عَلَى انْقِسَامِ الْكَذِبِ إلَى عَمْدٍ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَذَبَ نَوْفٌ أَيْ الْبِكَالِيُّ لَيْسَ صَاحِبَ الْخَضِرِ مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْوَاسِطَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْجَاحِظِ أَنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ، وَكَذِبَهُ عَدَمُهُمَا، وَغَيْرُهُمَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ، وَكَأَنَّهُ أَجْرَى الصِّدْقَ مَجْرَى الْعِلْمِ فَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ مِنْ جِهَةِ صِحَّتِهِ، فَكَذَلِكَ الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنَّهُ رَاعَى أَصْلَهُ الْفَاسِدَ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، فَرَاعَى فِي كَوْنِهِ صِدْقًا وُقُوعَهُ حَسَنًا لِمُفَارَقَةِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي حُسْنِ أَحَدِهِمَا وَقُبْحِ الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ الْخَبَرُ حَسَنًا إلَّا مَعَ الْمُخْبِرِ بِحَالِ الْمَخْبَرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ تَجْوِيزَهُ عَلَى خِلَافِ مَا أَخْبَرَ يَقْتَضِي قُبْحَهُ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصِّدْقَ قَدْ يَقْبُحُ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ صِدْقًا عِلَّةً لِحُسْنِهِ، كَكَوْنِهِ كَذِبًا عِلَّةٌ لِقُبْحِهِ. بَلْ لَوْ كَانَ كَوْنُهُ صِدْقًا عِلَّةً تَقْتَضِي الْحُسْنَ، لَكَانَ الْحُسْنُ إنَّمَا ثَبَتَ إذَا انْتَفَتْ وُجُوهُ الْقُبْحِ. الثَّانِي: أَنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ سَوَاءٌ طَابَقَ الْخَارِجَ أَوْ لَا، وَكَذِبُهُ عَدَمُهُمَا، فَالسَّاذَجُ وَاسِطَةٌ، وَالثَّالِثُ: هُوَ قَوْلُ الرَّاغِبِ: إنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِلْخَارِجِ وَالِاعْتِقَادِ مَعًا، فَإِنْ فُقِدَا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ صِدْقًا، بَلْ لَا يَكُونُ

الموطن الرابع في مدلول الخبر

صِدْقًا، وَقَدْ يُوصَفُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِنَظَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ مُطَابِقًا لِلْخَارِجِ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلِاعْتِقَادِ، كَقَوْلِ الْكَافِرِ: أَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَعْرِيفُهُمْ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَنَى بِالْخَبَرِ الصِّدْقَ مَا يَكُونُ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ كَيْفَمَا كَانَ، وَبِالْكَذِبِ مَا لَا يَكُونُ مُطَابِقًا كَيْفَمَا كَانَ، فَالْعِلْمُ بِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا ضَرُورِيٌّ. وَإِنْ عَنَى بِهِمَا مَا يَكُونُ مُطَابِقًا وَغَيْرَ مُطَابِقٍ، لَكِنْ مَعَ الْعِلْمِ بِهِمَا، فَإِمْكَانُ حُصُولِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِمُطَابَقَتِهِ وَعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ. قُلْتُ: يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا أُنْكِرُ مَا تَدَّعِيهِ، وَهِيَ عِبَارَةُ التَّنْبِيهِ "، أَوْ لَسْتُ مُنْكِرًا لَهُ، وَهِيَ عِبَارَةُ " الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ " فَهُوَ إقْرَارٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا وَسَاطَةَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ. فَإِنْ قُلْنَا: بَيْنَهُمَا وَسَاطَةٌ، وَهِيَ السُّكُوتُ فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. [الْمَوْطِنُ الرَّابِعُ فِي مَدْلُولِ الْخَبَرِ] ِ مَدْلُولُهُ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا بِثُبُوتِهَا، فَإِذَا قِيلَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، فَلَيْسَ مَدْلُولُهُ نَفْسَ ثُبُوتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ فِي الْخَارِجِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْخَبَرِ كَذِبًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُ أَنَّكَ حَكَمْتَ بِقِيَامِ زَيْدٍ، وَأَخْبَرْتَ عَنْهُ، ثُمَّ إنْ طَابَقَ ذَلِكَ الْوَاقِعَ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، وَإِلَّا فَلَا، هَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ.

وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ لَا الْخَارِجِيَّةِ، لَكِنْ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ إبْهَامٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قِيلَ: الْعَالَمُ حَادِثٌ، فَمَدْلُولُهُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ، لَا نَفْسُ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ، إذْ لَوْ كَانَ مَدْلُولُهُ نَفْسَ ثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ، لَكَانَ حَيْثُمَا وَجَدْنَا قَوْلَنَا: الْعَالَمُ مُحْدَثٌ، كَانَ الْعَالَمُ مُحْدَثًا لَا مَحَالَةَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ خَبَرًا، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ مَدْلُولَ الصِّيغَةِ هُوَ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ، لَا نَفْسِ النِّسْبَةِ. انْتَهَى. وَاعْتَرَضَ الْقَرَافِيُّ وَصَاحِبُ الْحَاصِلِ " وَالتَّحْصِيلِ " عَلَى قَوْلِهِ: " وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْكَذِبُ خَبَرًا "، وَقَالُوا: صَوَابُهُ الْعَكْسُ، أَيْ لَا يَكُونُ الْخَبَرُ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَحَقُّقَ الْكَذِبِ لَا بِصِيغَتِهِ الْخَبَرِيَّةِ، وَالْوَاقِعُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، انْتِفَاءُ الْكَذِبِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ:؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ إذَا تَعَذَّرَ لَا يَتَّصِفُ الْخَبَرُ أَبَدًا إلَّا بِالصِّدْقِ فَلَا يَكُونُ كَذِبًا، وَأَمَّا الْكَذِبُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ مُتَعَذَّرٌ مُطْلَقًا، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِنَا: لَا يَكُونُ الْكَذِبُ خَبَرًا؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ خَبَرٍ، وَالتَّعَذُّرُ فِي نَفْسِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُوجَدُ مَعَ الْخَبَرِ، وَلَا مَعَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: الصَّوَابُ عِبَارَةُ الْإِمَامِ، وَالِانْتِقَادَاتُ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْهِ، أَمَّا تَقْرِيرُ عِبَارَتِهِ، فَلِأَنَّ مَدْلُولَ النِّسْبَةِ لَوْ كَانَ ثُبُوتِيًّا، لَكَانَ الْكَذِبُ غَيْرَ خَبَرٍ، لَكِنَّ اللَّازِمَ مُنْتَفٍ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ صِدْقٌ وَكَذِبٌ، فَالْمَلْزُومُ مُنْتَفٍ، وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ ثُبُوتَ النِّسْبَةِ وَوُقُوعَهَا فِي الْخَارِجِ قَدْ يَكُونُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ كَذِبًا، وَهُوَ وَاضِحٌ.

الموطن الخامس مورد الصدق والكذب

وَأَمَّا تَبْيِينُ فَسَادِ عِبَارَتِهِمْ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْخَبَرُ كَذِبًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ مِنْ الْخَبَرِ صِدْقٌ، كَمَا أَنَّ مِنْهُ كَذِبًا. نَعَمْ، اسْتِدْلَالُ الْإِمَامِ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا ثُبُوتُهَا، بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْخَبَرِ بِكَذِبٍ، وَقَدْ مَنَعَ الْقَرَافِيُّ انْتِفَاءَ الْمُلَازَمَةِ، وَادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ الْخَبَرَ إلَّا لِلصِّدْقِ، وَسَبَقَ الرَّدُّ عَلَيْهِ. [الْمَوْطِنُ الْخَامِسُ مَوْرِدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ] الْمَوْطِنُ الْخَامِسُ أَنَّ مَوْرِدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ النِّسْبَةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا فَقَطْ لَا وَاحِدٌ مِنْ طَرَفَيْهَا. فَهُمَا يَتَوَجَّهَانِ إلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لَا إلَى صِفَتِهِ، فَإِذَا كَذَّبْت الْقَائِلَ فِي قَوْلِهِ: زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو كَرِيمٌ، فَإِنَّ التَّكْذِيبَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى كَوْنِهِ ابْنَ عَمْرٍو، بَلْ إلَى كَوْنِهِ كَرِيمًا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ ثَابِتَةٌ حَالَ النَّفْيِ ثُبُوتَهَا حَالَ الْإِثْبَاتِ، وَلِأَنَّ عِلْمَ الْمُخَاطَبِ بِثُبُوتِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْمُتَكَلِّمِ إيَّاهَا لَهُ، وَأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إلَى ذِكْرِهَا لِإِزَالَةِ اللَّبْسِ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ، وَإِلَّا فَلَا يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ، وَإِذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ، فَلَا يَقْصِدُهَا الْمُتَكَلِّمُ بِإِخْبَارِهِ إيَّاهَا، وَالتَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إنَّمَا يَتَوَجَّهَانِ إلَى مَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ لَا إلَى مَا لَا يَقْصِدُهُ، فَإِذَا قِيلَ: قَامَ زَيْدٌ، فَقِيلَ: صِدْقٌ أَوْ كَذِبٌ، انْصَرَفَ ذَلِكَ إلَى قِيَامِ زَيْدٍ، لَا إلَى ذَلِكَ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِالْقِيَامِ، هَلْ اسْمُهُ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِيمَا لَوْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي اسْمِهِ، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّك حَاكِمٌ بِأَنَّ ذَلِكَ اسْمُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ اُسْتُشْكِلَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] بِإِسْقَاطِ التَّنْوِينِ عَلَى أَنَّ الِابْنَ صِفَةٌ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ هُوَ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ، أَوْ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ إلَهُنَا، إمَّا بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ أَوْ الْخَبَرِ، وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَوْصُوفٍ، أَوْ عَنْ مَوْصُوفٍ غَيْرِ الْمُبْتَدَأِ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَنْصَرِفُ إلَى الْخَبَرِ، وَتَبْقَى الصِّفَةُ عَلَى أَصْلِ الثُّبُوتِ، فَحِينَئِذٍ يَبْقَى كَوْنُهُ ابْنًا لِلَّهِ ثَابِتًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

وَاَلَّذِي يُقَالُ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ سَبَقَ لِنَفْيِ إلَهِيَّةِ مِثْلِ هَذَا؛ بَلْ بَيَّنَ جَهْلَهُمْ إذْ ادَّعَوْا الْوَلَدِيَّةَ فِيهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ دَعْوَى الشَّرْطِ أَسْهَلُ مِنْ إثْبَاتِ الْوَلَدِيَّةِ لَهُ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ، أَيْ قَالُوا: هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْمُنْكَرَةَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا قَالُوا خَبَرًا عَنْهَا، فَلَا يُقَدَّرُ هُنَاكَ مَحْذُوفٌ أَصْلًا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنْته فِي كِتَابٍ الْبُرْهَانِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَالَ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِأَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَكِيلُ فُلَانٍ: إنَّ شَهَادَتَهُمَا بِالتَّوْكِيلِ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْبُنُوَّةِ، فَلَيْسَ لَهُ إنْ نُوزِعَ فِي مُحَاكَمَةٍ أُخْرَى فِي الْبُنُوَّةِ أَنْ يَقُولَ: هَذَانِ شَهِدَا لِي بِالْبُنُوَّةِ لِقَوْلِهِمَا فِي شَهَادَةِ التَّوْكِيلِ: إنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا شَهَادَةٌ لَهُ بِالْوَكَالَةِ أَصْلًا وَبِالنِّسْبَةِ ضِمْنًا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي " فِي بَابِ التَّحَفُّظِ فِي الشَّهَادَةِ وَالْعِلْمِ بِهَا، وَكَذَلِكَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " وَالْهَرَوِيُّ فِي الْأَشْرَافِ ". فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْتُ: لَا إشْكَالَ؛ لِأَنَّا لَمَّا صَدَّقْنَا الشَّاهِدَيْنِ كَانَ قَوْلُهُمَا مُتَضَمِّنًا لِذَلِكَ. نَعَمْ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ {امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] وَبِقَوْلِهِ: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] . فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ سَمَّى كُلًّا مِنْهُمَا امْرَأَةً لِكَافِرٍ، وَلَفْظُ الشَّارِعِ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا زَوْجَةٌ لَهُمَا، فَعَلَى هَذَا يَتَوَجَّهُ صِدْقُ الْخَبَرِ لِلطَّرَفَيْنِ وَالنِّسْبَةِ.

الموطن السادس يقع الخبر الموجب به موقع الأمر وبالعكس

[الْمَوْطِنُ السَّادِسُ يَقَعُ الْخَبَرُ الْمُوجَبُ بِهِ مَوْقِعَ الْأَمْرِ وَبِالْعَكْسِ] ِ فَمِنْ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] أَيْ لِيُرْضِعْنَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ فِي الْوَاقِعِ قَدْ يَكُونُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف: 10 - 11] ثُمَّ قَالَ: {يَغْفِرْ لَكُمْ} وَالْمَعْنَى: آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ، هَكَذَا جَعَلَ النُّحَاةُ يَغْفِرْ جَوَابًا لِ {تُؤْمِنُونَ} ؛ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ آمِنُوا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِ {هَلْ أَدُلُّكُمْ} عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: هَلْ تَأْتِينِي أُكْرِمْكَ؛ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ لَا تَجِبُ بِالدَّلَالَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] وَقِيلَ: إنَّهُ نَهْيٌ مَجْزُومٌ، وَلَكِنْ ضُمَّتْ السِّينُ إتْبَاعًا لِلضَّمِيرِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] الْمَعْنَى: مَدَّ. وَقَوْلُهُمْ فِي التَّعَجُّبِ: أَحْسِنْ بِزَيْدٍ، كَقَوْلِهِ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] أَيْ مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ، وَقَوْلُهُ: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] قِيلَ: إنَّهُ خَبَرٌ مَنْفِيٌّ وَاقِعٌ مَوْقِعَ النَّهْيِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَمَنَعَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالسُّهَيْلِيُّ وُرُودَ الْخَبَرِ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرَ، وَقَالَ: هُوَ بَاقٍ عَلَى خَبَرِيَّتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْخُلْفَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُصَاةِ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ أَيْ أَنَّ حُكْمَهُنَّ أَنْ يَجِبَ أَوْ يُشْرَعَ رَضَاعُهُنَّ أَوْ عَلَيْهِنَّ الرَّضَاعَةُ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، بَلْ قِيلَ: إنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الْأَمْرِ الْمَحْضِ. إذَا عَلِمْتَ هَذَا، وَوَرَدَ الْخَبَرُ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرَ، فَهَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَمْرِ مِنْ الْوُجُوبِ إذَا قُلْنَا: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ؟ أَوْ يَكُونُ مَخْصُوصًا بِالصِّيغَةِ

الموطن السابع في الفرق بين الخبر وبين الإنشاء

الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي هِيَ صِيغَةُ افْعَلْ؟ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": فِيهِ نَظَرٌ. قُلْتَ: الْمَنْقُولُ عِنْدَنَا هُوَ الْأَوَّلُ، كَذَا رَأَيْتُ التَّصْرِيحَ بِهِ فِي كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ الْأَمْرِ. [الْمَوْطِنُ السَّابِعُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَبَيْنَ الْإِنْشَاءِ] الْمَوْطِنُ السَّابِعُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْشَاءَ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ سَبَبًا لِمَدْلُولِهِ، فَإِنَّ الْعُقُودَ إنْشَاءَاتٌ مَدْلُولَاتُهَا وَمَنْطُوقَاتُهَا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ يَتْبَعُهَا مَدْلُولُهَا، وَالْإِخْبَارَاتِ تَتْبَعُ مَدْلُولَاتِهَا، فَإِنَّ الْمِلْكَ وَالطَّلَاقَ مَثَلًا يَثْبُتَانِ بَعْدَ صُدُورِ صِيَغِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ، وَفِي الْخَبَرِ قَبْلَهُ، فَإِنَّ قَوْلَنَا: قَامَ زَيْدٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ قَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ: صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِخْبَارَ عَنْ طَلَاقِهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِنْشَاءَ يَقَعُ مَنْقُولًا غَالِبًا عَنْ أَصْلِ الصِّيَغِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَنَحْوِهَا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ مَرَّتَيْنِ يَجْعَلُ الثَّانِي خَبَرًا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى النَّقْلِ، وَقَدْ يَكُونُ إنْشَاءً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَإِنَّهَا لِلطَّلَبِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَالْخَبَرُ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ. هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ.

أقسام الإنشاء

وَيَفْتَرِقَانِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِنْشَاءَ كَلَامٌ نَفْسِيٌّ عَبَّرَ عَنْهُ لَا بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْأَعْيَانِ وَالْجِنَانِ، فَإِنَّهُ إذَا قَامَ بِالنَّفْسِ طَلَبٌ مَثَلًا، وَقَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ التَّعْبِيرَ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ وَالْجِنَانِ، قَالَ: طَلَبْتُ مِنْ زَيْدٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ لَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، قَالَ: افْعَلْ أَوْ لَا تَفْعَلْ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ يَسْتَحِيلُ تَعْلِيقُهُ، إذْ هُمَا نَوْعَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُمَا حَيْثُ لَا كَلَامَ، وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا هُوَ فِي النِّسْبَةِ الْحَاصِلَةِ بَيْنَ جُزْأَيْ الْجُمْلَةِ، غَيْرَ أَنَّ النِّسْبَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ. [أَقْسَامُ الْإِنْشَاءِ] [أَقْسَامُ الْإِنْشَاءِ] إذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَقْسَامَ الْإِنْشَاءِ: الْقَسَمُ، وَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي وَالتَّرَجِّي، وَالتَّمَنِّي وَالْعَرْضُ وَالتَّحْضِيضُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ: أَنَّ الْعَرْضَ طَلَبٌ بِلِينٍ، بِخِلَافِ التَّحْضِيضِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي أَنَّ التَّرَجِّيَ لَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَالتَّمَنِّيَ يَكُونُ فِيهَا وَفِي الْمُمْكِنَاتِ، وَقَالَ التَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ ": الْمُتَمَنَّى يَكُونُ مُتَشَوَّفًا لِلنَّفْسِ، وَالْمَرْجُوُّ قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَيَكُونُ الْمَرْجُوُّ مُتَوَقَّعًا، وَالْمُتَمَنَّى قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَالتَّرَجِّي أَعَمُّ مِنْ التَّمَنِّي مِنْ وَجْهٍ، وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيّ أَنَّ الِاسْتِعْطَافَ نَحْوُ: بِاَللَّهِ هَلْ قَامَ زَيْدٌ؟ قَسَمٌ، وَقَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَمٍ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ خَبَرًا.

وَأَمَّا النِّدَاءُ نَحْوُ يَا زَيْدُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إنْشَاءٌ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا: فَقِيلَ: فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، تَقْدِيرُهُ أُنَادِي، أَوْ الْحَرْفُ وَحْدَهُ مُفِيدٌ لِلنِّدَاءِ. فَقِيلَ عَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ كَانَ الْفِعْلُ مُضْمَرًا لَقَبِلَ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، وَأَجَابَ الْمُبَرِّدُ بِأَنَّ الْفِعْلَ مُضْمَرٌ، وَلَا يَلْزَمُ قَبُولُهُ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ، وَالْإِنْشَاءُ لَا يَقْبَلُهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي صِيَغِ الْعُقُودِ كَمَا سَبَقَ فِي مَبَاحِثِ اللُّغَةِ، وَمِمَّا لَمْ يَسْبِقْ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لِهَذِهِ الصِّيَغَ نِسْبَتَيْنِ: نِسْبَةٌ إلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا الْخَارِجِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إنْشَاءَاتٌ مَحْضَةٌ، وَنِسْبَةٌ إلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ، وَهِيَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ خَبَرٌ عَمَّا قُصِدَ إنْشَاؤُهُ، فَهِيَ إخْبَارَاتٌ بِالنَّظَرِ إلَى مَعَانِيهَا الذِّهْنِيَّةِ، وَإِنْشَاءَاتٌ بِالنَّظَرِ إلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا الْخَارِجِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّمَا لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَابَلَ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارًا؛ لِأَنَّ مُتَعَلَّقَ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، وَمَعْنَاهُمَا مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِمُخْبِرِهِ أَوْ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ، وَهُنَاكَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ حَصَلَ بِالْخَبَرِ حُصُولُ الْمُسَبَّبِ لِسَبَبِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ؛ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ فِي خَبَرٍ لَا يَحْصُلُ مُخْبَرُهُ وَلَمْ يَقَعْ بِهِ، كَقَوْلِكَ: قَامَ زَيْدٌ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي كُتُبِهِ النَّحْوِيَّةِ: وَهِيَ مَسْلُوبَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ مَالِكٍ، فَقَالَ: وَهِيَ مَاضِيَةُ اللَّفْظِ حَاضِرَةُ الْمَعْنَى، وَمِنْ الْإِنْشَاءَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الظِّهَارُ، كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ، وَقِيلَ فِي تَقْرِيرِهِ: لَوْ كَانَ خَبَرًا لَمَا أَحْدَثَ حُكْمًا، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فِي التَّعَلُّقِ بِالْمَشِيئَةِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ وَجْهًا أَنَّهُ إخْبَارٌ، وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ " وَنَصَرَهُ الْقَرَافِيُّ، وَغَلِطَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]

وَبِقَوْلِهِ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] وَقَرَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ثَمَّ أَلْفَاظًا أَبْقَاهَا الشَّارِعُ عَلَى مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ، وَلَكِنْ مَنْ قَالَهَا يُلْزَمُ بِأَمْرٍ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى وَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ كَذِبٌ، وَلِهَذَا أَسْمَاهُ اللَّهُ: زُورًا، وَحُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ كَذَبَ هَذَا الْكَذِبَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْعَوْدِ، وَكَانَتْ " عَلَيَّ حَرَامٌ " بَاقٍ عَلَى مَوْضُوعِهِ، وَهُوَ كَذِبٌ، وَحُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ قَالَهُ عِنْدَنَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَبِعْتُ، وَاشْتَرَيْتُ. فَإِنَّ الشَّرْعَ وَضَعَهُمَا لِإِحْدَاثِ مَا دَلَّا عَلَيْهِ، فَالْأَلْفَاظُ ثَلَاثَةٌ: نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ، وَذَلِكَ خَبَرٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَنَحْوُ: بِعْتُ، وَذَلِكَ إنْشَاءٌ مَحْضٌ، وَنَحْوُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَذَلِكَ خَبَرٌ. وَمِنْ الْإِنْشَاءَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَا يَقُومُ الْإِقْرَارُ مَقَامَهُ، نَعَمْ يُؤَاخَذُ ظَاهِرًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْإِقْرَارَ عَلَى صِيغَتِهِ إنْشَاءً فِي صُوَرٍ: مِنْهَا إذَا أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ يَصِيرُ إنْشَاءً حَتَّى يَحْرُمَ بِهِ بَاطِنًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ تَلْبِيسٌ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْشَاءَ يَتَنَافَيَانِ، فَذَلِكَ إخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ، وَهَذَا إحْدَاثٌ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَهَذَا بِخِلَافِهِ، وَمِنْهَا حُكْمُ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي إنْ كَانَ فِي مَعْرِضِ الْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ فِي مَعْرِضِ الْحِكَايَاتِ وَالْأَخْبَارِ، كَقَوْلِهِ: لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو كَذَا، وَفُلَانٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا، بَلْ هُوَ كَغَيْرِهِ. ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ قَالَ بَعْدَهُ: أَرَدْتُ الْحُكْمَ فَيَتَّجِهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَعَدَمُ نَقْلِهِ، وَمِنْهَا قَوْلُ الشَّاهِدِ: أَشْهَدُ إنْشَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ التَّكْذِيبُ شَرْعًا، وَقِيلَ: إخْبَارٌ، وَقِيلَ: إنْشَاءٌ تَضَمَّنَ الْإِخْبَارَ عَمَّا فِي النَّفْسِ، وَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.

الموطن الثامن في تقسيمات الخبر

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ الْمُلَاعِنِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ، هَلْ هُوَ يَمِينٌ مُؤَكَّدٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، أَوْ يَمِينٌ فِيهَا ثُبُوتُ شَهَادَةٍ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ. [الْمَوْطِنُ الثَّامِنُ فِي تَقْسِيمَاتِ الْخَبَرِ] الْمَوْطِنُ الثَّامِنُ فِي تَقْسِيمَاتِهِ اعْلَمْ أَنَّ الْخَبَرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، لَكِنْ قَدْ يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ أَوْ صِدْقِهِ بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ أَوْ لَا يُقْطَعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِفُقْدَانِ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يُظَنُّ الصِّدْقُ، وَقَدْ يُظَنُّ الْكَذِبُ، وَقَدْ يَسْتَوِيَانِ. الْأَوَّلُ: مَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالضَّرُورَةِ، أَوْ النَّظَرِ، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. وَالثَّانِي: ضَرْبَانِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْخَبَرِ فِي نَفْسِهِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ صَادِقًا، وَهُوَ ضُرُوبٌ. أَحَدُهَا: خَبَرُ مَنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصِّدْقَ وَصْفٌ وَاجِبٌ لَهُ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِي: مَنْ دَلَّتْ الْمُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ، وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ ادَّعَوْا الصِّدْقَ، وَظَهَرَتْ الْمُعْجِزَاتُ عَلَى الْوَفْقِ. الثَّالِثُ: مَنْ صَدَّقَهُ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ، وَهُوَ خَبَرُ كُلِّ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ إنْ قُلْنَا: إنَّهُ قَطْعِيٌّ. الرَّابِعُ: خَبَرُ الْعَدَدِ الْعَظِيمِ عَنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ؛ لِعَدَمِ تَوَارُدِهِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَالثَّابِتُ فِي الْمَعْنَوِيِّ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ.

المتواتر

[الْمُتَوَاتِرُ] ُ] الْخَامِسُ: الْمُتَوَاتِرُ، وَهُوَ لُغَةً: تَرَادُفُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَاقِبَةِ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ بِمُهْلَةٍ، وَاصْطِلَاحًا: خَبَرُ جَمْعٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ حَيْثُ كَثْرَتُهُمْ عَنْ مَحْسُوسٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: " مِنْ حَيْثُ كَثْرَتُهُمْ " لِيَحْتَرِزَ بِهِ عَنْ خَبَرِ قَوْمٍ يَسْتَحِيلُ كَذِبُهُمْ لِسَبَبٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْ الْكَثْرَةِ، وَلَهُ شُرُوطٌ مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إلَى الْمُخْبِرِينَ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ. [شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُخْبِرِينَ] فَاَلَّذِي رَجَعَ إلَى الْمُخْبِرِينَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ غَيْرَ مُجَازِفِينَ، فَلَوْ كَانُوا ظَانِّينَ ذَلِكَ لَمْ يُفِدْ الْقَطْعَ، هَكَذَا شَرَطَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ عِلْمُ الْجَمِيعِ فَبَاطِلٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ ظَاهِرًا وَمَعَ ذَلِكَ يُحَصِّلُ الْعِلْمَ، وَإِنْ أُرِيدَ

عِلْمُ الْبَعْضِ فَلَازِمٌ مِنْ شَرْطِ الْحِسِّ. ثَانِيهَا: أَنْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ عَنْ ضَرُورَةٍ، إمَّا بِعِلْمِ الْحِسِّ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ، وَإِمَّا أَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ يُحْتَمَلُ دُخُولُ الْغَلَطِ فِيهِ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَأَمَّا إذَا تَوَاتَرَتْ أَخْبَارُهُمْ عَنْ شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوهُ وَاعْتَقَدُوهُ، بِالنَّظَرِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ عَنْ شُبْهَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ تَوَاتُرِهِمْ يُخْبِرُونَ الدَّهْرِيَّةَ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَتَوْحِيدِ الصَّانِعِ، وَيُخْبِرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يَقَعُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ صُدُورٌ عَنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، ثُمَّ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَوَاسِّ وَدَرْكِهَا، وَقَدْ يَحْصُلُ عَنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَلَا أَثَرَ لِلْحِسِّ فِيهَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ، فَإِنَّ الْحِسَّ لَا يُمَيِّزُ احْمِرَارَ الْخَجَلِ وَالْغَضْبَانِ عَنْ اصْفِرَارِ الْمَحْبُوبِ وَالْمَرْغُوبِ، وَإِنَّمَا الْعَقْلُ يُدْرِكُ تَمْيِيزَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. قَالَ: فَالْوَجْهُ اشْتِرَاطُ صُدُورِ الْأَخْبَارِ عَنْ الْبَدِيهَةِ وَالِاضْطِرَارِ، هَذَا كَلَامُهُ وَغَايَتُهُ الْحِسُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ الْمُفِيدَةَ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْحِسِّ. ثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ مُشَاهَدَةُ الشَّاهِدَيْنِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ حَقِيقَةً وَصَحِيحَةً، فَلَا تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ غَلَطِ الْحِسِّ، فَلِذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إخْبَارِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ بِصِفَةٍ يُوثَقُ مَعَهَا بِقَوْلِهِمْ، فَلَوْ أَخْبَرُوا مُتَلَاعِبِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ عَلَى ذَلِكَ الْخَبَرِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ. خَامِسُهَا: أَنْ يَبْلُغَ عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ إلَى مَبْلَغٍ يَمْتَنِعُ عَادَةً تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى

الْكَذِبِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ وَالْوَقَائِعِ وَالْمُخْبِرِينَ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ هَذَا الْقَدْرُ كَافٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنْ تَكُونَ شَوَاهِدُ أَحْوَالِهِمْ تَنْفِي عَنْ مِثْلِهِمْ الْمُوَاطَأَةَ وَالْغَلَطَ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا، وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا: هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ؟ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَصْرٌ، وَإِنَّمَا الضَّابِطُ حُصُولُ الْعِلْمِ، فَمَتَى أَخْبَرَ هَذَا الْجَمْعُ، وَأَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، وَإِلَّا فَلَا، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ فِي جَانِبِ النَّفْيِ، وَلَمْ يَقْطَعْ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ، فَقَالَ بِعَدَمِ إفَادَةِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ لَهُ، وَتَوَقَّفَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَقَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرُ الْأَرْبَعَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمَا سَأَلَ الْحَاكِمُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، إذَا شَهِدُوا عِنْدَهُ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ذَهَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ، فَمَا زَادَ. فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِأَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ فِي الشَّهَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ دُونَ الْعِلْمِ. اهـ. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْجُبَّائِيُّ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ عَدَدُ أُولِي الْعَزْمِ، وَهُمْ عَلَى الْأَشْهَرِ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَالْمُشْتَرِطُونَ لِلْعَدَدِ اخْتَلَفُوا وَاضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا كَثِيرًا، فَقِيلَ: يُشْتَرَطُ عَشَرَةٌ، وَنُسِبَ لِلْإِصْطَخْرِيِّ، وَاَلَّذِي فِي الْقَوَاطِعِ " عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِالْعَشَرَةِ فَمَا زَادَ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا جَمْعُ الْآحَادِ فَاخْتَصَّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَالْعَشَرَةُ فَمَا زَادَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ.

قَالَ: وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَقَلُّ مَا يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ اثْنَا عَشَرَ؛ لِأَنَّهُمْ عَدَدُ النُّقَبَاءِ. وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عَنْ غَيْرِهِ اعْتِبَارَ الْعَشَرَةِ بِعَدَدِ بَيْعَةِ أَهْلِ الرِّضْوَانِ، وَهُوَ وَهْمٌ لِمَا سَيَأْتِي، وَقِيلَ: عِشْرُونَ، أَيْ إذَا كَانُوا عُدُولًا، كَذَا قَيَّدَهُ الصَّيْرَفِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ} [الأنفال: 65] وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْهُذَيْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: سَبْعُونَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا} [الأعراف: 155] ، وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، عَدَدُ أَهْلِ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَوَقَعَ فِي التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي وَالْبُرْهَانِ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِمَا تَقْيِيدُهُمْ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَحَكَى الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ وَغَيْرُهُ ذَلِكَ، وَقَوْلًا آخَرَ أَنَّهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعَشَرَةُ رِجَالٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ لِلْمُقَاتَلَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةُ رِجَالٍ، وَلَمْ يَحْضُرْ الْغَزْوَةَ ثَمَانِيَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَدْخَلَهُمْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حُكْمِ عِدَادِ الْحَاضِرِينَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمَهُمْ، فَكَانَتْ الْجُمْلَةُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَاعْرِفْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهُمْ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةٍ. قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَدَدُهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَفِي رِوَايَةٍ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كَمْ كَانَ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ؟ قَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. قُلْتُ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَمَ، هُوَ حَدَّثَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْقَدِيمِ يَقُولُ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَهْمَ، وَقَالَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً.

وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ خَبَرِ كُلِّ الْأُمَّةِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ: يَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغُوا مَبْلَغًا عَظِيمًا، أَيْ لَا يَحْوِيهِمْ بَلَدٌ وَلَا يَحْصُرُهُمْ عَدَدٌ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ سَرَفٌ، وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ لِتَعَارُضِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَلَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِهَا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ عَنَّ مُرَجِّحٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَدْلُولِ الْخَبَرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، فَإِنَّ التَّرْجِيحَاتِ ثَمَرَاتُهَا غَلَبَةُ الظُّنُونِ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَةِ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ أَمْثَلُ الْأَقَاوِيلِ، وَالْبَاقِي لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَيْ فَإِنَّهَا تَحَكُّمَاتٌ فَاسِدَةٌ، لَا تُنَاسِبُ الْغَرَضَ وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتَعَارُضُ أَقْوَالِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِهَا، وَأَمَّا اسْتِخْرَاجُ أَبِي الْهُذَيْلِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ، ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ الْوَاحِدَ يَقُومُ بِإِزَاءِ الِاثْنَيْنِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْعِشْرِينَ أَنْ يَقُومُوا لِمِائَتَيْنِ مَنْسُوخٌ، وَصَارَ ثُبُوتُ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ، فَلَوْ اُحْتُجَّ بِهَا عَلَيْهِ فِي ثُبُوتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَكَانَ أَقْرَبَ الْأَدِلَّةِ، وَبَاقِي الْأَدِلَّةِ لَا تَدُلُّ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ اتِّفَاقِيَّةٌ. فَالْحَقُّ عَدَمُ التَّعْيِينِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَدٍ يَحْصُلُ بِخَبَرِهِمْ الْعِلْمُ. وَهَلْ ذَلِكَ الْعَدَدُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ فِي وَاقِعَةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يُفِيدَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى؟ قَالَ الْقَاضِي: ذَلِكَ مُحَالٌ، بَلْ لَا بُدَّ إلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، الْعِلْمُ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ، وَمَهْمَا حَصَلَ هَذَا الْعِلْمُ لِشَخْصٍ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ لِجَمِيعِ الْأَشْخَاصِ؛ لِتَحَقُّقِ الْمُوجَبِ لِلْعَمَلِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ بِمُجَرَّدِهِ يُفِيدُ الْعِلْمَ عَادَةً دُونَ الْقَرَائِنِ، وَمَنْعُ إفَادَتِهِ الْعِلْمَ مِنْ حَيْثُ

انْضِمَامُ الْقَرَائِنِ الَّتِي لَمْ يُجْعَل لَهَا أَثَرٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ يَجُوزُ أَنْ يُورِثَ الْعِلْمَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ، وَمُجَرَّدُ الْقَرَائِنِ أَيْضًا قَدْ تُورِثُ الْعِلْمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا إخْبَارٌ كَعِلْمِنَا بِخَجَلِ الْخَجِلِ، وَوَجِلِ الْوَجِلِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُضَمَّ الْقَرَائِنُ إلَى الْأَخْبَارِ، فَيَقُومُ بَعْضُ الْقَرَائِنِ مَقَامَ بَعْضِ الْعَدَدِ، فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِمَجْمُوعِهِمَا قَالَ: وَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ، وَالتَّجْرِبَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَتَوَسَّطَ الْهِنْدِيُّ، فَقَالَ: الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ حُصُولُ الْعِلْمِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي حَصَلَ الْعِلْمُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ احْتِفَافِ قَرِينَةٍ بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُخْبِرِينَ، وَلَا مِنْ جِهَةِ السَّامِعِينَ، حَالِيَّةً كَانَتْ أَوْ مَالِيَّةً، كَانَ الْإِطْرَادُ وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُجَرَّدِهِ، بَلْ بِانْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ إلَيْهِ فَلَا يَجِبُ الْإِطْرَادُ. سَادِسُهَا: أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْعِبَارَةِ، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى بَطَلَ تَوَاتُرُهُمْ. وَشَرَطَ ابْنُ عَبْدَانِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " بِالشَّرَائِطِ " فِي النَّاقِلِينَ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَدَالَةُ، قَالَ: فَلَا يُقْبَلُ التَّوَاتُرُ مِنْ الْفُسَّاقِ، وَمَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَبِلَهُ. وَالثَّانِي: الْإِسْلَامُ، قَالَ: فَالتَّوَاتُرُ مِنْ الْكُفَّارِ لَا يَصِحُّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا تُقْبَلُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ، فَالتَّوَاتُرُ الَّذِي يُوجِبُ الْعِلْمَ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُقْبَلُ تَوَاتُرُ الْكُفَّارِ. اهـ. وَالصَّحِيحُ خِلَافُ مَا قَالَ. قَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ": لَا يُشْتَرَطُ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ صِفَاتُ الْمُخْبِرِينَ، بَلْ يَقَعُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ،

وَالْكَفَّارِ وَالْعُدُولِ وَالْفُسَّاقِ، وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَالْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، إذَا اجْتَمَعَتْ الشُّرُوطُ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ شَرْطَ التَّوَاتُرِ فِي الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مُسْلِمُونَ لِلْعِصْمَةِ، وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا غَلِطَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ، فَنَقَلَتْ مَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ إلَى مَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ، وَصَرَّحَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا رَدَدْنَا خَبَرَ النَّصَارَى بِقَتْلِ عِيسَى؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ؛ لِأَنَّهُمْ بَلَّغُوهُ عَنْ خَبَرِ: وَلَوْ مَا. وَمَارِقِينَ، ثُمَّ تَوَاتَرَ الْخَبَرُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. قَالَ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ نَقَلَتُهُ مُؤْمِنِينَ أَوْ عُدُولًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ اشْتَرَطَ الْإِيمَانَ وَالْعَدَالَةَ فِيهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَاعْتُبِرَ فِي أَهْلِهِ كَوْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: لَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُمْ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي بَابِ السَّلَمِ مِنْ الشَّامِلِ ". فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ ": وَلَوْ وَقَّتَ بِفَصْحِ النَّصَارَى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَامًا فِي شَهْرٍ وَعَامًا فِي غَيْرِهِ، عَلَى حِسَابٍ يَنْسَئُونَ فِيهِ أَيَّامًا، فَلَوْ اخْتَرْنَاهُ كُنَّا قَدْ عَمِلْنَا فِي ذَلِكَ بِشَهَادَةِ النَّصَارَى، وَهَذَا غَيْرُ حَلَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: هَذَا مَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ، فَإِنْ بَلَغُوهُ بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي لِحُصُولِ الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى فِيهِ قَوْلًا ثَالِثًا، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ فَيُعْتَبَرُ الْإِسْلَامُ لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ، وَإِلَّا فَلَا يُعْتَبَرُ. حَكَاهُ الشَّيْخُ فِي التَّبْصِرَةِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ بَيْنَ مَا طَرِيقُهُ الدَّيَّانَاتُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِيهِ، وَمَا طَرِيقُهُ الْأَقَالِيمُ وَشَبَهُهَا فَهَلْ لَهُمْ مَدْخَلٌ بِالتَّوَاتُرِ فِيهِ؟ هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ. وَقَدْ سَبَقَ

عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي التَّوَاتُرِ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ. وَجَزَمَ الرُّويَانِيُّ بِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تُشْتَرَطُ، وَذَكَرَ وَجْهَيْنِ فِي انْفِرَادِ الصِّبْيَانِ بِهِ مَعَ شَوَاهِدِ الْحَالِ بِانْتِفَاءِ الْمُوَاطَأَةِ، فَتَحَصَّلْنَا عَلَى وُجُوهٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُخْبِرِينَ أَنْ لَا يَحْصُرَهُمْ عَدَدٌ، وَلَا يَحْوِيَهُمْ بَلَدٌ، خِلَافًا لِقَوْمٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَامِعِ لَوْ أَخْبَرُوا عَنْ سُقُوطِ الْمُؤَذِّنِ عَنْ الْمَنَارَةِ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ لَأَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُخْتَلِفِي الْأَدْيَانِ، وَالْأَنْسَابِ وَالْأَوْطَانِ خِلَافًا لِلْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ لَا يَكُونَ نَسَبُهُمْ وَاحِدًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ سَكَنُهُمْ وَاحِدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ أَنَّ قَبِيلَةً مِنْ الْقَبَائِلِ الْمُتَّفِقَةِ أَدْيَانُهُمْ وَأَنْسَابُهُمْ لَوْ أَخْبَرُوا بِوَاقِعَةٍ فِي نَاحِيَتِهِمْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ضَرُورَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ وَلِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا بُدَّ مِنْهَا، سَوَاءٌ أَخْبَرَ الْمُخْبِرُونَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، أَوْ لَا عَنْ مُشَاهَدَةٍ، بَلْ عَنْ سَمَاعٍ مِنْ آخَرِينَ، فَأَمَّا إذَا حَصَلَ الْوَسَائِطُ فَيُعْتَبَرُ شَرْطٌ آخَرُ، وَهُوَ وُجُودُ الشُّرُوطِ فِي كُلِّ الطَّبَقَاتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَا بُدَّ مِنْ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ، فَيَرْوِي الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ بِالصِّفَةِ السَّابِقَةِ عَنْ مِثْلِهِ إلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُ مَنْ نَقَلَ عَنْ الْأَوَّلِينَ كَحَالِ الْأَوَّلِينَ فِيمَا عَلِمُوهُ ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ النَّقَلَةُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ الثَّالِثَةِ ثُمَّ الرَّابِعَةِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَيْنَا، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ مَا نَقَلَهُ النَّصَارَى عَنْ صَلْبِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُمْ نَقَلُوهُ عَنْ عَدَدٍ لَا تَقُومُ بِهِمْ الْحُجَّةُ ابْتِدَاءً. وَكَذَا مَا نَقَلَتْهُ الرَّوَافِضُ مِنْ النَّصِّ عَلَى إمَامَةِ عَلِيٍّ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّوَاتُرَ يَنْقَلِبُ آحَادًا، وَرُبَّمَا انْدَرَسَ دَهْرًا. فَالْمُتَوَاتِرُ مِنْ أَخْبَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا اطَّرَدَتْ الشَّرَائِطُ فِيهِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، حَتَّى انْتَهَى إلَيْنَا، وَهَذَا لَا خَفَاءَ فِيهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَكِنَّهُ لَيْسَ

شروط المتواتر التي ترجع إلى السامعين

مِنْ شَرْطِهِ التَّوَاتُرُ. قَالَ: بَلْ حَاصِلُهُ أَنَّ التَّوَاتُرَ قَدْ يَنْقَلِبُ آحَادًا، وَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ وُقُوعِ التَّوَاتُرِ فَلَا يَصِحُّ تَعْبِيرُهُمْ بِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَقَالَ: مَا هُوَ مِنْ شُرُوطِهِ، لَا مِنْ شَرْطِ حُصُولِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ تَوَاتُرٍ، وَقَدْ يَنْبَنِي عَلَى التَّوَاتُرِ. [شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ] [شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ] وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ فَأُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إذْ يَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ مُتَأَهِّلٍ لَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ مَجْنُونًا وَلَا غَافِلًا. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَدْلُولِهِ ضَرُورَةً، وَإِلَّا يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، فَلَوْ أَخْبَرُوا بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ لَمْ يُفِدْ عِلْمًا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهَذَا إنَّمَا نَشْرُطُهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعِلْمَ غَيْرُ نَظَرِيٍّ. فَإِنْ قُلْنَا: ضَرُورِيٌّ فَلَا يُشْتَرَطُ، وَنَازَعَ الْجَزَرِيُّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ فِي تَمْثِيلِهِ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا ثَبَتَ بِالْخَبَرِ، وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّ مَقْصُودَ الْإِمَامِ أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَهُ السَّامِعُ، صَارَ مَعْلُومًا لَهُ بِالضَّرُورَةِ بِإِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ، كَإِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُنْفَكًّا عَنْ اعْتِقَادِ مَا يُخَالِفُ الْخَبَرَ إذَنْ؛ لِشُبْهَةِ دَلِيلٍ أَوْ تَقْلِيدِ إمَامٍ. ذَكَرَهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَأَمَّا إذَا كَانَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ مُشْكِلَةٌ فِي صِدْقِ الْخَبَرِ لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ. وَمُرَادُ الشَّرِيفِ

الأول التواتر يدل على الصدق

بِذَلِكَ إثْبَاتُ إمَامَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالتَّوَاتُرِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ لَنَا لِاعْتِقَادِ مُتَابِعِي النَّصِّ لِأَجْلِ الشُّبَهِ الْمَانِعَةِ لَنَا عَنْهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَقْوَى عَلَى دَفْعِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ عَقِبَ التَّوَاتُرِ بِالْعَادَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّوَلُّدِ، فَجَازَ إخْلَافُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ السَّامِعِينَ، فَيَحْصُلُ لِلسَّامِعِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ اعْتَقَدَ نَقِيضَ ذَلِكَ الْحُكْمِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ إذَا اعْتَقَدَ نَقِيضَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ بَاطِلُ بِآيَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ، فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَوَى فِي الْعِلْمِ بِتَوَاتُرِهَا مَنْ اعْتَقَدَ ظَاهِرَهَا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: هَذَا وَإِنْ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ، وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يُجَوَّزَ صِدْقُ مَنْ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ الْكِبَارِ، وَالْحَوَادِثَ الْعَظِيمَةَ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ؛ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ اعْتَقَدَهَا فِي نَفْيِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ بَاطِلٌ. [الْأَوَّلُ التَّوَاتُرَ يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ] ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ. الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّوَاتُرَ يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَزَعَمَ النَّظَّامُ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَذِبًا، وَأَنَّ الْحُجَّةَ فِيمَا غَابَ عَنْ الْحَوَاسِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْخَبَرِ الَّذِي يَضْطَرُّ سَامِعُهُ إلَى أَنَّهُ صِدْقٌ، سَوَاءٌ أَخْبَرَ بِهِ جَمْعٌ أَوْ وَاحِدٌ. وَأَجَازَ إجْمَاعُ أَهْلِ التَّوَاتُرِ عَلَى الْكَذِبِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ وَاقِعًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. [الثَّانِيَةُ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ] الثَّانِيَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ، سَوَاءٌ كَانَ عَنْ أَمْرٍ مَوْجُودٍ فِي زَمَانِنَا كَالْإِخْبَارِ عَنْ الْبُلْدَانِ الْبَعِيدَةِ، وَالْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ، كَوُجُودِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَتْ السُّمَنِيَّةُ.

وَالْبَرَاهِمَةُ: لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، بَلْ الظَّنَّ. وَجَوَّزَ الْبُوَيْطِيُّ فِيهِ. وَفَصَّلَ آخَرُونَ، فَقَالُوا: إنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَوْجُودٍ أَفَادَ الْعِلْمَ، أَوْ عَنْ مَاضٍ فَلَا يُفِيدُهُ لَنَا أَنَّا بِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ وُجُودَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ كَبَغْدَادَ، وَالْأَشْخَاصَ الْمَاضِيَةَ كَالشَّافِعِيِّ، فَصَارَ وُرُودُهُ كَالْعِيَانِ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ اضْطِرَارًا، وَقَدْ قَالَ الطُّفَيْلُ الْغَنَوِيُّ مَعَ أَعْرَابِيَّتِهِ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِاسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ وَقَادَ إلَيْهِ الطَّبْعُ، فَقَالَ: تَأَوَّبَنِي هَمٌّ مِنْ اللَّيْلِ مُنْصِبٌ ... وَجَاءَ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يُكَذَّبُ تَظَاهَرْنَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِي رِيبَةٌ ... وَلَمْ يَكُ عَمَّا أَخْبَرُوا مُتَعَقَّبُ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَمَا نُقِلَ عَنْ السُّمَنِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ، وَإِنْ كَثُرَ، فَلَا اكْتِفَاءَ بِهِ، حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْقَرِينَةِ مِنْ انْتِفَاءِ الْحَالَاتِ الْمَانِعَةِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، وَأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ وُقُوعَ الْعِلْمِ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يُضِيفُوا وُقُوعَهُ إلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ، بَلْ إلَى قَرِينَةٍ، وَوُقُوعُ الْعِلْمِ عَنْ الْقَرَائِنِ لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي مُخْتَصَرِ الْمُسْتَصْفَى ": لَمْ يَقَعْ خِلَافٌ فِي أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْيَقِينَ، إلَّا مِمَّنْ لَا يُؤْبَهُ بِهِ، وَهُمْ السُّوفِسْطَائِيَّة، وَجَاحِدُ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى عُقُوبَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَاذِبٌ بِلِسَانِهِ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ

الثالثة العلم المتواتر ضروري لا نظري ولا حاجة معه إلى كسب

فِي جِهَةِ وُقُوعِ الْيَقِينِ عَنْهُ، فَقَوْمٌ رَأَوْهُ بِالذَّاتِ، وَقَوْمٌ رَأَوْهُ بِالْعَرَضِ وَقَوْمٌ مُكْتَسَبًا. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا فِي الْفُرُوعِ جَرَيَانُ خِلَافٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ، فَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ مُنْضَبِطًا بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، فَفِي الْبَحْرِ " قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِخُرَاسَانَ: فِيهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ بَيْعُهُ مُطْلَقًا كَالْمَرْئِيِّ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ. [الثَّالِثَةُ الْعِلْمَ الْمُتَوَاتِرُ ضَرُورِيٌّ لَا نَظَرِيٌّ وَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إلَى كَسْبٍ] الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ ضَرُورِيٌّ لَا نَظَرِيٌّ، وَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إلَى كَسْبٍ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الْكُلِّ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدَانِ فِي شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنَّهُ قَوْلُ الْكَافَّةِ، إلَّا الْبَلْخِيّ. وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ ": إنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ مُتَكَلِّمِينَا، وَنَقَلَهُ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي هَاشِمٍ. وَذَهَبَ الْكَعْبِيُّ إلَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مُفْتَقِرٌ إلَى تَقَدُّمِ اسْتِدْلَالٍ، وَيُثْمِرُ عِلْمًا نَظَرِيًّا كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَوَافَقَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ الدَّقَّاقِ. وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَنْ الْغَزَالِيِّ، وَاَلَّذِي فِي الْمُسْتَصْفَى " أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى حُصُولِهِ إلَى الشُّعُورِ بِتَوَسُّطِ وَاسِطَةٍ

مُفْضِيَةٍ إلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْوَاسِطَةَ حَاضِرَةٌ فِي الذِّهْنِ، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا بِمَعْنَى أَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَقَوْلِنَا: الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا، وَالْمَوْجُودُ لَا يَكُونُ مَعْدُومًا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُصُولِ مُقَدِّمَتَيْنِ فِي النَّفْسِ: عَدَمُ اجْتِمَاعِ هَذَا الْجَمْعِ عَلَى الْكَذِبِ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ يَقْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ قَدْ كَثُرَ الطَّاعِنُ عَلَى قَوْلِ الْكَعْبِيِّ إنَّهُ نَظَرِيٌّ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ تَنْزِيلُ مَذْهَبِهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ عَلَى النَّظَرِ فِي ثُبُوتِ أَمَارَاتٍ جَامِعَةٍ وَانْتِفَائِهَا، فَلَمْ يَعْنِ الرَّجُلُ نَظَرًا عَقْلِيًّا، وَفِكْرًا سَبْرِيًّا عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَنَتَائِجَ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ إلَّا الْحَقَّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَإِذَا تَبَيَّنَ تَوَارُدُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَتِلْمِيذِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَنْزِيلُ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ عَلَيْهِ، لَمْ يَبْقَ خِلَافٌ. وَقَالَ إلْكِيَا: مَا ذَكَرَهُ الْكَعْبِيُّ يَرْجِعُ إلَى سَبَبِ الْعِلْمِ، يَعْنِي أَنَّ الْعِلْمَ لَمْ يَحْصُلْ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي هَذَا، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْخَبَرَ إذَا حَصَلَ بِشَرَائِطِهِ هَلْ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَعْبِيَّ لَا يُجَوِّزُ أَنْ يُخَالَفَ فِي هَذَا، فَإِنَّا نَرَى الْعِلْمَ يَحْصُلُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، وَإِلَّا فَالْكَعْبِيُّ لَا يُنْكِرُ الْمَحْسُوسَ وَيَقُولُ: لَمْ أَعْلَمْ الْبِلَادَ الْغَائِبَةَ إلَّا بِالنَّظَرِ، وَمَا كَانَ ضَرُورِيًّا يُعْلَمُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْبِطُ النَّظَرَ. قَالَ: وَقَاضِينَا أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: أَعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ ضَرُورَةٌ، وَأَعْلَمُ بِالنَّظَرِ أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ، فَجَعْلُ الْعِلْمِ بِهِ بِالنَّظَرِ يُدْرَكُ، وَالْمَعْلُومُ الثَّانِي وَهُوَ صِدْقُ الْمُخْبِرِينَ مُدْرَكًا بِالنَّظَرِ وَوَجْهُ النَّظَرِ تَيْسِيرُ مَدَارِكِ الْبَحْثِ الَّذِي يَظُنُّ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ يَتَطَرَّقُ مِنْهُ إلَى الْعِلْمِ، وَإِذَنْ بَطَلَ تَعَيُّنُ كَوْنِهِ مُدْرَكًا بِالضَّرُورَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْعِلْمِ بِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ، فَبَطَلَ مَا رَآهُ الْقَاضِي، وَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْكَعْبِيَّ إنَّمَا ادَّعَى النَّظَرَ فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ، لَا فِي الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِينَ. اهـ.

الرابعة ثبت وقوع العلم عنه وأنه ضروري أي المتواتر

وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ احْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ضَرُورِيًّا بِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَا يَزِيدُ الْمُعْجِزَةَ، وَنَحْنُ لَمْ نَعْلَمْهَا إلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ، فَكَذَا الْخَبَرُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ بَيْنَ الْمُكْتَسَبِ وَالضَّرُورِيِّ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْمُكْتَسَبِ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الضَّرُورِيِّ. قَالَهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ". وَرَابِعٌ: وَهُوَ الْوَقْفُ ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ نَظَرِيٌّ، فَهُوَ بِطَرِيقِ التَّوْلِيدِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَإِلَّا فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ؛ لِتَرَتُّبِهِ عَلَى فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ، وَوَجْهُ الْآخَرِ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الضَّرُورِيَّاتِ. [الرَّابِعَةُ ثَبَتَ وُقُوعُ الْعِلْمِ عَنْهُ وَأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ أَيْ الْمُتَوَاتِر] الرَّابِعَةُ: إذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الْعِلْمِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ، فَاخْتَلَفُوا إلَى مَاذَا يَسْتَنِدُ؟ فَالْجُمْهُورُ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِاسْتِنَادِهِ إلَى الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَنْكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا، وَرَأَى أَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى الْقَرَائِنِ. وَمِنْهَا كَثْرَةُ الْعَدَدِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعَهُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ، وَطَرْدُ أَصْلِهِ. هَذَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا احْتَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ، وَقَالَ: إنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ. [الْخَامِسَةُ الْعِلْمَ الْمُتَوَاتِر عَادِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ] الْخَامِسَةُ: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ عَادِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ الْكَذِبَ عَلَى كُلِّ عَدَدٍ، وَإِنْ عَظُمَ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الِاسْتِحَالَةُ عَادِيَةٌ. [السَّادِسَةُ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُوَلِّدُ الْعِلْمَ] السَّادِسَةُ: قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ ": اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ غَيْرَ شُذُوذٍ عَلَى أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُوَلِّدُ الْعِلْمَ. لَنَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَمُمْكِنٌ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٍ لَيْسَ إلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": الْقَوْلُ فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَقَعُ مُبْتَدَأً مِنْ فِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ عَنْ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوَلُّدِ بَاطِلٌ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِ خَلْقِهِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ.

السابعة أخبر واحد بحضرة خلق كثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب ولم يكذبوه

[السَّابِعَةُ أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ وَلَمْ يَكْذِبُوهُ] السَّابِعَةُ: إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَمْ يَكْذِبُوهُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَعَلِمُوهُ، وَلَا حَامِلَ لَهُمْ عَلَى سُكُوتِهِمْ، كَالْخَوْفِ وَالطَّمَعِ، يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَسُلَيْمٌ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَبِهَذَا النَّوْعِ أَثْبَتْنَا كَثِيرًا مِنْ مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَكِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ نَظَرِيٌّ، بِخِلَافِ الْمُتَوَاتِرِ، فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ، وَقِيلَ: لَيْسَ صِدْقُهُ قَطْعِيًّا، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ اطِّلَاعٌ عَلَى كَذِبِهِ أَوْ صِدْقِهِ، أَوْ اطَّلَعَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَالْعَادَةُ لَا تُحِيلُ سُكُوتَ هَذَا الْبَعْضِ، وَبِتَقْدِيرِ اطِّلَاعِ الْكُلِّ يُحْتَمَلُ أَنَّ مَانِعًا مَنَعَهُمْ مِنْ التَّصَرُّفِ بِتَكْذِيبِهِ، وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَمْتَنِعُ الْقَطْعُ بِتَصْدِيقِهِ. وَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ عِنْدَ انْتِفَائِهَا كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، فَحِينَئِذٍ سُكُوتُهُمْ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِمْ: صَدَقْت. وَفَصَّلَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فَقَالَا: إنْ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ دَلَّ عَلَى الصِّدْقِ، وَإِنْ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ نَظَرِيٍّ، فَسَكَتُوا لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُمْ بِمَثَابَةِ تَصْرِيحِهِمْ بِالْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ. وَفَصَّلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بَيْنَ أَنْ يَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، فَيَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: وَأَلْحَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُضَافًا إلَى حَالٍ قَدْ شَاهَدَهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، ثُمَّ يَرْوِيهِ وَاحِدٌ

الثامنة أخبر واحد بحضرة النبي ولا حامل له على الكذب ولم ينكره

وَاثْنَانِ، وَيَسْمَعُ بِرِوَايَاتِهِ سَائِرُ مَنْ شَهِدَ الْحَالَ، فَلَا يُكْرَهُ، فَيَدُلُّ تَرْكُ إنْكَارِهِمْ لَهُ عَلَى صِدْقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي جَارِي الْعَادَةِ إمْسَاكُهُمْ جَمِيعًا عَنْ رَدِّ الْكَذِبِ، وَتَرْكِ الْإِنْكَارِ، وَقَالَ: وَعَلَى هَذَا وَرَدَتْ أَكْثَرُ سِيَرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَكْثَرُ أَحْوَالِهِ فِي مَغَازِيهِ. قَالَ: وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ جِدًّا. [الثَّامِنَةُ أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَةِ النَّبِيّ وَلَا حَامِلَ لَهُ عَلَى الْكَذِبِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ] الثَّامِنَةُ: إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا حَامِلَ لَهُ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَيَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا فِي الْمُخْتَارِ، خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِالْأَوَّلِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، لَكِنَّ شَرْطًا أَنْ يَدَّعِيَ عِلْمَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهِ، وَلَا يُكَذِّبَهُ وَقِيلَ: إنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لَمْ يَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِ، أَوْ دِينِيٍّ دَلَّ. وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيُّ بِشُرُوطِ التَّقْرِيرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أَخْبَرَ الْمُخْبِرُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَتَقْرِيرُ الرَّسُولِ عَلَى إخْبَارِهِ، وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ عَلَى انْتِفَاءِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ فَإِنَّمَا يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْعَمَلِ بِهِ قَدْ دَخَلَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ يُحْتَمَلُ؛ لِأَنَّ لَهُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ.

التاسعة خبر الواحد إذا صار إلى التواتر في العصر الثاني أو الثالث أو الرابع

ثَانِيهَا: أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ تَقَدَّمَهُ بَيَانُ حُكْمِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَكْرِيرُ الْبَيَانِ كُلَّ وَقْتٍ، فَلَعَلَّهُ حِينَئِذٍ إنَّمَا تَرَكَ الْإِنْكَارَ؛ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَيَانِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرَعَ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ الطَّيَرَانَ أَوْ تَرْكَ التَّنَفُّسِ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ عَنْ الْإِنْكَارِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مِمَّا لَا يُصْغَى إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ فَقَدْ قِيلَ أَيْضًا: إنَّهُ يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ إذَا عُلِمَ عِلْمُ الرَّسُولِ بِالْوَاقِعَةِ، وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ، وَقَالُوا: الرَّسُولُ لَا يَلْزَمُهُ تَبْيِينُ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِنْكَارُ عَلَى الْكَاذِبِ إذَا لَمْ يَحْلِفْ. تَنْبِيهٌ: الْعِلْمُ فِي هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ نَظَرِيٌّ؛ لِوُقُوعِهِ عَنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ ". [التَّاسِعَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا صَارَ إلَى التَّوَاتُرِ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ أَوْ الرَّابِعِ] ِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ. قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. قَالَ: وَخَالَفَ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَمِثْلُهُ بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الرُّؤْيَةِ وَالْقَدَرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْحَوْضِ وَالْمِيزَانِ.

العاشرة خبر الواحد والطائفة المحصورة إذا أجمع الفقهاء على قبوله والعمل به

وَالشَّفَاعَةِ وَخَبَرِ الرَّجْمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ وَنَحْوِهِ. [الْعَاشِرَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالطَّائِفَةِ الْمَحْصُورَةِ إذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ] ِ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، وَفِي إنَّهُ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، وَفِي أَنَّهُ «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا» يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ قَطْعًا عِنْدَ الْأُسْتَاذَيْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَتِلْمِيذِهِ أَبِي مَنْصُورٍ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَسُلَيْمٍ الرَّازِيَّ، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " عَنْ الْأُصُولِيِّينَ. وَنَقَلَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَنُقِلَ عَنْ الْكَرْخِيِّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ فِي كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ ": إنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى إثْبَاتِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَمَثَّلَهُ بِخَبَرِ «فِي خَمْسِ أَوَاقٍ، وَخَمْسِ ذَوْدٍ، وَعِشْرِينَ دِينَارًا، وَأَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» . قَالَ: كَمَا أَنَّهَا إذَا أَجْمَعَتْ عَلَى تَرْكِ الْخَبَرِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِصِدْقِهِ، وَإِنْ تَلَقَّوْهُ

بِالْقَبُولِ قَوْلًا وَنُطْقًا، وَقُصَارَاهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ. وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ الْأُمَّةِ لِلْخَبَرِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ الظَّاهِرِ، فَإِذَا اسْتَجْمَعَ شُرُوطَ الصِّحَّةِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ الصِّحَّةَ، فَلَا وَجْهَ لِلْقَطْعِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَقِيلَ: بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، فَلَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ، وَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ قَوْلًا وَنُطْقًا حُكِمَ بِصِدْقِهِ. وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ ابْنِ فُورَكٍ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْإِنْصَافُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ لَاحَ مِنْ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ مَخَايِلُ الْقَطْعِ وَالتَّصْمِيمِ وَأَنَّهُمْ أَسْنَدُوا التَّصْدِيقَ إلَى يَقِينٍ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّشْكِيكِ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا صِحَّةَ الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ خَفِيَتْ عَلَيْنَا، إمَّا بِأَخْبَارٍ نُقِلَتْ مُتَوَاتِرَةً، ثُمَّ انْدَرَسَتْ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ لَاحَ مِنْهُمْ التَّصْدِيقُ مُسْتَنِدًا إلَى تَحْسِينِ الظَّنِّ بِالْعُدُولِ بِالْبِدَارِ إلَى الْقَبُولِ فَلَا وَجْهَ لِلْقَطْعِ. اهـ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَجْلِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى مَشْهُورًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ وَسَطُهُ وَآخِرُهُ عَلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَأَوَّلُهُ مَنْقُولٌ عَنْ الْوَاحِدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ضَرُورَةً، فَإِنَّهُ لَوْ أَوْجَبَهُ ثَبَتَتْ حُجَّةُ النَّصَارَى، وَالْيَهُودِ، وَالْمَجُوس فِي أَشْيَاءَ نَقَلُوهَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ، وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ. وَقَدْ قَالَ أَبُو هَاشِمٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: إنَّ تَوَافُقَ الْأُمَّةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ قَامَتْ بِهِ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ فِيمَا قَبِلُوهُ مِنْ الْأَخْبَارِ قَدْ جَرَتْ بِأَنَّ مَا لَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ لَا يُطْبِقُونَ عَلَى قَبُولِهِ، فَلَمَّا أَطْبَقُوا عَلَى قَبُولِهِ فَقَدْ عَظَّمُوا النَّكِيرَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ. وَمِنْهُ أَخْبَارُ أُصُولِ الزَّكَاةِ

وَالْعِبَادَاتِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ مِنْ الْأَخْبَارِ، كَرِوَايَةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، وَرِوَايَاتِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: وَبِمِثْلِهِ احْتَجَجْنَا بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ، وَلَكِنْ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَمَنَعَتْ بِسَبَبِهَا مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ، وَشَدَّدَتْ النَّكِيرَ عَلَى الْمُخَالِفِ. فَإِنْ قِيلَ: خَبَرُ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ، وَلَا يَتَّفِقُ جَمْعٌ لَا يُحْصَوْنَ عَلَى الظَّنِّ، كَمَا لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى الْقِيَاسِ؟ قِيلَ: الصَّحِيحُ جَوَازُ اسْتِنَادِ الْإِجْمَاعِ إلَى الْقِيَاسِ، وَنَقَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُتَصَوَّرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ، فَلَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى انْقِطَاعِ الِاحْتِمَالِ حَيْثُ لَا يَنْقَطِعُ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ بَرْهَانٍ، فَقَالَ: عَدَدُ التَّوَاتُرِ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ عَنْ الْوَاحِدِ لَمْ يَصِرْ مُتَوَاتِرًا، وَهَلْ يُفِيدُ الْقَطْعَ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَظْنُونٌ، وَالظَّنِّيُّ لَا يَنْقَلِبُ قَطْعِيًّا. وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّ تَلَقِّيَ الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ لَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِالصِّدْقِ لِلِاحْتِمَالِ. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ قِيلَ لِلْقَاضِي: لَوْ دَفَعُوا هَذَا الظَّنَّ، وَبَاحُوا بِالصِّدْقِ؟ فَقَالَ مُجِيبًا: لَا يُتَصَوَّرُ هَذَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ، وَلَوْ نَطَقُوا لَكَانُوا مُجَازِفِينَ، وَأَهْلُ الْإِجْمَاعِ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى بَاطِلٍ.

قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَقَدْ حُكِيَتْ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ بَيَّنَ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا أَجْمَعَتْ أَوْ أَجْمَعَ أَقْوَامٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ فِيهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ صِدْقٌ - كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ. قَالَ: فَهَذَا عَكْسُ مَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُمْ لَوْ نَطَقُوا بِهَذَا عَنْ أَمْرٍ عَلِمُوهُ، ذَلِكَ كَلَامٌ لَا يَسْتَنِدُ لِأَنَّا لَا نُطَالِبُ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ بِمُسْتَنِدِ إجْمَاعِهِمْ. وَقَالَ: وَلَعَلَّ مَا حَكَاهُ الْإِمَامُ فِيمَا إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَلَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ إجْمَاعٌ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ، فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ. اهـ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ يَأْبَاهُ. وَجَزَمَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " بِصِحَّةِ مَا إذَا تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ، قَالَ: وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا أَجْمَعَتْ عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجَبِ الْخَبَرِ لِأَجْلِهِ، هَلْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ إذَا عَمِلَ بِمُوجَبِهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ عَدَلَ عَنْهُ، فَهَلْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ كَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَعُبَادَةَ فِي الرِّبَا، وَتَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِذَلِكَ، وَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُجِّيَّتِهِ. قَالَ: فَهَذَا فَرْعُ الْكَلَامِ فِي خِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، هَلْ يَكُونُ خِلَافًا مُعْتَدًّا بِهِ؟ وَالصَّحِيحُ الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ مَعَ هَذَا أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ. اهـ.

مسألة إجماعهم على العمل على وفق الخبر لا يقتضي صحة الخبر

وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إنَّ جَمِيعَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ الِاتِّفَاقُ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِمَا، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِمَا مَظْنُونُ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْنَا الْقَطْعَ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ تُفِدْ إلَّا الظَّنَّ. [مَسْأَلَةٌ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ الْخَبَرِ لَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْخَبَرِ] ِ] أَمَّا إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ الْخَبَرِ، فَلَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ فَضْلًا عَنْ الْقَطْعِ بِهِ، فَقَدْ يَعْمَلُونَ عَلَى وَفْقِهِ بِغَيْرِهِ. جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ " فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ سَيَأْتِي فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَمَّا إذَا افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ شَطْرَيْنِ، شَطْرٌ قَبِلُوهُ، وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهُ، وَالشَّطْرُ الْآخَرُ اشْتَغَلَ بِتَأْوِيلِهِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ، وَقَالَ: إنَّهُ الْحَقُّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ فِي اللُّمَعِ " يَقْتَضِي أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ، فَإِنَّهُ قَالَ: خَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ، سَوَاءٌ عَمِلَ الْكُلُّ بِهِ أَوْ الْبَعْضُ وَتَأَوَّلَهُ الْبَعْضُ. اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ".

الحادية عشرة خبر الواحد المحفوف بالقرائن

[الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْمَحْفُوفُ بِالْقَرَائِنِ] ِ، ذَهَبَ النَّظَّامُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَيَكُونُ الْعَمَلُ نَاشِئًا عَنْ الْمَجْمُوعِ مِنْ الْقَرِينَةِ وَالْخَبَرِ، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ. [الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ يَنْقَسِمُ التَّوَاتُرُ بِاعْتِبَارَاتٍ] ٍ. أَحَدُهَا: إلَى مَا يَتَوَاتَرُ عِنْدَ الْكَافَّةِ، وَإِلَى مَا يَتَوَاتَرُ عِنْدَ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ، كَمَسْأَلَةِ عَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، فَإِنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ دُونَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ مُنْكِرُهُ مُعَانِدٌ كَافِرٌ كَمُنْكِرِ الْقُرْآنِ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ. إذْ جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ أَهْلُ الْحَدِيثِ دُونَ غَيْرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا قَوْلُك فِي الْبَسْمَلَةِ إذَا ادَّعَيْتُمْ التَّوَاتُرَ بِكَوْنِهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَخَالَفَكُمْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ؟ قُلْنَا: لَمْ يَقَعْ النِّزَاعُ فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؛ لِيَكُونَ جَاحِدُهَا كَافِرًا، وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي تَعَدُّدِ الْمَوْضِعِ وَاتِّحَادِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى تَوَاتُرِ أَصْلِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، قَالَهُ أَبُو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحُ: وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ جَوَابِ ابْنِ الْحَاجِبِ بِقُوَّةِ الشُّبْهَةِ. ثَانِيهَا: التَّوَاتُرُ قَدْ يَكُونُ لَفْظِيًّا وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَوِيًّا، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ عَلَى أَخْبَارٍ تَرْجِعُ إلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ، كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وُجُودِ حَاتِمٍ. قَالُوا: وَمُعْجِزَاتُ النَّبِيِّ تَثْبُتُ بِهَذَا النَّوْعِ، وَهُوَ دُونَ التَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ؛ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ فِي طَرِيقِ النَّقْلِ. قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ الطَّرِيقِ السَّالِمِ ": وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَنْقُولِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ مُتَقَوَّلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْآحَادَ

تنبيه الخبر المتواتر عند أهل الحديث

كُلَّهَا الْمَرْوِيَّةَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ صَحِيحَةٍ، حَكَمَتْ الْعُقُولُ بِكَذِبِهِ، وَنَطَقَتْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا مُتَقَوَّلَةً، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَلَا يَكَادُ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إلَّا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُصُولِ وَمَسَائِلَ قَلِيلَةٍ فِي الْفُرُوعِ، كَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الرَّوَافِضِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَعَ الْخَوَارِجِ، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي التَّمْثِيلِ بِشَجَاعَةِ عَلِيٍّ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ بِأَنْ نَقَلَهُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ الْمُحَصِّلِينَ، فَشَجَاعَتُهُ مُتَوَاتِرَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى. [تَنْبِيهٌ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ] ِ] الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَذْكُرُونَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ الْمُشْعِرِ بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ، وَإِنْ كَانَ الْخَطِيبُ ذَكَرَهُ. فَفِي كَلَامِهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ أَهْلَ الْحَدِيثِ. قُلْت: قَدْ ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَادَّعَى ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُمْ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرُوهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَشْمَلْهُ صِنَاعَتُهُمْ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي رِوَايَاتِهِمْ؛ لِنُدْرَتِهِ، وَمَنْ سُئِلَ عَنْ مِثَالٍ لَهُ أَعْيَاهُ طَلَبُهُ. قَالَ: وَلَيْسَ مِنْهُ حَدِيثُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ؛ لِأَنَّ التَّوَاتُرَ طَرَأَ عَلَيْهِ فِي وَسَطِ إسْنَادِهِ. نَعَمْ، حَدِيثُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» مُتَوَاتِرٌ، رَوَاهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَنْهُمْ، وَذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّهُ رَوَاهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ.

قُلْت: وَأَنْكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَدْرِ صَحِيحِهِ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ، فَقَالَ: وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ؛ لِأَنَّ لَيْسَ يُوجَدُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرٌ مِنْ رِوَايَةِ عَدْلَيْنِ، رَوَى أَحَدُهُمَا عَنْ عَدْلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ عَدْلَيْنِ حَتَّى يَنْتَهِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا اسْتَحَالَ هَذَا وَبَطَلَ، ثَبَتَ أَنَّ الْأَخْبَارَ كُلَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ، وَمَنْ رَدَّ قَبُولَهُ فَقَدْ رَدَّ السُّنَّةَ كُلَّهَا؛ لِعَدَمِ وُجُودِ السُّنَنِ إلَّا مِنْ رِوَايَةِ الْآحَادِ. اهـ. وَفِي هَذَا مَا يَرُدُّ عَلَى الْحَاكِم دَعْوَاهُ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ اشْتَرَطَا أَنْ لَا يَرْوِيَا الْحَدِيثَ إلَّا بِرِوَايَةِ اثْنَيْنِ عَنْ اثْنَيْنِ، وَهَكَذَا.

فصل في المستفيض

[فَصْلٌ فِي الْمُسْتَفِيضِ] [تَعْرِيفُ الْمُسْتَفِيضِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ] ِ [تَعْرِيفُ الْمُسْتَفِيضِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ] قِيلَ: إنَّهُ وَالْمُتَوَاتِرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابَيْهِمَا. وَقِيلَ: بَلْ الْمُسْتَفِيضُ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَتْبَاعُهُ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَجَرَى عَلَيْهِ تِلْمِيذُهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ مِعْيَارِ النَّظَرِ "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " فَقَالَ: ضَابِطُهُ أَنْ يَنْقُلَهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ يَرْبُو عَلَى الْآحَادِ، وَيَنْحَطُّ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ. وَجَعَلَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ قِسْمًا مِنْ الْآحَادِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ مَا نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ تَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ، وَقِيلَ: " الْمُسْتَفِيضُ " مَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَعَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ

مَا اُشْتُهِرَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ، وَكَأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالِاشْتِهَارِ مَعَ التَّسْلِيمِ، وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ فُورَكٍ فِي صَدْرِ كِتَابِهِ: مُشْكِلِ الْحَدِيثِ " إلَى هَذَا أَيْضًا. وَمَثَّلَهُ بِخَبَرِ: «فِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» . وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": الْمُسْتَفِيضُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رُتْبَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ الشَّائِعُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ صَدَرَ عَنْ أَصْلٍ لِيُخْرِجَ الشَّائِعَ لَا عَنْ أَصْلٍ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي " وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " تَقْسِيمًا غَرْبِيًّا جَعَلَا فِيهِ الْمُسْتَفِيضَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ الْمُتَوَاتِرِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ. فَقَالَا: الْخَبَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: الِاسْتِفَاضَةُ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَشِرَ مِنْ ابْتِدَائِهِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَيَتَحَقَّقُهُ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ سَامِعٌ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ، وَعَنَيَا بِذَلِكَ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ. قَالَا: وَهَذَا أَقْوَى الْأَخْبَارِ وَأَثْبَتُهَا حُكْمًا. وَالثَّانِي: التَّوَاتُرُ: وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ حَتَّى يَكْثُرَ عَدَدُهُمْ، وَيَبْلُغُوا قَدْرًا يَنْتَفِي عَنْ مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَالْغَلَطُ فَيَكُونُ فِي أَوَّلِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِي آخِرِهِ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِفَاضَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اخْتِلَافِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الِانْتِهَاءِ. الثَّانِي: أَنَّ خَبَرَ الِاسْتِفَاضَةِ لَا تُرَاعَى فِيهِ عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ، وَفِي الْمُتَوَاتِرِ يُرَاعَى ذَلِكَ.

مسألة إفادة المستفيض العلم

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ تَنْتَشِرُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُ، وَالْمُتَوَاتِرُ مَا انْتَشَرَ عَنْ قَصْدٍ لِرِوَايَتِهِ، وَيَسْتَوِيَانِ فِي انْتِفَاءِ الشَّكِّ وَوُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِمَا وَلَيْسَ الْعَدَدُ فِيهِمَا مَحْصُورًا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ انْتِفَاءُ التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ الْمُخْبِرِينَ. قَالَا: وَالْمُسْتَفِيضُ مِنْ أَخْبَارِ السُّنَّةِ مِثْلُ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَالتَّوَاتُرُ مِنْهَا مِثْلُ وُجُوبِ الزَّكَوَاتِ. هَكَذَا قَالَا، وَهُوَ غَرِيبٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُمَا فِي الِاسْتِفَاضَةِ مُوَافِقٌ لِمَا اخْتَارَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالِاسْتِفَاضَةِ مِنْ طُرُقِهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عَدَدٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ: أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ، أَنَّ أَقَلَّ مَا ثَبَتَتْ بِهِ الِاسْتِفَاضَةُ سَمَاعُهُ مِنْ اثْنَيْنِ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ ابْنِ كَجٍّ، وَنَقَلَ وَجْهَيْنِ: فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِ السَّامِعِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ؟ قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا غَيْرَ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْتَبَرُ خَبَرُ عَدَدٍ يُؤْمَنُ فِيهِمْ التَّوَاطُؤُ. [مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ الْمُسْتَفِيضِ الْعِلْمَ] َ] وَالْمُسْتَفِيضُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوَاسِطَةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ فِي قَوْلِ الْأُسْتَاذَيْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَأَبِي مَنْصُورٍ التَّمِيمِيِّ، وَابْنُ فُورَكٍ، وَمَثَّلَهُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ ": بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى

الْخُفِّ، وَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْحَوْضِ، وَالشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمَثَّلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ بِحَدِيثِ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَحَدِيثِ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَمَلِ، مُقَارِبًا لِلْيَقِينِ. وَسَبَقَهُ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَضَعَّفَ مَقَالَةَ الْأُسْتَاذِ بِأَنَّ الْعُرْفَ وَإِطْرَادَ الِاعْتِبَارِ لَا يَقْتَضِي الصِّدْقَ قَطْعًا، بَلْ قُصَارَاهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: كَأَنَّ الْأُسْتَاذَ أَرَادَ أَنَّ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِ الْمُخْبِرِينَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالتَّجْرِبَةِ يَحْصُلُ ذَلِكَ، وَقَدْ مَالَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ، وَلَا وَجْهَ لَهُ. نَعَمْ، هُوَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لَا الْعِلْمِ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُوَ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ فِي قَوْلِ الْأُسْتَاذَيْنِ.

القسم الثاني فيما يقطع بكذبه

[الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ] [الْخَبَرُ الْمَعْلُومُ خِلَافُهُ] ِ وَهُوَ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: الْخَبَرُ الْمَعْلُومُ خِلَافُهُ، إمَّا بِالضَّرُورَةِ كَالْإِخْبَارِ بِاجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ أَوْ ارْتِفَاعِهِمَا، أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ كَإِخْبَارِ الْفَيْلَسُوفِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ. [الثَّانِي الْخَبَرُ الَّذِي لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَتَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا] ، إمَّا لِكَوْنِهِ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ أَمْرًا غَرِيبًا، كَسُقُوطِ الْخَطِيبِ عَنْ الْمِنْبَرِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: مِنْهَا: بُطْلَانُ النَّصِّ الَّذِي تَزْعُمُ الرَّوَافِضُ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى إمَامَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَعَدَمُ تَوَاتُرِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ. قَالَ: إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَمَا خَفِيَ عَلَى أَهْلِ بَيْعَةِ الثَّقِيفَةِ، وَلَتَحَدَّثَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ عَلَى مِغْزَلِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يُخَالِفَ أَوْ يُوَافِقَ. وَبِهَذَا الْمَسْلَكِ أَيْضًا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ قَدْ عُورِضَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ جَرَى لَمَا خَفِيَ، وَالنَّصُّ الَّذِي تَزْعُمُ الْعِيسَوِيَّةُ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آخِرُ مَبْعُوثٍ، وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْحُكْمِ الرُّجُوعُ إلَى الْعَادَةِ وَاقْتِضَائِهَا الِاشْتِهَارَ فِي ذَلِكَ، وَالشِّيعَةُ تُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ لَا يَشْتَهِرَ لِخَوْفٍ أَوْ فِتْنَةٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ فِي مِثْلِهِ. وَلَيْسَ مِنْ هَذَا مَا قَدَحَ بِهِ الرَّوَافِضُ عَلَيْنَا، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَجَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَفْسِ حَجَّتِهِ اخْتِلَافًا لَمْ يَتَحَصَّلْ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهِ عَلَى يَقِينٍ، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ. هَلْ كَانَ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً؟

وَكَذَا الْإِقَامَةُ فِي طُولِ عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ يَخْتَلِفُونَ فِي تَثْنِيَتِهَا وَإِفْرَادِهِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ فِيهِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ. قُلْنَا: أَمْرُ الْقِرَانِ وَالْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَ الْكُلِّ جَوَازُ الْكُلِّ لَمْ يَعْتَنُوا بِالتَّفْتِيشِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُلَقِّنُ الْخَلْقَ إضَافَةَ الْحَجِّ، فَنَاقِلُ الْإِفْرَادِ سَمِعَهُ يُلَقِّنُ غَيْرَهُ ذَلِكَ، وَنَاقِلُ التَّمَتُّعِ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فَتْحُ مَكَّةَ، نُقِلَ أَنَّهُ عَلَى هَيْئَةِ الْعَنْوَةِ وَالْقَهْرِ، وَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مَالًا، وَتَوَاتَرَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَحْكَامٍ جُزْئِيَّةٍ كَمُصَالَحَةٍ جَرَتْ عَلَى الْأَرَاضِي وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَنْعُ بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ أَوْ تَجْوِيزُهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَصُورَةُ دُخُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُتَسَلِّحًا بِالْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ وَبَذْلُهُ الْأَمَانَ لِمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَاعْتَصَمَ بِالْكَعْبَةِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صُلْحًا بِأَنَّهُ وَدَى قَوْمًا قَتَلَهُمْ خَالِدٌ، وَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَغَيْرُ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ التَّأْوِيلُ. وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَتَثْنِيَتُهَا وَإِفْرَادُهَا لَيْسَ مِنْ عَظَائِمِ الْعَزَائِمِ، وَلَوْلَا اشْتِهَارُهَا بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ، لَمْ تَعْلَمْ الْعَامَّةُ تَفْصِيلَهَا، فَإِنَّهَا لَا تَهُمُّهُمْ، وَالْعُصُورُ تَنَاسَخَتْ، وَتَعَلَّقَتْ الْإِقَامَةُ بِالْبَدَلِ، وَشَعَائِرُ الْمُلُوكِ، وَلَا كَذَلِكَ أَمْرُ الْإِمَامَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَتَتَعَلَّقُ بِعَزَائِمِ الْخُطُوبِ، وَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُ

دُثُورِهَا عَلَى قُرْبِ الْعَهْدِ بِالرَّسُولِ. وَأَمَّا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاتَرْ، وَهُوَ لَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْحَلِيمِيِّ. هَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ؛ لِأَنَّهُ آيَةٌ لَيْلِيَّةٌ، تَكُونُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ غَافِلُونَ، وَإِنَّمَا يَرَى ذَلِكَ مَنْ نَاظَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قُرَيْشٍ، وَصَرَفَ هِمَّتَهُ إلَى النَّظَرِ فِيهِ، وَإِنَّمَا انْشَقَّ مِنْهُ شُعْبَةٌ فِي مِثْلِ طَرَفِ الْقَمَرِ، ثُمَّ رَجَعَ صَحِيحًا، وَكَمْ مِنْ انْقِضَاضٍ وَرِيَاحٍ تَحْدُثُ بِاللَّيْلِ، وَلَا يَشْعُرُ بِهَا أَحَدٌ، فَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ ظَاهِرًا، وَإِنَّمَا يَسْتَدِلُّ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى انْشِقَاقِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] وَأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ اقْتِرَابِ انْشِقَاقِهِ، لَوَجَبَ أَنْ يَقُولَ: وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَلَوَجَبَ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ الرَّسُولُ أَنَّ مِنْ الْآيَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ انْشِقَاقَهُ. اهـ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ وَقَدْ رَوَاهُ خَلْقٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُمْ خَلْقٌ كَمَا أَوْضَحْته فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمُخْتَصَرِ ". وَمِنْهَا: أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا فِي الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّ الِاهْتِمَامَ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ فِي إحْيَاءِ مَعَالِمِ الدِّينِ يَمْنَعُ تَقَدُّرَ دَرْسِهِ، وَارْتِبَاطَ مَسَائِلِهِ بِلَا حَاجَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ اخْتَلَفُوا فِي الْبَسْمَلَةِ أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ دُرُوسُ رَسْمِهَا وَنَظْمِهَا، فَلَمْ يَكُنْ؛ لِنَقْلِ

الثالث ما نقل عن النبي بعد استقرار الأخبار ثم فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب ولا في صدور الرواة

كَوْنِهَا مِنْ السُّوَرِ كَبِيرُ أَثَرٍ فِي الدِّينِ بَعْدَ الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَمِنْهَا مَا نُقِلَ مُتَوَاتِرًا، وَمِنْهَا مَا نُقِلَ آحَادًا مَعَ أَنَّهَا أَعَاجِيبُ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ، وَكَذَا إذَا كَثُرَتْ الْمُعْجِزَاتُ، وَكَثُرَتْ فِيهَا عُسْرَتُهُمْ مِثْلُ تَشَوُّقِهِمْ إلَى نَقْلِ آحَادِهَا، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، وَلَمْ يَهْتَمَّ عُثْمَانُ بِجَمْعِ النَّاسِ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ، وَحَرَصَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: يَجْرِي ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ رُكْنَ الدِّينِ اسْتَوَتْ الْأُمَّةُ فِي الِاعْتِنَاءِ بِهِ، فَلَمْ نُجِزْ أَنْ يُنْقَلَ بَعْضُهُ مُتَوَاتِرًا وَبَعْضُهُ آحَادًا مَعَ اسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، بِخِلَافِ بَاقِي الْمُعْجِزَاتِ، فَإِنَّهُمْ اعْتَنَوْا بِنَقْلِ مَا يَبْقَى رَسْمُهُ أَبَدَ الدَّهْرِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي هَذَا النَّوْعِ كِتَابِ الِانْتِصَارِ "، وَمَا أَعْجَبَهُ مِنْ كِتَابٍ، فَقَدْ أَزَالَ بِهِ الْحَائِكَ عَنْ صُدُورِ الْمُرْتَابِينَ. وَمِنْهَا: لَوْ غَصَّ الْمَجْلِسُ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ، وَنَقَلَ كُلُّهُمْ عَنْ صَاحِبِ الْمَجْلِسِ حَدِيثًا، وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ ثِقَةٌ بِنَقْلِ زِيَادَةٍ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا تُرَدُّ، وَإِلَّا لَنَقَلَهَا الْبَاقُونَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ انْفِرَادَ بَعْضِ النَّقَلَةِ بِمَزِيدِ حِفْظٍ لَا يُنْكَرُ، وَالْقَرَائِحُ وَالْفِطَنُ تَخْتَلِفُ، وَلَيْسَتْ الرِّوَايَاتُ مِمَّا تَتَكَرَّرُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، حَتَّى لَا يَشِذَّ شَيْءٌ مِنْهَا، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَنَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ رَدَّ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى كَمَسِّ الذَّكَرِ، وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَسَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": وَإِنَّمَا قُبِلَتْ مِنْ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْإِخْبَارُ بِهَا بِحَضْرَةِ مَنْ يَجِبُ تَوَفُّرُ دَوَاعِيهِمْ عَلَى النَّقْلِ وَالْإِظْهَارِ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ يُلْقِيهِ إلَى الْآحَادِ. [الثَّالِثُ مَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْأَخْبَارِ ثُمَّ فُتِّشَ عَنْهُ فَلَمْ يُوجَدْ فِي بُطُونِ الْكُتُبِ وَلَا فِي صُدُورِ الرُّوَاةِ] الثَّالِثُ: مَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْأَخْبَارِ ثُمَّ فَتَّشَ عَنْهُ فَلَمْ

الرابع خبر مدعي الرسالة من غير معجزة

يُوجَدْ فِي بُطُونِ الْكُتُبِ، وَلَا فِي صُدُورِ الرُّوَاةِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ، وَغَايَتُهُ الظَّنُّ لَا الْقَطْعُ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: " بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْأَخْبَارِ " عَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ حَيْثُ كَانَتْ الْأَخْبَارُ مُنْتَشِرَةً، وَلَمْ تَعْتَنِ الرُّوَاةُ بِتَدْوِينِهَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَفِيمَا ذَكَرُوهُ نَظَرٌ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا جَمِيعَ الدَّفَاتِرِ وَجَمِيعَ الرُّوَاةِ، فَالْإِحَاطَةُ بِذَلِكَ مُتَعَذِّرَةٌ مَعَ انْتِشَارِ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَكْثَرَ مِنْ الدَّفَاتِرِ وَالرُّوَاةُ فَهَذَا لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ الْعُرْفِيَّ، وَلَا يُفِيدُ الْقَطْعَ. [الرَّابِعُ خَبَرُ مُدَّعِي الرِّسَالَةَ مِنْ غَيْرِ مُعْجِزَةٍ] ٍ، نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدِي فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَأَقُولُ: إنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَلْقَ كُلِّفُوا مُتَابَعَتَهُ وَتَصْدِيقَهُ مِنْ غَيْرِ آيَةٍ فَهُوَ كَذِبٌ، فَإِنْ قَالَ: مَا أُكَلِّفُ الْخَلْقَ اتِّبَاعِي، وَلَكِنْ أُوحِيَ إلَيَّ، فَلَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ. اهـ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا قَبْلَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَنَقْطَعُ بِكَذِبِهِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. [الْخَامِسُ كُلُّ خَبَرٍ أَوْهَمَ بَاطِلًا وَلَمْ يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ] َ، إمَّا لِمُعَارَضَتِهِ لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَوْ الْقَطْعِيِّ النَّقْلِيِّ، وَهُوَ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ - مُمْتَنِعٌ صُدُورُهُ عَنْهُ قَطْعًا، كَأَخْبَارٍ رَوَتْهَا الزَّنَادِقَةُ تُخَالِفُ الْقَطْعَ قَصْدًا لِشَيْنِ الدِّينِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَنْ يُنَافِرُ أَهْلَ الْحَدِيثِ، كَحَدِيثِ: عَرَقِ الْخَيْلِ. [أَسْبَابُ الْوَضْعِ] [أَسْبَابُ الْوَضْعِ] وَسَبَبُ الْوَضْعِ إمَّا نِسْيَانُ الرَّاوِي لِطُولِ عَهْدِهِ بِالْخَبَرِ الْمَسْمُوعِ، وَإِمَّا غَلَطُهُ بِأَنْ أَرَادَ النُّطْقَ بِلَفْظٍ فَسَبَقَ؛ لِسَانُهُ إلَى سِوَاهُ، أَوْ وَضَعَ لَفْظًا مَكَانَ

السادس بعض المنسوب إلى النبي بطريق الآحاد

آخَرَ ظَانًّا أَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَإِمَّا افْتِرَاءُ الزَّنَادِقَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ الْوَاضِعِينَ أَحَادِيثَ تُخَالِفُ الْعُقُولَ تَنْفِيرًا عَنْ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. [السَّادِسُ بَعْضُ الْمَنْسُوبِ إلَى النَّبِيِّ بِطَرِيقِ الْآحَادِ] السَّادِسُ: بَعْضُ الْمَنْسُوبِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَرِيقِ الْآحَادِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (سَيَكْذِبُ عَلَيَّ) فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَزِمَ وُقُوعُ الْكَذِبِ ضَرُورَةً، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مَعَ كَوْنِهِ رُوِيَ عَنْهُ فَقَدْ حَصَلَ الْكَذِبُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ ضَرُورَةً. [الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَخْبَارُ الْآحَادِ] [أَخْبَارُ الْآحَادِ] الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ وَهُوَ إمَّا أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ احْتِمَالَاتُ صِدْقِهِ كَخَبَرِ الْعَدْلِ أَوْ كَذِبِهِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ، أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ كَخَبَرِ الْمَجْهُولِ، وَهَذَا الضَّرْبُ لَا يَدْخُلُ إلَّا فِي الْجَائِزِ الْمُمْكِنِ وُقُوعُهُ وَعَدَمُهُ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي اللُّغَةِ يَقْتَضِي وَحْدَهُ الْمُخْبَرَ الَّذِي يُنَافِيهِ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ، لَكِنْ وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ بِهِ عَلَى كُلِّ مَا لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بِهِ جَمْعًا إذَا نَقَصُوا عَنْ حَدِّ التَّوَاتُرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا لَمْ يَنْتَهِ نَاقِلُهُ إلَى حَدِّ الِاسْتِفَاضَةِ وَالشُّهْرَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَرْهَانٍ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى رَأْيِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُفْرِدُونَ لَهُ أَحْكَامًا أُصُولِيَّةً قَرِيبًا مِنْ أَحْكَامِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، أَمَّا أَصْحَابُنَا فَلَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ

مسألة أقسام خبر الواحد

الْهِنْدِيُّ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ مِنْ جُمْلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ أَقْسَامُ خَبَرِ الْوَاحِدِ] ِ] قَسَّمَ الْأَقْدَمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، خَبَرَ الْوَاحِدِ إلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِيهِ إجْمَاعًا كَالشَّهَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَا خِلَافَ فِي قَبُولِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب: 53] قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَمَنْ بَعْدَهُ: وَلَا يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا سُكُونُ النَّفْسِ إلَى خَبَرِهِ، فَيُقْبَلُ مِنْ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: هَذِهِ هَدِيَّةُ فُلَانٍ إلَيْك، أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ وَهَبَهَا فُلَانٌ إلَيْك، أَوْ كُنْت أَمَرْته بِشِرَائِهَا فَاشْتَرَاهَا، كُلِّفَ الْمُخْبَرُ قَبُولَ قَوْلِهِ إذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ، وَيَحِلُّ لَهُ اسْتِمْتَاعٌ بِالْجَارِيَةِ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْهَدِيَّةِ، وَكَذَا الْإِذْنُ فِي دُخُولِ الدَّارِ، وَهَذَا شَيْءٌ مُتَعَارَفٌ فِي الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ خَبَرُ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَأَمَّا خَبَرُ الشَّهَادَاتِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ شَرْطَانِ بِالْإِجْمَاعِ: الْعَدَالَةُ، وَالْعَدَدُ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ وَالْإِجْمَاعُ بِقَبُولِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ

اُخْتُلِفَ فِي شَرْطِ بَعْضِهَا الْأَكْثَرُونَ مِنَّا وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ إلَى نَفْيِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ مِنْ الْإِمَامِيَّةِ. وَذَهَبَ الْأَقَلُّونَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ كَابْنِ سُرَيْجٍ وَالصَّيْرَفِيِّ، وَالْقَفَّالِ مِنَّا، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، إلَى أَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إلَى مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ، وَمِنْ بَعْدِهَا أَعْظَمَ الضَّرَرِ إذْ لَا يُمْكِنُهُمْ التَّلَافِي بِأَجْمَعِهِمْ. وَنُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَفَصَّلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ بَيْنَ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَمَا لَا يَسْقُطُ بِهَا، فَمَنَعَهُ فِي الْأَوَّلِ وَجَوَّزَهُ فِي الثَّانِي. حَكَاهُ فِي الْأَحْكَامِ "، وَقَدْ بَسَطَ الشَّافِعِيُّ كَلَامَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ ". وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] وَبِقَوْلِهِ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] وَهَذَا لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالثَّانِيَةِ أَضْعَفُ مِنْ الْأُولَى.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْحَقُّ عِنْدَنَا فِي الدَّلِيلِ بَعْدَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عِلْمِيَّةٌ أَنَّا قَاطِعُونَ بِعَمَلِ السَّلَفِ وَالْأُمَّةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ وَرَدَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا الْقَطْعُ حَصَلَ لَنَا مِنْ تَتَبُّعِ الشَّرِيعَةِ، وَبُلُوغِ جُزَيْئَاتٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا، وَمَنْ تَتَبَّعَ أَخْبَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ مَا عَدَا هَذِهِ الْفِرْقَةَ الْيَسِيرَةَ عَلِمَ ذَلِكَ قَطْعًا. اهـ. وَلَنَا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ثَلَاثَةُ مَسَالِكَ. الْأَوَّلُ: مَا تَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنْفَاذِ وُلَاتِهِ وَرُسُلِهِ آحَادًا إلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ؛ لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ الدِّينَ، وَلِيُوقِفُوهُمْ عَلَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَمَنْ طَالَعَ كُتُبَ السِّيَرِ ارْتَوَى بِذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَرُجُوعِهِمْ إلَيْهِ عِنْدَمَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ الْحَوَادِثِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَقْتَضِي دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ إذَا أَخْبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ بِكَذَا، حَصَلَ ظَنٌّ أَنَّهُ وُجِدَ الْأَمْرُ، وَأَنَّا لَوْ تَرَكْنَاهُ لَصِرْنَا إلَى الْعَذَابِ، وَبِهَذَا الدَّلِيلِ اسْتَدَلَّ ابْنُ سُرَيْجٍ وَمُتَابِعُوهُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ عَقْلًا. وَنَقُولُ: سَبَبُ الِاضْطِرَارِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ، أَمَّا فِي الشَّهَادَاتِ وَالْفَتْوَى وَالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ إلَى الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَوُقُوفِهِمْ عِنْدَهَا، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى ذَلِكَ بَيْنَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ لِيُعَلِّمَهَا النَّاسَ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْعُوثٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، مُضْطَرٌّ إلَى تَبْلِيغِ النَّاسِ كُلِّهِمْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِمُشَافَهَةِ الْجَمِيعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَعْثِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَيِّرَ إلَى كُلِّ بُقْعَةٍ عَدَدًا مُتَوَاتِرًا، فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّبْلِيغَ يَكُونُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ.

وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْ الْمَبْعُوثَ إلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِمَا يَقُولُهُ الرُّسُلُ، فَبَطَلَ فَائِدَتُهُمْ. هَذَا إذَا كَانَ أَكْثَرَ عَنْهُ مِمَّا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ. أَمَّا مَا يُطْلَبُ فِيهِ الْيَقِينُ كَالْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ فِيهِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالظَّنُّ فِي ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَبْلِيغُ هَذِهِ إلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَنَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ بِأَنْ يُرْسَلَ فِيهَا الْآحَادُ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ يُشِيرُ فِي كَلَامِهِ إلَى الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ مِمَّا يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ فَطَانَةٌ، فَيَتَنَبَّهُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ إلَى ذَلِكَ الْبُرْهَانِ بِطَرِيقِ الْعَقْلِ، وَمَنْ لَا فَطَانَةَ لَهُ فَقَدْ يَتَعَلَّمُ عَلَى الطُّولِ، وَقَدْ يُسَافِرُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْتَقْصِيَ بِهِ ذِهْنُهُ شَرْعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَكَانَتْ كُلُّهَا عِلْمِيَّةً؟ قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ. أَمَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْأَحْكَامَ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْعَقْلِ، فَتَكْلِيفُ النَّاسِ الْوُقُوفَ عَلَى بَرَاهِينِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا يَشُقُّ جِدًّا، وَيَشْغَلُهُمْ عَنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي عِمَارَةِ الْبَلَدِ، فَلِذَلِكَ اكْتَفَى الشَّارِعُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِالظَّنِّ. فَكَفَتْ فِيهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ، وَإِشَارَاتُ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْيَقِينِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْإِيمَانُ فَيَتِمُّ بِذَلِكَ تَبْلِيغُهُ النَّاسَ كُلَّهُمْ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ. تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِي الْعِبَارَةِ تَسَاهُلٌ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخَبَرِ لَوْ أَوْجَبَ الْعَمَلَ لَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يُثْمِرُ عِلْمًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْعَمَلُ عِنْدَ سَمَاعِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ عِنْدَهُ لَا بِهِ، وَهَذَا سَهْلٌ.

مسألة إثبات أسماء الله بأخبار الآحاد

الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ صَنَّفَ كِتَابًا فِي إثْبَاتِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَكَرَ فِي أَوَّلِهِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي» فَاعْتَرَضَ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: أَثْبَتَ خَبَرَ الْوَاحِدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالشَّيْءُ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، كَمَنْ ادَّعَى شَيْئًا، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَك؟ فَقَالَ: أَنَا أَشْهَدُ لِنَفْسِي. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بَاطِلٌ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ حَدِيثٍ، وَذَكَرَ وُجُوهَ الِاسْتِدْلَالِ فِيهَا، فَالْمَجْمُوعُ هُوَ الدَّالُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَنْ الَّذِي يُنْكِرُ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَالْحُكَّامُ آحَادٌ، وَالْمُفْتُونَ آحَادٌ، وَالشُّهُودُ آحَادٌ. [مَسْأَلَةٌ إثْبَاتُ أَسْمَاءِ اللَّهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ] ِ] اُخْتُلِفَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، هَلْ تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي الْمُرْشِدِ "، وَالْآمِدِيَّ فِي الْإِحْكَامِ ": الثُّبُوتُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِكَوْنِ التَّجْوِيزِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَاطِعِ كَأَصْلِ الصِّفَاتِ.

مسألة إثبات العقيدة بخبر الآحاد

[مَسْأَلَةٌ إثْبَاتُ الْعَقِيدَةِ بِخَبَرِ الْآحَادِ] ِ] سَبَقَ مَنْعُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ التَّمَسُّكِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْقَطْعُ مِنْ الْعَقَائِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ، وَالْعَقِيدَةُ قَطْعِيَّةٌ، وَالْحَقُّ الْجَوَازُ، وَالِاحْتِجَاجُ إنَّمَا هُوَ بِالْمَجْمُوعِ مِنْهَا، وَرُبَّمَا بَلَغَ مَبْلَغَ الْقَطْعِ، وَلِهَذَا أَثْبَتْنَا الْمُعْجِزَاتِ الْمَرْوِيَّةَ بِالْآحَادِ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي الْمَطْلَبِ ": إلَّا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ يَنْتَقِضُ بِأَخْبَارِ التَّشْبِيهِ، فَإِنَّ لِلْمُشَبِّهَةِ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ مَجْمُوعَهَا بَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ. فَإِنْ مَنَعْنَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَانَ لِخُصُومِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْعُنَا عَنْهُ، وَأَيْضًا فَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ إذَا صَحَّتْ وَسَاعَدَتْ أَلْفَاظُ الْأَخْبَارِ تَأَكَّدَ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَقَوِيَ الْيَقِينُ. [مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ] َ] إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، فَهَلْ يُفِيدُ الْعِلْمَ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُهُ. وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِحْكَامِ " عَنْ دَاوُد وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيِّ، وَالْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيِّ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ: وَبِهِ نَقُولُ. قَالَ: وَحَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. اهـ.

وَفِيمَا حَكَاهُ عَنْ الْحَارِثِ نَظَرٌ، فَإِنِّي رَأَيْت كَلَامَهُ فِي كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ "، نَقَلَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ أَقَلُّهُمْ: يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَلَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا، وَاحْتَجَّ بِإِمْكَانِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ مِنْ نَاقِلِهِ كَالشَّاهِدَيْنِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِمَا لَا الْعِلْمُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْكَرَابِيسِيِّ وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ أَحْمَدَ، وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ذَهَبَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَنَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ. لَكِنْ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ، وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يُعْثَرْ لِمَالِكٍ عَلَى نَصٍّ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ رَأَى مَقَالَةً تُشِيرُ إلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا مُتَأَوَّلَةٌ. قَالَ: وَقِيلَ: إنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُثْمِرُ الظَّنَّ الْقَوِيَّ. وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ لَهُ قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي إسْنَادِهِ إمَامٌ مِثْلُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ وَسُفْيَانَ، وَإِلَّا فَلَا يُوجِبُهُ. وَعَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ يُوجِبُهُ مُطْلَقًا. وَنَقَلَ الشَّيْخُ فِي التَّبْصِرَةِ " عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهَا مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ كَحَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الْبَاطِنَ قَطْعًا بِخِلَافِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ، وَهَلْ يُوجِبُ الظَّاهِرَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعِلْمِ مِنْ نَتَائِجِ بَاطِنِهِ فَلَمْ يَفْتَرِقَا.

وَالثَّانِي: يُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ سُكُونَ النَّفْسِ إلَيْهِ مُوجِبٌ لَهُ، وَلَوْلَاهَا كَانَ ظَنًّا. اهـ. وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ وَكَأَنَّ مُرَادَهُ غَالِبُ الظَّنِّ، وَإِلَّا فَالْعِلْمُ لَا يَتَفَاوَتُ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: قَائِلُ هَذَا أَرَادَ غَلَبَةَ الظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعِلْمِ ظَاهِرٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْلُومٌ. وَجَزَمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فَقَالَ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ. وَقَالَ: يَعْنِي بِالْعِلْمِ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ لَا عِلْمَ الظَّاهِرِ. وَنَقَلَهُ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ. قَالَ: وَالْقَائِلُ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ، إنْ أَرَادَ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ فَقَدْ أَصَابَ، وَإِنْ أَرَادَ الْقَطْعَ حَتَّى يَتَسَاوَى مَعَ التَّوَاتُرِ فَبَاطِلٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ: إنَّا نَقْطَعُ عَلَى اللَّهِ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النَّصِّ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَنْقُضُ حُكْمَ مَنْ تَرَكَ أَخْبَارَ الْآحَادِ. وَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ أَمْ لَا؟ ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، فَصَارَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسَمَّى عِلْمًا أَمْ لَا؟ وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: يُفِيدُ الْعِلْمَ، أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ، أَوْ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَعْنَى الظَّنِّ، فَلَا نِزَاعَ فِيهِ؛ لِتَسَاوِيهِمَا، وَبِهِ أَشْعَرَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ أَوْ قَالُوا: يُورِثُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ الظَّنُّ، وَإِنْ أَرَادُوا مِنْهُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْجَزْمَ صَدَقَ مَدْلُولُهُ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاطِّرَادِ، كَمَا نَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ، أَوْ لَا عَلَى وَجْهِ الِاطِّرَادِ، بَلْ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ الْآحَادِ دُونَ الْكُلِّ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَهُوَ بَاطِلٌ. اهـ. وَلَعَلَّ مُرَادَ أَحْمَدَ إنْ صَحَّ عَنْهُ إفَادَةُ الْخَبَرِ؛ لِلْعِلْمِ بِمُجَرَّدِهِ مَا إذَا تَعَدَّدَتْ

طُرُقُهُ، وَسَلِمَتْ عَنْ الطَّعْنِ فَإِنَّ مَجْمُوعَهَا يُفِيدُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَوْ لَمْ نَكْتُبْ الْحَدِيثَ مِنْ ثَلَاثِينَ وَجْهًا مَا عَقَلْنَاهُ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى قَوْلَ أَحْمَدَ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ: نُؤْمِنُ بِهَا، وَنَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ يَقْطَعُ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا. قَالَ: فَذَهَبَ إلَى ظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالُوا: خَبَرُ الْوَاحِدِ إنْ كَانَ شَرْعِيًّا أَوْجَبَ الْعِلْمَ. قَالَ: وَعِنْدِي هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، لَا مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ، وَأَنَّ الْقَطْعَ حَصَلَ اسْتِدْلَالًا بِأُمُورٍ انْضَمَّتْ إلَيْهِ مِنْ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهَا بِالْقَبُولِ، أَوْ دَعْوَى الْمُخْبِرِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ بِحَضْرَتِهِ، فَيَسْكُتُ وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، أَوْ دَعْوَاهُ عَلَى جَمَاعَةٍ حَاضِرِينَ السَّمَاعَ مِنْهُ، فَمَا يُنْكِرُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَدْ أَكْثَرَ الْأُصُولِيُّونَ مِنْ حِكَايَةِ إفَادَتِهِ الْقَطْعَ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ، أَوْ بَعْضِهِمْ، وَتَعَجَّبَ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّا نُرَاجِعُ أَنْفُسَنَا فَنَجِدُ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُحْتَمِلًا لِلْكَذِبِ وَالْغَلَطِ، وَلَا قَطْعَ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ، لَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ لَهُ مُسْتَنَدٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَا صَحَّ مِنْ الْأَخْبَارِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ مُحْتَمِلٌ؛ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ. وَإِنَّمَا وَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ بِصِحَّتِهِ؛ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَحْفُوظَةٌ، وَالْمَحْفُوظُ مَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ مَا ثَبَتَ عِنْدَنَا مِنْ الْأَخْبَارِ كَذِبًا لَدَخَلَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَالْحِفْظُ يَنْفِيهِ، وَالْعِلْمُ بِصِدْقِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، فَصَارَ هَذَا كَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ قَوْلَ الْأُمَّةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَحُكْمُهُمْ لَا يَقْتَضِي الْعِصْمَةَ، لَكِنْ لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ قَوْلًا لَهُمْ وَحُكْمًا، وَأَخَذُوا الْحِفْظَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَرَّرُوهُ يَقَعُ فِيهِ الْبَحْثُ مَعَهُمْ. قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ

مَذْهَبَهُمْ خَارِجٌ عَنْ ضُرُوبِ الْعَقْلِ، فَبَيَّنَّا هَذَا دَفْعًا لِهَذَا الْوَهْمِ، وَتَنْبِيهًا لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ، وَيُبْحَثَ مَعَهُمْ فِيهِ، وَهُوَ الْمَحَلُّ الَّذِي ادَّعَوْهُ مِنْ قِيَامِ الْقَاطِعِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، وَأَقْرَبُ مَا يُقَالُ لَهُمْ فِيهِ: إنَّ هَذَا الْقَاطِعَ، أَعْنِي الْعِلْمَ بِصِحَّةِ كُلِّ مَا صَحَّ عِنْدَنَا وَبِكَذِبِ كُلِّ مَا لَمْ يَصِحَّ، إمَّا أَنْ يُؤْخَذَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوْ إلَى بَعْضِهَا، فَإِنْ أُخِذَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ فَرْدٍ هُنَا إلَّا إذَا أَثْبَتْنَا الْعَزْمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ الْأُمَّةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ. وَإِنْ أَخَذْنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَعْضِ لَمْ يُفِدْ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأُمَّةِ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا، وَهُوَ اطِّلَاعُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى حَدِيثٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ قَالَ: إذَا لَمْ أَطَّلِعْ عَلَيْهِ، فَالْأَصْلُ عَدَمُ اطِّلَاعِ غَيْرِي عَلَيْهِ، فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ. قُلْنَا: أَنْتَ تَدَّعِي الْقَطْعَ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ. تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهِ قَرِينَةٌ لِغَيْرِ التَّعْرِيفِ، فَإِنْ كَانَ؛ لِلتَّعْرِيفِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ، فَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ قَدْ سَبَقَتْ. مِنْهَا الْإِخْبَارُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُنْكِرُهُ، أَوْ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَيُقِرُّوهُ، أَوْ بِأَنْ تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أَوْ الْعَمَلِ، أَوْ بِأَنْ يَحْتَفَّ بِقَرَائِنَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. الثَّانِي: لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَابِطِ الْقَرَائِنِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إلَيْهَا بِعِبَارَةٍ تَضْبِطُهَا. قُلْت: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ مَا لَا يَبْقَى مَعَهَا احْتِمَالٌ، وَتَسْكُنُ النَّفْسُ عِنْدَهُ، مِثْلُ سُكُونِهَا إلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ. الثَّالِثُ: زَعَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، وَلَيْسَ

كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَعْنَوِيٌّ. وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ هَلْ يَكْفُرُ جَاحِدُ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؟ إنْ قُلْنَا: يُفِيدُ الْقَطْعَ كَفَرَ، وَإِلَّا فَلَا، وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَامِدٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِي تَكْفِيرِهِ وَجْهَيْنِ، وَلَعَلَّ هَذَا مَأْخَذُهَا. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ هَلْ يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ؟ فَمَنْ قَالَ: يُفِيدُ الْعِلْمَ قَبِلَهُ، وَمَنْ قَالَ: لَا يُفِيدُ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِهِ إذْ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ الْقَطْعِ مُمْتَنِعٌ.

فصل في شرط الفعل بخبر الآحاد

[فَصْلٌ فِي شَرْطِ الْفِعْلِ بِخَبَرِ الْآحَادِ] ِ مِنْهَا: مَا هُوَ فِي الْمُخْبِرِ، وَهُوَ الرَّاوِي، وَمِنْهَا: مَا هُوَ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَهُوَ مَدْلُولُ الْخَبَرِ. وَمِنْهَا: مَا هُوَ فِي الْخَبَرِ نَفْسِهِ وَهُوَ اللَّفْظُ. [الشُّرُوطُ الَّتِي يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي الْمُخْبِرِ] أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَهُ شُرُوطٌ. الْأَوَّلُ: التَّكْلِيفُ، فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ مُمَيِّزًا كَانَ أَوْ لَا؛ لِعَدَمِ الْوَازِعِ عَنْ الْكَذِبِ، وَاعْتَمَدَ الْقَاضِي فِي رَدِّ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ الْإِجْمَاعَ، وَقَالَ الْمُعَلِّقُ عَنْهُ: وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ يَحْكِي وَجْهًا فِي صِحَّةِ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ، فَلَعَلَّهُ أَسْقَطَهُ. اهـ. وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ مَشْهُورٌ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ مُعْتَرِضًا بِهِ عَلَى الْقَاضِي، بَلْ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ فِي إخْبَارِهِ عَنْ الْقُبْلَةِ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ. وَلِأَصْحَابِنَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، بَلْ قَالَ الْفُورَانِيُّ فِي الْإِبَانَةِ " فِي كِتَابِ الصِّيَامِ: الْأَصَحُّ قَبُولُ رِوَايَتِهِ، وَحَكَى إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ خَبَرًا فِي مُسْتَنَدِ رَدِّ أَحَادِيثِ الصَّبِيِّ، فَقِيلَ هُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ رِوَايَةِ الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّ مُلَابَسَةَ الْفِسْقِ تُهَوِّنُ عَلَيْهِ تَوَقِّي الْكَذِبِ،

وَالصَّبِيُّ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْفَاسِقَ لَا يَخْلُو عَنْ خِيفَةٍ يَسْتَوْحِشُهَا، وَالصَّبِيُّ يُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ، وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ الْإِجْمَاعِ. قَالَ: وَهَذَا أَسَدُّ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُرَاجِعُوا صَبِيًّا قَطُّ، وَلَمْ يَسْتَخْبِرُوهُ، وَقَدْ رَاجَعُوا النِّسَاءَ وَرَاءَ الْخُدُورِ، وَكَانَ فِي الصِّبْيَانِ مَنْ يَلِجُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالٍ لَهُ بِحَيْثُ لَوْ نَقَلَهَا لَمْ يَخْلُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ مِنْ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ، ثُمَّ لَمْ يُرَاجَعُوا قَطُّ. اهـ. وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الْمُرَاهِقِ الْمُتَثَبِّتِ فِي كَلَامِهِ، قَالَ: أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَطْعًا، كَالْبَالِغِ الْفَاسِقِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " قَوْلًا ثَالِثًا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمُرَاهِقِ وَمَنْ دُونَهُ وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ اخْتَلَفُوا، هَلْ ذَلِكَ مَظْنُونٌ أَوْ مَقْطُوعٌ بِهِ؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَظْنُونٌ. هَذَا كُلُّهُ إذَا أَدَّى فِي حَالِ صِبَاهُ، فَإِنْ تَحَمَّلَ فِي صِبَاهُ، ثُمَّ أَدَّاهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَقَوْلَانِ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " وَمُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ "، وَأَصَحُّهُمَا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُقْبَلُ؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُعَاذِ بْنِ بَشِيرٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا تَحَمَّلُوهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ رَوَى مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدِيثَ الْمَجَّةِ الَّتِي مَجَّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، وَاعْتَمَدَ الْعُلَمَاءُ رِوَايَتَهُ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَجَعَلُوهُ أَصْلًا فِي سَمَاعِ الصَّغِيرِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى إحْضَارِ الصِّبْيَانِ مَجَالِسَ الرِّوَايَاتِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَوْ قِيلَ: هَذَا لِقَبُولِ الْأُمَّةِ رِوَايَاتِ مَنْ سَبَقَ كَانَ عِنْدِي أَوْلَى؛ لِتَوَقُّفِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَصَاغِرَ رَوَوْا لِلْأَكَابِرِ مَا لَمْ

يَعْلَمُوهُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، فَقَبِلُوهُ، وَثُبُوتُ مِثْلِ هَذَا عَنْ كُلِّ الصَّحَابَةِ قَدْ يَتَعَذَّرُ، وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ بَعْدَهُمْ قَدْ قَبِلُوا رِوَايَةَ هَؤُلَاءِ. قَالَ: وَالتَّمْثِيلُ بِابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَفِي مُطَابَقَتِهِ لِحَالِ بَعْضِهِمْ نَظَرٌ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ تَحَمُّلُ الرِّوَايَةِ، ثُمَّ أَدَاؤُهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ وَقْتَ التَّحَمُّلِ مُمَيِّزًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ ثُمَّ بَلَغَ، لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ نَقْلُ مَا سَمِعَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ نَقْلُ مَا سَمِعَهُ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ، وَهَذَا إجْمَاعٌ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَوْ سَمِعَ الْمَجْنُونُ، ثُمَّ أَفَاقَ لَمْ تُسْمَعْ رِوَايَتُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ إلَّا مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ، وَمَا سَمِعَهُ الصَّبِيُّ فِي حَالِ صِبَاهُ لَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، وَكَذَا لَوْ تَحَمَّلَ وَهُوَ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ، ثُمَّ رَوَى وَهُوَ عَدْلٌ مُسْلِمٌ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَحَكَاهُ فِي الْقَوَاطِعِ " عَنْ الْأُصُولِيِّينَ: الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ الْمُعْتَبَرُ هُنَا التَّيَقُّظُ، وَكَثْرَةُ التَّحَفُّظِ، وَلَا يَكْفِي الْعَقْلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: فَإِنْ كَانَ يُفِيقُ يَوْمًا، وَيُجَنُّ يَوْمًا، فَإِنْ أَثَّرَ جُنُونُهُ فِي زَمَنِ إفَاقَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَ. الثَّانِي: كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إجْمَاعًا، سَوَاءٌ عُلِمَ مِنْ دِينِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْكَذِبِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ عُلِمَ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي دِينِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ مَنْصِبٌ شَرِيفٌ، وَمَكْرُمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ، سَمِعْت أَبَا طَالِبٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ أَخِي الْأَمِينَ يَقُولُ: «اُشْكُرْ تُرْزَقْ، وَلَا تَكْفُرْ فَتُعَذَّبَ» ، وَرَوَاهُ الْحَافِظُ الصُّرَيْفِينِيُّ وَقَالَ

حكم ما رواه أهل البدع

غَرِيبٌ عَجِيبٌ رِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [حُكْمُ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْبِدَعِ] [حُكْمُ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْبِدَعِ] وَأَمَّا الَّذِي مِنْ أَهْلِهَا وَهُمْ الْمُبْتَدِعَةُ، فَإِنْ كَفَرَ بِبِدْعَتِهِ كَالْمُجَسِّمَةِ إذَا قُلْنَا بِتَكْفِيرِهِمْ، فَإِنْ عَلِمْنَا مِنْ مَذْهَبِهِمْ جَوَازَ الْكَذِبِ إمَّا لِنُصْرَةِ رَأْيِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُمْ قَطْعًا، كَذَا قَالُوهُ. وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إذَا اعْتَقَدُوا جَوَازَهُ مُطْلَقًا، فَإِنْ اعْتَقَدُوا جَوَازَهُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ كَالْكَذِبِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنُصْرَةِ الْعَقِيدَةِ، أَوْ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ، أَوْ التَّرْهِيبِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ رُدَّتْ رِوَايَتُهُمْ فِيمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَاصِّ فَقَطْ، وَإِنْ اعْتَقَدُوا حُرْمَةَ الْكَذِبِ، فَقَوْلَانِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا تُقْبَلُ، وَمِنْهُمْ الْقَاضِيَانِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيَّ قِيَاسًا عَلَى الْفَاسِقِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: يُقْبَلُ، وَهُوَ رَأْيُ الْإِمَامِ وَأَتْبَاعِهِ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ حُرْمَةُ الْكَذِبِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَيَحْصُلُ صِدْقُهُ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْكَافِرِ بِالْبِدْعَةِ ذَكَرَهُ فِي الْمَحْصُولِ ". أَطْلَقَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي، الْأَوْسَطِ " عَدَمَ قَبُولِ رِوَايَاتِهِمْ مُطْلَقًا، وَقَالَ: لَا خِلَافَ فِيهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ. وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ إذَا لَمْ يُكَفَّرْ بِبِدْعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْكَذِبَ وَالتَّدَيُّنَ

بِهِ لَمْ يُقْبَلْ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِلَّا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: رَدُّ رِوَايَتِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ بِبِدْعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا يُرَدُّ كَالْفَاسِقِ بِغَيْرِ التَّأْوِيلِ، كَمَا لَا يُقْبَلُ الْكَافِرُ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ ". قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَيُرْوَى عَنْ مَالِكٍ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ لِأَنَّ كُتُبَهُمْ طَافِحَةٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الْمُبْتَدِعَةِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِهِمْ، وَرِوَايَةُ الْكَافِرِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَغَايَةُ مَا يُقَالُ فِي الْفَرْقِ: أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِكُفْرِهِ، وَذَلِكَ ضَمُّ جَهْلٍ إلَى كُفْرٍ، فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقَبُولِ، وَمَا قَالَهُ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِهِ بِالْبِدْعَةِ، وَإِنَّمَا مَأْخَذُ الرَّدِّ عِنْدَهُمْ الْفِسْقُ، وَلَمْ يَعْذِرُوهُ بِتَأْوِيلِهِ، وَقَالُوا: هُوَ فَاسِقٌ بِقَوْلِهِ، وَفَاسِقٌ لِجَهْلِهِ بِبِدْعَتِهِ، فَتَضَاعَفَ فِسْقُهُ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ سَوَاءٌ دَعَا إلَى بِدْعَتِهِ أَوْ لَا، إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِلُّ الْكَذِبَ، كَمَا سَبَقَ مِنْ تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ قَضِيَّةُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَدِيٍّ: قُلْت؛ لِلرَّبِيعِ: مَا حَمَلَ الشَّافِعِيُّ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى مَعَ وَصْفِهِ إيَّاهُ بِأَنَّهُ كَانَ قَدَرِيًّا؟ فَقَالَ: كَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: لَأَنْ يَخِرَّ إبْرَاهِيمُ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ. وَقَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: هَلْ هُوَ إلَّا مِنْ الْخَطَّابِيَّةِ الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ قَالَ: وَيُحْكَى عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي، وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: إلَى هَذَا مَيْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَبِلَ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ وَالْخَوَارِجِ مَعَ اسْتِحْلَالِهِمْ الدِّمَاءَ

وَالْأَمْوَالَ لِتَوَقِّيهِمْ الْكَذِبَ وَاعْتِقَادِهِمْ كُفْرَ فَاعِلِهِ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ، فَإِنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِالْكَذِبِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا كُنَّا نَقْبَلُ رِوَايَةَ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ كَذَبَ فَسَقَ، فَلَأَنْ نَقْبَلَ رِوَايَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ كَذَبَ كَفَرَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. قَالَ: وَتَحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا رَوَوْا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ حَتَّى قِيلَ: لَوْ حُذِفَتْ رِوَايَاتُهُمْ لَابْيَضَّتْ الْكُتُبُ. اهـ. وَقَدْ اعْتَرَضَ الشَّيْخُ الْهِنْدِيُّ فِي النِّهَايَةِ " عَلَى كَوْنِ الْخَطَّابِيَّةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، بِأَنَّ الْمَحْكِيَّ فِي كُتُبِ الْمَقَالَاتِ مَا يُوجِبُ تَكْفِيرَهُمْ قَطْعًا. قَالَ: فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ فِيهِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مُنْقَطِعًا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّا لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إلَّا بِإِنْكَارِ مُتَوَاتِرٍ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَإِذَا لَمْ نُكَفِّرْهُ وَانْضَمَّ إلَيْهِ التَّقْوَى الْمَانِعَةُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ فَالْمُوجِبُ لِلْقَبُولِ مَوْجُودٌ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ مَعَ الْعَدَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِظَنِّ الصِّدْقِ، وَالْمَانِعُ الْمُتَخَيَّلُ لَا يُعَارِضُ ذَلِكَ الْمُوجِبَ، بَلْ قَدْ يُقَوِّيهِ كَمَا فِي الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ، وَالْوَعِيدِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْخُلُودَ بِالذَّنْبِ، وَإِذَا وُجِدَ الْمُقْتَضَى وَزَالَ الْمَانِعُ، وَجَبَ الْقَبُولُ.

وَأَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ الْقَوْلَ بِقَبُولِ رِوَايَاتِهِمْ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: الْفُسَّاقُ بِسَبَبِ الْعَقِيدَةِ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِمْ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ رِوَايَاتِهِمْ مَقْبُولَةٌ، فَإِنَّ الْعَقَائِدَ الَّتِي تَحَلَّوْا بِهَا لَا تُهَوِّنُ عَلَيْهِمْ افْتِعَالَ الْأَحَادِيثِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأَصْلُ الثِّقَةُ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْمُتَأَوِّلِ وَالْمُحِقِّ سَوَاءٌ. نَعَمْ الشَّافِعِيُّ لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ مَعَ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي دِينِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّهَادَةَ تَسْتَدْعِي رُتْبَةً وَوَقَارًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِهَا بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهَا إثْبَاتُ الشَّرْعِ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، فَاسْتَدْعَتْ مَزِيدَ مَنْصِبٍ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ دَاعِيًا إلَى بِدْعَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَ، وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ "، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ مَالِكٍ؛ لِقَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُ الْحَدِيثَ عَنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو إلَى هَوَاهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْعُ يُقْبَلُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَا يُقْبَلُ مُطْلَقًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَدْعُو لِبَيَانِ سَبَبِ تُهْمَتِهِ، أَيْ لَا تَأْخُذُ عَنْ مُبْتَدِعٍ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ يَدْعُو إلَى هَوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِهِ. اهـ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ؛ لِلْأَكْثَرِينَ، قَالَ: وَهُوَ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ، وَأَوْلَاهَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ كَثِيرٌ مِنْ أَحَادِيثِ الْمُبْتَدِعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ احْتِجَاجًا وَاسْتِشْهَادًا، كَعِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ، وَدَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ نَقَلَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ " الْإِجْمَاعَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ،

فَقَالَ فِي تَرْجَمَةِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ: فَلَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَئِمَّتِنَا خِلَافٌ فِي أَنَّ الصَّدُوقَ التَّقِيَّ إذَا كَانَ فِيهِ بِدْعَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْعُو إلَيْهَا، أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِأَخْبَارِهِ جَائِزٌ، فَإِذَا دَعَا إلَى بِدْعَتِهِ سَقَطَ. الِاحْتِجَاجُ بِأَخْبَارِهِ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: جَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ هَذَا الْمَذْهَبَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَهُ. نَعَمْ، فِي هَذَا الْمَذْهَبِ وَجْهٌ أَنَّهُ إذَا رَوَى الْمُبْتَدِعُ الدَّاعِيَةُ مَا يُقَوِّي بِهِ حُجَّتَهُ عَلَى خَصْمِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً إلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ الْأَوَّلِ. قَالَ: نَعَمْ، الَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ الدَّاعِيَةَ إذَا رَوَى، فَإِمَّا أَنْ يَرْوِيَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُوجَدُ إلَّا عِنْدَهُ أَوْ مَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ رُوِيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ هَاهُنَا فِي مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ، لَا؛ لِأَنَّ رِوَايَتَهُ بَاطِلَةٌ، بَلْ لِإِهَانَتِهِ وَعَدَمِ تَعْظِيمِهِ. اهـ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ غَرِيبٌ. وَمَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ ابْنَ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ ": الْخِلَافُ فِي غَيْرِ الدَّاعِيَةِ، أَمَّا الدَّاعِيَةُ فَهُوَ سَاقِطٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَفَعَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَالَ: إنْ ضَمَّ إلَى بِدْعَتِهِ افْتِعَالَهُ الْحَدِيثَ، وَتَحْرِيفَ الرِّوَايَةِ؛ لِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا وَقْعَ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَتْرُوكٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ.

متى تقبل رواية الكافر

تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ [الْمُرَادُ بِالدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدْعَةِ] الْأَوَّلُ: يَتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّاعِيَةِ الْحَامِلُ عَلَى بِدْعَتِهِ، لَكِنْ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: الْخِلَافُ فِي الدَّاعِيَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُظْهِرُهَا، وَيُحَقِّقُ عَلَيْهَا، فَأَمَّا الدَّاعِي بِمَعْنَى حَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهَا فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي تَرْكِ حَدِيثِهِ. [مَتَى تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ] الثَّانِي [مَتَى تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ] إنَّمَا لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ إذَا رَوَى فِي حَالِ كُفْرِهِ، أَمَّا لَوْ تَحَمَّلَ وَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ أَدَّى فِي الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ "، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، قَالَا: وَكَذَلِكَ لَوْ رَوَى وَهُوَ فَاسِقٌ، ثُمَّ أَدَّى وَقَدْ اعْتَدَلَ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جُبَيْرٍ بْنِ مُطْعِمٍ «أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، وَلَمَّا سَمِعَ هَذَا كَانَ كَافِرًا عَقِبَ أَسْرِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ» ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَنَّهُ رَوَاهُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِهِ.

الشرط الثالث العدالة في الدين

[الشَّرْطُ الثَّالِثُ الْعَدَالَةُ فِي الدِّينِ] ِ] فَالْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ كَمَا لَا يَوْثُقُ بِشَهَادَتِهِ، وَالْعَدْلُ هُوَ الْعَادِلُ تَوَسُّعًا، مَأْخُوذٌ مِنْ الِاعْتِدَالِ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَيُحْكَمُ بِهَا. وَالْعَدَالَةُ فِي الْأَصْلِ هِيَ الِاسْتِقَامَةِ، يُقَالُ: طَرِيقٌ عَدْلٌ، لِطَرِيقِ الْجَادَّةِ، وَضِدُّهَا الْفِسْقُ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا تُقْبَلَ رِوَايَتُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ هَوَاهُ غَالِبٌ عَلَى تَقْوَاهُ، فَلَا تَصِحُّ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ ضَابِطُ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ، فَلَوْ لَاحَ بِالْمَخَايِلِ صِدْقُهُ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ رِوَايَتِهِ، فَإِنَّهُ يُخَالِفُ ضَابِطَ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَعْمَلَ بِكُلِّ ظَنٍّ، بَلْ ظَنٍّ لَهُ أَصْلٌ شَرْعًا. هَذَا إذَا رَجَعَ الْفِسْقُ إلَى الدِّيَانَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ رَجَحَ إلَى الْعَقِيدَةِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا تُقْبَلُ مِمَّنْ اُتُّفِقَ عَلَى فِسْقِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا. [تَعْرِيفُ الْعَدَالَةِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْفِسْقِ، وَعِنْدَنَا مَلَكَةٌ فِي النَّفْسِ تَمْنَعُ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ، وَالرَّذَائِلِ الْمُبَاحَةِ كَالْبَوْلِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكَبَائِرِ وَالرَّذَائِلِ الصَّادِقِ بِوَاحِدَةٍ، لَا حَاجَةَ؛ لِلْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ كَبِيرَةً. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَمْحُضُ الطَّاعَةَ، فَلَا يَمْزُجُهَا بِمَعْصِيَةٍ، وَلَا فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَمْحُضُ

الْمَعْصِيَةَ، فَلَا يَمْزُجُهَا بِالطَّاعَةِ. فَلَا سَبِيلَ إلَى رَدِّ الْكُلِّ، وَلَا إلَى قَبُولِ الْكُلِّ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ الْمَعْصِيَةَ وَخِلَافَ الْمُرُوءَةِ رَدَدْتهَا. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي جَرْيِ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ مَجْرًى وَاحِدًا، وَعَلَيْهِ جَرَى الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: مَنْ قَارَفَ كَبِيرَةً رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ اقْتَرَفَ صَغِيرَةً لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَلَا رِوَايَتُهُ. قَالَ: وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَمُقَارَفَةِ الْكَبِيرَةِ، وَقَالَ: لَوْ ثَبَتَ كَذِبُ الرَّاوِي رُدَّتْ رِوَايَتُهُ إذَا تَعَمَّدَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ الْكَذِبَ مِنْ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّهُ قَادِحٌ فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ بِالرِّوَايَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي مَا مَعْنَاهُ: الْمَعْنِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الثِّقَةُ، فَكُلُّ مَا لَا يَخْرِمُ الثِّقَةَ لَا يَقْدَحُ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا الْقَادِحُ مَا يَخْرِمُ الثِّقَةَ. اهـ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ": الْمُرَادُ بِالْعَدْلِ مَنْ كَانَ مُطِيعًا؛ لِلَّهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُكْثِرْ مِنْ الْمَعَاصِي إلَّا هَفَوَاتٍ وَزَلَّاتٍ، إذْ لَا يَعْرَى وَاحِدٌ مِنْ مَعْصِيَةٍ، فَكُلُّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً فَاسِقٌ، أَوْ صَغِيرَةً فَلَيْسَ بِفَاسِقٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] وَمَنْ تَتَابَعَتْ مِنْهُ الصَّغِيرَةُ وَكَثُرَتْ وُقِفَ خَبَرُهُ، وَكَذَا مَنْ جُهِلَ أَمْرُهُ. قَالَ: وَمَا ذَكَرْتُ مِنْ مُتَابَعَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعَاصِي أَنَّهَا عِلْمُ الْإِصْرَارِ؛ لِعِلْمِ الظَّاهِرِ، كَالشَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ، وَعَلَى أَنِّي عَلَى حَقِّ النَّظَرِ لَا أَجْعَلُ الْمُقِيمَ عَلَى الصَّغِيرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا، مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْمُخَالِفَةِ أَمْرَ اللَّهِ دَائِمًا. قَالَ: فَكُلُّ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ فَمَقْبُولٌ حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ غَايَةٌ يُحَاطُ بِهَا وَأَنَّهُ عَدْلٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَكُونُ مَوْقُوفًا حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": لَا بُدَّ فِي الْعَدْلِ مِنْ أَرْبَعِ شَرَائِطَ: 1 - الْمُحَافَظَةُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ.

وَأَنْ لَا يَرْتَكِبَ مِنْ الصَّغَائِرِ مَا يَقْدَحُ فِي دِينٍ أَوْ عِرْضٍ. 3 - وَأَنْ لَا يَفْعَلَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مَا يُسْقِطُ الْقَدْرَ، وَيُكْسِبُ النَّدَمَ. 4 - وَأَنْ لَا يَعْتَقِدَ مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا تَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرْعِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الثِّقَةُ مِنْ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا، فَمَتَى حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِالْخَبَرِ قُبِلَ، وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي، الرِّسَالَةِ " فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ عَلَامَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْعَدْلِ فِي بَدَنِهِ وَلَا لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا عَلَامَةُ صِدْقِهِ بِمَا يُخْتَبَرُ مِنْ حَالِهِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ أَمْرِهِ ظَاهِرَ الْخَيْرِ قُبِلَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَقْصِيرٌ مِنْ بَعْضِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى أَحَدٌ رَأَيْنَاهُ مِنْ الذُّنُوبِ، فَإِذَا خَلَطَ الذُّنُوبَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الِاجْتِهَادُ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ أَمْرِهِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ حُسْنِهِ وَقُبْحِهِ. اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَنَا شَرْطًا بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْتَهِي إلَى الْعَدَالَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الشَّهَادَةِ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ عَبْدَانِ فِي شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تُعْتَبَرَ الْعَدَالَةُ مِمَّنْ يَقْبَلُهُ الْحَاكِمُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ، أَوْ زَكَّاهُ مُزَكِّيَانِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي نَاقِلِ الْخَبَرِ، وَعَدَالَتِهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ، بَلْ إذَا كَانَ ظَاهِرُهُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ قُبِلَ خَبَرُهُ، هَذَا كَلَامُهُ. قُلْت: وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ أَوْرَدَهُ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ شَهَادَتُهُمَا إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ. اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ مَنْ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاطِنَ. [أَقْسَامُ الذُّنُوبِ] أَحَدُهَا: أَنَّ الذُّنُوبَ إلَى كَمْ تَنْقَسِمُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إلَى قِسْمَيْنِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَيُسَاعِدُهُمْ إطْلَاقَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فَجَعَلَ الْفُسُوقَ وَهُوَ الْكَبَائِرُ تَلِي رُتْبَةَ الْكُفْرِ، وَجَعَلَ الصَّغَائِرَ تَلِي رُتْبَةَ الْكَبِيرَةِ، وَقَدْ خَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ الذُّنُوبِ بِاسْمِ الْكَبَائِرِ. الثَّانِي: هُوَ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْكَبَائِرُ وَهُوَ طَرِيقَةُ جَمْعٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَنَفْيُ الصَّغَائِرِ، وَجَرَى عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي، الْإِرْشَادِ "، وَابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ "، فَقَالَ: الْمَعَاصِي عِنْدَنَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا: صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُفْرِ، وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا، وَكُلُّهَا كَبَائِرُ. قَالَ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: إنْ اجْتَنَبْتُمْ كَبَائِرَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ،

وَهُوَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ، كَفَّرْت عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ الَّتِي دُونَ الْكُفْرِ، إنْ شِئْت. ثُمَّ حَكَى انْقِسَامَ الذُّنُوبِ إلَى صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَلَّطَهُمْ، وَلَعَلَّ أَصْحَابَ هَذَا الْوَجْهِ كَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ صَغِيرَةً؛ إجْلَالًا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا فِي الْجَرْحِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ الْحَلِيمِيِّ: إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ صَغِيرَةٍ، وَكَبِيرَةٍ وَفَاحِشَةٍ، فَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ، فَإِذَا قَتَلَ ذَا رَحِمٍ فَفَاحِشَةٌ، فَأَمَّا الْخَدْشَةُ وَالضَّرْبَةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَصَغِيرَةٌ. وَجَعَلَ سَائِرَ الذُّنُوبِ هَكَذَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ رُتْبَةَ الْكَبَائِرِ تَتَفَاوَتُ قَطْعًا. [تَعْرِيفُ الْكَبِيرَةِ] الثَّانِي: إذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ فَاخْتَلَفُوا فِي الْكَبِيرَةِ، هَلْ تُعَرَّفُ بِالْحَدِّ أَوْ بِالْعَدِّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَاخْتَلَفُوا عَلَى أَوْجُهٍ. قِيلَ: الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ، وَقِيلَ: مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَقِيلَ: مَا تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ. قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقِيلَ: مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ وَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ قَائِلٍ ذَكَرَ بَعْضَ أَفْرَادِهَا، وَيَجْمَعُ الْكَبَائِرَ جَمِيعُ ذَلِكَ. وَالْقَائِلُونَ بِالْعَدِّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ تَنْحَصِرُ؟ فَقِيلَ: تَنْحَصِرُ، وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: مُعَيَّنَةٌ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي " الْبَسِيطِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَبَائِرِ حَدٌّ يَعْرِفُهُ

الْعِبَادُ، وَتَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ الصَّغَائِرِ تَمْيِيزَ إشَارَةٍ، وَلَوْ عُرِفَ ذَلِكَ لَكَانَتْ الصَّغَائِرُ مُبَاحَةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْفَى ذَلِكَ عَلَى الْعِبَادِ لِيَجْتَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي اجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ، وَنَظِيرُهُ إخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ. اهـ. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ سَبْعَةٌ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشْرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ إلَى سَبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى السَّبْعِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ، إذْ لَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ السَّمْعِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حَصْرُهَا، وَقَدْ أَنْهَاهَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيِّ فِي جُزْءٍ صَنَّفَهُ إلَى السَّبْعِينَ. وَمِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ: الْقَتْلُ، وَالزِّنَا وَاللِّوَاطُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَمُطْلَقُ السُّكْرِ، وَالسَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ وَالْقَذْفُ، وَالنَّمِيمَةُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْعُقُوقُ وَالْفِرَارُ، وَمَالُ الْيَتِيمِ وَخِيَانَةُ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ وَتَقَدُّمُ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرُهَا، وَالْكَذِبُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَرْبُ الْمُسْلِمِ، وَسَبُّ الصَّحَابَةِ وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ، وَالرِّشْوَةُ وَالدِّيَاثَةُ، وَهِيَ الْقِيَادَةُ عَلَى أَهْلِهِ، وَالْقِيَادَةُ وَهِيَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَالسِّعَايَةُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَأَمْنُ الْمَكْرِ وَالظِّهَارُ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ، وَفِطْرُ رَمَضَانَ وَالْغُلُولُ، وَالْمُحَارَبَةُ وَالسِّحْرُ، وَالرِّبَا وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ بَعْدَ حِفْظِهِ، وَإِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ وَامْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ. وَتَوَقَّفَ الرَّافِعِيُّ فِي " تَرْكِ الْأَمْرِ " وَمَا بَعْدَهُ، وَنَقَلَ عَنْ صَاحِبِ الْعُدَّةِ

جَعْلَ الْغِيبَةِ مِنْ الصَّغَائِرِ، وَهُوَ يُخَالِفُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ، كَيْفَ وَهِيَ أُخْتُ النَّمِيمَةِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ حَدِيثَ الْمُعَذَّبَيْنِ فِي قَبْرِهِمَا، فَذَكَرَ الْغِيبَةَ بَدَلَ النَّمِيمَةِ وَمِنْهَا إدْمَانُ الصَّغِيرَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغَائِرِ حُكْمُهُ حُكْمُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْقُضَاعِيُّ فِي كِتَابِ " تَحْرِيرِ الْمَقَالِ فِي مُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ ": إنَّ الْإِصْرَارَ حُكْمُهُ حُكْمُ مَا أُصِرَّ بِهِ عَلَيْهِ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ. قَالَ: وَقَدْ جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الصُّوفِيَّةِ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَرُبَّمَا يَرْوِي حَدِيثًا، وَلَا يَصِحُّ، وَالْإِصْرَارُ يَكُونُ بِاعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمِيٌّ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ تِلْكَ الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ كَرَّرَهَا فِعْلًا، بِخِلَافِ التَّائِبِ مِنْهَا، فَلَوْ ذَهَلَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى شَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مِنْ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَالْجُمُعَةِ وَالصِّيَامِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ. لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا هَلْ شَرْطُ التَّكْفِيرِ عَدَمُ مُلَابَسَتِهِ لِشَيْءٍ مِنْ الْكَبَائِرِ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّلَاةُ إلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةُ مَا بَيْنَهُمَا مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ» ، وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ عَنْ الْجُمْهُورِ الِاشْتِرَاطَ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ. قَالَ: وَالشَّرْطُ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: مُكَفِّرَاتُ مَا بَيْنَهُنَّ

خبر الفاسق

إلَّا الْكَبَائِرَ، وَهَذَا يُسَاعِدُهُ مُطْلَقُ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّكْفِيرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبَائِرِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الْكُفْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ فُورَكٍ، فَنَحْمِلُ الْحَدِيثَ عَلَيْهَا، وَتَسْقُطُ الدَّلَالَةُ بِهَا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: الْإِصْرَارُ بِالْفِعْلِ، وَيَحْتَاجُ إلَى ضَابِطٍ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: لَمْ أَظْفَرْ فِيهِ بِمَا يُثْلِجُ الصُّدُورَ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالْمُدَاوَمَةِ، وَحِينَئِذٍ هَلْ تُعْتَبَرُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ الصَّغَائِرِ أَمْ الْإِكْثَارِ مِنْ الصَّغَائِرِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ أَنْوَاعٍ؟ وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ عَنْهُ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُوَافِقُ الثَّانِي قَوْلَ الْجُمْهُورِ: مَنْ تَغْلِبُ مَعَاصِيهِ طَاعَتَهُ كَأَنْ يُزَوِّرَ الشَّهَادَةَ. قَالَ: وَإِذَا قُلْنَا بِهِ لَمْ يَضُرَّهُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ الصَّغَائِرِ إذَا غَلَبَتْ الطَّاعَاتُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَضُرُّهُ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ مُدَاوَمَةَ النَّوْعِ تَضُرُّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّهُ فِي ضِمْنِ حِكَايَتِهِ قَالَ: إنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ النَّوْعِ الْوَاحِدِ كَالْإِكْثَارِ مِنْ الْأَنْوَاعِ، وَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ مَعَهُ التَّفْصِيلُ. نَعَمْ، يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيمَا إذَا أَتَى بِأَنْوَاعٍ مِنْ الصَّغَائِرِ، فَإِنْ قُلْنَا: بِالْأَوَّلِ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي ضَرَّ. [خَبَرِ الْفَاسِقِ] وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ مَسَائِلُ. أَحَدُهَا: عَدَمُ قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ. وَالْفِسْقُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ، فَلَا خِلَافَ فِي رَدِّهِ. الثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ كَالْمُبْتَدِعَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ. وَحَكَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى رَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ. قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ، عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ

وَإِنْ بَاحُوا بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، فَلَمْ يَبُوحُوا بِقَبُولِ رِوَايَتِهِ، فَإِنْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَلِلْمُقْدِمِ عَلَى الْفِسْقِ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ حُرْمَةَ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى رَدِّهِ، كَذَا قَالَ فِي " الْمَحْصُولِ " وَغَيْرِهِ، وَيُتَّجَهُ تَقْيِيدُهُ بِالْمَقْطُوعِ بِكَوْنِهِ فِسْقًا، أَمَّا الْمَظْنُونُ فَيُشْبِهُ تَخْرِيجَ خِلَافٍ فِيهِ، إذْ حَكَوْا وَجْهًا فِيمَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُرَدُّ، وَالرِّوَايَةُ مُلْحَقَةٌ بِالشَّهَادَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَدَالَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَقْدُمَ عَلَى الْفِسْقِ مُعْتَقِدًا جَوَازَهُ لِشُبْهَةٍ أَوْ تَقْلِيدٍ فَأَقْوَالٌ: ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَظْنُونِ وَالْمَقْطُوعِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَظْنُونَاتِ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْحَنَفِيِّ إذَا شَرِبَ النَّبِيذَ وَأَحُدُّهُ، وَقَالَ فِي الْقَطْعِيَّاتِ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ مِنْ الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ شَهَادَةَ الزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ، وَحُكِيَ فِي " الْمَحْصُولِ " الِاتِّفَاقُ فِي الْمَظْنُونِ عَلَى الْقَبُولِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالْأَظْهَرُ ثُبُوتُ الْخِلَافِ فِيهِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ، وَهَذَا مِنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَقْطُوعِ بِهِ إذَا لَمْ يَرَ صَاحِبُهُ جَوَازَ الْكَذِبِ، وَالْأَكْثَرُونَ قَبِلُوا رِوَايَتَهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ، وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": إذَا كَانَ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ لَمْ يُرَدَّ خَبَرُهُ، وَقَدْ قَبِلَ التَّابِعُونَ أَخْبَارَ الْخَوَارِجِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَرُدُّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ.

الراوي المجهول الحال

وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْجُبَّائِيُّ، وَأَبُو هَاشِمٍ عَدَمَ الْقَبُولِ، وَقَدْ نَازَعَ فِي كَوْنِهِ صُورَةَ النَّبِيذِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْفِسْقِ الْمَظْنُونِ طَائِفَتَانِ، فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: لَيْسَ هُوَ مِنْ الْفِسْقِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ. وَالْمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِيَّةُ لَا إنْكَارَ فِيهَا عَلَى الْمُخَالِفِ، وَلَا فِسْقَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لَا نَعْلَمُهُ وَلَا إثْمَ عَلَى الْمُخْطِئِ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْعَبْدَرِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ". وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ مِنْ الْمَقْطُوعِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَصِحُّ مَعَ التَّفْسِيقِ، وَالْفِسْقُ رَدُّ الشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ: أَحُدُّهُ، وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْقَرَافِيُّ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الشَّافِعِيِّ تَنَاقُضًا، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ حَقَّقَ اخْتِلَافَ الْجِهَتَيْنِ، فَقَالَ: الْحَدُّ لِلزَّجْرِ، فَلَمْ يُرَاعَ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّارِبِ لِلنَّبِيذِ، وَالشَّهَادَةُ تُرَدُّ لِلْكَبِيرَةِ، وَهَذَا يُتَأَوَّلُ فِيمَنْ شَرِبَ مُعْتَقِدًا إبَاحَةً فَعُذِرَ بِتَأْوِيلِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقْدُمَ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ، عَالِمًا بِالْخِلَافِ فِي إبَاحَتِهِ وَحَظْرِهِ، فَيُحَدُّ. وَفِي فِسْقِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُمَا فِي الرِّوَايَةِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ الْإِرْشَادِ فِي الشُّبُهَاتِ تَهَاوُنٌ. وَالثَّانِي لَا يَفْسُقُ، لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْإِبَاحَةِ أَغْلَظُ مِنْ التَّعَاطِي، وَلَا يَفْسُقُ مُعْتَقِدُ الْإِبَاحَةِ. الثَّانِيَةُ: مَنْ ظَهَرَ عِنَادُهُ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ، لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَذَبَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ. الثَّالِثَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ عَدَالَةَ الرَّاوِي شَرْطٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْلَمَ عَدَالَتُهُ، وَلَا إشْكَالَ فِي قَبُولِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ جَرْحُهُ، فَلَا إشْكَالَ فِي رَدِّهِ، وَإِمَّا أَنْ يُجْهَلَ حَالُهُ. [الرَّاوِي الْمَجْهُولُ الْحَالِ] وَلَهُ أَحْوَالٌ:

الراوي المستور الحال

[الرَّاوِي الْمَجْهُولُ الْحَالِ] أَحَدُهَا: مَجْهُولُ الْحَالِ فِي الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعَ كَوْنِهِ مَعْرُوفَ الْعَيْنِ بِرِوَايَةِ عَدْلَيْنِ عَنْهُ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، أَنَّ رِوَايَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. وَالثَّانِي: تُقْبَلُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الرَّاوِيَانِ أَوْ الرُّوَاةُ عَنْهُ لَا يَرْوُونَ عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ قُبِلَ، وَإِلَّا فَلَا. [الرَّاوِي الْمَسْتُورُ الْحَالِ] [الرَّاوِي الْمَسْتُورُ الْحَالِ] الثَّانِي: الْمَجْهُولُ بَاطِنًا وَهُوَ عَدْلٌ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْمَسْتُورُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْبَلُ مَا لَمْ يُعْلَمْ الْجَرْحُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ تُعْلَمْ الْعَدَالَةُ كَالشَّهَادَةِ، وَكَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ عَنْ جَزْمِ الشَّافِعِيُّ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَنَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَالَ: نُصَّ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْمَسْتُورِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَالْعَدْلِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الشَّهَادَةِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ ": وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَإِنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى جَهَالَةِ الْحَالِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ

خَصْمًا يُطَالِبُ بِالْعَدَالَةِ، فَجَازَ لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ إذَا تَرَكَ الْخَصْمُ حَقَّهُ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ كَمَا قُلْنَا بِالِاتِّفَاقِ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ. وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ مِنَّا الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ، كَمَا رَأَيْت، نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ "، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ مَبْنِيٌّ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي، وَلِأَنَّ رِوَايَةَ الْأَخْبَارِ تَكُونُ عِنْدَ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ فِي الْبَاطِنِ، فَاقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ، وَيُفَارِقُ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْعَدَالَةُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الرُّوَاةِ الَّذِينَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِهِمْ، وَتَعَذَّرَتْ الْخِبْرَةُ الْبَاطِنَةُ بِهِمْ، وَإِلَى نَحْوِهِ مَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيمَنْ عُرِفَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ، وَسَنَذْكُرُهُ. قُلْت: وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ قَيَّدُوا مَا سَبَقَ عَنْهُمْ بِصَدْرِ الْإِسْلَامِ، حَيْثُ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ الْعَدَالَةُ، وَأَمَّا الْمَسْتُورُ فِي زَمَانِنَا فَلَا يُقْبَلُ لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الرَّشَادِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقْبَلُ فِي زَمَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ ": الْمَجْهُولُ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إنْ نَقَلَ عَنْهُ السَّلَفُ، وَعَمِلُوا بِهِ أَوْ سَكَتُوا عَنْ رَدِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَيُعْمَلْ بِهِ مَا لَمْ يُخَالِفْ الْقِيَاسَ. انْتَهَى. وَهَذَا تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ ابْنِ حِبَّانَ فِي كِتَابِ " الثِّقَاتِ " أَنْ يُوَثِّقَ مَنْ كَانَ فِي الطَّبَقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ التَّابِعِينَ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: اسْتَقْرَيْت ذَلِكَ مِنْهُ لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ عَلَى ذَلِكَ الْعَصْرِ، مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ مَا يَقْتَضِي التَّضْعِيفَ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:

يُوقَفُ، وَيَجِبُ الِانْكِفَافُ إذَا رُوِيَ التَّحْرِيمُ إلَى الظُّهُورِ فَتَحَصَّلْنَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ. وَأَطْلَقَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " تَصْحِيحَ قَبُولِ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ، وَرُبَّمَا أَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِمَسْتُورِي الْعَدَالَةِ، فَالرِّوَايَةُ أَوْلَى، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ: قَبُولُ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ إنَّمَا تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْقَضَاءِ بِالنِّكَاحِ، لَا مَنْزِلَةَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ لَا يُقْضَى فِيهِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ بِشَهَادَةِ مَسْتُورٍ، فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَشْهُورِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ شُهُودَ النِّكَاحِ عُدُولٌ فِي ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ نَاقَضَ مَا قَالَهُ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَصْلُ الْعَدَالَةِ وَمُعْظَمُهَا، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ عَدَالَةً فَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْ قَوْلِهِ. انْتَهَى. وَجَوَابُهُ مَا ذُكِرَ، وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ كَلَامَهُ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمَجْهُولُ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمَسْتُورِ مَنْ يَكُونُ عَدْلًا فِي الظَّاهِرِ، وَلَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ بَاطِنًا، قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ تَبَعًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ " أَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ هِيَ الَّتِي تَرْجِعُ فِيهَا الْقُضَاةُ إلَى قَوْلِ الْمُزَكِّينَ، وَسَبَقَ عَنْ النَّصِّ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُهُ. وَفَسَّرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَسْتُورَ بِاَلَّذِي لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ نَقِيضُ الْعَدَالَةِ، وَلَمْ يَبْقَ الْبَحْثُ عَلَى الْبَاطِنِ فِي عَدَالَتِهِ، وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَمِنْهُمْ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ الِاسْتِقَامَةُ بِلُزُومِ أَدَاءِ أَوَامِرِ اللَّهِ، وَتَجَنُّبِ مَنَاهِيهِ وَمَا يَثْلِمُ مُرُوءَتَهُ، أَيْ سَوَاءٌ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَمْ لَا. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَكْفِيهِ اجْتِنَابُ

الثالث مجهول العين

الْكَبَائِرِ، حَتَّى يَتَوَقَّى مَعَ ذَلِكَ لِمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً كَالضَّرْبِ الْخَفِيفِ، وَتَطْفِيفِ الدَّانِقِ وَنَحْوِهِ. [الثَّالِثُ مَجْهُولُ الْعَيْنِ] ِ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ، فَالصَّحِيحُ لَا يُقْبَلُ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الرَّاوِي مَزِيدًا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ عَدْلٍ كَابْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَاكْتَفَيْنَا فِي التَّعْدِيلِ بِوَاحِدٍ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: إنْ كَانَ مَشْهُورًا فِي غَيْرِ الْعِلْمِ بِالزُّهْدِ وَالنَّجْدَةِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. وَقِيلَ: إنْ زَكَّاهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مَعَ رِوَايَتِهِ وَأَخَذَهُ عَنْهُ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثِ، صَاحِبِ كِتَابِ " الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ ". قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَقَلُّ مَا تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَهَالَةُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِرِوَايَتِهِمَا عَنْهُ، وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَغَيْرِهِ. قُلْت: وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ ابْنِ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِهِ وَصَحِيحِهِ: " " ارْتِفَاعُ الْجَهَالَةِ بِرِوَايَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّسَائِيّ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا رَوَى عَنْهُ وَاحِدٌ فَقَطْ فَهُوَ مَجْهُولٌ، وَإِذَا رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مَعْلُومٌ انْتَفَتْ عَنْهُ الْجَهَالَةُ. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأُصُولِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي الْجَمَاعَةُ عَنْ الرَّجُلِ لَا يَعْرِفُونَ، وَلَا يُخْبِرُونَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ، وَيُحَدِّثُونَ بِمَا رَوَوْا عَنْهُ، وَلَا تُخْرِجُهُ رِوَايَتُهُمْ عَنْهُ عَنْ الْجَهَالَةِ إذَا لَمْ يَعْرِفُوا عَدَالَتَهُ. قُلْت: مُرَادُ الْمُحَدِّثِينَ ارْتِفَاعُ جَهَالَةِ الْعَيْنِ لَا الْحَالِ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ رِوَايَةَ الِاثْنَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْجَمَةِ فِي الشَّهَادَةِ.

قبول رواية التائب عن الكذب

[قَبُولُ رِوَايَةِ التَّائِبِ عَنْ الْكَذِبِ] ِ] الرَّابِعَةُ: مَنْ عُرِفَ بِالْكَذِبِ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يُصَدَّقُ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ مَالِكٍ، وَأَمَّا إذَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ فِي أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَبَدًا، وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، بِخِلَافِ التَّائِبِ مِنْ الْكَذِبِ فِي حَدِيثِ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَأَطْلَقَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي " شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ " كُلُّ مَنْ أَسْقَطْنَا خَبَرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَرُ مِنْهُ، وَمَنْ ضَعَّفْنَا نَقْلَهُ لَمْ نَجْعَلْهُ قَوِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا فَارَقَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ الشَّهَادَةَ. قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّ مَنْ يَكْذِبُ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إسْقَاطُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ. قُلْت: وَكَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: مَنْ كَذَبَ فِي حَدِيثٍ رُدَّ بِهِ جَمِيعُ أَحَادِيثِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَوَجَبَ نَقْضُ مَا عُمِلَ بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِضْ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ حُدِّثَ فِسْقُهُ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ. اهـ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَفَّالِ أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَذَبَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ أَبَدًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: مَنْ قَالَ كَذَبْت فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ فَسَقَ، وَلَمْ يُؤْخَذْ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَ بِهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ.

اعتبار العدالة في المعاملات

قَالَ ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُ رَاوٍ غَيْرَهُ اُكْتُفِيَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَاوٍ غَيْرَهُ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ ذَلِكَ كَالشَّهَادَةِ، وَيَقْبَلُهُ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مُتَعَلِّقًا بِالشَّهَادَةِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ الْحُكْمُ، وَلَا يُسْمَعُ مَا لَمْ يَنْفُذْ الْحُكْمُ، وَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِيمَا حُكِمَ وَفِيمَا لَمْ يُحْكَمْ، يُعْلَمُ أَنَّ أَخْبَارَهُ كُلَّهَا مَرْدُودَةٌ. قَالَ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ قَالَ: إذَا رُجِعَ عَنْ خَبَرٍ لَا أَحْكُمُ بِهِ، وَمَتَى حَكَمْت بِهِ لَمْ أَنْقُضْ. فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ إذَا فَسَقَ. قَالَ: وَأَمَّا إذَا ارْتَدَّ أَوْ عَمِلَ بِمَا يُوجِبُ رِدَّتَهُ أَوْ فِسْقَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَبُولِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ. اهـ. وَمَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ هُوَ الَّذِي أَجَابَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ خَبَرَهُ فِيمَا رُدَّ، وَيَقْبَلُ فِي غَيْرِهِ اعْتِبَارًا بِالشَّهَادَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَ النَّوَوِيِّ: الْمُخْتَارُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ وَقَبُولِ رِوَايَاتِهِ بَعْدَهَا، لَيْسَ بِمُوَافِقٍ. [اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ] [اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ] الْخَامِسَةُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: الْعَدَالَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الشَّهَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالسُّنَنِ، أَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ فَلَا، بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِيهَا سُكُونُ النَّفْسِ إلَى خَبَرِهِ، " فَإِذَا قَالَ: هَذِهِ هَدِيَّةُ فُلَانٍ جَازَ قَبُولُهَا، وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا، وَكَذَا الْإِذْنُ فِي دُخُولِ الدَّارِ. وَتَأْتِي مَسْأَلَةٌ فِي الصَّبِيِّ. ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ مِنْ " الْحَاوِي " أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ، فَأَرَادَ الطَّلَبَ قَبْلَ التَّيَمُّمِ، فَأَخْبَرَهُ فَاسِقٌ أَنَّهُ لَا مَاءَ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، فَإِنَّهُ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهِ، بِخِلَافِهِ مَا إذَا أَخْبَرَهُ بِوُجُودِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْتَمِدُهُ، وَسَبَبُهُ أَنَّ

الرواية عن غير العدل في المشاهير

عَدَمَ الْمَاءِ هُوَ الْأَصْلُ فَيَتَقَوَّى خَبَرُ الْفَاسِقِ بِهِ بِخِلَافِ وُجُودِ الْمَاءِ. [الرِّوَايَةُ عَنْ غَيْرِ الْعَدْلِ فِي الْمَشَاهِيرِ] السَّادِسَةُ: قَالَا أَيْضًا: تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْ غَيْرِ الْعَدْلِ فِي الْمَشَاهِيرِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْمَنَاكِيرِ. [الرِّوَايَة عَنْ أَصْحَابُ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ] السَّابِعَةُ: أَصْحَابُ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ، كَالدَّبَّاغِ وَالْجَزَّارِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، إذَا حَسُنَتْ طَرِيقَتُهُمْ فِي الدِّينِ، لَا نَصَّ فِيهِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ أَخْبَارَهُمْ تَنْبَنِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي شَهَادَتِهِمْ، فَإِنْ قُلْنَا: تُقْبَلُ، فَرِوَايَتُهُمْ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُقْبَلُ، فَفِي رِوَايَاتِهِمْ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْقَبُولُ، لِأَنَّ هَذِهِ مَكَاسِبُ مُبَاحَةٌ، وَبِالنَّاسِ إلَيْهَا حَاجَةٌ، وَالثَّانِي: لَا تُقْبَلُ، لِمَا فِيهَا مِنْ اخْتِرَامِ الْمُرُوءَةِ. [الرِّوَايَة عَنْ مِنْ يَتَعَاطَى الْمُبَاحَاتِ الْمُسْقِطَةِ لِلْمُرُوءَةِ] الثَّامِنَةُ: تَعَاطِي الْمُبَاحَاتِ الْمُسْقِطَةِ لِلْمُرُوءَةِ، كَالْجُلُوسِ لِلنُّزْهَةِ عَلَى قَارِعَةِ الطُّرُقِ، وَالْأَكْلِ فِيهِ، وَصُحْبَةِ أَرَاذِلِ الْعَامَّةِ. قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": فَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي عَدَالَةِ الرَّاوِي. وَعِنْدَنَا أَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْعَالِمِ وَالْحَاكِمِ.

فصل الطريق الذي تثبت العدالة به

[فَصْلٌ الطَّرِيقُ الَّذِي تَثْبُتُ الْعَدَالَةُ بِهِ] ِ] وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ طَرِيقِهَا. فَنَقُولُ: تَثْبُتُ عَدَالَةُ الرَّاوِي بِالِاخْتِبَارِ أَوْ التَّزْكِيَةِ. أَمَّا الِاخْتِبَارُ فَهُوَ الْأَصْلُ، إذْ التَّزْكِيَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِهِ، وَاخْتِبَارِ سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ بِطُولِ الصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ سَفَرًا وَحَضَرًا وَالْمُعَامَلَةِ مَعَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ مُوَافَقَةِ الصَّغِيرَةِ، وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُعْثَرْ مِنْهُ عَلَى كَبِيرَةٍ تُهَوِّنُ عَلَى مُرْتَكِبِهَا الْأَكَاذِيبَ وَافْتِعَالَ الْأَحَادِيثِ وَلَا تُسْقِطُ الثِّقَةَ. وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ فَبِأُمُورٍ: مِنْهَا تَنْصِيصُ عَدْلَيْنِ عَلَى عَدَالَتِهِ كَالشَّهَادَةِ، وَأَعْلَاهُ أَنْ يَذْكُرَ السَّبَبَ مَعَهُ، وَهُوَ تَعْدِيلٌ بِاتِّفَاقٍ. وَدُونَهُ أَنْ لَا يَذْكُرَهُ، وَإِنَّمَا انْحَطَّ عَمَّا قَبْلَهُ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ عَلَى قَوْلٍ، وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَدْلٌ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: عَدْلٌ لِي، وَعَلَيَّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عِنْدَنَا لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: عَدْلٌ مَرْضِيٌّ، وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِمَا، وَهَلْ تَثْبُتُ بِوَاحِدٍ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: لَا، لِاسْتِوَاءِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: هُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَالثَّانِي: الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْخَبَرِ. قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ وُجُوبُ قَبُولِ تَزْكِيَةِ كُلِّ عَدْلٍ مَرْضِيٍّ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ لِشَاهِدٍ وَمُخْبِرٍ. وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا اثْنَانِ، وَالرِّوَايَةُ يُكْتَفَى فِيهَا

بِوَاحِدٍ، كَمَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَصْلِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ، فَلَا تُشْتَرَطُ فِي جَرْحِ رِوَايَتِهِمْ وَتَعْدِيلِهِمْ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَحَاصِلُ الْخِلَافِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَنَّ تَعْدِيلَ الرَّاوِي: هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ أَوْ مَجْرَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى غَائِبٍ؟ قَالَا: وَفِي جَوَازِ كَوْنِ الْمُحَدِّثِ أَحَدَهُمَا وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ عُدِلَ بِشُهُودِ الْأَصْلِ، وَجَعَلَا الْخِلَافَ السَّابِقَ فِي التَّعْدِيلِ، وَجَزَمَا فِي الْجَرْحِ بِالتَّعَدُّدِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى بَاطِنٍ مَغِيبٍ، وَأَجْرَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ الْخِلَافَ فِيهِ كَالتَّعْدِيلِ بِوَاحِدٍ. [تَزْكِيَةُ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ] وَحَيْثُ اكْتَفَيْنَا بِتَعْدِيلِ الْوَاحِدِ، فَأُطْلِقَ فِي الْمَحْصُولِ قَبُولُ تَزْكِيَةِ الْمَرْأَةِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ النِّسَاءُ فِي التَّعْدِيلِ، لَا فِي الشَّهَادَةِ وَلَا فِي الرِّوَايَةِ، ثُمَّ اخْتَارَ قَبُولَ قَوْلِهَا فِيهِمَا، كَمَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهَا، وَشَهَادَتُهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَبْدِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ قَبُولُهَا فِي الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ مَقْبُولٌ، وَشَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ. وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَالْأَصْلُ فِي هَذَا سُؤَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِيرَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ عَنْ حَالِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَجَوَابُهَا لَهُ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ. قَالَهُ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ تَزْكِيَتِهِ بِاللَّفْظِ، وَحَكَى الْهِنْدِيُّ فِيهِ الِاتِّفَاقَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِ إلَّا وَهُوَ عَدْلٌ عِنْدَهُ. قَالَ: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ، وَقَيَّدَهُ الْآمِدِيُّ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى قَبُولَ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يَكْذِبُ. وَهُوَ قَيْدٌ صَحِيحٌ يَأْتِي فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِهِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا قَوِيٌّ إذَا مَنَعْنَا حُكْمَ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ، أَمَّا إذَا أَجَزْنَا، فَعِلْمُهُ بِالشَّهَادَةِ ظَاهِرًا يَقُومُ مَعَهُ احْتِمَالٌ أَنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمِهِ بَاطِنًا. قُلْت: وَحِينَئِذٍ يُتَّجَهُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّهُ حُكْمٌ بِشَهَادَتِهِ، فَتَعْدِيلٌ، وَأَنْ لَا يَعْلَمَهُ فَلَا، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْعَبْدَرِيُّ، شَارِحُ الْمُسْتَصْفَى ". وَمِنْهَا: الِاسْتِفَاضَةُ، فَمَنْ اُشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ اُسْتُغْنِيَ بِذَلِكَ عَنْ تَعْدِيلِهِ قَضَاءً. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ: الْخَطِيبُ، وَنَقَلَهُ مَالِكٌ وَشُعْبَةَ وَالسُّفْيَانَانِ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُمْ. فَلَا يُسْأَلُ عَنْهُمْ، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، فَقَالَ: مِثْلُ إِسْحَاقَ يُسْأَلُ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ يَحْتَاجَانِ إلَى التَّزْكِيَةِ مَتَى لَمْ يَكُونَا مَشْهُورَيْنِ بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا، وَكَانَ أَمْرُهُمَا مُشْكِلًا مُلْتَبِسًا وَيَجُوزُ فِيهِ. الْعَدَالَةُ وَغَيْرُهَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ مِنْ الِاسْتِفَاضَةِ أَقْوَى مِنْ تَعْدِيلِ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْكَذِبُ وَالْمُحَابَاةُ فِي تَعْدِيلِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفٌ بِالْعِنَايَةِ بِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ فِي أَمْرِهِ عَلَى الْعَدَالَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ» ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَغَارِبَةِ، وَهَذَا أَوْرَدَهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي ضُعَفَائِهِ " مِنْ جِهَةِ مُعَافَى بْنِ رِفَاعَةَ السُّلَامِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذُرِيِّ، وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، ضَعِيفٌ وَإِبْرَاهِيمُ الَّذِي أَرْسَلَهُ قَالَ فِيهِ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا نَعْرِفُهُ أَلْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ غَيْرَ هَذَا، لَكِنْ فِي كِتَابِ " الْعِلَلِ " لِلْخَلَّالِ، سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقِيلَ لَهُ: كَمَا تَرَى إنَّهُ مَوْضُوعٌ. فَقَالَ: لَا، هُوَ صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِيمَا قَالَهُ اتِّسَاعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ. وَمِنْهَا: أَنْ يُعْمَلَ بِخَبَرِهِ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ ذَلِكَ الْخَبَرُ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، فَهُوَ تَعْدِيلٌ. حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَقَدْ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِ الْقَاضِي

فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ". وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: فِيهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعْدِيلٌ لَهُ. وَالثَّانِي: لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ. وَالثَّالِثُ: قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمَلٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَوَافَقَ عَمَلَهُ مِنْ حَيْثُ الْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ، فَعَمَلُهُ لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ، وَإِنْ بَانَ بِقَوْلِهِ أَوْ بِقَرِينَةٍ إنَّمَا عُمِلَ بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ وَلَمْ يُعْمَلْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ تَعْدِيلٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". قَالَ: وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِنَا: عَمَلٌ بِالْخَبَرِ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: عَمَلٌ بِمُوجِبِ الْخَبَرِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُسْتَنَدُهُ. وَالثَّانِيَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ لِدَلِيلٍ غَيْرِهِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ حَمْلُ عَمَلِهِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَهُوَ كَالتَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ الثِّقَةَ. وَكَذَا قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إنْ كَانَ الَّذِي عُمِلَ بِهِ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ الَّتِي يَخْرُجُ الْمُتَحَلِّي بِهَا عَنْ سِمَةِ الْعَدَالَةِ لَمْ يَكُنْ تَعْدِيلًا، وَإِلَّا كَانَ تَعْدِيلًا عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ. قَالَ: هَذَا كُلُّهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مَا عُمِلَ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَقَدْ يَنْقَدِحُ فِي خَاطِرِ الْفَقِيهِ، أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُتَوَصَّلْ إلَيْهِ بِقِيَاسٍ أَوْ ظَاهِرٍ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمَلٌ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَا مِنْ رِوَايَتِهِ، وَيُتَّجَهُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ رِوَايَةٌ فَلَا مَحْمَلَ لَهُ إلَّا رِوَايَتُهُ قَالَ: وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا قَبُولُ الْمُرْسَلِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: شَرَطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْعَمَلُ مِمَّا

لَا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ، حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي احْتَاطَ لِلْعَمَلِ، بِأَنْ أَخَذَ بِالرِّوَايَةِ. قَالَ: وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ لِقَوْلِنَا أَوَّلًا، إذَا عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا عُدِلَ عَنْ الْحَدِيثِ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ ضَرْبٌ مِنْهُ، وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ أَنْ يُعْمَلَ بِذَلِكَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَلَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِيهِ بِالضَّعْفِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَيَكُونُ تَعْدِيلًا، وَهُوَ حَسَنٌ. وَأَمَّا تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَا رَوَاهُ، فَهَلْ يَكُونُ جَرْحًا؟ قَالَ الْقَاضِي: إنْ تَحَقَّقَ تَرْكُهُ لِلْعَمَلِ بِالْخَبَرِ مَعَ ارْتِفَاعِ الدَّوَافِعِ وَالْمَوَانِعِ، وَتَقَرَّرَ عِنْدَنَا تَرْكُهُ مُوجَبَ الْخَبَرِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ جَرْحًا. وَإِنْ كَانَ مَضْمُونُ الْخَبَرِ مِمَّا يَسُوغُ تَرْكُهُ، وَلَمْ يُتَبَيَّنْ قَصْدُهُ إلَى مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ، فَلَا يَكُونُ جَرْحًا، كَمَا لَوْ عَمِلَ بِالْخَبَرِ وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِخَبَرٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ. وَمِنْهَا أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَنْ لَا يَرْوِي عَنْ غَيْرِ الْعَدْلِ، كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَعْدِيلًا، عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْآمِدِيِّ، وَالْهِنْدِيِّ، وَالْبَاجِيِّ وَغَيْرِهِمْ لِشَهَادَةِ ظَاهِرِ الْحَالِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْحُذَّاقِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا: لَا حَاجَةَ لِبَيَانِ سَبَبِ التَّعْدِيلِ، فَإِنْ رَوَى عَنْهُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الرِّوَايَةَ عَنْ الْعَدْلِ، فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ. لِأَنَّا رَأَيْنَاهُمْ يَرْوُونَ عَنْ أَقْوَامٍ، وَيَجْرَحُونَهُمْ لَوْ سُئِلُوا عَنْهُمْ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نَعَمْ، هَاهُنَا أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ النَّظَرُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي مِنْهَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ عَدْلٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَصْرِيحِهِ فَهُوَ أَقْصَى الدَّرَجَاتِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِنَا بِحَالِهِ فِي الرِّوَايَةِ، وَنَظَرْنَا إلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ مَنْ عَرَفْنَاهُ إلَّا عَنْ عَدْلٍ، فَهَذَا دُونَ الدَّرَجَةِ الْأُولَى. وَهَلْ يُكْتَفَى بِذَلِكَ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ عَمَّنْ لَا نَعْرِفُهُ؟ فِيهِ وَقْفَةٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ قَارَبَ زَمَانُنَا زَمَانَهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ. اهـ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: يُعْرَفُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِهِ صَرِيحًا، أَوْ عَرَفْنَاهُ بِالْقَرَائِنِ الْكَاشِفَةِ عَنْ سِيرَتِهِ. قَالَ: وَجَرَتْ عَادَةُ الْمُحَدِّثِينَ فِي التَّعْدِيلِ أَنْ يَقُولُوا: فُلَانٌ عَدْلٌ، رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ، أَوْ الزُّهْرِيُّ، أَوْ هُوَ مِنْ رِجَالِ الْمُوَطَّإِ، أَوْ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّهُ إنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِ فَلَيْسَتْ رِوَايَتُهُ تَعْدِيلًا، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ، فَإِنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ رِوَايَتَهُ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُعْتَقَدْ عَدَالَتُهُ، حَتَّى إذَا اسْتَقْرَى أَحْوَالَهُ، وَعَرَفَ عَدَالَتَهُ بِبَيِّنَةٍ، فَلَا يَظْهَرُ بِذَلِكَ عَدَالَةُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَإِنْ اطَّرَدَتْ عَادَتُهُ بِالرِّوَايَةِ عَمَّنْ عَدَّلَهُ، وَلَا يَرْوِي عَنْ غَيْرِهِ أَصْلًا، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مَذْهَبُهُ فِي التَّعْدِيلِ، فَلَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالتَّعْدِيلِ لَمْ يُقْبَلْ، فَكَيْفَ إذَا رُوِيَ، وَإِنْ عَلِمْنَا مَذْهَبَهُ فِي التَّعْدِيلِ، وَلَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِنَا، لَمْ يُعْتَمَدْ تَعْدِيلُهُ وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا عُمِلَ بِهِ. اهـ. وَقِيلَ: الرِّوَايَةُ تَعْدِيلٌ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ غَيْرَ عَدْلٍ لَكَانَ رِوَايَتُهُ عَنْهُ مَعَ السُّكُوتِ عَبَثًا. وَظَاهِرُ الْعَدْلِ التَّقِيِّ الِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ لَا يَعْلَمُهُ بِعَدَالَةٍ وَلَا جَرْحٍ، وَحَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَابْنُ فُورَكٍ عَنْ الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ فِي هَذَا، وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ بِالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عَلَى الْعَدَالَةِ، حَتَّى يُعْلَمَ خِلَافُهَا، قَالَا: وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ

أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عَدْلًا، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ تَرْكَهَا لَيْسَ بِجَرْحٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ. قَالَ: وَالْأَقْرَبُ فِيهِ رِوَايَةُ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عَنْهُ، أَوْ رِوَايَةُ الْعُدُولِ الْكَثِيرِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ تَعْدِيلٍ لَهُ. قُلْت: وَيَخْرُجُ مِنْ تَصَرُّفِ الْبَزَّارِ فِي مُسْنَدِهِ " التَّعْدِيلُ إذَا رَوَى عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعُدُولِ، فَوَجَبَ إثْبَاتُ قَوْلٍ بِالتَّفْصِيلِ. فَائِدَةٌ: [الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ لَا يَرْوُونَ إلَّا عَنْ عُدُولٍ] ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ لَا يَرْوُونَ إلَّا عَنْ عُدُولٍ ثَلَاثَةٌ: شُعْبَةُ، وَمَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ذَلِكَ، وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ عَلَيْهِ: مَالِكٌ، وَيَحْيَى. قَالَ: وَقَدْ يُوجَدُ فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ الرِّوَايَةُ عَنْ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ لِخَفَاءِ حَالِهِ، كَرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ.

التعديل المبهم

[التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ] مَسْأَلَةٌ [التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ] التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ، كَقَوْلِهِ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ وَنَحْوُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهُ لَا يَكْفِي فِي التَّوْثِيقِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ. قَالَ: وَهُوَ كَالْمُرْسَلِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا عِنْدَهُ فَرُبَّمَا لَوْ سَمَّاهُ لَكَانَ مِمَّنْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ: لَوْ صَرَّحَ بِأَنَّ جَمِيعَ شُيُوخِهِ ثِقَاتٌ، ثُمَّ رَوَى عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ أَنَّا لَا نَعْمَلُ بِرِوَايَتِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ نَعْرِفَهُ إذَا ذَكَرَهُ بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ، قَالَ: نَعَمْ، لَوْ قَالَ الْعَالِمُ: كُلُّ مَنْ أَرْوِي عَنْهُ وَأُسَمِّيهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَرْضِيٌّ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ، كَانَ هَذَا الْقَوْلُ تَعْدِيلًا لِكُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمَّاهُ كَمَا سَبَقَ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُقْبَلُ مُطْلَقًا، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ، لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَنْ يُعْرَفُ مِنْ عَادَتِهِ إذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ أَرَادَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ، وَكَانَ ثِقَةً فَيُقْبَلُ، وَإِلَّا فَلَا، حَكَاهُ شَارِحُ " اللُّمَعِ " الْيَمَانِيُّ عَنْ صَاحِبِ " الْإِرْشَادِ ".

المراد بالثقة عند مالك والشافعي

الثَّالِثُ: وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّهُ إنْ كَانَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ عَالِمًا أَجْزَأَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي مَذْهَبِهِ. كَقَوْلِ مَالِكٍ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، وَكَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُورِدْ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِالْخَبَرِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لِأَصْحَابِهِ قِيَامَ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ عَلَى الْحُكْمِ وَقَدْ عَرَفَ هُوَ مَنْ رَوَى عَنْهُ. [الْمُرَادُ بِالثِّقَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ] [الْمُرَادُ بِالثِّقَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ] وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إنَّمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ لِبَيَانِ مَذْهَبِهِ، وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِمَّا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ الْخَبَرِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ احْتِجَاجًا عَلَى غَيْرِهِ. وَقِيلَ: إنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْلَمَ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي بَعْضِهِمْ: إنَّهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَفِي بَعْضِهِمْ عَلِيُّ بْنُ حَسَّانَ، وَفِي بَعْضِهِمْ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ وَغَيْرُهُمْ، وَقِيلَ: إنَّهُ ذُكِرَ فِيمَا يَثْبُتُ مِنْ طُرُقٍ مَشْهُورَةٍ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَأَمَّا تَعْبِيرُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ فَقَدْ اُشْتُهِرَ أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ إبْرَاهِيمَ بْنَ إسْمَاعِيلَ، فَصَارَ كَالتَّسْمِيَةِ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مَالِكًا. وَقِيلَ: بَلْ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْقَدَرَ، فَاحْتَرَزَ عَنْ التَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى. اهـ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ:

فَهُوَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ. وَإِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ: قَالَ: اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، فَهُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ وَإِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ فَهُوَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَإِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَهُوَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ. وَإِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةَ، فَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَيْثُ قَالَ مَالِكٌ: عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، فَالثِّقَةُ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْر، وَحَيْثُ قَالَ: عَنْ الثِّقَةِ،

عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَقِيلَ: الثِّقَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، وَقِيلَ: الزُّهْرِيُّ. وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ " الْمَعْرِفَةِ " عَنْ الرَّبِيعِ إذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، يُرِيدُ يَحْيَى بْنَ حَسَّانَ، وَإِذَا قَالَ: مَنْ لَا أَتَّهِمُ، فَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، وَإِذَا قَالَ: بَعْضُ النَّاسِ، يُرِيدُ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَإِذَا قَالَ: بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُرِيدُ بِهِ أَهْلَ الْحِجَازِ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْحَاكِمُ: قَدْ أَخْبَرَ الرَّبِيعُ عَنْ الْغَالِبِ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ الثِّقَةِ هُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ. وَقَدْ قَالَ فِي كُتُبِهِ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ. وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ فَصَّلَ ذَلِكَ شَيْخُنَا الْحَاكِمُ تَفْصِيلًا عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ، فَذَكَرَ فِي بَعْضِ مَا قَالَهُ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إسْمَاعِيلَ بْنَ عُلَيَّةَ، وَفِي بَعْضِهِ أَبَا أُسَامَةَ، وَفِي بَعْضِهِ

مسألة هل يجب ذكر سبب الجرح والتعديل

عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَفِي بَعْضِهِ هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ، وَفِي بَعْضِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْيَقِينِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَيَّدَ كَلَامَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. اهـ. مَسْأَلَةٌ [قَوْلُ " لَا أَتَّهِمُ " هَلْ هُوَ تَعْدِيلٌ؟] فَلَوْ قَالَ: لَا أَتَّهِمُ، فَلَا يُقْبَلُ فِي التَّعْدِيلِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَعْلَامِ " إذَا قَالَ الْمُحَدِّثُ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ عِنْدِي، أَوْ حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ عِنْدَهُ، قَدْ لَا يَكُونُ ثِقَةً عِنْدِي، فَأَحْتَاجُ إلَى عِلْمِهِ. اهـ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ] ِ] الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ، هَلْ يُقْبَلَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ، فِيهِ

خِلَافٌ، مَنْشَؤُهُ أَنَّ الْمُعَدِّلَ وَالْمُجَرِّحَ هَلْ هُوَ مُخْبِرٌ فَيُصَدَّقُ، أَوْ حَاكِمٌ وَمُفْتٍ فَلَا يُقَلَّدُ؟ أَحَدُهَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّعْدِيلِ كَثِيرَةٌ، فَيَشُقُّ ذِكْرُهَا، بِخِلَافِ الْجَرْحِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَالِاخْتِلَافُ فِي سَبَبِ الْجَرْحِ، فَرُبَّمَا ذَكَرَ شَيْئًا لَا جَرْحَ فِيهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لِمَ تَرَكْت حَدِيثَ فُلَانٍ؟ قَالَ رَأَيْته يُرْكِضُ بِرْذَوْنًا، فَتَرَكْت حَدِيثَهُ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ حَكَى أَنَّهُ وَقَفَ عِنْدَ بَعْضِ الْقُضَاةِ عَلَى رَجُلٍ يَجْرَحُ رَجُلًا فَسُئِلَ، فَقَالَ: رَأَيْته يَبُولُ قَائِمًا. فَقِيلَ لَهُ: فَمَا بَوْلُهُ قَائِمًا؟ قَالَ يَتَرَشْرَشُ عَلَيْهِ وَيُصَلِّي. فَقِيلَ لَهُ: رَأَيْته بَالَ قَائِمًا يَتَرَشْرَشُ عَلَيْهِ ثُمَّ صَلَّى؟ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَوَابٌ؛ وَلِأَنَّهُ بَالَ قَائِمًا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَنُقَّادِهِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَالثَّانِي: عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجَرْحِ مُبْطِلُ الثِّقَةِ، وَمُطْلَقَ التَّعْدِيلِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الثِّقَةُ لِتَسَارُعِ النَّاسِ إلَى الظَّاهِرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ السَّبَبِ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ "، وَإِلْكِيَا فِي " التَّلْوِيحِ "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ "،

وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ الْقَاضِي، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ أَوْقَعُ فِي مَأْخَذِ الْأُصُولِ، وَمَا حَكَوْهُ عَنْ الْقَاضِي وَهْمٌ؛ لِمَا سَيَأْتِي. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ السَّبَبِ فِيهِمَا أَخْذًا بِمَجَامِعِ كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) زُكِّيَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَ الْمُزَكِّي عَنْ أَحْوَالِهِ فَظَهَرَ لَهُ مَا لَا يُكْتَفَى بِهِ. وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ السَّبَبِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا بِهَذَا الشَّأْنِ لَمْ يَصْلُحْ لِلتَّزْكِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا بِهِ فَلَا مَعْنَى لِلسُّؤَالِ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي " الْكِفَايَةِ " وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ، وَرَدَّ عَلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي نَقْلِهِ عَنْهُ مَا سَبَقَ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَالْقُرْطُبِيُّ فِي " الْأُصُولِ "، وَالْآمِدِيَّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَالْهِنْدِيُّ. وَالْخَامِسُ: إنْ كَانَ الْمُزَكِّي عَالِمًا بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ اكْتَفَيْنَا بِإِطْلَاقِهِ فِيهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ اطِّلَاعُهُ عَلَى شَرَائِطِهِمَا اسْتَخْبَرْنَاهُ عَنْ أَسْبَابِهِمَا، وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ. قُلْت وَهُوَ ظَاهِرُ تَصَرُّفِهِ، فَإِنْ وُجِدَ لَهُ نَصٌّ بِالْإِطْلَاقِ حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْرُجُ قَوْلَانِ. وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ فِي بَابِ الْأَوَانِي: أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إذَا بَيَّنَ السَّبَبَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ ": اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ مِنْ حَالِ الْمُخْبِرِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ

طَاهِرٌ، وَأَنَّ الْمَاءَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَا يُنَجَّسُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هَذَا كَلَامُهُ، وَهُوَ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالرَّازِيِّ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ كَلَامِ الْخَطِيبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِشُرُوطِ الْعَدَالَةِ، لَمْ يَصْلُحْ لِلتَّزْكِيَةِ. وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. قَالَ: وَقَدْ أَشَارَ الْقَاضِي إلَى هَذَا فِي، التَّقْرِيبِ " أَيْضًا. وَحَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِلَفْظِ: إنْ كَانَ لَا يُطْلَقُ التَّعْدِيلُ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْصَاءٍ، كَمَالِكٍ، فَمُطْلَقُ تَعْدِيلِهِ كَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُتَسَاهِلِينَ فَلَا. ثُمَّ قَالَ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ الْعَالِمِينَ بِشَرَائِطِ الْعَدَالَةِ فَالظَّنُّ أَنَّهُ اسْتَقْصَى، وَتَقْدِيرُ خِلَافِ ذَلِكَ فِيهِ نِسْبَةٌ إلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ. فَإِنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ التَّعْدِيلِ، وَكَلَامُنَا فِي التَّعْدِيلِ الْمُطْلَقِ فِيمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ التَّعْدِيلِ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّعْدِيلِ إلَّا أَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْغَلَطِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ لَنَا الْمُسْتَنَدَ؛ لِئَلَّا نَكُونَ مُقَلِّدِينَ غَيْرَ مَعْصُومٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ إلَّا أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ. وَالْإِمَامُ يَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ غَلَبَةُ الظَّنِّ، مَتَى حَصَلَتْ، وَإِذَا لَاحَ لَنَا مِنْ حَالِ مِثْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَتَسَاهَلُ، حَصَلَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ، فَيُقَالُ: غَلَبَةُ الظَّنِّ لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَنِدَ إلَى ضَابِطِ الشَّرْعِ الْوَاضِحِ، وَقَدْ رَوَيْنَا مَنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ غَيْرُهُ، مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ مِنْ رِجَالِ الْمُوَطَّإِ، وَقَدْ قَدَحَ فِيهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ حَالِهِ إلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ ذَلِكَ عُسْرًا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ " وَقَدْ حَكَى هَذَا الْمَذْهَبَ:

هل يكفي في الجرح المجمل

يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ فِي هَذَا عِنْدَ التَّعْدِيلِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ شَرْطٌ آخَرُ، وَهُوَ اتِّفَاقُ مَذْهَبِهِ مَعَ مَذْهَبِ الْمُعَدِّلِ فِي الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّزْكِيَةِ، وَإِلَّا فَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُسْلِمَ عَلَى الْعَدَالَةِ، وَيَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْحَالِ، فَقَدْ يُزَكِّي مَنْ لَا يَقْبَلُهُ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ، وَكَذَا إذَا ظَهَرَ فِي مُزَكِّي الرُّوَاةِ أَنَّ هَذَا مَذْهَبٌ لِذَلِكَ الْمُزَكِّي، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ. [هَلْ يَكْفِي فِي الْجَرْحِ الْمُجْمَلِ] تَفْرِيعٌ [هَلْ يَكْفِي فِي الْجَرْحِ الْمُجْمَلِ] وَإِذْ ثَبَتَ أَنَّ بَيَانَ السَّبَبِ فِي الْجَرْحِ شَرْطٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا وَمِنْهُمْ الصَّيْرَفِيُّ، وَابْنُ فُورَكٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا فُلَانٌ ضَعِيفٌ، وَلَا لَيِّنٌ، مَاذَا بِالْكَذَّابِ؟ اُسْتُفْسِرَ، وَقِيلَ لَهُ: مَا تَعْنِي؟ أَتَعَمَّدَ الْكَذِبَ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، تُوُقِّفَ فِي خَبَرِهِ وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّ الْكَذِبَ لُغَةً يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ، وَوَضْعَ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي حَدِيثِ الْوِتْرِ. يَعْنِي: غَلِطَ، وَادَّعَى النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ وُجُوبُ التَّوَقُّفِ عَنْ الْعَمَلِ بِحَدِيثِهِ إلَى أَنْ يُبْحَثَ عَنْ السَّبَبِ. قُلْت: وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ، وَيُحْتَمَلُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ فَلَا أَثَرَ لِلْجَرْحِ الْمُطْلَقِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ مَا إذَا كَانَ الرَّاوِي لَا يُعْلَمُ حَالُهُ، وَلَا وَثَّقَهُ مُوَثِّقٌ. قَالَ: فَيُقْبَلُ فِيهِ الْجَرْحُ وَإِنْ لَمْ يُفَسَّرْ مَا بِهِ جَرْحُهُ؛ لِأَنَّا قَدْ كُنَّا نَتْرُكُ حَدِيثَهُ بِمَا عَدِمْنَا مِنْ مَعْرِفَةِ ثِقَتِهِ. قُلْت: وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا يُسْتَثْنَى.

وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ بِرِوَايَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ وَحَمْلِهِمْ حَدِيثَهُ، فَلَيْسَ يُقْبَلُ فِيهِ تَجْرِيحُ أَحَدٍ حَتَّى يَثْبُتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِأَمْرٍ لَا يُجْهَلُ يَكُونُ بِهِ جَرْحُهُ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ كَذَّابٌ، فَلَيْسَ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ جَرْحٌ، حَتَّى يُبَيِّنَ مَا قَالَهُ. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُفَوَّزِ، وَقَالَ: بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ قَبُولُ تَعْدِيلِ مَنْ عَدَّلَ، وَتَعْدِيلِ وَتَجْرِيحِ مَنْ جَرَّحَ، لِمَنْ عُرِفَ وَاشْتُهِرَ بِأَمَانَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. إذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ الْمُفَسَّرُ وَالتَّعْدِيلُ فِي رَاوٍ وَاحِدٍ فَأَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: يُقَدَّمُ الْجَرْحُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي عَدَّلَ أَكْثَرَ، وَهَذَا مَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَقَالَ: نَقَلَ الْقَاضِي فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَنَقَلَهُ الْخَطِيبُ، وَالْبَاجِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ، وَالرَّازِيُّ، وَابْنُ الصَّلَاحِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ مَعَ الْجَارِحِ زِيَادَةَ عِلْمٍ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْمُعَدِّلُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ مَعَ اعْتِقَادِ الْمَذْهَبِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَرْحَ لَا يُقْبَلُ إلَّا مُفَسَّرًا، وَبِشَرْطٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مَجْزُومٍ بِهِ، أَيْ بِكَوْنِهِ جَارِحًا لَا بِطَرِيقٍ اجْتِهَادِيٍّ، كَمَا اصْطَلَحَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الِاعْتِمَادِ فِي الْجَرْحِ عَلَى اعْتِبَارِ حَدِيثِ الرَّاوِي مَعَ اعْتِبَارِ حَدِيثِ غَيْرِهِ، وَالنَّظَرِ إلَى كَثْرَةِ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالتَّفَرُّدِ وَالشُّذُوذِ. اهـ. وَقَدْ اسْتَثْنَى أَصْحَابُنَا مِنْ هَذَا مَا إذَا جَرَحَهُ لِمَعْصِيَةٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْهَا، يُقَدَّمُ التَّعْدِيلُ؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ.

وَالثَّانِي: عَكْسُهُ، وَهُوَ تَقْدِيمُ التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ قَدْ يَجْرَحُ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَارِحًا، وَالْمُعَدِّلُ إذَا كَانَ عَدْلًا مُثْبِتًا لَا يُعَدِّلُ إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الْمُوجِبِ لِقَبُولِهِ جَزْمًا. حَكَاهُ الطَّحْطَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْعِلَّةِ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالْجَرْحِ غَيْرِ الْمُفَسَّرِ. وَالثَّالِثُ: يُقَدَّمُ الْأَكْثَرُ مِنْ الْجَارِحِينَ أَوْ الْمُعَدِّلِينَ. حَكَاهُ فِي " الْمَحْصُولِ "؛ لِأَنَّ كَثْرَتَهُمْ تُقَوِّي حَالَهُمْ، وَرَدَّهُ الْخَطِيبُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ، فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِمُرَجِّحٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ ثُمَّ جَعَلَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كَانَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ، فَإِنْ اسْتَوَيَا قُدِّمَ الْجَرْحُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي " الْكِفَايَةِ "، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي " الْأَحْكَامِ "، وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، فَفِيهِ الْخِلَافُ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَأَنَّهُ نُصِبَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا اسْتَوَى عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ وَالْجَارِحِينَ. قَالَ: فَإِنْ كَثُرَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ، وَقَلَّ عَدَدُ الْجَارِحِينَ، تَقَبُّلُ الْعَدَالَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْلَى. وَاخْتَارَ الْقَاضِي تَقْدِيمَ الْجَرْحِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: قَدْ حَكَى ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِهِ " الزَّاهِي " الْخِلَافَ عِنْدَ

تَسَاوِيهِمَا فِي الْعَدَدِ. أَمَّا إذَا زَادَ عَدَدُ الْمُجَرِّحِينَ فَلَا وَجْهَ لِجَرَيَانِ الْخِلَافِ وَبِهِ صَرَّحَ الْبَاجِيُّ فَقَالَ: لَا خِلَافَ فِي تَقْدِيمِ الْجَرْحِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا عَلَى نَقْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ عَدْلٌ، وَالْآخَرُ هُوَ مَجْرُوحٌ، قُدِّمَ الْجَرْحُ قَطْعًا، وَلَا يَحْسُنُ فِيهِ إجْرَاءُ خِلَافٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَدَدُ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ مَبْنَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ بِخِلَافِ الْجَرْحِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: فَلَوْ نَصَّ الْمُجَرِّحُ عَلَى سَبَبِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَنَفَاهُ الْعَدَدُ، تَعَارَضَا. قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ فِي " النِّهَايَةِ ": مَتَى كَانَ الْجَرْحُ مُطْلَقًا أَوْ مُعَيَّنًا بِذِكْرِ سَبَبِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُ كَقَوْلِهِ: رَأَيْته يَشْرَبُ أَوْ سَمِعْت مِنْهُ الْكَذِبَ، قُدِّمَ عَلَى التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْمُعَدِّلُ، وَلَا نَفَاهَا، فَإِنْ نَفَاهَا بَطَلَتْ عَدَالَتُهُ؛ لِعِلْمِنَا بِمُجَازَفَتِهِ وَجَزْمِهِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْجَزْمُ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بِذِكْرِ سَبَبٍ يَنْضَبِطُ بِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ كَقَوْلِهِ: رَأَيْته قَدْ قَتَلَ فُلَانًا، فَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُعَدِّلُ لِنَفْيِهِ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى التَّعْدِيلِ مُطْلَقًا، أَوْ مَعَ سَبَبِهِ فَكَالْعَدِمِ وَإِنْ تَعَرَّضَ لِنَفْيِهِ بِأَنْ قَالَ: رَأَيْته حَيًّا، بَعْدَ ذَلِكَ فَهُمَا يَتَعَارَضَانِ، وَيُصَارُ إلَى التَّرْجِيحِ بِنَحْوِ كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالضَّبْطِ وَزِيَادَةِ الْوَرَعِ وَغَيْرِهَا.

فصل في عدالة الصحابة

[فَصْلٌ فِي عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ] ِ وَمَا ذَكَرَهُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ شَرْطِ الْبَحْثِ عَنْ الْعَدَالَةِ فِي الرَّاوِي إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الصَّحَابَةِ، فَأَمَّا فِيهِمْ فَلَا، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ عِنْدَنَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وَفِي الصَّحِيحِ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» . فَتُقْبَلُ رِوَايَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ، وَجُمْهُورِ السَّلَفِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّهُمْ نَقَلَةُ الشَّرِيعَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ تَوَقُّفٌ فِي رِوَايَتِهِمْ لَانْحَصَرَتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى عَصْرِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَمَا اسْتَرْسَلَتْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَعَلَيْهِ كَافَّةُ أَصْحَابِنَا. وَأَمَّا مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ فَتِلْكَ أُمُورٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ،

وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَالْمُخْطِئُ مَعْذُورٌ، بَلْ وَمَأْجُورٌ، وَكَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنْهَا سُيُوفَنَا فَلَا نُخَضِّبُ بِهَا أَلْسِنَتَنَا. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمْ: وَأَمَّا أَمْرُ أَبِي بَكْرَةَ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا نَقَصَ الْعَدَدُ أَجْرَاهُمْ عُمَرُ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) مَجْرَى الْقَذَفَةِ، وَحَدُّهُ لِأَبِي بَكْرَةَ بِالتَّأْوِيلِ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَفْسِيقًا؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مَجِيءَ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْقَذْفِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ، وَسُوِّغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْعَدَالَةِ كَحُكْمِ غَيْرِهِمْ. فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهَا، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَإِنَّهُ قَالَ: وَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةَ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. وَالْوَلِيدُ شَرِبَ الْخَمْرَ. قُلْنَا: مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ خِلَافُ الْعَدَالَةِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ. وَالْوَلِيدُ لَيْسَ

بِصَحَابِيٍّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا هُمْ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ. اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ فَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْمُحَدِّثُونَ فِي كُتُبِ الصَّحَابَةِ. وَقِيلَ: حُكْمُهُمْ الْعَدَالَةُ قَبْلَ الْفِتَنِ لَا بَعْدَهَا، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: عُدُولٌ إلَّا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا. فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَقِيلَ بِهِ فِي الْفَرِيقِ الْآخَرِ. وَقِيلَ: الْحَدِيثُ بِالْعَدَالَةِ يَخْتَصُّ بِمِنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُمْ، وَالْبَاقُونَ كَسَائِرِ النَّاسِ، مِنْهُمْ عُدُولٌ وَغَيْرُ عُدُولٍ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَاطِلَةٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَمِنْ الْفَوَائِدِ مَا قَالَهُ الْحَافِظُ جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ: إنَّهُ لَمْ تُوجَدْ رِوَايَةٌ عَمَّنْ يُلْمَزُ بِالنِّفَاقِ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْعَدَالَةُ لِمَنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُمْ بِالصُّحْبَةِ دُونَ مَنْ قَلَّتْ صُحْبَتُهُ، أَوْ كَانَ لَهُ مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ، فَقَالَ: لَا نَعْنِي بِالْعَدْلِ كُلَّ مَنْ رَآهُ اتِّفَاقًا أَوْ زَارَهُ لِمَامًا، أَوْ أَلَمَّ بِهِ، وَانْصَرَفَ مِنْ قَرِيبٍ، لَكِنْ إنَّمَا نُرِيدُ بِهِ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ لَازَمُوهُ، وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، يُخْرِجُ كَثِيرًا مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالصُّحْبَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنْ الْحُكْمِ بِالْعَدَالَةِ كَوَائِلِ بْنِ حُجْرٌ، وَمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ،

وَأَمْثَالِهِمْ، مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يُقِمْ إلَّا أَيَّامًا قَلَائِلَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِرِوَايَةِ الْوَاحِدِ أَوْ الِاثْنَيْنِ، فَالْقَوْلُ بِالتَّعْمِيمِ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ. [الْمُرَادُ بِعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ] وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَالَتِهِمْ ثُبُوتُ الْعِصْمَةِ لَهُمْ، وَاسْتِحَالَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ قَبُولُ رِوَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ بَحْثٍ عَنْ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ، وَطَلَبِ التَّزْكِيَةِ، إلَّا مَنْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ ارْتِكَابُ قَادِحٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَنَحْنُ عَلَى اسْتِصْحَابِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ السِّيَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَمَا صَحَّ فَلَهُ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ. وَلَا عِبْرَةَ بِرَدِّ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَاتِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، فَقَدْ عَمِلُوا بِرَأْيِهِ فِي الْغُسْلِ ثَلَاثًا مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ وَلَّاهُ عُمَرُ الْوِلَايَاتِ الْجَسِيمَةَ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ فِي الْإِسْنَادِ: عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ حُجَّةً، وَلَا تَضُرُّ الْجَهَالَةُ بِهِ؛ لِثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ. وَخَالَفَ ابْنُ مَنْدَهْ، فَقَالَ: مِنْ حُكْمِ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ إذَا رَوَى عَنْهُ تَابِعِيٌّ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا كَالشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، نُسِبَ إلَى الْجَهَالَةِ، فَإِذَا رَوَى عَنْهُ رَجُلَانِ صَارَ مَشْهُورًا، وَاحْتُجَّ بِهِ. قَالَا: وَعَلَى هَذَا بَنَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ صَحِيحَيْهِمَا، إلَّا أَحْرُفًا تَبَيَّنَ أَمْرُهَا، وَيُسَمِّي

الْبَيْهَقِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ مُرْسَلًا، وَهُوَ مَرْدُودٌ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: الْمَجْهُولُ مِنْ الصَّحَابَةِ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إنْ عَمِلَ بِهِ السَّلَفُ، أَوْ سَكَتُوا عَنْ رَدِّهِ مَعَ انْتِشَارِهِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ، فَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ دُونَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا. قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ خَبَرَ الْمَشْهُورِ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ حُجَّةٌ مَا لَمْ يُخَالِفْ الْقِيَاسَ، وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ مَرْدُودٌ مَا لَمْ يَرُدُّهُ الْقِيَاسُ؛ لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَمَنْ لَمْ تَظْهَرْ. [تَعْرِيفُ الصَّحَابِيِّ] فَإِنْ قِيلَ: أَثْبَتُّمْ الْعَدَالَةَ لِلصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا، فَمَنْ الصَّحَابِيُّ؟ قُلْنَا: اخْتَلَفُوا فِيهِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ مَنْ اجْتَمَعَ - مُؤْمِنًا - بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَصَحِبَهُ وَلَوْ سَاعَةً، رَوَى عَنْهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ يَقْتَضِي طُولَ الصُّحْبَةِ وَكَثْرَتَهَا، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ الرِّوَايَةُ، وَطُولُ الصُّحْبَةِ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَحَدُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هُوَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَالظَّاهِرُ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَثُرَتْ مُجَالَسَتُهُ لَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطِيلَ الْمُكْثَ مَعَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ، وَالْأَخْذِ عَنْهُ، وَلِهَذَا يُوصَفُ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ

مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ طَرِيقَةُ الْأُصُولِيِّينَ. أَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَيُطْلِقُونَ اسْمَ الصَّحَابَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ حَدِيثًا، أَوْ كَلِمَةً، وَيَتَوَسَّعُونَ حَتَّى يَعُدُّونَ مَنْ رَآهُ رُؤْيَةً مَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَهَذَا لِشَرَفِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَوْا كُلَّ مَنْ رَآهُ حُكْمَ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي، وَمَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي» ، وَالْأَوَّلُ الصَّحَابَةُ، وَالثَّانِي التَّابِعُونَ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هُوَ مَنْ أَكْثَرَ مُجَالَسَتَهُ، وَاخْتُصَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ الْوَافِدُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ يُقَال: فُلَانٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَقِيَهُ وَرَوَى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ تَطُلْ صُحْبَتُهُ وَلَمْ يُخْتَصَّ بِهِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ بِتَقْيِيدٍ، وَالْأَوَّلَ بِإِطْلَاقٍ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَفْظُ الصَّحَابِيِّ مِنْ الصُّحْبَةِ. فَكُلُّ مَنْ صَحِبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْظَةً يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّحَابِيِّ لَفْظًا، غَيْرَ أَنَّ الْعُرْفَ اقْتَرَنَ بِهِ، فَلَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ إلَّا عَلَى مَنْ صَحِبَهُ مُدَّةً طَالَتْ صُحْبَتُهُ فِيهَا. قَالَ: وَلَا تُضْبَطُ هَذِهِ الْمُدَّةُ بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ، وَكَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ. [هَلْ لِلصُّحْبَةِ مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ] وَحَكَى شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ تَحْدِيدَهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَشَرَطَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ الْإِقَامَةَ مَعَهُ سَنَةً، أَوْ الْغَزْوَ مَعَهُ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَوَائِلَ بْنَ حُجْرٌ، وَمُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ تِسْعٍ وَبَعْدَهُ، فَأَسْلَمَ وَأَقَامَ عِنْدَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْمِهِ، وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ لَا خِلَافَ فِي عَدِّهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ

إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: هُوَ مَنْ ظَهَرَتْ صُحْبَتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُحْبَةَ الْقَرِينِ قَرِينَهُ، حَتَّى يُعَدَّ مِنْ أَحْزَابِهِ وَخَدَمَتِهِ الْمُتَّصِلِينَ. وَذَكَرَ صَاحِبُ " الْوَاضِحِ " أَنَّ هَذَا قَوْلُ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": هُوَ مَنْ طَالَتْ مُجَالَسَتُهُ مَعَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ، وَالْأَخْذِ عَنْهُ، فَمَنْ لَمْ تَطُلْ مُجَالَسَتُهُ كَالْوَافِدِينَ، أَوْ طَالَتْ وَلَمْ يَقْصِدْ الِاتِّبَاعَ لَا يَكُونُ صَحَابِيًّا. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاخْتَصَّ بِهِ اخْتِصَاصَ الصَّاحِبِ بِالْمَصْحُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْهُ. وَقَالَ الْجَاحِظُ: يُشْتَرَطُ تَعَلُّمُهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ حَدِيثًا وَاحِدًا. [هَلْ الْبُلُوغُ شَرْطٌ فِي اعْتِبَارِ الصُّحْبَةِ] وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ. حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْوَاقِدِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ نَحْوُ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الَّذِي عَقَلَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجَّةً وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ وَعَدُوُّهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَلَامُ السَّفَاقِسِيِّ شَارِحِ الْبُخَارِيِّ

يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ التَّمْيِيزِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ عَامَ الْفَتْحِ» . قَالَ الشَّارِحُ: إنْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا عَقَلَ ذَلِكَ، أَوْ عَقَلَ عَنْهُ كَلِمَةً كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْقِلْ شَيْئًا كَانَتْ تِلْكَ فَضِيلَةً، وَهُوَ مِنْ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ التَّابِعِينَ اهـ. [اشْتِرَاطُ الرُّؤْيَةِ لِلصُّحْبَةِ] وَلَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَتُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِيَدْخُلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَضِرَّاءِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا الْإِيمَانَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الصُّحْبَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ رَأَوْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُمَا، وَصَرَّحَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ رَآهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَاشْتَرَطَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: الْعَدَالَةَ، قَالَ: مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ. قَالَ: وَالْوَلِيدُ الَّذِي شَرِبَ الْخَمْرَ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَإِنَّمَا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ. اهـ. وَهُوَ عَجِيبٌ لِمَا قَرَرْنَاهُ مِنْ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ الْمُطْلَقَةِ.

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ] ثُمَّ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ تُرَتَّبُ عَلَيْهِ فَوَائِدُ: مِنْهَا: الْعَدَالَةُ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعُدُّ الرَّائِيَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ يَطْلُبُ تَعْدِيلَهُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي سَائِرِ الرُّوَاةِ مِنْ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمَنْ يُثْبِتُ الصُّحْبَةَ بِمُجَرَّدِ اللِّقَاءِ لَا يَحْتَاجُ لِذَلِكَ. وَمِنْهَا: الْحُكْمُ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَوْنِهِ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ أَمْ لَا. فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى قَبُولِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ كَوْنُهُ صَحَابِيًّا الْتَحَقَ مُرْسَلُهُ بِمِثْلِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَأَمْثَالُهُمَا، وَإِنْ لَمْ نُعْطِهِ اسْمَ الصُّحْبَةِ كَانَ كَمُرْسَلِ التَّابِعِيِّ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُجْتَهِدًا، أَوْ نُقِلَتْ عَنْهُ فَتَاوَى حُكْمِيَّةٌ، هَلْ يَلْتَحِقُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ قَوْلَ صَحَابِيٍّ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً أَمْ لَا؟ وَمِنْهَا: هَلْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ لَهُمْ، أَوْ يَتَوَقَّفُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ . [الَّذِي رَأَى الرَّسُولَ كَافِرًا بِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ] ثُمَّ هَاهُنَا فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ كَافِرًا، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلَمْ يَرَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ رَوَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ لَمْ يَرْوِهِ، هَلْ يَكُونُ صَحَابِيًّا؟ ظَاهِرُ

كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَمَّادٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوَقَفَ مَعَهُ فِي قِصَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ مَعَ كَوْنِهِ أَسْلَمَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِذَلِكَ اللِّقَاءِ وَالْكَلَامِ فِي الْكُفْرِ. [مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَلَمْ يَلْقَهُ] الثَّانِيَةُ: مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ وَحَادَثَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَلَمْ يَلْقَهُ، فَهَلْ يُكْتَفَى بِاللِّقَاءِ الْأَوَّلِ مَعَ إسْلَامِهِ فِي زَمَنِهِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أُمَيَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْته أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَان، وَنَسِيت، ثُمَّ إنِّي ذَكَرْت بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَجِئْت فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: يَا فَتَى لَقَدْ شَقَقْت عَلَيَّ، أَنَا فِي انْتِظَارِك مُنْذُ ثَلَاثٍ، أَنْتَظِرُك. فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ كَانَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ أَبِي الْحَمْسَاءِ أَسْلَمَ إذْ ذَاكَ قَطْعًا، وَلَكِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ تَثْبُتْ صُحْبَتُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. الثَّالِثَةُ: مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَأَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَوْلَى بِالصُّحْبَةِ مِنْ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ.

مَنْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ] الرَّابِعَةُ: مَنْ صَحِبَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ: هَلْ تُحْبِطُ رِدَّتُهُ تِلْكَ الصُّحْبَةَ السَّالِفَةَ، يَنْبَنِي هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ هَلْ تَحْبَطُ أَعْمَالُهُ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ الْوَفَاةِ عَلَى الرِّدَّةِ. وَالثَّانِي: هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا، وَعَلَيْهِ لَا تَحْبَطُ صُحْبَتُهُ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ تَحْبَطُ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا إسْلَامًا جَدِيدًا يَجِبُ بِهِ اسْتِئْنَافُ الْحَجِّ، وَلَا يَعْتَدُّونَ بِمَا سَبَقَ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ لَهُ إجْمَاعُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَدِّ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَجَعْلِ أَحَادِيثِهِ مُسْنَدَةً. وَكَانَ مِمَّنْ ارْتَدَّ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ رَجَعَ بَيْنَ يَدَيْ الصِّدِّيقِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيُذَادَنَّ عَنْ حَوْضِي، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: سُحْقًا، فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَك» ، فَسَمَّاهُمْ أَصْحَابًا بِنَاءً عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْهُمْ. [مَنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ وَلَمْ يَرَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ] الْخَامِسَةُ: مَنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي حَيَاتِهِ، وَلَمْ يَرَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، لَكِنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَبْلَ الدَّفْنِ، هَلْ يَكُونُ صَحَابِيًّا؟ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ نَعَمْ،

لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الصُّحْبَةَ لِمَنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحَابِيٍّ؛ لِعَدَمِ وِجْدَانِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ الْمُجَالَسَةِ، وَهَذَا كَأَبِي ذُؤَيْبٍ خُوَيْلِدِ بْنِ خَالِدٍ الْهُذَلِيِّ الشَّاعِرِ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ، فَإِنَّهُ أُخْبِرَ بِمَرَضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَافَرَ نَحْوَهُ، فَقُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وُصُولِهِ بِيَسِيرٍ، وَحَضَرَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَرَآهُ مُسَجًّى وَشَهِدَ دَفْنَهُ. السَّادِسَةُ: اسْمُ الصَّحَابِيِّ شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ. [أَكْثَرُ صَحَابَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا فُقَهَاءَ] السَّابِعَةُ: أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَازَمُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا فُقَهَاءَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي طَبَقَاتِهِ ": وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ طُرُقَ الْفِقْهِ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ خِطَابُ اللَّهِ، وَخِطَابُ رَسُولِهِ وَأَفْعَالُهُ، فَخِطَابُ اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَعَلَى أَسْبَابٍ عَرَفُوهَا فَعَرَفُوا مَنْطُوقَهُ، وَمَفْهُومَهُ وَمَنْصُوصَهُ وَمَعْقُولَهُ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " كِتَابِ الْمَجَازِ ": لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَجَعَ فِي مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

مَسْأَلَةٌ [طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الصَّحَابِيِّ] يُعْرَفُ الصَّحَابِيُّ بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ، وَبِكَوْنِهِ مُهَاجِرًا أَوْ أَنْصَارِيًّا، وَبِقَوْلِ صَحَابِيٍّ آخَرَ مَعْلُومِ الصُّحْبَةِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا كَقَوْلِهِ: كُنْت أَنَا وَفُلَانٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ دَخَلْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَانِ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا أَنْ يُعْرَفَ إسْلَامُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَيُمَيَّزَ، فَأَمَّا إنْ ادَّعَى الْعَدْلُ الْمَعَاصِرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَاحَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ وَازِعَ الْعَدْلِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْكَذِبِ، إذَا لَمْ يَرِدْ عَنْ الصَّحَابَةِ رَدُّ قَوْلِهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي ثُبُوتِهَا بِقَوْلِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَعْوَاهُ رُتْبَةً لِنَفْسِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثِ، وَهُوَ قَوِيٌّ، فَإِنَّ الشَّخْصَ لَوْ قَالَ: أَنَا عَدْلٌ، لَمْ تُقْبَلْ لِدَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ مَزِيَّةً، فَكَيْفَ إذَا ادَّعَى الصُّحْبَةَ الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْعَدَالَةِ؟ . وَالْأَوَّلُ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ". قَالَ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ صَاحَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَتَّى تُعْلَمَ عَدَالَتُهُ. فَإِذَا عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ قُبِلَ مِنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَآهُ مَعَ إمْكَانِ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَدَّعِيهِ دَعْوَى لَا أَمَارَةَ مَعَهَا، وَخَالَفَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ: وَمَنْ يَدَّعِي صُحْبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى تُعْلَمَ صُحْبَتُهُ، فَإِذَا عَلِمْنَاهَا فَمَا رَوَاهُ فَهُوَ عَلَى السَّمَاعِ، حَتَّى يُعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: تُعْلَمُ الصُّحْبَةِ إمَّا بِطَرِيقٍ

قَطْعِيٍّ، وَهُوَ خَبَرُ التَّوَاتُرِ، أَوْ ظَنِّيٍّ وَهُوَ خَبَرُ الثِّقَةِ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الصُّحْبَةَ الْيَسِيرَةَ، وَقُلْنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِهَا فِي مُسَمَّى الصَّحَابِيِّ فَيُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ بِالنَّقْلِ إذْ رُبَّمَا لَا يَحْضُرُهُ حَالَةَ اجْتِمَاعِهِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ أَوْ حَالَ رُؤْيَتِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ ادَّعَى طُولَ الصُّحْبَةِ، وَكَثْرَةَ التَّرَدُّدِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُشَاهَدُ وَيُنْقَلُ وَيُشْتَهَرُ، فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ. وَلَمْ يَقِفْ ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى نَقْلٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: لَوْ قَالَ الْمَعَاصِرُ الْعَدْلُ: أَنَا صَحَابِيٌّ اُحْتُمِلَ الْخِلَافُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا الْإِخْبَارُ عَنْ أَحَدٍ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ، إمَّا اضْطِرَارًا أَوْ اكْتِسَابًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ بِذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّحَابِيُّ. قُلْت: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سُنَيْنِ بْنِ جَمِيلَةَ، قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخَرَجَ مَعَهُ عَامَ الْفَتْحِ. أَمَّا إذَا أَخْبَرَ عَنْهُ عَدْلٌ مِنْ التَّابِعِينَ أَوْ تَابِعِيهِمْ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ، قَالَ بَعْضُ " شُرَّاحِ اللُّمَعِ ": لَا أَعْرِفُ فِيهِ نَقْلًا. قَالَ: وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْ ذَلِكَ مَرَاسِيلُهُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ قَضِيَّةٌ لَمْ يَحْضُرْهَا. اهـ.

وَالظَّاهِرُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، إمَّا اضْطِرَارًا أَوْ اكْتِسَابًا، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ السَّابِقُ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا حَكَاهُ عَلَى السَّمَاعِ، حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهُ، سَوَاءٌ بَيَّنَ ذَلِكَ أَوْ لَا، لِظُهُورِ الْعَدَالَةِ فِي الْكُلِّ. مَسْأَلَةٌ [تَعْرِيفُ التَّابِعِينَ] الْخِلَافُ فِي التَّابِعِيِّ كَالْخِلَافِ فِي الصَّحَابِيِّ، هَلْ هُوَ الَّذِي رَأَى صَحَابِيًّا أَوْ الَّذِي جَالَسَ صَحَابِيًّا؟ قَوْلَانِ، حَكَاهُمَا النَّوَوِيُّ أَوَّلَ تَهْذِيبِهِ ". وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: هُوَ مَنْ صَحِبَ الصَّحَابِيَّ، وَكَلَامُ الْحَاكِمِ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - يُشْعِرُ بِالِاكْتِفَاءِ بِاللِّقَاءِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ فِي الصَّحَابِيِّ نَظَرًا إلَى مُقْتَضَى اللَّفْظَيْنِ فِيهِمَا، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِشَرَفِ الصُّحْبَةِ، وَعِظَمِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ أَنَّ رُؤْيَةَ الصَّالِحِينَ لَهَا أَثَرٌ عَظِيمٌ. فَكَيْفَ رُؤْيَةُ سَيِّدِ الصَّالِحِينَ فَإِذَا رَآهُ مُسْلِمٌ وَلَوْ لَحْظَةً انْصَبَغَ قَلْبُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُ بِإِسْلَامِهِ تَهَيَّأَ لِلْقَبُولِ، فَإِذَا قَابَلَ ذَلِكَ النُّورَ الْعَظِيمَ أَشْرَقَ عَلَيْهِ، وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي قَلْبِهِ وَعَلَى جَوَارِحِهِ.

الشرط الرابع أن يكون بعيدا من السهو والغلط ضابطا لما يتحمله ويرويه

[الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا مِنْ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ ضَابِطًا لِمَا يَتَحَمَّلُهُ وَيَرْوِيهِ] الشَّرْطُ الرَّابِعُ [مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَتَحَقَّقَ فِي الْمُخْبِرِ] أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا مِنْ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ، ضَابِطًا لِمَا يَتَحَمَّلُهُ وَيَرْوِيهِ؛ لِيَكُونَ النَّاسُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهُ فِي ضَبْطِهِ، وَقِلَّةِ غَلَطِهِ. فَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْغَلَطِ قُبِلَ خَبَرُهُ، إلَّا فِيمَا نَعْلَمُهُ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْغَلَطِ، رُدَّ إلَّا فِيمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَغْلَطْ فِيهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَنَحْوُهُ قَوْلُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: لَا يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ الْغَفْلَةِ، فَكَوْنُ الرَّاوِي مِمَّنْ تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثِهِ، إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ لَحِقَتْهُ الْغَفْلَةُ فِيهِ، بِعَيْنِهِ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ لَا يَخْلُونَ مِنْ جَوَازِ يَسِيرِ الْغَفْلَةِ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ إذَا غَلَبَتْ الْغَفْلَةُ عَلَى أَحَادِيثِهِ، وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، قَالَ: إنَّهُ كَانَ سَيِّئَ الْحِفْظِ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ غَيْرِ الشَّامِيِّينَ، وَعَنَى بِهِ أَنَّ الْغَفْلَةَ كَانَتْ غَالِبَةً عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَاخْتَلَطَتْ رِوَايَاتُهُ، وَلَكِنْ إذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَاتُ مَنْ تَنَاهَى بِحِفْظِهِ، وَمَنْ تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ، رُجِّحَ الْأَوَّلُ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ". وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَابِطًا لِكُلِّ مَا حَدَّثَ بِهِ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ تَرْكُ الضَّبْطِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنْ كَانَ الرَّاوِي تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ فِي حَالَةٍ لَا يُرَدُّ حَدِيثُهُ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ لَحِقَتْهُ الْغَفْلَةُ فِي حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: مَنْ أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ، فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ حَدِيثُهُ، وَمَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ وَغَلَطُهُ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حِفْظِ الْحِكَايَةِ. اهـ. وَهَذَا مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ " عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ:

الشرط الخامس أن لا يعرف بالتساهل فيما يرويه وبالتأويل لمذهبه

كُلُّ مَنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي الْحَدِيثِ بِالْكَذِبِ، أَوْ كَانَ مُغَفَّلًا يُخْطِئُ الْكَثِيرَ، فَاَلَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُشْتَغَلَ مِنْهُ بِالرِّوَايَةِ. اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ، لِأَنَّهُ إنْ غَلَبَ خَطَؤُهُ وَسَهْوُهُ عَلَى حِفْظِهِ فَمَرْدُودٌ قَطْعًا، وَإِنْ غَلَبَ حِفْظُهُ عَلَى اخْتِلَالِهِ فَيُقْبَلُ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى خَطَئِهِ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَخِلَافٌ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الصِّدْقِ رَاجِحَةٌ فِي خَبَرِهِ، لِعَقْلِهِ وَدِينِهِ. اهـ. قُلْت: وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مِمَّنْ غَلَبَ غَلَطُهُ، وَأَطْلَقَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ رَدَّ خَبَرِهِ إذَا كَثُرَ مِنْهُ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ، وَأَشَارَ بَعْضُ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُهُ إذَا كَانَ مُفَسَّرًا، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ رَوَى عَنْهُ، وَيُعَيِّنَ وَقْتَ السَّمَاعِ مِنْهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. قُلْت: وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ تَعْلِيقِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّهَادَةِ، فَفِي الرِّوَايَةِ أَوْلَى. قَالَ: وَهُوَ مَا أَوْرَدَهُ الْفُورَانِيُّ وَالْمَسْعُودِيُّ وَالْغَزَالِيُّ. [الشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يُعْرَفَ بِالتَّسَاهُلِ فِيمَا يَرْوِيهِ وَبِالتَّأْوِيلِ لِمَذْهَبِهِ] ِ فَرُبَّمَا أَحَالَ الْمَعْنَى بِتَأَوُّلِهِ، وَرُبَّمَا يَزِيدُ فِي مَوْضِعٍ زِيَادَةً يُصَحِّحُ بِهَا فَاسِدَ مَذْهَبِهِ، فَلَمْ يُوثَقْ بِخَبَرِهِ، قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَلَوْ رَوَى الْحَدِيثَ وَهُوَ غَيْرُ

مسألة رواة لا ترد روايتهم

وَاثِقٍ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ كَانَ يَتَسَاهَلُ فِي غَيْرِ الْحَدِيثِ، وَيَحْتَاطُ فِي الْحَدِيثِ، قُبِلَتْ رِوَايَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الرَّاوِي إنْ عُرِفَ مِنْهُ التَّسَاهُلُ فِي حَدِيثِهِ وَالتَّسَامُحُ لَمْ يُقْبَلْ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَكِنْ نَرَى مِنْهُ غَفْلَةً وَسَهْوًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَادِرًا لَمْ يُؤَثِّرْ، مَا لَمْ يَلُحْ لِلسَّامِعِ فِيهِ ظُهُورُ مَخَايِلِ الْغَفْلَةِ. وَإِنْ كَثُرَتْ فَاخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لَا يُمْنَعُ مِنْ قَبُولِهِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَخَايِلُ الْغَفْلَةِ. وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ. وَالثَّالِثُ: يُجْتَهَدُ وَيُبْحَثُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ، حَتَّى يَظْهَرَ ضَعْفُهُ مِنْ قُوَّتِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، لَكِنَّهُ مَثَّلَ بِمِثَالٍ فِيهِ نَظَرٌ. [مَسْأَلَةٌ رُوَاةٌ لَا تُرَدُّ رِوَايَتُهُمْ] [مَسْأَلَةٌ رُوَاةٌ لَا تُرَدُّ رِوَايَتُهُمْ] لَا يُرَدُّ خَبَرُ مَنْ قَلَّتْ رِوَايَتُهُ، كَمَا لَا تُرَدُّ شَهَادَةُ مَنْ قَلَّتْ شَهَادَتُهُ، وَلَا يُرَدُّ خَبَرُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مُجَالَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: نَعَمْ، إنْ رَوَى كَثِيرًا لَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تَقْوَى فِيهِ، فَيَضْعُفُ الظَّنُّ بِقَوْلِهِ.

مسألة التدليس وحكمه

[مَسْأَلَةٌ التَّدْلِيسُ وَحُكْمُهُ] ُ] مَنْ عُرِفَ بِتَدْلِيسِ الْمُتُونِ، فَهُوَ مَجْرُوحٌ مَطْرُوحٌ وَهُوَ مِمَّنْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَّا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فَقَالَ: التَّدْلِيسُ فِي الْمَتْنِ هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ بِالْمُدْرَجِ، وَهُوَ أَنْ يُدْرَجَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَامٌ غَيْرُهُ، فَيَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَلَا حُجَّةَ فِيمَا هَذَا سَبِيلُهُ. [تَدْلِيسُ الرُّوَاةِ] وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِتَدْلِيسِ الرُّوَاةِ مَعَ صِدْقِهِ فِي الْمُتُونِ كَشَرِيكٍ، وَهُشَيْمٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَعْمَشِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ - وَقِيلَ: إنَّ التَّدْلِيسَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ أَشْهَرُ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ - فَلَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي إبْدَالِ الْأَسْمَاءِ بِغَيْرِهَا كَمَا يَقُولُ عَنْ اسْمِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَمْرِو بْنِ بَكْرٍ، فَهُوَ كَذِبٌ يُرَدُّ بِهِ حَدِيثُهُ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. ثَانِيهَا: أَنْ يُسَمِّيَهُ بِتَسْمِيَةٍ غَيْرِ مَشْهُورَةٍ، وَسَهَّلَ ابْنُ الصَّلَاحِ

أَمْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَيْسَ يَجْرَحُ إلَّا أَنَّهُ بِحَيْثُ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَبُو الْفَتْحِ بْنُ بَرْهَانٍ فَقَالَ: هُوَ جَرْحٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَرْوِي بِاسْمِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ اسْمِهِ الْمَشْهُورِ صَوْنًا لَهُ عَنْ الْقَدْحِ. فَلَا تُرَدُّ بِذَلِكَ رِوَايَتُهُ، لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَبِلَ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ. اهـ. وَلَيْسَ مِنْ هَذَا إعْطَاءُ شَخْصٍ اسْمٌ آخَرَ تَشْبِيهًا لَهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَيَعْنِي بِهِ بَعْضَ مَشَايِخِهِ تَشْبِيهًا بِالْبَيْهَقِيِّ، يَعْنِي الْحَاكِمَ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّدْلِيسُ فِي اطِّرَاحِ اسْمِ الرَّاوِي الْأَقْرَبِ وَإِضَافَةِ الْحَدِيثِ إلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، فَهَذَا قَدْ فَعَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، فَلَا يَكُونُ بِهِ مَجْرُوحًا، لَكِنْ لَا يُقْبَلُ مِنْ حَدِيثِهِ إذَا رُوِيَ عَنْ فُلَانٍ، حَتَّى يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: مَنْ قَبِلَ الْمَرَاسِيلَ لَمْ يُرَ لَهُ أَثَرًا، إلَّا أَنْ يُدَلِّسَ لِضَعْفٍ عَمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْلَمْ بِمُطْلَقِ رِوَايَتِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي أَوْ سَمِعْته. وَفَصَّلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " بَيْنَ أَنْ يُعْرَفَ بِالتَّدْلِيسِ وَيَغْلِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا اُسْتُكْشِفَ لَمْ يُخْبِرْ بِاسْمِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ، فَهَذَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِهِ، لِأَنَّهُ تَزْوِيرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي صِدْقِهِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» ، وَبَيْنَ أَنْ يَرَى اسْمَ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كُشِفَ عَنْهُ أَخْبَرَ بِاسْمِهِ وَأَضَافَ الْحَدِيثَ إلَى نَاقِلِهِ، فَهَذَا لَا يُسْقِطَ الْحَدِيثَ، وَلَا يَقْتَضِي الْقَدَحَ فِي الرَّاوِي، وَقَدْ كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يُدَلِّسُ، فَإِذَا سُئِلَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ بِالْخَبَرِ نَصَّ عَلَى اسْمِهِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ اُشْتُهِرَ بِالتَّدْلِيسِ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إلَّا إذَا صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ وَالتَّحْدِيثِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ عَنْ فُلَانٍ لَمْ يُقْبَلْ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ بِالتَّدْلِيسِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ إذَا حَدَّثَ بِالضَّعْفِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ وَالِاخْتِصَارِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ": كُلُّ مَنْ ظَهَرَ تَدْلِيسُهُ مِنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، حَتَّى يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْت، وَمَنْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، قُبِلَ خَبَرُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا حَكَى عَنْهُ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفْنَا فِي الْمُدَلِّسِ لِعَيْبٍ ظَهَرَ لَنَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَهُوَ عَلَى سَلَامَتِهِ، وَلَوْ تَوَقَّيْنَاهَا لَتَوَقَّيْنَا فِي حَدَّثَنَا لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَ قَبِيلَتَهُ وَأَصْحَابَهُ، كَقَوْلِ الْحَسَنِ: خَطَبَنَا فُلَانٌ بِالْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا؛ لِأَنَّهُ احْتِمَالٌ لَاغٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ عُلِمَ سَمَاعُهُ إذَا كَانَ عَنْ مُدَلِّسٍ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ صَحَابِيٌّ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَا، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ وَالْقَائِلُ بِخِلَافِ ذَلِكَ يَغْفُلُ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: الْمُدَلِّسُ هُوَ مَنْ يُوهِمُ شَيْئًا ظَاهِرُهُ بِخِلَافِ بَاطِنِهِ، وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ مِنْ الْكَذِبِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ وَاسِطَةٌ. فَإِذَا كَفَّ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُفَّ عَنْ إخْبَارِهِ. وَقَدْ شَدَّدَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فِيهِ، فَقَالَ شُعْبَةُ: لَأَنْ أَدْمَى أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ. قَالَ: وَوَجَدْت ابْنَ أَخِي هِشَامٍ حَكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجِيزُ التَّدْلِيسَ، وَلَا يَقُولُ بِهِ. وَيَقُولُ: هَذَا سُلَيْمَانُ الشَّاذَكُونِيُّ يَقُولُ: مَنْ

أَرَادَ أَنْ يَتَدَيَّنَ بِالْحَدِيثِ، فَلَا يَكْتُبُ عَنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ شَيْئًا إلَّا مَا قَالَا: حَدَّثَنَا، أَوْ أَخْبَرَنَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ خَلٌّ وَبَقْلٌ. قَالَ: وَمَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ وُقِفَ فِي خَبَرِهِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُحَدِّثَ إنْ قَصَدَ بِقَوْلِهِ عَنْ فُلَانٍ إيهَامَ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ فَهُوَ غِشٌّ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْفَتْوَى كَقِصَّةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْجُنُبِ يَصُومُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ. قَالَ: وَالْكَلَامُ فِي الصُّحُفِ وَغَيْرِهَا مِثْلُ هَذَا، وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ إلَّا أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَكِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ. فَأَمَّا إذَا كَانَ كِتَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا، فَيُقَالُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ إلَّا وَقَدْ صَحَّ شَرَائِطُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَقِفُ عَنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ. اهـ. قَالَ: وَمَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَرْفٌ، حَتَّى يُبَيِّنَ سَمَاعَهُ، وَيُقْبَلَ ذَلِكَ مِنْ الثِّقَاتِ، وَقَدْ يُعْرَفُ التَّدْلِيسُ بِأَنْ يُكْثِرَ عَنْ الْمَجْهُولِينَ، وَيَصِلَ الْوُقُوفَ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ تُوَقِّفَ فِي خَبَرِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ: مَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ، لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، حَتَّى يُخْبِرَ بِالسَّمَاعِ، فَيَقُولُ: سَمِعْت أَوْ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنِي وَنَحْوُهُ. فَأَمَّا إذَا قَالَ: قَالَ فُلَانٌ فَلَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ تَدْلِيسَهُ ظَهَرَ. فَالْوَاجِبُ التَّوَقُّفُ عَنْهُ فِي خَبَرِهِ، وَإِنَّمَا يُسَامَحُ الثِّقَاتُ غَيْرُ الْمَعْرُوفِينَ بِالتَّدْلِيسِ فِي قَوْلِهِمْ عَنْ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالسَّمَاعِ فِي خَبَرِهِ، وَيُحْمَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى السَّمَاعِ عَلَى حَمْلِهِ مَا عُرِفَ مِنْهُمْ، فَصَيَّرَ ذَلِكَ كَاللُّغَةِ الْجَارِيَةِ،

فَأَمَّا مَنْ ظَهَرَ فِيهِ التَّدْلِيسُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَشْفِ، لِيُوقَفَ عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْهُ الْخَبَرَ لِيُنْظَرَ فِي أَحْوَالِهِ. اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يُصَرِّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِهِ قُبِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ: قَالَ فُلَانٌ إذَا حَكَاهُ عَمَّنْ أَدْرَكَهُ وَحُمِلَ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْهُ. قَالَ سُلَيْمٌ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْمُدَلِّسِ بِحَالٍ، وَجَعَلَهُ جَرْحًا، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْمُدَلِّسِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْزِي الرِّوَايَةِ إلَى رَجُلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَجُلٌ آخَرُ، فَعَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد عَلَى مَا حَكَاهُ الْجَزَرِيُّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَتَهُ لَا تُقْبَلُ عَلَى رَأْيِ مَنْ رَدَّ الْمَرَاسِيلَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِيمَنْ قَبِلَهَا، وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ شَدَّدَ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ رِوَايَتِهِ، حَتَّى قَالَ: لَا تُقْبَلُ مِنْهُ إذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي، حَتَّى يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْت؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا لَبْسَ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ فِيهِ لَبْسٌ. قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَبُولَ رِوَايَتِهِ، وَالظَّاهِرُ عَلَى أُصُولِ مَالِكٍ عِنْدِي أَنَّهَا مَرْدُودَةٌ، وَحَكَى الْمَازِرِيُّ الْخِلَافَ فِي قَبُولِ حَدِيثِ الْمُدَلِّسِ، ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي وَرَعِهِ وَتَحَفُّظِهِ. وَأَمَّا قَبُولُ حَدِيثِهِ أَوْ رَدِّهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى تَأْوِيلِهِ، وَغَرَضِهِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى التَّدْلِيسِ، وَعَلَى الْفَطِنِ فِي مِقْدَارِ تَغْرِيرِهِ بِالسَّامِعِينَ مِنْهُ، وَهَلْ أَمِنَ أَنْ يَقَعُوا بِمَا حَدَّثَهُمْ فِي نَقْلِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ، لَوْ أَبْدَى لَهُمْ مَا كَتَمَ أَمْ لَا؟

تنبيه شرط صحة تحمل الرواية

وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": التَّدْلِيسُ يَتَضَمَّنُ الْإِرْسَالَ لَا مَحَالَةَ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي حَذْفِ الْوَاسِطَةِ. وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ التَّدْلِيسَ يُوهِمُ سَمَاعَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُوهِنُ لِأَمْرِهِ، وَالْإِرْسَالُ لَا يَتَضَمَّنُ التَّدْلِيسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوهِمُ ذَلِكَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ، وَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ مَنْ قَبِلَ الْمُرْسَلَ، وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّوَهُّمِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلُ إذَا أَوْرَدَهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ السَّمَاعَ وَغَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُوهِمْ ذَلِكَ قُبِلَ. وَقَالَ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ فِي الْإِجَازَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ: حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْإِجَازَةِ قُبِلَ، وَمَنْ لَا يُجَوِّزُهُ لَمْ يَقْبَلْهُ لِإِيهَامِ إرَادَةِ مَا يُجَوَّزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ لَا يُجَوِّزُهُ. [تَنْبِيهٌ شَرْطُ صِحَّةِ تَحَمُّلِ الرِّوَايَةِ] [فَصْلٌ فِي رِوَايَةُ الْأَعْمَى] تَنْبِيهٌ [شَرْطُ صِحَّةِ تَحَمُّلِ الرِّوَايَةِ] هَذِهِ الشُّرُوطُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَةَ الْأَدَاءِ لَا حَالَةَ التَّحَمُّلِ. وَلِهَذَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَا تَحَمَّلَهُ فِي حَالِ صَبَاهُ وَكُفْرِهِ وَفِسْقِهِ، وَأَدَّاهُ فِي حَالَةِ الْكَمَالِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَشَرْطُ صِحَّةِ التَّحَمُّلِ وُجُودُ التَّمْيِيزِ فَقَطْ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، قَالَا: فَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ مُمَيِّزٍ لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ، قَالَا: وَعَلَى مُتَحَمِّلِ السُّنَّةِ أَنْ يَرْوِيَهَا إذَا سُئِلَ عَنْهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ رِوَايَتُهَا إذَا لَمْ يُسْأَلْ عَنْهَا، إلَّا أَنْ يَجِدَ النَّاسَ عَلَى خِلَافِهَا.

رواية الأخرس بالإشارة

فَصْلٌ [رِوَايَةُ الْأَعْمَى] وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي بَصِيرًا، بَلْ يُقْبَلُ خَبَرُ الْأَعْمَى الضَّابِطِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ سَمَاعِهِ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ إذَا حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِهِ، بِأَنْ يَكُونَ ضَابِطًا لِلصَّوْتِ، بِدَلِيلِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَبُولِ حَدِيثِ عَائِشَةَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) مِنْ خَلْفِ سِتْرٍ، وَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَالْعُمْيَانِ. وَقَدْ قَبِلُوا خَبَرَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَى وَجْهَيْنِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ وَالْغَزَالِيَّ صَحَّحَا الْمَنْعَ، وَأَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ الْجَوَازُ لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا تَحَمَّلَهَا وَهُوَ أَعْمَى، فَأَمَّا مَا سَمِعَهُ قَبْلَ الْعَمَى، فَتُقْبَلُ رِوَايَتُهُ فِي الْعَمَى بِلَا خِلَافٍ، أَيْ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ رِوَايَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ طَرَأَ الْعَمَى عَلَيْهِ. [رِوَايَةُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ] [رِوَايَةُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ] وَهَلْ تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَتْ الْإِشَارَةُ مُفْهِمَةً؟ قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ": لَا أَعْرِفُ فِيهِ نَصًّا. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ أَنْ يَنْبَنِيَ ذَلِكَ عَلَى

رواية المرأة

الْوَجْهَيْنِ فِي شَهَادَتِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: تُقْبَلُ، فَرِوَايَتُهُ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَفِي رِوَايَتِهِ وَجْهَانِ، وَالظَّاهِرُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أَوْسَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ. [رِوَايَةُ الْمَرْأَةِ] [رِوَايَةُ الْمَرْأَةِ] وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ، بَلْ يُقْبَلُ خَبَرُ الْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى، وَنَقَلَ صَاحِبُ " الْحَاوِي " عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ أَخْبَارُ النِّسَاءِ فِي الدِّينِ إلَّا أَخْبَارَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَكَذَا نَقَلَهُ، وَلَا يَصِحُّ، وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَقْصُ الْأُنُوثَةِ مَانِعًا لَهُنَّ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي الْفَتْوَى، وَهُوَ غَلَطٌ. اهـ. وَهَذَا النَّقْلُ لَا تَعْرِفُهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَدْ قَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: رِوَايَةُ النِّسَاءِ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهُنَّ فِي الشَّهَادَةِ فَوْقَ الْأَعْمَى، وَقَدْ قُبِلَتْ رِوَايَةُ الْأَعْمَى، فَالْمَرْأَةُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْأَلُونَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. نَعَمْ، فِي تَعْلِيقِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ فِي قَبُولِ فَتْوَى الْمَرْأَةِ لَا يَبْعُدُ جَرَيَانُهُمَا فِي رِوَايَتِهَا، وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْقَبُولِ. نَعَمْ، فِي تَرْجِيحِ رِوَايَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ خِلَافٌ حَكَاهُ فِي " الْمَنْخُولِ ".

رواية العبد

[رِوَايَةُ الْعَبْدِ] اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ] وَلَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ، بَلْ تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ. [كَوْنِ الرَّاوِي فَقِيهًا] [اشْتِرَاطُ كَوْنِ الرَّاوِي فَقِيهًا] وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ سَوَاءٌ خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ الْقِيَاسَ أَمْ لَا. وَشَرَطَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِقْهَ الرَّاوِي لِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلِهَذَا رَدَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ، وَتَابَعَهُ أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَمِنْهُمْ الدَّبُوسِيُّ، وَأَمَّا الْكَرْخِيّ وَأَتْبَاعُهُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ، بَلْ قَبِلُوا خَبَرَ كُلِّ عَدْلٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ. قَالَ أَبُو الْيُسْرِ مِنْهُمْ: وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ صَاحِبُ " التَّحْقِيقِ ": وَقَدْ عَمِلَ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا» ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا الرِّوَايَةُ لَقُلْت بِالْقِيَاسِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَا جَاءَنَا عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ

أمور أخرى لا تشترط في الرواة

فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ بِمَذْهَبِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مُقَلِّدًا لَهُ، فَمَا ظَنُّك بِأَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ أَنَّهُ أَفْقَهُ مِنْ أَنَسٍ. قَالَ: وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ اشْتِرَاطُ الْفِقْهِ فِي الرَّاوِي، فَثَبَتَ أَنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ. اهـ. وَكَذَا قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: وَلِهَذَا قُلْنَا بِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ، وَأَوْجَبْنَا الْوُضُوءَ فِيهَا، وَلَيْسَتْ بِحَدَثٍ فِي الْقِيَاسِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبُوا الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ قَهْقَهَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ. قُلْت: وَالصَّوَابُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَفْرَدَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ السُّبْكِيُّ جُزْءًا فِي فَتَاوِيهِ، وَقَالَ شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ: بَلْ كَانَ فَقِيهًا، وَلَمْ يَعْدَمْ شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَكَانَ يُفْتِي فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَمَا كَانَ يُفْتِي فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إلَّا فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ، وَقَدْ انْتَشَرَ عَنْهُ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ، فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ حَدِيثِهِ بِالْقِيَاسِ. اهـ. [أُمُورٌ أُخْرَى لَا تُشْتَرَطُ فِي الرُّوَاةِ] [أُمُورٌ أُخْرَى لَا تُشْتَرَطُ فِي الرُّوَاةِ] وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا عِلْمُهُ بِمَا رَوَاهُ، وَلَا بِكَوْنِهِ لَا يَدْرِي الْمُرَادَ بِهِ كَالْأَعْجَمِيِّ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ضَبْطِهِ لِلْحَدِيثِ، وَلِهَذَا يُمْكِنُهُ حِفْظُ الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ. كَمَا لَا يُرَدُّ بِكَوْنِهِ لَمْ يَرْوِ غَيْرَ الْقَلِيلِ، كَالْحَدِيثِ وَالْحَدِيثَيْنِ، وَلَا بِكَوْنِهِ لَا يَعْرِفُ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا بِطَلَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِ. قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ الرَّاوِي مُخْتَلَفًا فِي اسْمِهِ إلَّا أَنَّ لَهُ كُنْيَةً أَوْ لَقَبًا يُعْرَفُ بِهِ فَلَا يُرَدُّ بِذَلِكَ خَبَرُهُ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يُعْرَفُ وَيَخْرُجُ عَنْ الْجَهَالَةِ، وَنُقِلَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ اشْتِرَاطُ مَعْرِفَتُهُ بِهَذَا الشَّأْنِ. قَالَ: وَعَنِيَ بِهِ مَعْرِفَةَ الرِّجَالِ

وَالرُّوَاةِ، وَأَنْ يَعْرِفَ، هَلْ زِيدَ فِي الْحَدِيثِ بِنَفْيٍ، أَوْ نَقْصٍ مِنْهُ؟ وَالصَّحِيحُ، قَبُولُ رِوَايَةِ مَنْ صَحَّتْ رِوَايَتُهُ وَلَوْ لَمْ يَعْنِ بِهَذَا الشَّأْنِ، وَبِهِ جَزَمَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ. قَالَ: وَلَكِنْ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَنْ اعْتَنَى بِالرِّوَايَاتِ. وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ أَجْنَبِيًّا، فَلَوْ رَوَى خَبَرًا يَنْفَعُ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَلَدَهُ قُبِلَ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ نَفْعُهُ إلَيْهِ، ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ يَصِيرُ شَرْعًا، وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ. قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: سَمِعْت، وَلَا أَخْبَرَنَا خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ، أَوْ مَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ إلَّا إذَا قَالَ رَاوِيَةً: سَمِعْت أَوْ أَخْبَرَنَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ " الْإِعْذَارِ الرَّادِّ كِتَابَ الْإِنْذَارِ " ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا يَقْتَضِي رَدَّ أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ إذْ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ، وَخَافَ إنْ قِيلَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ قَبُولَ الْمُرْسَلِ، وَذَهَبَ عَنْ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اسْتَثْقَلُوا: أَخْبَرَنَا، وَسَمِعْت، فَأَقَامُوا " عَنْ " مَقَامِهِمَا لِأَنَّهَا أَلْحَقَتْ الْخَبَرَ بِالْمُخْبِرِ. اهـ. وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كَانَ يُرَهِّبُ الرَّاوِي الثِّقَةَ، حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى خَبَرِهِ. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ. وَلَا يُشْتَرَطُ الِاجْتِمَاعُ بِالرَّاوِي فِي كُلِّ رِوَايَةٍ، بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ الِاجْتِمَاعِ

وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَاشْتَرَطَ الْبُخَارِيُّ الْأَوَّلَ، وَنَقَلَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ: لَا أَصْلَ لَهُ فِي أَفْعَالِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ، وَنَقَلُوا عَنْ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ رِوَايَةَ اثْنَيْنِ، وَشَرَطَ عَلَى الِاثْنَيْنِ اثْنَيْنِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إلَى السَّامِعِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لِطَلَبِهِمَا الزِّيَادَةَ فِي الرُّوَاةِ، وَنَقَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْهُ تَعْلِيلَ ذَلِكَ فَإِنَّا لَوْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ تَضَاعَفَتْ الْأَعْدَادُ، حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ الْحَصْرِ. كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي تَضْعِيفِ أَعْدَادِ بُيُوتِ الشِّطْرَنْجِ، قَالَ: وَلَا يُتَّجَهُ لَهُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ، لِقِيَامِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَلَعَلَّهُ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَخْبَارٍ صَحَّتْ عَنْ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ فِي الْتِمَاسِ شَاهِدٍ آخَرَ مَعَ الرَّاوِي الْوَاحِدِ، كَقَوْلِ الصِّدِّيقِ لِلْمُغِيرَةِ: مَنْ شَهِدَ مَعَهُ؟ وَقَوْلِ عُمَرَ الْفَارُوقِ لِأَبِي مُوسَى

مِثْلَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي قَبُولِ الصَّحَابِيِّ رِوَايَةَ الصِّدِّيقِ وَحْدَهُ، وَرِوَايَةِ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ، إلَّا أَنَّهُ طَلَبَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مَزِيدَ اسْتِقْصَائِهِمْ لِرَيْبٍ اعْتَرَاهُمْ فِي خُصُوصِ أَحْوَالِهِ، كَإِحْلَافِ عَلِيٍّ بَعْضَ الرُّوَاةِ. اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَثْبَتَ مَنْقُولٍ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ فِي ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي " الْمُعْتَمَدِ " فَقَالَ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إذَا رَوَى اثْنَانِ خَبَرًا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ رَوَاهُ وَاحِدٌ فَقَطْ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يُعَضِّدَهُ ظَاهِرٌ، أَوْ عَمَلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِهِ أَوْ اجْتِهَادٌ، أَوْ يَكُونَ مُنْتَشِرًا. وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ فِي الزِّنَا إلَّا خَبَرَ أَرْبَعَةٍ، كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ الْوَاحِدَةِ. اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ رِوَايَةُ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا، بَلْ يَعْتَبِرُ مَعَ ذَلِكَ عَاضِدًا لَهُ، وَيَقُومُ الْعَاضِدُ مَقَامَ الرَّاوِي الْآخَرِ. وَهَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ " عَنْهُ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ. قُلْت: وَلَا نَظُنُّ أَنَّ مَا نُقِلَ أَوَّلًا عَنْ الْجُبَّائِيُّ هُوَ مَذْهَبُ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ ذَكَرَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ فِي صَحِيحِهِ اشْتَرَطَ رِوَايَةَ عَدْلَيْنِ عَنْ عَدْلَيْنِ مُتَّصِلَةً، أُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ، وَقَدْ ظَنَّ ذَلِكَ وَلَمْ يُصِبْ. وَأَيْضًا فَذَلِكَ احْتِيَاطٌ مِنْهُ لَا اشْتِرَاطٌ فِي الْعَمَلِ بِهِ.

مسألة الاعتماد على كتب الحديث من غير الرواية بالإسناد

وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي، جَامِعِ الْأُصُولِ "، أَنَّ بَعْضَهُمْ اشْتَرَطَ أَرْبَعَةً عَنْ أَرْبَعَةٍ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْإِسْنَادُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: مِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ عَنْ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ عَصْرٍ إلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِأَصْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ رِوَايَةَ ثَلَاثَةٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ فِي كُلِّ عَصْرٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ أَرْبَعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ خَمْسَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ سَبْعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ عِشْرِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ سَبْعِينَ، وَهَذَا غَرِيبٌ وَإِنَّمَا قِيلَ بِبَعْضِهِ فِي الْمُتَوَاتِرِ. [مَسْأَلَةٌ الِاعْتِمَادُ عَلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ الرِّوَايَةِ بِالْإِسْنَادِ] ِ] ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ سَمَاعُهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ الْمُحَدِّثِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، فَإِذَا صَحَّ عِنْدَهُ النُّسْخَةُ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ مَثَلًا، أَوْ مِنْ السُّنَنِ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إذَا وَجَدَ النَّاظِرُ حَدِيثًا مُسْنَدًا فِي كِتَابٍ مُصَحَّحٍ، وَلَمْ يَرْتَبْ فِي ثُبُوتِهِ، يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ الْكِتَابَ، فَلَا يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ الْعَمَلِ عَلَى أَنْ تَنْتَظِمَ لَهُ الْأَسَانِيدُ، وَمَنَعَهُ الْمُحَدِّثُونَ، وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَإِنَّ مَنْ رَأَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَوْ الْبُخَارِيِّ خَبَرًا، وَعَلِمَ ثِقَةَ النُّسْخَةِ فَلَا يُتَمَارَى فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، وَهُوَ مَحَلُّ إجْمَاعٍ، هَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا كَانَ التَّعْوِيلُ عَلَى الثِّقَةِ، فَلَوْ رَأَى حَدِيثًا فِي كِتَابِ رَجُلٍ مَوْثُوقٍ بِهِ، عَرَفَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُجَازِفُ يَجِبُ

مسألة إذا رويت لصحابي غاب عن الرسول سنة هل يلزمه سؤاله عنها عند لقياه

عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ مَذْكُورًا بِإِسْنَادِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَوُجُوبُ الْعَمَلِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِسْنَادِ حِسًّا حَتَّى إذَا رَآهُ فِي مَوْضِعٍ يَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ مِنْهُ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْمَرَاسِيلِ. اهـ. وَهَكَذَا جَزَمَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ. قَالَا: وَقَالَ قَائِلُونَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَنِدًا إلَى كِتَابٍ، وَكَمَا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَاسْتِنَادًا إلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا رُوِيَتْ لِصَحَابِيٍّ غَابَ عَنْ الرَّسُولِ سُنَّةٌ هَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عَنْهَا عِنْدَ لُقْيَاهُ] مَسْأَلَةٌ [إذَا رُوِيَتْ لِصَحَابِيٍّ غَابَ عَنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ هَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عَنْهَا عِنْدَ لُقْيَاهُ] لَوْ رُوِيَتْ سُنَّةٌ لِمَنْ غَابَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَمِلَ بِهَا، ثُمَّ لَقِيَهُ، هَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عَنْهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. حَكَاهُمَا ابْنُ فُورَكٍ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ السُّؤَالُ إذَا حَضَرَ لَلَزِمَهُ الْهِجْرَةُ إذَا غَابَ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ "، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا كُلِّفُوا بِالظَّاهِرِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: لَكِنَّ الْأَوْلَى ذَلِكَ.

فرع روى تابعي عن صحابي ثم ظفر المروي له بالمروي عنه فهل يلزمه سؤاله

وَقَالَ صَاحِبُ " الْحَاوِي ": الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ وُجُوبَ السُّؤَالِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ تَغْلِيظًا لَمْ يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ، وَإِنْ كَانَتْ تَرْخِيصًا لَزِمَهُ السُّؤَالُ؛ لِأَنَّ التَّغْلِيظَ الْتِزَامٌ، وَالتَّرْخِيصَ إسْقَاطٌ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَابْنُ فُورَكٍ: وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِأَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ لَقِيَ خَلْقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَسْأَلَةٍ مِمَّا كَانَ مُعَاذٌ أَدَّاهُ إلَيْهِمْ، وَلَمَّا أَتَى آتٍ أَهْلَ قُبَاءَ فَأَخْبَرَهُمْ لَمْ يَقُلْ أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِالِاعْتِقَادِ فَحَيْثُ يُمْكِنُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ، وَأَهْلُ قُبَاءَ اسْتَغْنَوْا عَنْ السُّؤَالِ بِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّحْوِيلَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوهُ، وَمِثْلُهُ بِمَا أَتَاهُمْ آتٍ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَرَاقُوهَا، وَلَمْ يَسْأَلُوا، وَبِأَنَّ شُهُودَ الْأَصْلِ إذَا حَضَرُوا كَانَ السَّمَاعُ لَهُمْ دُونَ الْفَرْعِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ الْفَرْعِ ثُمَّ حَضَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى. اهـ. [فَرْعٌ رَوَى تَابِعِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ ثُمَّ ظَفِرَ الْمَرْوِيُّ لَهُ بِالْمَرْوِيِّ عَنْهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ] فَرْعٌ فَلَوْ رَوَى تَابِعِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ، ثُمَّ ظَفِرَ الْمَرْوِيُّ لَهُ بِالْمَرْوِيِّ عَنْهُ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ؟ يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ قُلْنَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الصَّحَابِيِّ فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ فَهَاهُنَا وَجْهَانِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا ظَفِرَ الْإِنْسَانُ بِرَاوِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ يَتَعَلَّقُ بِالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ] مَسْأَلَةٌ إذَا ظَفِرَ الْإِنْسَانُ بِرَاوِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَلَّقُ بِالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ: فَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ لَمْ يَلْزَمْهُ

فائدة إذا سمع الحديث من رجل ثم وجد من هو أعلم منه

سُؤَالٌ؛ لِأَنَّ فَرْضَ السُّؤَالِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَوَادِثِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْخَاصَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ لَزِمَ سَمَاعُ الْحَدِيثِ، لِيَكُونَ أَصْلًا فِي اجْتِهَادِهِ. قَالَا: وَنَقْلُ السُّنَنِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا نَقَلَهَا مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِلَّا جُرِّحُوا أَجْمَعُونَ. [فَائِدَةٌ إذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ وَجَدَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ] ُ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ، لِخَبَرِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، حَكَاهُ عَنْهُ الْعَبَّادِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ. [مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ لِلصَّحَابِيِّ الِاقْتِصَارُ عَلَى السَّمَاعِ عَنْ الصَّحَابِيِّ] ِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَقِصَّةُ عَلِيٍّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) فِي أَمْرِهِ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُبْطِلُ قَوْلَهُمْ، قَالَهُ السَّفَاقِسِيُّ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ.

مسألة إنكار الشيخ ما حدث به

[مَسْأَلَةٌ إنْكَارُ الشَّيْخِ مَا حَدَّثَ بِهِ] ِ] إذَا رَوَى ثِقَةٌ عَنْ ثِقَةٍ حَدِيثًا، ثُمَّ رَجَعَ الشَّيْخُ فَأَنْكَرَهُ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكَذِّبَ الرَّاوِيَ عَنْهُ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ: كَذَبَ عَلَيَّ مَا رَوَيْت لَهُ هَذَا قَطُّ. فَالْمَشْهُورُ عَدَمُ قَبُولِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْقَاضِيَ عَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": إنَّهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَرْعُ جَازِمًا بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَيَصِيرُ كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَيُرَدُّ مَا جَحَدَهُ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ فَرْعُهُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَذِّبٌ لِلْآخَرِ فِيمَا يَدَّعِيهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا قَطْعًا، لَكِنْ لَا يَثْبُتُ كَذِبُ الْفَرْعِ بِتَكْذِيبِ الْأَصْلِ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الَّذِي رَوَاهُ، بِحَيْثُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَرْحًا لِلْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا يُكَذِّبُ شَيْخَهُ فِي نَفْيِهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ قَبُولُ جَرْحِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَتَسَاقَطَا. وَيُرَدُّ مِنْ حَدِيثِ الْفَرْعِ مَا نَفَى الْأَصْلُ تَحْدِيثَهُ بِهِ خَاصَّةً، وَلَا يُرَدُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَصْلِ نَفْسِهِ إذَا حَدَّثَ بِهِ، كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، وَكَذَا إذَا حَدَّثَ بِهِ فَرْعٌ آخَرُ ثِقَةً عَنْهُ، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ

الْأَصْلُ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَنَقَلَ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الرَّدِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبَانِ. أَحَدُهُمَا: التَّوَقُّفُ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ أَمْرَانِ، قَطَعَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ بِكَذِبِ الرَّاوِي، وَقَطَعَ النَّاقِلُ بِالنَّقْلِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَنَقَلَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ قَطَعَ بِالرَّدِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَقَالَ: الَّذِي الْتَزَمَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " التَّوَقُّفُ، وَهُوَ عَيْنُ مَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ. قَالَ: وَهَذَا كَخَبَرَيْنِ تَعَارَضَا، فَإِمَّا أَنْ يَتَسَاقَطَا أَوْ يُرَجَّحَ أَحَدُهُمَا إنْ أَمْكَنَ. قُلْت: رَوَى الْخَطِيبُ فِي " الْكِفَايَةِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْقَاضِي مِثْلَ مَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَعَابَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". فَأَمَّا إذَا قَالَ: أَعْلَمُ أَنِّي مَا حَدَّثْته، فَقَدْ كَذَّبَ، فَلَيْسَ قَبُولُ جَرْحِ شَيْخِهِ لَهُ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ. فَيَجِبُ إيقَافُ الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَيَرْجِعُ فِي الْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ، وَيُجْعَلُ بِمَثَابَةِ مَا لَمْ يَرِدْ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَرْوِيَهُ الشَّيْخُ مَعَ قَوْلِهِ: إنِّي لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ هَذَا الرَّاوِي عَنِّي، فَيُعْمَلُ فِيهِ بِرِوَايَتِهِ دُونَ رِوَايَتِهِ عَنْهُ. اهـ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَكْذِيبَ الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ لَا يُسْقِطَ الْمَرْوِيَّ، وَلِهَذَا لَوْ اجْتَمَعَا فِي شَهَادَةٍ لَمْ تُرَدَّ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ. وَأَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ". قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّهَادَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الشَّهَادَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ، بِخِلَافِ الْخَبَرِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ أَيْضًا فَقَالَا: لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْفَرْعِ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ الْأَصْلِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْكِرَهُ فِعْلًا بِأَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِ الْخَبَرِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرِّوَايَةِ، فَلَا يَكُونُ تَكْذِيبًا بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَرَكَهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ التَّارِيخَ حُمِلَ عَلَيْهِ تَحَرِّيًا لِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ الرِّوَايَةِ، نُظِرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ يَحْتَمِلُ مَا عُمِلَ بِهِ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيلِ لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا؛ لِأَنَّ بَابَ التَّأْوِيلِ فِي الْأَخْبَارِ غَيْرُ مَسْدُودٍ، لَكِنْ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ بِرَأْيِهِ لَا يَلْزَمُ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ لَا يَحْتَمِلُ مَا عُمِلَ بِهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " شَرْحِ مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ ". وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلِ لِأَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ، وَقِيَاسُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُرَدُّ بِهِ مُطْلَقًا. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُنْكِرَهُ تَرْكًا، فَإِنْ امْتَنَعَ الشَّيْخُ مِنْ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ صِحَّتَهُ لَمَا امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ، وَلَهُ حُكْمُ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يُصَرِّحَ الْأَصْلُ بِتَكْذِيبِهِ، وَلَكِنْ شَكَّ أَوْ ظَنَّ، أَوْ قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ أَوْ لَا أَعْرِفُهُ، وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنِّي مَا حَدَّثْتُك، وَالْفَرْعُ جَازِمٌ بِهِ. فَهَاهُنَا تَوَقَّفَ الْقَاضِي فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ التَّوَقُّفِ، وَهُوَ الَّذِي رَأَيْته فِي " التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ لِلْفَرْعِ الذَّاكِرِ، أَوْ الْأَصْلِ النَّاسِي؟ فِيهِ قَوْلَانِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى الْأَوَّلِ، وَوَافَقَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَنَّ نِسْيَانَ الْأَصْلِ لَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الدَّهْمَاءِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ

وَهَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ تَارِكًا لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ الرَّاوِي النَّاسِي لِمَا رَوَاهُ وَقْتَ رِوَايَتِهِ بِصِفَةِ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِأَسْرِهِمْ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: هُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَادَّعَاهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِقَبُولِ الْحَدِيثِ وَإِيجَابِ الْعِلْمِ بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ تَفْصِيلٌ وَنَزَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَالرَّازِيَّ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَلِهَذَا رَدُّوا خَبَرَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا» الْخَبَرُ؛ لِأَنَّ رَاوِيَهُ: الزُّهْرِيُّ قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ، وَكَذَا حَدِيثُ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ حَكَاهُ وَجْهًا عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَهُ شَارِحُ " اللُّمَعِ " عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ، وَأَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَهُ إلَّا الَّذِي نَسِيَهُ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ فِي حَقِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ فَرْعٌ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. لَنَا أَنَّ الرَّاوِي عَدْلٌ جَازِمٌ بِالرِّوَايَةِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ لِحُصُولِ الْيَقِينِ، وَتَوَقُّفُ الشَّيْخِ لَيْسَ بِمُعَارِضٍ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الشَّيْخِ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنِّي، وَيُعْمَلُ بِهِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا حَمَلْتُمْ النِّسْيَانَ عَلَى الْكَلَامِيِّ وَتَعْرِيفَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: النِّسْيَانُ لَمْ يَقَع مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلِأَجْلِ هَذَا الْخِلَافِ كَرِهَ جَمَاعَةٌ الرِّوَايَةَ عَنْ الْأَحْيَاءِ، مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالشَّافِعِيُّ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ فِي " الْكِفَايَةِ "، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ " أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ رَوَى عَنْ الشَّافِعِيِّ حِكَايَةً، فَأَنْكَرَهَا الشَّافِعِيُّ، ثُمَّ ذَكَرَهَا، وَقَالَ: لَا تُحَدِّثْ عَنْ حَيٍّ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ. وَفَصَّلَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ، وَاعْتَادَ ذَلِكَ فِي مَحْفُوظَاتِهِ، فَيُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ يَمِيلُ إلَى جَهْلِهِ أَصْلًا بِذَلِكَ الْخَبَرِ رَدَّهُ. وَفَصَّلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ مِنَّا بَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَسْتَقِلُّ، فَإِنَّ التَّرَدُّدَ وَإِنْ لَمْ يُعَارِضْ قَطْعَ الرَّاوِي، لَكِنَّهُ يُورِثُ ضَعْفًا. فَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ خَبَرَيْنِ يَتَعَارَضَانِ، وَأَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ أَوْثَقُ، فَإِنَّ مُعَارَضَةَ الثَّانِي لَهُ تُخْرِجُهُ عَنْ أَحَدِ الْأَدِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ، وَإِنْ وَجَدْنَا وَرَاءَهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا، فَهُوَ أَوْلَى، فَإِنَّ مَا فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ مَزِيدِ وُضُوحٍ لَا يَسْتَقِلُّ دَلِيلًا. قَالَ: وَهَذَا حَسَنٌ جِدًّا إلَّا أَنَّا سَنَذْكُرُ تَرَدُّدًا فِي أَنَّ مَزِيَّةَ الْحَدِيثِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ أَوْ الْقِيَاسِ، وَيَضْطَرِبُ الرَّاوِي فِيهِ، سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا كَاَلَّذِي يُقَرِّرُونَهُ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَكُمْ خَبَرٌ مُسْتَقِلٌّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَعَلَى مَاذَا تَعْتَمِدُونَ مَا رَوَاهُ؟ فَقِيلَ: رُوِيَ الْخَبَرُ الَّذِي تَرَدَّدَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ مِنْ طَرِيقٍ

الشيخ نفسه إذا لم يتذكر هل له أن يتبع روايته ويرويه

آخَرَ غَيْرِ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ. قَالَ: وَكَانَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَرَى الْخَبَرَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا، مَعَ تَرَدُّدِ الشَّيْخِ، وَلَكِنْ كَانَ يَرَى إذَا قَطَعَ الشَّيْخُ بِالرَّدِّ أَنَّ ذَاكَ يَمْنَعُ قَبُولُ رِوَايَتِهِ. قَالَ إلْكِيَا: وَمَنْ لَمْ يَسْلُكْ الطَّرِيقَ الَّذِي سَلَكْنَاهُ لَا يَعْدَمُ مِنْ التَّعَرُّضِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ كَلَامًا مُخَيِّلًا، فَإِنَّ قَطْعَ النَّافِي قَدْ لَا يُعَارِضُ قَطْعَ الْمُثْبِتِ، فَمِنْ الْمُمْكِنِ أَنَّهُ رَوَاهُ، ثُمَّ نَسِيَ، وَظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ. تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: يَجُوزُ لِلرَّاوِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ الْأَصْلِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. الثَّانِي: هَذَا كُلُّهُ فِي أَنَّ الْغَيْرَ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَهُ؛ لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ لَهُ؟ وَقَدْ تَمَسَّك الشَّافِعِيُّ بِرِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ، مَعَ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ: لَا أَدْرِي. [الشَّيْخُ نَفْسُهُ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ هَلْ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ رِوَايَتَهُ وَيَرْوِيَهُ] أَمَّا الشَّيْخُ نَفْسُهُ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ، هَلْ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ رِوَايَتَهُ وَيَرْوِيَهُ؟ كَمَا يَقُولُ سُهَيْلٌ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي كِتَابِ " نَقْضِ مُفْرَدَاتِ أَحْمَدَ ": هَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: تُتْبَعُ رِوَايَتُهُ تَشَوُّفًا إلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ، وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ " مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّ صَاحِبَ " الْأَمْثَالِ " حَكَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَهُ إلَّا الَّذِي نَسِيَهُ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ فِي حَقِّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ الرَّاوِي عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لَهُ وَتَابِعٌ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الْفَرْعُ أَصْلًا، وَالتَّابِعُ مَتْبُوعًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " الْمُلَخَّصِ ": صَنَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ جُزْءًا فِيمَنْ رَوَى عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ، يَعْنِي بَعْدَ نِسْيَانِهِ. قُلْت: وَكَذَلِكَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ

وَذَكَرَ مَا أَهْمَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، أَمَّا عَمَلُهُ بِهِ، فَحَكَى الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ اعْتَلُّوا بِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا نَسِيَ الْخَبَرَ حَرُمَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ بِمُوجَبِهِ، فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: يُقَالُ لَهُمْ: مَنْ سَلَّمَ لَكُمْ هَذَا؟ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، إذَا أَخْبَرَهُ الْعَدْلُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَوَاهُ. الثَّالِثُ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي إنْكَارِ لَفْظِ الْحَدِيثِ بِالْجُمْلَةِ، فَأَمَّا فِي اللَّفْظَةِ الزَّائِدَةِ فِيهِ إذَا قَالَ رَاوِيهِ: لَا أَحْفَظُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، أَوْ لَمْ أُحَدِّثْك بِهَا، فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَجَعَلَهُ أَصْلًا مَقِيسًا عَلَيْهِ أَصْلُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ: إنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ: وَكَذَا نِسْيَانُ الْإِعْرَابِ. وَكَلَامُ ابْنِ فُورَكٍ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِالْوَاحِدِ. فَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ إذَا نَسَبُوا ذَلِكَ كَانَ قَادِحًا قَطْعًا؛ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ. الرَّابِعُ: مَحَلُّ الْخِلَافِ أَيْضًا فِيمَا إذَا لَمْ يَجْزِمْ الْأَصْلُ بِهِ، وَجَزَمَ بِهِ الْفَرْعُ. فَإِنْ كَانَ الْفَرْعُ غَيْرَ جَازِمٍ بِأَنْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ " غَيْرَ ظَانٍّ لَهُ، لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ، وَإِنْ حَذَفَهُ الشَّيْخُ لِفَقْدِ شَرْطِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهَا الْجَزْمُ بِهَا أَوْ الظَّنُّ، فَإِنْ كَانَ ظَانًّا، وَالْأَصْلُ شَاكٌّ فِيهِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ. وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ ظَانًّا عَدَمَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ. قَالَ: فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ. قَالَ: وَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّهُ مَهْمَا كَانَ قَوْلُ الْأَصْلِ مُعَادِلًا لِقَوْلِ الْفَرْعِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الِاتِّفَاقِ، وَمَهْمَا كَانَ الْفَرْعُ رَاجِحًا عَلَى قَوْلِ الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الْخِلَافِ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: وَيُتَّجَهُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَقْبُولًا؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَمْ يُوجَدْ فِي مُقَابَلَتِهِ مَنْ يُعَارِضُهُ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الِاسْتِدْلَال.

مسألة روى حديثا عن شيخ وليس هو معدودا من أصحابه المشاهير وأنكر عليه أصحابه هل يقبل

الْخَامِسُ: أَنَّ الْخِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرِّوَايَةِ، أَمَّا الشَّهَادَةُ فَمَحَلُّ وِفَاقٍ. فَإِذَا أَنْكَرَ شَاهِدُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ بَطَلَتْ شَهَادَةُ هَذَا الْفَرْعِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهَاهُنَا مَسْأَلَةٌ يُخَالِفُ فِيهَا الْمَذْهَبَانِ أُصُولَهُمْ، وَهِيَ مَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْقَاضِي أَنَّك قَضَيْت لِي أَوْ سَجَّلَتْ فِي الْوَاقِعَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَأَنْكَرَ الْقَاضِي دَعْوَاهُ، وَقَالَ: مَا قَضَيْت، وَمَا سَجَّلْت، وَمَا عِنْدِي خَبَرٌ بِمَا تَدَّعِيهِ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ، وَشَهِدَا بِمُوجَبِ دَعْوَاهُ، لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الدَّعْوَى بِشَهَادَتِهِمَا، وَقِيَاسُ مَذْهَبِنَا أَنَّهَا تَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَالْأَصْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشُّهُودِ، وَقُصَارَى مَا يَصْدُرُ هَاهُنَا إنْكَارُ الْأَصْلِ، وَإِنْكَارُ الْأَصْلِ عِنْدَمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْفَرْعِ فِي مَذْهَبِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْقَضَاءِ وَالْإِسْجَالِ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِهِمْ أَنْ لَا تُقْبَلَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ - أَعْنِي الْقَاضِيَ - أَنْكَرَ وَعِنْدَهُمْ إنْكَارُ الْأَصْلِ يُسْقِطُ الْفَرْعَ. [مَسْأَلَةٌ رَوَى حَدِيثًا عَنْ شَيْخٍ وَلَيْسَ هُوَ مَعْدُودًا مِنْ أَصْحَابِهِ الْمَشَاهِيرِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ هَلْ يُقْبَلُ] مَسْأَلَةٌ إذَا رَوَى حَدِيثًا عَنْ شَيْخٍ، وَلَيْسَ هُوَ مَعْدُودًا مِنْ أَصْحَابِهِ الْمَشَاهِيرِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، هَلْ يُقْبَلُ؟ مِثَالُهُ تَمَسَّك الْحَنَفِيَّةُ فِي عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ فِي الصَّلَاةِ بِحَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ: «لَيْسَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ سَاجِدًا، وَإِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا» . قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ نُقِلَ عَنْ

مسألة إنكار الراوي للحديث بعد روايته

الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا لِأَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ يُزَاحِمُ أَصْحَابَ قَتَادَةَ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ. أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِهِ، وَرَوَى الْحَدِيثَ دُونَهُمْ، فَأَوْرَثَ شَكًّا. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهَذَا الَّذِي تَخَيَّلَهُ أَصْحَابُنَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ وَاقِعٌ فِي رَجُلٍ ثِقَةٍ عَدْلٍ فَتُقْبَلُ سَائِرُ رِوَايَاتِهِ، فَكَيْفَ يُرَدُّ حَدِيثُهُ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَذْهَبِنَا، فَإِنَّا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَهَذَا مِثْلُهُ. [مَسْأَلَةٌ إنْكَارُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ] ِ] إنْكَارُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ حُكْمُهُ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ لِاحْتِمَالِ النِّسْيَانِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إذَا رَجَعَ الرَّاوِي عَمَّا رَوَاهُ، وَقَالَ: كُنْت أَخْطَأْت فِيهِ، وَجَبَ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَدْلِ الثِّقَةِ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ رُجُوعُهُ فِيهِ كَأَصْلِ رِوَايَتِهِ. فَإِنْ قَالَ: تَعَمَّدْت الْكَذِبَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي أُصُولِهِ: لَا يُعْمَلُ بِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ خَبَرِهِ فِيمَا نُقِلَ. [مَسْأَلَةٌ إذَا تَشَكَّكَ الرَّاوِي فِي الْحَدِيثِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لَهُ] ُ] فَأَمَّا مَا ذَكَرَ الرَّاوِي شَكًّا مُبْتَدَأً، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَادِحًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ شَكَّ بَعْدَمَا رَوَاهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ التَّشْكِيكِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثُ فِي " الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ "، وَنَازَعَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الْمَوَّاقِ. وَقَالَ: تَشْكِيكُ الرَّاوِي بَعْدَ الْيَقِينِ عِنْدِي غَيْرُ قَادِحٍ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ أَوَّلًا عَلَى الْيَقِينِ. فَإِنَّ شَكَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ

مسألة إذا قال الراوي أظن أن فلانا حدثني أو قال هل يقدح في الحديث

مَحْمُولٌ عَلَى النِّسْيَانِ، وَتَغَيُّرِ الْحِفْظِ بِالْكِبَرِ وَغَيْرِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَاجِعَ الرَّاوِي أُصُولَهُ، وَيَسْتَرِيبَ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ أَوَّلًا مِنْ مَحْفُوظِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ بَيَانُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ حَمَّلَهُ إيَّاهُ، فَيُقْبَلُ ذَلِكَ عَنْهُ وَيُعْرَفُ. [مَسْأَلَةٌ إذَا قَالَ الرَّاوِي أَظُنُّ أَنَّ فُلَانًا حَدَّثَنِي أَوْ قَالَ هَلْ يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ] ِ؟ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي " الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ ": نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَقَالَ صَاحِبُ " الْإِنْصَافِ ": هَذَا فِيهِ نَظَرٌ أُصُولِيٌّ، وَلِتَجْوِيزِهِ وَجْهٌ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ فِي الرِّوَايَةِ إلَى الظَّنِّ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَلَى الْخَطِّ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. وَفِي مُسْلِمٍ فِي بَابِ الِاغْتِسَالِ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ حَدِيثٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: أَكْبَرُ عِلْمِي، وَاَلَّذِي يَخْطُرُ عَلَى بَالِي أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أَخْبَرَنِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ» ، وَقَدْ اعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَابَعَةً لَا اعْتِمَادًا. قُلْت: وَهَلْ يُعْمَلُ بِالرِّوَايَةِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنَدَهُ؟ . يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ إذَا ذَكَرَهَا فِي مُسْنَدِهِ، هَلْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ؟ .

مسألة إذا قال العدل في حديث رواه العدل المرضي إنه ليس بصحيح ولم يبين وجه القدح

[مَسْأَلَةٌ إذَا قَالَ الْعَدْلُ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْعَدْلُ الْمَرَضِيُّ إنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ الْقَدَحِ] ِ، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ. قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُعَدِّلَةَ إذَا اجْتَمَعَتْ لَمْ يَبْقَ لِلتُّهْمَةِ مَوْضِعٌ، إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ السَّبَبَ. قَالَ: وَبِمِثْلِهِ رَدَدْنَا قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: لَمْ يَصِحَّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ حَدِيثٌ أَصْلًا، وَإِنْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ مُطْلَقَ قَدَحِهِ يُورِثُ تُهْمَةً؟ قُلْنَا إنَّهُ لَا مُبَالَاةَ بِمُخَايِلِ التُّهْمَةِ، إنَّمَا التَّعْوِيلُ عَلَى الْأَسْبَابِ. اهـ. وَيُتَّجَهُ جَرَيَانُ خِلَافٍ فِيهِ أَنَّ الْجَرْحَ الْمُطْلَقَ، هَلْ يُقْبَلُ؟ وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ ذَلِكَ قَادِحٌ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: قَوْلُ الْكَثِيرِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ فِي رِوَايَةِ الْعَدْلِ الثِّقَةِ: هَذَا لَا يَصِحُّ، غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُرِيدَ نَفْيَ الصِّحَّةِ عِنْدَهُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْنَا تَقْلِيدُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْتَوِ عَلَى جَمِيعِ الطُّرُقِ وَالْأَسَانِيدِ، وَإِنْ عَنَى بِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ، فَذَلِكَ جَرْحٌ مُطْلَقٌ، فَلَا يُقْبَلُ حَتَّى يُبَيِّنَ سَبَبَهُ. [مَسْأَلَةٌ زِيَادَةُ الرَّاوِي الثِّقَةِ] ِ] إذَا انْفَرَدَ الثِّقَةُ بِزِيَادَةٍ فِي الْحَدِيثِ، فَتَارَةً تَكُونُ لَفْظِيَّةً، كَقَوْلِهِ فِي (رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ) ، (وَلَك الْحَمْدُ) ، فَإِنَّ الْوَاوَ زِيَادَةٌ فِي اللَّفْظِ، وَتَارَةً تَكُونُ مَعْنَوِيَّةً تُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا كَرِوَايَةِ (مِنْ الْمُسْلِمِينَ) فِي حَدِيثِ زَكَاةِ

الْفِطْرِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَعَدُّدُ الْمَجْلِسِ، أَوْ اتِّحَادُهُ، أَوْ جُهِلَ الْأَمْرُ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يُعْلَمَ تَعَدُّدُهُ فَيُقْبَلُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَذْكُرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَلَامَ فِي أَحَدِ الْمَجْلِسَيْنِ بِدُونِ زِيَادَةٍ وَفِي الْآخَرِ بِهَا، وَزَعَمَ الْإِبْيَارِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَجْرَى فِيهَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ التَّفْصِيلَ الَّذِي سَنَحْكِيهِ عَنْهُ فِي اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُشْكِلَ الْحَالُ، فَلَا يَعْلَمُ هَلْ تَعَدَّدَ الْمَجْلِسَ أَوْ اتَّحَدَ، فَأَلْحَقَهَا الْإِبْيَارِيُّ بِاَلَّتِي قَبْلَهَا، حَتَّى يُقْبَلَ بِلَا خِلَافٍ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا خِلَافٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الِاتِّحَادِ، وَأَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِتَصْدِيقِهِ حَاصِلٌ وَالْمُعَارِضَ لَهُ غَيْرُ مُحَقَّقٍ. قُلْت: وَكَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُتَّحِدِ، وَأَوْلَى بِالْقَبُولِ نَظَرًا إلَى احْتِمَالِ التَّعَدُّدِ.

وَأَشَارَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " إلَى التَّوَقُّفِ، وَالرُّجُوعِ إلَى التَّرْجِيحِ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ الْخَبَرَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا جَرَيَا فِي مَجْلِسَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ جَرَى عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ وَاحِدًا لَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ عَدَالَتِهِمَا وَحِفْظِهِمَا أَلَّا تَخْتَلِفَ رِوَايَتُهُمَا، فَحَصَلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقْوَالٌ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قِيلَ: إنْ احْتَمَلَ تَعَدُّدُ الْمَجْلِسِ قُبِلَتْ الزِّيَادَةُ اتِّفَاقًا. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ الْقَضِيَّةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَلْفَاظٍ وَقَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى الِاتِّحَادِ، فَكَذَلِكَ إذَا رَجَحَتْ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا إلَى رَاوٍ وَاحِدٍ مَعَ عَدَدِ الْمَرَاتِبِ فِي الرُّوَاةِ، وَإِنْ طَرَأَ التَّعَدُّدُ فَهَاهُنَا ضَعِيفٌ مَرْجُوحٌ، وَرُبَّمَا جَزَمَ بِبُطْلَانِهِ، كَمَا فِي قَضِيَّتِهِ الْوَاهِيَةِ نَفْسِهَا، فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ فِي أَلْفَاظٍ فِيهَا، فَالْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الْمَجْلِسِ فِي الْوَاقِعَةِ هَاهُنَا مَعَ اتِّحَادِ السِّيَاقِ، وَتَوَافُقِ أَكْثَرِ الْأَلْفَاظِ، وَاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ لِلْحَدِيثِ بَعِيدٌ جِدًّا، فَالطَّرِيقُ الرُّجُوعُ إلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الرُّوَاةِ.

المذاهب في الزيادة من الراوي إذا اتحد المجلس

[الْمَذَاهِبُ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ الرَّاوِي إذَا اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ] ُ] الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَّحِدَ الْمَجْلِسُ، وَيَنْقُلَ بَعْضُهُمْ الزِّيَادَةَ، وَيَسْكُتَ بَعْضُهُمْ عَنْهَا، وَلَا يُصَرِّحُ بِنَفْيِهَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ غَيَّرَتْ الْحُكْمَ الثَّابِتَ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَوْجَبَ نَقْصًا ثَبَتَ بِخَبَرٍ لَيْسَ فِيهِ تِلْكَ الزِّيَادَةُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ بِأَنْ رَوَاهُ مَرَّةً نَاقِصًا، وَمَرَّةً بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ، أَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ مَنْ رَوَاهُ نَاقِصًا، وَهِيَ كَالْحَدِيثِ التَّامِّ، يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ، فَالزِّيَادَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ، بَلْ تَابِعَةٌ، وَقَدْ قَبِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، مَعَ انْفِرَادِهِ بِرُؤْيَتِهِ، وَقَبِلَ خَبَرَ ذِي الْيَدَيْنِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَإِنْ انْفَرَدُوا عَنْ جَمِيعِ الْحَاضِرِينَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسْنِدَ الرَّاوِي لِلزِّيَادَةِ وَالتَّارِكِ لَهَا مَا رَوَيَاهُ إلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ إلَى مَجْلِسَيْنِ، أَوْ يُطْلِقَا إطْلَاقًا. فَتُقْبَلُ إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ التَّارِكَ لِلزِّيَادَةِ لَوْ كَانُوا جَمَاعَةً لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَفْلَةُ عَنْهَا، وَكَانَ الْمَجْلِسُ وَاحِدًا أَنْ لَا يَقْبَلَ رِوَايَةَ رَاوِي الزِّيَادَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": إنَّمَا يُقْبَلُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْ نَقَلَ الزِّيَادَةَ وَاحِدٌ، وَمَنْ رَوَاهُ نَاقِصًا جَمَاعَةٌ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْوَهْمُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَتْ، هَذَا إذَا رَوَيَاهُ عَنْ مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. قَالَ: فَإِنْ رَوَيَاهُ عَنْ مَجْلِسَيْنِ فَإِنْ كَانَا خَبَرَيْنِ عُمِلَ بِهِمَا، قَالَ: فَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ لَهَا عَدَدًا

كَثِيرًا فَهِيَ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَاحِدًا فَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ الضَّابِطِ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَا ضَابِطَيْنِ ثِقَتَيْنِ كَانَ الْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى، وَكَلَامُ الْإِمَامِ فِي " الْمَحْصُولِ " قَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْآمِدِيَّ: إذَا اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، فَإِنْ كَانَ مَنْ لَمْ يَرْوِ الزِّيَادَةَ قَدْ انْتَهَى إلَى حَدٍّ لَا يَقْضِي فِي الْعَادَةِ بِغَفْلَةِ مِثْلِهِ عَنْ سَمَاعِهَا، وَاَلَّذِي رَوَاهَا وَاحِدٌ، فَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا إلَى هَذَا الْحَدِّ فَاتَّفَقَ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى قَبُولِ الزِّيَادَةِ، خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. اهـ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ، فَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِقَبُولِ الزِّيَادَةِ مُطْلَقًا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْإِطْلَاقَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ "، وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَقَالَ: سَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " وَابْنُ بَرْهَانٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ: وَالِاخْتِيَارُ قَبُولُ الزِّيَادَةِ مِنْ الثِّقَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرَهُ أَطْلَقُوا النَّقْلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. بِقَبُولِ الزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِشَيْءٍ مِنْ الشُّرُوطِ. وَسَيَأْتِي فِي بَحْثِ الْمُرْسَلِ مِنْ كَلَامِ

الشَّافِعِيِّ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الثِّقَةِ لَيْسَتْ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا، وَهُوَ أَثْبَتُ نَقْلٍ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَسَنَذْكُرُ قَرِيبًا عَنْ نَصِّهِ فِي " الْأُمِّ " أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إذَا خَالَفَ الْأَحْفَظَ وَالْأَكْثَرَ. الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ مُطْلَقًا، وَعَزَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ لِبَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَنُقِلَ عَنْ مُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ تَنَاقُضِ الْقَوْلِ الْجَمْعُ بَيْنَ قَبُولِ رِوَايَةِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ فِي الْقُرْآنِ، وَرَدِّ الزِّيَادَةِ الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَحَقُّ الْقُرْآنِ أَنْ يُنْقَلَ تَوَاتُرًا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ. وَمَا كَانَ أَصْلُهُ التَّوَاتُرُ، وَقُبِلَ فِيهِ زِيَادَةُ الْوَاحِدِ، فَلَأَنْ يُقْبَلَ فِيمَا سِوَاهُ الْآحَادُ أَوْلَى، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَبْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا بَنَوْا الْكَلَامَ فِي الزِّيَادَةِ الْمَرْوِيَّةِ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ» . وَالثَّالِثُ: الْوَقْفُ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ بُعْدًا، وَالْأَصْلُ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الصُّدُورِ، لَكِنَّ الْأَصْلَ أَيْضًا صِدْقُ الرَّاوِي. وَإِذَا تَعَارَضَا وَجَبَ التَّوَقُّفُ. حَكَاهُ الْهِنْدِيُّ. وَالرَّابِعُ: إنْ كَانَ غَيْرُهُ لَا يَغْفُلُ مِثْلُهُ عَنْ مِثْلِهَا عَادَةً لَمْ تُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَتْ، وَهُوَ قَوْلُ الْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ. وَالْخَامِسُ: إنْ كَانَ غَيْرُهُ لَا يَغْفُلُ، أَوْ كَانَتْ الدَّوَاعِي لَا تَتَوَفَّرُ عَلَى

نَقْلِهَا، وَإِلَيْهِ يَمِيلُ كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ كَمَا سَبَقَ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِمَّنْ رَوَاهُ نَاقِصًا، ثُمَّ رَوَاهُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ أَوْ رَوَاهُ بِالزِّيَادَةِ ثُمَّ رَوَاهُ نَاقِصًا، وَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الثِّقَاتِ. نَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ فِرْقَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي، الْعُدَّةِ " فِيمَا إذَا رَوَى الْوَاحِدُ خَبَرًا ثُمَّ رَوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ فِي مَجْلِسٍ قُبِلَتْ الزِّيَادَةُ، وَإِنْ عَزَى ذَلِكَ إلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ تَكَرَّرَتْ رِوَايَتُهُ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ، ثُمَّ رَوَى الزِّيَادَةَ، فَإِنْ قَالَ: كُنْت نَسِيتُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَجَبَ التَّوَقُّفُ فِي الزِّيَادَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": إنْ أَسْنَدَ الرِّوَايَتَيْنِ إلَى مَجْلِسَيْنِ قُبِلَ، وَهَذَا إنْ لَمْ يُعْلَمْ الْحَالُ حُمِلَ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُسْنِدْهَا إلَى مَجْلِسَيْنِ، وَكَانَ قَدْ رَوَى الْخَبَرَ دُفُعَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَرَوَاهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بِالزِّيَادَةِ، فَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ سَهَا فِي إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ؛ وَلِأَنَّ سَهْوَ الْإِنْسَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَغْلَبُ مِنْ سَهْوِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً، فَإِنْ قَالَ: كُنْت قَدْ أُنْسِيت هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَالْآنَ ذَكَرْتهَا، قُبِلَتْ الزِّيَادَةُ، وَحُمِلَ أَمْرُهُ عَلَى الْأَقَلِّ النَّادِرِ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا رَوَاهَا مَرَّةً وَاحِدَةً بِرِوَايَتِهَا مَرَّةً، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ تُغَيِّرُ إعْرَابَ الْكَلَامِ تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ لَا تُغَيِّرُ اللَّفْظَ اُحْتُمِلَ أَنْ يَتَعَارَضَا؛ لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَدْ وَهِمَ. قَالَ: وَهَذَا إذَا لَمْ يُقَارِنْهُ اسْتِهَانَةٌ، فَلَوْ رَوَى الْحَدِيثَ تَارَةً بِالزِّيَادَةِ وَتَارَةً بِحَذْفِهَا اسْتِهَانَةً وَقِلَّةَ تَحَفُّظٍ، سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ. السَّابِعُ: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ تُغَيِّرُ إعْرَابَ الْبَاقِي، كَمَا لَوْ رَوَى رَاوٍ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ، وَرَوَى الْآخَرُ نِصْفَ شَاةٍ، لَمْ يُقْبَلْ، وَيَتَعَارَضَانِ، وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدَ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعِهِ، وَحَكَاهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ:

لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْوِي غَيْرَ مَا رَوَاهُ الْآخَرُ، فَيَكُونُ مُنَافِيًا لَهُ مُعَارِضًا، فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ التَّرْجِيحِ. قَالَ: وَخَالَفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَالْمِزِّيُّ، وَفِي " الْمُعْتَمَدِ " لِأَبِي الْحُسَيْنِ: قَبِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ الزِّيَادَةَ سَوَاءٌ أَثَّرَتْ فِي اللَّفْظِ أَمْ لَا، إذَا أَثَّرَتْ فِي الْمَعْنَى، وَقَبِلَهَا الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ إذَا أَثَّرَتْ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا إذَا أَثَّرَتْ فِي إعْرَابِ اللَّفْظِ. الثَّامِنُ: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا أَفَادَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. فَلَوْ لَمْ تُفِدْ حُكْمًا لَمْ تُعْتَبَرْ، كَقَوْلِهِمْ: فِي مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَافِيقَ جُرْذَانَ. قَالَ: فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَوْضِعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَقَالَ: وَقِيلَ: إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا اقْتَضَتْ فَائِدَةً جَدِيدَةً. التَّاسِعُ: عَكْسُهُ، أَنَّهَا تُقْبَلُ إذَا رَجَعَتْ إلَى لَفْظٍ لَا يَتَضَمَّنُ حُكْمًا زَائِدًا كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ. الْعَاشِرُ: تُقْبَلُ لَوْ كَانَتْ بِاللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الَّذِي قَبِلَهُ. الْحَادِيَ عَشَرَ: بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ رَاوِيهَا حَافِظًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ، وَالصَّيْرَفِيِّ. قَالَ الصَّيْرَفِيِّ: وَهُوَ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى مَنْ نَقَلَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مُسْتَقِلًّا بِهَا، لَا شَرِيكَ مَعَهُ فِي الرِّوَايَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَالْحَاصِلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ لَوْ انْفَرَدَ بِحَدِيثٍ يُقْبَلُ فَإِنَّ زِيَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ خَالَفَ الْحُفَّاظَ. الثَّانِيَ عَشَرَ: إنْ تَكَافَأَ الرُّوَاةُ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، وَزَادَ حَافِظٌ عَالِمٌ بِالْأَخْبَارِ زِيَادَةً، قُبِلَتْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُمْ فِي الْحِفْظِ لَمْ تُقْبَلْ، وَهُوَ قَوْلُ

ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَيُحْتَمَلُ رُجُوعُهُ لِمَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: إنْ كَانَ ثِقَةً، وَلَمْ يَشْتَهِرْ بِنَقْلِ الزِّيَادَاتِ فِي الْوَقَائِعِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الشُّذُوذِ قُبِلَتْ. كَرِوَايَةِ مَالِكٍ: (مِنْ الْمُسْلِمِينَ) فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَإِنْ اُشْتُهِرَ بِكَثْرَةِ الزِّيَادَاتِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، وَامْتِنَاعِ الِامْتِيَازِ بِسَمَاعٍ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. فَمَذْهَبُ الْأُصُولِيِّينَ قَبُولُ زِيَادَتِهِ، وَمَذْهَبُ الْمُحَدِّثِينَ رَدُّهَا لِلتُّهْمَةِ. قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ". [شُرُوطُ الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ] الرَّابِعَ عَشَرَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي تُقْبَلُ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا تَكُونَ مُنَافِيَةً لِأَصْلِ الْخَبَرِ. ذَكَرَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ. ثَانِيهَا: أَنْ لَا تَكُونَ عَظِيمَةَ الْوَقْعِ، بِحَيْثُ لَا يَذْهَبُ عَنْ الْحَاضِرِينَ عِلْمُهَا وَنَقْلُهَا. أَمَّا مَا يَجُلُّ خَطَرُهُ، فَبِخِلَافِهِ. قَالَهُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ. ثَالِثُهَا: أَنْ لَا يُكَذِّبَهُ النَّاقِلُونَ فِي نَقْلِ الزِّيَادَةِ، فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا: شَهِدْنَا أَوَّلَ الْمَجْلِسِ وَآخِرَهُ مُصْغِينَ إلَيْهِ، مُجَرِّدِينَ لَهُ أَذْهَانَنَا، فَلَمْ نَسْمَعْ الزِّيَادَةَ، فَذَلِكَ مِنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لِلِاحْتِمَالِ مَجَالٌ لَمْ يُكَذِّبُوهُ عَلَى عَدَالَتِهِ، قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ". وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: أَمَّا إذَا صَرَّحَ الْآخَرُونَ بِالنَّفْيِ وَاتَّحَدَ الْمَجْلِسُ. فَقِيلَ: هُوَ مُعَارِضٌ، فَيُقَدَّمُ أَقْوَاهَا. وَقِيلَ الْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ، قَالَ: وَهُوَ الرَّاجِحُ. رَابِعُهَا: أَنْ لَا يُخَالِفَ الْأَحْفَظَ وَالْأَكْثَرَ عَدَدًا، فَإِنْ خَالَفَتْ، فَظَاهِرُ

كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ إعْتَاقِ الشَّرِيكِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا مَرْدُودَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ بُلُوغِهِمْ إلَى حَدٍّ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ الْغَفْلَةُ وَالذُّهُولُ أَمْ لَا، بَلْ اعْتَبَرَ الْمُطْلَقَ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى زِيَادَةِ مَالِكٍ وَأَتْبَاعِهِ فِي حَدِيثٍ: «وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» : إنَّمَا يَغْلَطُ الرَّجُلُ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ، أَوْ يَأْتِي بِشَيْءٍ فَيَتْرُكُهُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ مِنْهُ مَا حَفِظَ مِنْهُ، وَهُمْ عَدَدٌ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ. اهـ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: «وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ» هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَهِيَ ذِكْرُ الِاسْتِسْعَاءِ، تَفَرَّدَ بِهَا سَعِيدٌ، وَخَالَفَ الْجَمَاعَةَ، فَلَا تُقْبَلُ، وَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُهُ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا عَلِمُوهُ مِنْهُ فِي قَبُولِ زِيَادَةِ الثِّقَةِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَحْمِلُوا كَلَامَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، احْتَاجُوا لِتَأْوِيلِهِ، فَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: لَمْ يَرُدَّ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْجِهَةَ، بَلْ إنَّ رِوَايَةَ الْوَاحِدِ عَارَضَهَا رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ، فَتُرَجَّحُ الْجَمَاعَةُ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ رَوَاهُ مُطْلَقًا، وَغَيْرُهُ رَوَى الْخَبَرَ، وَقَالَ: " قَالَ قَتَادَةُ: وَيُسْتَسْعَى " فَمَيَّزَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ، فَيَكُونُ هَذَا الرَّاوِي قَدْ حَفِظَ مَا خَفِيَ عَلَى الْآخَرِ.

وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَنَحْنُ وَإِنْ قَبِلْنَا الزِّيَادَةَ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ فَيَتَطَرَّقُ إلَيْهَا احْتِمَالُ الضَّعْفِ، وَيَخْدِشُ وَجْهَ الثِّقَةِ، فَلَوْ عَارَضَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عَلَى مُنَاقَضَةٍ لَقُدِّمَ عَلَيْهِ، فَلِأَجْلِهِ قَدَّمَ الشَّافِعِيَّةُ خَبَرَ السِّرَايَةِ عَلَى خَبَرِ السِّعَايَةِ؛ لِأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِنَقْلِ السِّعَايَةِ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ. وَقَسَّمَ ابْنُ الصَّلَاحِ الزِّيَادَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ مُخَالِفًا مُنَافِيًا لِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ فَمَرْدُودٌ. ثَانِيهَا: مَا لَا يُنَافِي رِوَايَةَ الْغَيْرِ كَالْحَدِيثِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ جُمْلَتِهِ ثِقَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ، فَيُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ، وَلَا يَتَعَرَّضُ فِيهِ لِمَا رَوَاهُ الْغَيْرُ بِمُخَالَفَتِهِ أَصْلًا، وَادَّعَى الْخَطِيبُ فِيهِ الِاتِّفَاقَ. ثَالِثُهَا: مَا يَقَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ، كَزِيَادَةٍ فِي لَفْظِ حَدِيثٍ لَمْ يَذْكُرْهَا سَائِرُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، يَعْنِي وَلَا اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَلَا نَفَاهَا الْبَاقُونَ صَرِيحًا، وَتَوَقَّفَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي قَبُولِ هَذَا الْقِسْمِ. وَحَكَى الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ عَنْهُ اخْتِيَارَ الْقَبُولِ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ قَالَهُ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا. [قَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ] وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إذَا عُلِمَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فَالْقَوْلُ لِلْأَكْثَرِ، سَوَاءٌ كَانُوا

رُوَاةَ الزِّيَادَةِ أَوْ غَيْرَهُمْ، تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْكَثْرَةِ، فَإِنَّهَا عَنْ الْخَطَأِ أَبْعَدُ، فَإِنْ اسْتَوَوْا قُدِّمَ الْأَحْفَظُ وَالْأَضْبَطُ، فَإِنْ اسْتَوَوْا قُدِّمَ الْمُثْبِتُ عَلَى النَّافِي، وَقِيلَ: النَّافِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ نَافَتْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ اُحْتِيجَ لِلتَّرْجِيحِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ، كَحَدِيثِ: عِتْقِ بَعْضِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) رَوَى الِاسْتِسْعَاءَ، وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَرْوِهِ، بَلْ قَالَ: «وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» ، وَهِيَ تُنَافِي الِاسْتِسْعَاءَ، وَإِنْ لَمْ تُنَافِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّرْجِيحِ، بَلْ يُعْمَلُ بِالزِّيَادَةِ إذَا أُثْبِتَتْ كَمَا فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، كَقَوْلِ أَنَسٍ: «رَضَخَ يَهُودِيٌّ رَأْسَ جَارِيَةٍ فَرَضَخَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» رَوَاهُ بَعْضُهُمْ هَكَذَا مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: «فَأَخَذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ، فَرَضَخَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ» وَهِيَ رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ. [مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ] قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ خُصُوصًا الْمُتَقَدِّمِينَ، كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَمَنْ بَعْدَهُمَا كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، كَالْبُخَارِيِّ، وَأَبِي زُرْعَةَ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيَّيْنِ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، كُلِّ هَؤُلَاءِ مُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمْ فِي الزِّيَادَةِ قَبُولًا وَرَدًّا التَّرْجِيحُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَقْوَى عِنْدَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ، وَلَا يَحْكُمُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِحُكْمٍ كُلِّيٍّ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الصَّوَابُ فِي نَظَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

وَمِنْهُمْ مِنْ قَبِلَ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَوْ تَعَدَّدَ، كَثُرَ السَّاكِتُونَ أَوْ تَسَاوَوْا، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ، فَقَدْ أَخْرَجَا فِي كِتَابَيْهِمَا اللَّذَيْنِ الْتَزَمَا فِيهِمَا الصِّحَّةَ كَثِيرًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا رَاوٍ وَاحِدٌ، وَخَالَفَ فِيهَا الْعَدَدَ وَالْأَحْفَظَ، وَقَدْ اخْتَارَ الْخَطِيبُ هَذَا الْمَذْهَبَ، وَحَكَاهُ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ. وَقَدْ نُوزِعَ فِي نَقْلِهِ ذَلِكَ عَنْ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ. وَعُمْدَتُهُمْ هُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ انْفَرَدَ بِنَقْلِ حَدِيثٍ عَنْ جَمِيعِ الْحُفَّاظِ قُبِلَ، فَكَذَلِكَ إذَا انْفَرَدَ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، فَإِنْ تَفَرَّدَ بِأَصْلِ الْحَدِيثِ لَا يَتَطَرَّقُ الْوَهْمُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الثِّقَاتِ، بِخِلَافِ تَفَرُّدِهِ بِالزِّيَادَةِ إذَا خَالَفَ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ، فَإِنَّ الظَّنَّ مُرَجِّحٌ لِقَوْلِهِمْ دُونَهُ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ. تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: لِتَوْجِيهِ إمْكَانِ انْفِرَادِ الرَّاوِي بِالزِّيَادَةِ طُرُقٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِضَ لِلرَّاوِي النَّاقِصِ التَّشَاغُلُ عَنْ سَمَاعِ الزِّيَادَةِ، مِثْلُ بُلُوغِهِ خَبَرًا مُزْعِجًا أَوْ عَرَضَ لَهُ أَلَمٌ أَوْ حَاجَةُ الْإِنْسَانِ، كَمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَالَ: دَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَقَلْت نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَى نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْنَا لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَك عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ؟ . قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ» ، قَالَ عِمْرَانُ: ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ قَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا، فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ.

الثَّانِي: أَنَّ رَاوِيَ النَّاقِصِ دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ فَاتَهُ بَعْضُهُ، فَرَوَاهُ مَنْ سَمِعَهُ دُونَهُ كَمَا رَوَى عُتْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَكَانَتْ نَوْبَتِي أَنْ أَرْعَاهَا فَرَوَّحْتُهَا بَيْتِي، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . فَقُلْت مَا أَجْوَدَ هَذَا، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ، قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا يَشَاءُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ وَقَعَ فِي مَجْلِسَيْنِ، وَفِي أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ، وَلَمْ يَحْضُرْهَا أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ كَرَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَهُ أَوَّلًا بِالزِّيَادَةِ، وَسَمِعَهُ الْوَاحِدُ، ثُمَّ يَذْكُرُهُ بِلَا زِيَادَةٍ اقْتِصَارًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ قَبْلُ، كَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ حَيْثُ رَوَى حَدِيثَ الَّذِي يُمَنِّيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ، فَيَنْتَهِي حَيْثُ تَنْقَطِعُ بِهِ الْأَمَانِيُّ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «فَإِنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ: «فَإِنَّ لَكَ مَنْ تَمَنَّيْتَ وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ» ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَمْ أَسْمَعْ إلَّا وَمِثْلَهُ مَعَهُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ) ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَأَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ بِوَحْيٍ أَوْ إلْهَامٍ، سَمِعَ أَبُو سَعِيدٍ: (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) ، وَشَغَلَ بِعَارِضٍ عَنْ سَمَاعِ الْآخَرِ الَّذِي سَمِعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ حَضَرَ أَحَدُهُمَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْآخَرُ أَبُو سَعِيدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ:

حَدِّثْ بِمَا سَمِعْتَ، وَأُحَدِّثُ بِمَا سَمِعْتُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي سَعِيدٍ كَرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَعَلَّهُ وَافَقَهُ أَوْ تَذَكَّرَهُ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَا وَاَللَّهِ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، يَعْنِي حَدِيثَ الْمَزَارِعِ، (إنَّمَا أَتَاهُ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ اقْتَتَلَا، فَقَالَ: إنْ كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ) سَمِعَ مِنْهُ (يَعْنِي رَافِعًا) قَوْلُهُ: (لَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ) ، يَعْنِي وَلَمْ يَسْمَعْ الشَّرْطَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنْ الْأَسْبَابِ أَنْ يَسْمَعَ الْجَمْعُ الْحَدِيثَ، فَيَنْسَى بَعْضُهُمْ الزِّيَادَةَ وَيَحْفَظُهَا الْبَاقِي. . الثَّانِي: قَدْ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي الْحَدِيثِ رَافِعَةً لِلْإِشْكَالِ مُزِيلَةً لِلِاحْتِمَالِ، وَقَدْ تَكُونُ دَالَّةً عَلَى إرَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، لَا عَلَى خُصُوصِيَّةِ الزِّيَادَةِ أَوْ ضِدِّهَا. مِثَالُ الْأَوَّلِ حَدِيثُ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْقُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ لِقُوَّتِهِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَحْتَمِلُ الضَّيْمَ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ لَا يُنَجَّسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ، أَيْ يَضْعُفُ عَنْ حَمْلِهِ لِضَعْفِهِ، كَمَا يُقَالُ: الْمَرِيضُ لَا يَحْمِلُ الْحَرَكَةَ وَالضَّرْبَ، فَجَاءَ فِي لَفْظِ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ: (لَمْ يُنَجِّسْهُ

مسألة الحديث يرويه بعضهم مرسلا وبعضهم متصلا

شَيْءٌ) ، فَكَانَ هَذَا رَافِعًا لِذَلِكَ الْإِجْمَالِ، وَمِثَالُ الثَّانِي: حَدِيثُ الْوُلُوغِ، «إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» ، وَفِي لَفْظٍ: (أُولَاهُنَّ) ، وَفِي لَفْظٍ (أُخْرَاهُنَّ) . فَالتَّقْيِيدُ بِالْأُولَى، وَالْأُخْرَى تَضَادٌّ مُمْتَنِعُ الْجَمْعِ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى إرَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ غَسْلُ وَاحِدَةٍ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ. [مَسْأَلَةٌ الْحَدِيثُ يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ مُرْسَلًا وَبَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا] ] إذَا اخْتَلَفَ الثِّقَاتُ فِي حَدِيثٍ فَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا، وَبَعْضُهُمْ مُرْسَلًا، فَهَلْ الْحُكْمُ لِلْوَصْلِ أَوْ الْإِرْسَالِ، أَوْ لِلْأَكْثَرِ، أَوْ الْأَحْفَظِ؟ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ وَصَلَ، وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ، فَقَالَ: إذَا أَرْسَلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوَصَلَهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَالْحُجَّةُ لِمَنْ وَصَلَ إذَا كَانَ حَافِظًا. هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ أَقُولُ. انْتَهَى.

وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " فِيهِ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. قَالَ: وَالْمُرْسَلُ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَصَحَّحَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَسُئِلَ الْبُخَارِيُّ عَنْ حَدِيثِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، رَوَاهُ شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ عَنْهُ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّصِلًا، فَحَكَمَ الْبُخَارِيُّ لِمَنْ وَصَلَهُ، وَقَالَ: الزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، هَذَا مَعَ أَنَّ مُرْسِلَهُ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ، وَهُمَا مَا هُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ، وَالْخَطِيبُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَكْثَرِ، فَإِنْ كَانَ مَنْ أَسْنَدَهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ أَرْسَلَهُ، فَالْحُكْمُ لِلْإِرْسَالِ، وَإِلَّا فَالْوَصْلُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَحْفَظِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرْسَلَ الْأَحْفَظُ، فَهَلْ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عَدَالَةِ مَنْ وَصَلَهُ، أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ - أَصَحُّهُمَا وَبِهِ صَدَّرَ

الراوي يروي الحديث متصلا ومرسلا

ابْنُ الصَّلَاحِ كَلَامَهُ - الْمَنْعُ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَقْدَحُ فِي سَنَدِهِ، وَفِي عَدَالَتِهِ وَفِي أَهْلِيَّتِهِ. وَالْخَامِسُ: قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إنَّهُ بِمَثَابَةِ الزِّيَادَةِ مِنْ الثِّقَةِ، فَيُقَدَّمُ الْوَصْلُ بِشَرْطَيْنِ: أَنْ لَا يَكُونَ الْحَدِيثُ عَظِيمَ الْوَقْعِ بِحَيْثُ يَزِيدُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَأَنْ لَا يُكَذِّبَهُ رَاوِي الْإِرْسَالِ. [الرَّاوِي يَرْوِي الْحَدِيثَ مُتَّصِلًا وَمُرْسَلًا] فَرْعَانِ [الرَّاوِي يَرْوِي الْحَدِيثَ مُتَّصِلًا وَمُرْسَلًا] الْأَوَّلُ: لَوْ أَرْسَلَهُ هُوَ مَرَّةً، وَأَسْنَدَهُ أُخْرَى، فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ، فَلَا شَكَّ فِي قَبُولِهِ، وَإِلَّا فَاخْتَلَفُوا، فَجَزَمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ لِوَصْلِهِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ لِإِرْسَالِهِ، وَقِيلَ: الِاعْتِبَارُ بِمَا يَقَعُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَإِنْ وَقَعَ وَصْلُهُ أَكْثَرُ مِنْ إرْسَالِهِ، فَالْحُكْمُ لِلْوَصْلِ، وَإِلَّا فَلَا. وَقِيلَ: إنْ كَانَ الرَّاوِي ثِقَةً مُتَذَكِّرًا لِرَفْعِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْسِلَهُ، وَلَا يُعَدُّ اضْطِرَابًا، وَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِحِفْظِهِ فَهُوَ اضْطِرَابٌ فِي رِوَايَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثُ. [إرْسَالُ الْأَخْبَارِ إذَا أَسْنَدَ خَبَرًا هَلْ يُقْبَلُ أَوْ يُرَدُّ] الثَّانِي: مَنْ شَأْنُهُ إرْسَالُ الْأَخْبَارِ إذَا أَسْنَدَ خَبَرًا، هَلْ يُقْبَلُ أَوْ يُرَدُّ؟ قَوْلَانِ. الصَّحِيحُ الْقَبُولُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنَّمَا يُقْبَلُ مِنْ حَدِيثِهِ مَا قَالَ فِيهِ: حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْت، وَلَا يُقْبَلُ مَا يَأْتِي فِيهِ بِلَفْظٍ مُوهِمٍ. وَقَالَ بَعْضُ

مسألة إذا تعارض الوقف والرفع

الْمُحَدِّثِينَ: لَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا قَالَ: سَمِعْت فُلَانًا. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي، فَيَجْعَلُونَ الْأَوَّلَ دَالًّا عَلَى الْمُشَافَهَةِ، وَالثَّانِي مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ، وَهَذَا عَادَةٌ لَهُمْ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَخْبَرَنِي، يُفِيدُ أَنَّهُ تَوَلَّى إخْبَارَهُ بِالْحَدِيثِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مُشَافَهَةً. [مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ الْوَقْفُ وَالرَّفْعُ] ُ] أَمَّا تَعَارُضُ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ، فَالْحُكْمُ عَلَى الْأَصَحِّ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - لِمَا رَوَاهُ الثِّقَةُ مِنْ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ، وَغَيْرُهُ سَاكِتٌ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى رَاوِيَيْنِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى رَاوٍ وَاحِدٍ كَمَا لَوْ رَفَعَ حَدِيثًا فِي وَقْتٍ، ثُمَّ وَقَفَهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَالْحُكْمُ لِرَفْعِهِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ مِنْ " الْحَاوِي ": مَذْهَبُنَا أَنْ يُحْمَلَ الْمَوْقُوفُ عَلَى مَذْهَبِ الرَّاوِي، وَالْمُسْنَدُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فصل الكلام على متن الحديث

[فَصْلٌ الْكَلَامُ عَلَى مَتْنِ الْحَدِيثِ] ِ] وَإِذَا انْقَضَى الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ الرَّاوِي، فَالْكَلَامُ فِي الثَّانِي وَهُوَ الْمَتْنُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِحُّ كَوْنُهُ، وَلَا يَسْتَحِيلُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ، فَإِنْ أَحَالَهُ الْعَقْلُ رُدَّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ، إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَأَمَّا أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ فَكُلُّ مَا صَحَّ تَطَرُّقُ التَّأْوِيلِ إلَيْهِ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ قُبِلَ، وَمَا لَا يُؤَوَّلُ، وَأَوْهَمَ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ مَقْطُوعٍ بِصِحَّتِهِ، وَلَا مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالصَّحَابَةِ، فَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَهُوَ إمَّا غَلَطٌ مِنْ الرَّاوِي أَوْ مَنْسُوخٌ حُكْمُهُ، وَأَنْ لَا يُخَالِفُهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَقْدِيمِ الْمَقْطُوعِ عَلَى الْمَظْنُونِ، فَإِنْ خَالَفَهُ قَاطِعٌ عَقْلِيٌّ وَلَمْ يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ عُلِمَ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلَى الشَّارِعِ، وَإِنْ قَبِلَهُ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ سَمْعِيًّا، وَلَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ عُلِمَ تَأَخُّرُ الْمَقْطُوعِ عَنْهُ حُمِلَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِهِ، وَأَنْ لَا يَنْفَرِدَ رَاوِيهِ بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَنْقُلَهُ أَهْلُ التَّوَاتُرِ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ عِلْمُهُ، فَإِنْ انْفَرَدَ لَمْ يُقْبَلْ. قَالَهُ فِي " اللُّمَعِ "، وَكَذَا الْأُسْتَاذَانِ: ابْنُ فُورَكٍ وَأَبُو مَنْصُورٍ قَالَا: وَلِهَذَا رَدَدْنَا رِوَايَةَ الْإِمَامِيَّةِ فِي النَّصِّ عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَقُلْنَا: لَوْ كَانَ حَقًّا لَظَهَرَ نَقْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفُرُوضِ الَّتِي لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهَا. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَى الْجَمَاعَةِ عَلْمُهُ فَجَاءَ بِنَقْلِهِ الْخَاصَّةُ، وَيَرْجِعُ فِيهِ الْعَامَّةُ إلَيْهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عَمَلًا، فَإِنْ اقْتَضَى عِلْمًا، وَكَانَ فِي الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَمْ يُرَدَّ، وَإِلَّا رُدَّ، سَوَاءٌ اقْتَضَى مَعَ الْعِلْمِ عَمَلًا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ مِنْهُ، فَالْعِلْمُ مَعَ عَدَمِ

صَلَاحِيَّتِهِ لَهُ كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ لَكِنْ لَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَصَدَ بِذَلِكَ إيجَابَ الْعِلْمِ عَلَى مَنْ شَافَهَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَمِنْ هَذَا إثْبَاتُ الْقِرَاءَةِ عَبْرَ الْآحَادِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ وَهُوَ الْعَمَلُ، لَا الْقُرْآنُ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَجِدْ مُعْتَصِمًا مَقْطُوعًا بِهِ فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يُقْطَعُ بِرَدِّهِ، وَمِثَالُهُ إذَا وَرَدَ فَقَبِلَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَصٌّ لِلرَّدِّ، وَلَا نَصٌّ قَاطِعٌ فِي الْقَبُولِ، قُطِعَ بِرَدِّهِ؛ لِأَنَّ مُعْتَمَدَنَا فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْإِجْمَاعُ، فَحَيْثُ لَا نَجِدُ قَاطِعًا لَا نَحْكُمُ بِالْعَمَلِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ: يَلْتَحِقُ بِالْمُجْتَهِدَاتِ، وَتَعَيَّنَ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِيهِ الْجَرَيَانُ عَلَى اجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ أَحَادِيثَ قَبِلَهَا بَعْضُهُمْ، وَتَوَقَّفَ فِيهَا آخَرُونَ، ثُمَّ كَانَ الْعَامِلُونَ لَا يُعَابُونَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَلِ بِهِ عَدَمُ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ، بَلْ يَجُوزُ إنْ عَارَضَهُ الْقِيَاسُ إذَا تَبَايَنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّمَاتُ الْقِيَاسِ قَطْعِيَّةً قُدِّمَ الْقِيَاسُ قَطْعًا، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ظَنِّيَّةً قُدِّمَ الْخَبَرُ قَطْعًا لِقِلَّةِ مُقَدَّمَاتِهِ، وَحَكَى الْآمِدِيُّ فِيهِ الْخِلَافَ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْبَعْضُ قَطْعِيًّا وَالْبَعْضُ ظَنِّيًّا، قُدِّمَ الْخَبَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ: إنَّهُ الْأَصَحُّ وَالْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ، وَهَذَا رَأْيٌ، وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ هَلْ يَأْخُذُ

بِهِ؟ فَقَرَأَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] الْآيَةَ. وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيّ، وَأَبُو الْفَرَجِ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى، وَقَالُوا: إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: إنْ كَانَ الرَّاوِي ضَابِطًا عَالِمًا قُدِّمَ خَبَرُهُ، وَإِلَّا كَانَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رَدِّ الْخَبَرِ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ لَا أَرَى ثُبُوتَهُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ يَعِمَنْ: لَا خِلَافَ فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ أَنَّهُ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ، فَإِنْ كَانَتْ أَمَارَةُ الْقِيَاسِ أَقْوَى، وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا، وَإِلَّا فَالْعَكْسُ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي إفَادَةِ الظَّنِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: لَمْ أَجِدْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَظْنُونٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ صَارَ إلَيْهِ صَائِرٌ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا. قُلْت: وَقَدْ صَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي فِيمَا نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ. قَالَ إلْكِيَا: لَكِنَّ الْجُمْهُورَ قَدَّمُوا خَبَرَ الضَّابِطِ عَلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عُرْضَةُ الزَّلَلِ، وَالْوَجْهُ التَّعَلُّقُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ تَرْكُ الرَّأْيِ لِلْخَبَرِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ دِيَةِ الْأَصَابِعِ لِلْحَدِيثِ. . . أَبُو بَكْرٍ حُكْمًا حَكَمَهُ بِرَأْيِهِ لِحَدِيثٍ سَمِعَهُ مِنْ بِلَالٍ، وَمِنْ هَذَا قَدَّمْنَا رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُصَرَّاةِ وَالْعَرَايَا عَلَى الْقِيَاسِ.

مسألة رد الحديث بعمل أهل المدينة

قَالَ: الْعَجَبُ مِنْهُمْ فِي رَدِّهِ مَعَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ رَوَاهُ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الرَّاوِي إذَا كَانَ فَقِيهًا كَابْنِ مَسْعُودٍ قُبِلَ حَدِيثُهُ، سَوَاءٌ وَافَقَ الْقِيَاسَ أَمْ لَا، وَلَا يَضُرُّهُ عَمَلُ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْبَعْضِ لَيْسَ حُجَّةً خِلَافًا لِقَوْمٍ، لَكِنَّ قَوْلَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْمُرَجِّحَاتِ، فَتُقَدَّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا عَارَضَ خَبَرُ الْوَاحِدِ خَبَرًا آخَرَ مِثْلَهُ مُعْتَضِدًا بِعَمَلِ الْأَكْثَرِ قُدِّمَ عَلَى الْآخَرِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ عَمَلُ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ كَالصَّلَاةِ فَشَرْطُهُ أَنْ يَقْبَلَهُ الْأَكَابِرُ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا رَأَيْنَاهُمْ لَا يَقْبَلُونَهُ وَلَا يُخَالِفُونَهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مَتْرُوكٌ، قَالَ: وَهَذَا مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، حَتَّى يَقُومَ مُعَارِضٌ مِنْ نَسْخٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْأَكَابِرَ مِنْهُمْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَشْيَاءُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَلَا يُرَدُّ بِأَنْ يَفْعَلَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَافِيًا لِمَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ إثْبَاتَهُ فَيُرَدُّ. [مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ] ِ] وَلَا يَضُرُّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ مَعَ أَنَّهُ الرَّاوِي لَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَإِذَا فُسِّرَ عَمَلُهُمْ بِالْمَنْقُولِ تَوَاتُرًا

كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْمُدِّ وَالصَّاعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ، لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْمَظْنُونِ إذَا عَارَضَهُ قَاطِعٌ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: هَذَا لَهُ صُوَرٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ بَلَغَهُمْ، فَقَدْ وَافَقَ الْإِمَامُ عَلَى سُقُوطِ الْخَبَرِ فِيهِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يَتْرُكَ الْخَبَرَ، وَهُوَ لَوْ بَلَغَهُمْ لَمَا خَالَفُوهُ. وَثَالِثُهَا: أَنْ نَجِدَ عَمَلَهُمْ عَلَى خِلَافِ الْخَبَرِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْبُلُوغُ وَلَا انْتِفَاؤُهُ، فَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْخَبَرَ مَتْرُوكٌ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ، لِقُرْبِ دِيَارِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ، وَكَثْرَةِ بَحْثِهِمْ، وَشِدَّةِ اعْتِنَائِهِمْ بِحِفْظِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَيَقَعُ فِي قِسْمِ مَا إذَا ظَنَنَّا بُلُوغَ الْخَبَرِ، وَلَمْ نَقْطَعْ بِهِ. وَقَدْ اخْتَرْنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ سُقُوطَ التَّمَسُّكِ بِالْخَبَرِ، وَلُزُومَ التَّمَسُّكِ بِالْفِعْلِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ اخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَرَوَى حَدِيثَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . وَقَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ: لَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ إلَّا بِمُعَامَلَةٍ أَوْ مُخَالَطَةٍ، وَهَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ فِي تَعْمِيمِ مُوجَبِ الْيَمِينِ عَلَى حَسْبِ مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ التَّرَاجِيحِ: إنْ تَحَقَّقَ بُلُوغُهُ لَهُمْ، وَخَالَفُوهُ

مسألة رد الحديث بعمل الراوي بخلافه

مَعَ الْعِلْمِ بِهِ دَلَّ عَلَى نَسْخِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَقْدِيمًا لِأَقْضِيَتِهِمْ عَلَى الْخَبَرِ، بَلْ هُوَ تَمَسُّكٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ حَمْلِهِ عَلَى وَجْهٍ مُمْكِنٍ مِنْ الصَّوَابِ، فَكَانَ تَعَلُّقًا بِالْإِجْمَاعِ فِي مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُهُمْ أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ، فَالتَّعَلُّقُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ، وَظَنِّيٌّ بِدِقَّةِ نَظَرِ الشَّافِعِيِّ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْخَبَرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ بَلَغَهُمْ وَتَحَقَّقْنَا مُخَالَفَةَ عَمَلِهِمْ لَهُ، فَهَذَا مَقَامُ التَّوَقُّفِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْ فِي الْوَاقِعَةِ سِوَى الْخَبَرِ وَالْأَقْضِيَةِ تَعَلَّقْنَا بِالْخَبَرِ، وَإِنْ وَجَدْنَا غَيْرَهُ تَعَيَّنَ التَّعَلُّقُ بِهِ. قَالَ: وَمِنْ بَدِيعِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهُ لَهُ أَنَّ مَذَاهِبَ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ إذَا نُقِلَتْ مِنْ غَيْرِ إجْمَاعٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَإِذَا نُقِلَتْ فِي مُعَارَضَةِ خَبَرٍ نَصَّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ تَعَلَّقْنَا بِهَا، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعَلُّقٌ بِالْمَذَاهِبِ، بَلْ بِمَا صَدَرَتْ عَنْهُ مَذَاهِبُهُمْ. قَالَ: وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ يَطَّرِدُ فِي أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ، وَفِي أَئِمَّةِ كُلِّ عَصْرٍ مَا لَمْ يُوقَفْ عَلَى خَبَرٍ. [مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِعَمَلِ الرَّاوِي بِخِلَافِهِ] ِ] وَلَا يَضُرُّ عَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِهِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، حَيْثُ قَدَّمُوا رَأْيَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُوجِبُوا التَّسْبِيعَ بِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ، لِمُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ: إنْ لَمْ يَكُنْ لِمَذْهَبِهِ وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ إلَّا أَنَّهُ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ ذَلِكَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْخَبَرِ

مسألة رد الحديث بطعن السلف فيه

وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ، بَلْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ قَدْ صَارَ إلَيْهِ لِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ وَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ اقْتَضَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَأْخَذِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا هِيَ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ، لَا فِي مَذْهَبِ الرَّاوِي، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى غَيْرِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الرَّاوِي، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى مَذْهَبِ الرَّاوِي. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": إنْ أَمْكَنَ حَمْلُ مَذْهَبِهِ عَلَى تَقَدُّمِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ أَوْ عَلَى نِسْيَانِهِ فُعِلَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ قَبُولِ الْحَدِيثِ وَإِحْسَانِ الظَّنِّ، وَإِنْ نُقِلَ مُقَيَّدًا أَنَّهُ خَالَفَ الْحَدِيثَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، فَالْحَدِيثُ مَتْرُوكٌ. وَلَوْ نُقِلَ مَذْهَبُهُ مُطْلَقًا، فَلَا يُتْرَكُ لِاحْتِمَالِ النِّسْيَانِ. نَعَمْ، يُرَجَّحُ عَلَيْهِ حَدِيثٌ يُوَافِقُهُ مَذْهَبُ الرَّاوِي. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إذَا رَوَى خَبَرًا يَقْتَضِي رَفْعَ الْحَرَجِ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ مُتَحَرِّجًا، فَالِاسْتِمْسَاكُ بِرِوَايَتِهِ وَعَمَلِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَرَعِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَفْضَلِ، وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: كُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرًا ثُمَّ خَالَفَهُ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقَيِّدًا لِخَبَرِهِ لِإِمْكَانِ تَأْوِيلِهِ، أَوْ خَبَرٍ يُعَارِضُهُ، أَوْ مَعْنًى بِفَارِقٍ عِنْدَهُ. فَمَتَى لَمْ يَنْكَشِفْ لَنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَمْضَيْنَا الْخَبَرَ حَتَّى نَعْلَمَ خِلَافَهُ. [مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِطَعْنِ السَّلَفِ فِيهِ] ِ] وَلَا يَضُرُّهُ طَعْنُ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلِهَذَا رَدُّوا خَبَرَ

مسألة رد الحديث بكونه مما تعم البلوى به

الْقَسَامَةِ بِطَعْنِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِيهِ، ثُمَّ نَاقَضُوا، فَعَمِلُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ مَعَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ طَعَنَ فِيهِ، وَعَارَضَهُ بِمَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ. [مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِكَوْنِهِ مِمَّا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ] ِ] وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى خِلَافًا لِأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. حَكَاهُ صَاحِبُ " الْوَاضِحِ "، وَلِابْنِ خُوَيْزٍ الْخَارِجِيِّ حَكَاهُ الْبَاجِيُّ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَبَنَى الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذَا رَدَّ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ، وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْهَوِيِّ إلَى الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ،

وَإِيجَابِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَالْإِفْرَادِ فِي الْإِقَامَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، فَحَقُّهُ الِاشْتِهَارُ. وَقَالَ الْكَرْخِيّ: كُلُّ شَرْطٍ لَا تَتِمُّ صَلَاتُهُ إلَّا بِهِ يَجِبُ نَقْلُهُ، كَالْقِبْلَةِ الَّتِي ظَهَرَ نَقْلُهَا نَقْلُ الصَّلَاةِ، وَمَا يَعْرِضُ لِلصَّلَاةِ أَحْيَانَا، فَنَقْلُهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَائِعًا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ: وَمَعْنَى قَوْلِنَا: تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ ": مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا غَيْرَ خَاصٍّ. [تَحْقِيقُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ لِلْمَسْأَلَةِ] قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ الْكَافَّةَ عِلْمُهُ، فَذَلِكَ يَجِبُ ظُهُورُهُ لَا مَحَالَةَ. وَالثَّانِي: مَا يَلْزَمُ أَفْرَادُ النَّاسِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْعِلْمُ بِهِ دُونَ الْعَامَّةِ، وَالْعَامَّةُ كُلِّفُوا الْعَمَلَ بِهِ دُونَ الْعِلْمِ، أَوْ لَمْ يُكَلَّفُوا بِأَسْرِهِمْ الْعَمَلَ بِهِ، نَحْوُ مَا يَرْجِعُ الْعَوَامُّ فِيهِ إلَى الْعُلَمَاءِ مِنْ الْحَوَادِثِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ وَغَيْرِهِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَعُمَّ بِهِ الْبَلْوَى، وَلَكِنَّ الْعَامَيَّ فِيهِ مَأْمُورٌ بِالرُّجُوعِ إلَى الْعَالِمِ، وَإِذَا ظَهَرَ لِلْعَالِمِ لَمْ يَجِبْ نَقْلُهُ إلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْ شَيْءٍ اُشْتُهِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْكَرَّاتِ، كَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَكَانَ النَّاقِلُ مُنْفَرِدًا فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَكْثَرُونَ

مسألة رد الحديث إذا كان في الحدود والكفارات

عَلَى رَدِّهِ، وَلِأَجْلِهِ قَالُوا: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَجْهَرُ مَرَّةً، وَيُخَافِتُ أُخْرَى، وَهَذَا مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَمْ يُنْقَلْ أَصْلًا، وَقَدْ يُقَالُ: لَعَلَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِظَامِ الْعَزَائِمِ، وَأُمَّهَاتِ الْمُهِمَّاتِ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ، فَقَلَّ الِاعْتِنَاءُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ] ِ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الْجَصَّاصُ. قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، وَخَالَفَ الْكَرْخِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ رَاوِيَهُ كَذَبَ أَوْ سَهَا أَوْ أَخْطَأَ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَهَذَا يُشْكِلُ بِإِثْبَاتِ الْحَدِّ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَقَوْلِ الْمُفْتِي. [مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِدَعْوَى أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ] ِّ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ بِالزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كَانَ نَسْخًا لَا يُقْبَلُ، كَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَحْوِهِ، وَسَبَقَ فِي النَّسْخِ.

مسألة رد الحديث بدعوى مخالفته الأصول

[مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِدَعْوَى مُخَالَفَتِهِ الْأُصُولَ] َ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْأُصُولِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا، أَوْ إجْمَاعٍ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِهَذَا رَدُّوا خَبَرَ الْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ فِي زَعْمِهِمْ، وَرَدُّوا خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ وَالْقُرْعَةِ، وَخَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فِي نَفْيِ السُّكْنَى لِلْمُتَغَرِّبَةِ، وَلِذَلِكَ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ كَمَا لَا يَنْسَخُهُ. [السِّرُّ فِي رَدِّ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ] قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهَذِهِ أُصُولٌ مَهَّدُوهَا مِنْ أَجْلِ أَخْبَارٍ احْتَجَّ بِهَا أَصْحَابُنَا عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ عَجَزُوا عَنْ دَفْعِهَا، فَرَدُّوهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَقَالُوا بِأَمْثَالِهَا فِي الضَّعْفِ كَخَبَرِ نَبِيذِ التَّمْرِ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ، إذْ الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَلِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ أَنَّ مَا امْتَنَعَ التَّوَضُّؤُ بِهِ فِي الْحَضَرِ امْتَنَعَ فِي السَّفَرِ. وَقَبِلُوا خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ ضَعْفِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ أَنَّ مَا كَانَ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ كَانَ حَدَثًا فِي غَيْرِهَا، وَمَا لَمْ يَنْقُضْ الطُّهْرَ فِي غَيْرِهَا لَا يَنْقُضُ فِيهَا، وَقَبِلُوا خَبَرًا ضَعِيفًا فِي إيجَابِ رُبُعِ قِيمَةِ الْبَقَرَةِ فِي

عَيْنِهَا تَخْصِيصًا لَهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَطْرَافِهَا؟ وَقَالُوا أَيْضًا: بِإِلْزَامِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقَتْلَ الدِّيَةَ مَعَ الْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ، تَخْصِيصًا لَهَا مِنْ بَيْنِ الْأَيْمَانِ، فَكَيْفَ أَنْكَرُوا خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ مَعَ صِحَّتِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ؟ . أَتَرَاهُ أَعْظَمَ مِنْ تَرْكِهِمْ الْقِيَاسَ بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَالُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ، وَلَا أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهُ، وَقَالُوا لَنَا مَا لَا بِهِ نَقْلٌ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فَزِدْتُمْ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ. فَقُلْنَا لَهُمْ: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَنَقَلَ مِنْ الْمَاءِ إلَى التُّرَابِ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً فَزِدْتُمْ نَبِيذَ التَّمْرِ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ضَعْفِ حَدِيثِهِ، وَقُوَّةِ حَدِيثِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. فَنَحْنُ لَمْ نَجْعَلْ وَاسِطَةً بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ، وَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إذَا عُدِمَ ذَلِكَ جَازَ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَالْقُرْآنُ لَا يَنْفِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ بَدَلًا مِنْ الشَّاهِدَيْنِ. وَقَالُوا بِحَدِيثِ الْعِينَةِ، وَتَرَكُوا ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَخَصَّصُوا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ. وَقَسَّمَ الْهِنْدِيُّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا خَصَّصَ عُمُومَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ

مسألة رد الحديث إذا كان أحد راويه واحدا

أَوْ قَيَّدَ مُطْلَقَهُمَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: إلَى مَا لَا يُعْلَمُ مُقَارَنَتُهُ لَهُ، وَلَا تَرَاخِيهِ عَنْهُ. فَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَفَعَتْ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَلَمْ يَسْأَلُوا أَنَّهَا هَلْ كَانَتْ مُقَارِنَةٍ أَمْ لَا؟ . قَالَ: وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى كَوْنِهِ مُخَصِّصًا مَقْبُولًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى كَوْنِهِ نَاسِخًا مَرْدُودًا. الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ مُقَارَنَتُهُ لَهُ، فَيَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعْلَمَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، فَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ لَمْ يَقْبَلْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَبِلَهُ لَقَبِلَ نَاسِخًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَمَنْ جَوَّزَهُ قَبِلَهُ إنْ كَانَ وَرَدَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا إذَا وَرَدَ بَعْدَهُ فَلَا يُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: لَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِكَوْنِ رَاوِيهِ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِمُجَالَسَتِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَتْ تَنْقُلُ الْأَخْبَارَ عَنْ الْأَعْرَابِ، وَعَمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِمُجَالَسَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ أَحَدُ رَاوِيهِ وَاحِدًا] ] وَلَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِكَوْنِ أَحَدِ رُوَاتِهِ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ، خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ، وَحَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ فِي بَابِ التَّفْلِيسِ، فَإِنَّهُ طَعَنَ

مسألة عرض الحديث على القرآن

فِي حَدِيثِ: «أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ» ، فَقَالَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَحْدَهُ، عَنْ أَبِي الْمُعْتَمِرِ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ رَاوِيهِ وَاحِدًا، فَهُوَ مَجْهُولٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَهَذَا لَيْسَ بِاعْتِرَاضٍ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَانَ ثِقَةً مَعْرُوفًا يَلْزَمُ قَبُولُ خَبَرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِصِفَةِ الْوَاحِدِ. [مَسْأَلَةٌ عَرْضُ الْحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ] ِ] لَا يَجِبُ عَرْضُ الْخَبَرِ عَلَى الْكِتَابِ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى وُجُوبِ عَرْضِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ قُبِلَ وَإِلَّا رُدَّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي أُصُولِهِ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يُعْتَقَدُ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الْعَرْضُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَرَوَاجُهُ بِمُوَافَقَتِهِ، فَالْتَبَسَ بِمُخَالَفَتِهِ، ثُمَّ عَلَى السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ الثَّابِتَةُ بِطَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ، ثُمَّ الْعَرْضُ عَلَى الْحَادِثَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا، وَالْخَبَرُ شَاذٌّ كَانَ ذَلِكَ وَمُحْرِبُ، وَكَذَا إنْ كَانَ حُكْمُ الْحَادِثَةِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ، خِلَافًا ظَاهِرًا، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ الْمُحَاجَّةُ بِالْحَدِيثِ كَانَ عَدَمُ ظُهُورِ الْحِجَاجِ وَمُحْرِبُ فِيهِ. قَالَ: وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ» . فَلَوْ صَحَّتْ لَاحْتِيجَ إلَى عَرْضِهَا عَلَى الْكِتَابِ، وَقَدْ عَرَضْنَاهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ نَجِدْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا بَلْ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهَا؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] .

وَرَدَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ كَلَامَهُ، وَقَالَ: الْخَبَرُ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهِ إذَا ثَبَتَ، وَلَا يَجِبُ عَرْضُهُ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا تَخْصِيصَ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ. اهـ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ: قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ، وَالْخَبَرُ أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى عَامًّا لَهُ بِقَبُولِهِ وَاعْتِقَادِ صِحَّتِهِ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ مِنْ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ ذَهَبَ عَنَّا وَجْهُهُ. قَالَ: فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إذَا رَوَيْت سُنَّةً عَرَضْتهَا عَلَى الْقُرْآنِ. قَالَ: فَإِنْ خَالَفَتْهُ عَلَى مَعْنَى وُرُودِ الْكِتَابِ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَوْ إبَاحَتِهِ، وَفِي السُّنَّةِ النَّهْيُ عَنْهُ، أَوْ حَظْرُهُ، فَهَذَا لَمْ يُوجَدْ صَحِيحًا، إلَّا فِيمَا نَسَخَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سُنَّتِهِ. قُلْت: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا وَافَقَهُ فَأَنَا قُلْته، وَمَا خَالَفَهُ فَلَمْ أَقُلْهُ» : مَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ، وَعَمَّنْ لَا يُقْبَلُ [عَنْهُ] مِثْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ. انْتَهَى. ثُمَّ ذَكَرَ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» ، الْحَدِيثَ. ثُمَّ قَالَ:

فَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي اتِّبَاعِهِ، وَكَانَتْ مَعَهُ دَلَالَتَانِ: دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ بِحَالٍ، وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ عَامًّا وَخَاصًّا وَدَلَالَةً، عَلَى أَنَّهُمْ قَبِلُوا فِيهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ، فَلَا نَعْلَمْ أَحَدًا رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. اهـ. وَفِي ظَنِّي أَنَّهُ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ.

فصل يجمع بعض ما سبق جملة الشبهات التي ردت بها أحاديث الآحاد

[فَصْلٌ يَجْمَعُ بَعْضَ مَا سَبَقَ جُمْلَةُ الشُّبُهَاتِ الَّتِي رُدَّتْ بِهَا أَحَادِيثُ الْآحَادِ] ِ] لَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِنِسْيَانِ الرَّاوِي، وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ لِلْخَبَرِ، أَوْ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي: ضَعِيفٌ، وَلَا يُبَيِّنُ سَبَبَ الضَّعْفِ، أَوْ كَوْنَهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا، أَوْ أَنْ يَقُولَ: بَعْضُ الْأَلْفَاظِ أَدْرَجَهُ الرَّاوِي فِي الْحَدِيثِ، كَمَا قَالَهُ الرَّازِيَّ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مُرَتَّبٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ يَأْبَاهُ، وَلَا أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ تُنْقَلْ نَقْلَ الْأَصْلِ؛ لِاحْتِمَالِ ذِكْرِهَا فِي وَقْتٍ لَمْ يَحْضُرْهُ الْجَمَاعَةُ، وَلَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ فِي الرَّفْعِ، كَقَوْلِ سُهَيْلٍ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَةُ سُنَّةِ الرَّسُولِ، وَلَا بِاحْتِمَالِ اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ أَمْرًا، كَقَوْلِهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ سَمِعَ قَوْلًا فَظَنَّهُ أَمْرًا، وَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فَلَنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ، فَالْعَمَلُ بِالنَّاسِخِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى النَّسْخِ، فَيَذْهَبُ إلَى أَثْبَتِ الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنْ تَكَافَأَتَا ذَهَبَ إلَى أَشْبَهِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ سُنَّتِهِ، وَلَا نَقْلُهُ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُوجَدَ فِيهِمَا هَذَا أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْأَثْبَتِ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُ مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ يُرْوَى مِنْ دُونِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ يُخَالِفُهُ لَمْ أَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ.

خاتمة أخذ الأحكام من الأحاديث التي تأتي لضرب الأمثال

[خَاتِمَةٌ أَخْذُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَأْتِي لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ] ِ] قِيلَ: الْأَحْكَامُ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَأْتِي لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ. فَإِنَّهُ مَوْضِعُ تَجَوُّزٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَأَنَّهُ رَدَّ بِذَلِكَ احْتِجَاجَ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ بِحَدِيثِ عَمِلْنَا مَعَ عَمَلِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَنَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْضِعَ تَجَوُّزٍ وَتَوَسُّعٍ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا تَمَثَّلَ أَوْ تَوَسَّعَ. قُلْت: وَالتَّعْلِيلُ بِالتَّوَسُّعِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَلَوْ قَالَ: لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدُ التَّشْرِيعِ، فَيَكُونُ قَرِينَةً صَارِفَةً عَنْ الْحُكْمِ لَمْ يَبْعُدْ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ فِي الْعَامِّ إذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدُ التَّعْمِيمِ، لَا يَكُونُ عَامًّا؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ. وَقِيلَ: لَا يُؤْخَذُ الْجَوَازُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا، كَاحْتِجَاجِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ الْمَحْرَمَ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَجِّ بِحَدِيثِ «لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْحَلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهُ» قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْت ذَلِكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَقَدَحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بَعْدُ، وَلَمْ يَقُلْ: إنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ، وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْت مَكَانَهُ» وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَمَّنِي الْمَوْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِجَوَازِهِ، كَالْإِخْبَارِ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالِامْتِنَانِ بِإِظْهَارِ الدِّينِ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِإِنْفَاقِ كُنُوزِ كِسْرَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلْ لَكُمْ مِنْ أَنْمَاطٍ؟ قُلْت: لَا. قَالَ: أَمَا إنَّهَا سَتَكُونُ لَكُمْ الْأَنْمَاطُ» . قَالَ: فَأَنَا أَقُولُ لَهَا - يَعْنِي امْرَأَتَهُ -: أَخِّرِي عَنِّي أَنْمَاطَك. فَتَقُولُ لَهُ: أَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَتَكُونُ لَكُمْ الْأَنْمَاطُ؟ فَأَدَعُهَا. وَالْأَنْمَاطُ ضَرْبٌ مِنْ الْبُسُطِ لَهُ خَمْلٌ رَقِيقٌ. فَفَهِمَ الصَّحَابِيُّ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ الْأَشْرَاطِ الْجَوَازَ أَيْضًا.

فصل ألفاظ الرواة

[فَصْلٌ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ] ِ] وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ فِي الْخَبَرِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ. فَلِلرَّاوِي فِي نَقْلِ مَا سَمِعَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: [رِوَايَةُ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ] أَحَدُهَا: أَنْ يَرْوِيَهُ بِلَفْظِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَيَنْظُرُ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ ابْتِدَاءً أَوْ جَوَابًا، فَإِنْ كَانَ قَالَهُ ابْتِدَاءً وَحَكَاهُ، فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ كَقَوْلِهِ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ، وَإِنْ كَانَ جَوَابًا، فَإِنْ كَانَ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ كَقَوْلِهِ: «الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . فَالرَّاوِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَتَرْكِهِ. فَإِنْ كَانَ مُفْتَقِرًا إلَى ذِكْرِ السُّؤَالِ كَمَا «سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إذَنْ» . فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ، وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ، فَإِذَا نَقَلَ السُّؤَالَ تَعَيَّنَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ، كَمَا «سُئِلَ عَنْ النَّاقَةِ تُذْبَحُ، فَيُوجَدُ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ، فَقَالَ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ

نقل الحديث بالمعنى

ذَكَاةُ أُمِّهِ» ، وَلَوْ قَالَهُ ابْتِدَاءً لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَكَاتُهُ مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِذَكَاةِ أُمِّهِ. فَإِذَا ذَكَرَ السُّؤَالَ صَارَ الْجَوَابُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، فَالْإِخْلَالُ بِالسُّؤَالِ نَقْصٌ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ ذِكْرُهُ. قَالَ: وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَذِكْرُ السَّبَبِ حَسَنٌ. وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ: أَكْثَرُ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ بِسَبَبِ السَّبَبِ. [نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى] [نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى] الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقُرْآنُ، وَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ نَقْلِ لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْإِعْجَازُ. وَالثَّانِي: الْأَخْبَارُ فَيَجُوزُ لِلرَّاوِي نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى، وَإِذَا نَقَلَهَا بِالْمَعْنَى وَجَبَ قَبُولُهُ كَالنَّقْلِ بِاللَّفْظِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبَ عَشَرَةٍ سَتَأْتِي. وَنُقِلَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَكِنْ بِشَرَائِطَ.

[شُرُوطُ جَوَازِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى] أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَارِفًا بِدَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِمَوَاقِعِ الْكَلَامِ امْتَنَعَ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". قَالَ: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": يَجِبُ أَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُرُوفِهِ كَمَا سَمِعَهُ، وَلَا يُحَدِّثَ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ يُحِيلُ الْحَلَالَ إلَى الْحَرَامِ، أَوْ الْحَرَامَ إلَى الْحَلَالِ، وَإِذَا أَدَّاهُ بِحُرُوفِهِ لَمْ نَجِدْ فِيهِ إحَالَةً. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى الْجَاهِلِ. قُلْت: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ ": الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ مَعَ مَا أَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ سَرَدَهُ. قَالَ الْأَصْحَابُ فَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَحْضُرْهُ حِينَئِذٍ لَفْظُ الْحَدِيثِ، فَذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى. وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى عَنْهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ ": يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: صَادَفَ أَوْ قَاصَّ الْغَنَمَ مُجْمِعًا عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَأَنَّقَ فِي نَقْلِ لَفْظِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَخْرُجُ مِنْهُ قَوْلٌ بَيْنَ أَنْ يَقْوَى بِدَلِيلٍ آخَرَ فَيَجُوزُ، وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ. ثَانِيهَا: أَنْ يُبَدِّلَ اللَّفْظَ بِمَا يُرَادِفُهُ كَالْجُلُوسِ بِالْقُعُودِ، وَالِاسْتِطَاعَةِ

بِالْقُدْرَةِ، وَالْعِلْمِ بِالْمَعْرِفَةِ، وَجَعَلَ الْإِبْيَارِيُّ هَذَا مَحَلَّ وِفَاقٍ فِي الْجَوَازِ، وَلَيْسَ كَالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهُ الْإِعْجَازُ، وَشَرْطُ هَذَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى النَّظَرِ فِي التَّرَادُفِ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، فَلَوْ اُحْتِيجَ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا. ثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ التَّرْجَمَةُ مُسَاوِيَةً لِلْأَصْلِ فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، فَيُبْدِلُ اللَّفْظَ بِمِثْلِهِ فِي الِاحْتِمَالِ وَعَدَمِهِ، وَلَا يُبْدِلُ الْأَجْلَى بِالْجَلِيِّ وَعَكْسُهُ، وَلَا الْعَامَّ بِالْخَاصِّ، وَلَا الْمُطْلَقَ بِالْمُقَيَّدِ، وَلَا الْأَمْرَ بِالْخَبَرِ، وَلَا الْعَكْسُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ تَارَةً يَقَعُ بِالْمُحْكَمِ، وَتَارَةً يَقَعُ بِالْمُتَشَابِهِ، لِحِكَمٍ وَأَسْرَارٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا. رَابِعُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا تُعُبِّدَ بِلَفْظِهِ، فَأَمَّا مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهِ بِاللَّفْظِ قَطْعًا، كَأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ. وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ، نَقَلَهُ إلْكِيَا وَالْغَزَالِيُّ، وَأَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُمَا، وَعَبَّرَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ سَامِعَ لَفْظِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَالِمًا بِمَوْضُوعِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي اللِّسَانِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ بِهِ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ، فَإِنْ عُلِمَ تَجَوُّزُهُ بِهِ، وَاسْتَعَارَ تَرْكَهُ، وَجَبَ نَقْلُهُ بِاللَّفْظِ، لِيَنْظُرَ فِيهِ. خَامِسُهَا:: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَابِ الْمُتَشَابِهِ، كَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، أَمَّا هِيَ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى بِالْإِجْمَاعِ، حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ مَا أَطْلَقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ، لَا نَدْرِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ هَلْ يُسَاوِيهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمُشَكِّكُ وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَنْقُلُهُ أَحَدٌ بِالْمَعْنَى؛ لِتَعَذُّرِ نَقْلِهِ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ الْمُجْمَلُ. سَادِسُهَا:: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَإِنْ كَانَ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، «وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» ،

«الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» ، «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ، وَنَحْوُهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَرْكُ جَمِيعِ مَعَانِي جَوَامِعِ الْكَلِمِ. حَكَاهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهَا إذَا كَانَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى كَغَيْرِهِ مِنْ الظَّوَاهِرِ. وَجَعَلَ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَ صُوَرٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُبْدِلَ اللَّفْظَ بِمُرَادِفِهِ كَالْجُلُوسِ بِالْقُعُودِ فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَظُنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ بِذَلِكَ، فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ التَّبْدِيلِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَقْطَعَ بِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَيُعَبِّرَ عَمَّا فَهِمَ بِعِبَارَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ مُتَرَادِفَةً، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْقَطْعُ بِفَهْمِ الْمَعْنَى مُسْتَنِدًا إلَى اللَّفْظِ إمَّا بِمُجَرَّدِهِ أَوْ بِهِ مَعَ الْقَرَائِنِ الْتَحَقَ بِالْمُرَادِفِ، وَكَلَامُ أَبِي نَصْرِ بْنِ الْقُشَيْرِيّ يَدُلُّ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى الْجَوَازِ فِي الْأُولَى، وَعَلَى الْمَنْعِ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْعَبْدَرِيّ فِي شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ": يَجُوزُ لِلْعَالِمِ فِيمَا عَلِمَهُ قَطْعًا لَا فِي عِلْمِهِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَفِي حَقِّ مَنْ يُقَلِّدُهُ مِنْ الْعَوَامّ خَاصَّةً. قَالَ:

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ تَفْسِيرُ مَقَالِ الشَّرْعِ بِلُغَةِ الْعَجَمِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ لَهُمْ. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ حَتَّى يَنْقُلَ إلَيْهِ لَفْظَ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَبِلَهُ بِالْمَعْنَى صَارَ مُقَلِّدًا، وَفِي الصَّحَابِيِّ إذَا نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى فَلَا فَرْقَ. اهـ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا، بَلْ يَجِبُ نَقْلُ اللَّفْظِ بِصُورَتِهِ، سَوَاءٌ الْعَالِمُ وَغَيْرُهُ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ، وَأَهْلِ التَّحَرِّي فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ: إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ مُعْظَمِ الْمُحَدِّثِينَ، وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ. وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ ابْنُ سِيرِينَ، وَبِهِ أَجَابَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَوَهَمَ صَاحِبُ " التَّحْصِيلِ "، فَعَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ ثَعْلَبٍ مِنْ النَّحْوِيِّينَ، أَيْ لِأَجْلِ إنْكَارِ أَصْلِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُنْقَلُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَعْنَى، بِخِلَافِ حَدِيثِ النَّاسِ، لَكِنْ قَالَ الْبَاجِيُّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ، فَقَدْ نَجِدُ الْحَدِيثَ عَنْهُ تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ اخْتِلَافًا بَيِّنًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْعَالِمِ النَّقْلُ عَلَى الْمَعْنَى.

وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، فَالْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْهَا، فَمِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِلَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ، «خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» . حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ بِكُلِّ حَالٍ. الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا، فَيَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا مَجَالٌ، فَلَمْ يَجُزْ إلَّا أَدَاءُ اللَّفْظِ، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَجَرَى عَلَيْهِ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ. وَالْخَامِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَحْفَظَ اللَّفْظَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ مِنْ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ اللَّفْظَ جَازَ أَنْ يُورِدَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ تَحَمَّلَ أَمْرَيْنِ: اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى. فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُمَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ اللَّفْظِ وَقَدَرَ عَلَى الْمَعْنَى لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ. وَبِهَذَا الْقَوْلِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " وَجَعَلَ الْخِلَافَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. قَالَ: أَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، فَيَجُوزُ رِوَايَتُهُمَا بِالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ» ، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ. وَقَوْلُهُ: «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَا: فَهَذَا جَائِزٌ يَعْنِي بِلَا

خِلَافٍ؛ لِأَنَّ " افْعَلْ " أَمْرٌ، وَ " لَا تَفْعَلْ " نَهْيٌ، فَيَتَخَيَّرُ الرَّاوِي بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ خَفِيَّ الْمَعْنَى مُحْتَمِلًا، كَقَوْلِهِ: «لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ» ، وَجَبَ نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ، وَلَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِغَيْرِهِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ جَلِيًّا وَلَا خَفِيًّا إلَّا لِلْمَصْلَحَةِ، وَلِيَكِلَ اسْتِنْبَاطَهُ إلَى الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ مِنْ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُغَيِّرَ لَفْظَهُ، وَيَنْقُلَ مَعْنَاهُ. وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ شَاهَدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْ يُورِدَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ لَفْظِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِفَحْوَاهُ مِنْ غَيْرِهِ. اهـ. وَحَاصِلُهُ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالصَّحَابِيِّ، وَبِالْجَلِيِّ مِنْ غَيْرِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْجَزْمُ فِي الْجَلِيِّ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ غَرِيبٌ لَكِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي عُلَمَائِنَا: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالنَّظَرِ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِتَسَاوِيهِمْ فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْجِبِلِّيَّةِ الذَّوْقِيَّةِ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذْ الطِّبَاعُ قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَالْفُهُومُ قَدْ تَبَايَنَتْ، وَالْعَوَارِفُ قَدْ اخْتَلَفَتْ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. اهـ. وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ مَذْهَبٌ آخَرُ هُوَ السَّابِعُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.

وَالثَّامِنُ: إنْ كَانَ مُحْكَمًا فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى إلَّا لِلْعَارِفِ بِاللُّغَةِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا يَحْتَمِلُ الْغَيْرَ كَعَامٍّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ، أَوْ حَقِيقَةٍ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ جَازَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فَقَطْ. وَإِنْ كَانَ وَجَبَّارُ أَوْ مُشْتَرَكًا فَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا النَّقْلُ بِالْمَعْنَى أَصْلًا، إذْ الْمُرَادُ بِهِمَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ. وَأَمَّا الْمُجْمَلُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَالْمُتَشَابِهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّا اُبْتُلِينَا بِالْكَفِّ عَنْ طَلَبِ الْمَعْنَى فِيهِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى: قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ. قَالَ: وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ كَقَوْلِهِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، وَ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَنَحْوُهُ، فَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا نَقْلَهُ بِالْمَعْنَى بِالشَّرْطِ السَّابِقِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِاخْتِصَاصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا النَّظْمِ، وَكَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا) ، وَذَكَرَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي كِتَابِهِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ: اللَّفْظُ الْمَسْمُوعُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تَأْوِيلَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَقْرَبْ كَذَا، وَافْعَلْ كَذَا، فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ، يَنْكَرُهُمَا وَقَعَدَ، وَقَامَ وَمَضَى، وَذَهَبَ وَصَبَّ، وَأَرَاقَ، وَهَذَا يَجُوزُ تَأْدِيَتُهُ بِالْمَعْنَى. وَالثَّانِي: مُودَعٌ فِي جُمْلَةٍ لَا يَفْهَمُ الْعَامِّيُّ إلَّا بِأَدَاءِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَيَكُونُ الِاحْتِمَالُ فِيمَا يَظُنُّهُ الْحَاكِي قَائِمًا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِاللَّفْظِ الْمُتَعَلَّقِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْمَعْنَى إلَى لَفْظٍ آخَرَ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَا يُقْبَلُ خَبَرٌ حَتَّى يَكُونَ رَاوِيهِ عَدْلًا عَاقِلًا مُمَيِّزًا بَيْنَ الْمَعَانِي، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا بَيْنَ الْمَعَانِي فَحُكْمُهُ فِي الْأَدَاءِ عَلَى

ينقص الراوي من لفظ الحديث ويحذفه

الْأَلْفَاظِ، وَكُلُّ مَنْ أَدَّى إلَيْنَا شَيْئًا قَبِلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَفْظُ الْمَحْكِيِّ عَنْهُ، حَتَّى عَلِمْنَا أَنَّهُ حُكِيَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ حَدِيثٍ يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيُحْذَفُ فَيَذْهَبُ مَعْنَاهُ. اهـ. وَالتَّاسِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يُورِدَهُ عَلَى قَصْدِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالْفُتْيَا، فَيَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ بِالْمَعْنَى، إذَا كَانَ عَارِفًا بِمَعْنَاهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ التَّبْلِيغَ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ، وَيَتَعَيَّنُ اللَّفْظُ لِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، «وَآمَنْتُ بِرَسُولِك الَّذِي أَرْسَلْتَ» قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِحْكَامِ ". وَالْعَاشِرُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الطِّوَالِ، فَيَجُوزُ فِيهَا الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى بِشَرْطِهِ، دُونَ الْقِصَارِ. حَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ، ثُمَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ خَصَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَوَّزَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى فِي كَلَامِ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الْإِشْكَالِ " عَنْ مَالِكٍ تَجْوِيزَهُ فِي حَدِيثِ النَّاسِ، وَمَنْعَهُ فِي كَلَامِ النُّبُوَّةِ. فَرْعٌ إذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ وَرُوِيَ بِالْمَعْنَى لَا تَسْقُطُ رِوَايَتُهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اخْتِلَافٍ وَاجْتِهَادٍ، فَلَا تَسْقُطُ بِهِ الرِّوَايَةُ، قَالَهُ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ". [يُنْقِصَ الرَّاوِي مِنْ لَفْظِ الْحَدِيث وَيَحْذِفَهُ] الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُنْقِصَ مِنْ لَفْظِهِ وَيَحْذِفَهُ، فَيُنْظَرُ إنْ تَعَلَّقَ بِهِ الْمَحْذُوفُ تَعَلُّقًا لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا لَمْ يَجُزْ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَالتَّعَلُّقُ اللَّفْظِيُّ كَالتَّقْيِيدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَالصِّفَةِ. وَالْمَعْنَوِيِّ كَمَا إذَا كَانَ الْمُتَعَلَّقُ مَذْكُورًا بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، لَا يَتَعَلَّقُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ بِهَا،

كَمَا فِي بَيَانِ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ، وَبَيَانِ الْمُجْمَلِ بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَكَلَامِ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ فَيَنْقُصُ عَنْ الْخِلَافِ الْآتِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَعَلَى الْخِلَافِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، فَالْمَانِعُونَ ثَمَّ مَنَعَ أَكْثَرُهُمْ هَاهُنَا، وَأَمَّا الْمُجَوَّزُونَ ثَمَّ فَاخْتَلَفُوا هَاهُنَا عَلَى أَقْوَالٍ. [الْمَذَاهِبُ فِي جَوَازِ حَذْفِ شَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ] أَحَدُهَا: أَنَّهُ إنْ كَانَ نَقَلَ ذَلِكَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مَرَّةً بِتَمَامِهِ، جَازَ أَنْ يَنْقُلَ الْبَعْضَ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ، هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَغَيْرُهُمَا، وَقَيَّدَ الْغَزَالِيُّ الْجَوَازَ فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ بِأَنْ لَا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِ سُوءُ الظَّنِّ بِالتُّهْمَةِ بِاضْطِرَابِ النَّقْلِ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَمْ لَا، كَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ "، وَكَذَا الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَهُوَ يُعَكِّرُ عَلَى مَا حَكَيَاهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ أَوَّلًا، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُجَوِّزَ حَذْفَ الْغَايَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاقْتِصَارَ عَلَى أَصْلِ الْكَلَامِ، وَحَكَى سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ طَرِيقَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: إجْرَاءُ خِلَافِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى. وَالثَّانِيَةُ: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، قَالَ: وَهِيَ الْمَذْهَبُ. قَالَ: أَمَّا إذَا رَوَى بَعْضَ الْخَبَرِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَهُ بِتَمَامِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُفْهَمُ بِأَنَّهُ زَادَ فِي حَدِيثِهِ قُبِلَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ كَانَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِهِ الزِّيَادَةَ وَكِتْمَانِهَا.

وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": مَتَى خَافَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّمَامِ أَنَّهُ إذَا رَوَاهُ مَرَّةً نَاقِصًا أَنْ يُتَّهَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ رِوَايَتُهُ عَلَى التَّمَامِ، دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ التُّهْمَةَ الْمُسْقِطَةَ لِلرِّوَايَةِ. وَشَرَطَ أَيْضًا لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُتَذَكِّرًا لِتَمَامِهِ، فَإِنْ خَافَ غَفْلَتَهُ أَوْ نِسْيَانَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا رِوَايَتُهُ تَامًّا. قَالَ: فَإِنْ شَارَكَهُ فِي السَّمَاعِ غَيْرُهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ؛ لِئَلَّا يُفْسِدَ عَلَى السَّامِعِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ إلَّا تَامًّا. وَالثَّالِثُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا. وَالرَّابِعُ: الْحَدِيثُ إنْ كَانَ مَشْهُورًا بِتَمَامِهِ جَازَ نَقْلُ بَعْضِهِ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ". وَالْخَامِسُ: إنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ فَقِيهًا جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ فَقِيهٍ امْتَنَعَ. قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، فِي كِتَابَيْهِمَا. قَالَا: وَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِالْبَعْضِ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إلَى آيَةِ الْكَلَالَةِ. فَقَالَ: تَكْفِيَك آيَةُ الصَّيْفِ» ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا كِفَايَةٌ لَمَا وَكَّلَهُ إلَيْهَا. وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ فِي حَدِيثِ الْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ، وَلِحَدِيثِ «ابْنِ مَسْعُودٍ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَرَمَى الرَّوْثَةَ وَتَرَكَ نَقْلَ الْحَجَرِ الْآخَرِ اكْتِفَاءً» ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مُسْنَدًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ائْتِنِي

بِحَجَرٍ ثَالِثٍ» . وَكَذَا قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ حُكْمًا مُتَمَيِّزًا عَمَّا قَبْلَهُ، وَالنَّاقِلُ فَقِيهٌ عَالِمٌ بِوَجْهِ التَّمْيِيزِ فَيَجُوزُ، كَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَحَيْثُ لَمْ يَنْقُلْ الْحَجَرَ الثَّالِثَ كَانَ مَقْصُودُهُ مَنْعَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مُرَاعَاةَ الْعَدَدِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ نَقْلُ جَمِيعِهِ. وَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ ظَاهِرُ حَالِهِ الِاعْتِنَاءُ بِنَقْلِهِ وَاسْتِيفَاءُ رِوَايَتِهِ، فَظَاهِرُ حَالِهِ أَنْ لَا يَنْقُلَ سِوَاهُ كَقَضِيَّةِ مَاعِزٍ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ اسْتَوْفَاهَا وَلَمْ يَذْكُرْ رَجْمَهُ. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَسْأَلَةُ نَقْلِ الْخَبَرِ بِالْمَعْنَى فِي الْمَأْخَذِ وَالْمَنْشَأِ سَوَاءٌ، وَقَدْ يَنْتَهِي الْأَمْرُ فِيهِمَا إلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ الرَّاوِي الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا كَمَا يُسَوَّى بَيْنَ الرَّاوِي الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَهُ نَاقِصًا لِمَنْ رَوَاهُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ تَامًّا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ حَافِظٌ لِتَمَامِهِ، فَيَذْكُرُ لَهُ، فَإِنْ بَانَتْ غَفْلَتُهُ وَنِسْيَانُهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا رِوَايَتُهُ عَلَى الْكَمَالِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: إنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مُسْتَقِلًّا بِمَفْهُومِ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ: «الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ، فَيَجُوزُ لَهُ رِوَايَةُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَا عَلَيْهِ لِلْإِبْلَاغِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَيَلْزَمُهُ الْجَمْعُ، كَالشَّهَادَةِ. فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، فَلَا يَجُوزُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لِتَتِمَّ فَائِدَةُ الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْمَتْرُوكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ: «أَعِدْ أُضْحِيَّتَك، فَقَالَ: لَيْسَ عِنْدِي إلَّا جَذَعَةٌ مِنْ الْمَعْزِ،

فَقَالَ: تُجْزِئُكَ، وَلَمْ تُجْزِئْ لِأَحَدٍ بَعْدَك» ، فَلَوْ رَوَى أَنَّهُ قَالَ: يُجْزِئُك، لَفُهِمَ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ. اهـ. وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ اخْتِصَارِهِ بِشَرْطِ الِاسْتِقْلَالِ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ فِي صِفَةِ الْحَجِّ، سَاقَهُ جَابِرٌ سِيَاقًا وَاحِدًا عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى أَنْ دَخَلَهَا. ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد عَلَى هَذَا السِّيَاقِ، وَجَزَّأَهُ مَالِكٌ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى الْأَبْوَابِ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: هُوَ عِنْدِي جَائِزٌ، إذَا كَانَ مُفِيدًا وَمُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ وَغَيْرَ مُحْتَاجٍ فِي فَهْمِهِ إلَى مَا قَبْلَهُ، أَوْ كَانَ لَيْسَ يُوجِبُ صِدْقَ مَا حُذِفَ مِنْهُ، تَرَدَّدَ الْمَفْهُومُ عَنْهُ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَسَوَاءٌ جَوَّزْنَا الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى أَوْ لَا، وَاسْتَحْسَنَهُ الْعَبْدَرِيّ. أَمَّا إذَا كَانَ تَرْكُ بَعْضِهِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ بَيَانِ مَا أَوَّلَهُ، وَيُوهِمُ مِنْهُ شَيْئًا يَزُولُ بِذِكْرِ الزِّيَادَةِ لَمْ يَجُزْ حَذْفُهَا، مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ: نَقَلَ بَعْضُ النَّقَلَةِ عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ يَسْتَنْجِي، فَرَمَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: إنَّهَا رِكْسٌ» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَمَى الرَّوْثَةَ، ثُمَّ قَالَ: ابْغِ لَنَا ثَالِثًا، وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الثَّالِثِ لَيْسَ يُخِلُّ بِذِكْرِ رَمْيِ الرَّوْثَةِ وَبَيَانِ أَنَّهَا رِكْسٌ، لَكِنْ يُوهِمُ النَّقْلُ كَذَلِكَ جَوَازُ الِاسْتِنْجَاءِ بِحَجَرَيْنِ، وَقَالَ

فرع الخبر الذي فيه لفظ يفيد التأكيد لا يجوز إسقاطه

الشَّافِعِيُّ: فَلَا يَجُوزُ مَعَ هَذَا الْإِيهَامِ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْمُقْتَصِرِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ الزِّيَادَةُ. وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُ الرَّاوِي مَنْعَ اسْتِعْمَالِ الرَّوْثِ، فَيَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ. وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، بِأَنَّ الْإِيهَامَ حَاصِلٌ، وَإِنْ قَصَدَ الرَّاوِي مَنْعَ اسْتِعْمَالِ الرَّوْثِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) » وَفِي رِوَايَةٍ لَمْ يُنْقَلْ إلَّا الرَّجْمُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَتَلَقَّى سُقُوطَ الْجَلْدِ عَنْ الثَّيِّبِ مِنْ اقْتِصَارِ الرَّاوِي إذْ يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَاسْتَحْضَرَ الرَّاوِي الرَّجْمَ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَضِيَّةِ مَاعِزٍ، وَفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَمَّا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى الزَّوَائِدِ مِنْ الْحُرُوفِ الَّتِي لَا تُغَيِّرُ الْمَعْنَى وَكَانَ عَالِمًا بِمَصَادِرِ الْكَلَامِ وَمَوَارِدِهِ جَازَ إنْ قُلْنَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَلَا. قَالَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". [فَرْعٌ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ لَفْظٌ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ] ُ] أَطْلَقَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْخَبَرِ لَفْظٌ لَا يُفِيدُ إلَّا التَّأْكِيدَ لَمْ يَجُزْ لِلرَّاوِي إسْقَاطُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا ذَكَرَهُ إلَّا لِفَائِدَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ.

تنبيه الجزم بمنع حذف الصفة مشكل

[تَنْبِيهٌ الْجَزْمُ بِمَنْعِ حَذْفِ الصِّفَةِ مُشْكِلٌ] ٌ] مَا جَزَمُوا بِهِ مِنْ مَنْعِ حَذْفِ الصِّفَةِ مُشْكِلٌ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ نَظِيرُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا} [الحجر: 65] وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ. وَكَذَلِكَ، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فِي سُبْحَانَ، وَفِي الْحِجْرِ، {إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ} [الحجر: 42] وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] فَقَدْ يُقَالُ: إنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ حَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْخَبَرِ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَحْذُوفِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي آلِ عِمْرَانَ {إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] وَجَوَابُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ الرَّمْزَ لَيْسَ بِكَلَامٍ، فَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ إطْلَاقِ امْتِنَاعِ حَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمُتَّصِلِ. [فَائِدَةٌ هَلْ يَجُوزُ إسْقَاطُ حَرْفِ الْعَطْفِ مِنْ الْآيَةِ عِنْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا] ؟] وَقَعَ الْبَحْثُ فِي أَنَّهُ إذَا اسْتَدَلَّ بِآيَةٍ، هَلْ يَجُوزُ تَغْيِيرُ لَفْظِهَا بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِدُونِهِ؟ ظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْفُقَهَاءِ جَوَازُهُ، فَفِي " الْوَسِيطِ " فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] ، وَفِي كِتَابِ الْبَيْعِ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ» وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ: «إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» ) وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِفْتَاحِ: (وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ) .

يزيد الراوي في لفظ الحديث

[يَزِيدَ الرَّاوِي فِي لَفْظِ الْحَدِيث] الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَزِيدَ فِي لَفْظِهِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ شَرْطًا [لِبَيَانِ] الْحَالِ كَنَهْيِهِ عَنْ تَلَقِّي الرَّكْبَانِ، وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ، فَيَزِيدُ ذِكْرُ السَّبَبِ الَّذِي دَعَاهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ: فَهَذَا يَجُوزُ مِنْ الصَّحَابِيِّ؛ لِمُشَاهَدَةِ الْحَالِ وَلَا يَجُوزُ مِنْ التَّابِعِيِّ، وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ، كَنَهْيِهِ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، فَيُفَسَّرُ مَعْنَاهَا فِي رِوَايَتِهِ، قَالَا: فَيَجُوزُ ذَلِكَ لِلصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ، لَكِنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ يَلْزَمُ فِيهِ قَوْلُهُ، بِخِلَافِ تَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ. قَالَا: وَإِنْ خَرَجَتْ الزِّيَادَةُ عَنْ شَرْحِ السَّبَبِ، وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى، فَلَا يَجُوزُ، وَهِيَ كَذِبٌ صَرِيحٌ. اهـ. [مَسْأَلَةٌ فِي الرَّجُلِ يَرْوِي خَبَرًا فَيَجْتَهِدُ فِيهِ] ِ] كَقَوْلِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ: فَلَوْ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: فَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إلَى الْمَسْحِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيَّ

الراوي يسمع الحديث ملحونا أو محرفا

قَالَ: رَجَعَ الشَّافِعِيُّ بِبَغْدَادَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى مِصْرَ عَنْ الْمَسْحِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَقَالَ: إنَّهُ يُؤَقِّتُ حِينَئِذٍ، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَبَرِ الْمُؤَقَّتِ. وَقَوْلُ خُزَيْمَةَ لَوْ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا، ظَنٌّ مِنْهُ أَنْ يَزِيدَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَزِيدَ. [الرَّاوِي يَسْمَع الْحَدِيث مَلْحُونًا أَوْ مُحَرَّفًا] الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَسْمَعَهُ مَلْحُونًا أَوْ مُحَرَّفًا فَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعَهُ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ، مِمَّنْ مَنَعَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى. وَالثَّانِي: أَنْ يُغَيِّرَهُ وَيُصْلِحَهُ لِلصَّوَابِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إنَّهُ مَذْهَبُ الْمُحَصِّلِينَ وَالْعُلَمَاءِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ سَائِغٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ لُغَةِ قُرَيْشٍ لَمْ يُغَيِّرْ وَإِلَّا غَيَّرَهُ، حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الْإِلْمَاعِ " عَنْ النَّسَائِيّ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِحْكَامِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَرْوِيهِ أَصْلًا، لَا عَلَى الصَّوَابِ، وَلَا عَلَى الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ الشَّيْخِ عَلَى الصَّوَابِ، وَلِعِصْمَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ اللَّحْنِ،

مسألة إذا عمل الصحابي بخلاف حديث رواه

وَهَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَحَدِ سَلَاطِينِ الْعُلَمَاءِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا عَمِلَ الصَّحَابِيُّ بِخِلَافِ حَدِيثٍ رَوَاهُ] ُ فَلَهُ أَحْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَامًّا فَيَخُصَّهُ بِأَحَدِ أَفْرَادِهِ وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ بِفُرُوعِهَا فِي بَابِ التَّخْصِيصِ. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، فَيُقَيِّدَهُ، وَهُوَ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِلَا فَرْقٍ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَدَّعِيَ نَسْخَهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي آخَرِ بَابِ النَّسْخِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ، فَيَحْمِلُهُ الرَّاوِي عَلَى أَحَدِهِمَا، فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ فُورَكٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " أَنَّهُ يُنْظَرُ، فَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا رَجَعَ إلَيْهِ فِيهِ، وَلِهَذَا رَجَعَ الشَّافِعِيُّ إلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ التَّفَرُّقُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالْأَبْدَانِ، وَكَتَفْسِيرِهِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ بِبَيْعِهِ إلَى نِتَاجِ النَّتَاجِ، وَكَفِعْلِ عُمَرَ فِي هَاءٍ وَهَاءٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا تُفَارِقُهُ وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ:

«الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» عَلَى الْمَجْلِسِ دُونَ الْمُقَايَضَةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَتَوَقَّفَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي، " اللُّمَعِ ". هَذَا إنْ كَانَ صَحَابِيًّا، فَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا لَمْ يَلْزَمْ كَمَا سَبَقَ، وَقِيلَ: لَا فَرْقَ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَافَيَا فَكَالْمُشْتَرَكِ فِي حَمْلِهِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، وَإِنْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَهُمَا كَتَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَقْدِرُوا لَهُ» ، عَادَةُ الشُّهُورِ مِنْ تِسْعِ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ، فَأَوْجَبَ صِيَامَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إذَا لَمْ يُرَ الْهِلَالُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً، وَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ الشَّافِعِيُّ إلَى تَفْسِيرِهِ ذَلِكَ وَأَوْجَبَ اسْتِكْمَالَ الثَّلَاثِينَ سَوَاءٌ اللَّيْلَةَ الْمُغَيِّمَةَ أَوْ الْمُصْحِيَةَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَقُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا، بَلْ جَاءَتْ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا مُصَرِّحَةً بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ، كَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِكْمَالُهُنَّ ثَلَاثِينَ لَا الْعِدَّةُ الْمُعْتَادَةُ. وَأَطْلَقَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ أَنَّ تَأْوِيلَ الرَّاوِي أَوْلَى لِمُشَاهَدَةِ الْحَالِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَالْحُكْمُ لِلدَّلِيلِ، كَمَا أَوْصَى أَبُو سَعِيدٍ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثِيَابٍ جُدُدٍ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُحْشَرُ الْمُؤْمِنُ فِي ثَوْبِهِ» يُوَجَّهُ تَأْوِيلُهُ إلَى الثِّيَابِ، ثُمَّ إنَّ الدَّلِيلَ قَامَ عَلَى خِلَافِهِ مِنْ قَوْلِهِ: «يُحْشَرُ النَّاسُ عُرَاةً، فَأَوَّلُ مَنْ يَلْبَسُ إبْرَاهِيمُ» فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّوْبِ فِي الْحَدِيثِ الْعَمَلُ

مِنْ صَالِحٍ أَوْ طَالِحٍ. قَالَ: وَإِنَّمَا جَعَلَ تَأْوِيلَ الرَّاوِي أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ مِنْ الْأَمَارَاتِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى حِكَايَتِهِ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ أَوْلَى، فَإِذَا انْكَشَفَ خِلَافُهُ صِرْنَا إلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: رُبَّمَا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَسْمَعُ سَبَبَهُ، أَوْ يَسْمَعُ آخِرَ كَلَامِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهُ، وَعَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَحْكِيَ مَا سَمِعَ حَتَّى يَسْمَعَ خِلَافَهُ. اهـ. قَالَ الْآمِدِيُّ: إذَا حَمَلَ الصَّحَابِيُّ مَا رَوَاهُ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ ظَاهِرٌ فِي جَمِيعِ مَحَامِلِهِ كَالْعَامِّ، فَتَعُودُ الْمَسْأَلَةُ إلَى التَّخْصِيصِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَإِنْ قُلْنَا بِامْتِنَاعِ حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي وُجُوبِ حَمْلِ الْخَبَرِ عَلَى مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الرَّاوِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ بِقَصْدِ التَّشْرِيعِ وَتَعْرِيفِ الْأَحْكَامِ، وَيُخَلِّيهِ عَنْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ تُعَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ، وَالصَّحَابِيُّ الرَّاوِي الْمَشَاهِدُ لِلْحَالِ أَعْرَفُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِمَالِ أَنَّ تَعْيِينَهُ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ تَعْيِينِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، حَتَّى يُنْظَرَ فِيهِ، فَإِنْ انْقَدَحَ لَهُ وَجْهٌ يُوجِبُ تَعْيِينَ غَيْرِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَإِلَّا فَتَعْيِينُ الرَّاوِي صَالِحٌ لِلتَّرْجِيحِ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ. اهـ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَعْيِينَ الصَّحَابِيِّ الْمَشَاهِدِ لِلْحَالِ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ شَاهَدَهَا، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الظَّاهِرِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ مَا تَرَجَّحَ عَلَيْهِ لَا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُحْتَمِلًا. وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا نَقَلَ خَبَرًا وَأَوَّلَهُ، وَذَكَرَ مُجْمَلَهُ فَتَأْوِيلُهُ مَقْبُولٌ. قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَإِنَّمَا أَرَادَ فِيمَا أَظُنُّ إذَا أَوَّلَ الصَّحَابِيُّ أَوْ خَصَّصَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ دَلِيلٍ، وَإِلَّا فَالتَّأْوِيلُ الْمُعْتَضِدُ بِالدَّلِيلِ مَقْبُولٌ مِنْ كُلِّ إنْسَانٍ؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلدَّلِيلِ لَا اتِّبَاعُ ذَلِكَ الْمُؤَوَّلِ.

وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ ": ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى تَعْيِينِ تَأْوِيلِ الرَّاوِي وَحَكَوْهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَبَنَى عَلَيْهِ مَنْعَ التَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ، لِقَوْلِ خُزَيْمَةَ: لَوْ مَضَى السَّائِلُ فِي مَسْأَلَتِهِ لَجَعَلَهَا خَمْسًا، فَقَالُوا: هَذَا ظَنٌّ، وَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَبَرِ. فَقَالَ: وَالصَّحِيحُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ قَصْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُعْلَمُ مَا لِأَجْلِهِ صَارَ إلَى ذَلِكَ سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا طَرِيقُهُ الِاسْتِدْلَال لَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا طَرِيقُهُ اللُّغَةُ دُونَ الْأَحْكَامِ، فَيَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ؛ لِكَوْنِ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ. اهـ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ حَسَنٌ. خَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ ظَاهِرًا فِي شَيْءٍ، فَيَحْمِلُهُ الصَّحَابِيُّ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، إمَّا بِصَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ، أَوْ بِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ أَوْ عَنْ التَّحْرِيمِ إلَى الْكَرَاهَةِ. فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلَا يُخْرَجُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ عَمَلِ الصَّحَابِيِّ، وَقَوْلُهُ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَابْنُ فُورَكٍ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَفِيهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَيْفَ أَتْرُكُ الْخَبَرَ لِأَقْوَالِ أَقْوَامٍ لَوْ عَاصَرْتُهُمْ لَحَجَجْتُهُمْ [بِالْحَدِيثِ] . وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ الرَّاوِي فِي ذَلِكَ لِمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرَكَ إلَّا بِشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ، وَالْقَرَائِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلِاجْتِهَادِ مَسَاغٌ فِي ذَلِكَ اُتُّبِعَ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِضَرْبٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتِهَادُهُ مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ

الْأَمْرِ، فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ بِالْمُحْتَمَلِ. حَكَاهُ عَنْهُمْ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ". وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ: إنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ سِوَى عِلْمِهِ بِقَصْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ التَّأْوِيلِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ، بَلْ جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَارَ إلَيْهِ لِدَلِيلٍ ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ، وَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَضِيًا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَإِلَّا عُمِلَ بِالْخَبَرِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمُخَالَفَةِ الصَّحَابِيِّ أَثَرٌ. سَادِسُهَا: أَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ بِتَرْكِ الْحَدِيثِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْوُلُوغُ سَبْعًا، وَرَأْيُهُ بِالثَّلَاثِ وَهَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ مِثَالًا لِتَخْصِيصِ الرَّاوِي عُمُومَ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْعَدَدِ نُصُوصٌ لَا تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَتِهِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الْأَئِمَّةِ دَلَّ عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ أَنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا نِسْيَانَهُ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ، أَوْ فَرَضْنَا مُخَالَفَةً لِخَبَرٍ لَمْ يَرْوِهِ، وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ، فَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ، فَإِنْ رَوَى خَبَرًا مُقْتَضَاهُ رَفْعُ الْحَرَجِ، وَالْحَرَجُ فِيمَا سَبَقَ مِنْهُ تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ يَتَحَرَّجُ، فَالِاسْتِمْسَاكُ بِالْخَبَرِ أَيْضًا، وَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَرَعِ. وَإِنْ نَاقَضَ عَمَلُهُ رِوَايَتَهُ، وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا فِي الْجَمْعِ، امْتَنَعَ التَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَتَعَمَّدَ مُخَالَفَةَ مَا رَوَاهُ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ يُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّ

الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ، كَمَا صَارَ إلَيْهِ ابْنُ أَبَانَ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ شَيْئًا اقْتَضَى تَرْكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، وَيُتَّجَهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ ثَمَّ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ، لَوَجَبَ عَلَى هَذَا الرَّاوِي أَنْ يُبَيِّنَهُ، إذْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِ مَا عَلَيْهِ مَدَارُ الْأَمْرِ، وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ الِالْتِبَاسِ، ثُمَّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّحَابِيِّ، بَلْ لَوْ رَوَى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ خَبَرًا عَمِلَ بِخِلَافِهِ، فَالْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ. وَلَكِنْ قَدْ اعْتَرَضَ الْأَئِمَّةَ أُمُورٌ أَسْقَطَتْ آثَارُ أَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةَ لِرِوَايَتِهِمْ، وَهَذَا كَرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى مُخَالَفَتِهِ، فَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِهِ تَقْدِيمُ الرَّأْيِ عَلَى الْخَبَرِ، فَمُخَالَفَتُهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى قِيَاسِهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ. وَلِهَذَا قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ، وَكَرِوَايَةِ مَالِكٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ لَا تَقْدَحُ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا فِيمَا أَظُنُّ تَقْدِيمُهُ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّاوِي يَرْوِي ثُمَّ يُخَالِفُ، بَلْ تَجْرِي فِيمَنْ يَبْلُغُهُ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُخَالِفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ الْخَبَرِ، حَتَّى إذَا وَجَدْنَا مَحْمَلًا وَقُلْنَا: إنَّمَا خَالَفَ؛ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ الرَّاوِيَ فَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يُتَّجَهُ وَجْهٌ لِمُخَالَفَتِهِ إلَّا وَلَهَا الْحَدِيثُ أَوْ الْمَصِيرُ إلَى اسْتِخْفَافِهِ بِالْخَبَرِ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا قَدْحٌ فِي الْخَبَرِ، وَعُلِمَ بِضَعْفِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا رَوَى الرَّاوِي خَبَرًا، وَكَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يُحِطْ بِمَعْنَاهُ، فَمُخَالَفَتُهُ لِلْخَبَرِ لَا تَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ نَاسٍ لِلْخَبَرِ، أَوْ ذَاكِرٌ لِمَا يُحْمَلُ بِخِلَافِهِ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْنُ عَلَى تَرَدُّدٍ

فِيمَا يَدْفَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ، فَلَا يُدْفَعُ الْأَصْلُ بِهَذَا التَّرَدُّدِ، بَلْ إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ خَالَفَ الْحَدِيثَ قَصْدًا وَلَمْ يَتَحَقَّقْهُ، فَهَذَا يُعَضِّدُ التَّأْوِيلَ، وَيُؤَيِّدُهُ وَيَحُطُّ مَرْتَبَةَ الظَّاهِرِ، وَيَخِفُّ الْأَمْرُ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي عَضَّدَهُ التَّأْوِيلُ. قَالَ: وَلَوْ رَوَى خَبَرًا، ثُمَّ فَسَقَ، وَفِي زَمَانِ الْفِسْقِ خَالَفَ مَا رَوَاهُ، فَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مُجُونِهِ، لَا عَلَى أَنَّهُ يَعْرِفُ ضَعْفَ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا رَوَى وَخَالَفَ مَا رَوَى قَصْدًا، دَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْوَحْيَ، وَعَرَفُوا مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا لَمْ نَعْرِفْهُ. فَأَمَّا الْإِمَامُ الْآنَ إذَا خَالَفَ خَبَرًا رَوَاهُ، وَقَدْ عَمِلَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ، فَهَذَا الْخِلَافُ لَا يَقْدَحُ فِيهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَإِذَا كُنَّا نَقُولُ: إذَا وَرَدَ خَبَرٌ، ثُمَّ خَالَفَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مَعَ ذِكْرِهِ لَهُ، وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا يُقَوِّي ضَعْفَ الْحَدِيثِ أَوْ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا، فَلَا عَمَلَ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، فَلَوْ خَالَفَ أَقْضِيَةَ الصَّحَابَةِ أَوْ أَئِمَّةَ أَيِّ عَصْرٍ - فَرَضْنَا - الْخَبَرَ وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا مِمَّا ذَكَرْنَا، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا يَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ إذْ لَا مَحْمَلَ لِتَرْكِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ إلَّا الِاسْتِهَانَةُ، وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِهِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا، وَلَيْسَ بَيْنَ التَّقْدِيرَيْنِ ثَالِثٌ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ تَنْزِيهِهِمْ عَنْ الِاسْتِهَانَةِ بِالْخَبَرِ. فَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى عِلْمِهِمْ بِوُرُودِ النَّسْخِ، وَلَيْسَ هَذَا تَقْدِيمًا لِأَقْضِيَتِهِمْ عَلَى الْخَبَرِ، بَلْ هُوَ اسْتِمْسَاكٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ حَمْلِ عَمَلِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فِي الصَّوَابِ، فَكَانَ تَعَلُّقًا بِالْإِجْمَاعِ فِي مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ. وَمِنْ بَدِيعِ الْأَمْرِ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إذَا نُقِلَ مُفْرَدًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا نُقِلَ فِي مُعَارَضَةِ خَبَرٍ نَصَّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، تَعَيَّنَ التَّعَلُّقُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا تَعَلُّقًا بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، بَلْ

هُوَ تَعَلُّقٌ بِمَا عَنْهُ صَدَرَ مَذْهَبُهُ، وَلِهَذَا طَرْدَنَا هَذَا الْكَلَامَ فِي أَمْرِ كُلِّ عَصْرٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِجْمَاعِ: إنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ لَا يُجْمِعُونَ فِي مَظْنُونٍ عَنْ مَسْلَكٍ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ. وَحَمَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ إذْ قَالَ: التَّعْوِيلُ عَلَى الْخَبَرِ لَا عَلَى خِلَافِ الرَّاوِي عَلَى مَا لَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الرَّاوِيَ كَانَ نَاسِيًا لِلْخَبَرِ، أَوْ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ قَصَدَ الْخِلَافَ عَنْ تَعَمُّدٍ، فَإِنَّ الْخَبَرَ مُقَدَّمٌ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَأَمَّا إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْخَبَرَ بَلَغَهُمْ، وَلَكِنْ عَمِلُوا بِخِلَافِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعَلُّقَ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ، فَلَا يَتْرُكُهُ لِشَيْءٍ تَرَدَّدَ فِيهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِي كِتَابِ التَّرْجِيحِ هَذَا، وَقَالَ: إنْ لَمْ نَجِدْ فِي الْوَاقِعَةِ مُتَعَلَّقَا سِوَى الْخَبَرِ، وَقَوْلِ الرَّاوِي، وَهُوَ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَهُمَا عَلَى التَّنَاقُضِ فَيُتَمَسَّكُ بِالْخَبَرِ، وَإِنْ وَجَدْنَا مَسْلَكًا فِي الدَّلِيلِ سِوَى الْخَبَرِ، فَالتَّمَسُّكُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ أَوْلَى. قَالَ: وَلَوْ صَحَّ الْخَبَرُ، وَعَمِلَ بِهِ قَوْمٌ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ قَوْمٌ، وَالْفَرِيقَانِ ذَاكِرَانِ لِلْخَبَرِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ حَيْثُ لَا احْتِمَالَ إلَّا النَّسْخَ، فَاَلَّذِي أَرَاهُ تَقْدِيمَ عَمَلِ الْمُخَالِفِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ. وَيُحْمَلُ عَمَلُ الْعَامِلِينَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ الْعُرْفُ يَقْضِي بِأَنْ يَتَّبِعَ الْمُخَالِفُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِوَفَاءِ الْحَدِيثِ، وَكُلُّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَوْ انْعَقَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ إنْ تُصُوِّرَ ذَلِكَ، فَالتَّعَلُّقُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، وَيَتَطَرَّقُ إلَى الْخَبَرِ النَّسْخُ، فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ قَطْعًا، وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمٍ مَعَ خَبَرٍ نَصَّ عَلَى مُنَاقَضَتِهِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ. قَالَ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مُنَاقَضَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَنْ يَلْهَجَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَقَدْ بَنَى

الْإِمَامُ جُمْلَةَ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَا يُقَاسَ وَفِي الْمُقَدَّرَاتِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُخَالِفُهُ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ. وَالْقَاضِي يَأْبَى هَذَا أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَيَقُولُ: رُبَّمَا ظَنَّ أَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، وَرُبَّمَا زَلَّ إذْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ.

فصل في ألفاظ الرواة وكيفية الأداء

[فَصْلٌ فِي أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ] [نَقْلِ الصَّحَابِيِّ] ِ وَيَنْقَسِمُ النَّظَرُ فِيهِ إلَى نَقْلِ الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَلْفَاظِ الصَّحَابِيِّ مَرَاتِبُ: الْأُولَى: وَهِيَ أَقْوَاهَا: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا، أَوْ حَدَّثَنِي، أَوْ أَخْبَرَنِي، أَوْ شَافَهَنِي؛ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ، وَهُوَ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا، وَجَعَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ قَوْلَ الْمُحَدِّثِ " سَمِعْت " آكَدَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَدَّثَنَا: حَدَّثَ قَوْمَنَا، كَقَوْلِ الْحَسَنِ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِيَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا. وَإِنَّمَا كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ لِاحْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ لَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى احْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ وُقُوعُهُ، وَذَلِكَ كَسَمَاعِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» ، ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: قَالَ، وَكَسَمَاعِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ، وَلَمَّا سُئِلَ

أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ حَدِيثِهِمَا بَيَّنَا مِمَّنْ سَمِعَاهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ أَيْضًا، وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى سَمَاعِهِ، بَلْ هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " التَّصْرِيحَ، وَالْجَزْمَ بِأَنَّهُ عَلَى السَّمَاعِ. وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمًا الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " حَكَاهُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ حَكَاهُ فِي " التَّبْصِرَةِ " عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَنَسَبَهُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ أَيْضًا، وَنَحْوُهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا أَطْلَقَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ السَّمَاعَ، وَلَيْسَ الْمُسْتَنَدُ هَذَا اللَّفْظَ، بَلْ اسْتِقْرَاءُ عَادَتِهِمْ فِي النَّقْلِ. الثَّالِثَةُ: أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا، أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا، أَوْ قَضَى بِكَذَا، فَهَذَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالُ الْوَاسِطَةِ مَعَ احْتِمَالِ ظَنِّهِ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ أَمْرًا. لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الصَّحَابِيِّ خِلَافُهُ، فَلِذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ. وَخَالَفَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ، فَقَالَ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ حَتَّى يَنْقُلَ لَفْظَ الرَّسُولِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَكَذَا سَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا الْحَسَنِ الْحَرِيرِيَّ يَقُولُهُ وَيَحْكِيهِ مِنْ مَذْهَبِ دَاوُد، وَسَمِعْت ابْنَ بَيَانٍ الْقَصَّارَ وَكَانَ دَاوُد يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، هَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ

وَتَرْجَمَ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ: أَمَرَنَا، وَاحْتَجَّ فِي أَثْنَائِهَا بِأَنَّهُ إذَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حُمِلَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلِذَلِكَ يُحْمَلُ: أَمَرَنَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُسَاعِدَتِهِمْ فِي النَّهْيِ، وَمِمَّا يُسَاعِدُ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْحَرِيرِيِّ مَا رَأَيْته فِي كِتَابِ " الْإِعْذَارِ الرَّادِّ عَلَى كِتَابِ الْإِنْذَارِ " لِأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ السِّرَاجِ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ أَوْ مَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْحَدِيثَ إلَّا إذَا قَالَ رَاوِيهِ: سَمِعْت وَأَخْبَرَنَا، حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا أَوْ أُمِرْنَا بِكَذَا لَيْسَ بِمُسْنَدٍ. وَتَكَلَّمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَقَامَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّحَابِيَّ عَلِمَ كَوْنَ ذَلِكَ أَمْرًا بِذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَحُكِيَ فِي هَذِهِ خِلَافُ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ. قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي طَرِيقِ عِلْمِ الرَّاوِي بِكَوْنِ الْفِعْلِ أَمْرًا، فَقِيلَ بِقَوْلِهِ: افْعَلُوا، وَأَمَرْتُكُمْ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ مُرِيدًا الِامْتِثَالَ الْمَأْمُورَ بِهِ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَعْلَمَ بِقَوْلِهِ: أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ كَذَا، وَبِقَوْلِهِ: افْعَلُوا. وَيَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ مَا يُعْلَمُ بِهِ قَصْدُ الرَّسُولِ إلَى الْأَمْرِ، وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلًا بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ، فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ كَنَقْلِهِ لَفْظَةَ الْأَمْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِاللُّغَةِ فَلَا يُجْعَلُ كَذَلِكَ. قَالَ: فَقَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمَنْقُولِ بِحَيْثُ تَعْتَوِرُ عَلَيْهِ الْعِبَارَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فَلَا يُجْعَلُ نَقْلُهُ

فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْعِبَارَةُ، وَلَا تَحُولُ فِيهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ. ثَانِيهَا: أَنَّهُ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّعْمِيمِ عَلَى كَافَّةِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ؟ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى ذَلِكَ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي الْوَقْفَ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى خُصُوصٍ وَلَا عُمُومٍ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مِنْ حَالِ الرَّاوِي مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَإِنَّمَا بَنَى الْقَاضِي عَلَى مُعْتَقَدِهِ فِي الْوَقْفِ. ثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُوِيَ لَهُ عَنْهُ خِلَافٌ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ وَمَالَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " عَنْ دَاوُد. الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبْنِيَ الصِّيغَةَ لِلْمَفْعُولِ فَيَقُولُ: أُمِرْنَا بِكَذَا، أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا، فَهَذَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ مَا يَتَطَرَّقُ لِ " قَالَ "، وَ " أَمَرَ "، وَيَزِيدُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ وَالنَّاهِي بَعْضَ الْخُلَفَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَصُرِفَ الْفِعْلُ إلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، وَخَالَفَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ

وَالْإِسْمَاعِيلِيّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَّا، وَالْكَرْخِيُّ وَالرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَكْثَرُ مَالِكِيَّةِ بَغْدَادَ، وَمَنَعُوا إضَافَةَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدَمِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ قَطْعًا، فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ. وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَفِي الْقَدِيمِ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا بِالْوَقْفِ، وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ الْجَزَرِيُّ فِي مُقَدَّمَةِ " جَامِعِ الْأُصُولِ " قَوْلًا رَابِعًا بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ ذَلِكَ الصِّدِّيقَ فَمَرْفُوعٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ خَامِسٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": إنْ كَانَ قَائِلُهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ غَلَبَةً قَوِيَّةً أَنَّ الْآمِرَ هُوَ الرَّسُولُ، وَفِي مَعْنَاهُمْ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَفِي مَعْنَاهُمْ مَنْ كَثُرَ إلْمَامُهُ بِالنَّبِيِّ وَمُلَازَمَتُهُ كَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ [تَأَخَّرَ] الْتِحَاقُهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ يَفِدُونَ إلَيْهِ، ثُمَّ يَعُودُونَ إلَى بِلَادِهِمْ، فَإِنَّ الِاحْتِمَالَ فِيهِمْ قَوِيٌّ. انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ تَفَاوُتُ الرُّتَبِ فِي ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ فِيمَا قَالَ. وَالْأَظْهَرُ قَبُولُهُ مُطْلَقًا، وَإِضَافَتُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ مُرَادَ الصَّحَابِيِّ إنَّمَا هُوَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ: أُمِرْنَا، فَيَجِبُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى صُدُورِهِ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ غَيْرُهُ لَا حُجَّةَ فِي أَمْرِهِ.

قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبَيْنَ قَوْلِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَفِي الزَّمَنِ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ أَحَدًا فَصَّلَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابِيِّ، وَأَمَّا إذَا قَالَهُ مَنْ بَعْدَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَمْرَ الْأَئِمَّةِ، وَتَرَدَّدَ الْغَزَالِيُّ فِي أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ، أَوْ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ، وَجَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ. الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَقُولَ رَخَّصَ لَنَا. الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَقُولَ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ سُنَّةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَكُونُ حُجَّةً. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ احْتَجَّ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بِصَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عُبَادَةَ وَقَرَأَ بِهَا وَجَهَرَ، وَقَالَ: إنَّمَا فَعَلْت لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى سُنَّةِ الْبَلَدِ، وَسُنَّةِ الْأَئِمَّةِ فَلَا نَجْعَلُهُ أَصْلًا حَتَّى يُعْلَمَ، وَلَمَّا عَدَلَ الصَّحَابِيُّ عَنْ الْحِكَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظًا إلَى كَلَامٍ آخَرَ، عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَدُلَّنَا عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ صَرِيحِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اهـ. وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ فِي الْجَدِيدِ، فَقَالَ: هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ،

وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَهَكَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ "، فَقَالَ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: هُوَ مَرْفُوعٌ فِي الظَّاهِرِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَلَمْ يَرَهُ مُسْنَدًا. وَهَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِ الرَّاوِي: مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، فَكَانَ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ يُرِيدُ سُنَّةَ النَّبِيِّ. قَالَ: وَعَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: أُمِرْنَا وَنُهِينَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ خِلَافُهُ قَالَ ذَلِكَ فِي دِيَةِ الْمَرْأَةِ إلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: وَرَجَعَ عَنْ هَذَا فِي الْجَدِيدِ، فَقَالَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سُنَّةُ الْبَلَدِ، وَسُنَّةُ الْأَمِيرِ، وَأَمَرَنَا الْأَمِيرُ، وَأَمَرَنَا الْأَئِمَّةُ. فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا، حَتَّى يُعْلَمَ جُمْلَتُهُ، وَقَالَ عُمَرُ لِلصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ: هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْحَقَّ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انْتَهَى. وَهَكَذَا قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ فِي " شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ " فِي بَابِ أَسْنَانِ إبِلِ الْخَطَأِ: إنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، وَالْجَدِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَعَلَى هَذَا: الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يُفْتَى فِيهَا عَلَى الْقَدِيمِ، وَهُوَ نَوْعٌ غَرِيبٌ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ، وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ. قُلْت: لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " وَهُوَ مِنْ الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، فَقَالَ فِي بَابِ عَدَدِ الْكَفَنِ بَعْدَ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لَا يَقُولَانِ السُّنَّةُ إلَّا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اهـ. وَحِينَئِذٍ

فَيَصِيرُ فِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مَعًا، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَيْضًا، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ فِي شَرْحِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدَّمَةِ " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُودُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْمُتَأَخِّرُونَ. وَشَرَطَ الْحَاكِمُ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي عُلُومِهِمَا كَوْنَ الصَّحَابِيِّ مَعْرُوفًا بِالصُّحْبَةِ، وَفِيهِ إشْعَارٌ أَنَّ مَنْ قَصُرَتْ صُحْبَتُهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَالرَّازِيَّ وَالصَّيْرَفِيُّ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَلَقَّى مِنْ الْقِيَاسِ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ سُنَّةٌ لِإِسْنَادِهِ إلَى الشَّرْعِ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " أَنَّ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقِينَ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْوُقُوفِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ. أَمَّا لَوْ قَالَ التَّابِعِيُّ: مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، فَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ السَّابِقِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي بَابِ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَحُمِلَ

قَوْلُ سَعِيدٍ: سُنَّةً، عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ أَخَذَ فِي الْقَدِيمِ فِي الْمَرْأَةِ تُقَابِلُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ بِقَوْلِ سَعِيدٍ: مِنْ السُّنَّةِ. فَقَدْ تَضَافَرَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ فِي الْجِنَايَاتِ: إنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ إذَا صَدَرَ مِنْ الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُطْلِقُونَهُ، وَيُرِيدُونَ سُنَّةَ الْبَلَدِ. انْتَهَى. فَتَلَخَّصَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَأَطْلَقَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، حُجَّةٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: ثُمَّ إنْ كَانَ الرَّاوِي صَحَابِيًّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا كَانَتْ رِوَايَتُهُ مُرْسَلَةً، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَرَاسِيلِ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ ": قَوْلُ التَّابِعِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا فِي حُكْمِ الْمَرَاسِيلِ، إنْ كَانَ قَائِلُهُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَعَنْهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ مِنْ تَعْلِيقِهِ حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهُرُهُمَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ": إنْ كَانَ قَائِلُهُ صَحَابِيًّا فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ التَّابِعِينَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَكَذَا حَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِ سَعِيدٍ خَاصَّةً الْخِلَافُ فِي قَبُولِ مُرْسَلِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّقَصِّي ": إذَا أَطْلَقَ الصَّحَابِيُّ السُّنَّةَ، فَالْمُرَادُ بِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ إذَا أَطْلَقَهَا غَيْرُهُ مَا لَمْ تُضَفْ إلَى صَاحِبِهَا، كَقَوْلِهِمْ: سُنَّةُ الْعُمْرَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقِيلَ بِظُهُورِهِ فِي أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَكُونُ حُجَّةً، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَعَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ

وَالْهِنْدِيُّ. وَقِيلَ: بَلْ ظَاهِرٌ فِي الْوَاسِطَةِ، وَلَمْ يُرَجِّحْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ شَيْئًا. الْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ: أَنْ يَقُولَ: كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا. فَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْهِنْدِيُّ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ لِعَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَلْفَاظًا. أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُتَّجَهُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً خِلَافٌ لِتَصْرِيحِهِ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ الْمُعْتَضَدِ بِتَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَثَانِيهَا: أَنْ يَقُولَ كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذِهِ دُونَ مَا قَبْلَهَا لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي كُنَّا إلَى طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. قَالَ: فَقَبِلَهُ أَبُو الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَرَدَّهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْوَهَّابِ: وَالْوَجْهُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ

مَا يَكُونُ شَرْعًا مُسْتَقِرًّا، كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: «كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» ، الْحَدِيثَ. فَمِثْلُ هَذَا لَا يَسْتَحِيلُ خَفَاؤُهُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ خَفَاؤُهُ، فَلَا يُقْبَلُ، كَقَوْلِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى رَوَى لَنَا بَعْضُ عُمُومَتِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَعَلَّ الْأَوْلَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إنْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْحُجَّةِ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ، وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ. وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْوَهَّابِ إنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَصْحَبًا يَخْفَى مِثْلُهُ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى عَمَلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْرِهِ بِهِ، كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَنِدُ إلَى عَادَةٍ يَفْعَلُونَهَا فَمُحْتَمَلٌ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ الِاحْتِمَالَ، كَأَنْ يُورِدَهُ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِجَاجِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنْ أَضَافَ فِعْلَهُمْ إلَى زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيقَاعُهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْلَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَكَرُّرُ وُقُوعِهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ لِتَقْرِيرِهِ، وَإِلَّا فَلَا. ثَالِثُهَا: أَنْ يَقُولَ كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَا يُصَرِّحُ بِعَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذِهِ دُونَ الثَّانِيَةِ، لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْعَهْدِ، وَفَوْقَهَا الْإِضَافَةُ إلَى

جَمِيعِ النَّاسِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِذَلِكَ قَوْلَيْنِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَقُولَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ، أَوْ كُنَّا نَفْعَلُ، وَهُوَ دُونَ الْكُلِّ؛ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْعَهْدِ، وَبِمَا يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، قِيلَ: وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إذَا قَالَ التَّابِعِيُّ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَفِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُضِيفَهُ إلَى عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مِمَّا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ، يُحْمَلُ عَلَى إقْرَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكُونُ شَرْعًا لَنَا. وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَخْفَى بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ذِكْرُهُ حُمِلَ عَلَى إقْرَارِهِ، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيمَا يَكْثُرُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: «كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَخْرَجَ الرَّاوِي الرِّوَايَةَ مَخْرَجَ التَّكْثِيرِ بِأَنْ قَالَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، حُمِلَتْ الرِّوَايَةُ عَلَى عَمَلِهِ وَإِقْرَارِهِ، فَصَارَ الْمَقُولُ شَرْعًا. وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظِ التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ: فَعَلُوا كَذَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَلَا يَثْبُتُ شَرْعٌ بِاحْتِمَالٍ. الثَّانِي: أَنْ يُضِيفَهُ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ مَعَ بَقَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ. فَهُوَ حِكَايَةٌ عَنْ إجْمَاعِهِمْ فَيَكُونُ حُجَّةً.

الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَهُ وَلَا يُضِيفَهُ إلَى أَحَدِ الْعَصْرَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ بَاقِيًا فَهُوَ مُضَافٌ إلَى عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ مُنْقَرِضًا، فَهُوَ مُضَافٌ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ عَنْ مَاضٍ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَالْمَاضِي قَبْلَهُ عَصْرُ الرَّسُولِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَالْمَاضِي قَبْلَهُ عَصْرُ الصَّحَابَةِ. تَنْبِيهٌ [فَائِدَةُ رِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ] فَائِدَةُ رِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ التَّرْجِيحُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَمَا لَا يُحْتَمَلُ أَرْجَحُ مِمَّا يُحْتَمَلُ، وَمَا يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا وَاحِدًا أَرْجَحُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِاثْنَيْنِ، وَهَكَذَا فِي الْبَاقِي.

فصل ألفاظ غير الصحابي

[فَصْلٌ أَلْفَاظُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ] ِّ] وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَلْفَاظُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ فَلِلرَّاوِي حَالَاتٌ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ. [السَّمَاعُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ] أَوَّلُهَا: أَنْ يَسْمَعَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَهُوَ النِّهَايَةُ فِي التَّحَمُّلِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ كَمَا نَقَلُوهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْخَطَأِ وَالسَّهْوِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِرَاءَتَك عَلَى الْمُحَدِّثِ أَقْوَى مِنْ قِرَاءَةِ الْمُحَدِّثِ عَلَيْك. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ مِنْ السَّهْوِ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ حِفْظًا وَلَا يَكْتُبُ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَنْ يُخْبِرُ عَنْ كِتَابِهِ لَا عَنْ حِفْظِهِ، حَتَّى إذَا كَانَ يَرْوِي عَنْ كِتَابٍ فَالْجَانِبَانِ سَوَاءٌ

فِي نَفْسِ التَّحْدِيثِ بِمَا فِي الْكِتَابِ، ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَعَلَّلَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ عِنَايَةَ الطَّلَبِ أَشَدُّ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا قَرَأَ التِّلْمِيذُ كَانَتْ الْمُحَافَظَةُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَإِذَا قَرَأَ الْأُسْتَاذُ لَا تَكُونُ الْمُحَافَظَةُ إلَّا مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ أَوْ مِنْ كِتَابٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ قَصْدٍ أَوْ اسْتِرْعَاءٍ أَوْ اتِّفَاقٍ أَوْ مُذَاكَرَةٍ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ أَعْمَى أَوْ أَصَمَّ، وَلَا يَصِحُّ السَّمَاعُ إنْ كَانَ الْمُتَحَمِّلُ أَصَمَّ، وَيَصِحُّ إنْ كَانَ أَعْمَى. قَالَا: فَإِنْ حَدَّثَ عَنْ حِفْظِهِ صَحَّ السَّمَاعُ إذَا وُثِقَ بِهِ، وَإِنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ، فَإِنْ كَانَ أَعْمَى لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ قَدْ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا صَحَّ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ كِتَابُهُ بِشَرْطَيْنِ: كَوْنُهُ وَاثِقًا بِهِ، وَذَاكِرًا لِوَقْتِ سَمَاعِهِ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَرْوِيَ إلَّا مِنْ حِفْظِهِ كَالشَّاهِدِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْكِتَابِ. قَالَ: فَقَدْ صَارَتْ الرِّوَايَةُ فِي عَصْرِنَا مِنْ الْكِتَابِ أَثْبَتَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ الْحِفْظِ. انْتَهَى. وَلِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: أَسْمَعَنِي، وَأَخْبَرَنِي، وَحَدَّثَنِي، وَأَسْمَعَنَا، وَأَخْبَرَنَا، وَحَدَّثَنَا، هَذَا إنْ قَصَدَ الشَّيْخُ إسْمَاعَهُ، إمَّا خَاصَّةً، أَوْ مَعَ جَمْعٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ إلَّا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ فُلَانًا، وَإِنَّمَا جَازَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لِمُطَابَقَتِهَا لِمَا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ. وَلِلْمُحَدِّثِينَ فِيهِ أَدَبٌ، يَقُولُونَ لِمَا سَمِعَهُ مَعَ غَيْرِهِ: حَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا، وَمَا سَمِعَهُ وَحْدَهُ أَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا أَدَبٌ لَا يَنْتَهِي

العرض على الشيخ

إلَى الْوُجُوبِ. اهـ. وَحَكَى الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي " الذَّرِيعَةِ " وَصَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " عَنْ بَعْضِهِمْ مَنْعَ لَفْظِ الْجَمْعِ إذَا كَانَ وَحْدَهُ، قَالَا: وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ. [الْعَرْضُ عَلَى الشَّيْخِ] [الْعَرْضُ عَلَى الشَّيْخِ] الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ يَسْمَعُ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ يُسَمُّونَ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ عَرْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَارِئَ يَعْرِضُ عَلَى الشَّيْخِ مَا يَقْرَأُهُ، وَيَقُولُ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ أَوْ قَبْلَهَا. هَلْ سَمِعْت: فَيَقُولُ الشَّيْخُ نَعَمْ، أَوْ يَقُولُ بَعْدَ الْفَرَاغِ: الْأَمْرُ كَمَا قُرِئَ عَلَيَّ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا مِثْلُ السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَا نَقَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ عَنْهُ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ "، فَقَالَ: وَبَابُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَالْقِرَاءَةِ عَنْهُ سَوَاءٌ إذَا اعْتَرَفَ بِهِ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]

شرط صحة الرواية عن الشيخ

وَقَوْلُهُ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] إلَى قَوْلِهِ: {نَعَمْ} «وَقَوْلُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي سَائِلُك، آاللَّهُ أَرْسَلَك إلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ» . فَقَوْلُهُ: نَعَمْ، بِمَنْزِلَةِ إنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَحُجَّ. انْتَهَى. وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا دُونَهُ. [شَرْطُ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْ الشَّيْخِ] [شَرْطُ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْ الشَّيْخِ] قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَشَرْطُ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْ الشَّيْخِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ عَالِمًا بِقِرَاءَةِ الْقَارِئِ عَلَيْهِ، وَلَوْ فُرِضَ مِنْهُ تَحْرِيفٌ أَوْ تَصْحِيفٌ لَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَيُلْتَحَقُ بِهِ مَا لَوْ كَانَ بِيَدِهِ نُسْخَةٌ مُهَذَّبَةٌ، فَلَوْ كَانَتْ بِيَدِ غَيْرِ الشَّيْخِ، وَالْأَحَادِيثُ تُقْرَأُ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ عَدْلٌ مُؤْتَمَنٌ، لَا يَأْلُو جَهْدًا فِي التَّأَمُّلِ فَتَرَدَّدَ فِيهِ جَوَابُ الْقَاضِي، وَبَعْدَ مُدَّةٍ ظَهَرَ لِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ لَيْسَ عَلَى دِرَايَةٍ مِنْهُ، فَلَا يَنْتَهِضُ مِنْهَا تَحَمُّلًا. قَالَ: فَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ لَا يُحِيطُ بِالْأَخْبَارِ، وَلَا يَنْظُرُ فِي نُسْخَةٍ مُتَمَيِّزَةٍ، وَلَوْ فُرِضَ التَّدْلِيسُ عَلَيْهِ لَمَا شَعَرَ، لَمْ تَصِحَّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ شَيْخٍ يَسْمَعُ أَصْوَاتًا وَأَجْرَاسًا لَا يَأْمَنُ تَدْلِيسًا وَإِلْبَاسًا، وَبَيْنَ شَيْخٍ لَا يَسْمَعُ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ لَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يَصِحُّ مِنْهُ التَّحَمُّلُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ، وَيَصِحُّ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنَاهُ، وَهَذَا فِيمَا أَظُنُّ إجْمَاعٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَكَيْفَ لَا وَفِي الْخَبَرِ «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ

حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» . وَلَوْ شَرَطْنَا عِلْمَ الرَّاوِي بِمَعْنَى الْحَدِيثِ لَشَرَطْنَا مَعْرِفَةَ جَمِيعِ وُجُوهِهِ، وَيُسَدُّ بِذَلِكَ بَابُ التَّحْدِيثِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَدَارُ الْأَخْبَارِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَإِذَا قُرِئَ بَيْنَ يَدَيْ الصَّبِيِّ وَالْأُمِّيِّ أَخْبَارٌ عَلَى شَيْخٍ، فَتَحَمَّلَهَا هَذَا السَّامِعُ، وَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، وَتُحُمِّلَتْ عَنْهُ اُكْتُفِيَ بِذَلِكَ، وَاشْتِرَاطُ النَّظَرِ فِي النُّسْخَةِ، وَدِرَايَةُ الصَّبِيِّ يُضَيِّقُ الْبِطَانَ فِي الرِّوَايَةِ وَمِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي صِفَةِ تَحَمُّلِ الرِّوَايَةِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي صِفَةِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَهَذَا مَحَلُّ النَّظَرِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بِجَوَازِ الْإِجَازَةِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ الْمُجِيزُ غَيْرَ مُحِيطٍ بِجُمْلَةِ مَا فِي الْكِتَابِ الْمُجَازِ، وَقَدْ وَافَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ الْعِلْمُ بِمَا يُقْرَأُ وَعَلَيْهِ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَالْمَازِرِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ". قَالَ الْمَازِرِيُّ: بِشَرْطِ كَوْنِ الشَّيْخِ عَالِمًا بِصِحَّةِ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ، غَيْرَ غَافِلٍ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَأَمَّا إذَا قَرَأَ مِنْ حِفْظِهِ وَأَمْلَى مِنْ حِفْظِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ. وَقَدْ اجْتَازَ بَعْضُهُمْ لِلْحُفَّاظِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كُتُبُهُمْ اسْتِظْهَارًا لِلثِّقَةِ وَاحْتِيَاطًا، فَإِنْ كَانَ لَا يُعَوِّلُ عَلَى حِفْظِهِ، وَإِنَّمَا يُعَوِّلُ عَلَى كِتَابِهِ نُظِرَ، فَإِنْ تَحَقَّقَ سَمَاعُ جَمِيعِ مَا فِي كِتَابِهِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ عُلِمَ سَمَاعُهُ وَلَكِنْ نَسِيَ مِمَّنْ سَمِعَهُ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِيهِ خِلَافًا فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ لِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَا يَرْوِي رِوَايَةً مَعْمُولًا بِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ الْكِتَابَ مَعَ عَدَالَتِهِ وَإِنَّمَا عَوَّلَ عَلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ وَكَذِبٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْصَى فِي رِسَالَتِهِ بِقَبُولِ مِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: لَا يُحَدِّثُ الْمُحَدِّثُ مِنْ كِتَابِهِ، حَتَّى يَكُونَ حَافِظًا لِمَا فِيهِ.

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا أَشَارَ إلَى مَنْ جَهِلَ شَيْخَهُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الْكِتَابَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ شَيْخَهُ الَّذِي حَدَّثَهُ بِالْكِتَابِ لَمْ يَشْتَرِطْ حِفْظَهُ إيَّاهُ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ شَيْخَهُ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ، وَعَلِمَ بِأَنَّهُ حَدَّثَهُ لِلْجَمِيعِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِمَا فِي كِتَابِهِ، وَهَذَا الَّذِي تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي عَلَى الشَّافِعِيِّ تَأَوَّلَهُ غَيْرُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَيَأْتِي. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنْ رَوَى مِنْ كِتَابِهِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ أَصْلُهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، وَالثَّانِي يُقْبَلُ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الْإِلْمَاعِ ": اُخْتُلِفَ فِي الْعَمَلِ بِمَا وُجِدَ فِي الْخَطِّ الْمَضْبُوطِ الْمُحَقَّقِ لِإِمَامٍ إذَا عَمِلَ بِهِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَنْعِ النَّقْلِ وَالدِّرَايَةِ بِهِ، فَمُعْظَمُ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْفُقَهَاءِ لَا يَرَوْنَ الْعَمَلَ بِهِ، وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْعَمَلِ، وَقَالَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ نُظَّارِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ. وَحَكَى أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُحَدِّثَ بِالْخَبَرِ مِنْ حِفْظِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ سَمِعَهُ. قَالَ: وَحُجَّتُهُ أَنَّ حِفْظَهُ لِمَا فِي كِتَابِهِ، كَحِفْظِهِ لِمَا سَمِعَهُ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا نُورٌ وَلَا بَهْجَةٌ لِهَذِهِ الْحُجَّةِ، وَلَا ذَكَرَ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَعَلَّهُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ، لَا الرِّوَايَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أَوْ يَكُونُ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ وَجَدَهُ بِخَطِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُحَقِّقْ سَمَاعَهُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ. اهـ. وَاخْتَارَ الْمَازِرِيُّ أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ سَمَاعَهُ وَجَهِلَ عَيْنَ الْمُسْمِعِ الْتَحَقَ بِالْمُرْسَلِ،

وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ سَمِعَ الْجَمِيعَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَحْفَظُهُ، وَلَا يَذْكُرُ سَمَاعَهُ لِعَيْنِ كُلِّ لَفْظٍ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ، وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ السَّمَاعَ وَإِنَّمَا عَوَّلَ عَلَى خَطِّهِ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْمُحَدِّثِينَ فِي الطَّبَقَاتِ فَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهِ. فَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَضِيَّةُ أُصُولِ مَالِكٍ. وَأَشَارَ إلَى تَخْرِيجِهَا عَلَى مَنْعِ الشَّاهِدِ مِنْ شَهَادَةِ أَمْرٍ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَإِنَّمَا عَوَّلَ عَلَى خَطِّهِ، فَلَا يُعْمَلُ بِهَا. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَوَّزَهُ، كَقَوْلِهِ فِي " الرِّسَالَةِ ": إنَّهُ لَا يُحَدِّثُ الْمُحَدِّثُ بِمَا فِي كِتَابِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَإِنْ كَانَ الْخَطُّ لَيْسَ بِيَدِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِخَطِّ غَيْرِهِ، كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: يُعَوِّلُ ثُمَّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَرْوِيَ هَذَا الْكِتَابَ وَيُطْلِقَ الرِّوَايَةَ عَنْ شَيْخِهِ بِأَنَّهُ حَدَّثَهُ؛ لِأَنَّهُ كَذَبَ أَنَّهُ سَمِعَ، وَعَلِمَ ثِقَةٌ الْكِتَابَ، فَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالْمُحَدِّثُونَ يَقْبَلُونَهَا. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ قُلْنَا: لَا يُعَوِّلُ عَلَى خَطِّ نَفْسِهِ، فَفِي خَطِّ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: يُعَوِّلُ ثَمَّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَرْوِيَ هَذَا الْكِتَابَ وَيُطْلِقَ الرِّوَايَةَ عَنْ شَيْخِهِ، بِأَنَّهُ حَدَّثَهُ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَتَلْبِيسٌ، بَلْ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، فَيَقُولُ: أَخَذْت هَذَا الْكِتَابَ عَنْ فُلَانٍ لَا شِفَاهًا، وَلَكِنْ تَعْوِيلًا عَلَى خَطِّ فُلَانٍ أَنِّي سَمِعْتُهُ مَعَهُ عَنْ فُلَانٍ، وَخَطُّ فُلَانٍ أَتَحَقَّقُهُ، وَأَتَحَقَّقُ عَدَالَتَهُ، فَيُقْبَلُ حِينَئِذٍ، وَلَا يَفْتَقِرُ هُنَا إلَى إذْنِ الْكَاتِبِ أَنْ يَنْقُلَ ذَلِكَ عَنْهُ، كَمَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الشَّاهِدِ فِي أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ شَهَادَتَهُ، إذَا تَحَقَّقْنَا هُنَا أَنَّ هَذَا مَا وَضَعَ خَطَّهُ عَنْ لَبْسٍ.

وَأَمَّا إنْ لَمْ تَكُنْ نُسْخَةُ الْكِتَابِ بِيَدِهِ، لَكِنَّهَا كَانَتْ بِيَدِ قَارِئٍ مَوْثُوقٍ بِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ تَرَدَّدَ فِي الْعَمَلِ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَصِحَّةِ إسْنَادِهِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الشَّيْخُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِحَّةِ مَا حَمَلُوهُ التَّلَامِذَةُ، وَخَالَفَهُ الْمَازِرِيُّ، وَقَالَ: إنَّ الشَّيْخَ يَصِيرُ مُعَوِّلًا فِيمَا يَرْوِيهِ وَيَحْمِلُهُ لِتَلَامِذَتِهِ عَلَى نَقْلِ غَيْرِهِ عَنْهُ، أَنَّهُ رَوَى كَذَا. اهـ. وَقَطَعَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ سَمَاعَهُ، وَجَهِلَ عَيْنَ الْمُسْمِعِ، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ رِوَايَتُهُ، حَتَّى يَعْلَمَ قَطْعًا مَنْ بَلَّغَهُ، وَنَقَلَهُ عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي، وَحَكَى عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُ رِوَايَتَهُ، وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: يَنْبَغِي لِمَنْ لَمْ يَحْفَظْ الْحَدِيثَ رِوَايَتُهُ مِنْ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ يَحْفَظُهُ فَالْأَوْلَى ذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ وَعِنْدَهُ كِتَابٌ فِيهِ سَمَاعُهُ بِخَطِّهِ، وَهُوَ يَذْكُرُ سَمَاعَهُ لِلْخَبَرِ، جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ ". وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ رَوَى عَلَى خَطِّهِ. قَالَ: وَلَا بُدَّ مِنْ شَيْئَيْنِ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ الْكِتَابِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَاثِقًا بِكِتَابِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِخَطِّهِ أَوْ خَطِّ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِوَقْتِ سَمَاعِهِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ. اهـ. وَمَا صَحَّحَهُ مِنْ الْمَنْعِ عِنْدَ عَدَمِ الذِّكْرِ صَحَّحَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ. قَالَ: لِأَنَّ الْخَطَّ قَدْ يَشْتَبِهُ بِالْخَطِّ.

أحوال الشيخ فيما قرئ عليه

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ، بَلْ وَجَدَهُ بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطِّ شَيْخِهِ، أَوْ خَطِّ مَوْثُوقٍ بِهِ، فَهَلْ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهِ؟ ثُمَّ نَقَلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمَنْعَ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُحَدِّثِينَ جَوَازُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَظْهَرْ قَرِينَةُ التَّغْيِيرِ، لَكِنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ انْتِشَارِ الْأَحَادِيثِ وَالرِّوَايَةِ انْتِشَارًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْحِفْظُ لِكُلِّهِ عَادَةً، وَاللَّازِمُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى الظَّنِّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِمَّا أَنْ يَبْطُلَ حَمْلُهُ مِنْ السُّنَّةِ، أَوْ أَكْثَرِهَا، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الظَّنِّ، فَوَجَبَ دَفْعُهُ دَرْءًا لِأَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَحَرَّى بِزِيَادَةِ شَرْطٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَخْرُجَ الْكِتَابُ عَنْ يَدِهِ بِعَارِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَهُوَ احْتِيَاطٌ حَسَنٌ، وَكَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ إذَا كَتَبُوا أَحَادِيثَ الْإِجَازَةِ إلَى غَائِبٍ عَنْهُمْ يَخْتِمُونَهُ بِالْخَاتَمِ، إمَّا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ. اهـ. [أَحْوَالُ الشَّيْخِ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ] [أَحْوَالُ الشَّيْخِ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ] وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّيْخِ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ. أَعْلَاهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رِوَايَةِ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ نُطْقًا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُ: هَلْ سَمِعْت؟ فَيُشِيرُ الشَّيْخُ بِأُصْبُعِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ، فَهِيَ كَالْعِبَارَةِ فِيمَا سَبَقَ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إنْ قَالَ الْقَارِئُ عَقِبَ الْقِرَاءَةِ: ائْذَنْ لِي أَنْ أَرْوِيَ عَنْك مَا قَرَأْته عَلَيْك. فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ، أَوْ أَشَارَ بِرَأْسِهِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَقْبُولٌ، وَقِيلَ: لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ؛ لِأَنَّ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ تُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْكُتَ الشَّيْخُ وَيَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْقَارِئِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ إجَابَتُهُ لَهُ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا، وَكَذَا جَوَازُ الرِّوَايَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَشَرَطَ قَوْمٌ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ إقْرَارَ الشَّيْخِ بِهِ نُطْقًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَوْعُ احْتِيَاطٍ، وَسُكُوتُهُ مَعَ سَلَامَةِ الْأَحْوَالِ مِنْ إكْرَاهٍ وَغَفْلَةٍ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ تَصْرِيحِهِ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ "، وَنَقَلَهُ عَنْ مُعْظَمِ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِذَا نَصَبَ الشَّيْخُ نَفْسَهُ لِلْقِرَاءَةِ، وَانْتَصَبَ لَهَا مُخْتَارًا، وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ فَهُوَ بِمَثَابَةِ إقْرَارِهِ، وَيَمْتَنِعُ فِي صُورَةِ إشَارَةِ الشَّيْخِ بِالسَّمَاعِ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي عَنْهُ: حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي، وَسَمِعْته؛ لِأَنَّهُ مَا حَدَّثَهُ، وَلَا أَخْبَرَهُ وَلَا سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَكَانَ كَذِبًا، وَهَذَا مِنْهُ عَجِيبٌ، كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ يُنَاقِضُهُ مَا عَلَّلَهُ بِهِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ فِي صُورَةِ السُّكُوتِ. وَمِمَّنْ شَرَطَ النُّطْقَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ". قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": قَطَعَ بِهِ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِمَذْهَبِهِ لِتَرَدُّدِ السُّكُوتِ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَعَدَمِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُنْسَبُ إلَى السَّاكِتِ قَوْلٌ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرَائِنِ، وَظَاهِرِ الْحَالِ. قَالَ: وَهَذَا أَلْيَقُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَنُقِلَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ. اهـ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إذَا قُرِئَ عَلَى الشَّيْخِ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ وَيُصْغِي، حَلَّتْ الرِّوَايَةُ إذَا قَالَ الشَّيْخُ: هَذَا الْكِتَابُ سَمَاعِي، وَلَا يُشْتَرَطُ

لَفْظُ الْإِجَازَةِ، وَلَا الْمُنَاوَلَةِ، وَلَكِنْ اصْطَلَحَ الْمُحَدِّثُونَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ وَالْإِجَازَةِ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَقُولُ: هَذَا سَمَاعِي، وَيَعْنِي بِهِ أَكْثَرَهُ، أَوْ رُبَّمَا كَانَ أَحْكَمَ حُرُوفَهُ، فَإِذَا قَالَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَهُ عَنِّي، كَانَ دَالًّا عَلَى الثَّبْتِ، وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ تَحَمُّلُ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ مُحْتَمَلٌ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّيْخَ إذَا قَالَ: هُوَ سَمَاعِي، صَارَ مُخْبِرًا عَنْ آحَادِ مَا فِي الْكِتَابِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلِلْقَارِئِ أَنْ يَقُولَ: قَرَأْت عَلَى فُلَانٍ، وَلِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: قَرَأَ عَلَيَّ فُلَانٌ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا، أَوْ أَخْبَرَنَا، قِرَاءَةً عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي، أَوْ حَدَّثَنِي قِرَاءَةً عَلَيْهِ، أَوْ قَرَأْت عَلَيْهِ، وَهُوَ سَاكِتٌ مُقَرِّرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ لَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَرَأَهُ تَصْرِيحًا، وَأَنْ يَكُونَ مُكْتَفِيًا بِالسُّكُوتِ، فَالِاحْتِيَاطُ التَّمْيِيزُ وَأَمَّا إطْلَاقُ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرْنَا فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: الْمَنْعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالنَّسَائِيُّ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أَنَّ الشَّيْخَ تَوَلَّى الْقِرَاءَةَ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ. قَالَ: وَلِذَلِكَ لَا يَقُولُ: سَمِعْت وَالثَّانِي: التَّجْوِيزُ، وَأَنَّهُ كَالسَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَبِهِ قَالَ: الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَكَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ: أَخْبَرَنَا فِيمَا سَمِعُوهُ، وَهِيَ

عِبَارَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَهُشَيْمٍ، وَنَقَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ: الْأَوْلَى فِي عُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ حَدَّثَنَا فِيمَا سَمِعَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَأَخْبَرَنَا فِيمَا قَرَأَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَمِعَ هُوَ قَالَ: حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي، أَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ قَالَ: حَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا؛ لِتَكُونَ هَذِهِ الْفُرُوقُ مُذَكِّرَةً بِأَحْوَالِ السَّمَاعِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: فَلَا يَقُولُ: سَمِعْت فُلَانًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: كَلَامُ الْإِمَامِ يَعْنِي فَخْرَ الدِّينِ - يَقْتَضِي وُجُودَ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ سَمِعْت، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: الْمَنْعُ مِنْ إطْلَاقِ حَدَّثَنَا، وَتَجْوِيزُ أَخْبَرَنَا، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ، إذَا قَرَأْت عَلَى الْعَالِمِ، فَقُلْ: أَخْبَرَنَا، وَإِذَا قَرَأَ عَلَيْك، فَقُلْ: حَدَّثَنَا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ فِيمَا إذَا قَرَأَ الشَّيْخُ نُطْقًا؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يَتَضَمَّنُ الْإِعْلَامَ، وَالتَّحْدِيثَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا سَمِعَ مِنْ فِيهِ. قَالَ: ابْنُ دَقِيقِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُحَدِّثِينَ فِي الْآخِرِ وَالِاحْتِجَاجُ لَهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ لُغَوِيٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ أَرَادُوا بِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. وَمَنَعَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي صُورَةِ إشَارَةِ الشَّيْخِ بِالسَّمَاعِ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي عَنْهُ: حَدَّثَنِي، أَوْ أَخْبَرَنِي، أَوْ سَمِعْته؛ لِأَنَّهُ مَا حَدَّثَهُ، وَلَا أَخْبَرَهُ، وَلَا

كتابة الشيخ إلى غيره

سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا فَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَكَانَ كَاذِبًا، وَهَذَا مِنْهُ عَجِيبٌ كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ، يُنَاقِضُهُ مَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ فِي صُورَةِ السُّكُوتِ مِنْ أَنَّ الْإِخْبَارَ لُغَةً لِإِفَادَةِ الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ، وَهَذَا السُّكُوتُ قَدْ أَفَادَهُ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي، وَإِذَا كَانَ مُجَرَّدُ السُّكُوتِ يُعْطِي ذَلِكَ، فَلَأَنْ يُعْطِيَهُ السُّكُوتُ مَعَ الْإِشَارَةِ بِالرِّضَى مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: بَيْنَ قَوْلِهِ: حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي فَرْقٌ؛ لِأَنَّ أَخْبَرَنِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْكِتَابَةِ إلَيْهِ، وَحَدَّثَنِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ السَّمَاعِ. [كِتَابَةُ الشَّيْخِ إلَى غَيْرِهِ] [كِتَابَةُ الشَّيْخِ إلَى غَيْرِهِ] الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكْتُبَ الشَّيْخُ إلَى غَيْرِهِ: سَمِعْت مِنْ فُلَانٍ كَذَا، فَلِلْمَكْتُوبِ إلَيْهِ إذَا عَلِمَ خَطَّهُ، أَوْ ظَنَّهُ، بِأَنْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِأَنَّهُ خَطُّهُ، أَوْ شَاهَدَهُ يَكْتُبُ. أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَيَرْوِيَهُ عَنْهُ، إذَا اقْتَرَنَتْ الْكِتَابَةُ بِلَفْظِ الْإِجَازَةِ، بِأَنْ قَالَ: أَجَزْت لَك مَا كَتَبْته إلَيْك، فَإِنْ تَجَرَّدَتْ الْكِتَابَةُ فَأَجَازَ الرِّوَايَةَ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَبَالَغَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: إنَّهَا أَقْوَى مِنْ الْإِجَازَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّمَاعِ. قَالَ: لِأَنَّ الْكِتَابَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَلِّغُ بِالْكِتَابِ الْغَائِبَ، وَبِالْخِطَابِ الْحَاضِرَ. قَالَ: وَلَوْ بَعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا وَأَخْبَرَهُ بِالْحَدِيثِ، حَلَّتْ لَهُ الرِّوَايَةُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَنْقُلُ

كَلَامَ الْمُرْسِلِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابِ، بَلْ أَوْثَقُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِمَا فِيهِ، وَالرَّسُولُ نَاطِقٌ، وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ تَارَةً وَيُرْسِلُ أُخْرَى، وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: كَانَ مَالِكٌ يَكْتُبُ إلَى الرَّجُلِ بِالْبَلَدِ الْآخَرِ: قَدْ كَتَبْت كِتَابِي هَذَا، وَخَتَمْته بِخَاتَمِي، فَارْوِهِ عَنِّي. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُهُ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِحَّةُ ذَلِكَ عَمِلَ بِهِ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَرْطِ كِتَابِ الْقَاضِي، وَيَصِيرُ كَأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ هُمَا الْوَاسِطَةُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ ": الْآثَارُ فِي هَذِهِ كَثِيرَةٌ عَنْ التَّابِعِينَ، وَالِاتِّبَاعُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ وَاسِعٌ عِنْدَهُمْ، وَكُتُبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُمَّالِهِ بِالْأَحْكَامِ شَاهِدَةٌ لِقَوْلِهِمْ. اهـ. قَالَ: إلَّا أَنَّ مَا سَمِعَهُ مِنْ الشَّيْخِ فَوَعَاهُ، أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ وَأَقَرَّ بِهِ فَحَفِظَهُ، يَكُونُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّا كُتِبَ بِهِ إلَيْهِ لِمَا يُخَافُ عَلَى الْكِتَابِ مِنْ التَّغْيِيرِ وَالْإِحَالَةِ اهـ. وَكَيْفِيَّةُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَقُولَ: كَتَبَ إلَيَّ، وَأَخْبَرَنِي كِتَابَةً، لِأَنَّ الْكَاتِبَ قَدْ ذَكَرَ الْإِخْبَارَ فِي كِتَابِهِ فَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ أَخْبَرَنَا. وَجَوَّزَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ قَوْلَهُ: أَخْبَرَنِي مُجَرَّدًا عَنْ قَوْلِهِ كِتَابَةً لِصِدْقِ ذَلِكَ لُغَةً، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ". قَالَ: وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِكِتَابَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَدَبًا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ إذَا كَانَ مُطَابِقًا جَازَ إطْلَاقُهُ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ فَهِيَ بَيْنَ كَوْنِهِ كِتَابَةً وَإِجَازَةً. وَجَوَّزَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إطْلَاقَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا فِي الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ وَالْمُخْتَارُ

خِلَافُهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمُجَوِّزُونَ لِلْكِتَابَةِ تَوَسَّعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَجَوَّزَ أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي، وَحَدَّثَنِي، كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالسَّمَاعِ، وَشَرَطَ آخَرُونَ هُنَا التَّعْيِينَ اسْتِعْمَالًا لِلصِّدْقِ فِي الرِّوَايَةِ. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ. وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَرْبَابِ النَّقْلِ وَغَيْرِهِمْ جَوَازُ الرِّوَايَةِ لِأَحَادِيثِ الْكِتَابَةِ، وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا، وَأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمُسْنَدِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّتِهَا عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِهَا وَوُثُوقُهُ بِأَنَّهَا عَنْ كَاتِبِهَا. وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ الرِّوَايَةِ بِهَا، مِنْهُمْ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، قَالَا: وَأَمَّا كُتُبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَتْ تَرِدُ عَلَى يَدِ مُرْسَلِهِ، فَيُعَوَّلُ عَلَى خَبَرِهِمْ، وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ إنْكَارُ قَبُولِهَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ الْحَافِظُ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ ": كُلُّ كِتَابٍ لَمْ يَذْكُرْهُ حَامِلُهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِالْمُرْسَلِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا، فَقَالَ: لِأَنَّ رِوَايَتَهُ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَالَهُ، وَالْخَطُّ لَا يَعْرِفُهُ. نَعَمْ، لَهُ أَنْ يَقُولَ رَأَيْته مَكْتُوبًا فِي كِتَابٍ بِخَطٍّ ظَنَنْت أَنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ، فَإِنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ. فَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ قَطْعًا بِأَنْ سَمِعَ مِنْهُ يَقُولُ: هَذَا خَطِّي أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَا لَمْ يُسَلِّطْهُ عَلَى الرِّوَايَةِ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ، أَوْ قَرَائِنَ تُفِيدُ ذَلِكَ، كَالْجُلُوسِ لِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهُ، ثُمَّ يَتَشَكَّكُ فِيهِ، وَلَا يَرَى رِوَايَتَهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا سَمِعَهُ الْإِنْسَانُ، فَإِنَّهُ يَرَى نَقْلَهُ عَنْهُ، وَمَعَهُ كَيْفَ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ؟ . وَأَمَّا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا الْعَمَلَ بِهِ،

المناولة

وَأَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَلَا يَقُولُ: سَمِعْت وَلَا حَدَّثَنِي، وَقَدْ جَمَعَ الْهِنْدِيُّ بَيْنَ هَذَا وَكَلَامِ الْغَزَالِيِّ بِأَنَّ كَوْنَهُ كَتَبَ إلَيْهِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى التَّسْلِيطِ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيُّ يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ عَنْ ذَلِكَ، مِمَّا لَا فَائِدَةَ لَهُ. وَبِالْمَنْعِ جَزَمَ الْآمِدِيُّ أَيْضًا. هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْأَكْمَهِ، فَأَمَّا الْأَكْمَهُ مِثْلُ قَتَادَةَ، فَالْمَنْعُ فِيهِ أَقْوَى. [الْمُنَاوَلَةُ] [الْمُنَاوَلَةُ] الرَّابِعَةُ: مُنَاوَلَةُ الصَّحِيفَةِ وَالْإِقْرَارُ بِمَا فِيهَا دُونَ قِرَاءَتِهَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ: احْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا، وَقَالَ: لَا تَقْرَؤُهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ

إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ، وَلَهَا صُوَرٌ: إحْدَاهَا: أَنْ يَقْرُنَهَا بِالْإِجَازَةِ، بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أَصْلَهُ أَوْ فَرْعًا مُقَابِلًا بِهِ، وَيَقُولَ: هَذَا سَمَاعِي فَارْوِهِ عَنِّي. وَمِنْ صُوَرِهَا أَنْ يَجِيءَ الطَّالِبُ إلَى الشَّيْخِ بِجُزْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ فَيَعْرِضُهُ عَلَيْهِ، فَيَتَأَمَّلَهُ الشَّيْخُ الْعَارِفُ الْمُتَيَقِّظُ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ، وَيَقُولُ: وَقَفْت عَلَى مَا فِيهِ، وَهُوَ حَدِيثِي عَنْ فُلَانٍ أَوْ ثَبَتَ عَلَيَّ مَا نَاوَلْتَنِيهِ وَهُوَ مَسْمُوعِي عَنْ فُلَانٍ فَارْوِهِ عَنِّي. وَهَذَا يُسَمَّى عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ، كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ تُسَمَّى عَرْضَ الْقِرَاءَةِ، وَلَهُ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الْإِلْمَاعِ ". وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ سَأَلَ مَالِكًا عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِهِ، فَكَتَبَ لَهُ مَالِكٌ بِيَدِهِ أَحَادِيثَ وَأَعْطَاهَا لَهُ، فَقِيلَ لِابْنِ وَهْبٍ: أَقَرَأَهَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَلَى مَالِكٍ؟ فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: هُوَ أَفْقَهُ مِنْ ذَلِكَ. يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَا كَتَبَهُ مَالِكٌ بِيَدِهِ وَنَاوَلَهُ إيَّاهَا يُغْنِي عَنْ قِرَاءَتِهِ إيَّاهَا عَلَى مَالِكٍ. قُلْت: لَكِنَّ الصَّيْرَفِيَّ حَكَى الْخِلَافَ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: إذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ كِتَابًا، فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ جَمِيعَ مَا فِيهِ، وَحَدَّثَنِي بِجَمِيعِهِ فُلَانٌ، فَاحْمِلْ عَنِّي جَمِيعَ مَا فِيهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَا قَالَ، وَلَا يَقُولُ: حَدَّثَنَا، وَلَا أَخْبَرَنَا فِي كُلِّ حَدِيثٍ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ هَذَا الرَّجُلَ كَرَجُلٍ اعْتَرَفَ بِمَا فِي صَكٍّ، وَلَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِ، لِيَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ، فَأَجَازَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ، حَتَّى يَقْرَأَ عَلَيْهِ أَوْ يَقْرَأَهُ، وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي: لَا يَقْبَلُهُ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ الْقَاضِيَ قَرَأَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَشْهَدَا عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَخْتُومًا حَتَّى يُقْرَأَ عَلَيْهِمَا، وَالْحَدِيثُ أَخَفُّ مِنْ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ، إذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ حَدِيثُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَشْيَاعِهِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الصِّكَاكِ. انْتَهَى. وَكَلَامُ الْبَيْهَقِيّ يَقْتَضِي أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعُ، فَإِنَّهُ حَكَى عَنْ السَّلَفِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ نَصَّ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، وَحَتَّى يَفْتَحَهُ وَيَقْرَأَهُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْخَاتَمَ قَدْ يُصْنَعُ عَلَى الْخَاتَمِ، وَحَكَى فِي تَبْدِيلِ الْكِتَابِ حِكَايَةً، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي ذَلِكَ جَوَابٌ عَنْ احْتِجَاج مَنْ احْتَجَّ بِقِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ التَّبْدِيلَ فِيهَا كَانَ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ، وَهُوَ بَعْدَهُ عِنْدَ تَغَيُّرِ النَّاسِ مُتَوَهَّمٌ. انْتَهَى. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الرِّوَايَةِ أَيْضًا فَلْتَمْتَنِعْ. نَعَمْ، اخْتَلَفُوا فِي شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَلْ هِيَ حَالَّةٌ مَحَلَّ السَّمَاعِ؟ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُنْحَطَّةٌ عَنْهُ، وَحَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَصَاحِبَيْهِ: الْمُزَنِيّ، وَالْبُوَيْطِيُّ، وَعَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا مُوَازِيَةٌ لِلسَّمَاعِ، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ عِنْدِي كَالسَّمَاعِ الصَّحِيحِ. وَأَثَرُ الْخِلَافِ يَظْهَرُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي. الثَّانِي: أَنَّهَا هَلْ تُفِيدُ تَأْكِيدًا عَلَى الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ؟ فَالْمُحَدِّثُونَ عَلَى إفَادَتِهَا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأُصُولِيُّونَ، وَرَأَوْا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ تَأْكِيدًا، صَرَّحَ

بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْغَزَالِيُّ. قَالُوا: الْمُنَاوَلَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا، وَلَا فِيهَا مَزِيدُ تَأْكِيدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ زِيَادَةُ تَكَلُّفٍ أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: نَاوَلَنِي فُلَانٌ كَذَا وَأَخْبَرَنِي، وَحَدَّثَنِي مُنَاوَلَةً بِالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ. فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: حَدَّثَنِي، أَوْ أَخْبَرَنِي، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِنُطْقِ الشَّيْخِ بِذَلِكَ، وَهُوَ كَذِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ، كَمَا فِيمَا إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ، هُوَ سَاكِتٌ، بَلْ أَوْلَى. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَجَرَّدَ عَنْ الْإِجَازَةِ بِأَنْ يَقُولَ: خُذْ هَذَا الْكِتَابَ، أَوْ نَاوَلَهُ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَقُولُ: ارْوِهِ عَنِّي، فَلَا تَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالِاتِّفَاقِ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُنَاوِلَهُ الْكِتَابَ، وَيَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا سَمَاعِي مِنْ فُلَانٍ، وَلَا يَقُولُ: ارْوِهِ عَنِّي. فَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ: لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ صَحَّحُوهَا. قُلْت: وَجَوَّزَ ابْنُ الصَّبَّاغِ الرِّوَايَةَ بِهَا. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَكَلَامُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ صَرِيحٌ فِيهِ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَلِّطُهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَ، ثُمَّ تَشَكَّكَ فِيهِ، وَمَعَهُ لَا تَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ، فَلَا يُرْوَى عَنْهُ، هَذَا كُلُّهُ إذَا صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ الْكِتَابَ، فَلَوْ قَالَ: حَدِّثْ عَنِّي، أَوْ ارْوِ عَنِّي مَا فِي الْكِتَابِ، وَلَمْ يَقُلْ: إنَّنِي قَدْ سَمِعْته، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ، كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الرِّوَايَةِ السَّمَاعُ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَهُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ فِيهِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّيْخِ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ إذَا عَلِمَ أَنَّ النُّسْخَةَ

حكم العمل بالإجازة

الْمُشَارَ إلَيْهَا هِيَ النُّسْخَةُ الَّتِي سَمِعَهَا بِعَيْنِهَا، أَوْ عَلِمَ مُوَافَقَتَهَا لَهَا بِالْمُقَابَلَةِ الْمُتْقَنَةِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ. فَعَلَى هَذَا إذَا سَمِعَ الشَّيْخُ نُسْخَةً مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ مَثَلًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نُسْخَةٍ أُخْرَى مِنْهُ إلَّا بِشَرْطِهِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ النُّسَخَ تَتَفَاوَتُ. فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْوِيَ إلَّا مَا يَقْطَعُ بِسَمَاعِهِ، وَحِفْظِهِ وَضَبْطِهِ، إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ بِحَيْثُ يَقْطَعُ أَنَّ مَا أَدَّاهُ هُوَ مَعْنَى مَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الرِّوَايَةُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَفِيهِ خِلَافٌ. فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا: قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْمُنَاوَلَةُ حَقِيقَةٌ فِيمَا يُعْطَى بِالْيَدِ، وَهِيَ صِيغَةٌ اسْتَعْمَلَهَا الْمُحَدِّثُونَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الرِّوَايَةِ، وَجَعَلُوا الْمُنَاوَلَةَ الْإِشَارَةَ وَالْإِخْبَارَ. فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ الْمُسَوِّغُ لِلرِّوَايَةِ، وَإِنْ حَصَلَتْ الْمُنَاوَلَةُ وَحْدَهَا فَلَا عِبْرَةَ بِهَا. نَعَمْ لَوْ كَانَ مُنَاوَلَةً مِنْ غَيْرِ الْإِعْطَاءِ، فَفِي جَوَازِهِ نَظَرٌ. الثَّانِيَةُ: نَازَعَ الْعَبْدَرِيّ فِي إفْرَادِ الْمُنَاوَلَةِ، وَقَالَ: لَا مَعْنَى لَهَا حَتَّى يَقُولَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي، وَحِينَئِذٍ فَهِيَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْإِجَازَةِ، وَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ إنْكَارِ مَزِيدِ التَّأْكِيدِ فِيهَا. [حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْإِجَازَةِ] [حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْإِجَازَةِ] الرَّابِعَةُ: الْإِجَازَةُ: بِأَنْ يَقُولَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ، أَوْ هَذَا الْكِتَابَ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِهَا وَالرِّوَايَةِ، أَمَّا الْعَمَلُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْعَمَلِ بِأَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ، وَقِيلَ: كَالْمُرْسَلِ، حَكَاهُ

مذاهب العلماء في الرواية بالإجازة

الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّهُ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى حُصُولِ الثِّقَةِ بِالْخَبَرِ، وَهِيَ هَاهُنَا حَاصِلَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ سَمَاعُ الشَّيْخِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُتَلَقِّي مِنْهُ سَمَاعُهُ، وَسَوَّغَ لَهُ إسْنَادَ مَسْمُوعَاتِهِ إلَى أَخْبَارِهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعَلِّقَ الْأَخْبَارَ بِهَا جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ الِاتِّفَاقَ، وَلَكِنْ فِيهِ مَذَاهِبُ. [مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ] [مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ] أَحَدُهَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ شُعْبَةُ، وَقَالَ لَوْ صَحَّتْ الْإِجَازَةُ لَبَطَلَتْ الرِّحْلَةُ، وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيَّ، وَقَالَ: لَوْ صَحَّتْ لَذَهَبَ الْعِلْمُ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ الْأَصْفَهَانِيُّ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ مِنَّا، وَأَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ: مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيَّ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِحْكَامِ ". وَقَالَ: إنَّهَا بِدْعَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَقْدِيرُ أَجَزْت لَك أَبَحْتُ لَك مَا لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يُبِيحُ رِوَايَةَ مَا لَمْ يَسْمَعْ. وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَا أَرَى هَذَا يَجُوزُ، وَلَا يُعْجِبُنِي، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، يَعْنِي؛ لِأَنَّ

الرَّبِيعُ قَالَ: هَمَّ الشَّافِعِيُّ بِالْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، وَكَانَ قَدْ فَاتَنِي مِنْ الْبُيُوعِ مِنْ كِتَابِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثُ وَرَقَاتٍ، فَقُلْت لَهُ: أَجِزْهَا لِي. قَالَ: فَاقْرَأْهَا عَلَيَّ كَمَا قُرِئَ عَلَيَّ، وَرَدَّدَ عَلَيَّ ذَلِكَ، حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ، فَجَلَسَ وَقُرِئَ عَلَيْهِ. وَسَمِعْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتُوُفِّيَ عِنْدَنَا، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ بِزِيَادَةٍ، يَعْنِي أَنَّهُ كَرِهَ الْإِجَازَةَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا فِي الْحِكَايَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ كَرِهَ الْإِجَازَةَ. قَالَ الْحَاكِمُ: فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، لَقَدْ كَرِهَ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، ثُمَّ عَابَ شَيْخُنَا رِوَايَةَ مَا أُجِيزَ لَهُ بِأَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا، قَالَ: وَبِمِثْلِهِ يَذْهَبُ بَهَاءُ الْعِلْمِ وَالسَّمَاعِ وَالرِّحْلَةِ. الثَّانِي: - وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - الصِّحَّةُ، وَحَمَلُوا كَلَامَ الْمَانِعِينَ عَلَى الْكَرَامَةِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ مَالِكٍ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِأَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْعَهُ إنَّمَا هُوَ وَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنْ يُجِيزَ الْعِلْمَ لِمَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ، وَلَا خَدَمَهُ، وَلَا عَانَى التَّعَبَ، وَلِهَذَا قَالَ: إنَّمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُقِيمَ الْمَقَامَ الْيَسِيرَ، وَيَحْمِلَ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَةُ الِاتِّكَالِ عَلَى الْإِجَازَةِ بَدَلًا عَنْ السَّمَاعِ، وَقَدْ قَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: لَمَّا كَانَ قَدْمَةُ الشَّافِعِيُّ الثَّانِيَةِ إلَى بَغْدَادَ آتَيْته، فَقُلْت لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك الْكُتُبَ؟ قَالَ: خُذْ كُتُبَ الزَّعْفَرَانِيِّ فَانْسَخْهَا، فَقَدْ أَجَزْتُهَا لَك، فَأَخَذْتُهَا إجَازَةً. قُلْت: هَذَا مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، فَكَيْفَ يُقْضَى لِلْقَدِيمِ عَلَى الْجَدِيدِ؟ نَعَمْ، الْمَنْقُولُ عَنْ الْجَدِيدِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْمَنْعِ. فَلَا تَعَارُضَ، وَقَدْ رَوَى الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْإِجَازَةَ لِمَنْ بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أُصُولَهُ، أَوْ فُرُوعًا كُتِبَتْ عَنْهَا، وَيَنْظُرُ فِيهَا، وَيُصَحِّحُهَا، حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ.

وَالرَّابِعُ: إنْ كَانَ الْمُجِيزُ وَالْمُسْتَجِيزُ كِلَاهُمَا يَعْلَمَانِ مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ الْأَحَادِيثِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلُوهُ عَنْ مَالِكٍ فَإِنَّهُ شَرَطَ فِي الْمُجِيزِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يُجِيزُ، وَفِي الْمُجَازِ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ مَسْمُوعِ الشَّيْخِ ضَرُورَةً أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ جَمِيعَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. وَالْخَامِسُ: لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمُخَاطَبَةِ، فَإِنْ خَاطَبَهُ بِهَا صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ " الْأُصُولِ ". التَّفْرِيعُ إنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَاخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ. إحْدَاهَا: هَلْ تَجُوزُ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطٍ؟ فَأَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ، وَسَبَقَ عَنْ مَالِكٍ اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْمُجِيزِ وَالْمُجَازِ لَهُ، وَعَلَى هَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ إلَّا لِمَاهِرٍ بِالصِّنَاعَةِ، وَفِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُشْكِلُ إسْنَادُهُ. وَقَسَّمَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ الْإِجَازَةَ إلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْمُجَازُ لَهُ مَا فِي الْكِتَابِ فَلَهُ الرِّوَايَةُ بِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَعْلَمُ، وَلَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي، فَلَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ، إذَا كَانَ الْكِتَابُ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ. قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُمَا فَالْمُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ، وَلَمْ يَعْلَمْ وَإِذَا كَانَ لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ لَهُ إذَا سَمِعَ وَلَمْ يَعْلَمْ، فَهَذَا أَوْلَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَرْوِي عَنْهُ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ مَسْمُوعَاتِهِ تَوْسِعَةً لِلْأَمْرِ، وَدَفْعًا

لِلْحَرَجِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ إخْبَارًا إجْمَالِيًّا، كَمَا إذَا أَرْسَلَ إلَيْهِ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى عِدَّةِ مُهِمَّاتٍ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُجَازُ لَهُ مَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلرَّاوِي: أَتَعْلَمُ مَا فِيهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، ثُمَّ يُجِيزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ. قُلْت: وَعَلَى هَذَا فَلَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ، إلَّا لِمَنْ يَصِحُّ سَمَاعُهُ، وَحَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَأَنَّهُ مَنَعَ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ لِلطِّفْلِ. قَالَ: وَسَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيّ، هَلْ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّتِهَا سِنُّهُ أَوْ تَمْيِيزُهُ كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ سَمَاعِهِ؟ فَقَالَ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا دُونَ السَّمَاعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ أَنَّهُ كَالسَّمَاعِ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ، وَهُوَ غَرِيبٌ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَقُولُ فِيهَا: حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي، وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ عَنْ ابْنِ خُوَيْزٍ مَنْدَادٍ: إنَّا إذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ أُطْلِقَ ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ لَمْ يَقُلْ إلَّا: أَجَازَنِي، أَوْ حَدَّثَنِي، أَوْ أَخْبَرَنِي إجَازَةً. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": الْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعْتَبَرَ لَفْظُ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ، وَيُنْظَرَ مُطَابَقَتُهُ لِنَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْوَضْعِ. فَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ لَا يَمْنَعُهُ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، فَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَيَلِيهِ قَوْلُهُ: أَخْبَرَنَا، وَأَجْوَدُ الْعِبَارَاتِ فِي الْإِجَازَةِ أَنْ يُقَالَ: أَجَازَ لَنَا فُلَانٌ، أَوْ كَتَبَ إلَيْنَا، إنْ كَانَ كِتَابَةً؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ صَحِيحٌ. اهـ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي الْإِجَازَةِ: يَحْكِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا، أَوْ أَخْبَرَنَا. قَالَ: وَذَهَبَ إلَى هَذَا أَبُو بَكْرٍ اهـ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هَلْ يَقُولُ: حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي مُطْلَقًا؟ مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، حَتَّى يُقَيِّدَهُ بِالْإِجَازَةِ، وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْأَوْلَى التَّصْرِيحُ بِهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ فَلَا لَبْسَ فِيهِ، وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَأَقَرَّهُ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَجَازَنِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ أَخْبَرَنِي، وَحَدَّثَنِي، وَهِيَ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُجِيزَ بِمُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، بِأَنْ يَقُولَ: أَجَزْت لَك الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ، وَهُوَ أَعْلَاهَا. وَثَانِيهَا: لِمُعَيَّنٍ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَقَوْلِهِ: أَجَزْت لَك، أَوْ لَكُمْ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِي. وَالْخِلَافُ فِي هَذَا أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَجْوِيزِهِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِيمَا إذَا قَالَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا صَحَّ عِنْدِي مِنْ مَسْمُوعَاتِي: فَهَذِهِ إجَازَةٌ مُرَتَّبَةٌ عَلَى عَمَايَةٍ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ لِهَذَا الْفَرْعِ بِصِحَّةِ سَمَاعِ الشَّيْخِ إلَّا بِالتَّعْوِيلِ عَلَى خُطُوطٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى سَمَاعِ الشَّيْخِ. قَالَ: وَإِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مُقْنِعًا، فَإِنْ تَحَقَّقَ ظُهُورُ سَمَاعِ مَوْثُوقٍ بِهِ فَإِذْ ذَاكَ، وَهَيْهَاتَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُجِيزَ مُعَيَّنٌ لِمُعَيَّنٍ بِوَصْفِ الْعُمُومِ، مِثْلُ أَجَزْت لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِمَنْ أَدْرَكَ حَيَاتِي، فَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَجَوَّزَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ. وَجَوَّزَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الْإِجَازَةَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمْ عِنْدَ الْإِجَازَةِ. وَرَابِعُهَا: الْإِجَازَةُ لِلْمَجْهُولِ أَوْ بِالْمَجْهُولِ، مِثْلُ أَجَزْت

لِمُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيِّ، وَفِي وَقْتِهِ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مُشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ، ثُمَّ لَا يُعَيِّنُ الْمُجَازَ لَهُ، أَوْ يَقُولُ: أَجَزْت لِفُلَانٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي كِتَابَ السُّنَنِ، وَهُوَ يَرْوِي جَمَاعَةٌ مِنْ كُتُبِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ بِذَلِكَ، وَلَا قَرِينَةَ تَصْرِفُ لِبَعْضِهَا، فَهِيَ إجَازَةٌ فَاسِدَةٌ، وَلَا فَائِدَةَ لَهَا. هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فِي " الرَّوْضَةِ " وَغَيْرِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ بِالْجَوَازِ، وَيَسْتَبِيحُ رِوَايَتَهُ جَمِيعَهَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، وَلَا مَانِعَ فِيهِ. خَامِسُهَا: الْإِجَازَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِشَرْطٍ، مِثْلُ: أَجَزْت لِمَنْ شَاءَ فُلَانٌ أَوْ نَحْوُهُ، وَهُوَ كَالنَّوْعِ الرَّابِعِ، وَفِيهِ جَهَالَةٌ، وَتَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ، وَقَدْ أَفْتَى أَبُو الطَّيِّبِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ إجَازَةٌ لِمَجْهُولٍ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَجَزْت لِبَعْضِ النَّاسِ، وَجَوَّزَهُ أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَمْرُوسٍ الْمَالِكِيُّ. وَسَادِسُهَا: الْإِجَازَةُ بِمَا لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُجِيزُ، وَلَمْ يَتَحَمَّلْهُ فِيمَا مَضَى لِرِوَايَةِ الْمُجَازِ لَهُ إذَا تَحَمَّلَهُ الْمُجِيزُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ بِالْمُجَازِ جُمْلَةً، أَوْ هِيَ إذْنٌ، فَلَا يَصِحُّ إنْ جُعِلَتْ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ، إذْ كَيْفَ يُجِيزُ مَا لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْهُ؟ وَإِنْ جُعِلَتْ إذْنًا بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَصْحِيحِ الْوَكَالَةِ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُوَكِّلُ، وَالصَّحِيحُ بُطْلَانُ هَذِهِ الْإِجَازَةِ. سَابِعُهَا: إجَازَةُ الْمُجَازِ، مِثْلُ: أَجَزْت لَك مُجَازَاتِي أَوْ رِوَايَةَ مَا أُجِيزَ لِي رِوَايَتُهُ، وَقَدْ مَنَعَهُ بَعْضُ

الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، وَقَدْ كَانَ الْفَقِيهُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ يَرْوِي بِالْإِجَازَةِ عَنْ الْإِجَازَةِ. ثَامِنُهَا: الْإِذْنُ فِي الْإِجَازَةِ وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَذِنْت لَك أَنْ تُجِيزَ عَنِّي مَنْ شِئْت، وَهَذَا نَوْعٌ لَمْ يَذْكُرُوهُ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ فِي عَصْرِنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَكِّلْ عَنِّي. تَاسِعُهَا: الْإِجَازَةُ لِمَنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهَا حِينَ الْإِجَازَةِ، وَهُوَ يَشْمَلُ صُوَرًا: مِنْهَا الصَّبِيُّ، وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: سَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْإِجَازَةِ لِلطِّفْلِ الصَّغِيرِ سِنُّهُ أَوْ تَمْيِيزُهُ، كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ سَمَاعِهِ؟ فَقَالَ: لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ. فَقُلْت لَهُ: إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ: لَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ لِمَنْ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ. فَقَالَ: قَدْ يَصِحُّ أَنْ يُجِيزَ لِلْغَائِبِ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ السَّمَاعُ لَهُ، وَاحْتَجَّ الْخَطِيبُ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا هِيَ إبَاحَةُ الْمُجِيزِ لِلْمُجَازِ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ، وَالْإِبَاحَةُ تَصِحُّ لِلْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهَا: الْمَجْنُونُ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ لَهُ، ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ. وَمِنْهَا: الْكَافِرُ، وَقَدْ صَحَّحُوا تَحَمُّلَهُ إذَا أَدَّاهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَقِيَاسُ إجَازَتِهِ كَذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي زَمَنِ

الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ وَكَانَ طَبِيبٌ يُسَمَّى عَبْدَ السَّيِّدِ بْنَ الزَّيَّاتِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ فِي حَالِ يَهُودِيَّتِهِ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الصُّورِيِّ، وَكَتَبَ اسْمَهُ فِي طَبَقَةِ السَّمَاعِ مَعَ السَّامِعِينَ، وَأَجَازَ ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ لِمَنْ سَمِعَ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَكَانَ السَّمَاعُ وَالْإِجَازَةُ بِحُضُورِ الْمِزِّيِّ، وَبَعْضُ السَّمَاعِ بِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ هَدَى اللَّهُ ابْنَ عَبْدِ السَّيِّدِ الْمَذْكُورِ لِلْإِسْلَامِ، وَحَدَّثَ وَتَحَمَّلَ الطَّالِبُونَ عَنْهُ، وَمِنْهَا: الْإِجَازَةُ لِلْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهَا، وَأَوْلَى مِنْ الْكَافِرِ. وَمِنْهَا: الْإِجَازَةُ لِلْحَمْلِ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا غَيْرَ أَنَّ الْخَطِيبَ قَالَ: لَمْ نَرَهُمْ أَجَازُوا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِكَوْنِهِ إذَا وَقَعَ: هَلْ تَصِحُّ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ الْمَعْدُومِ، وَيَقْوَى إذَا أُجِيزَ لَهُ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ، وَيُحْمَلُ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ يُعْلَمُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْلَمُ كَانَتْ كَالْإِجَازَةِ لِلْمَجْهُولِ، فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ، وَإِنْ قُلْنَا: يُعْلَمُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، صَحَّتْ. وَمِنْهَا: الْإِجَازَةُ لِلْمَعْدُومِ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ: أَجَزْت لِمَنْ يُولَدُ لِفُلَانٍ

مسألة شرط صحة الإجازة

جَوَّزَهُ ابْنُ الْفَرَّاءِ، وَابْنُ عَمْرُوسٍ، وَالْخَطِيبُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَمَأْخَذُهُمْ اعْتِقَادُ أَنَّ الْإِجَازَةَ إذْنٌ فِي الرِّوَايَةِ لَا مُحَادَثَةٌ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ رَأْيُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، أَمَّا إجَازَتُهُ عَطْفًا عَلَى الْحَيِّ كَقَوْلِهِ: أَجَزْت لَك، وَلِوَلَدِك، فَهِيَ إذْنٌ إلَى الْجَوَازِ أَوْلَى، وَلِهَذَا أَجَازَهُ أَصْحَابُنَا فِي الْوَقْفِ. [مَسْأَلَةٌ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ] ِ] وَإِذَا جَوَّزْنَا الْإِجَازَةَ فَالشَّرْطُ تَحَقُّقُ رِوَايَةِ الشَّيْخِ لِمَا أَجَازَهُ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَكِنَّهُ ظَنَّ، فَهَلْ يُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: نَعَمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا. كَذَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ: فَلَوْ شَكَّ فِي الرِّوَايَةِ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا، وَكَذَا لَوْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْمَرْوِيُّ بِغَيْرِهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ رِوَايَةُ شَيْءٍ مِنْ الْمُخْتَلَطِ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّة أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا شَرَطَا فِي الْإِجَازَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ عِلْمَ الْمُجِيزِ بِمَا أَجَازَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا فِيهِ لَا يَجُوزُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كَمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَهَذَا لِخَطَرِ أَمْرِ السُّنَّةِ، وَتَصْحِيحُ الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ قَبِيحٌ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي كِتَابِهِ: شَرْطُ الْإِجَازَةِ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْكِتَابِ مَعْلُومًا لِلْمُجَازِ، وَالْمُجِيزُ مِنْ أَهْلِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَجِيزُ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا فِي الْكِتَابِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ. قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْإِجَازَةَ لَا تَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.

فصل في المرسل من الحديث

[فَصْلٌ فِي الْمُرْسَلِ مِنْ الْحَدِيثِ] ِ] شَرْطُ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ الِاتِّصَالُ فَالْمُنْقَطِعُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا وَأَمَّا الْمُرْسَلُ، وَهُوَ تَرْكُ التَّابِعِيِّ ذِكْرَ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ. فَلَوْ سَقَطَ وَاحِدٌ قَبْلَ التَّابِعِيِّ، كَقَوْلِ الرَّاوِي عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَإِنْ سَقَطَ أَكْثَرُ سُمِّيَ مُعْضَلًا، هَذِهِ طَرِيقَةُ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ، وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: الْمُرْسَلُ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، سَوَاءٌ التَّابِعِيُّ أَمْ تَابِعُ التَّابِعِيِّ فَمَنْ بَعْدَهُ، فَتَعْبِيرُ الْأُصُولِيِّينَ أَعَمُّ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهُوَ رِوَايَةُ التِّلْمِيذِ عَنْ شَيْخِ شَيْخِهِ، كَقَوْلِ مَالِكٍ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَإِنَّمَا أَخَذَ عَنْ الْآخِذِينَ عَنْهُ، وَهَذَا قَدْ يَقَعُ مِنْ الرَّاوِي، بِأَنْ يَحْذِفَ ذِكْرَ مَنْ رَوَى عَنْهُ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا، وَقَدْ يَتَعَرَّضُ لِذِكْرِهِ ذِكْرًا لَا يُفِيدُ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ إرْسَالًا أَيْضًا، كَقَوْلِك: حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ فُلَانٍ، وَكَذَا لَوْ أَضَافَ إلَيْهِ الْعَدَالَةَ، كَقَوْلِك: حَدَّثَنِي عَدْلٌ، وَهَذَا يَلْتَحِقُ بِالْمُرْسَلَاتِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ

الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ أَنَّهُ سَمَّى حَذْفَ الرَّاوِي شَيْخَهُ مُنْقَطِعًا، كَقَوْلِ التَّابِعِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلِ تَابِعِ التَّابِعِيِّ: قَالَ الصَّحَابِيُّ، وَسَمَّى ذِكْرَهُ عَلَى الْإِجْمَالِ مُرْسَلًا، مِثْلُ قَوْلِ التَّابِعِيِّ: سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إشَارَةٌ إلَى هَذَا، وَلَيْسَ فِيهِ فَرْقٌ مَعْنَوِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ. وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ فُورَكٍ بِأَنَّ الَّذِي فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمُرْسَلَ قَوْلُ التَّابِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ كَذَا وَكَذَا. انْتَهَى. فَذَكَرَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مَا حُذِفَ فِيهِ اسْمُ الرَّاوِي، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لَا مُعَيَّنًا وَلَا مُجْمَلًا، لَكِنَّ الْإِمَامَ ثِقَةٌ فِيمَا يَنْقُلُ، فَلَعَلَّ الْمَازِرِيَّ سَقَطَ مِنْ نُسْخَتِهِ ذَلِكَ، وَقَدْ وَافَقَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَلَى هَذَا النَّقْلِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: الْمُرْسَلُ رِوَايَةُ التَّابِعِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ يَرْوِي رَجُلٌ عَمَّنْ لَمْ يَرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": هُوَ رِوَايَةُ التَّابِعِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ تَابِعِ التَّابِعِيِّ عَنْ الصَّحَابِيِّ، فَأَمَّا إذَا قَالَ تَابِعُ التَّابِعِيِّ أَوْ وَاحِدٌ مِنَّا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَلَا يَقَعُ بِهِ تَرْجِيحٌ فَضْلًا عَنْ الِاحْتِجَاجِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَرْهَانٍ. اهـ. وَقِيلَ: الْمُرْسَلُ: مَا رَفَعَهُ التَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ، وَمَرَاسِيلُ صِغَارِهِمْ تُسَمَّى مُنْقَطِعَةً. حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ قَوْمٍ، وَقِيلَ: مَا سَقَطَ رَاوٍ مِنْ إسْنَادِهِ فَأَكْثَرَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. فَعَلَى هَذَا الْمُرْسَلُ وَالْمُنْقَطِعُ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: رِوَايَتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا مَنْ رَوَى عَمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، بَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ لَيْسَ بِإِرْسَالٍ، بَلْ تَدْلِيسٌ.

حكم العمل بالمرسل

إذَا عَلِمْت هَذَا فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إرْسَالِ الْحَدِيثِ، كَقَوْلِ مَالِكٍ: بَلَغَنِي عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَوْلِ الْوَاحِدِ: قَالَ مَالِكٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ، إذَا وَقَعَ هَلْ يَلْزَمُ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ؟ . [حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ] [حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ] ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى ضَعْفِهِ، وَسُقُوطِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَنَقَلَهُ مُسْلِمٌ فِي صَدْرِ صَحِيحِهِ عَنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ لِاحْتِمَالِ سَمَاعِهِ مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، أَوْ مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِصُحْبَتِهِ. وَقَالَ بِقَبُولِهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَكَذَا أَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ، مِنْهُمْ أَبُو هَاشِمٍ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، ثُمَّ غَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً فَزَعَمَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْمُسْنَدِ، لِثِقَةِ التَّابِعِيِّ بِصِحَّتِهِ فِي إرْسَالِهِ. وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْوَاضِحِ " عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَغَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَأَنْكَرَ مُرْسَلَ الصَّحَابَةِ إذَا احْتَمَلَ سَمَاعَهُ مِنْ تَابِعِيٍّ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَفَصَّلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ، فَقَبِلَ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَتَابِعِي التَّابِعِينَ، وَمَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ مُطْلَقًا دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ.

وَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَالسَّرَخْسِيُّ فِي " عُيُونِ الْمَسَائِلِ "، وَقَالَ: إنَّمَا يَعْنِي بِهِ إذَا حَمَلَ النَّاسُ عَنْهُ الْعِلْمَ، وَجَبَ قَبُولُ مُرْسَلِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ ابْنُ أَبَانَ بِحَمْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبُولَهُمْ مِنْهُ، لَا عَلَى السَّمَاعِ. قَالَ: وَمَنْ حَمَلَ النَّاسُ عَنْهُ الْحَدِيثَ الْمُسْنَدَ، وَلَمْ يَحْمِلُوا عَنْهُ الْمُرْسَلَ، فَمُرْسَلُهُ مَوْقُوفٌ. اهـ. وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ قَالَ: إنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، لَنَا أَنَّهُ لَوْ قُبِلَ الْحَدِيثُ بِلَا إسْنَادٍ لَفَسَدَ الدِّينُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لَوْلَا الْأَسَانِيدُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ؛ وَلِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يُرْسِلُ عَمَّنْ هُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ وَمَجْرُوحٌ عِنْدَ غَيْرِهِ. فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَسْمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعْدِيلَ لِلْحَاكِمِ لَا إلَى غَيْرِهِ. فَكُلُّ الْعَدَالَةِ إنَّمَا هِيَ عَلَى مَا عِنْدَ الْمَرْوِيِّ لَهُ، لَا عَلَى مَا عِنْدَ الرَّاوِي؛ لِأَنَّ مَذَاهِبَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، مَا الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ إلَّا قَالَ: حَدَّثَنِي، وَمَا رَأَيْت أَحَدًا أَصْدَقَ مِنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَالْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، وَكَانَا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ الضُّعَفَاءِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ شُهُودِ الْفَرْعِ مِنْ الْمَجَاهِيلِ إلَّا أَنْ يُعَيِّنُوا أَسَامِيَهُمْ، فَيَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: الشَّهَادَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالِاحْتِيَاطِ؟ قُلْنَا: فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَدَالَةِ سَوَاءٌ. وَأَمَّا كَلَامُ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمُرْسَلِ إذَا كَانَ مُرْسِلُهُ غَيْرَ مُحْتَرِزٍ، يُرْسِلُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ

قَالَ: وَهَذَا الِاسْمُ وَاقِعٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى حَدِيثِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، وَأَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ. وَكَذَلِكَ عَلْقَمَةُ وَمَسْرُوقُ

بْنُ الْأَجْدَعِ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ الَّذِينَ صَحَّ لَهُمْ لِقَاءُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَنَحْوُهُ مُرْسَلُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ، كَحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي حَازِمٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُسَمَّى مُرْسَلًا، كَمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: حَدِيثُ هَؤُلَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَمَّى مُنْقَطِعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْقَوْا مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَأَكْثَرُ رِوَايَتِهِمْ عَنْ التَّابِعِينَ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّمْثِيلُ فِي بَعْضِهِ مُنَاقَشَةٌ، فَإِنَّ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ ذُكِرَ أَنَّهُ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ سَمِعَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَشْهَبِ بْنِ سَعْدٍ، وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، وَسُنَيْنٍ أَبَا جَمِيلَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ

وَرَبِيعَةَ بْنِ عِبَادٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - وَمَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ - بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ - وَأَبِي الطُّفَيْلِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - بِضَمِّ الْحَاءِ - وَرَجُلًا مِنْ بَلِيٍّ، - بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ -، وَكُلُّهُمْ صَحَابَةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَمَاعِهِ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، فَأَثْبَتَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَنَفَاهُ الْجُمْهُورُ. وَأَمَّا قَتَادَةُ فَسَمِعَ أَنَسًا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَرْجِسَ، وَأَبَا الطُّفَيْلِ، وَهُمْ صَحَابَةٌ، وَأَمَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، فَسَمِعَ أَنَسًا، وَالسَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ. فَلَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَلْقَوْا مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ. وَتَمْثِيلُ أَبِي عَمْرٍو أَوَّلًا بِأَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، وَبِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، وَأَنَّهُمْ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا يُتَّجَهُ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ كَوْنِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ، كَمَا نَقَلْنَاهُ. إلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ، أَوْ خَمْسٌ. وَلِهَذَا مَا أَخْرَجَا حَدِيثَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، إنَّمَا رَوَيَا لَهُ عَنْ أَبِيهِ عَامِرٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَائِشَةَ، وَرَوَى لَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَأَبُو أُمَامَةَ وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ سَمَّاهُ، وَرَوَى لَهُ النَّسَائِيّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ. وَكَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَمَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ وَالسَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَبَا أُمَامَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ تَابِعِيِّينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَأَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ مُرْسَلَ الثِّقَةِ تَجِبُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَمَلُ، كَمَا تَجِبُ بِالْمُسْنَدِ سَوَاءٌ. قَالَ: مَا لَمْ يَعْتَرِضْهُ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ بِالْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي: قَالَ: - وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا - مَرَاسِيلُ الثِّقَاتِ أَوْلَى، وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ مَنْ أَسْنَدَ لَك، فَقَدْ أَحَالَك عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ سَمَّاهُ لَك، وَمَنْ أَرْسَلَ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَدِيثًا مَعَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ وَثِقَتِهِ فَقَدْ قَطَعَ لَك بِصِحَّتِهِ. قَالَ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْحُجَّةِ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ فَعَلُوا الْأَمْرَيْنِ. قَالَ: وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَالِكِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ. وَزَعَمَ الطَّبَرِيِّ أَنَّ التَّابِعِينَ بِأَسْرِهِمْ أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْهُمْ إنْكَارُهُ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ إلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ، كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوَّلَ مَنْ أَبَى قَبُولَ الْمُرْسَلِ. وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، فَلَا إجْمَاعَ سَابِقٌ، فَفِي مُقَدَّمَةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مُرْسَلَ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِنْ الثِّقَاتِ الْمُحْتَجِّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا لَا يَسْأَلُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَنَنْظُرُ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، فَنَأْخُذُ

عَنْهُمْ، وَإِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا نَأْخُذُ عَنْهُمْ. وَنَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ أَنَّ الْمُرْسَلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَنْ إمَامِ التَّابِعِينَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَغَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ يُعْمَلُ بِهِ، وَلَكِنْ دُونَ الْمُسْنَدِ، كَالشُّهُودِ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي الْعَدَالَةِ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْمَالِكِيِّ الْبَصْرِيِّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، بَلْ هُوَ مَرْدُودٌ، وَنَقَلَهُ عَنْ سَائِرِ أَهْلِ الْفِقْهِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فِي كُلِّ الْأَمْصَارِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى الْحَاجَةِ إلَى عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثُمَّ إنِّي تَأَمَّلْت كُتُبَ الْمُنَاظِرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. فَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ مَنْ خَصَمَهُ إذَا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِمُرْسَلٍ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَبَرًا مَقْطُوعًا، وَكُلُّهُمْ عِنْدَ تَحْصِيلِ الْمُنَاظَرَةِ يُطَالِبُ خَصْمَهُ بِالِاتِّصَالِ فِي الْأَخْبَارِ. قَالَ: وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّنَازُعَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ مَنْ لَا يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ، وَبَيْنَ مَنْ يَقْبَلُهُ. فَإِنْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقْبَلُهُ عَلَى مَنْ لَا يَقْبَلُهُ يَقُولُ لَهُ: فَأْتِ بِحُجَّةٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَا يَقْبَلُهُ عَلَى مَنْ يَقْبَلُهُ، قَالَ لَهُ كَيْفَ تَحْتَجُّ عَلَيَّ بِمَا لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَك؟ وَنَحْوُ هَذَا، وَلَمْ نُشَاهِدْ نَحْنُ مُنَاظَرَةً بَيْنَ مَالِكِيٍّ يَقْبَلُهُ، وَبَيْنَ حَنَفِيٍّ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَهُ. وَيَلْزَمُ عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمَا فِي ذَلِكَ قَبُولُ كُلِّ وَاحِدٍ خَبَرَ صَاحِبِهِ الْمُرْسَلَ إذَا أَرْسَلَهُ ثِقَةٌ عَدْلٌ مَا لَمْ يَعْتَرِضْهُ مِنْ الْأُصُولِ مَا يَدْفَعُهُ. قَالَ: وَأَمَّا الْإِرْسَالُ مِمَّنْ عُرِفَ بِالْأَخْذِ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَالْمُسَامَحَةِ فِي ذَلِكَ،

فَلَا يَحْتَجُّ بِهِ، تَابِعِيًّا كَانَ أَوْ مَنْ دُونَهُ وَكُلُّ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ فَتَدْلِيسُهُ وَمُرْسَلُهُ مَقْبُولٌ. اهـ. قُلْت: وَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ نَعْلَمْ هَلْ يَأْخُذُ عَنْ ثِقَةٍ أَوْ لَا؟ تَوَقَّفْنَا فِيهِ، وَلَا نَقْبَلُهُ لِلْجَهْلِ بِحَالِ شَيْخِهِ. فَمَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عِنْدَهُمْ صِحَاحٌ، وَقَالُوا: مَرَاسِيلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، لَا يُحْتَجُّ بِهَا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَأْخُذَانِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَكَذَا مَرَاسِيلُ أَبِي قِلَابَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ إرْسَالَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَيْسَ بِتَدْلِيسٍ هُوَ رِوَايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ لَمْ يُعَاصِرْهُ، أَوْ لَمْ يَلْقَهُ، كَرِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَثَابَتِهِ فِي غَيْرِ التَّابِعِينَ، كَمَالِكٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَكَذَا حُكْمُ مَنْ أَرْسَلَ حَدِيثًا عَنْ شَيْخٍ لَقِيَهُ، وَلَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مِنْهُ، وَسَمِعَ مَا عَدَاهُ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مَقْبُولٌ، إذَا كَانَ الْمُرْسِلُ ثِقَةً عَدْلًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ مِنْ نُقَّادِ الْأَثَرِ.

مرسل الصحابي

[مُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ] ِّ] وَاخْتَلَفَ مُسْقِطُو الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ خَبَرًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، كَقَوْلِ أَنَسٍ: ذُكِرَ لِي أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ: مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» الْحَدِيثَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابِيِّ لَا لِلشَّكِّ فِي عَدَالَتِهِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي الرَّاوِي عَنْ تَابِعِيٍّ، وَعَنْ أَعْرَابِيٍّ لَا يَعْرِفُ صُحْبَتَهُ، وَلَوْ قَالَ: لَا أَرْوِي لَكُمْ إلَّا مِنْ سَمَاعِي أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ، وَجَبَ عَلَيْنَا قَبُولُ مُرْسَلِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ مَقْبُولَةٌ لِكَوْنِ جَمِيعِهِمْ عُدُولًا، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا أَرْسَلُوهُ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ عَنْ التَّابِعِينَ، فَقَدْ بَيَّنُوهُ، وَهُوَ أَيْضًا قَلِيلٌ نَادِرٌ، لَا اعْتِبَارَ بِهِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. قَالَ: وَمَنْ قَبِلَ الْمُرْسَلَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ مَا أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ الصَّحَابِيِّ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ مَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي دَرَجَتِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ بِمَرَاسِيلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ مَنْ قَصُرَ عَنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ جَمِيعِ التَّابِعِينَ إذَا اسْتَوَوْا فِي الْعَدَالَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ مَنْ عُرِفَ فِيهِ النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ شُيُوخِهِ وَالتَّحَرِّي فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ، دُونَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ ذَلِكَ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ سُقُوطُ فَرْضِ اللَّهِ بِالْمُرْسَلِ؛ لِجَهَالَةِ رُوَاتِهِ، وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْخَبَرِ إلَّا مِمَّنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ، وَلَوْ قَالَ الْمُرْسِلُ: حَدَّثَنِي الْعَدْلُ الثِّقَةُ عِنْدِي بِكَذَا، لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَذْكُرُوا اسْمَهُ. اهـ.

المذاهب في قبول رواية المرسل

[الْمَذَاهِبُ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُرْسَلِ] ِ] وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا وَقَفْت عَلَيْهِ فِي الْمُرْسَلِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا: أَحَدُهَا: عَدَمُ قَبُولِ رِوَايَةِ مُرْسَلِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُطْلَقًا، وَقَبُولُ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ النَّبِيُّ كَذَا قُبِلَ، إلَّا إنْ عُلِمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ. وَالثَّانِي: قَبُولُهُ مِنْ الْعَدْلِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابِيِّ فَقَطْ حَكَاهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي " شَرْحِ الْعُدَّةِ "، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَأَمَّا مَرَاسِيلُ التَّابِعِينَ، فَلَا تُقْبَلُ إلَّا بِالشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُ. وَالرَّابِعُ: لَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا، وَحُكِيَ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ بَرْهَانٍ فَقَالَ فِي " كِتَابِ الْأَوْسَطِ ": إنَّهُ الْأَصَحُّ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": إنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ " تَصْرِيحًا عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَالْخَامِسُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ هُوَ أَئِمَّةُ النَّقْلِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَالسَّادِسُ: لَا تُقْبَلُ إلَّا إنْ اُعْتُضِدَ بِأَمْرٍ خَارِجٍ بِأَنْ يُرْسِلَهُ صَحَابِيٌّ آخَرُ، أَوْ يُسْنِدَهُ عَمَّنْ يُرْسِلُهُ، أَوْ يُرْسِلَهُ رَاوٍ آخَرُ يَرْوِي عَنْ غَيْرِ شُيُوخِ

الْأَوَّلِ، أَوْ عَضَّدَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ أَوْ فِعْلُهُ، أَوْ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ الْقِيَاسُ، أَوْ عُرِفَ مِنْ حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ، فَهُوَ حُجَّةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَوَافَقَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ. السَّابِعُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ مَنْ صَغُرَ عَنْهُمْ. وَالثَّامِنُ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ وَالتَّابِعِيَّ إذَا عُرِفَ بِصَرِيحِ خَبَرِهِ، أَوْ عَادَتُهُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ قُبِلَ مُرْسَلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَبُولِ رَدِّ الْمُرْسَلِ. وَالتَّاسِعُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ شُيُوخِهِ وَالتَّحَرِّي فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ. وَالْعَاشِرُ: يُقْبَلُ مُرْسَلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْحَادِيَ عَشَرَ: مِنْ الْقَائِلِينَ بِقَبُولِهِ يُقَدَّمُ مَا أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى مَنْ لَيْسَ فِي دَرَجَتِهِمْ. حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَالثَّانِيَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَرَاسِيلَ الثِّقَاتِ أَوْلَى مِنْ الْمُسْنَدَاتِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مُرْسَلُ الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ مُسْنَدِهِ. وَالثَّالِثَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ الْمُرْسَلُ أَوْلَى مِنْ الْمُسْنَدِ، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِعْمَالِ. وَالرَّابِعَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لِلْمُسْنَدِ مَزِيَّةُ فَضْلٍ لِوَضْعِ الِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْسَلُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ، فَيَقْبَلُ مَرَاسِيلَ بَعْضِ التَّابِعِينَ دُونَ بَعْضٍ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ مَرَاسِيلُ سَعِيدٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ.

السَّادِسَ عَشَرَ: مِنْ الْمُنْكَرِينَ لِلْمُرْسَلِ مَنْ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ عَنْ الصَّحَابَةِ. السَّابِعَ عَشَرَ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَخْتَارُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَى الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُرْسَلَاتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّامِنَ عَشَرَ: لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يُعَضِّدَهُ إجْمَاعٌ فَيُسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ الْمُسْنَدِ. قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِحْكَامِ ". هَذَا حَاصِلُ مَا قِيلَ، وَفِي بَعْضِهَا تَدَاخُلٌ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرْسِلَ إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ لَا يُقْبَلُ إرْسَالُهُ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً، وَعُرِفَ أَنَّهُ يَأْخُذُ عَنْ الضُّعَفَاءِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِمَا أَرْسَلَهُ سَوَاءٌ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا مَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُصَرِّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ فَمُرْسَلُهُ وَتَدْلِيسُهُ، هَلْ يُقْبَلُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ - وَهُوَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - تَخْصِيصُ مَحَلِّ الْخِلَافِ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ مِنْهُمْ: الْمُرْسَلُ عِنْدَنَا إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ. وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ عَلِمْنَا مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ عَمَّنْ لَا يَوْثُقُ بِرِوَايَتِهِ، لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَنْهُ، فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَنْ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ الثِّقَاتِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِيُعْلَمَ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُرْسِلُ ثِقَةً مُتَحَرِّزًا بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُ عَنْ غَيْرِ الْعُدُولِ قَالَ: وَيَلْزَمُ الشَّافِعِيَّ، وَالْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْقَوْلُ بِالْمُرْسَلِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَبِلَا التَّعْدِيلَ بِالْمُطْلَقِ، وَالْمُرْسِلُ إذَا عُلِمَ

مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ عَدْلٍ قُبِلَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِاسْمِهِ. اهـ. وَعَلَى هَذَا فَيَرْتَفِعُ النِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فَقَالَ: إذَا تَبَيَّنَ مِنْ حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ عَنْ رَجُلٍ تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ عَلَى تَعْدِيلِهِ صَارَ حُجَّةً، وَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُوجِبُ التَّقْلِيدَ، وَلَا يُنْكِرُ اخْتِلَافَ الْمَذَاهِبِ فِي التَّعْدِيلِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَيْرَ أَهْلِ مَذْهَبِهِ قَبُولُهُ. وَإِنَّمَا قَالَ الْأَصْحَابُ: مَذْهَبُهُ وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَمَذْهَبُهُ فِي التَّعْدِيلِ مَذْهَبُهُمْ. اهـ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَا خِلَافَ أَنَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ، فَأَمَّا مَرَاسِيلُ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَحُجَّةٌ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا بِشُرُوطٍ. ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا مَرَاسِيلُ مَنْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، فَكَانَ الْكَرْخِيّ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَرَاسِيلِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ، وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ: مَنْ اُشْتُهِرَ فِي النَّاسِ بِحَمْلِ الْعِلْمِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ مُرْسِلًا وَمُسْنِدًا، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ يَحْمِلُ النَّاسُ الْعِلْمَ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا اُشْتُهِرَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَإِنَّ مُسْنَدَهُ يَكُونُ حُجَّةً، وَمُرْسَلُهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى مَنْ اُشْتُهِرَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: وَأَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ فِي هَذَا مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: أَنَّ مُرْسَلَ مَنْ كَانَ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ (لَيْسَ) حُجَّةً، إلَّا مَنْ اُشْتُهِرَ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ مُطْلَقًا إذَا كَانَ الْمُرْسِلُ عَدْلًا يَقِظًا، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو الْفَرَجِ، فَأَمَّا الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ، وَالشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْمَنْعِ، فَإِنَّ كُتُبَهُمْ تَقْتَضِي مَنْعَ الْقَوْلِ بِهِ، لَكِنَّ مَذْهَبَ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ.

فَصْلٌ [تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ] وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ النَّقْلَ قَدْ اضْطَرَبَ عَنْهُ، فَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِالْمَرَاسِيلِ إلَّا عِنْدَ شَرِيطَةِ أَنْ يُسْنِدَهُ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ، أَوْ يَعْمَلَ بِهِ صَاحِبُهُ، أَوْ الْعَامَّةُ، أَوْ أَنَّ الْمُرْسِلَ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَلِهَذَا اسْتَحْسَنَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الْمُرْسَلَ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ يَتَطَلَّبُ فِيهِ مَزِيدَ تَأْكِيدٍ، لِيَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي الثِّقَةِ، وَاسْتُنْبِطَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِهِ فِي قَبُولِ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَاسْتِحْسَانِهِ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَرَأَى أَنَّ الرَّاوِيَ الْمَوْثُوقَ بِهِ، الْعَالِمَ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ إذَا قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ وَأَرْضَاهُ، يُوجِبُ الثِّقَةَ بِحَدِيثِهِ، وَإِنْ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، تَوَقَّفَ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْإِمَامُ الرَّاوِي: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذَا بَالِغٌ فِي ثِقَةِ مَنْ رَوَى لَهُ. قَالَ: وَقَدْ عَثَرْت فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ إلَّا الْمُرْسَلَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالتَّعْدِيلِ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ، فَكَانَ إضْرَابُهُ عَنْ الْمُرْسَلِ فِي حُكْمِ تَقْدِيمِ الْمَسَانِيدِ عَلَيْهَا. اهـ. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ الشَّافِعِيِّ غَرِيبٌ، وَهُوَ شَيْءٌ ضَعِيفٌ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا. وَقَدْ تَنَاهَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ. وَقَالَ: هَذَا عِنْدِي خِلَافُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّ عَلَى أَصْلِهِ لَا يَكُونُ الْمُرْسَلُ حُجَّةً مَعَهُ بِحَالٍ. قَالَ: وَأَنَا لَا أَعْجَبُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ إنْ كَانَ يَنْصُرُ الْقَوْلَ بِالْمُرْسَلِ

فَإِنَّهُ كَانَ مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ، وَمِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ. اهـ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ ": الْمُرْسَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِخَبَرِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ الصَّحَابَةِ. وَقِيلَ: إنَّ الْمُسْنَدَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لِقَوْلِهِ عَمَّا أَسْنَدَهُ غَيْرُهُ. قَالَ: وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ الْمُنْقَطِعُ بِشَيْءٍ، مَا عَدَا مُنْقَطِعَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَعْنِي مَا عَدَا مُنْقَطِعَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ بِهِ. اهـ. فَلَمْ يَحْمِلْ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَجُّ بِمُرْسَلِ سَعِيدٍ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بِهِ خَاصَّةً. وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَأَطْلَقَ فِي الْمُسْتَصْفَى " أَنَّ الْمُرْسَلَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي. قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَقَالَ فِي الْمَنْخُولِ " الْمَرَاسِيلُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَّا مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْمُرْسَلَ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ثَبَتَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ " أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ بِنَقْلٍ عَنْهُ وَيَعْتَقِدُهُ، فَيَعْتَمِدُ مَذْهَبَهُ، وَعَنْ هَذَا قَبِلَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْإِمَامَ الْعَدْلَ إذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ قُبِلَ، فَأَمَّا الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَوَسَّعُونَ فِي كَلَامِهِمْ، فَقَدْ يَقُولُونَهُ لَا عَنْ ثَبْتٍ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ.

وَمَنْ قَبِلَ هَذَا قَالَ: هَذَا مَقْبُولٌ مِنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، فَلَا يُقْبَلُ فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَقَدْ كَثُرَتْ الرِّوَايَةُ، وَطَالَ الْبَحْثُ، وَاتَّسَعَتْ الطُّرُقُ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اسْمِ الرَّجُلِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، إلَّا فِي هَذَا الْأَخِيرِ، فَإِنَّا لَوْ صَادَفْنَا فِي زَمَانِنَا مُتْقِنًا فِي نَقْلِ الْأَحَادِيثِ مِثْلَ مَالِكٍ قَبِلْنَا قَوْلَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْأَعْصَارِ. اهـ. وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْقَاضِي غَرِيبٌ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " لَهُ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ مُطْلَقًا، حَتَّى مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، لَا لِأَجْلِ الشَّكِّ فِي عَدَالَتِهِمْ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَدْ يَرْوُونَ عَنْ تَابِعِيٍّ، إلَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمُرْسَلِهِ، وَنُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَدَّ الْمَرَاسِيلَ، وَقَالَ بِهَا بِشُرُوطٍ أُخَرَ. وَقَالَ فِي آخِرِ الشُّرُوطِ: فَاسْتُحِبَّ قَبُولُهَا إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، قَالَ: وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ بِهَا ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ، فَنَصَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَبُولَهَا عِنْدَ تِلْكَ الشُّرُوطِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ. هَذَا لَفْظُهُ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: قَبِلَ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلَ سَعِيدٍ دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: إذَا تَبَيَّنَ مِنْ حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ عَنْ رَجُلٍ تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ عَلَى تَعْدِيلِهِ، صَارَ حُجَّةً. قَالَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَقْبَلُ مِنْ الْمَرَاسِيلِ مَا أَرْسَلَهُ كُلُّ مُعْتَبَرٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا قُلْنَاهُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ ": مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَرَاسِيلَ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا إلَّا مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرْسَلَ بِنَفْسِهِ

لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَقَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا رَدَّ الْمُرْسَلَ، لِدُخُولِ التُّهْمَةِ فِيهِ. فَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يُزِيلُ التُّهْمَةَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَافِقَ مُرْسَلُهُ مُسْنَدَ غَيْرِهِ، أَوْ تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أَوْ انْتَشَرَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ نَكِيرٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَذَلِكَ إذَا اُشْتُرِطَ فِي إرْسَالِهِ عَدْلَانِ فَأَكْثَرُ، فَيَقْوَى بِهِ حَالُ الْمُرْسَلِ، أَوْ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَجَّحَ إنَّمَا هُوَ فِي مُسْنَدٍ آخَرَ، أَوْ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ، أَوْ اشْتِهَارِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ. انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ ": حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ خَصَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ بِالْقَبُولِ، وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، قَبِلَتْ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ. اهـ. وَلْنَذْكُرْ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " فَإِنَّهُ يُعْرَفُ مِنْهُ مَذْهَبُهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ ": أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ ": الْمُنْقَطِعُ يَخْتَلِفُ، فَمَنْ شَاهَدَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَوَى حَدِيثًا مُنْقَطِعًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُعْتُبِرَ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: مِنْهَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا أَرْسَلَهُ مِنْ الْحَدِيثِ، فَإِنْ شَرَكَهُ الْحُفَّاظُ الْمَأْمُونُونَ فَأَسْنَدُوهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رَوَى، كَانَتْ هَذِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى صِحَّةِ مَنْ قَبِلَ عَنْهُ، وَحَفِظَهُ، وَإِنْ انْفَرَدَ بِهِ مُرْسَلًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ مَنْ يُسْنِدُ قُبِلَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُنْظَرَ هَلْ يُوَافِقُهُ مُرْسَلٌ آخَرُ، فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ قَوِيَ، وَهِيَ أَضْعَفُ مِنْ الْأُولَى.

وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ نَظَرَ إلَى بَعْضِ مَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَوْلًا لَهُ، فَإِنْ وَجَدْنَا مَا يُوَافِقُ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ شَاهِدَةَ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مُرْسَلَهُ إلَّا عَنْ أَصْلٍ يَصِحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ عَوَامُّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفْتُونَ بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رُوِيَ لَمْ يُعْتَبَرْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ إذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ لَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا وَاهِيًا، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَيَكُونُ إذَا شَرَكَ أَحَدًا مِنْ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثِهِ لَمْ يُخَالِفْهُ، وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقَصَ كَانَتْ فِي هَذِهِ دَلَائِلُ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ. وَمَتَى خَالَفَ مَا وَصَفْت أَضَرَّ بِحَدِيثِهِ، حَتَّى لَا يَسَعَ أَحَدًا قَبُولُ مُرْسَلِهِ. قَالَ: وَإِذَا وُجِدَتْ الدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ بِمَا وُصِفَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَقْبَلَ مُرْسَلَهُ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَزْعُمَ أَنَّ الْحُجَّةَ تَثْبُتُ بِهِ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْمُنْقَطِعِ مَغِيبٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُمِلَ عَمَّنْ يُرْغَبُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ إذَا سُمِّيَ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمُنْقَطِعَاتِ، وَإِنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ مِثْلُهُ، فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُخَرِّجُهُمَا وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ لَوْ سُمِّيَ لَمْ يُقْبَلْ، وَأَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إذَا قَالَ بِرَأْيِهِ لَوْ وَافَقَهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ دَلَالَةً قَوِيَّةً إذَا نَظَرَ فِيهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا غَلَطَ بِهِ حِينَ سَمِعَ قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِمُوَافِقِهِ. قَالَ: فَأَمَّا مِنْ بَعْدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ فَلَا أَعْلَمُ وَاحِدًا يَقْبَلُ مُرْسَلَهُ، لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَشَدُّ تَجَوُّزًا مِمَّنْ يَرْوُونَ عَنْهُ، وَالْآخَرُ أَنَّهُمْ لَمْ يُوجَدْ عَلَيْهِمْ الدَّلَائِلُ فِيمَا أَرْسَلُوا لِضَعْفِ مُخَرِّجِهِ، وَالْآخَرُ كَثْرَةُ الْإِحَالَةِ فِي الْأَخْبَارِ، وَإِذَا كَثُرَتْ الْإِحَالَةُ كَانَ أَمْكَنَ لِلْوَهْمِ وَضَعْفِ مَنْ يُقْبَلُ عَنْهُ. انْتَهَى كَلَامُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمُورًا:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرْسَلَ إذَا أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْمُرْسَلِ، وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ اشْتِرَاطُ صِحَّةِ ذَلِكَ الْمُسْنَدِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا لَمْ يُسْنَدْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ نُظِرَ، هَلْ يُوَافِقُهُ مُرْسَلٌ آخَرُ، فَإِنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ آخَرُ قَوِيٌّ، لَكِنَّهُ يَكُونُ أَنْقَصَ دَرَجَةً مِنْ الْمُرْسَلِ الَّذِي أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: إنْ كَانَ الْوَجْهُ الْآخَرُ إسْنَادًا، فَالْعَمَلُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُسْنَدِ، وَإِنْ كَانَ إرْسَالًا فَضَمُّ غَيْرِ مَقْبُولٍ إلَى غَيْرِ مَقْبُولٍ، كَانْضِمَامِ الْمَاءِ النَّجِسِ إلَى مِثْلِهِ، وَشَهَادَةِ الْفَاسِقِ مَعَ مِثْلِهِ، لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ وَالْقَبُولَ، وَهَذَا اعْتَرَضَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَتَبِعُوهُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُسْنَدِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ بِالْمُسْنَدِ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ إسْنَادِ الْإِرْسَالِ، حَتَّى تَحْكُمَ لَهُ مَعَ إرْسَالِهِ بِأَنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَأَيْضًا لَوْ عَارَضَ الْمُسْنَدَ الَّذِي دُونَ الْمُرْسَلِ مُسْنَدٌ آخَرُ يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْمُرْسَلِ، إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ، وَأَيْضًا فَالِاحْتِجَاجُ بِالْمُسْنَدِ إنَّمَا يَنْتَهِضُ إذَا كَانَ بِنَفْسِهِ حُجَّةً، وَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ هُنَا بِالْمُسْنَدِ مَا لَا يَنْتَهِضُ بِنَفْسِهِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ، وَإِذَا ضُمَّ إلَى الْمُرْسَلِ قَامَ بِهِ الْمُرْسَلُ، وَصَارَ حُجَّةً، وَهَذَا لَيْسَ عَمَلًا بِالْمُسْنَدِ، بَلْ بِالْمُرْسَلِ لِزَوَالِ التُّهْمَةِ عَنْهُ، وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ قَبُولِهِ إذَا كَانَ الْقَوِيُّ مُرْسَلًا، لِجَوَازِ تَأْكِيدِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ بِالْآخَرِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ مُرْسَلٌ آخَرُ لَمْ يُسْنَدْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ وُجِدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَوْلٌ لَهُ يُوَافِقُ هَذَا الْمُرْسَلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَصْلًا، وَلَا يُطْرَحُ، وَلَا يُرَدُّ اعْتِرَاضُ الْقَاضِي بِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِأَنَّ مُرَادَهُ التَّقْوِيَةُ بِهِ، لَا الِاسْتِقْلَالُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا وُجِدَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ بِمَا يُوَافِقُ هَذَا الْمُرْسَلَ،

دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَصْلًا، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْأُمَّةَ فَهُوَ إجْمَاعٌ، وَالْحُجَّةُ حِينَئِذٍ فِيهِ لَا فِي الْمُرْسَلِ، وَإِنْ أَرَادَ بَعْضَ الْأُمَّةِ فَقَوْلُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ الثَّانِيَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّنَّ يَقْوَى عِنْدَهُ، وَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ، وَإِذَا قَوِيَ الظَّنُّ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُرْسَلِ، فَمُجَرَّدُهُ ضَعِيفٌ، وَكَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحَالَةُ الِاجْتِمَاعِ قَدْ يَقُومُ مِنْهَا ظَنٌّ غَالِبٌ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ ضَعِيفَيْنِ اجْتَمَعَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي حَالِ الْمُرْسَلِ، فَإِنْ كَانَ إذَا سَمَّى شَيْخَهُ سَمَّى ثِقَةً لَمْ يُحْتَجَّ بِمُرْسَلِهِ، وَإِنْ كَانَ إذَا سَمَّى لَمْ يُسَمِّ إلَّا ثِقَةً، وَلَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا وَاهِيًا، كَانَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْمُرْسَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مَحَلُّ وِفَاقٍ، لَكِنَّهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ. السَّادِسُ: أَنْ يَنْظُرَ إلَى هَذَا الْمُرْسَلِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ إذَا أَشْرَكَ غَيْرَهُ مِنْ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثٍ وَافَقَهُ فِيهِ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ، دَلَّ عَلَى حِفْظِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقَصَ إمَّا فِي الْإِسْنَادِ أَوْ الْمَتْنِ، كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَصْلًا، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى حِفْظِهِ وَتَحَرِّيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُخَالَفَتُهُ بِزِيَادَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ وَالِاعْتِبَارَ، وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ عِنْدَهُ لَيْسَتْ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا كَمَا يَظُنُّ جَمَاعَةٌ، فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ هَذَا الْمُخَالِفِ أَنْقَصَ مِنْ حَدِيثِ مَنْ خَالَفَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْمُخَالِفَ بِالزِّيَادَةِ، وَجَعَلَ نُقْصَانَ هَذَا الرَّاوِي مِنْ الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَتَى خَالَفَ مَا وُصِفَ أَضَرَّ ذَلِكَ بِحَدِيثِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا، لَمْ تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ بِالزِّيَادَةِ مُضِرًّا بِحَدِيثِهِ. السَّابِعُ: هَذَا الْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ عِنْدَهُ بِمُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَزَعَمَ

بَعْضُ الْأَصْحَابِ اخْتِصَاصَهُ بِسَعِيدٍ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْأُمِّ " فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ قَبِلْتُمْ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مُنْقَطِعًا، وَلَمْ تَقْبَلُوهُ عَنْ غَيْرِهِ؟ قُلْنَا: لَا نَحْفَظُ لِسَعِيدٍ مُنْقَطِعًا إلَّا وَجَدْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْدِيدِهِ، وَلَا يَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ فِيمَا عَرَفْنَاهُ عَنْهُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ مَعْرُوفٍ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَائِلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ قَوْلَهُ بَعْدَهُ: فَمَنْ كَانَ مِثْلَ حَالِهِ قَبِلْنَا مُنْقَطِعَهُ. وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنَّ الشَّافِعِيَّ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ كِبَارِ التَّابِعِينَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا مَا يُؤَكِّدُهَا، وَمِمَّنْ وَافَقَ الشَّافِعِيَّ عَلَى مُرْسَلِ سَعِيدٍ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. فَقَالَا: أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ مُرْسَلُ سَعِيدٍ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ. فَقِيلَ: إنَّ مَرَاسِيلَ التَّابِعِينَ كُلِّهِمْ حُجَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ نَصَّ عَلَى مُرْسِلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ حُجَّةً، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مُرْسَلُ سَعِيدٍ حَسَنٌ، فَقِيلَ حَسَنٌ فِي التَّرْجِيحِ بِهِ، لَا فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقِيلَ: إنَّمَا قَبِلَهَا؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ مَسَانِيدَ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا رَوَى حَدِيثَهُ الْمُرْسَلَ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. قَالَ: وَإِرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ، وَجَعَلَ الْخَبَرَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مَرَاسِيلَهُ مُتَّبَعَةٌ، فَوُجِدَتْ كُلُّهَا عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. وَرَدَّ الْخَطِيبُ هَذَا بِأَنَّ مِنْهَا مَا لَمْ يُوجَدْ مُسْنَدًا بِحَالٍ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ، وَقِيلَ: إنَّهُ فِي الْجَدِيدِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ فِي الرَّدِّ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ فِي الْقَدِيمِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَكَذَا نَقَلَ التَّسْوِيَةَ عَنْ الْجَدِيدِ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ " وَفِيهِ نَظَرٌ، لِقَوْلِ الرُّويَانِيِّ: إنَّ الشَّافِعِيَّ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ مِنْ الْأُمِّ " زَعَمَ أَنَّ

مُرْسَلَ سَعِيدٍ حُجَّةٌ فَقَطْ، وَيَشْهَدُ لَهُ عِبَارَةُ الْمُخْتَصَرِ " أَنَّهُ حَسَنٌ، لَكِنْ أَشَارَ ابْنُ الرِّفْعَةِ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ الصَّغِيرَ مِنْ الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كُتُبِ الْأُمِّ "، قَالَ: وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْمَاوَرْدِيُّ قَبُولَ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ إلَى الْقَدِيمِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ الرِّبَا فِي تَعْلِيقِهِ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَكَانَ فِي الْقَدِيمِ يَقُولُ بِهِ، وَفِي الْجَدِيدِ يُحَسِّنُهُ وَيُقَوِّي بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ، وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَرَاسِيلِهِ إذَا تُتُبِّعَ وُجِدَ مُتَّصِلًا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ: لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: إنَّ إرْسَالَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ كَشَفَ عَنْ حَدِيثِهِ، فَوَجَدَهُ مُتَّصِلًا، فَاكْتَفَى عَنْ طَلَبِ كُلِّ حَدِيثٍ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَيَتَقَوَّى بِهِ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ إلَى آخِرِهِ، فَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَهُ فِي الْجَدِيدِ فِي رَدِّهِ مُطْلَقًا، وَأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ اسْتَثْنَى سَعِيدًا وَفِيهِ مَا سَبَقَ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَأَمَّا مُرْسَلُ سَعِيدٍ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ بِهِ فِي كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ تَخْصِيصَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ دُونَ غَيْرِهِ مَنْ مَذْهَبُهُ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ ظَهَرَ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ حَدِيثًا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْمُتَّصِلِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مِثْلُ هَذَا فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ عُرِفَ هَذَا فِي مُرْسَلِ غَيْرِهِ كَمُرْسَلِ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَكْحُولٍ، كَانَ الْكَلَامُ فِيهِمْ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْخَفَّافَ فِي كِتَابِ الْخِصَالِ ": لَا يَجُوزُ قَبُولُ الْمُرْسَلِ عِنْدَنَا إلَّا فِي صُورَتَيْنِ:

إحْدَاهُمَا: أَنْ يَرْوِيَ الصَّحَابِيُّ عَنْ صَحَابِيٍّ، وَلَا يُسَمِّيهِ، فَذَلِكَ وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: التَّابِعِيُّ إذَا أَرْسَلَ وَسَمَّى، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا أَنْ لَا يَرْوِيَ إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ مِثْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَإِرْسَالُهُ وَإِسْنَادُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنًى آخَرُ فِي قَبُولِ مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ ": مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ يُغْنِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَبَدًا، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَعَلَهُ، أَرَادَ بِهِ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: الْمُرْسَلُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: وَإِرْسَالُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عِنْدَنَا حَسَنٌ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ، مِنْهَا بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدَنَا: " إرْسَالُهُ حَسَنٌ "، أَنَّهُ تَتَبَّعَ أَخْبَارَهُ كُلَّهَا، فَوَجَدَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا مُتَّصِلَةً، فَاكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ تَطَلُّبِ كُلِّ حَدِيثٍ بَعْدَ مُرَادِهِ مِنْ الْجُمْلَةِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَخْصِيصَهُ عَنْ سَائِرِ الْمَرَاسِيلِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ: قَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَسْتَحْسِنُ إرْسَالَ سَعِيدٍ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إلَى أَنَّ عَامَّةَ مَرَاسِيلِهِ إذَا انْعَقَدَتْ وُجِدَ لَهَا فِي الرِّوَايَاتِ الْمَوْصُولَةِ أَصْلٌ، وَإِنَّا لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الضُّعَفَاءِ أَرْسَلَ عَنْهُ، وَلَا رَوَى عَنْهُ، بَلْ جُمْلَةُ رِوَايَاتِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالثِّقَاتِ، مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ " أَنَّ الْحَدِيثَ يُعْتَبَرُ بِأُمُورٍ: مِنْهَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا أَرْسَلَ فَإِنْ شَرَكَهُ فِيهِ الْحُفَّاظُ الْمَأْمُونُونَ، فَأَسْنَدَ

قَوْلَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رَوَى كَانَ فِي ذَلِكَ مَا يُسْنِدُ. وَمِنْهَا: مَا يُؤْخَذُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَمَا يُوَافِقُ الْخَبَرَ الْمُرْسَلَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ إذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ، لَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا، وَلَا مَرْغُوبًا عَنْهُ فِي الرِّوَايَةِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ إذَا أَشْرَكَ أَحَدًا مِنْ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثِهِ لَمْ يُخَالِفْهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ: وَإِذَا وُجِدَتْ الدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ بِمَا وَصَفْت أَحْبَبْنَا أَنْ يُقْبَلَ مُرْسَلُهُ، وَلَا نَزْعُمُ أَنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ. وَقَالَ: فَأَمَّا مَنْ بَعْدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ كَثُرَتْ مُشَاهَدَتُهُمْ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَلَا أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَاحِدًا يُقْبَلُ مُرْسَلُهُ، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الشَّرَائِطِ مَا ذُكِرَ. قَالَ: وَأَشَارَ إلَى قُوَّةِ مَرَاسِيلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ عَلَى مَرَاسِيلِ مَنْ دُونَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُجَّةُ بِالْمُنْقَطِعِ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمَرَاسِيلِ عِنْدَهُ ضَعِيفٌ، وَمَشْهُورٌ عَلَى لِسَانِ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ تَضْعِيفُهُ لِلْمَرَاسِيلِ، وَالْوَجْهُ فِي تَضْعِيفِهِ مَا أَوْمَأْنَا إلَيْهِ مِنْ جَهَالَةِ الْوَاسِطَةِ. انْتَهَى كَلَامُ الْقَفَّالِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ النَّفَقَةِ مِنْ الْحَاوِي " إنَّ مُرْسَلَ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَسَنٌ، وَأَنَّ الْمُرْسَلَ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الشَّوَاهِدُ أَوْ بَعْضُهَا يُسَوَّغُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ لُزُومَ الْحُجَّةِ بِالْمُتَّصِلِ، وَكَأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُسَوِّغُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ ": لَمْ نَجِدْ حَدِيثًا ثَابِتًا مُتَّصِلًا خَالَفَهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَقَدْ وَجَدْنَا مَرَاسِيلَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهَا، وَذَكَرَ مِنْهَا حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ الْآتِي قَرِيبًا، وَظَنَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ

فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالِاسْتِحْبَابِ قَسِيمَ الْوُجُوبِ. قَالَ: فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ عِنْدَ تِلْكَ الشُّرُوطِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالِاسْتِحْبَابِ أَنَّ الْحُجَّةَ فِيهَا ضَعِيفَةٌ، وَلَيْسَتْ بِحُجَّةِ الْمُتَّصِلِ، فَإِذَا انْتَهَضَتْ الْحُجَّةُ، وَجَبَ الْأَخْذُ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا عَارَضَهُ مُتَّصِلٌ كَانَتْ التَّقْدِمَةُ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِ، إذْ لَيْسَتْ الْأَدِلَّةُ مَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِهِ مُسْتَحَبًّا أَبَدًا، وَلَكِنَّ فِيهَا مَا يَتَفَاوَتُ، وَيَنْفَعُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّعَارُضِ. وَقَالَ الرَّبِيعِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ " قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَأَحْبَبْنَا أَنْ تُقْبَلَ مُرْسَلُهُ، أَرَادَ بِهِ: اخْتَرْنَا، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْقَفَّالِ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ " فِي بَابِ اللُّقَطَةِ: إنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: أُحِبُّ وَأُرِيدُ بِهِ الْإِيجَابَ، وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، إذَا لَمْ يُوجَدْ دَلَالَةٌ سِوَاهُ. وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي الْكِفَايَةِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ بِهِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالْمُرْسَلِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بِمُفْرَدِهِ. التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُرْسَلَ الْعَارِيَ مِنْ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالشَّوَاهِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ. وَلِهَذَا قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي مَالًا وَعِيَالًا وَإِنَّ لِأَبِي مَالًا وَعِيَالًا، فَيُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي فَيُطْعِمَ عِيَالَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ غَايَةٌ فِي الثِّقَةِ وَالْفَضْلِ، وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ، وَلَكِنْ لَا نَدْرِي عَمَّنْ قَبِلَ هَذَا الْحَدِيثَ.

الْعَاشِرُ: أَنَّ مَأْخَذَ رَدِّ الْمُرْسَلِ عِنْدَهُ إنَّمَا هُوَ احْتِمَالُ ضَعْفِ الْوَاسِطَةِ، وَأَنَّ الْمُرْسَلَ لَوْ سَمَّاهُ لَبَانَ أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُومُ مِنْ عَادَةِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ إلَّا ثِقَةً، وَلَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا، كَانَ مُرْسَلُهُ حُجَّةً، وَإِنْ كَانَ يَرْوِي عَنْ الثِّقَةِ وَغَيْرِهِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَقَالَ - وَذَكَرَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ فِي الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ مُرْسَلًا - قَالَ: يَقُولُونَ: يُحَابِي، وَلَوْ حَابَيْنَا حَابَيْنَا الزُّهْرِيَّ، وَإِرْسَالُ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَذَاكَ أَنَّا نَجِدُهُ يَرْوِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ الثِّقَةِ عَنْ غَيْرِهِ، هَلْ هِيَ تَعْدِيلٌ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ الثِّقَةَ إنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ كَانَتْ تَعْدِيلًا وَإِلَّا فَلَا، كَمَا سَبَقَ، وَمِنْ هُنَا ظَنَّ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَبُولِ الشَّافِعِيِّ لِمُرْسَلِ سَعِيدٍ كَوْنُهُ اعْتَبَرَهَا فَوَجَدَهَا مَسَانِيدَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا كَانَ الِاحْتِجَاجُ حِينَئِذٍ بِالْمُسْنَدِ فِيهَا، وَيَجِيءُ اعْتِرَاضُ الْقَاضِي السَّابِقِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ حَالُ صَاحِبِهَا أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ، حُمِلَ هَذَا الْمُرْسَلُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ صَحِيحٌ بِهِ، وَلِهَذَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ عَنْ تَابِعِيٍّ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ لَا يَرْوُونَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ، لَا سِيَّمَا حَالَةَ الْإِطْلَاقِ فَحُمِلَ عَلَى الْغَالِبِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ مُرْسَلَ مَنْ بَعْدَ التَّابِعِينَ لَا يُقْبَلُ، وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ قَبُولُهُ لِتَعَدُّدِ الْوَسَائِطِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَ لَقُبِلَ مُرْسَلُ الْمُحَدِّثِ الْيَوْمَ، وَبَيْنَهُ.

وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَفَاوِزُ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ إلَّا مَا سَبَقَ عَنْ الْغَزَالِيِّ فِي الْمَنْخُولِ " وَقَدْ رَدَدْنَاهُ. الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ ظَاهِرَهُ قَبُولُ مُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ صِغَارِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّسَالَةِ " بَعْدَ النَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ بِكَلَامٍ: وَمَنْ نَظَرَ فِي الْعِلْمِ بِخِبْرَةٍ وَقِلَّةِ غَفْلَةٍ، اسْتَوْحَشَ مِنْ مُرْسَلِ كُلِّ مَنْ دُونَ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِدَلَائِلَ ظَاهِرَةٍ فِيهَا. قَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَلِمَ فَرَّقْت بَيْنَ كِبَارِ التَّابِعِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ شَاهَدُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَنْ شَاهَدَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) : فَقُلْت: لِبُعْدِ إحَالَةِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ أَكْثَرَهُمْ قَالَ: فَلِمَ يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ مِنْهُمْ وَمِنْ كُلِّ ثِقَةٍ دُونَهُمْ؟ فَقُلْت: لِمَا وَصَفْت انْتَهَى. فَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُوجَدَ لَهُ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَيَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ لِمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ مَزِيَّةً عَلَى مَنْ دُونَهُمْ كَمَا جَعَلَ لِمُرْسَلِ سَعِيدٍ مَزِيَّةً عَلَى مَنْ سِوَاهُ مِنْهُمْ، لَكِنْ هَذَا كُلُّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ كَلَامِهِ. ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) فِي الرِّسَالَةِ ": فَكُلُّ حَدِيثٍ كَتَبْته مُنْقَطِعًا، فَقَدْ سَمِعْته مُتَّصِلًا، أَوْ مَشْهُورًا عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ بِنَقْلِ عَامَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْرِفُونَهُ عَنْ عَامَّةٍ، وَلَكِنْ كَرِهْت وَضْعَ حَدِيثٍ لَا أُتْقِنُهُ حِفْظًا خَوْفَ طُولِ الْكِتَابِ، وَغَابَ عَنِّي بَعْضُ كُتُبِي. انْتَهَى. فَنَبَّهَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُورِدُهُ مِنْ الْمُنْقَطِعَاتِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ، سَوَاءٌ ابْنُ الْمُسَيِّبِ أَوْ غَيْرُهُ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ مَا وَجَدْنَاهُ فِي كُتُبِهِ مِنْ الْمَرَاسِيلِ لَا يَقْدَحُ فِي مَذْهَبِهِ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا، فَأَبَانَ بِهَذَا أَنَّ مَا نَجِدُهُ

أحاديث مرسلة تركها المالكية

مِنْ الْمُرْسَلِ هُوَ عِنْدَهُ مُتَّصِلٌ، وَلَكِنْ تَرَكَ إسْنَادَهُ لِمَا ذَكَرَ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْمُرْسَلِ إذَا لَمْ يَعْتَضِدْ بِمَا سَبَقَ، وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ أَنَّهُ يَقُولُ بِهِ إذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْبَابِ سِوَاهُ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَيَعْضُدُهُ عَمَلُ الشَّافِعِيِّ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ إذَا لَمْ نَجِدْ دَلِيلًا، لَكِنْ يَلْزَمُهُ طَرْدُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ. [أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ تَرَكَهَا الْمَالِكِيَّةُ] تَنْبِيهٌ [أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ تَرَكَهَا الْمَالِكِيَّةُ] قَدْ تَرَكَتْ الْمَالِكِيَّةُ مُرْسَلَ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا عِلَّةَ لَهُ سِوَى الْإِرْسَالِ، وَتَرَكُوا مُرْسَلَ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالنَّاسِ جَالِسًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَيْنِ مُرْسَلٌ أَرْسَلَهُ تَابِعُوا فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَرْبَعَتِهِمْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ، مَكَانَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ» وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَمَلَ النَّاسِ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. [أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ تَرَكَهَا الْحَنَفِيَّةُ] وَكَذَلِكَ أَعْرَضَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ مُرْسَلِ سَعِيدٍ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُرْسَلُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ. مَسْأَلَةٌ [أُمُورٌ مُلْحَقَةٌ بِالْمُرْسَلِ، أَوْ مُخْتَلَفٌ فِيهَا] أَلْحَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْمُرْسَلِ قَوْلَهُ فِي الْإِسْنَادِ عَنْ رَجُلٍ أَوْ شَيْخٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَرَأَيْته كَذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، لَكِنْ قَالَ الْحَاكِمُ وَابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ: إنَّهُ لَا يُسَمَّى مُرْسَلًا، بَلْ مُنْقَطِعًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَقَوْلُ الرَّاوِي أَخْبَرَنِي رَجُلٌ، أَوْ عَدْلٌ مَوْثُوقٌ بِهِ، مِنْ الْمُرْسَلِ أَيْضًا. وَكَذَا قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": إذَا سَمَّى الرَّاوِي الْأَصْلَ بِاسْمٍ لَا يُعْرَفُ، فَهُوَ كَالْمُرْسَلِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَكَذَلِكَ إضَافَةُ الْخَبَرِ إلَى كِتَابٍ كَتَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ حَمَلَهُ وَنَقَلَهُ.

وَأَلْحَقَ بِهِ الْمَازِرِيُّ مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ: «نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ» ، وَقَوْلُهُ: «نَادَى مُنَادٍ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَ فِيهَا لُحُومُ الْحُمُرِ» ؛ لِأَنَّ الْمُنَادِيَ إذَا لَمْ يُسَمَّ صَارَ كَكِتَابٍ أُضِيفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَلَمْ يُسَمِّ حَامِلَهُ وَنَاقِلَهُ، وَلَكِنْ عَلِمَ الْمُحَدِّثُ عَيْنَ النِّدَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى يُعْلَمَ ضَرُورَةً أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ، فَنُزِّلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ سَمَاعِ الْأَمْرِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ ": كُلُّ كِتَابٍ لَمْ يُذْكَرْ حَامِلُهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَالشَّافِعِيِّ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِالْمُرْسَلِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَمِثْلُهُ مَا يَقَعُ فِي الْأَسَانِيدِ أَنَّ فُلَانًا كَتَبَ إلَيَّ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ لِجَهَالَةِ الْوَاسِطَةِ كَالْمُرْسَلِ، لَكِنْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَرْبَابِ النَّقْلِ وَغَيْرُهُمْ جَوَازُ الرِّوَايَةِ لِأَحَادِيثِ الْكِتَابَةِ، وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا، فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمُسْنَدِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّتِهَا عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لَهَا وَوُثُوقِهِ بِأَنَّهَا عَنْ كَاتِبِهَا.

فصل في الفرق بين الرواية والشهادة

[فَصْلٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ] ِ قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَقَمْت زَمَانًا أَتَطَلُّبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِيقَةِ حَتَّى وَجَدْته مُحَقَّقًا فِي كَلَامِ الْمَازِرِيِّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ "، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَحْقِيقِ فَصْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالشَّهَادَةَ خَبَرَانِ، غَيْرَ أَنَّ الْخَبَرَ إنْ كَانَ عَنْ حُكْمٍ عَامٍّ تَعَلَّقَ بِالْأُمَّةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ، مُسْتَنَدُهُ السَّمَاعُ، فَهُوَ الرِّوَايَةُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا جُزْئِيًّا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ أَوْ الْعِلْمُ فَهُوَ الشَّهَادَةُ. فَالرِّوَايَةُ تَعُمُّ حُكْمَ الرَّاوِي وَغَيْرِهِ عَلَى مَمَرِّ الْأَزْمَانِ، وَالشَّهَادَةُ مَحْضُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَهُ، وَلَا يَتَعَدَّاهُمَا إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ بَابُ الرِّوَايَةِ أَوْسَعَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى التَّضْيِيقِ، وَالرِّوَايَةُ تَقْتَضِي شَرْعًا عَامًّا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ، فَتَبْعُدُ فِيهِ التُّهْمَةُ، فَلِذَلِكَ تُوُسِّعَ فِيهِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ انْتِفَاءُ الْقَرَابَةِ وَالْعَرَافَةِ، وَلَا وُجُودُ الْعَدَدِ، وَالذُّكُورَةُ، وَالْحُرِّيَّةُ. وَاسْتَشْكَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي هَذَا الْفَرْقِ بِأَنَّ عُمُومَ الْحُكْمِ يَقْتَضِي الِاحْتِيَاطَ وَالِاسْتِظْهَارَ بِالْعَدَدِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ يُثْبِتُ حُكْمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ التُّهْمَةُ. بِخِلَافِ الشَّاهِدِ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِ، فَاحْتِيطَ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وُجُوهًا لِمُنَاسَبَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ:

مِنْهَا: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَهَابَةُ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ شَهَادَةِ الزُّورِ، فَاحْتِيجَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ فِيهَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ يَنْفَرِدُ بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ لَفَاتَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، بِخِلَافِ فَوَاتِ حَقٍّ وَاحِدٍ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي الْمُحَاكَمَاتِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْعَمَلَ بِتَزْكِيَةِ الْوَاحِدِ فِي الرِّوَايَةِ أَحْوَطُ. وَمِنْهَا: أَنَّ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إحَنًا وَعَدَاوَاتٍ، قَدْ تَحْمِلُهُمْ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ تَعَرَّضَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ فِي مُنَاظَرَةٍ لَهُ مَعَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " فِي بَابِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْخَبَرُ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ وَالْعَامَّةُ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَالشَّهَادَةُ مَا كَانَ الشَّاهِدُ فِيهِ خَلِيًّا وَالْعَامَّةُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَشْهُودَةَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ الرُّويَانِيُّ: فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: الْخَبَرُ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ، وَمِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يَلْزَمُ الرَّاوِيَ بِهِ حُكْمٌ، وَيَلْزَمُ غَيْرَهُ، وَمِنْ الشَّهَادَاتِ مَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِهَا الْحُكْمُ، كَمَا يَلْزَمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ عَلَى الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ؟ قُلْنَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا، وَأَرَادَ مَا فَسَّرَهُ بِهِ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ اللَّذَيْنِ هُمَا مُؤَبَّدَانِ لَا يَنْقَطِعَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا ذَكَرُوهُ فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقْطَعُ. وَحَكَى ابْنُ الْقَاصِّ عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَدْ

يَسْتَوِي الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ مَا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ لِإِنْسَانٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُمَا مِنْ الدَّيْنِ مَا يَلْزَمُ الْجَاحِدَ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَخْبَارِ مَنْ يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّاوِي بِهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِمَا قَالَهُ الْغَالِبَ مِنْ أَمْرِهِمَا، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ الشَّهَادَةِ أَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَدْخُلُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ، وَالْغَالِبُ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِوَاءُ الْمُخْبِرِ، وَسَائِرِ النَّاسِ فِيهِ. انْتَهَى. [مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ] وَأَمَّا مَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَثِيرٌ: أَحَدُهَا: عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةَ فِي الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بِاثْنَيْنِ، وَيُكْتَفَى فِي التَّعْدِيلِ فِي الرِّوَايَةِ بِوَاحِدٍ. وَثَالِثُهَا: عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. وَرَابِعُهَا: اشْتِرَاطُ الْبَصَرِ، وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ وَالْعَدَاوَةِ فِي الشَّهَادَةِ، دُونَ الرِّوَايَةِ وَقَدْ قَبِلَتْ الصَّحَابَةُ خَبَرَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ. وَخَامِسُهَا: مَنْ كَذَبَ ثُمَّ تَابَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ كَذَبَ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ تَابَ لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَوَافَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَابْنُ الْقَطَّانِ، وَالْقَفَّالُ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ كَمَا سَبَقَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَذَبَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُدَّتْ جَمِيعُ أَحَادِيثِهِ السَّالِفَةِ، وَوَجَبَ نَقْضُ مَا عُمِلَ بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يُنْقَضْ الْحُكْمُ

بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ فِسْقُهُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي ". سَابِعُهَا: تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الرَّاوِي وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ، لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي السُّنَنِ وَالرِّوَايَاتِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ، وَنَقَلَا ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ رَوَى عَدْلٌ خَبَرًا فِي أَثْنَاءِ خُصُومَةٍ، وَكَانَ فَحْوَاهُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ، فَالرِّوَايَةُ مَقْبُولَةٌ، وَلَا يَجْعَلُ لِلتُّهْمَةِ مَوْضِعًا، وَكَذَا الرِّوَايَةُ الْجَارَّةُ لِلنَّفْعِ وَالدَّفْعِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، هَذَا لَفْظُهُ. وَمِثْلُهُ خَبَرُ الرَّاوِي لِنَفْسِهِ نَفْعًا رَاجِحًا لَمْ يَسْتَحْضِرْ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوعِهِ فِيهَا نَقْلًا، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ قَبْلَ بَابِ الصِّيَالِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ رَوَى خَبَرًا يَقْتَضِي إعْتَاقَهُ، لَمْ يُقْبَلْ، أَوْ إعْتَاقَ مَنْ اجْتَمَعَ فِيهِ كَذَا وَكَذَا وَكَانَتْ فِيهِ قِيلَ؛ لِأَنَّهُ ضِمْنٌ لَا قَصْدًا وَهَذَا أَحْسَنُ. ثَامِنُهَا: إذَا حَدَّثَ الْعَدْلُ بِحَدِيثٍ رَجَعَ عَنْهُ لِغَلَطٍ وَجَدَهُ فِي أَصْلِ كِتَابِهِ، أَوْ حِفْظٍ عَادَ إلَيْهِ، قُبِلَ مِنْهُ رُجُوعُهُ، وَكَذَا الزِّيَادَةُ بِاللَّفْظِ. قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ. قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ يَحْكُمُ بِهَا الْقَاضِي، ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّاهِدُ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حُقُوقًا لِلْآدَمِيِّينَ لَا تَزُولُ بِالرُّجُوعِ وَمَضَى الْحُكْمُ بِهَا، وَالْمُخْبِرُ بِهَا يَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْمُخْبِرِينَ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَدْعًى يُؤَدِّي مَا اسْتَدْعَى، وَلَيْسَ يُطَعْنَ عَلَى الْمُحَدِّث إلَّا قَوْلُهُ: تَعَمَّدْت الْكَذِبَ، فَهُوَ كَاذِبٌ فِي الْأَوَّلِ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. تَاسِعُهَا: أَنَّ إنْكَارَ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ، لَا يَضُرُّ الْحَدِيثَ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ كَمَا سَبَقَ. عَاشِرُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَا يُعَوَّلُ عَلَى شَهَادَةِ

الْفَرْعِ مَعَ إمْكَانِ السَّمَاعِ مِنْ الْأَصْلِ، وَيَجُوزُ اعْتِمَادُ رِوَايَةِ الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ شَيْخِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ ": لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مَعَ حُضُورِ الْأَصْلِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ رِوَايَةَ الرَّاوِي مَقْبُولَةٌ، وَشَيْخُهُ فِي الْبَلَدِ. قَالَ: وَكُلُّ مَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ تَوْقِيفٌ شَرْعِيٌّ تَعَبُّدِيٌّ غَيَّرَ الشَّهَادَةَ فِيهِ عَنْ الرِّوَايَةِ، فَلَا يُعَدُّ فِي وَجْهِ الرَّاوِي التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا. انْتَهَى. حَادِي عَشَرَهَا: لَوْ أَشْكَلَتْ الْحَادِثَةُ عَلَى الْقَاضِي، فَرَوَى لَهُ خَبَرًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، وَقَتَلَ بِهِ الْقَاضِي رَجُلًا، ثُمَّ رَجَعَ الرَّاوِي، وَقَالَ: تَعَمَّدْت الْكَذِبَ، لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، بِخِلَافِ الشَّاهِدِ إذَا رَجَعَ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْحَادِثَةِ، وَالْخَبَرُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا. قَالَهُ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ وُجُوبُ الْقِصَاصِ كَالشَّاهِدِ، وَهُوَ أَحْوَطُ. ثَانِي عَشَرَهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " وَالرِّسَالَةِ ": أَقْبَلُ فِي الْحَدِيثِ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مُدَلِّسًا، وَلَا أَقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ إلَّا سَمِعْتُ، أَوْ رَأَيْتُ، أَوْ أَشْهَدَنِي. ثَالِثَ عَشَرَهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ أَخَذْت بِبَعْضِهَا اسْتِدْلَالًا بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَلَا يُؤْخَذُ بِبَعْضِهَا بِحَالٍ. رَابِعَ عَشَرَهَا: قَالَ أَيْضًا: يَكُونُ بَشَرٌ كُلُّهُمْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ، وَلَا أَقْبَلُ حَدِيثَهُمْ مَنْ قِبَلِ مَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ كَثْرَةِ الْإِحَالَةِ، وَإِزَالَةِ بَعْضِ أَلْفَاظِ الْمَعَانِيَ، هَذَا لَفْظُهُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْأُمِّ ": لَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ إلَّا مِنْ ثِقَةٍ عَالِمٍ حَافِظٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. قَالَ: وَلِهَذَا احْتَطْت فِي

الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِمَّا احْتَطْت بِهِ فِي الشَّهَادَاتِ. وَإِنَّمَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ لَا أَقْبَلُ حَدِيثَهُ لِكِبَرِ أَمْرِ الْحَدِيثِ، وَمَوْقِعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُتْرَكُ مِنْ الْحَدِيثِ، فَيَخْتَلُّ مَعْنَاهُ، فَإِذَا كَانَ الْحَامِلُ لِلْحَدِيثِ يَجْهَلُ الْمَعْنَى لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ، هَذَا لَفْظُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ حُكْمٌ فَاخْتِلَافُ اللَّفْظِ فِيهِ لَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ، وَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ فِي اللَّفْظِ، فَقُلْت لِبَعْضِهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يُخِلَّ مَعْنًى، ذَكَرَهُ فِي الْأُمِّ " فِي بَابِ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: إنَّمَا صِرْت لِاخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَ غَيْرِهِ، لِمَا رَأَيْته وَاسِعًا، وَسَمِعْته عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحًا، كَانَ عِنْدِي أَجْمَعُ، وَأَكْثَرُ لَفْظًا مِنْ غَيْرِهِ، فَأَخَذْت بِهِ. انْتَهَى. خَامِسَ عَشَرَهَا: تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى بِشَرْطِهِ السَّابِقِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ، فَعَلَيْهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا مَا سَمِعَاهُ مَشْرُوحًا، فَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ رَهْنٌ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إنْ كَانَا مِنْ أَهْلِهِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ نَاقِلٌ، وَالِاجْتِهَادُ إلَى الْحَاكِمِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ فِي ذِمَّةِ هَذَا دِرْهَمًا. هَلْ تُسْمَعُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُسْمَعُ، وَيُعْمَلُ بِهَا. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ وَظِيفَةِ الْحَاكِمِ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الشَّاهِدُ مُتَمَذْهِبًا بِمَذْهَبِ الْقَاضِي سُمِعَتْ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: زَنَيْت، وَآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا زَانِي، لَمْ يَثْبُتْ الْقَذْفُ. كَمَا لَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَذْفٍ بَلَغَهُ. حَكَاهُ فِي الْكِفَايَةِ " فِي بَابِ الْإِقْرَارِ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ.

قَالَ: وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ وَكَّلْتُك فِي كَذَا، وَآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَذِنْت لَك فِي التَّصَرُّفِ، لَمْ تَثْبُتْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ، وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى الْمُدَّعِي بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَآخَرُ بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ، فَالْمَذْهَبُ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، لَا تَلْفِيقَ، وَلَوْ شَهِدَ الثَّانِي أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْهُ، قَالَ الْعَبَّادِيُّ: تَلَفُّقٌ؛ لِأَنَّ إضَافَتَهَا إلَى الدُّيُونِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِيفَاءِ، وَقِيلَ بِخِلَافِهِ. قُلْت: لَكِنَّ ابْنَ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ سَوَّى بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: لَا فَرْقَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. سَادِسَ عَشَرَهَا: يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَةِ الشَّاهِدِ مُضِيُّ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْ حُدَّ بَعْضُ شُهُودِ الزِّنَا لِنَقْصِ النِّصَابِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، حَتَّى يَتُوبُوا، وَفِي قَبُولِ رِوَايَتِهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَجْهَانِ فِي " الْحَاوِي ". قَالَ: الْأَشْهَرُ الْقَبُولُ، وَالْأَقْيَسُ الْمَنْعُ كَالشَّهَادَةِ. سَابِعَ عَشَرَهَا: لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَلَى الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ ": يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ حَافِظًا لِكِتَابِهِ إنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ. قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ كِتَابِهِ بِمَا يَحْفَظُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ سَمَاعَهُ لِلْحَدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَهُ؛ لِأَجْلِ إفْتَائِهِمْ مِنْ عِلْمِ سَمَاعِهِ لِلْحَدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِحِفْظِهِ بِمَا سَمِعَهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهُ إمَامُهُ لِحِفْظِهِ مَقَامَ عِلْمِهِ بِسَمَاعِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ حَدَّثَ عَنْهُ. قَالَ: وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ كَالشَّهَادَةِ سَوَاءٌ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ. ثَامِنَ عَشَرَهَا: عَكْسُ مَا قَبْلِهِ، لَوْ تَحَقَّقَ مِنْ عِلْمِ سَمَاعِ ذَلِكَ الْخَبَرِ،

لَكِنَّ اسْمَهُ غَيْرُ مَكْتُوبٍ عَلَيْهِ، لَمْ يُجَوِّزْ الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَتَهُ، وَيَجُوزُ عَنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ كَالشَّهَادَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي فَتَاوِيهِ ". وَقَالَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا: لَوْ رَأَى اسْمَهُ مَكْتُوبًا فِي خَبَرٍ بِخَطِّ ثِقَةٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ، وَلَا يَذْكُرُ سَمَاعَهُ مِنْهُ، جَوَّزَ لَهُ الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَتَهُ كَالْإِجَازَةِ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ مَا لَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ. تَاسِعَ عَشَرَهَا: أَنَّ الْأَخْبَارَ إذَا تَعَارَضَتْ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ صِرْنَا إلَيْهِ، وَإِلَّا قُدِّمَ أَحَدُهُمَا لِمُرَجِّحٍ، وَأَمَّا فِي الشَّهَادَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ، فَالْمَذْهَبُ التَّسَاقُطُ، وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ. الْعِشْرُونَ: عِنْدَ الرِّوَايَةِ فِي الرِّوَايَةِ تُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، عَلَى خِلَافٍ فِيهِ يَأْتِي فِي التَّرَاجِيحِ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: يَمْتَنِعُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَفِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّحْدِيثِ خِلَافٌ، وَأَفْتَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِجَوَازِ أَخْذِهَا لِمَنْ يَنْقَطِعُ عَنْ الْكَسْبِ. ضَابِطٌ [أَسْمَاءُ الْخَبَرِ فِي مُخْتَلِفِ أَحْوَالِهِ] الْخَبَرُ إنْ كَانَ حُكْمًا عَامًّا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمَّةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ السَّمَاعَ، فَهُوَ الرِّوَايَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُهُ الْفَهْمَ مِنْ الْمَسْمُوعِ، فَهُوَ الْفَتْوَى، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا جُزْئِيًّا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ أَوْ الْعِلْمُ، فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْمُخْبَرِ بِهِ، هُوَ مُسْتَحِقُّهُ، أَوْ نَائِبُهُ، فَهُوَ الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ تَصْدِيقِ هَذَا الْخَبَرِ، فَهُوَ الْإِقْرَارُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ كَذِبِهِ فَهُوَ الْإِنْكَارُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا نَشَأَ عَنْ دَلِيلٍ، فَهُوَ النَّتِيجَةُ، وَيُسَمَّى قَبْلَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مَطْلُوبًا، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ شَيْءٍ يُقْصَدُ مِنْهُ نَتِيجَتُهُ، فَهُوَ دَلِيلٌ، وَجُزْؤُهُ مُقَدِّمَتُهُ.

كتاب الإجماع

[كِتَابُ الْإِجْمَاعِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ] [الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي مُسَمَّى الْإِجْمَاعِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا] ِ وَفِيهِ فُصُولٌ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَفِيهِ عَشَرَةُ مَبَاحِثَ فِي النَّظَرِ فِي مُسَمَّاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا، ثُمَّ فِي إمْكَانِهِ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ فِي جَوَازِ الْعِلْمِ بِهِ، وَجَوَازِ نَقْلِهِ، ثُمَّ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، ثُمَّ بِمَاذَا ثَبَتَتْ حُجِّيَّتُهُ، ثُمَّ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا، ثُمَّ فِي اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ فِيهِ، ثُمَّ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، ثُمَّ فِي اسْتِصْحَابِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، ثُمَّ فِي كَوْنِهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَهَذِهِ عَشَرَةُ مَقَاصِدَ. الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ [فِي مُسَمَّاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا] هُوَ لُغَةً يُطْلَقُ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَزْمُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْإِمْضَاءُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] أَيْ اعْزِمُوا، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا

صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» ، وَنَقَضَ ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ هَذَا بِأَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ يَتَعَدَّى بِعَلَى، وَالْإِجْمَاعُ بِمَعْنَى الْعَزِيمَةِ وَقَطْعِ الرِّوَايَةِ لَا يَتَعَدَّى بِعَلَى. قُلْت: حَكَى ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمَقَايِيسِ: أَجْمَعْت عَلَى الْأَمْرِ، إجْمَاعًا وَأَجْمَعْته. نَعَمْ، تَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ أَفْصَحُ. وَالثَّانِي: الِاتِّفَاقُ، وَمِنْهُ أَجْمَعَ الْقَوْمُ: إذَا صَارُوا ذَوِي جَمْعٍ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: كَمَا يُقَالُ: أَلْبَنَ وَأَتْمَرَ، إذَا صَارَ ذَا لَبَنٍ وَتَمْرٍ. وَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " عَنْ قَوْمٍ مَنْعَ كَوْنِهِ بِمَعْنَى الْإِجْمَاعِ كَمَا ظَنَّهُ ظَانُّونَ لِتَغَايُرِهِمَا، إذْ يَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ أَنْ يَقُولَ: أَجْمَعْت رَأْيِي عَلَى كَذَا، أَيْ عَزَمْت عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ. ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْقَاضِي: الْعَزْمُ يَرْجِعُ إلَى الِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَنْ اتَّفَقَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِاللُّغَةِ، وَالثَّانِي: أَشْبَهُ بِالشَّرْعِ. قَالَا: وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ الْوَاحِدِ هَلْ يَصِحُّ؟ فَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ جَمَاعَةٍ، وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَهُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي

حَادِثَةٍ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ. فَخَرَجَ اتِّفَاقُ الْعَوَامّ، فَلَا عِبْرَةَ بِوِفَاقِهِمْ وَلَا خِلَافِهِمْ، وَيَخْرُجُ أَيْضًا اتِّفَاقُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَبِالْإِضَافَةِ إلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ خَرَجَ اتِّفَاقُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى رَأْيٍ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ. وَقَوْلُنَا: بَعْدَ وَفَاتِهِ، قَيْدٌ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى رَأْيِهِمْ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ فِي زَمَانِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَخَرَجَ بِالْحَادِثَةِ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَقَوْلُنَا: عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ، يَتَنَاوَلُ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْعُرْفِيَّاتِ وَاللُّغَوِيَّاتِ. وَقَوْلُنَا: فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ؛ لِيَرْفَعَ وَهْمَ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْتَهِدِينَ مَنْ يُوجَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا التَّوَهُّمُ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ تَصَوُّرِ الْإِجْمَاعِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَصْرِ مِنَّا: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَدَثَتْ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ، وَظَهَرَ الْكَلَامُ فِيهِ. فَهُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَمَنْ بَلَغَ هَذَا بَعْدَ حُدُوثِهَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ الزَّجَّاجُ فِي كِتَابِهِ: الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ " وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا.

المبحث الثاني في إمكان الإجماع

وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ هَذَا التَّعْرِيفِ أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " بِقَوْلِهِ: وَحَدُّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْهَلُوا حُكْمَ اللَّهِ. تَنْبِيهٌ [الْعَبْدَرِيُّ يَرَى أَنَّ التَّعْرِيفَ السَّابِقَ غَيْرُ جَامِعٍ] قَالَ الْعَبْدَرِيّ: هَكَذَا رَسَمَ الْأُصُولِيُّونَ الْإِجْمَاعَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ، يُقَالُ عَلَى مَا هُوَ إجْمَاعٌ عَلَى الْعَمَلِ يَسْتَنِدُ الْحُكْمُ، أَيْ بِدَلِيلِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُقَالُ: مَا هُوَ إجْمَاعٌ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، وَاَلَّذِي هُوَ إجْمَاعٌ عَلَى الْعَمَلِ بِمُسْتَنَدِ الْحُكْمِ يَنْقَسِمُ إلَى إجْمَاعٍ نُقِلَ مُسْتَنَدُهُ إلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِلَى إجْمَاعٍ دَرَسَ مُسْتَنَدُهُ فَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْهِمْ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ مُتَبَايِنَةٍ، فَيَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثَةِ رُسُومٍ. [الْمَبْحَثُ الثَّانِي فِي إمْكَانِ الْإِجْمَاع] الْمَبْحَثُ الثَّانِي فِي إمْكَانِهِ: وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ إمْكَانَ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا، وَشَبَّهُوهُ بِإِجْمَاعِ النَّاسِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَأْكُولٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا اسْتِبْعَادٌ بَاطِلٌ، وَالدَّوَاعِي وَالْمَآكِلُ مُخْتَلِفَةٌ قَطْعًا، بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ الْبَوَاعِثَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى طَلَبِهَا.

المبحث الثالث في إمكان الاطلاع على الإجماع

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْحِكَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ فَجَائِزٌ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ فَبَاطِلٌ. حَكَاهُ الصَّيْرَفِيُّ. وَقَالَ: وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِبُطْلَانِهِ فِي عِلَّتِهِ، فَقِيلَ: إمْكَانُ الْخَطَأِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ اسْتِحَالَةُ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِلُقْيَا الْكُلِّ، وَتَوَاتُرِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي إجْمَاعِ الْخَاصَّةِ، أَمَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ، فَلَيْسَ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ. قُلْت: وَلَوْ عَكَسَ هَذَا لَمْ يَبْعُدْ. [الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ فِي إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْإِجْمَاعِ] [الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ] فِي إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ، فَاخْتَلَفُوا فِي إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ. فَمَنَعَهُ قَوْمٌ لِاتِّسَاعِ خُطَّةِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِشَارِهِمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَتَهَاوُنِ الْفَطِنِ، وَتَعَذُّرِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ فِي تَفَاصِيلَ لَا تَتَوَافَرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا، وَلِتَعَذُّرِ الْعِلْمِ بِبَقَاءِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ إلَى أَنْ يَفْنَى الْآخَرُ. وَالصَّحِيحُ إمْكَانُهُ عَادَةً، فَقَدْ اجْتَمَعَ عَلَى الشَّبَهِ خَلْقٌ كَثِيرُونَ زَائِدُونَ عَلَى عَدَدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْحَقِّ مَعَ ظُهُورِ أَدِلَّتِهِ أَوْلَى. نَعَمْ، الْعَادَةُ مَنَعَتْ اجْتِمَاعَ الْكَافَّةِ، فَأَمَّا الْخَلْقُ الْكَثِيرُ فَلَا تَمْنَعُ الْعَادَةُ اتِّفَاقَهُمْ بِوَجْهٍ مَا. وَاشْتَدَّ نَكِيرُ الْقَاضِي عَلَى مَنْ أَنْكَرَ تَصَوُّرَ وُقُوعِهِ عَادَةً، وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَيْنَ كُلِّيَّاتِ الدِّينِ. فَلَا يَمْنَعُ مِنْ تَصَوُّرِ الدَّوَاعِي الْمُسْتَحَثَّةِ، وَكَمَا صَوَّرَهُ الْقَاضِي فِي اجْتِمَاعِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، وَبَيْنَ الْمَسَائِلَ الْمَظْنُونَةِ مَعَ تَفَرُّقِ

الْعُلَمَاءِ وَانْتِفَاءِ الدَّوَاعِي فَلَا تُتَصَوَّرُ عَادَةً، وَنُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي إنْكَارَهُ، قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ، لَعَلَّ النَّاسَ قَدْ اخْتَلَفُوا، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا يَعْلَمُ النَّاسُ اخْتَلَفُوا إذْ لَمْ يَبْلُغْهُ. قَالَ أَصْحَابُهُ: وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا عَلَى جِهَةِ الْوَرَعِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خِلَافٌ لَمْ يَبْلُغْهُ، أَوْ قَالَ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِخِلَافِ السَّلَفِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَأَجْرَاهُ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَرَادَ غَيْرَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عِنْدَهُ حُجَّةٌ مَعْلُومٌ تَصَوُّرُهُ. أَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَقَدْ كَثُرَ الْمُجْتَهِدُونَ، وَانْتَشَرُوا. قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ الْحَدِيثَ فَيُعَارَضُ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَقُولُ: إجْمَاعُ مَنْ؟ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟ إجْمَاعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ؟ حَتَّى قَالَ: ابْنُ عُلَيَّةَ وَالْأَصَمُّ يَذْكُرُونَ الْإِجْمَاعَ. وَجَعَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي غَيْرِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: الْحَقُّ تَعَذُّرُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، لَا إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، حَيْثُ كَانَ الْمُجْمِعُونَ، وَهُمْ الْعُلَمَاءُ فِي قِلَّةٍ، أَمَّا الْآنَ وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَثْرَةِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا مَطْمَعَ لِلْعِلْمِ بِهِ. قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَحْمَدَ مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقُوَّةِ حِفْظِهِ، وَشِدَّةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ. قَالَ: وَالْمُصَنِّفُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خَبَرَ لَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ إلَّا مَا يَجِدُهُ مَكْتُوبًا فِي الْكُتُبِ، وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ

المبحث الرابع في كون الإجماع حجة

الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ إلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْهُمْ، أَوْ بِنَقْلِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ إلَيْنَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إلَّا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَهُمْ فَلَا. انْتَهَى. وَعَقَدَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بَابًا فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ وُقُوعُهُ وَقَالَ: مِنْ النَّاسِ مَنْ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلْمِ بِهِ طَرِيقَةٌ يُعْلَمُ بِهَا حُصُولُهُ، ثُمَّ زَيَّفَهُ. قَالَ: وَالطَّرِيقُ شَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمُشَاهَدَةُ، وَالْآخَرُ النَّقْلُ. فَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ مُتَقَدِّمًا فَلَيْسَ إلَّا النَّقْلُ، لِتَعَذُّرِ الْمُشَاهَدَةِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ فَالْأَمْرَانِ طَرِيقٌ إلَيْهِ، وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْعَقْلِ، وَلَا بِخَبَرٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِتَعَذُّرِهِ، فَتَعَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي " شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَسَائِلَ الْإِجْمَاعِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ. وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ الْمُلْحِدَةِ إنَّ هَذَا الدِّينَ كَثِيرُ الِاخْتِلَافِ، إذْ لَوْ كَانَ حَقًّا لَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَنَقُولُ: أَخْطَأْت بَلْ مَسَائِلُ الْإِجْمَاعِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ. ثُمَّ لَهَا مِنْ الْفُرُوعِ الَّتِي يَقَعُ الِاتِّفَاقُ مِنْهَا وَعَلَيْهَا، وَهِيَ صَادِرَةٌ عَنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ، يَبْقَى قَدْرُ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَالْخِلَافُ فِي بَعْضِهَا يَحْكُمُ بِخَطَأِ الْمُخَالِفِ عَلَى الْقَطْعِ وَبِفِسْقِهِ، وَفِي بَعْضِهَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ، وَفِي بَعْضِهَا يُتَسَامَحُ، وَلَا يَبْلُغُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَبْقَى عَلَى الشُّبْهَةِ إلَى مِائَتَيْ مَسْأَلَةٍ. انْتَهَى. [الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِي كَوْنِ الْإِجْمَاع حُجَّةً] [الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ] فِي كَوْنِهِ حُجَّةً الرَّابِعُ: وَإِذَا ثَبَتَ إمْكَانُ الْعَمَلِ بِهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ غَيْرُ النَّظَّامِ وَالْإِمَامِيَّةِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَوَّلُ مَنْ بَاحَ بِرَدِّهِ النَّظَّامُ،

ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْضُ الرَّوَافِضِ، أَمَّا الْإِمَامِيَّةُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ قَوْلُ الْإِمَامِ دُونَ الْأُمَّةِ. وَالنَّظَّامُ يُسَوِّي بَيْنَ قَوْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ قَوْلِ آحَادِهَا فِي جَوَازِ الْخَطَأِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَلَا يَرَى فِي الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي مُسْتَنِدِهِ إنْ ظَهَرَ لَنَا، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ دَلِيلًا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمْ. وَتَبِعَهُمْ الرَّازِيَّ، وَنَقَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُحِيلُ الْإِجْمَاعَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّحِيحُ عَنْ النَّظَّامِ أَنَّهُ يَقُولُ بِتَصَوُّرِ الْإِجْمَاعِ، وَأَنَّهُ حُجَّةٌ، وَلَكِنْ فَسَّرَهُ بِكُلِّ قَوْلٍ قَامَتْ حُجَّتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلَ وَاحِدٍ، وَيُسَمَّى بِذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إجْمَاعًا، وَمَنَعَ الْحُجِّيَّةَ عَنْ الْإِجْمَاعِ الَّذِي نُفَسِّرُهُ نَحْنُ بِمَا نُفَسِّرُهُ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ بِاصْطِلَاحِنَا غَيْرَ حُجَّةٍ، وَتَوَاتَرَ عِنْدَهُ لَمْ يُخْبِرْ بِمُخَالَفَتِهِ، فَحَسَّنَ الْكَلَامَ وَفَسَّرَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. هَكَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، هَذَا تَحْرِيرُ النَّقْلِ عِنْدَهُ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ " نُقِلَ عَنْ النَّظَّامِ إنْكَارُ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَرَأَيْت أَبَا الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطَ أَنْكَرَ ذَلِكَ فِي نَقْضِهِ لِكِتَابِ الرَّاوَنْدِيُّ، وَنَسَبَهُ إلَى الْكَذِبِ، إلَّا أَنَّ النَّقْلَ مَشْهُورٌ عَنْ النَّظَّامِ بِذَلِكَ. اهـ. وَحَكَى الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ " الْفُتْيَا " عَنْ النَّظَّامِ أَنَّهُ قَالَ: الْحُكْمُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَوْ الْكِتَابِ أَوْ إجْمَاعِ النَّقْلِ. اهـ. لَكِنْ قِيلَ: إنَّهُ عَنَى بِهِ التَّوَاتُرَ

المبحث الخامس ما ثبت به حجية الإجماع

وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ عِيسَى الْوَرَّاقِ أَنَّهُ إذَا أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى حُكْمٍ جَازَ أَنْ يُخَالِفَهُمْ فِيهِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَنْ وَافَقَهُمْ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي شَرِيعَتِهِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي شُرُوطِهِ. [الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ مَا ثَبَتَ بِهِ حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ] ِ] . الْخَامِسُ: فِي أَنَّهُ ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ: دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ السَّمْعُ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": إنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَمَنَعُوا ثُبُوتَهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ وَإِنْ بَعُدَ فِي الْعَقْلِ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَلَا يَبْعُدُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ، كَاجْتِمَاعِ الْكُفَّارِ عَلَى جَحْدِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَلَا الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ مَظْنُونٌ، وَلَا يُحْتَجُّ بِالْمَظْنُونِ عَلَى الْقَطْعِيِّ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " الْبَغْدَادِيَّةِ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ بِالْإِجْمَاعِ. فَإِنَّهُ

قَالَ عَقِبَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَدِلَّةِ السُّنَّةِ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا يَرْضَاهُ، وَحَمَلَ عَنْهُ إلَّا صَارَ إلَى قَوْلِهِمْ مِمَّا لَا سُنَّةَ فِيهِ. اهـ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قِيَاسًا عَلَى السُّنَّةِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَعَبَّدْ بِالْقِيَاسِ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا دَلِيلُ النَّقْلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ أَكْثَرَ مِنْهُ الْأَئِمَّةُ. وَزَادَ الْغَزَالِيُّ ثَالِثًا، وَهُوَ طَرِيقُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ إذَا قَضَوْا بِقَضِيَّةٍ وَقَطَعُوا بِهَا، فَلَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ قَاطِعٍ، فَإِنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ تَثْبِيتَهُمْ قَاعِدَةَ الدِّينِ بِغَيْرِ قَطْعِيٍّ، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَدْحُ فِيهِمْ، وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَحَكَى سُلَيْمٌ، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا ثَالِثًا، أَنَّ الْعَقْلَ وَالسَّمْعَ دَلَّا عَلَيْهِ. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ الْجُوَيْنِيُّ فِي الْمُحِيطِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ إجْمَاعَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، هَلْ هُوَ كَإِجْمَاعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ، فَإِنَّ إجْمَاعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَأِ. وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ سَمْعِيٌّ، وَالْعَقْلِيُّ مُؤَكِّدٌ لَهُ، وَهُوَ إحَالَةُ الْعَادَةِ خَطَأُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ فِي حُكْمٍ لَا يُثْبِتُهُ أَحَدٌ؛ لِمَوْقِعِ الْخَطَأِ فِيهِ، وَأَنَّ النُّصُوصَ شَهِدَتْ بِعِصْمَتِهِمْ، فَلَا يَقُولُونَ إلَّا حَقًّا، سَوَاءٌ اسْتَنَدُوا فِي قَوْلِهِمْ إلَى قَاطِعٍ أَوْ مَظْنُونٍ، وَطَرِيقَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ دَلِيلًا لِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ دَلِيلُ الدَّلِيلِ، لَكِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الدَّلِيلِ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ عَادِيَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا سَبَقَ عَنْ الْغَزَالِيِّ.

المبحث السادس في أن الإجماع حجة قطعية

تَنْبِيهٌ [وَجْهُ وَضْعِ الْإِجْمَاعِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ] قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنْ صِنَاعَةِ الْأُصُولِيِّ، كَمَا لَا يَلْزَمُ تَثْبِيتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ تَثْبِيتُ الْإِجْمَاعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمَّا كَانَ أَمْرًا رَاجِعًا إلَى السُّنَّةِ مَوْجُودًا فِيهَا بِالِاسْتِرْوَاحِ لَا بِالنَّصِّ، وَبِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، احْتَاجَ إلَى تَثَبُّتِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ تِلْكَ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ حَتَّى يَصِيرَ أَصْلًا ثَالِثًا مِنْ الْأُصُولِ الْأُوَلِ، يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي التِّبْيَانِ وَالظُّهُورِ. [الْمَبْحَثُ السَّادِسُ فِي أَنَّ الْإِجْمَاع حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ] [الْمَبْحَثُ السَّادِسُ] فِي أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَحَدِ أَدِلَّتِهِ، فَهَلْ يُقْطَعُ عَلَى صِحَّتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِيَصِحَّ قِيَامُ الْحُجَّةِ. الثَّانِي: الْمَنْعُ اعْتِبَارًا بِأَهْلِهِ فِي انْتِفَاءِ الْعِصْمَةِ عَنْ آحَادِهِمْ، فَكَذَا عَنْ جَمِيعِهِمْ. وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ. مِنْهُمْ الصَّيْرَفِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَجَزَمَ بِهِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الدَّبُوسِيُّ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَا: كَرَامَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: إنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ دَلِيلٌ أَصْلًا، وَنَسَبَهُ إلَى الْأَكْثَرِينَ. قَالَ: بِحَيْثُ يُكَفَّرُ أَوْ يُضَلَّلُ

وَيُبَدَّعُ مُخَالِفُهُ. وَخَالَفَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ، فَقَالَا: إنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ، وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُعْتَبَرُونَ فَحُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، وَبَيْنَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَالسُّكُوتِيِّ، وَمَا نَدْرِي مَخَالِفَهُ، فَحُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ. وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: الْإِجْمَاعُ مَرَاتِبُ: فَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِثْلُ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْهُورِ مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي سَبَقَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي الْعَصْرِ السَّالِفِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ فِي الْكُلِّ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ لَا الْعِلْمَ، فَصَارَتْ الْمَذَاهِبُ أَرْبَعَةً: يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ. لَا يُوجِبُهُمَا. يُوجِبُ الْعِلْمَ حَيْثُ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ قَطْعًا. يُوجِبُ الْعِلْمَ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ التَّقْوِيمِ " أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ يَقَعُ عَنْ أَمَارَةٍ، فَكَيْفَ يُوجِبُ الْعِلْمَ إجْمَاعٌ تَفَرَّعَ عَنْ الظَّنِّ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ اتِّصَالُهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِصْمَتُهُمْ مِنْ الْخَطَأِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاتِّصَالِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقْرِيرِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يَحْكُمُ بِهَا عَلَى الْقَوَاطِعِ الَّتِي هِيَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا؛ لِاسْتِحَالَةِ رَفْعِ الْقَاطِعِ بِمَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي تَعْلِيقِهِ، وَالْبَنْدَنِيجِيّ فِي الذَّخِيرَةِ " قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ لَفْظَ الْإِجْمَاعِ هَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ، أَوْ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى الْقَطْعِيِّ؟ وَصَرَّحَا بِأَنَّهُ خِلَافٌ فِي الْعِبَارَةِ.

مسألة ثبوت الإجماع بنقل الآحاد وبالظنيات والعموميات

[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ بِنَقْلِ الْآحَادِ وَبِالظَّنِّيَّاتِ وَالْعُمُومِيَّاتِ] ِ] فَعَلَى هَذَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ وَلَا الظَّوَاهِرُ، وَنُقِلَ عَنْ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى ثُبُوتِهِ بِهِمَا فِي حَقِّ الْعَمَلِ خَاصَّةً، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ قَاطِعٌ كَالْحَالِ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، لَا الْعِلْمِيَّاتِ، وَأَبَاهُ الْجُمْهُورُ مُفَرِّقِينَ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ تَدُلُّ عَلَى قَبُولِهَا الْأَدِلَّةَ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَنَا مِثْلُهَا فِي الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ أَلْحَقْنَاهُ بِهَا كَانَ إلْحَاقًا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَلَا يَجْرِي ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ إذَا لَمْ يَنْعَقِدْ بِالْقِيَاسِ فِي قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ صَحَّحَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَالْغَزَالِيُّ. قَالَ: وَلَسْنَا قَاطِعِينَ بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ مَنْ تَمَسَّك بِهِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالظَّوَاهِرِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا يَثْبُتُ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّ مَا قُصِدَ فِيهِ الْعَمَلُ يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَيْسَ آكَدُ مِنْ سُنَنِ الرَّسُولِ، وَهِيَ تَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ. قَالَ: وَسَوَاءٌ كَانَ النَّاقِلُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ.

المبحث السابع في استحالة الخطأ على الإجماع

وَشَنَّعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى الْفُقَهَاءِ إثْبَاتَهُمْ الْإِجْمَاعَ بِالْعُمُومَاتِ، وَالظَّنِّيَّاتِ، وَاعْتِقَادَهُمْ أَنَّ مُخَالِفَهَا بِتَأْوِيلٍ لَا يُكَفَّرُ، وَلَا يُفَسَّقُ، مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ مُخَالِفَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ يُكَفَّرُ أَوْ يَفْسُقُ، وَهُوَ تَرْجِيحٌ لِلْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ، وَسَيَأْتِي جَوَابُهُ. قَالَ الْآمِدِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ: وَالْمَسْأَلَةُ دَائِرَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ دَلِيلِ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ، وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، فَمَنْ شَرَطَ الْقَطْعَ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُفِيدًا فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَمْنَعْ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ جَارٍ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيٌّ. وَإِذَا قُلْنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِالْآحَادِ فِي نَقْلِهِ كَالسُّنَّةِ، فَهَلْ يُنَزَّلُ الظَّنُّ الْمُتَلَقَّى مِنْ أَمَارَاتٍ وَحَالَاتٍ مَنْزِلَةَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنْ نَقْلِ الْعُدُولِ، قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: فِيهِ خِلَافٌ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِعَمَلٍ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنْهَا مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ قَوْلِ الشَّارِعِ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ لَفْظِهِ مِمَّا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُهُ. [الْمَبْحَثُ السَّابِعُ فِي اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْإِجْمَاعِ] [الْمَبْحَثُ السَّابِعُ] فِي اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْأَوَّلُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى الْخَطَأِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِهِ. فَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ السَّمْعُ دُونَ الْعَقْلِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ الْخَطَأُ عَلَيْهِمْ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ امْتَنَعَ بِالسَّمْعِ، وَقِيلَ: بَلْ امْتَنَعَ عَقْلًا وَسَمْعًا.

قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ اللَّهَ - جَلَّ ذِكْرُهُ - لَمَّا خَتَمَ أَمْرَ الرِّسَالَةِ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَصَمَ جُمْلَةَ أُمَّتِهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْخَطَأِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، حَتَّى يَكُونُوا مَعْصُومِينَ فِي التَّبْلِيغِ وَالْأَدَاءِ وَيَكُونُوا كَنَبِيٍّ جَدَّدَ شَرِيعَةً. قُلْت: وَقُبِلَ قَوْلُهُمْ كَقَوْلِ الْمَعْصُومِ. فَإِنْ قِيلَ: سَيَأْتِي جَوَازُ رُجُوعِهِمْ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ إذَا شَرَطْنَا انْقِرَاضَ الْعَصْرِ. قُلْنَا: قَائِلُهُ يُجَوِّزُ الْخَطَأُ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ لَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ دَوَامِ الْخَطَأِ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ إنْ قَصُرَ الزَّمَانُ، فَإِنْ تَطَاوَلَهُ بِحَيْثُ يَتَّبِعُهُمْ النَّاسُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ فَمُسْتَحِيلٌ، كَمَا يَمْتَنِعُ فِي الرِّسَالَةِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يُخْطِئَ كُلُّ فَرِيقٍ فِي مَسْأَلَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْ الْأُخْرَى، فَيَجُوزُ الْقَطْعُ بِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَجُوزُ أَنْ يُخْطِئَ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى الْخَطَأِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ. مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَائِلًا بِمَذْهَبِ الْخَوَارِجِ، وَالْبَاقِي بِالِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ. وَفِي الْفُرُوعِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: النِّصْفُ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَرِثُ، وَالْبَاقِي بِأَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا يَرِثُ لِرُجُوعِهِمَا إلَى مَأْخَذٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَانِعُ الْمِيرَاثِ، فَوَقَعَ الْخَطَأُ فِيهِ كُلِّهِ. اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَمَنْ نَظَرَ إلَى اتِّحَادِ الْأَصْلِ مَنَعَ، وَمِنْ نَظَرَ إلَى تَعَدُّدِ الْفُرُوعِ اخْتَارَ، وَالْأَكْثَرُونَ كَمَا قَالَ الْهِنْدِيُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ عَلَى خَطَأٍ، فَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ، كَمَا لَمْ يَقَعْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ، وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ عَلَى خَطَأٍ. حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِقَوْلِ كُلِّ الْأُمَّةِ، بَلْ الْفَرِيقُ الذَّاهِبُ إلَيْهَا فَقَطْ.

مسألة لا يجوز أن يجمعوا على جهل ما يلزمهم علمه

[مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى جَهْلِ مَا يَلْزَمُهُمْ عِلْمُهُ] ُ، فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْخَطَأِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَضْدَادِ الْعِلْمِ وَالشَّكِّ، وَالظَّنِّ. أَمَّا ذَهَابُهُمْ عَنْ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ يُكَلَّفُوهُ فَجَائِزٌ، سَوَاءٌ نُصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَمْ لَا. قَالَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ. [الْمَبْحَثُ الثَّامِنُ وُجُوبُ اتِّبَاعِ الْإِجْمَاعِ] [الْمَبْحَثُ الثَّامِنُ] وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ وَاحْتَجْنَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّا إذَا قُلْنَا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ يَجِبُ عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ اتِّبَاعُهُ. وَوَجْهُ الْوُجُوبِ أَنَّ الشَّرْعَ إذَا قَالَ: مَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ حَقٌّ وَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ كَمَا إذَا قَالَ: هَذَا بَاطِلٌ، وَجَبَ اجْتِنَابُهُ. [الْمَبْحَثُ التَّاسِعُ اسْتِصْحَابُ الْإِجْمَاعِ وَاجِبٌ أَبَدًا] [الْمَبْحَثُ التَّاسِعُ] اسْتِصْحَابُ الْإِجْمَاعِ وَاجِبٌ أَبَدًا لِأَنَّهُ لَا يُنْسَخُ، كَمَا يُنْسَخُ النَّصُّ، وَلَا يَخْتَصُّ كَمَا يَخْتَصُّ الْمَفْهُومُ. نَعَمْ، إنْ أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ حَدَثَ مَعْنًى فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، لَمْ يُحْتَجَّ بِالْإِجْمَاعِ الْمُقَدَّمِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ. وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الِاسْتِصْحَابِ. وَقَدْ احْتَجَّ ابْنُ دَاوُد

المبحث العاشر في أن الإجماع من خصائص هذه الأمة أو كان حجة في الأمم السابقة أيضا

عَلَى بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً تُبَاعُ، فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَزُولُ بِوِلَادَتِهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. فَقَلَبَهُ عَلَيْهِ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَقَالَ: اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا لَا تُبَاعُ، فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهَا لَا تُبَاعُ إذَا وَلَدَتْ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، فَبُهِتَ. [الْمَبْحَثُ الْعَاشِرُ فِي أَنَّ الْإِجْمَاع مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ كَانَ حُجَّةً فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ أَيْضًا] [الْمَبْحَثُ الْعَاشِرُ] فِي أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ كَانَ حُجَّةً فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ أَيْضًا وَفِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، أَنَّهُ كَانَ حُجَّةً، وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " عَنْ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَجَزَمَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَحُجَّةُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا قَامَ عَلَى عِصْمَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَتَوَقَّفَ الْقَاضِي فِي الْمَسْأَلَةِ. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ. لَا بِالنَّظَرِ إلَى طَرِيقِهِ، بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا اسْتِحَالَةُ الْغَلَطِ فِي مُسْتَنَدِ فَهْمِ الْحُكْمِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَالَ الدَّبُوسِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ كَانَ حُجَّةً مَا دَامُوا مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ الْيَوْمَ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُونَ إلَى الْكِتَابِ بِدَعْوَاهُمْ.

وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنْ قَطَعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِقَوْلِهِمْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ فَهُوَ حُجَّةٌ لِاسْتِنَادِهِ إلَى حُجَّةٍ قَاطِعَةٍ، فَإِنَّ الْعَادَةَ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْأُمَمِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَنَدُ مَظْنُونًا، فَالْوَجْهُ الْوَقْفُ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": إنْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ كَانَ حُجَّةً قُلْنَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لَمْ يُصَرْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ. وَقَالَ فِي الْوَجِيزِ ": الْحَقُّ أَنَّ هَذَا مَعْلُومٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ صِرْنَا إلَيْهِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ إلْكِيَا: لَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ كِلَا الْوَجْهَيْنِ، وَإِذَا تَقَابَلَ الْجَائِزَانِ يُوقَفُ الْأَمْرُ عَلَى السَّمْعِ، وَلَا قَاطِعَ مِنْ جِهَتِهِ، فَتَوَقَّفْنَا، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّ سَلَفَ كُلِّ أُمَّةٍ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ أَصْحَابَ الْمُرْسَلِينَ فِي أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ بِنَاءً عَلَى أَدِلَّةِ تِلْكَ الشَّرَائِعِ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَلْ لَهَا فَائِدَةٌ فِي الْأَحْكَامِ؟ وَإِلَّا فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّارِيخِ، كَالْكَلَامِ فِيمَا كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي بِنَاؤُهَا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا افْتَقَرَ إلَى النَّظَرِ فِي إجْمَاعِهِمْ، هَلْ كَانَ حُجَّةً عِنْدَهُمْ أَمْ لَا؟ وَقَدْ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " الْخِلَافَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي أُمَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ، هَلْ كَانَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً؟ فَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إجْمَاعُ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى، وَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِكَذِبِهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أُمَّتِهِمْ؛ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ، مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهَا.

السر في اختصاص هذه الأمة بالصواب في الإجماع

فَائِدَةٌ [دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ] احْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِحَدِيثِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، وَالنَّاسُ لَنَا تَبَعٌ فِيهِ، الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» . وَوَجْهُ الِاسْتِنْبَاطِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الِاثْنَتَيْنِ أَجْمَعَتْ عَلَى تَفْضِيلِ يَوْمٍ وَأَخْطَأَتْ. [السِّرُّ فِي اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالصَّوَابِ فِي الْإِجْمَاعِ] [السِّرُّ فِي اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالصَّوَابِ فِي الْإِجْمَاعِ] وَالسِّرُّ فِي اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالصَّوَابِ فِي الْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ الْجَمَاعَةُ بِالْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ إلَى الْكَافَّةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ إنَّمَا بُعِثَ النَّبِيُّ لِقَوْمِهِ، وَهُمْ بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ. فَيَصْدُقُ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مُنْحَصِرِينَ فِيهِمْ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَالْمُؤْمِنُونَ مُنْحَصِرُونَ فِيهِمْ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، فَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - خَصَّهَا بِالصَّوَابِ.

الفصل الثاني فيما ينعقد عنه الإجماع

[الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يَنْعَقِدُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ] ُ: وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ لَيْسَتْ لَهُمْ رُتْبَةُ الِاسْتِقْلَالِ بِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُونَهَا نَظَرًا إلَى أَدِلَّتِهَا وَمَأْخَذِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُسْتَنَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ لَاقْتَضَى إثْبَاتَ الشَّرْعِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بَاطِلٌ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ الْقِرَاضِ مِنْ النِّهَايَةِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْإِجْمَاعُ إنْ كَانَ حُجَّةً قَاطِعَةً سَمْعِيَّةً، فَلَا يَحْكُمُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِإِجْمَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ الْإِجْمَاعُ عَنْ أَصْلٍ اهـ. وَحَكَى عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ بِالْبَخْتِ وَالْمُصَادَفَةِ، بِأَنْ يُوَفِّقَهُمْ اللَّهُ لِاخْتِيَارِ الصَّوَابِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ، وَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ الْبَخْتِ، وَهُوَ التَّوْفِيقُ، وَغَلِطَ صَاحِبُ التَّحْصِيلِ فَظَنَّهُ بِمَعْنَى الشُّبْهَةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ عَنْ تَوْفِيقٍ مِنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ دَلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُوَفِّقَ اللَّهُ لِلصَّوَابِ بِالْإِلْهَامِ لِقَوْلِهِ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَقَدْ يُتَرْجِمُ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ وَمُسْتَنَدٍ، وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ لَا فِي الْوُقُوعِ، وَلَيْسَ كَمَا

قَالَ، فَإِنَّ الْخُصُومَ ذَكَرُوا صُوَرًا، وَادَّعَوْا وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ. ثُمَّ ذَلِكَ الْمُسْتَنَدُ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ ابْنَ الِابْنِ كَالِابْنِ فِي الْمِيرَاثِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَوْرِيثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَدَّيْنِ السُّدُسَ، وَعَلَى تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا بِالْخَبَرِ فِي امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ، أَوْ الِاسْتِفَاضَةِ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ، أَوْ عَنْ الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى قَتْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، أَوْ عَنْ تَوْقِيفٍ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ تَسْقُطُ بِفَرْضِ الظُّهْرِ، أَوْ عَنْ اسْتِدْلَالٍ وَقِيَاسٍ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْجَوَامِيسَ فِي الزَّكَاةِ كَالْبَقَرِ. قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: وَكَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) بِتَقْدِيمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ فِي مَرَضِهِ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ الْإِجْمَاعُ بِالتَّوَاطُؤِ، وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ لَا يَرْضَى بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ بِذَلِكَ، بَلْ يَتَبَاحَثُونَ، حَتَّى أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلَ فِي الْخِلَافِ إلَى الْمُبَاهَلَةِ، وَلَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا وَقَفُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَذْمُومٌ شَرْعًا. فَثَبَتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، أَوْ دَلِيلٍ عَقَلَهُ جَمِيعُهُمْ، لَا لِأَنَّ غَيْرَهُ قَالَ بِهِ، فَقَالَ مَعَهُ. وَجَعَلَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ أَصْلَ الْخِلَافِ أَنَّ الْإِلْهَامَ هَلْ هُوَ دَلِيلٌ أَمْ لَا؟ وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ مُسْتَنَدٍ، فَلَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ مُسْتَنَدِهِمْ، إذْ قَدْ ثَبَتَتْ لَهُمْ الْعِصْمَةُ، وَلَا يَحْكُمُونَ إلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ، لَكِنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ،

وَأَكْثَرُ الْإِجْمَاعَاتِ قَدْ عُرِفَ مُسْتَنَدُهَا، وَحَكَى الْإِمَامُ فِي بَابِ الْقِيَاسِ عَنْ الشَّافِعِيِّ مَا يَقْتَضِي الْبَحْثَ عَنْ الْمُسْتَنَدِ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يُعْهَدْ الْقِرَاضُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَوَّلُ مَا جَرَى فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِرَاضِ خَيْرٌ لَاعْتُنِيَ بِنَقْلِهِ. مَسْأَلَةٌ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْمُسْتَنَدِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ دَلَالَةً، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ أَمَارَةً عَلَى مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: الْجَوَازُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ جَلِيَّةً أَوْ خَفِيَّةً، كَالدَّلَالَةِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ "، وَجَوَّزَ الْإِجْمَاعَ عَنْ قِيَاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي جَوَازِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَنْهُ فِي قِيَاسِ الْمَعْنَى عَلَى الْمَعْنَى وَالشَّرْطِ، وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِذَا وَقَعَ عَنْ الْأَمَارَةِ، وَهِيَ الْمُفِيدَةُ لِلظَّنِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ صَوَابًا لِلدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الْعِصْمَةِ، وَمِنْ هُنَا قِيلَ: ظَنُّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنْ الْخَطَأِ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ. وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ: اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَ الْخِلَافِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ.

فَالظَّاهِرِيَّةُ مَنَعُوهُ لِأَجْلِ إنْكَارِهِمْ الْقِيَاسَ وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ، فَقَالَ: الْقِيَاسُ حُجَّةٌ، وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا صَدَرَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ، هَكَذَا حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ، وَهُوَ جَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الظَّاهِرِيَّةُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَحَالَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ الْإِمْكَانَ، وَمَنَعَ الْوُقُوعَ، وَادَّعَوْا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُهُ فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ. وَحَكَى الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ عَقْلًا، وَقَالَ: لَوْ وَقَعَ لَكَانَ حُجَّةً، غَيْرَ أَنَّهُ مَنَعَ وُقُوعَهُ؛ لِاخْتِلَافِ الدَّوَاعِي وَالْأَغْرَاضِ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْقَطَّانِ عَلَى ابْنِ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ وَافَقَ عَلَى وُقُوعِهِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ، وَلَا يُقَالُ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كِلَاهُمَا سَوَاءٌ فِي إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ. وَمِنْ السُّنَّةِ أَنَّ إمَامَةَ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَبَتَتْ بِالْقِيَاسِ، لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رَضِينَاهُ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا. ثُمَّ اُعْتُرِضَ بِإِجْرَاءِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَجَابَ بِالْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ الصِّدِّيقَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَجَدَهُ يُصَلِّي، فَصَلَّى خَلْفَهُ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْبَقَرِ ثَبَتَ [الْحُكْمُ] فِيهَا بِالنَّصِّ، ثُمَّ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْجَوَامِيسِ بِالْإِجْمَاعِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْبَقَرِ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى مِيقَاتِ ذَاتِ عِرْقٍ وَلَمْ يَقَعْ النَّصُّ. قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَخْبَارًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَنَّهُ وَقَّتَهُ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ. قَالَ: وَقَدْ أَدْخَلَ فِي هَذَا أَصْحَابُنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، كَصَدَقَةِ الذَّهَبِ وَفِيهَا أَحَادِيثُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: « (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ) » ، وَالْأَمَةُ فِي مَعْنَاهُ، مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَبْدَ اسْمٌ لِكُلِّ رَقِيقٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. قَالَ: وَمِنْ أَجْوَدِهِ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا أَنَّهُ مِنْ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ كَذَلِكَ. اهـ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ فِي الْأَمَارَةِ بَيْنَ الْجَلِيَّةِ، فَيَجُوزُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَنْهَا، دُونَ الْخَفِيَّةِ. حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَكَذَا صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ. قَالَ: وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي انْعَقَدَ عَنْ الْإِجْمَاعِ كَوْنَهُ مَشْهُورًا. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ إلَّا عَنْ أَمَارَةٍ، وَلَا يَجُوزُ عَنْ دَلَالَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَنْهُ، حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي " الْمِيزَانِ " عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِمْ، وَهُوَ غَرِيبٌ قَادِحٌ فِي إطْلَاقِ نَقْلِ جَمَاعَةٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِهِ عَنْ دَلَالَةٍ. مَسْأَلَةٌ وَإِذَا جَوَّزْنَا انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، فَهَلْ وَقَعَ؟ فِيهِ خِلَافٌ، حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ، وَإِذَا قُلْنَا بِوُقُوعِهِ، فَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ أَمْ لَا؟ الْمَشْهُورُ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: نَعَمْ، وَحَكَى ابْنُ فُورَكٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ،

وَسُلَيْمٌ، عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَلَعَلَّهُ قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ السَّابِقِ، وَحَكَاهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْ الْحَاكِمِ صَاحِبِ الْمُخْتَصَرِ. قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ. تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ الِاجْتِهَادُ عَنْ أَصْلٍ، فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ عَنْ غَيْرِ أَصْلٌ كَالِاجْتِهَادِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. فَمَنْ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ بِالْقِيَاسِ كَانَ مِنْ هَذَا أَمْنَعَ، وَمَنْ جَوَّزَ ثَمَّ اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى امْتِنَاعِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الِاجْتِهَادِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ. فُرُوعٌ [لَا يَجِبُ مَعْرِفَةُ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ] الْأَوَّلُ: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ طَلَبُ الدَّلِيلِ الَّذِي وَقَعَ الْإِجْمَاعُ بِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ أَوْ نُقِلَ إلَيْهِ كَانَ أَحَدَ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ: إذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ دَلَالَةِ آيَةٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ إلَّا عَنْ دَلَالَةٍ، وَلَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا.

يَجُوزُ لِلْمُجْمِعِينَ تَرْكُ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ اشْتِهَارِ الْإِجْمَاعِ] الثَّانِي: قَالَ أَيْضًا: يَجُوزُ لِلْمُجْمِعِينَ تَرْكُ الدَّلِيلِ بَعْدَ اشْتِهَارِ الْمَسْأَلَةِ، وَانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَصْلُهُ ظَاهِرًا مُحْتَمِلًا أَوْ قِيَاسَ شَبَهٍ عَرَفَ الْعَصْرُ الْأَوَّلُ حِكْمَةَ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى نَفْيِ الشَّبَهِ فَتَرَكُوا الدَّلِيلَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكَرُّهِ التَّأْوِيلِ، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى إظْهَارِ الْحُكْمِ، لِيَكُونَ أَمْنَعَ مِنْ الْخِلَافِ، وَأَقْطَعَ لِلنِّزَاعِ. [إذَا احْتَمَلَ إجْمَاعُهُمْ أَنْ يَكُونَ عَنْ قِيَاسٍ أَوْ تَوْقِيفٍ فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟] الثَّالِثُ: إذَا احْتَمَلَ [أَنْ يَكُونَ] إجْمَاعُهُمْ عَنْ قِيَاسٍ لِإِمْكَانِهِ فِي الْحَادِثَةِ، أَوْ عَنْ دَلِيلٍ، فَهَلْ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ الْقِيَاسِ أَوْ عَنْ التَّوْقِيفِ؟ لَا أَعْلَمُ فِيهِ كَلَامًا لَلْأُصُولِيِّينَ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا فِي الْفُرُوعِ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ قَتَلَ الْحَمَامَ بِمَكَّةَ: إنَّ فِيهَا شَاةً؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بِنَاءِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ إيجَابَهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّبَهِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ. وَيَأْنَسُ بِالنَّاسِ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّ مُسْتَنَدَهُ تَوْقِيفٌ بَلَغَهُمْ فِيهِ. قُلْت: لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ تَوْقِيفًا مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ بِكَوْنِهِ اسْتِنْبَاطًا، وَعَلَى هَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " فَقَالَ: أَمَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالُوا: وَأَمَّا مَا لَمْ يَحْكُوهُ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونُوا قَالُوهُ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاحْتُمِلَ غَيْرُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَى إلَّا مَسْمُوعًا.

الإجماع الواقع على وفق خبر هل يدل على صحة ذلك الخبر

مَسْأَلَةٌ إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِأَحَدِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، فَهَلْ يَكُونُ مُنْعَقِدًا عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ، أَوْ مُنْعَقِدًا عَلَى الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، حَكَاهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ. قَالَ: فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ عَلَى الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ عَلَى الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الدَّلِيلِ، وَلِأَجْلِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ. [الْإِجْمَاعُ الْوَاقِعُ عَلَى وَفْقِ خَبَرٍ هَلْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْخَبَرِ] [الْإِجْمَاعُ الْوَاقِعُ عَلَى وَفْقِ خَبَرٍ، هَلْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْخَبَرِ؟] . قَالَ: وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْوَاقِعَ عَلَى وَفْقِ خَبَرٍ مِنْ الْأَخْبَارِ، هَلْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ؟ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ إجْمَاعَهُمْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ. قَالَ: وَهُوَ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ ثَابِتٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا التَّعَبُّدُ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ، فَلِأَجْلِ التَّعَبُّدِ الثَّابِتِ أَجْمَعُوا عَلَى مُوجَبِ الْخَبَرِ، وَصَارَ الْحُكْمُ مَقْطُوعًا بِهِ؛ لِأَجْلِ إجْمَاعِهِمْ. فَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ، وَلَا دَلِيلَ غَيْرَهُ، كَانَ انْعِقَادُهُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ انْعَقَدَ عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَغْنَوْا بِالْإِجْمَاعِ عَنْ نَقْلِ الدَّلِيلِ، وَاكْتَفَوْا بِهِ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ ": إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ، وَكَانَ دَلِيلُهُ مَجْهُولًا

عِنْدَ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي، وَوَجَدْنَا خَبَرَ وَاحِدٍ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَنَدَهُ أَمْ لَا؟ نَقَلَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَبَرُ مُسْتَنَدًا لِلْإِجْمَاعِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأُصُولِيُّونَ. اهـ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْمَسْأَلَةَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا فَهُوَ مُسْتَنَدُهُمْ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِمُوجَبِ النَّصِّ. قَالَ: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي خَبَرِ الْآحَادِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَنْ يُعْلَمَ ظُهُورُهُ بَيْنَهُمْ وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ لِأَجْلِهِ، أَوْ يُعْلَمَ ظُهُورُهُ بَيْنَهُمْ وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ عَمِلُوا لِأَجْلِهِ، أَوْ لَا يَكُونَ ظَاهِرًا، بَلْ عَمِلُوا بِمَا تَضَمَّنَهُ. فَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، ثَالِثُهَا: إنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَهُوَ مُسْتَنَدَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَمِلُوا مِنْ أَجْلِهِ، وَهَلْ يَدُلُّ إجْمَاعُهُمْ عَلَى مُوجَبِهِ عَلَى صِحَّتِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ. انْتَهَى. وَقَالَ إلْكِيَا: إذَا ظَهَرَ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ نَصٌّ، كَانَ هُوَ مُسْتَنَدَ الْحُكْمِ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَلَقَّى الْحُكْمَ مِنْ الْإِجْمَاعِ إذَا لَمْ نَرَ مُسْتَنَدًا مَقْطُوعًا بِهِ، فَأَمَّا إذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مُوجَبِ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَهَلْ يَدُلُّ الْقَطْعِيُّ عَلَى أَنَّ إجْمَاعَهُمْ كَانَ لِأَجْلِهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ إنْ عَمِلُوا بِمَا عَمِلُوا، وَحَكَمُوا مُسْتَنِدِينَ إلَى الْخَبَرِ مُصَرِّحِينَ بِالْمُسْتَنَدِ، فَلَا شَكَّ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ، فَالشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَقُولُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِهِ: إنَّ إجْمَاعَهُمْ يُصْرَفُ إلَى الْخَبَرِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو هَاشِمٍ، وَزَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى الْقِرَاضِ، وَلَا خَبَرَ فِيهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْمُسَاقَاةِ، وَلَكِنْ اُشْتُهِرَ الْإِجْمَاعُ فِي

الْقِرَاضِ؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ، دُونَ الْمُسَاقَاةِ. وَذَهَبَ غَيْرُهُمَا إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ لِأَجْلِ الِاجْتِهَادِ، أَوْ لِأَجْلِ خَبَرٍ آخَرَ لَمْ يُنْقَلْ، وَيَبْعُدُ كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ خَرْقًا لِلْعَادَةِ، وَهَذَا لَا دَافِعَ لَهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا لِأَجْلِ خَبَرٍ، ثُمَّ لَا يُنْقَلُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَمْشِي إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إجْمَاعُهُمْ أَعْنِي نَقْلَ مَا لَهُ أَجْمَعُوا. اهـ. وَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، نَقَلَهُ فِي الْمَحْصُولِ " عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، وَخَالَفَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ الْغَالِبِ، لَا أَنَّهُ عَنْهُ حَقِيقَةً. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ لَا فَائِدَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَنْعَقِدُ عَنْ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ. قُلْت: وَلَهَا نَظَائِرُ. مِنْهَا أَنَّ عَمَلَ الْعَالِمِ أَوْ فُتْيَاهُ عَلَى وَفْقِ حَدِيثٍ لَا يَكُونُ حُكْمًا مِنْهُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ احْتِيَاطًا أَوْ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَافَقَ ذَلِكَ الْخَبَرَ، وَكَذَلِكَ مُخَالَفَتُهُ لِلْحَدِيثِ لَيْسَتْ قَدْحًا مِنْهُ فِي صِحَّتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهَا. وَمِنْهَا الْإِجْمَاعُ عَلَى وَفْقِ خَبَرٍ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَقَدْ سَبَقَتْ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا عَلَّلَ حُكْمَ الْأَصْلِ بِعِلَّةٍ مُنَاسِبَةٍ، وَأَلْحَقَ بِهِ الْفَرْعَ، فَمَنَعَ الْخَصْمُ كَوْنَ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ هَذِهِ، وَقَالَ: الْعِلَّةُ غَيْرُهَا، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ عِلَّةٍ، وَقَدْ وُجِدَتْ عِلَّةٌ مُنَاسِبَةٌ، فَلْيُضَفْ

الْحُكْمُ إلَيْهَا، إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَاهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَسْأَلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ. وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي قَامَ فِيهَا الْإِجْمَاعُ قَدْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْحَدِيثِ مِنْ بَابِ تَكْثِيرِ الدَّلَائِلِ لَمْ يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَهِضُ الْإِلْحَاقُ مَا لَمْ تَثْبُتْ الْعِلَّةُ، فَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْأَصْلَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ. مَسْأَلَةٌ [فِي وُجُودِ خَبَرٍ أَوْ دَلِيلٍ لَا تَعَارُضَ فِيهِ] [تَشْتَرِكُ الْأُمَّةُ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ] هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ خَبَرٍ أَوْ دَلِيلٍ بِلَا مُعَارِضٍ، اشْتَرَكَتْ الْأُمَّةُ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ الْجَوَازَ، إنْ كَانَ عَمَلُ الْأُمَّةِ مُوَافِقًا لِمُقْتَضَاهُ، وَعَدَمَهُ إنْ خَالَفَ. وَأَمَّا الرَّازِيَّ فَتَرْجَمَهَا فِي الْمَحْصُولِ " بِأَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ اشْتِرَاكُ الْأُمَّةِ فِي الْجَهْلِ بِمَا لَمْ يُكَلَّفُوا بِهِ؟ وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ". وَفِي ظَنِّي أَنَّ الْأَصْفَهَانِيَّ ظَنَّهُمَا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُمَا

مسألة إذا أجمعوا على خلاف الخبر

مَسْأَلَتَانِ. إحْدَاهُمَا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَشْتَرِكَ الْأُمَّةُ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ يُكَلَّفُوا بِهِ؟ قَوْلَانِ. الثَّانِيَةُ: هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ خَبَرٍ أَوْ دَلِيلٍ لَا تَعَارُضَ فِيهِ، وَتَشْتَرِكُ الْأُمَّةُ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ؟ وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ مُرَتَّبٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، فَمَنْ مَنَعَهُ هُنَاكَ لَمْ يُجَوِّزْ هَذَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَنْ جَوَّزَ هُنَاكَ، اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَالْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ مُوَافِقًا لِمُقْتَضَاهُ فَيَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذُهُولُهُمْ عَمَّا كُلِّفُوا بِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. [مَسْأَلَةٌ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ الْخَبَرِ] ِ] إذَا ذَكَرَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُجْمِعِينَ خَبَرًا عَنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، يَشْهَدُ بِضِدِّ الْحُكْمِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ ": يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ: بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَى مُوجَبِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّ ذَلِكَ يَسْتَحِيلُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ الْمَذَاهِبِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَ الْأُمَّةَ عَنْ نِسْيَانِ حَدِيثٍ فِي الْحَادِثَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ خَرَجَ الْإِجْمَاعُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا. وَبَنَاهُ فِي الْأَوْسَطِ " عَلَى الْخِلَافِ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ بِشَرْطٍ مَنَعَ الرُّجُوعَ، وَمَنْ اشْتَرَطَ جَوَّزَهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إلَى الْحَدِيثِ احْتِمَالَاتٌ مِنْ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ مَا لَا يَتَطَرَّقُ إلَى الْإِجْمَاعِ، بَلْ لَوْ قَطَعْنَا بِالْإِجْمَاعِ فِي صُورَةٍ، ثُمَّ وَجَدْنَا عَلَى خِلَافِهِ نَصًّا قَاطِعًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ، لَكَانَ الْإِجْمَاعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ بِخِلَافِ النَّصِّ، فَإِنَّهُ يَقْبَلُهُ.

وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يُسْتَدَلُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى نَاسِخٍ بَلَغَهُمْ أَوْ مُوجَبٍ لِتَرْكِهِ، وَلِهَذَا قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى النَّصِّ لَمَّا رَتَّبَ الْأَدِلَّةَ. قُلْت: وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْإِجْمَاعُ أَكْثَرُ مِنْ الْخَبَرِ الْمُنْفَرِدِ، وَعَلَى هَذَا، فَيَجِبُ عَلَى الرَّاوِي لِلْخَبَرِ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى خَبَرِهِ، وَيَتَمَسَّكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ فِي بَابِ التَّرَاجِيحِ مِنْ الْبُرْهَانِ ": إذَا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ الْخَبَرِ تَطَرَّقَ الْوَهْنُ إلَى رِوَايَةِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ آحَادًا فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَاتِرًا فَالتَّعَلُّقُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَيَتَطَرَّقُ إلَيْهِ إمْكَانُ النَّسْخِ، فَيُحْمَلُ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا عَلَى قَطْعٍ، وَيُحْمَلُ الْخَبَرُ عَلَى مُقْتَضَى النَّسْخِ اسْتِنَادًا وَتِبْيَانًا، لَا عَلَى طَرِيقِ الْبِنَاءِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْجَوَازِ، وَقَطَعَ بِأَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ ضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مُنَاقَضَةِ النَّصِّ الْمُتَوَاتِرِ أَنْ يَلْهَجَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا. قُلْت: وَيُحْتَمَلُ تَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ، وَإِلَّا فَيُمْكِنُ أَنْ يَتَطَرَّقَ عَدَمُ الْحُجِّيَّةِ إلَيْهِ بِرُجُوعِهِمْ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ. مَسْأَلَةٌ [إذَا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ الْخَبَرِ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى الْخَبَرِ] فَلَوْ رَجَعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ لِلْخَبَرِ، فَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: كَانَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، إذْ لَمْ يُكَلَّفُوا بِمَا لَمْ يُبَلَّغُوا، كَمَا يَكُونُ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ حَقًّا قَبْلَ بُلُوغِ النَّاسِخِ، وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ بِلُزُومِ إجْمَاعَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، يَنْسَخُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَالظَّاهِرُ الْحُكْمُ بِإِحَالَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَخْطِئَةُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ.

الفصل الثالث فيما ينعقد به الإجماع

[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ] ُ [الْوِفَاقُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ] وَلَهُ شُرُوطٌ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ قَوْلُ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ، وِفَاقًا وَلَا خِلَافًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] وَقَالَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَاحْتَجَّ الرُّويَانِيُّ بِمَا يُرْوَى أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ خَالَفَ الصَّحَابَةَ وَقَالَ: الْبَرَدُ لَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ. قَالَ: فَرَدُّوا قَوْلَهُ، وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِوُجُوبِ رَدِّ الْعَوَامّ إلَى قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَتَحْرِيمِ الْفَتْوَى مِنْهُمْ فِي الدِّينِ. وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْأُمَّةِ إنَّمَا كَانَ حُجَّةً لِعِصْمَتِهَا مِنْ الْخَطَأِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ مِنْ صِفَاتِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْعِصْمَةِ لِلْكُلِّ ثُبُوتُهَا لِلْبَعْضِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْهِنْدِيُّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَنُوزِعُوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ وَلَا وِفَاقُهُمْ، وَكَادَ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُرْسَلِ: لَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الْعَوَامّ لَا وِفَاقًا وَلَا خِلَافًا. اهـ. وَأَقُولُ: فَعَلَى هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَعِبَارَةُ التَّقْرِيبِ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ صِحَّةُ إجْمَاعِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأُمَّةَ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ دُخُولِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ فِي الْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ لِلْخَاصَّةِ إجْمَاعٌ عَلَى شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْهُ الْعَامَّةُ. قَالَ: وَالْعَامَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْخَاصَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ عِيَانًا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالدَّقَائِقِ وَالنَّظَرِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ مَدْخَلٌ فِي الْإِجْمَاعِ، وَلَا بِهِمْ مُعْتَبَرٌ فِي الْخِلَافِ؟ قُلْنَا: كَذَلِكَ نَقُولُ، وَيَقُولُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَإِنَّمَا وَجَبَ سُقُوطُ الِاعْتِبَارِ بِخِلَافِهِمْ لِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى عَامَّةِ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَعْصَارِ الْمُسْلِمِينَ مُخَالَفَةُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ بِخِلَافِ الْعَامَّةِ لِأَجْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ. وَجَوَابٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَرْكُ الِاعْتِبَارِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَبَعْضُ الْأُمَّةِ، بَلْ مُعْظَمُهَا، فَوَجَبَ الِاعْتِبَارُ بِخِلَافِهِمْ، وَثَبَتَ أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ عَيْنًا وَتَفْصِيلًا إجْمَاعُ الْعَامَّةِ، وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْهُ عَيْنًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا يَقُولُونَ: لَوْ صَارَ عَامَّةُ الْأُمَّةِ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ إلَى مُخَالَفَةِ إجْمَاعِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَخَطَئِهِمْ؟ هَلْ يَكُونُ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءَ حُجَّةً؟ قِيلَ: لَا يَكُونُ قَوْلُهُمْ دُونَ قَوْلِ الْعَامَّةِ إجْمَاعًا بِجَمِيعِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ بَعْضُهُمْ، لَكِنَّ

الْعَامَّةَ مُخْطِئُونَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحُكْمِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي دِينِ اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَلَيْسَ خَطَؤُهُمْ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، إذْ هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ. وَجَوَابٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الْعَامَّةِ، وَلَا بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ، لِأَجْلِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ اتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى تَخْطِئَةِ عَامَّةِ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ فِي خِلَافِهِمْ عَلَى عُلَمَائِهِمْ، فَوَجَبَ سُقُوطُ الِاعْتِبَارِ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ. هَذَا كَلَامُهُ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى إطْلَاقِ الِاسْمِ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا أَجْمَعُوا هَلْ يَصْدُقُ " أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ "، وَيُحْكَمُ بِهِ قَوْلُ الْعَوَامّ فِيهِمْ تَبَعًا؟ فَالْقَاضِي يَقُولُ: لَا يَصْدُقُ اسْمُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي حُجِّيَّتِهِ، وَهُوَ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَ خِلَافًا فِي أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ تَقْدَحُ فِي قِيَامِ الْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " بَعْدَمَا سَبَقَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِذَا أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَهَلْ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَيْهِ؟ قُلْنَا: مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ اتِّفَاقُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا. فَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الَّتِي تَشْتَبِهُ عَلَى الْعَوَامّ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَوَامُّ يَدْخُلُونَ فِي حُكْمِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا تَفْصِيلَ الْأَحْكَامِ، فَقَدْ عَرَفُوا عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَهَذَا مُسَاهَمَةٌ مِنْهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَوَاقِعَهُ عَلَى التَّفْصِيلِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مُسَاهِمِينَ فِي الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْإِجْمَاعُ فِي التَّفَاصِيلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا خِلَافٌ مَهُولٌ أَمْرُهُ، وَيَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ الْمَحْضَةِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّا إنْ أَدْرَجْنَا الْعَوَامَّ فِي حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْمُطْلَقِ، أَطْلَقْنَا الْقَوْلَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ نُدْرِجْهُمْ فِي حُكْمِ الْإِجْمَاعِ، أَوْ بَدَرَ مِنْ بَعْضِ طَوَائِفِ الْعَوَامّ خِلَافٌ، فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ الْعَوَامَّ مُعْظَمُ الْأُمَّةِ. اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَتَابَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ رُجُوعِ الْخِلَافِ إلَى كَوْنِهِ: هَلْ يُسَمَّى إجْمَاعًا أَمْ لَا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً، مَرْدُودٌ، فَفِي " الْمُعْتَمَدِ " لِأَبِي الْحُسَيْنِ مَا لَفْظُهُ: اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْعَامَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: الْعَامَّةُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ، حَتَّى لَا يَسُوغَ مُخَالَفَتُهُمْ إلَّا بِأَنْ يَتَّبِعَهُمْ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ لَمْ يَجِبْ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي مِنْ الْعُلَمَاءِ اتِّبَاعُهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ حُجَّةٌ اتَّبَعَهُمْ عُلَمَاءُ عَصْرِهِمْ أَمْ لَا. انْتَهَى. وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُمْ فِي الْعَامِّ دُونَ الْخَاصِّ، حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَيَنْبَغِي تَنْزِيلُ إطْلَاقِ الْمُطْلِقِينَ عَلَيْهِ. وَخَصَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْخِلَافَ بِالْخَاصِّ، وَقَالَ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ فِي الْعَامِّ اتِّفَاقًا، وَجَرَى عَلَيْهِ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " فَقَالَ: إنْ اخْتَصَّ بِمَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ كَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، لَمْ يُعْتَبَرْ وِفَاقُ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ، وَإِنْ اشْتَرَكَ فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَتَحْرِيمِ بِنْتِ الْبِنْتِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ إجْمَاعُ الْعَوَامّ مَعَهُمْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَصِحُّ عَنْ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْعِلْمِ بِهِ.

وَقَالَ سُلَيْمٌ: إجْمَاعُ الْخَاصَّةِ هَلْ يُحْتَاجُ مَعَهُمْ فِيهِ إلَى إجْمَاعِ الْعَامَّةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ. [هَلْ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ أَمْ مَعْنَوِيٌّ] إذَا عَلِمْت هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ وَكَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَفْظِيٌّ، وَكَلَامُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْإِجْمَاعُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَدِ الصَّلَوَاتِ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ وَقَعَ بِهِمْ الِاعْتِبَارُ، فَقِيلَ: الِاعْتِبَارُ فِي ثُبُوتِهِ بِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ. وَقِيلَ: الِاعْتِبَارُ بِالْكَافَّةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ. قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَتَبَيَّنُ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يُجْمِعَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالِاجْتِهَادِ عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ، كَالنِّكَاحِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِالزَّوْجِيَّةِ، فَمَنْ قَالَ: إنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ كَفَرَ الْمُخَالِفُ بِالنَّوْعَيْنِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّ الِاعْتِبَارَ فِيهِ بِالْكَافَّةِ لَمْ يُجْعَلْ الْمُخَالِفُ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي كَالْمُرْتَدِّ وَإِنْ قَطَعَ بِتَخْطِئَتِهِ. اهـ. تَنْبِيهٌ [اعْتِبَارُ قَوْلِ الْمُقَلِّدِ فِي الْإِجْمَاعِ] حُكْمُ الْمُقَلِّدِ حُكْمُ الْعَامِّيِّ فِي ذَلِكَ، إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ، قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ.

مسألة الذين يعتبر قولهم في الإجماع

مَسْأَلَةٌ [إجْمَاعُ الْعَوَامّ عِنْدَ خُلُوِّ الزَّمَانِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ] إجْمَاعُ الْعَوَامّ عِنْدَ خُلُوِّ الزَّمَانِ مِنْ الْمُجْتَهِدِ لَا عِبْرَةَ بِهِ؛ لِأَنَّا إنْ لَمْ نَعْتَبِرْهُمْ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، مَنَعْنَا إمْكَانَ وُقُوعِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَمَّنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا قَوْلَهُمْ مَنَعْنَا أَنَّ إجْمَاعَهُمْ لَيْسَ إجْمَاعًا شَرْعِيًّا. [مَسْأَلَةٌ الَّذِينَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ] ِ] يُشْتَرَطُ فِي الْإِجْمَاعِ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ الْفُنُونِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَوْلُ كُلِّ الْعَارِفِينَ بِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، فَإِنَّ قَوْلَ غَيْرِهِمْ فِيهِ يَكُونُ بِلَا دَلِيلٍ بِجَهْلِهِمْ بِهِ، فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِجْمَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْفِقْهِيَّةِ قَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي الْأُصُولِ قَوْلُ جَمِيعِ الْأُصُولِيِّينَ، وَفِي النَّحْوِ قَوْلُ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ. وَخَالَفَ ابْنُ جِنِّي، فَزَعَمَ فِي كِتَابِ " الْخَصَائِصِ " أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي إجْمَاعِ النُّحَاةِ. ثُمَّ مَنْ اعْتَبَرَ قَوْلَ الْعَوَامّ فِي الْإِجْمَاعِ اعْتَبَرَ قَوْلَ الْفَقِيهِ الْخَالِيَ عَنْ الْأُصُولِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَهْلِيَّةِ، وَقَوْلَ الْأُصُولِيِّ الْخَالِيَ عَنْ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ، وَقَوْلَ الْمُتَكَلِّمِ الْخَالِيَ عَنْ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِمَا بَيْنَ الْعَامِّيِّ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَصِحَّةِ النَّظَرِ، هَذَا فِي الْأَحْكَامِ، وَهَذَا فِي الْأُصُولِ.

هل لخلاف الأصولي في الفقه اعتبار

وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ قَوْلَ الْعَامِّيِّ فِي الْإِجْمَاعِ اخْتَلَفُوا فِي الْفَقِيهِ وَالْأُصُولِيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: مِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ قَوْلَ الْجَمِيعِ؛ لِقِيَامِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَامِّيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهُ بِالْعَامِّيِّ؛ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فَاعْتَبَرَ قَوْلَ الْفَقِيهِ، وَأَلْغَى قَوْلَ الْأُصُولِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ، وَكَيْفِيَّةِ اقْتِنَاصِهَا مِنْ مَدَارِكِهَا مِنْ الْفَقِيهِ الَّذِي لَيْسَ بِأُصُولِيٍّ. وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْكَلَامِ، وَالْأُصُولِيِّ فِي الْأُصُولِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ. [هَلْ لِخِلَافِ الْأُصُولِيِّ فِي الْفِقْهِ اعْتِبَارٌ] [هَلْ لِخِلَافِ الْأُصُولِيِّ فِي الْفِقْهِ اعْتِبَارٌ؟] وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ الْمَاهِرُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْفِقْهِ، فَفِي اعْتِبَارِ خِلَافِهِ فِي الْفِقْهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ. وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى أَنَّ خِلَافَهُ مُعْتَبَرٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ الْحَقُّ، وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ إلَى أَنَّ خِلَافَهُ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُفْتِينَ، وَلَوْ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ لَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ الْمُفْتِيَ فِيهَا، قَالَ إلْكِيَا: وَالْحَقُّ قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحْكَمَ الْأُصُولَ، فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهَا. وَيُقَلِّدُ فِيمَا سَنَحَ لَهُ مِنْ الْوَقَائِعِ، وَالْمُقَلِّدُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَذْهَبَ الْقَاضِي. وَقَالَ: إذَا أَجْمَعَ الْمُفْتُونَ، وَسَكَتَ [الْأُصُولِيُّونَ] الْمُتَصَرِّفُونَ فَيَبْعُدُ أَنْ يَتَوَقَّفَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى

مُرَاجَعَتِهِ، فَإِنَّ الَّذِينَ لَا يَسْتَقِلُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ فِي جَوَابِ مَسْأَلَةٍ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُحَالِ وُجُوبُ مُرَاجَعَتِهِمْ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُمْ أَبْدَوْا وَجْهًا فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ سَالِفًا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إرْشَادِهِمْ وَتَهْدِيَتِهِمْ إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَإِنْ أَبْدَوْا قَوْلَهُمْ إبْدَاءَ مَنْ يُزَاحِمُ الْأَحْكَامَ، فَالْإِنْكَارُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَالْقَوْلُ الْمُغْنِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا قَوْلَ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ بَيْنَ مَنْ يُقَلِّدُ وَيُقَلَّدُ مَرْتَبَةٌ ثَالِثَةٌ. ثُمَّ قَالَ: وَالنَّظَرُ السَّدِيدُ يَتَخَطَّى كَلَامَ الْقَاضِي وَعَصْرَهُ، وَيَتَرَقَّى إلَى الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَيُفْضِي إلَى مُدْرِكِ الْحَقِّ قَبْلَ ظُهُورِ الْخِلَافِ. وَالتَّحْقِيقُ - خَالَفَ الْقَاضِي أَوْ وَافَقَ - أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا أَطْبَقُوا لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ الْمُتَصَرِّفِينَ مَذْهَبًا مُخْتَلِفًا بِهِ، فَإِنَّ الْمَذَاهِبَ لِأَهْلِ الْفَتْوَى، فَإِنْ بَانَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى فَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ، وَالْكَلَامُ الْكَافِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُفْتِيًا اُعْتُبِرَ خِلَافُهُ، وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ ": إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ لَا مَدْخَلَ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ، سَوَاءٌ الْمُتَكَلِّمُ وَغَيْرُهُ، وَهُمْ الَّذِينَ تَلْقَوْا الْعِلْمَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ وَهُمْ الْقَائِمُونَ بِعِلْمِ الْفِقْهِ، فَأَمَّا مَنْ انْفَرَدَ بِالْكَلَامِ فِي الْخَبَرِ وَالظِّفْرَةِ وَالدَّاخِلَةِ، لَمْ يَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا عَلَى مَنْ لَيْسَ هُوَ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانُوا حُذَّاقًا بِدَقَائِقِ الْكَلَامِ، كَمَا لَا يُجْعَلُ الْحَاذِقُ مِنْ النُّقَّادِ حُجَّةً عَلَى الْبَزَّازِ فِي الْبَزِّ. انْتَهَى.

المذاهب في خلاف المبتدع غير الكافر

مَسْأَلَةٌ [دُخُولُ الْمُجْتَهِدِ الْمُبْتَدِعِ فِي الْإِجْمَاعِ] الْمُجْتَهِدُ الْمُبْتَدِعُ إذَا كَفَّرْنَاهُ بِبِدْعَتِهِ، غَيْرُ دَاخِلٌ فِي الْإِجْمَاعِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي مُسَمَّى الْأُمَّةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ كُفْرَ نَفْسِهِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: لَكِنْ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِإِجْمَاعِنَا عَلَى كُفْرِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعُنَا وَحْدَهُ عَلَى كُفْرِهِ لَوْ ثَبَتَ كُفْرُهُ، فَإِثْبَاتُ كُفْرِهِ بِإِجْمَاعِنَا وَحْدَهُ دَوْرٌ، وَأَمَّا إذَا وَافَقَنَا هُوَ عَلَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ كُفْرٌ، فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ كُفْرُهُ، لَا لِأَنَّ قَوْلَهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَلَا لِإِجْمَاعِنَا وَحْدَهُ لِمَا سَبَقَ، بَلْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ كُفْرًا إذْ ذَاكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ عَلَى الْخَطَأِ، وَأَدِلَّةُ الْإِجْمَاعِ تَنْفِيهِ. [الْمَذَاهِبُ فِي خِلَافِ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الْكَافِرِ] [الْمَذَاهِبُ فِي خِلَافِ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الْكَافِرِ] وَأَمَّا إذَا اعْتَقَدَ مَا لَا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ، بَلْ التَّبْدِيعَ وَالتَّضْلِيلَ، فَاخْتَلَفُوا عَلَى مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: اعْتِبَارُ قَوْلِهِ، لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَإِخْبَارُهُ عَنْ نَفْسِهِ

مَقْبُولٌ إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْكَذِبِ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَكَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِنَصِّهِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْهَوَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ وِفَاقُ الْقَدَرِيَّةِ، وَالْخَوَارِجِ، وَالرَّافِضَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْفِقْهِ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ فِي الْكَلَامِ، هَكَذَا رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيَّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَذَكَرَ أَبُو ثَوْرٍ فِي مَنْثُورَاتِهِ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. اهـ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: هَلْ يَقْدَحُ خِلَافُ الْخَوَارِجِ فِي الْإِجْمَاعِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. قَالَ: وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِجْمَاعِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ بِهِمْ الْأَهْوَاءُ كَمَنْ قَالَ بِالْقَدَرِ مِنْ حَمَلَةِ الْآثَارِ، وَمَنْ رَأَى الْإِرْجَاءَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَافِ آرَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ. فَإِذَا قِيلَ: قَالَتْ الْخَطَّابِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ كَذَا، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى هَؤُلَاءِ فِي الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: الْإِجْمَاعُ عِنْدَنَا إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ. قَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْخَوَارِجِ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ يَنْقُلُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ سَلَفَنَا الَّذِينَ أَخَذْنَا عَنْهُمْ أَصْلَ الدِّينِ. انْتَهَى.

وَمِمَّنْ اخْتَارَ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ، وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَاسْتَقْرَأَهُ مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ: لَا يَشْهَدُ رَجُلٌ عِنْدِي لَيْسَ هُوَ عِنْدِي بِعَدْلٍ، وَكَيْفَ أُجَوِّزُ حُكْمَهُ قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي الْجَهْمِيَّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ، وَيَنْعَقِدُ عَلَى غَيْرِهِ، أَيْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَةُ مَنْ عَدَاهُ إلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُ، حَكَاهُ الْآمِدِيُّ وَتَابَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ: أَرَى حِكَايَتَهُ لِغَيْرِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَمَنَعَ مِنْ بَقَائِهِمَا عَلَى إطْلَاقِهِمَا؛ لِوُقُوعِ مَسْأَلَتَيْنِ فِي بَابَيْ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ، تَنْفِي ذَلِكَ. إحْدَاهُمَا: اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّقْلِيدِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَالْقَوْلُ هُنَا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ مُعَارِضٌ لِذَلِكَ الِاتِّفَاقِ. وَثَانِيهِمَا: اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ عُرِفَ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مَنْ عُرِفَ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا اسْتَحَالَ بَقَاءُ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى إطْلَاقِهِمَا، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ، يَعْنِي فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: فَيَنْعَقِدُ، يَعْنِي عَلَى غَيْرِهِ، وَيَصِيرُ النِّزَاعُ لَفْظًا، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ تَأْوِيلُ هَذَا الْقَوْلِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ.

وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيُعْتَدُّ بِهِ، حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِحْكَامِ "، وَنَقَلَهُ عَنْ جَمَاهِيرِ سَلَفِهِمْ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَالَ: وَهُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَاعَى الْعَقِيدَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَثُرَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِينَ خُصُوصًا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولُوا عَنْ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ: خِلَافًا لِمَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالتَّنَاقُضِ مِنْ حَيْثُ ذِكْرُهُ. وَقَالَ: لَا يُعْتَدُّ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُمْ التَّشْنِيعُ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ. فَرْعَانِ. أَحَدُهُمَا: إذَا لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ مَنْ كَفَّرْنَاهُ. فَلَوْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا حَالَ تَكْفِيرِهِ، ثُمَّ تَابَ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ الْآنَ؟ فَلْيُبْنَ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ. وَسَنَذْكُرُهُ. الثَّانِي: أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لَوْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ الْمُبْتَدِعَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِبِدْعَتِهِ، أَوْ عَلِمَهَا لَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ، هَلْ يَكُونُ مَعْذُورًا أَمْ لَا؟ وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِدْعَتَهُ فَمَعْذُورٌ، إنْ كَانَ مُخْطِئًا فِيهِ حَيْثُ تَكُونُ مُوجِبَةً لِلتَّكْفِيرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ، وَإِنْ عَلِمَهَا لَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ اقْتِضَاءَهَا التَّكْفِيرَ، فَغَيْرُ مَعْذُورٍ، بَلْ كَانَ يَلْزَمُهُ مُرَاجَعَةُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الِاعْتِقَادِ هَلْ يُكَفِّرُ أَمْ لَا؟

مسألة العلماء المجتهدون الفسقة هل يعتبر قولهم في الإجماع

[مَسْأَلَةٌ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ الْفَسَقَةُ هَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ] ِ؟] فِي اعْتِبَارِ الْوَرَعِ فِي أَهْلِ الْإِجْمَاعِ خِلَافٌ، فَالْفَسَقَةُ بِالْفِعْلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ إذَا بَلَغُوا فِي الْعِلْمِ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، هَلْ يُعْتَبَرُ وِفَاقُهُمْ أَوْ خِلَافُهُمْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ، وَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِمْ، وَقَالَ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ: وَنُقِلَ عَنْ شِرْذِمَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى أَنَّ خِلَافَهُ مُعْتَدٌّ بِهِ. قُلْت: وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ "؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُزِيلُ اسْمَ الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ قَوْلُ مَنْ عَدَاهُمْ قَوْلَ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ لَا كُلِّهِمْ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَإِلَيْهِ مَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَاسْتُشْكِلَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْفَاسِقَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، فَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ فِي حَقِّهِ مُشْكِلٌ، وَلَا يُمْكِنُ تَجْزِئَةُ الْإِجْمَاعِ، حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّهِ، وَاسْتَحْسَنَهُ إلْكِيَا، وَقَالَ: الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ.

وَاخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ فِي تَعْلِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ إخْبَارَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَوْثُقُ بِهِ لِفِسْقِهِ، فَرُبَّمَا أَخْبَرَ بِالْوِفَاقِ وَهُوَ مُخَالِفٌ أَوْ بِالْخِلَافِ وَهُوَ مُوَافِقٌ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ قَوْلِهِ سَقَطَ أَثَرُهُ، وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِسُقُوطِ أَثَرِ قَوْلِ الْخَضِرِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَيٌّ؛ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَدَالَةَ رُكْنٌ فِي الِاجْتِهَادِ، فَإِذَا فَاتَتْ الْعَدَالَةُ فَاتَتْ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ، وَعَلَى الثَّانِي اقْتَصَرَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ". وَفَرَّعُوا عَلَيْهَا مَا إذَا أَدَّى الْفَاسِقَ اجْتِهَادُهُ إلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ، هَلْ يَأْخُذُ بِقَوْلِهِ مَنْ عَلِمَ صِدْقَهُ فِي فَتْوَاهُ بِقَرَائِنَ؟ . وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْفَاسِقَ يَدْخُلُ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ وَجْهٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ سُئِلَ عَنْ دَلِيلِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَحْمِلَهُ فِسْقُهُ عَلَى اعْتِقَادِ شَرْعٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ يَقْرُبُ مِنْ مَأْخَذِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَلْيُعَوَّلْ عَلَيْهِ. وَرَأَيْت فِي كِتَابِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ سَوَاءٌ كَانَ مُدَرِّسًا مَشْهُورًا أَوْ خَامِلًا مَسْتُورًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَمِينًا أَوْ فَاسِقًا مُتَهَتِّكًا، يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي ذَلِكَ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالْمَسْتُورُ كَالْمَشْهُورِ. قَالَ: وَالْأَحْسَنُ هُوَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَأَمَّا الْفِسْقُ بِتَأْوِيلٍ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي اعْتِقَادِ بِدْعَةٍ لَا تُؤَدِّي إلَى التَّكْفِيرِ، فَإِنْ أَدَّتْهُ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَلَا وِفَاقِهِ. وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْمُبْتَدِعِ.

مسألة هل يعتبر بخلاف الظاهرية في الإجماع

[مَسْأَلَةٌ هَلْ يُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ فِي الْإِجْمَاعِ] ِ] ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَنَسَبَهُ إلَى الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ فِي الْحَوَادِثِ الشَّرْعِيَّةِ، وَتَابَعَهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، قَالُوا؛ لِأَنَّ مَنْ أَنْكَرَهُ لَا يَعْرِفُ طُرُقَ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالظَّوَاهِرِ، فَهُوَ كَالْعَامِّيِّ الَّذِي لَا مَعْرِفَةَ لَهُ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ ": يَلْزَمُ الْقَائِلَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ خِلَافَ مُنْكِرِ الْعُمُومِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا ذَاهِبَ إلَيْهِ. قُلْت: نَقَلَ الْأُسْتَاذُ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ طَرَدَ قَوْلَهُ فِي مُنْكِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَمَنْ تَوَقَّفَ فِي الظَّوَاهِرِ وَالْعُمُومِ. قَالَ: لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ، فَمَنْ أَنْكَرَهَا وَتَوَقَّفَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يُعْتَبَرُ بِخِلَافِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ السِّوَاكِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ": إنَّ مُخَالَفَةَ دَاوُد لَا تَقْدَحُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْمُخْتَارِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ، وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ " الْمُفْهِمِ " جُلُّ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ، بَلْ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعَوَامّ، وَإِنَّ مَنْ اعْتَدَّ بِهِمْ فَإِنَّمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ خِلَافَ الْعَوَامّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، وَالْحَقُّ خِلَافُهُ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُمْ فِي الشَّرْعِيَّاتِ كَالسُّوفِسْطَائِيَّةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ، وَلَا يُؤْنَسُ بِوِفَاقِهِمْ.

وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ": يُعْتَبَرُ كَمَا يُعْتَبَرُ خِلَافُ مَنْ يَنْفِي الْمَرَاسِيلَ، وَيَمْنَعُ الْعُمُومَ وَمَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ مَدَارَ الْفِقْهِ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ، وَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ أَنَّهُ حَكَى عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُمْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، وَيُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ فِي الْأُصُولِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْمُحَقِّقُونَ لَا يُقِيمُونَ لِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ وَزْنًا؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَادِرَةٌ عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَلَا تَفِي النُّصُوصُ بِعُشْرِ مِعْشَارِهَا. وَقَالَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ: إنَّ قَوْلَ دَاوُد بِإِجْزَاءِ الرَّقَبَةِ الْمَعِيبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ نَقَلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَوْ عَاصَرَ دَاوُد لَمَا عَدَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ إنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِالْآثَارِ وَالتَّوْقِيفِ وَاللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ، وَلَا مُخَالِفَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِمْ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَتَجَزَّأُ. فَإِنْ قُلْنَا: بِالتَّجَزُّؤِ، لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَقَعَ النَّظَرُ فِي فَرْعٍ هُمْ فِيهِ مُحِقُّونَ، كَمَا نَعْتَبِرُ خِلَافَ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْكَلَامِيَّةِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ مَدْخَلًا، كَذَلِكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فِي غَيْرِ الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَحَكَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ الِاعْتِدَادُ بِخِلَافِهِمْ، وَلِهَذَا يَذْكُرُ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَصْحَابِنَا خِلَافَهُمْ فِي الْكُتُبِ الْفَرْعِيَّةِ.

ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي أُجِيبُ بِهِ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ: أَنَّ دَاوُد يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ، وَيُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ إلَّا مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْقِيَاسِيُّونَ مِنْ أَنْوَاعِهِ أَوْ بَنَاهُ عَلَى أُصُولِهِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى بُطْلَانِهَا، فَاتِّفَاقُ مَنْ سِوَاهُ عَلَى خِلَافِهِ إجْمَاعٌ يَنْعَقِدُ، فَقَوْلُ الْمُخَالِفِ حِينَئِذٍ خَارِجٌ عَنْ الْإِجْمَاعِ، كَقَوْلِهِ فِي التَّغَوُّطِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَتِلْكَ الْمَسَائِلِ الشَّنِيعَةِ، وَفِي " لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ " الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَخِلَافُهُ فِي هَذَا وَشَبَهُهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. اهـ. فَتَحَصَّلْنَا عَلَى خَمْسَةِ آرَاءً فِي الْمَسْأَلَةِ. وَقَدْ اعْتَرَضَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَلَى إطْلَاقِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ الْحُسَيْنَ نَقَلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْكِتَابَةِ: لَا أَمْتَنِعُ مِنْ كِتَابَةِ الْعَبْدِ عِنْدَ جَمْعِ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ، وَإِنَّمَا أَسْتَحِبُّ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ، فَإِنَّ دَاوُد أَوْجَبَ كِتَابَةَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ، وَدَاوُد مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ أَقَامَ الشَّافِعِيُّ لِخِلَافِهِ وَزْنًا، وَاسْتَحَبَّ كِتَابَةَ مَنْ ذَكَرَهُ لِأَجْلِ خِلَافِهِ. اهـ. وَهَذَا وَهْمٌ عَجِيبٌ مِنْ ابْنِ الرِّفْعَةِ؛ لِأَنَّ دَاوُد إنَّمَا وُلِدَ قَبْلَ وَفَاةِ الشَّافِعِيِّ بِسَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمِئَتَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ خِلَافَهُ، فَغَلِطَ ابْنُ الرِّفْعَةِ لِأَجْلِ فَهْمِهِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ هُوَ، بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَالْمُسْتَحِبُّ هُوَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ، لَكِنَّهُ عَلَّلَهُ بِتَعْلِيلٍ غَيْرِ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. نَعَمْ، أَوْجَبَهَا قَبْلُ غَيْرُ دَاوُد، فَالْمُرَادُ الْخِلَافُ الَّذِي عَلَيْهِ دَاوُد لَا خُصُوصُ دَاوُد عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ كَلَامَ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ مُسْتَقِيمٌ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ صَاحِبَ الظَّاهِرِ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ

دَاوُد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ شَيْخُ الشَّافِعِيِّ بِمَكَّةَ، الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ: مَا رَأَيْت أَوْرَعَ مِنْهُ، وَلَعَلَّهُ الَّذِي نَقَلَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وُجُوبَ الْعَقِيقَةِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ ": فِي بَابِ الْعَقِيقَةِ أَفْرَطَ فِي الْعَقِيقَةِ رَجُلَانِ، رَجُلٌ قَالَ بِوُجُوبِهَا، وَهُوَ دَاوُد، وَرَجُلٌ قَالَ بِبِدْعَتِهَا وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَكَلَامُ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ فِي التَّعْلِيقِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَسْتَحِبُّ كِتَابَةَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، فَإِنَّ دَاوُد يُوجِبُ كِتَابَةَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ، وَلَمْ يَقُلْ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ. مَسْأَلَةٌ [عَدَمُ اشْتِرَاطِ الشُّهْرَةِ فِي مَنْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ] . لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا فِي الْفُتْيَا، بَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ الْخَامِلِ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّاذِّينَ حَيْثُ فَصَلَ بَيْنَ الْمَشْهُورِ بِالْفَتْوَى، فَيُعْتَبَرُ قَوْلُهُ دُونَ غَيْرِهِ، حَكَاهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا فِيهِ مِنْ الصِّفَاتِ، لَا بِشُهْرَتِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ مَذْهَبٍ، بَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ مَهْمَا عُلِمَ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مَقْبُولُ الْفُتْيَا، بِدَلِيلِ أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ مُتَنَاوِلٌ لَهُ، وَلَا مَخْرَجَ عَنْهُ، فَيُعْتَبَرُ قَوْلُهُ.

مَسْأَلَةٌ [هَلْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ] مَنْ أَحْكَمَ أَكْثَرَ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إلَّا أَدَاةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَنْ أَحْكَمَ عُلُومَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إلَّا اللُّغَةُ أَوْ عِلْمُ التَّفْسِيرِ، فَهَلْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ؟ قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: ذَهَبَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ؟ وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاع مَعَ خِلَافِهِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ سِوَى الْقَاضِي، وَتَرْجَمَ إلْكِيَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ: مَنْ أَشْرَفَ عَلَى رُتْبَةِ الْمُجْتَهِدِينَ، قَالَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ: لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَصَارَ قَاضِينَا أَبُو بَكْرٍ إلَى أَنَّهُ يُعْتَدُّ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ نَفْسَهُ فِي رُتْبَةِ الْمُجْتَهِدِينَ. مَسْأَلَةٌ [لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ إذَا أَحْكَمَا أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ] الصَّبِيُّ إذَا أَحْكَمَ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَأَنَّى يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُقَدَّرُ عَلَى الْبُعْدِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ خِلَافَهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ. وَلِهَذَا أَلْغَى أَقْوَالَهُ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ، وَلِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْفَاسِقِ، وَقَدْ سَبَقَ.

مَسْأَلَةٌ [الِاعْتِدَادُ فِي الْإِجْمَاعِ بِمَنْ بَلَغَ مَبْلَغَ الِاجْتِهَادِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ] قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَأَمَّا مَنْ بَلَغَ مِنْ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ مَبْلَغَ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ خِلَافِهِ " وَالرِّقُّ وَالْأُنُوثَةُ لَا يُؤَثِّرَانِ فِي اعْتِبَارِ الْخِلَافِ، كَمَا لَا يُؤَثِّرَانِ فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ وَالْفَتْوَى. وَقَدْ رَجَعَ أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ إلَى فَتَاوَى عَائِشَةَ، وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِلَى فَتَاوَى نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَبْلَ عِتْقِهِمَا.

الشَّرْطُ الثَّانِي اتِّفَاقُ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْبِقَاعِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إذَا اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ وَخَالَفَ وَاحِدٌ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ الْكَرْخِيِّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ. وَاحْتَجَّ الْقَفَّالُ بِمُخَالَفَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ، وَدَعْوَتِهِ إلَى الْمُبَاهَلَةِ، وَاعْتَدُّوا بِهِ خِلَافًا، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالصَّيْرَفِيُّ، قَالَ: وَلَا يُقَالُ لِهَذَا: شَاذٌّ؛ لِأَنَّ الشَّاذَّ مَا كَانَ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ شَذَّ عَلَيْهِمْ، وَكَيْفَ يَكُونُ مَحْجُوجًا بِهِمْ وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْإِجْمَاعِ إلَّا بِهِ. قَالَ: إلَّا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ جِهَةِ الْحِكَايَةِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُ خَبَرِهِمْ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ، وَدَلِيلُ النَّظَرِ بَاقٍ. وَاحْتَجَّ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِنَا بِقِصَّةِ الصِّدِّيقِ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ. قَالَ فِي " الْبَيَانِ ": لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَمْ يَكُنْ

قَوْلُهُمْ حُجَّةً. اهـ. وَهَذَا لَيْسَ مَحَلَّ الْخِلَافِ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ مَا دَامَ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ لَا يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إلَى وَاحِدٍ، قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ اسْمَ الْإِجْمَاعِ يَسْتَدْعِي عَدَدًا، فَلَا أَقَلَّ مِنْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَالْمَذْهَبُ: انْعِقَادُ إجْمَاعِ الْأَكْثَرِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ، وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْخَيَّاطِ مِنْ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ أُسْتَاذِ الْكَعْبِيِّ، وَزَادَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَابْنُ الْأَخْشَادِ مِنْ أَصْحَابِ الْجُبَّائِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثُمَّ رَدَّهُ بِمُخَالَفَةِ الصِّدِّيقِ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فِي قِتَالِ الرِّدَّةِ ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَمِيلُ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُحِيطِ ": وَالشَّرْطُ أَنْ يُجْمِعَ جُمْهُورُ تِلْكَ الصَّنْعَةِ، وَوُجُوهُهُمْ وَمُعْظَمُهُمْ، وَلَسْنَا نَشْتَرِطُ قَوْلَ جَمِيعِهِمْ، وَكَيْفَ نَشْتَرِطُ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ لَمْ يَسْمَعْ بِهِ، فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَيَسْتَسِرُّونَ بِالْعِلْمِ، فَرُبَّمَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ أَخَذَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ جَارُهُ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اسْتَخْلَفُوا أَبَا بَكْرٍ انْعَقَدَتْ خِلَافَتُهُ، بِإِجْمَاعِ الْحَاضِرِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ غَابَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ، وَمِنْ حَاضِرِي الْمَدِينَةِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ السَّقِيفَةَ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ مَعَ اتِّفَاقِ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ، وَبِهِ

يُشْعِرُ إيرَادُ بَعْضِهِمْ، وَاحْتَجَّ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْأَقَلِّ بِارْتِكَابِهِ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الشَّاقُّ لِعَصَا الْمُسْلِمِينَ، لَا فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ ابْنَ جَرِيرٍ قَدْ شَذَّ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ، وَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ بِعَيْنِ مَا ذَكَرَ. وَالثَّالِثُ: حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ عُدَّ الْمُخَالِفُ مَعَ كَثْرَةِ الْمُجْمِعِينَ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حُجَّةٌ لِبُعْدِ أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ مُتَمَسَّكَ الْمُخَالِفِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَدَدَ الْأَقَلِّ إنْ بَلَغَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ لَمْ يُعْتَبَرْ بِالْإِجْمَاعِ دُونَهُ وَإِلَّا اُعْتُدَّ بِهِ. حَكَاهُ الْآمِدِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ. قِيلَ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ الْعَقْلُ لَا السَّمْعُ، وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ يُشْتَرَطُ لَهُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، إذْ التَّوَاتُرُ يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مَعَ الْأَقَلِّ الْمُخَالِفِ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ إذَنْ. وَالْخَامِسُ: اتِّبَاعُ الْأَكْثَرِ أَوْلَى، وَيَجُوزُ خِلَافُهُ، حَكَاهُ الْهِنْدِيُّ. وَالسَّادِسُ: يَضُرُّ الِاثْنَانِ لَا الْوَاحِدُ. وَالسَّابِعُ: يَضُرُّ الثَّلَاثَةُ لَا الْوَاحِدُ، وَلَا الِاثْنَانِ، وَخَصَّ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ خِلَافَ ابْنِ جَرِيرٍ بِالْوَاحِدِ، وَحَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ خِلَافَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ يَجْعَلُ الْمَسْأَلَةَ خِلَافًا، وَيَخْرُجُ مِنْهُ طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ بِضَرَرِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ. وَالثَّامِنُ: إنْ سَوَّغَتْ الْجَمَاعَةُ الِاجْتِهَادَ فِي مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ كَانَ خِلَافَهُ مُعْتَدًّا بِهِ، كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ، وَإِنْ أَنْكَرُوهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، كَخِلَافِهِ فِي رِبَا الْفَضْلِ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. قِيلَ: وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِالْأَكْثَرِ، أَعْنِي تَسْوِيغَهُمْ الْمُخَالَفَةَ وَعَدَمَهُ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ اتِّفَاقُهُمْ لَمْ يَكُنْ تَسْوِيغُهُمْ الْمَذْكُورُ حُجَّةً، وَإِيجَابُ اعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ أَوْلَى، وَيَجُوزُ خِلَافُهُ. وَالتَّاسِعُ: إنْ كَانَ يَدْفَعُ خِلَافَ الْوَاحِدِ نَصٌّ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ، كَخِلَافِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلصَّحَابَةِ فِي الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ لِوُجُودِ النَّصِّ. وَإِنْ كَانَ لَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَخَالِفِهِ نَصٌّ كَانَ خِلَافُهُ مَانِعًا مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْعَصْرِ أَوْ مِنْ أَصَاغِرِهِمْ سِنًّا، كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ فِي الْعَوْلِ، فَصَارَ خِلَافُهُ خِلَافًا، وَجَزَمَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ. الْعَاشِرُ: لَا يُعْتَبَرُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَالتَّأْثِيمِ، وَالتَّضْلِيلِ، بِخِلَافِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ ابْنِ الْأَخْشَادِ، وَيَجِيءُ مَذْهَبٌ آخَرُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ، التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِفُ تَابِعِيًّا وَالْمُجْمِعُونَ صَحَابَةً وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، وَآخَرُ مُفَصِّلٌ بَيْنَ أَنْ يَنْشَأَ مَعَهُمْ وَيُخَالِفَهُمْ أَوْ يَنْشَأَ بَعْدَهُمْ.

مَسْأَلَةٌ [لَا اعْتِبَارَ لِلْخِلَافِ الثَّانِي] الْخِلَافُ الثَّانِي لَا اعْتِبَارَ لَهُ، كَمَا أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْبَعِيدَ لَا يُخْرِجُ النَّصَّ عَنْ كَوْنِهِ نَصًّا، وَلِهَذَا عَدَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ جُمْلَةً مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَهَكَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْخِلَافِ فِي الشَّاذِّ: إنَّهُ لَا خِلَافَ، وَلَا اخْتِلَافَ. يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ الْقَرِيبُ الْمَأْخَذِ بِخِلَافِ الشَّاذِّ الْبَعِيدِ، فَهُوَ خِلَافٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ. مَسْأَلَةٌ [الْأَوْجُهُ الْمَحْكِيَّةُ هَلْ تَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ] الْأَوْجُهُ الْمَحْكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، هَلْ تَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا لِلْأُصُولِيِّينَ، وَيُشْبِهُ تَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّهُ لَازِمُ الْمَذْهَبِ، أَمْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوْجُهَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوَاعِدَ عَامَّةٍ لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَإِلَّا فَلَا، لَكِنْ رَأَيْت ابْنَ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ " فِي أَوَّلِ الْقَضَاءِ صَرَّحَ بِحِكَايَةِ خِلَافٍ فِي أَنَّهَا هَلْ تَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ أَمْ لَا؟ وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا تَقْدَحُ.

التابعي المجتهد هل يعتبر قوله في إجماع الصحابة إذا أدرك عصرهم

[التَّابِعِيُّ الْمُجْتَهِدُ هَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ إذَا أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ [التَّابِعِيُّ الْمُجْتَهِدُ هَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ] [إذَا أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ؟] إذَا أَدْرَكَ التَّابِعِيُّ عَصْرَ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ دَخَلَ مَعَهُمْ فِيهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ إلَّا بِهِ عَلَى أَصَحِّ الْوُجُوهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنِ الصَّبَّاغِ، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيِّ فِي كِتَابِ " أَدَبِ الْجَدَلِ " لَهُ. قَالَ: لِأَنَّهُمَا لَمْ يَخْتَلِفَا إلَّا فِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْحَقِّ مَعَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " اللُّبَابِ "، وَالسَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ. قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لَا يَثْبُتُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي الْإِشْعَارِ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ كَانَ يَكْرَهُهُ، وَهُوَ مِمَّنْ أَدْرَكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ، فَلَا يَثْبُتُ إجْمَاعُهُمْ بِدُونِ قَوْلِهِ، وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ إذْ ذَاكَ بَعْضُ الْأُمَّةِ، وَالْعِصْمَةُ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِجَمِيعِهِمْ. وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ فَرِيضَةٍ فَقَالَ: سَلُوا ابْنَ جُبَيْرٍ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَكَانَ أَنَسٌ يُسْأَلُ فَيَقُولُ: سَلُوا مَوْلَانَا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ سَمِعَ وَسَمِعْنَا، وَحَفِظَ وَنَسِينَا، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَبْحِ الْوَلَدِ فَأَشَارَ إلَى مَسْرُوقٍ، فَلَمَّا بَلَغَهُ جَوَابُهُ تَابَعَهُ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ "، وَنَقَلَهُ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ وَنُفَاةِ الْقِيَاسِ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنْ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَقْتَ حُدُوثِ تِلْكَ النَّازِلَةِ فَيُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ "، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَالصَّيْرَفِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ "، وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ". قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَتَّبَ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ: إنْ بَلَغَ التَّابِعِيُّ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ وَقَعَتْ حَادِثَةٌ، فَأَجْمَعُوا، وَخَالَفَهُمْ، اُعْتُدَّ بِخِلَافِهِ، وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ ثُمَّ أَدْرَكَهُمْ، وَخَالَفَهُمْ، فَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِ، وَمَنْ اعْتَبَرَ انْقِرَاضَهُ فَفِي الِاعْتِدَادِ بِهِ وَجْهَانِ. اهـ. وَصَوَّرَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " الْمَسْأَلَةَ بِالْمَعَاصِرِ الْمُجْتَهِدِ، فَقَالَ: يُعْتَبَرُ وِفَاقُهُ فِي حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ، وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ الْحَادِثَةِ، فَاعْتُبِرَ وِفَاقُهُ كَالْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ. قَالَ: فَأَمَّا مَنْ عَاصَرَهُمْ وَهُوَ صَبِيٌّ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ بَلَغَهَا وَخَالَفَهُمْ، فَهَلْ يُعَدُّ خِلَافُهُ خِلَافًا؟ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: يُعَدُّ خِلَافًا لِقِصَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ. اهـ. وَاَلَّذِي رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ مَا نَصُّهُ: وَمَتَى أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ حَدَثَ فِي عَصْرِهِمْ مَنْ بَلَغَ مَبْلَغَ الِاسْتِدْلَالِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُخَالَفَةُ

إجْمَاعِهِمْ، فَإِنْ حَدَثَتْ حَادِثَةٌ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدْ جَاءَ فِيهِ التَّابِعِيُّ مُسْتَدِلًّا فَأَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ اسْتِنْبَاطًا، وَرَأَى خِلَافَهُ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ خِلَافٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ، هَذَا كَلَامُهُ. وَحَكَى فِي " الْقَوَاطِعِ " الْوَجْهَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا إذَا بَلَغَ التَّابِعِيُّ فَأَمَّا إذَا تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ عَلَى قَوْلِ التَّابِعِيِّ فَإِنَّهُ يَكُونُ التَّابِعِيُّ مَحْجُوجًا بِذَلِكَ قَطْعًا، وَقَدْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ يُؤَدِّي إلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعٌ. اهـ. وَكَلَامُ الْآمِدِيَّ يَقْتَضِي طَرْدَ الْخِلَافِ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ قَالَ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعُهُمْ دُونَهُ اخْتَلَفُوا، فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ، قَالَ: إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، لَمْ يَنْعَقِدْ إجْمَاعُهُمْ مَعَ مُخَالَفَتِهِ، وَإِنْ بَلَغَ الِاجْتِهَادَ بَعْدَ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ. قَالَهُ: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَنْ شَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ، قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا حَالَ إجْمَاعِهِمْ أَوْ صَارَ مُجْتَهِدًا بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَصْرِهِمْ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ أَصْلًا، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَالَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ إجْمَاعُهُمْ مَعَ مُخَالَفَتِهِ. انْتَهَى. وَتَحَصَّلَ أَنَّ اللَّاحِقَ إمَّا أَنْ يَتَأَهَّلَ قَبْلَ الِانْقِرَاضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِمَّا أَنْ يُوَافِقَ أَوْ يُخَالِفَ أَوْ يَسْكُتَ، وَالْقَائِلُ بِعَدَمِ

إجماع الصحابة

اعْتِبَارِهِ لَا يَجْعَلُ لِذَلِكَ أَثَرًا، وَالْقَائِلُ بِهِ اثْنَانِ: قَائِلٌ إنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وِفَاقُهُ، بَلْ يُعْتَبَرُ عَدَمُ خِلَافِهِ. وَقَائِلٌ يَعْتَبِرُهُمَا. تَنْبِيهَانِ. الْأَوَّلُ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مَعَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ خِلَافَ الْأَقَلِّ يَنْدَفِعُ بِهِ إجْمَاعُ الْأَكْثَرِ، فَلِهَذَا ذُكِرَتْ. الثَّانِي: لَا يَخْتَصُّ هَذَا بِالتَّابِعِيِّ مَعَ الصَّحَابَةِ، بَلْ إذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْعَصْرِ عَلَى حُكْمٍ، فَنَشَأَ قَوْمٌ مُجْتَهِدُونَ قَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ، فَخَالَفُوهُمْ، وَقُلْنَا: انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطٌ، فَهَلْ يَرْتَفِعُ الْإِجْمَاعُ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْتَبَرُ الِانْقِرَاضُ فَلَا. [إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ [إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ] إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَنَقَلَ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَهَكَذَا إجْمَاعُ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ خِلَافًا لِدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ حَيْثُ قَالَ: إجْمَاعُ اللَّازِمِ يَخْتَصُّ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَأَمَّا إجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ الْبُسْتِيِّ مِنَّا فِي صَحِيحِهِ، وَقِيلَ: إنَّ أَحْمَدَ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فَقَالَ:

الْإِجْمَاعُ أَنْ يُتَّبَعَ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ الصَّحَابَةِ وَهُوَ بَعْدُ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ، لَكِنَّهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى سَوَّى بَيْنَ الْكُلِّ. فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ أَجْرَى لَهُ قَوْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالثَّانِي، وَحَمَلَ الْأَوَّلَ عَلَى آحَادِ التَّابِعِينَ، لَا إجْمَاعِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ سَلَّمْنَاهُ، وَإِذَا أَجْمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِدَاوُدَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ مِنْ التَّابِعِينَ، فَقَدْ رَأَى أَنَسًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقِيلَ: أَدْرَكَ أَرْبَعَةً مِنْهُمْ، وَلَنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ أَصْلٍ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْكُلِّ، وَبِالشَّهَادَةِ بِالْعِصْمَةِ، وَهُوَ عَامٌّ، فَتَخْصِيصُهُ تَحَكُّمٌ، وَهُوَ كَالْقَائِلِ لَا حُجَّةَ إلَّا فِي قِيَاسِ الصَّحَابَةِ بِدَلِيلِ {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] ، وَخَصَّ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي " أَدَبِ الْجَدَلِ " النَّقْلَ عَنْ دَاوُد بِمَا إذَا أَجْمَعُوا عَنْ نَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ قَالَ: فَأَمَّا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَقَدْ سَبَقَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ دَاوُد وَأَصْحَابُنَا إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَالصَّحَابَةُ هُمْ الَّذِينَ شَهِدُوا التَّوْقِيفَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا يَقُولُونَ فِي إجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ. أَيَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى خَطَأٍ؟ قُلْنَا: هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ

إجماع أهل المدينة

أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ» . وَالثَّانِي: أَنَّ سَعَةَ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَثْرَةَ الْعَدَدِ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا ضَبْطَ أَقْوَالِهِمْ، وَمَنْ ادَّعَى هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ كَذِبُهُ. [إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ [إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ] إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا أَجْمَعُوا لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ": قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ حُجَّةٌ، وَمَا سَمِعْت أَحَدًا ذَكَرَ قَوْلَهُ إلَّا عَابَهُ، وَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدِي مَعِيبٌ. انْتَهَى. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ

فِي كِتَابِ " فَهْمِ السُّنَنِ ": قَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَدِينَةِ ظَاهِرًا مَعْمُولًا بِهِ لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ خِلَافَهُ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ. اهـ. وَنَقَلَ عَنْهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي الْأَعْلَامِ " وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا هُوَ إجْمَاعُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الْجُرْجَانِيِّ " أَنَّهُ أَرَادَ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ وَحْدَهُمْ، وَقَالَ: إنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى مَسْأَلَةٍ انْعَقَدَ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ، وَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِمْ مُخَالَفَتُهُمْ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْأَوَّلُ. لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ فِي " الْمُوَطَّأِ " فِي بَابِ الْعَيْبِ فِي الرَّقِيقِ نَقَلَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَبْرَأُ مِنْ الْعَيْبِ أَصْلًا، عَلِمَهُ أَوْ جَهِلَهُ. ثُمَّ خَالَفَهُمْ، فَلَوْ كَانَ يَرَى أَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ لَمْ تَسَعْ مُخَالَفَتُهُ. وَعَلَى الْمَشْهُورِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَقَالَ الْبَاجِيُّ: إنَّمَا أَرَادَ فِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ، كَالصَّاعِ وَالْمُدِّ وَالْأَذَانِ، وَالْإِمَامَةِ، وَعَدَمِ الزَّكَوَاتِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ مِمَّا تَقْضِي الْعَادَةُ بِأَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ لَوْ تَغَيَّرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ لَعُلِمَ، فَأَمَّا مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ فَهُمْ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ شَيْخِهِ الْأَبْهَرِيُّ. وَقِيلَ: يُرَجَّحُ نَقْلُهُمْ عَلَى نَقْلِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى هَذَا فِي الْقَدِيمِ، وَرَجَّحَ رِوَايَةَ أَهْلِ الدِّينِ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ الصَّحَابَةَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي

التَّابِعِينَ. حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَعَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَادَّعَى ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا: إنَّ اجْتِهَادَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ مُرَجَّحٌ عَلَى اجْتِهَادِ غَيْرِهِمْ، فَيُرَجَّحُ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ لِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ مَرَّةً: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا وَجَدْت مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ، فَلَا يَدْخُلْ قَلْبَك شَكٌّ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَكُلَّمَا جَاءَك شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَا تَلْتَفِتْ إلَيْهِ، وَلَا تَعْبَأْ بِهِ، فَقَدْ وَقَعْتَ فِي الْبِحَارِ، وَوَقَعْتَ فِي اللُّجَجِ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ: إذَا رَأَيْت أَوَائِلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ فَلَا تَشُكَّنَّ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَاَللَّهِ إنِّي لَك نَاصِحٌ، وَالْقُرْآنِ لَك نَاصِحٌ، وَإِذَا رَأَيْت قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي حُكْمٍ أَوْ سُنَّةٍ، فَلَا تَعْدِلْ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ شِهَابٍ قَدْمَةً، فَقُلْت لَهُ: طَلَبْتَ الْعِلْمَ حَتَّى إذَا كُنْتُ وِعَاءً مِنْ أَوْعِيَتِهِ تَرَكْت الْمَدِينَةَ فَقَالَ: كُنْت أَسْكُنُ الْمَدِينَةَ، وَالنَّاسُ نَاسٌ، فَلَمَّا تَغَيَّرَتْ النَّاسُ تَرَكْتُهُمْ. رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. اهـ. وَقِيلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ الْمُنْتَخَبِ " وَصُحِّحَ فِي مَكَان آخَرَ التَّعْمِيمُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ،

وَفِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَا فَرْقَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ، إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عِصْمَةِ بَعْضِ الْأُمَّةِ. نَعَمْ، مَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ إذَا عُلِمَ اتِّصَالُهُ، وَعَدَمُ تَغَيُّرِهِ، وَاقْتَضَتْهُ الْعَادَةُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَلَوْ بِالتَّقْرِيرِ عَلَيْهِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ قَوِيٌّ يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ عَادِيٍّ، قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: نَقْلِيٌّ، وَاسْتِدْلَالِيٌّ. فَالْأَوَّلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: مِنْهُ نَقْلُ شَرْعٍ مُبْتَدَأٍ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إمَّا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إقْرَارٍ. فَالْأَوَّلُ: كَنَقْلِهِمْ الصَّاعَ، وَالْمُدَّ وَالْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ وَالْأَوْقَاتِ، وَالْأَحْبَاسِ وَنَحْوِهِ. وَالثَّانِي: نَقْلُهُمْ الْمُتَّصِلَ كَعُهْدَةِ الرَّقِيقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: كَتَرْكِهِمْ أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ تُزْرَعُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ لَا يَأْخُذُونَهَا مِنْهَا. قَالَ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةٌ يَلْزَمُ عِنْدَنَا الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَتَرْكُ الْأَخْبَارِ وَالْمَقَايِيسِ لَهُ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِيهِ. قَالَ: وَالثَّانِي: وَهُوَ إجْمَاعُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَلَا مُرَجَّحٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي يَعْقُوبَ الرَّازِيَّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَالطَّيَالِسِيِّ، وَأَبِي الْفَرَجِ، وَالْأَبْهَرِيُّ، وَأَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَذْهَبًا لِمَالِكٍ

ثَانِيهَا: أَنَّهُ مُرَجَّحٌ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ خِلَافُهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْن بْنُ عُمَرَ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ نَقْلٌ مُحَصِّلٌ لِلْعَمَلِ الْقَطْعِيِّ، وَأَنَّهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، تُحِيلُ الْعَادَةُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤَ عَلَى خِلَافِ الصِّدْقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ أَوْلَى مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ وَالظَّوَاهِرِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْأَوَّلُ مِنْهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْفَرَدَ، وَمُرَجِّحٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، وَدَلِيلُنَا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ مُفْرَزُ الْإِيمَانِ، وَمَنْزِلُ الْأَحْكَامِ، وَالصَّحَابَةُ هُمْ الْمُشَافِهُونَ لِأَسْبَابِهَا، الْفَاهِمُونَ لِمَقَاصِدِهَا، ثُمَّ التَّابِعُونَ نَقَلُوهَا وَضَبَطُوهَا، وَعَلَى هَذَا فَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنْ حَيْثُ إجْمَاعُهُمْ، بَلْ إمَّا هُوَ مِنْ جِهَةِ نَقْلِهِمْ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ شَهَادَتِهِمْ لِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرْعِ، قَالَ: وَهَذَا النَّوْعُ الِاسْتِدْلَالِيُّ إنْ عَارَضَهُ خَبَرٌ، فَالْخَبَرُ أَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، وَعَمَلُهُمْ الِاجْتِهَادِيُّ مَظْنُونٌ مِنْ جِهَةِ مُسْتَنَدِ اجْتِهَادِهِمْ، وَمِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ، وَكَانَ الْخَبَرُ أَوْلَى، وَقَدْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ الْخَبَرِ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ بِالْعِصْمَةِ كُلُّ الْأُمَّةِ لَا بَعْضُهَا. اهـ. وَقَدْ تَحَرَّرَ بِهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَهَؤُلَاءِ أَعْرَفُ بِذَلِكَ.

اتفاق أهل المدينة مراتب عدة

[اتِّفَاقُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَاتِبُ عِدَّةٌ] ٌ] وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا يَقُولُ بِهِ جُمْهُورُهُمْ. وَمِنْهَا مَا يَقُولُ بِهِ بَعْضُهُمْ. فَالْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ: إحْدَاهَا: مَا يَجْرِي مَجْرَى النَّقْلِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَنَقْلِهِمْ لِمِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ، فَهَذَا حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَلِهَذَا رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى مَالِكٍ فِيهِ، وَقَالَ: لَوْ رَأَى صَاحِبِي كَمَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت، وَرَجَعَ إلَيْهِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ. فَقَالَ: هَذِهِ بِقَائِلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا صَدَقَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ، وَسَأَلَ عَنْ الْأَحْبَاسِ. فَقَالَ: هَذَا حَبِيسُ فُلَانٍ، وَهَذَا حَبِيسُ فُلَانٍ، فَذَكَرَ أَعْيَانَ الصَّحَابَةِ. فَقَالَ لَهُ: أَبُو يُوسُفَ: وَكُلُّ هَذَا قَدْ رَجَعْت إلَيْك. الثَّانِيَةُ: الْعَمَلُ الْقَدِيمُ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، فَهَذَا كُلُّهُ هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ حُجَّةٌ عِنْدَنَا أَيْضًا. وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. فَقَالَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى: إذَا رَأَيْت قُدَمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ فَلَا يَبْقَ فِي قَلْبِك رَيْبٌ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَكَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ مَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا، وَقَالَ أَحْمَدُ: كُلُّ بَيْعَةٍ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَيْعَةَ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُعْقَدْ بِهَا بَيْعَةٌ، وَيُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قَوْلَ الْخُلَفَاءِ عِنْدَهُ حُجَّةٌ. الثَّالِثَةُ: إذَا تَعَارَضَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلَانِ كَحَدِيثَيْنِ وَقِيَاسَيْنِ فَهَلْ يُرَجَّحُ

أَحَدُهُمَا بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟ وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ مُرَجَّحٌ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى الْمَنْعِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ عَقِيلٍ. وَالثَّانِي: مُرَجَّحٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَنُقِلَ عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ، وَمِنْ كَلَامِهِ: إذَا رَوَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَدِيثًا وَعَمِلُوا بِهِ فَهُوَ الْغَايَةُ. الرَّابِعَةُ: النَّقْلُ الْمُتَأَخِّرُ بِالْمَدِينَةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ". فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَيْسَ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُهُ حُجَّةً بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ تَقْلِيدٍ. وَجَعَلَ أَبُو الْحَسَنِ الْإِبْيَارِيُّ الْمَرَاتِبَ خَمْسَةً: أَحَدُهَا: الْأَعْمَالُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، فَلَا خِلَافَ فِي اعْتِمَادِهَا. ثَانِيهَا: أَنْ يَرْوُوا أَخْبَارًا وَيُخَالِفُوهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الرَّاوِيَ الْوَاحِدَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَقَطَ التَّمَسُّكُ بِرِوَايَتِهِ، وَيَرْجِعُ إلَى عَمَلِهِ فَمَا الظَّنُّ بِعُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جُمْلَةً. ثَالِثُهَا: أَنْ لَا يَنْقُلُوا الْخَبَرَ، وَلَكِنْ يُصَادَفُ خَبَرٌ عَلَى نَقِيضِ حُكْمِهِمْ، فَهَذِهِ أَضْعَفُ مِنْ الْأُولَى، وَلَكِنْ غَلَبَةُ الظَّنِّ حَاصِلَةٌ بِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يَخْفَى عَنْ جَمِيعِهِمْ؛ لِهُبُوطِ الْوَحْيِ فِي بَلَدِهِمْ، وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالسُّنَّةِ، وَلِهَذَا كَانُوا يَرْجِعُونَ إلَيْهِمْ. وَيَبْعَثُونَ يَسْأَلُونَ مِنْهُمْ، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَا لَوْ رَأَوْا وَخَالَفُوا.

ردود العلماء على دعوى إجماع أهل المدينة

رَابِعُهَا: أَنْ لَا يُنْقَلَ خَبَرٌ عَلَى خِلَافِ قَضَائِهِمْ، وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُمْ لَمْ يُخَالِفُوا الْقِيَاسَ مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً شَرْعِيَّةً إلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَقَدْ يُقَالُ: لَا يُوَافَقُونَ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، كَالْقِصَاصِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي الْأَطْرَافِ. خَامِسُهَا: أَنْ يُصَادِفَ قَضَاؤُهُمْ عَلَى خِلَافِ خَبَرٍ مَنْقُولٍ عَنْهُمْ أَوْ عَنْ غَيْرِهِمْ، لَا عَنْ خِلَافِ قِيَاسِ، حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى خَبَرٍ لِأَجْلِ مُخَالِفِ الْقِيَاسِ، فَالصَّوَابُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى الْمَنْقُولِ، وَيُتَّبَعُ الدَّلِيلُ. اهـ. [الرَّدُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ لَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ] وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنْ نَبَّهَ الْإِبْيَارِيُّ عَلَى مَسْأَلَةٍ حَسَنَةٍ، وَهِيَ أَنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ، فَلَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إجْمَاعِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، حَتَّى يُفَسَّقَ الْمُخَالِفُ، وَيُنْقَضَ قَضَاؤُهُ، وَلَكِنْ يَقُولُ: هُوَ حُجَّةٌ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَنِدَ إلَيْهِ مُسْتَنِدٌ إلَى مَأْخَذٍ مِنْ مَآخِذِ الشَّرِيعَةِ، كَالْمُسْتَنِدِ إلَى الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ. [رُدُودُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَعْوَى إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ] [رُدُودُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَعْوَى: إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ] وَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَوْصُوفَةً بِالْإِشْكَالِ، وَقَدْ دَارَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي عُمَرَ [بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ] مِنْ الْمَالِكِيَّةِ. وَصَنَّفَ الصَّيْرَفِيُّ فِيهَا وَطَوَّلَ فِي كِتَابِهِ " الْأَعْلَامِ " الْحِجَاجَ فِيهَا مَعَ الْخَصْمِ، وَقَالَ: قَدْ تَصَفَّحْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْعَمَلُ عَلَى كَذَا، فَوَجَدْنَا أَهْلَ بَلَدِهِ فِي عَصْرِهِ يُخَالِفُونَهُ، كَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ مِنْ قَبْلِهِ، فَإِنَّهُ مُخَالِفُهُمْ، وَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى مَا وَصَفَهُ لَمَا جَازَ لَهُ

خِلَافُهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ بِالْعَمَلِ كَعِلْمِهِمْ لَوْ كَانَ مُسْتَفِيضًا. قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ عَلَى أَنَّهُ عَمَلُ الْأَكْثَرِ عِنْدَهُ، وَقَدْ قَالَ رَبِيعَةُ فِي قَوْلٍ: ادَّعَى مَالِكٌ الْعَمَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَبِيعَةُ: وَقَالَ قَوْمٌ: - وَهُمْ الْأَقَلُّ - مَا ادَّعَى مَالِكٌ أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْبَلَدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا أَعْرِفُهُ، حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ، ثُمَّ إنَّا رَأَيْنَا مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْعَمَلِ إنَّمَا عَلِمْنَا عَنْهُ بِخَبَرِ وَاحِدٍ، كَرِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ، وَابْنِ بُكَيْر، وَالسُّبْكِيِّ، وَابْنِ مُصْعَبٍ، وَابْنِ أَبِي إدْرِيسَ، وَابْنِ وَهْبٍ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْعِلْمُ. وَوَجَدْنَا فِي كِتَابِ الْمُوَطَّإِ هَذِهِ الْحِكَايَةَ، وَلَمْ نُشَاهِدْ الْعَمَلَ الَّذِي حَكَاهُ، وَوَجَدْنَا النَّاسَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ فِي " الْبَصَائِرِ ": سَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيَّ يَقُولُ: لَيْسَ الِاعْتِمَادُ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا رَآهُ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ تَكُنْ دُونَ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ أَقَامَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهَا كَمَا أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْ مَكَّةَ وَأَهْلِهَا مَعَ قِيَامِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَسُكَّانُهَا الْغَايَةُ فِي حَمْلِ الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، جَازَ أَنْ يَعْدِلَ خَصْمُهُ عَنْ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا بِحُجَّةٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ كَمُلَتْ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الَّذِينَ تَحَقَّقُوا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَحَفِظُوا عَنْهُ، وَابْتُلُوا بِالْحَوَادِثِ، فَاسْتَفْتَوْهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَحْكَامِ فَاسْتَقْضَوْهُ، وَتَخَوَّفُوا الْعَوَاقِبَ فَاسْتَظْهَرُوا بِهِ، ثُمَّ إنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ صَارَ إلَى اللَّهِ كَانُوا بَيْنَ مُقِيمٍ بِالْمَدِينَةِ، وَمُقِيمٍ بِمَكَّةَ، وَنَازِلٍ بَيْنَهُمَا، وَظَاهِرٍ عَنْهُمَا إلَى الْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ، وَاسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الشَّائِعَةِ، وَالْقِيَاسِ الْمُنْتَزِعِ، وَالرَّأْيِ الْحَسَنِ، وَالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ، فَلَمْ

إجماع أهل الحرمين والمصرين

يَكُنْ بَلَدٌ أَوْلَى مِنْ بَلَدٍ، وَلَا مَكَانٌ أَوْلَى مِنْ مَكَان، وَلَا نَاسٌ أَوْلَى وَأَحْفَظَ لِدِينِ اللَّهِ مِنْ نَاسٍ، وَهُمْ فِي الْإِصَابَةِ شُرَكَاءُ، وَفِي الْحُكْمِ بِمَا أَلْقَى إلَيْهِمْ مُتَّفِقُونَ. قَالَ: وَكَانَ يُطِيلُ الْكَلَامَ فِي تَهْجِيرِ الْمُدْلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ: هَذَا الْقَوْلُ لَصِقَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُحْتَجِّينَ بِمَا رُوِيَ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِفَضْلِ أَهْلِهَا، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ تَرَكُوا مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ سُجُودَهُمْ مَعَ عُمَرَ فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وَسُجُودَهُمْ مَعَهُ إذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ، وَنَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَسَجَدَ، وَفَعَلَ عُمَرُ إذْ أَعْلَمَ عُثْمَانَ وَهُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَالِكًا لَمْ يَدَّعِ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إلَّا فِي ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فِي مُوَطَّئِهِ فَقَطْ، وَقَدْ تَتَبَّعْنَا ذَلِكَ فَوَجَدْنَا مِنْهَا مَا هُوَ إجْمَاعٌ، وَمِنْهَا مَا الْخِلَافُ فِيهِ مَوْجُودٌ فِي الْمَدِينَةِ، كَوُجُودِهِ فِي غَيْرِهَا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ عَمِيدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَرَى إفْرَادَ الْأَذَانِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعُمُرِ، وَبِلَالُ يُكَرِّرُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، وَمَالِكٌ لَا يَرَى ذَلِكَ، وَالزُّهْرِيُّ يَرَى الزَّكَاةَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ، وَمَالِكٌ لَا يَرَاهَا، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ مُنَاقَضَاتٍ كَثِيرَةً. [إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمِصْرَيْنِ] [إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمِصْرَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ: مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْمِصْرَيْنِ: الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، لَيْسَ بِحُجَّةٍ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا صَارُوا

إجماع أهل البيت

إلَى ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ تَخْصِيصَ الْإِجْمَاعِ بِالصَّحَابَةِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِلَادُ مَوْطِنَ الصَّحَابَةِ، مَا خَرَجَ مِنْهَا إلَّا الشُّذُوذُ. اهـ. وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ لَمْ يُعَمِّمُوا فِي كُلِّ عَصْرٍ، بَلْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَقَطْ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: قِيلَ: إنَّ الْمُخَالِفَ أَرَادَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادُهُ فَمُسَلَّمٌ، لَوْ اجْتَمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ، وَغَيْرُ مُسَلَّمٍ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا فِيهَا. [إجْمَاعُ أَهْلِ الْبَيْتِ] [الْمَسْأَلَةُ] السَّادِسَةُ [إجْمَاعُ أَهْلِ الْبَيْتِ] إجْمَاعُ أَهْلِ الْبَيْتِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، الْمُرَادُ بِهِمْ: عَلِيٌّ، وَفَاطِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ، وَبَالَغُوا، فَقَالُوا: قَوْلُ عَلِيٍّ حُجَّةٌ وَحْدَهُ. حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ "، وَعَنْ " الْمُعْتَمَدِ " لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى أَنَّ الْعِتْرَةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ كَمَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ.

إجماع الخلفاء الأربعة

[إجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ] الْمَسْأَلَةُ] السَّابِعَةُ [إجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ] قَالَ الْقَاضِي أَبُو خَازِمٍ - بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ - مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: إجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ حُجَّةٌ، وَحَكَمَ بِذَلِكَ فِي زَمَنِ الْمُعْتَضِدِ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ زَيْدٍ، وَقَبِلَ مِنْهُ الْمُعْتَضِدُ ذَلِكَ، وَرَدَّهَا إلَيْهِمْ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إلَى الْآفَاقِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: وَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرَاذِعِيَّ كَانَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَهَذَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَا أَعُدُّ هَذَا خِلَافًا عَلَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ حَكَمْت بِرَدِّ هَذَا الْمَالِ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ بِالنَّسْخِ. اهـ. وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ الْمُوَفَّقُ فِي الرَّوْضَةِ ": نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخْرَجُ عَنْ قَوْلِهِمْ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا. قُلْت: وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ أَيْضًا، وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ أَصْحَابِنَا حِكَايَتَهُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ.

قَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ هُنَا: إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَكَانَتْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ: يُصَارُ إلَى قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَيُطْلَبُ دَلَالَةُ سِوَاهُمَا. انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو حَازِمٍ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ خِلَافَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْهُ. وَقِيلَ: إجْمَاعُ الشَّيْخَيْنِ وَحْدَهُمَا حُجَّةٌ. لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ خَالَفَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ فِي الْفَرَائِضِ انْفَرَدَ بِهَا، وَابْنُ مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ، وَلَمْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ بِإِجْمَاعِ الْأَرْبَعَةِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَازِمٍ بِحَدِيثِ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» وَعُورِضَ بِحَدِيثِ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ: يَقْتَضِي أَنْ يُقْتَدَى بِالْخُلَفَاءِ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: الْأَمْرُ لِلْمُقَلِّدِ بِالتَّخْيِيرِ، وَاعْتِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالصَّحَابَةِ، فَلَا يُعَارِضُهُ. سَلَّمْنَا الْمُعَارَضَةَ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ، وَالثَّانِيَ ضَعِيفٌ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ أَرَادُوا التَّرْجِيحَ لِقَوْلِهِمْ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ، لِفَضْلِ سَبْقِهِمْ وَتَعَدُّدِهِمْ، وَطُولِ صُحْبَتِهِمْ، وَعِنْدَنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يُطْلَبُ بِهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ لَا الْعِلْمِ.

فَائِدَةٌ [عُقُودُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَحِمَاهُمْ] إذَا عَقَدَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ عَقْدًا، أَوْ حَمَوْا حِمًى لَزِمَ، وَلَا يُنْتَقَضُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ فِي " الرَّوْنَقِ "، وَمِمَّنْ حَكَى الْقَوْلَ فِيهِ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ " فِي بَابِ الْإِحْيَاءِ، وَاسْتَقَرَّ بِهِ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِهِ "، وَقَالَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى قِيَاسِ التَّقْدِيمِ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَسَوَّوْا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ بَعْدَهُمْ. اهـ. وَالْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ " الرَّوْنَقِ ". [الْمَسْأَلَةُ] الثَّامِنَةُ [الْعِبْرَةُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ] وِفَاقَ مَنْ سَيُوجَدُ لَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقًا، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، إذْ لَوْ اُعْتُبِرَ لَمَا اسْتَمَرَّ إجْمَاعٌ، وَلَا يُعْتَدَّ بِخِلَافِ ابْنِ عِيسَى الْوَرَّاقِ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيِّ، فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَلَا يُطْلَبُ فِي هَذِهِ وِفَاقُ الظَّاهِرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا يُعْتَبَرُ إلَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. فَإِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ اعْتِبَارَ أَهْلِ الْعَصْرِ الْحَاضِرِينَ، فَضْلًا عَمَّنْ سَيُوجَدُ، وَإِنَّمَا الْوِفَاقُ الْمَذْكُورُ هُوَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمُتَرْجِمَةُ: أَنَّهُ هَلْ يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ؟ وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ.

انعقاد الإجماع في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم

أَمَّا وِفَاقُ مَنْ سَيُوجَدُ، فَلَا يُعْتَبَرُ أَيْضًا. فَإِذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا قَوْلٌ لِمَنْ سَلَفَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ اُعْتُبِرَ لَمَا انْعَقَدَ أَبَدًا إجْمَاعٌ، حَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى خَطَأٍ» فَلَا يُخَالِفُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَنْ صَدَّقَ بِهِ وَقْتَ مَبْعَثِهِ وَإِلَى الْأَبَدِ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا بِقَصْدِهِ مِنْ هَذَا أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّكْلِيفِ، وَالِالْتِزَامِ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ. [انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [الْمَسْأَلَةُ] التَّاسِعَةُ [انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَغَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّ قَوْلُهُمْ دُونَهُ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ النَّسْخِ، إذْ جَوَّزْنَا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِي زَمَانِهِ، كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَلَعَلَّهُمْ اجْتَهَدُوا فِي مَسْأَلَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِهِمْ. وَقَدْ نَقَلَ الْقَرَافِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنِ بَرْهَانٍ جَوَازَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَانِهِ. قَالَ: وَشُهُودُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعِصْمَةِ مُتَنَاوِلٌ لِمَا فِي زَمَانِهِ، وَمَا بَعْدَهُ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ الْأَوَّلُ، وَاَلَّذِي وَجَدْته فِي الْأَوْسَطِ " لِابْنِ بَرْهَانٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

الإجماع في العصور المتأخرة

[الْإِجْمَاعُ فِي الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ الْإِجْمَاعُ فِي الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ هَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا؟ لَا نَصَّ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ عَصْرَنَا هَلْ يَخْلُو عَنْ الْمُجْتَهِدِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَخْلُو، فَلَا شَكَّ فِي انْعِقَادِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: خِلَافٌ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَنْعَقِدُ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُجْتَهِدُونَ فِي الْمَذَاهِبِ وَنَاظِرُونَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَتَرَقَّوْا إلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مَسْأَلَةَ اعْتِبَارِ الْعَوَامّ فِي الْإِجْمَاعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ، إمَّا مِنْ السَّمْعِ وَهُوَ عَدَمُ اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ، أَوْ مِنْ الْعَقْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمَّ الْغَفِيرَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى قَاطِعٍ، وَهَؤُلَاءِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَهَذَا الْمَوْجُودُ فِيهِمْ. ظُهُورُ الْإِجْمَاعِ وَانْتِشَارُهُ فِي الْعَصْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ فِي الْعَصْرِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي، وَقَدْ يُقْتَرَنُ ظُهُورُهُ بِالْعَمَلِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا. فَأَمَّا ظُهُورُهُ بِالْقَوْلِ إذَا وُجِدَ صَحَّ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِهِ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْقَوْلِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الْفِعْلُ، لِيَكْمُلَ فِي نَفْسِهِ. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ حُجَجَ الْأَقْوَالِ آكَدُ مِنْ حُجَجِ الْأَفْعَالِ.

حجية الإجماع السكوتي

[حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ] ِّ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْقَوْلُ مِنْ الْجَمِيعِ، وَلَا شَكَّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ وَسُكُوتُ الْبَاقِينَ بَعْدَ انْتِشَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مَعَهُمْ اعْتِرَافٌ أَوْ رِضًا بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ، وَفِيهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد وَابْنِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ "، وَعَزَاهُ جَمَاعَةٌ إلَى الشَّافِعِيِّ، مِنْهُمْ الْقَاضِي، وَاخْتَارَهُ. وَقَالَ: إنَّهُ آخِرُ أَقْوَالِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ "، وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَالْآمِدِيَّ: إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ. قَالَ: وَهِيَ مِنْ عِبَارَاتِهِ الرَّشِيقَةِ. قُلْت: وَمَعْنَاهُ لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ تَعْيِينُ قَوْلٍ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ التَّصْوِيبَ، أَوْ لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ أَوْ الشَّكِّ، فَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ تَعْيِينٌ، وَإِلَّا

فَهُوَ قَائِلٌ بِأَحَدِ هَذِهِ الْجِهَاتِ قَطْعًا، ثُمَّ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، أَعْنِي أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ إلَّا بِدَلِيلِ عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ كَالْقَوْلِ أَوْ حَقِيقَةٍ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَدَمٌ مَحْضٌ، وَالْأَحْكَامُ لَا تُسْتَفَادُ مِنْ الْعَدَمِ، وَلِهَذَا لَوْ أَتْلَفَ إنْسَانٌ مَالَ غَيْرِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ، يَضْمَنُ الْمُتْلَفُ. أَمَّا إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نِسْبَةِ الْقَوْلِ إلَى السَّاكِتِ عُمِلَ بِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبِكْرِ: «إذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَقَوْلُنَا: إنَّ إقْرَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى إنْكَارِهِ حُجَّةٌ، وَسُكُوتُ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرَيْنِ عَنْ الْجَوَابِ لَا يُعَدُّ انْقِطَاعًا فِي التَّحْقِيقِ إلَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ اسْتِحْضَارِ الدَّلِيلِ، وَتَرَفُّعِهِ عَنْ الْخَصْمِ؛ لِظُهُورِ بَلَادَتِهِ، أَوْ تَعْظِيمِهِ، أَوْ إجْلَالِهِ عَنْ انْقِطَاعِهِ مَعَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمَالِكِيِّينَ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَشَيْخِنَا أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْكَرْخِيّ. وَنَصَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالدَّبُوسِيُّ فِي التَّقْوِيمِ "، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَاكِسَيْنِ فِي التَّفْصِيلِ بَيْنَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ، قَالَ: وَعِلَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إجْمَاعًا، وَهَذَا مُفَسَّرٌ بِقَوْلِ

الشَّافِعِيِّ: إنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ إذَا انْتَشَرَ فَإِجْمَاعٌ، وَلَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ، هَذَا كَلَامُهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ ": لَا تَغْتَرَّنَّ بِإِطْلَاقِ الْمُتَسَاهِلِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، بَلْ الصَّوَابُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَإِجْمَاعٌ. وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ فِي الْأُصُولِ، وَمُقَدِّمَاتِ كُتُبِهِمْ الْمَبْسُوطَةِ فِي الْفُرُوعِ، كَتَعْلِيقَةِ " الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَالْحَاوِي "، وَمَجْمُوعِ الْمَحَامِلِيِّ ". وَالشَّامِلِ " وَغَيْرِهِمْ. انْتَهَى. وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - احْتَجَّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ " لِإِثْبَاتِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ عَمِلَ بِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْبَاقِينَ إنْكَارٌ لِذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ ذَلِكَ نَصًّا عَنْ جَمِيعِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْ جَمْعٍ مَعَ الِاشْتِهَارِ بِسُكُوتِ الْبَاقِينَ لَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْأُمِّ " بِخِلَافِهِ، فَقَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَسَّمَ فَسَوَّى بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَمْ يُفَضِّلْ بَيْنَ أَحَدٍ بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ، ثُمَّ قَسَّمَ عُمَرُ، فَأَلْغَى الْعَبْدَ، وَفَضَّلَ بِالنَّسَبِ وَالسَّابِقَةِ، ثُمَّ قَسَّمَ عَلِيٌّ فَأَلْغَى الْعَبِيدَ، وَسَوَّى بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ مَا أَعْطَوْهُ. قَالَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ لِحَاكِمِهِمْ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُمْ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ. قَالَ: فَلَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا إجْمَاعٌ، وَلَكِنْ يُنْسَبُ إلَى أَبِي بَكْرٍ فِعْلُهُ، وَإِلَى عُمَرَ فِعْلُهُ، وَإِلَى عَلِيٍّ فِعْلُهُ، وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَخَذَ

مِنْهُمْ مُوَافَقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، وَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى كُلٍّ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ. وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ادِّعَاءَ الْإِجْمَاعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ خَاصِّ الْأَحْكَامِ لَيْسَ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَدَّعِيهِ. اهـ وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْزِلَ الْقَوْلَانِ عَلَى حَالَيْنِ، فَقَوْلُ النَّفْيِ عَلَى مَا إذَا صَدَرَ مِنْ حَاكِمٍ، وَقَوْلُ الْإِثْبَاتِ عَلَى مَا إذَا صَدَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالنَّصُّ الَّذِي سُقْنَاهُ مِنْ الرِّسَالَةِ " شَاهِدٌ لِذَلِكَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ تَفْصِيلَ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ الْآتِيَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَنْزِيلِ الْقَوْلَيْنِ طَرِيقِينَ: أَحَدَهُمَا: حَيْثُ أَثْبَتَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ، أَرَادَ بِذَلِكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، وَحَيْثُ قَالَ: لَا يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ، كَمَا ظَنَّ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي الْمَعَالِمِ "، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ جَمَاعَةٍ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ. وَالثَّانِيَ: أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقَضَايَا الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، وَيُحْمَلُ الْقَوْلُ الْآخَرُ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، كَمَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ، وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الطَّرِيقِينَ مُحْتَمَلٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا. قُلْت: النَّصُّ الَّذِي سُقْنَاهُ مِنْ الْأُمِّ يَدْفَعُ كُلًّا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ، فَإِنَّهُ نَفَاهُ

فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَفِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَحْتَمِلُ ثَالِثَةً: وَهِيَ التَّعْمِيمُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ فِي مَعْنَى الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كُنَّا نُسَمِّيهِ إجْمَاعًا، فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: مَنْ نَسَبَ إلَى سَاكِتٍ قَوْلًا فَقَدْ أَخْطَأَ، فَإِنَّا لَمْ نَقُلْ: إنَّهُمْ قَالُوا: وَإِنَّمَا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى رِضَاهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أُمَّتَنَا بِأَنَّهُمْ آمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، نَاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ خَطَأً، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، لَزِمَ وُقُوعُ خِلَافِ الْخَبَرِ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ": الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ. وَهَلْ هُوَ إجْمَاعٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا. وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ. فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " إنَّهُ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي أَوَائِلِ الْبَحْرِ ": إنَّهُ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا. وَهَلْ يَكُونُ إجْمَاعًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: - وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ - إنَّهُ يَكُونُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْكُتُونَ عَلَى الْمُنْكَرِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ. قَالَ: وَهَذَا الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَيَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ قَطْعًا. وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي ": إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ رِضًا وَلَا إنْكَارٌ وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ، فَذَهَبَ بَعْضٌ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ. وَقَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا: حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُمْ حَتَّى انْقَرَضُوا مَعَ إضْمَارِهِمْ الْإِنْكَارَ بَعِيدٌ. وَهَلْ يَكُونُ إجْمَاعًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَسْمِيَتِهِ إجْمَاعًا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْقَطْعُ بِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي أَوَّلِ تَعْلِيقِهِ فِي الْفِقْهِ ": هُوَ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا وَفِي تَسْمِيَتِهِ إجْمَاعًا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ وَإِنَّمَا هُوَ حُجَّةٌ كَالْخَبَرِ. وَالثَّانِي: يُسَمَّى إجْمَاعًا، وَهُوَ قَوْلٌ لَنَا. اهـ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ ": الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْفَرْعِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي أَوَائِلِ كُتُبِهِمْ أَنَّهُ حُجَّةٌ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَهَلْ هُوَ إجْمَاعٌ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ. وَحَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي هَاشِمٍ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا كَمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ "، وَابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ، وَكَذَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: هُوَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ إجْمَاعٌ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَا عَلِمْنَا فِيهِ مُوَافَقَةَ الْجَمَاعَةِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ. وَإِنَّمَا قِيلَ بِهَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ مَعْدُومٌ، وَالْقَوْلُ فِي أَهْلِ الْحُجَّةِ شَائِعٌ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": عَمَلُ الصَّحَابِيِّ مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا يُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ حَتَّى انْقَرَضَ الْعَصْرُ، فَهُوَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، لَا مِنْ جِهَةِ الِاتِّفَاقِ، وَلَكِنْ لِعَدَمِ الْخِلَافِ مِنْ أَهْلِ الْحُجَّةِ. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَوَافَقَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْكَبِيرِ ". وَرَدَّدَ فِي الصَّغِيرِ " اخْتِيَارَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا أَوْ حُجَّةً. وَقَيَّدَ الْآمِدِيُّ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا قَبْلَ انْقِرَاضِ أَهْلِ الْعَصْرِ، فَأَمَّا بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إجْمَاعًا.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: أَنَّ مُعْتَمَدَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ، وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِلَافِ هُنَا وَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، أَيْ قَطْعِيٍّ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ، وَكَذَا ابْنُ الْحَاجِبِ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، فَكَيْفَ يَنْقَسِمُ الشَّيْءُ إلَى نَفْسِهِ وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ حِكَايَةُ خِلَافٍ فِي أَنَّ لَفْظَ الْإِجْمَاعِ هَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ، أَوْ يَخْتَصُّ بِالْقَطْعِيِّ؟ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ مُثِيرَةٌ لِلظَّنِّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ قَطْعِيٌّ أَمْ ظَنِّيٌّ؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَالْبَنْدَنِيجِيّ: إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، أَيْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى مَا ظَنَنَّاهُ، لَا الْقَطْعَ بِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ظَنِّيٌّ. تَنْبِيهٌ [لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ إجْمَاعٌ لَا حُجَّةٌ] قَالَ الْهِنْدِيُّ: لَمْ يَصِرْ أَحَدٌ إلَى عَكْسِ هَذَا، أَعْنِي إلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ، لَا حُجَّةٌ وَيُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ، كَالْإِجْمَاعِ الْمَرْوِيِّ بِالْآحَادِ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِحُجِّيَّتِهِ. [الشَّرْطُ] الرَّابِعُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ لَا عَنْ رِضًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، مِثْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ.

وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ. قَالَ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ. فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْعَصْرَ إذَا انْقَرَضَ، وَلَمْ يُخَالِفُوا، أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ أَيْضًا، وَكَذَا الرُّويَانِيُّ فِي أَوَّلِ الْبَحْرِ "، بِشَرْطٍ فِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُحْكَمَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً قَطْعًا وَإِجْمَاعًا، فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ صَحَّ رُجُوعُهُ، وَعُدَّ خِلَافُهُ خِلَافًا. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّهُ أَصَحُّ الْأَوْجُهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ ": إنَّهُ الْمَذْهَبُ. قَالَ: فَأَمَّا مَا قَبْلَ الِانْقِرَاضِ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا. وَالثَّانِيَةُ: عَلَى وَجْهَيْنِ. وَكَلَامُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا هُمْ الْمُشْتَرِطُونَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ فِي الْإِجْمَاعِ. [الشَّرْطُ] الْخَامِسُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ إنْ كَانَ فُتْيَا لَا حُكْمًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرَّافِعِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيُّ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَاَلَّذِي فِي الْبَحْرِ " لِلرُّويَانِيِّ، وَالْأَوْسَطِ " لِابْنِ بَرْهَانٍ، وَالْمَحْصُولِ " لِلْإِمَامِ الرَّازِيَّ عَنْهُ: " لَا إنْ كَانَ مِنْ حَاكِمٍ ". وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ صُدُورِهِ عَنْ الْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ. وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ نَقْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذْ أَجْرَى سُكُوتَهُمْ عَلَى حُكْمٍ حَكَمَتْ بِهِ الْأَئِمَّةُ.

وَعِبَارَةُ الرُّويَانِيُّ عَنْهُ: " لَا إنْ كَانَ مِنْ إمَامٍ أَوْ حَاكِمٍ ". قَالَ: وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ خَالَفَ الصَّحَابَةُ فِي الْجَدِّ، وَعُمَرُ فِي الْمُشْتَرِكَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّا إنْ اعْتَبَرْنَا فِي هَذَا انْقِرَاضَ الْعَصْرِ وَمُحَابَاةَ الْإِمَامِ أَوْ الْحَاكِمِ اخْتَصَّ مَجْلِسُ حُكْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ. قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَحْدَهُ هَلْ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ؟ قَوْلَانِ. وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي ": لَوْ ظَهَرَ هَذَا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ الْحَاكِمِ إمَّا بِطَرِيقِ الْفَتْوَى أَوْ الْقَضَاءِ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ دَلِيلَ الرِّضَا. قَالَ: وَغَيْرُهُ مِمَّنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ، وَمُحَابَاةُ الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ. اهـ. وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ احْتَجَّ بِهَذَا، بِأَنَّا نَحْضُرُ مَجْلِسَ بَعْضِ الْحُكَّامِ، وَنَرَاهُمْ يَقْضُونَ بِخِلَافِ مَذْهَبِنَا، وَلَا نُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَكُونُ سُكُوتُنَا رِضًا مِنَّا بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ تَقْرِيرٌ حَسَنٌ، لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ نَافِعٌ جِدًّا فِي صُورَتَيْ الْإِيرَادِ فِي مَسْأَلَةِ مِيرَاثِ الْمَبْتُوتَةِ، وَمَسْأَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مَعَ وُجُودِ الصِّغَارِ مِنْ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ انْتَشَرَ قَضَاءُ عُثْمَانَ فِي مِيرَاثِ الْمَبْتُوتَةِ. وَكَذَلِكَ قَتَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ ابْنَ مُلْجِمٍ قِصَاصًا، مَعَ وُجُودِ الْوَرَثَةِ الصِّغَارِ، وَانْتَشَرَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُقَدِّمُوا ذَلِكَ عَلَى الْقِيَاسِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَوْفٍ مُخَالَفَةُ عُثْمَانَ، وَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ لِابْنِ مُلْجِمٍ، فَفِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ؛ لِكَثْرَةِ الْفِتَنِ إذْ ذَاكَ. قَالَ: وَمِمَّا يُضَمُّ إلَى هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ الصَّادِرَ

مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا يُمَاثِلُ الْفَتْوَى الصَّادِرَةَ مِنْ الْمُفْتِي، وَحِفْظُ الْأَدَبِ فِي تَرْكِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْأَئِمَّةِ. [الشَّرْطُ] السَّادِسُ عَكْسُهُ قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مُعْتَلًّا بِأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنْ الْحَاكِمِ يَكُونُ عَلَى مُشَاوَرَةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالصَّيْرَفِيِّ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّهُ بِشَيْءٍ، وَعِبَارَتُهُ: إذَا سَكَتُوا عَنْ حُكْمِ الْأَئِمَّةِ حَتَّى انْقَرَضَ الْعَصْرُ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِيهِ إذَا جَرَى عَلَى حُكْمِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ إجْمَاعٌ. انْتَهَى. ثُمَّ اخْتَارَ آخِرًا قَوْلَ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي هَذَا النَّقْلِ فَائِدَتَانِ. إحْدَاهُمَا: اشْتِرَاطُ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَائِلَ بِالْأَوَّلِ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ أَقْدَمُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْهِنْدِيَّ فِي نِهَايَتِهِ " نَقَلَهُ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الَّتِي أَوْرَدَهَا ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ: إنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الْفُتْيَا، فَهُوَ إجْمَاعٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْكُتُونَ عَنْ شَيْءٍ فِيهِ تَرْكُ الدِّينِ، وَهَلْ يُقْطَعُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا وَانْقَرَضَ ذَلِكَ الْعَصْرُ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ إجْمَاعٌ كَالْفُتْيَا، وَالثَّانِي: لَا.

الشَّرْطُ] السَّابِعُ إنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ مِنْ إرَاقَةِ دَمٍ، أَوْ اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ، كَانَ إجْمَاعًا، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ، وَفِي كَوْنِهِ إجْمَاعًا وَجْهَانِ. [الشَّرْطُ] الثَّامِنُ إنْ كَانَ السَّاكِتُونَ أَقَلَّ كَانَ إجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ، وَحَكَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُهُ. [الشَّرْطُ] التَّاسِعُ إنْ كَانَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ كَانَ إجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي "، وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": إنْ كَانَ فِي غَيْرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَلَا يَكُونُ انْتِشَارُ قَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مَعَ إمْسَاكِ غَيْرِهِ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً، وَإِنْ كَانَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ قَوْلًا أَوْ حَكَمَ بِهِ فَأَمْسَكَ الْبَاقُونَ، فَهَذَا ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَإِرَاقَةِ دَمٍ، أَوْ اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ اعْتَقَدُوا خِلَافَهُ لَأَنْكَرُوهُ، إذْ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى تَرْكِ إنْكَارِ مُنْكَرٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَانَ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْ غَيْرِهِمْ. وَفِي كَوْنِهِ إجْمَاعًا يَمْنَعُ الِاجْتِهَادَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:

أَحَدُهُمَا: يَكُونُ إجْمَاعًا لَا يَسُوغُ مَعَهُ الِاجْتِهَادُ، وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ إجْمَاعًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَوْلُ فُتْيَا أَوْ حُكْمًا عَلَى الصَّحِيحِ. انْتَهَى. عَلَى أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ أَلْحَقَ التَّابِعِينَ بِالصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ. ذَكَرَهُ فِي بَابِ جَزَاءِ الصَّيْدِ مِنْ الْحَاوِي "، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُمَاثَلَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْوَافِي " هُنَاكَ إلْحَاقَ تَابِعِي التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» ، وَصَرَّحَ الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِلْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ كَذَلِكَ. [الشَّرْطُ] الْعَاشِرُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُومُ وَيَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ وَالْخَوْضُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ السُّكُوتُ إجْمَاعًا وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إذَا فُرِضَ السُّكُوتُ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا فِي صُورَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: سُكُوتُهُمْ، وَقَدْ قَطَعَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَاطِعٌ، لَا فِي مَظِنَّةِ الْقَطْعِ، وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ.

الثَّانِيَةُ: مَا يَسْكُتُونَ عَلَيْهِ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْعَصْرِ، وَيَكُونُ الْوَاقِعُ بِحَيْثُ لَا يُبْدِي أَحَدٌ خِلَافًا، فَأَمَّا إذَا حَضَرُوا مَجْلِسًا، فَأَفْتَى وَاحِدٌ وَسَكَتَ آخَرُونَ، فَذَلِكَ اعْتِرَاضٌ؛ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مَظْنُونَةً، وَالْأَدَبُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَى الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ. [الشَّرْطُ] الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ أَوْ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ فَيُحْتَجُّ بِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ، وَنَحْنُ مُتَرَدِّدُونَ فِي أَيِّهِمَا أَرْجَحُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الصَّغِيرِ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ حِكَايَةُ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، فَإِنَّهُ حَكَى قَوْلًا أَنَّهُ إنْ كَانَ حُكْمًا، فَهُوَ إجْمَاعٌ، أَوْ فَتْوَى فَقَوْلَانِ، وَحَكَى عَكْسَهُ أَيْضًا. [الشَّرْطُ] الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ بِشَرْطِ إفَادَةِ الْقَرَائِنِ الْعِلْمَ بِالرِّضَا أَيْ يُوجَدُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَى السَّاكِتِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ. وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى ". وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ أَحَقُّ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ إفَادَةَ الْقَرَائِنِ الْعِلْمُ بِالرِّضَا، كَإِفَادَةِ النُّطْقِ لَهُ، فَيَصِيرُ كَالْإِجْمَاعِ

الْقَطْعِيِّ مِنْ الْجَمِيعِ. وَسَيَأْتِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوْطِنِ الْخِلَافِ. قَالَ فِي الْقَوَاطِعِ ": وَالْمَسْأَلَةُ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الطَّيِّبِ فِي إثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَرْتِيبًا فِي الِاسْتِدْلَالِ اسْتَحْسَنَهُ، فَأَوْرَدْتُهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِمْ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ، فَلَا يَخْلُو الْقَوْلُ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، فَإِنْ كَانَ حَقًّا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَلَا يَخْلُو عِنْدَ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ. إمَّا أَنْ لَا يَكُونُوا اجْتَهَدُوا، أَوْ اجْتَهَدُوا وَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، أَوْ أَدَّى إلَى صِحَّةِ الَّذِي ظَهَرَ خِلَافُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتَهَدُوا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ مُخَالِفَةٌ لِهَذَا؛ وَلِأَنَّ النَّازِلَةَ إذَا نَزَلَتْ فَالْعَادَةُ أَنَّ كُلَّ أَهْلِ النَّظَرِ يَرْجِعُونَ إلَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى خُرُوجِ أَهْلِ الْعَصْرِ بَعْضُهُمْ بِتَرْكِ الِاجْتِهَادِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْعُدُولِ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى الْخَطَأِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمْ اجْتَهَدُوا فَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى خَفَاءِ الْحَقِّ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمْ اجْتَهَدُوا، فَأَدَّى اجْتِهَادُهُمْ إلَى خِلَافِهِ، إلَّا أَنَّهُمْ كَتَمُوا؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الْحَقِّ

وَاجِبٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ ظُهُورِ قَوْلٍ هُوَ بَاطِلٌ. وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا سَكَتُوا لِرِضَاهُمْ بِمَا ظَهَرَ مِنْ الْقَوْلِ فَصَارَ كَالنُّطْقِ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: [قُيُودٌ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيُّ] لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قُيُودٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَسَائِلِ التَّكْلِيفِ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: عَمَّارٌ أَفْضَلُ مِنْ حُذَيْفَةَ، لَا يَدُلُّ السُّكُوتُ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ. قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " وَأَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ "، وَغَيْرُهُمْ. الْقَيْدُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ بَلَغَ جَمِيعَ أَهْلِ الْعَصْرِ، وَلَمْ يُنْكِرُوا، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا. قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَغَيْرُهُ، وَوَرَاءَهُ حَالَتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ بُلُوغُهُمْ. فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هُوَ إجْمَاعٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ وَجَعَلَهُ دَرَجَةً دُونَ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَحْتَمِلَ بُلُوغُهُ وَعَدَمُهُ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَقِمْ لِلْحَنَفِيَّةِ الِاحْتِجَاجُ فِي وَطْءِ الثَّيِّبِ، هَلْ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ؟ وَقِيلَ: حُجَّةٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَحَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَفَصَّلَ الرَّازِيَّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَالْهِنْدِيُّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَنَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، كَانَ كَالسُّكُوتِيِّ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً.

وَإِذَا قُلْنَا: هُوَ حُجَّةٌ، فَلَيْسَ بِالْإِجْمَاعِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: إجْمَاعٌ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْعَصْرُ عَنْ قَائِمٍ بِالْحَقِّ. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ ": إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ قَوْلًا، وَلَمْ يَنْتَشِرْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ خَفِيٌّ، قُدِّمَ عَلَى الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُ خَبَرٌ مُرْسَلٌ، فَإِنْ كَانَ مُتَجَرِّدًا عَنْ الْقِيَاسِ، فَهَلْ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": هَذَا إذَا بَلَغَ كُلَّ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فِي كُلِّهِمْ، وَلَمْ يَرَ فِيهِ خِلَافًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ. وَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً يُعْتَبَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ يُخَالِفُ؟ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُوَافِقًا، ثُمَّ يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً بِالْقِيَاسِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، فَالْقِيَاسُ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَيُخَالِفُهُ قِيَاسٌ خَفِيٌّ، فَقَوْلُهُ مَعَ الْقِيَاسِ أَوْلَى. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ قَوْلِهِ قِيَاسٌ خَفِيٌّ، وَيُخَالِفُهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ. قَالَ فِي الْقَدِيمِ: قَوْلُهُ مَعَ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ أَوْلَى وَأَلْزَمُ مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَوْلَى بِالْعَمَلِ مِنْ قَوْلِهِ مَعَ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا إذَا نُقِلَ السُّكُوتُ، فَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ قَوْلٌ وَلَا سُكُوتٌ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِهَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى السُّكُوتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ شَيْئًا لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ. وَقَالَ فِي بَابِ الْفَرَائِضِ: إنَّهُ يُتْرَكُ لِلْقَوْلِ الْمُنْتَشِرِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَيُعْتَضَدُ بِهِ الْخَفِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ عَدَمَ النَّقْلِ، كَنَقْلِ السُّكُوتِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: كَوْنُ الْمَسْأَلَةِ مُجَرَّدَةً عَنْ الرِّضَى وَالْكَرَاهَةِ. فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الرِّضَا بِمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ فَهُوَ إجْمَاعٌ بِلَا خِلَافٍ. قَالَهُ الْقَاضِيَانِ الروياني

فِي الْبَحْرِ " وَعَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي "، وَجَرَى عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ. وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ إنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ السُّخْطِ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا قَطْعًا، وَكَلَامُهُمْ صَرِيحٌ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ فِيهِ. أَمَّا إذَا اُسْتُصْحِبَ فِعْلٌ يُوَافِقُ الْفَتْوَى فَالْأُمَّةُ حِينَئِذٍ مُنْقَسِمَةٌ إلَى قَائِلٍ وَعَامِلٍ وَذَلِكَ إجْمَاعٌ فَلَا نِزَاعَ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ". الْقَيْدُ الرَّابِعُ: مَضَى زَمَنٌ يَسَعُ قَدْرَ مُهْلَةِ النَّظَرِ عَادَةً فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَلَوْ احْتَمَلَ أَنَّ السَّاكِتِينَ كَانُوا فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، ذَكَرَهُ الدَّبُوسِيُّ وَغَيْرُهُ. الْقَيْدُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ، فَإِنْ تَكَرَّرَتْ الْفُتْيَا، وَطَالَتْ الْمُدَّةُ مَعَ عَدَمِ الْمُخَالَفَةِ، فَإِنْ ظُنَّ مُخَالَفَتُهُمْ يَتَرَجَّحُ، بَلْ يُقْطَعُ بِهَا، ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا. قَالَ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ، أَرَادَ بِهِ مَا إذَا كَانَ السُّكُوتُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ السُّكُوتُ إلَّا كَذَلِكَ، وَفِي غَيْرِهِ لَا سُكُوتَ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَيْضًا التِّلِمْسَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَعَالِمِ "، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ، بَلْ هُوَ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ عَلَى إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْآحَادِ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي وَقَائِعَ. وَتَوَهَّمَ الْإِمَامُ فِي الْمَعَالِمِ " أَنَّ ذَلِكَ تَنَاقُضٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا لَمْ يَطُلْ الزَّمَانُ مَعَ تَكَرُّرِ الْوَقَائِعِ، فَإِنْ تَكَرَّرَتْ مَعَ الطُّولِ فَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْقَاضِي جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ. الْقَيْدُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ. فَأَمَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا فَلَا أَثَرَ لِلسُّكُوتِ قَطْعًا، كَإِفْتَاءِ مُقَلِّدٍ سَكَتَ عَنْهُ الْمُخَالِفُونَ لِلْعِلْمِ بِمَذْهَبِهِمْ

وَمَذْهَبِهِ، كَشَافِعِيِّ يُفْتِي بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ، فَلَا يَدُلُّ سُكُوتُ الْحَنَفِيِّ عَنْهُ عَلَى مُوَافَقَتِهِ لِلْعِلْمِ بِاسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ، ذَكَرَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي أَنَّ لَهُمْ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَيْنِ إحْدَاهُمَا: جَعْلُ ذَلِكَ عَامًّا فِي حَقِّ كُلِّ عَصْرٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ "، وَالشَّيْخُ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ "، وَالرَّازِيَّ فِي كُتُبِهِ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْقَرَافِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ ": إذَا انْتَشَرَ قَوْلُ التَّابِعِيِّ، وَلَمْ يُخَالَفْ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَالصَّحَابِيِّ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا. قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ. هَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ فِي الصَّحَابَةِ مَوْجُودٌ فِيهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ قَوْلُ التَّابِعِيِّ، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ بِلَا خِلَافٍ. انْتَهَى. الثَّانِيَةَ: قَوْلُ مَنْ خَصَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ "، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي "، وَالصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابَيْهِمَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " وَإِلْكِيَا، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَالْمَنْخُولِ " وَابْنُ بَرْهَانٍ،

وَالْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي "، وَأَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ "، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ، وَالْمُوَفَّقُ الْحَنْبَلِيُّ فِي الرَّوْضَةِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ: وَخَصَّصَهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَا. قَالَ: وَلَا يُعْرَفُ فَرْقٌ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْأَوْلَى التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْجَمِيعِ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْمَحْصُولِ "، فَأَطْلَقَ الْمَسْأَلَةَ، ثُمَّ لَمَّا انْتَهَى إلَى فُرُوعِ انْتِشَارِ الْقَوْلِ وَاحْتِمَالِ بُلُوغِهِ لِلْبَاقِينَ خَصَّهُ بِالصَّحَابَةِ. وَتَوَهَّمَ الْبَيْضَاوِيُّ، وَالْهِنْدِيُّ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَأَنَّ الْفَرْعَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّحَابَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَقْلُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ السُّكُوتَ دَلِيلُ الرِّضَا، فَانْتَهَضَ فِي الْإِجْمَاعِ. وَالثَّانِيَةُ: وَهِيَ هَذَا الْفَرْعُ يَخْتَصُّ بِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْبَعْضِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ، فَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْقَوْلِ إلَّا إذَا كَانَ الْقَائِلُ صَحَابِيًّا، فَيَقَعُ الْخِلَافُ نَاشِئًا عَنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، هَلْ هِيَ حُجَّةٌ؟ وَلِذَلِكَ أَشَارَ الْقَاضِي، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَغَيْرُهُمَا، إلَى أَنَّ هَذَا الْفَرْعَ هُوَ نَفْسُ الْكَلَامِ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَأَجْرَوْا الْكَلَامَ فِيهِ إلَى مَوْضِعِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ عُرِفَ بُلُوغُهُ الْجَمِيعَ فَمَسْأَلَةُ السُّكُوتِيِّ، وَإِنْ ظُنَّ فَفِيهَا خِلَافٌ مُفَرَّعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ السُّكُوتِيِّ، كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَهِيَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِالْحُجِّيَّةِ فِيهَا إلَّا إنْ كَانَ مِنْ صَحَابِيٍّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ، وَمَنْ عَمَّمَ الْقَوْلَ فِيهَا لَمْ يُصِبْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلًا أَصْلًا فَلَا وَجْهَ.

مسألة ظهور الإجماع بالفعل وسكوت الآخرين عليه

وَقِيلَ بَلْ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ كَمَا فَعَلَهُ الْأَقْدَمُونَ أَظْهَرُ مِنْ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: يَكُونُ حُجَّةً لَا إجْمَاعًا، إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فَرْضُهُ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ مَنْصِبَهُمْ لَا يَقْتَضِي السُّكُوتَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ فِيهِ، وَهَذَا لَا يَجِيءُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ. كَيْفَ وَالتَّعَلُّقُ هُنَا إنَّمَا هُوَ بِقَوْلِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ السَّاكِتَ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ قَوْلٌ، كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ بِالِاتِّفَاقِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَلِكَ قَوْلَ صَحَابِيٍّ، فَإِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُمْ عَنْ مِثْلِهِ إجْمَاعًا فَيَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ. [مَسْأَلَةٌ ظُهُورُ الْإِجْمَاعِ بِالْفِعْلِ وَسُكُوتُ الْآخَرِينَ عَلَيْهِ] ِ] وَأَمَّا ظُهُورُهُ بِالْفِعْلِ وَحْدَهُ بِأَنْ يَتَّفِقَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى عَمَلٍ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ قَوْلٌ، فَاخْتَلَفُوا عَلَى مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَفِعْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَابِعَةٌ لِإِجْمَاعِهِمْ كَثُبُوتِهَا لِلشَّارِعِ، فَكَانَتْ أَفْعَالُهُمْ كَأَفْعَالِهِ، وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ فِي الْمَنْخُولِ ": إنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ ": يَجُوزُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالرِّضَى، وَيُخْبِرُونَ عَنْ الرِّضَى فِي أَنْفُسِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى حُسْنِ مَا رَضُوا بِهِ، وَقَدْ يُجْمِعُونَ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ، وَتَرْكُ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ وَيَجُوزُ أَنَّ مَا تَرَكُوهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ، وَتَابَعَهُ فِي الْمَحْصُولِ ".

وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: الْمَنْعُ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي، قَالَ: بَلْ رُبَّمَا أَنْكَرَ تَصَوُّرَهُ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُ قَوْمٌ لَا يُحْصَوْنَ عَدَدًا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَرْبٍ، فَالتَّوَاطُؤُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. نَعَمْ، آحَادُهُمْ يَرْتَكِبُونَ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَغَايِرَةٍ، وَذَلِكَ لَا يُعَدُّ تَوَافُقًا أَصْلًا، فَإِنْ تَكَلَّفَ مُتَكَلِّفٌ تَصَوُّرَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلَا احْتِفَالَ بِهِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ دَلَالَةٌ عَلَى انْتِسَابِهِ إلَى الشَّرْعِ، وَالْقَوْلُ مُصَرِّحٌ بِانْتِسَابِهِ إلَى الشَّرْعِ، فَإِذَنْ لَيْسَ فِي الْفِعْلِ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِهِ صَوَابًا. اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي رَأَيْته فِي التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي التَّصْرِيحَ بِالْجَوَازِ، فَقَالَ: كُلُّ مَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ يَقَعُ بِوَجْهَيْنِ: إمَّا قَوْلٌ، وَإِمَّا فِعْلٌ، وَكِلَاهُمَا حُجَّةٌ. انْتَهَى. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ مَا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى النَّدْبِ أَوْ الْوُجُوبِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ التَّابِعِينَ لَوْ بَاشَرَ فِعْلًا، فَرُوجِعَ فِيهِ، فَقَالَ: كَيْفَ لَا أَفْعَلُهُ، وَقَدْ فَعَلَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ قَبْلَ الْمَشُورَةِ عَلَيْهِ، وَالْعَادَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ إذَا اتَّفَقَتْ عَلَى فِعْلٍ، وَتَكَرَّرَ الْفِعْلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً اُشْتُهِرَ كَوْنُهُ مَعْصِيَةً، وَلَا يَخْفَى، قَالَ إلْكِيَا: وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ، فَلْيُلْتَحَقْ بِمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إنَّهُ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: قَوْلُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ: إنَّ كُلَّ فِعْلٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحُكْمِ وَالْبَيَانِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ، كَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَفْعَالِ الرَّسُولِ مَخْرَجَ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الشَّرْعُ، وَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْأَفْعَالِ مَخْرَجَ الْحُكْمِ وَالْبَيَانِ يَصِحُّ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ يُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَجِيءِ التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَنْقَرِضَ الْعَصْرُ أَوْ لَا، وَمَنْ اشْتَرَطَهُ فِي الْقَوْلِيِّ فَهَاهُنَا أَوْلَى.

مَسْأَلَةٌ: وَقَدْ يَتَرَكَّبُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ بِأَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مُبَاحٌ، وَيُقَدَّمُ الْبَاقِي عَلَى إبَاحَتِهِ بِالْفِعْلِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَائِلًا، وَبَعْضُهُمْ فَاعِلًا، قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. تَنْبِيهٌ إذَا فَعَلَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ فِعْلًا، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ. فَعَلَامَ يُحْمَلُ؟ تَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِيهَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْفِعْلِ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِمْ، كَمَا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: عَدَمُ النَّصِّ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ لَا اعْتِبَارَ بِالْإِجْمَاعِ. هَكَذَا قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ فِي كِتَابِ شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ ". فَإِنْ أَرَادَ حَمَلَهُ إذَا كَانَ النَّصُّ عَلَى خِلَافِهِ. فَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ، وَبِهِ تَبَيَّنَّا نَسْخَ النَّصِّ، وَإِنْ أَرَادَ مَا إذَا كَانَ عَلَى وَفْقِهِ، فَالنَّصُّ بَيَّنَ لَنَا مُسْتَنَدَ قَبُولِ الْإِجْمَاعِ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَسْبِقَهُ خِلَافٌ فَلَوْ اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَسَيَأْتِي. فَصْلٌ فِي أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهَا.

المراد بانقراض العصر

[الْمُرَادُ بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ] لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ] الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضُ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ وَمَوْتُ الْجَمِيعِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، بَلْ يَكُونُ اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةً فِي الْحَالِ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَرِضُوا، فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ مَعَ قَوْلِ الْآخَرِينَ حُجَّةً عَلَيْهِ كَمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ نَشَأَ فِي الْعَصْرِ مُخَالِفٌ قَبْلَ انْقِرَاضِ أَهْلِهِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ " فِي مَسْأَلَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَحَجْبُهُ الْأُمَّ بِثَلَاثَةِ إخْوَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ قَدْ وُجِدَ، وَهُوَ صُورَةُ الْإِجْمَاعِ وَلَا مَانِعَ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ. قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ قَوْلُ الْقَلَانِسِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: هُوَ الْقَوْلُ الْمَنْصُورُ عِنْدَنَا.

وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الْأَقْضِيَةِ: إنَّهُ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ ". فِي بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ: إنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الدَّبُوسِيُّ فِي التَّقْوِيمِ "، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَحَكَاهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: يُشْتَرَطُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَنَصَرَهُ مُحَقِّقُو أَصْحَابِهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ فُورَكٍ، وَسُلَيْمٌ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " عَنْ الْجُبَّائِيُّ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَائِدَةَ اشْتِرَاطِهِ إمْكَانُ رُجُوعِ الْمُجْمِعِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ. وَالثَّانِي: جَوَازُ وُجُودِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْعِلَّتَيْنِ، مَا لَوْ وُجِدَ مُجْتَهِدٌ قَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ، يُعْتَبَرُ وَفَاقُهُ. قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": وَالْمُشْتَرِطُونَ افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ جَمِيعِ أَهْلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ أَكْثَرِهِمْ، فَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِصِدْقِ خَبَرِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِبَقَائِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ مَوْتَ الْعُلَمَاءِ فَقَطْ. حَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَكَأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى دُخُولِ الْعَامَّةِ فِي الْإِجْمَاعِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ ": اخْتَلَفَ الْمُشْتَرِطُونَ، فَقِيلَ: يُكْتَفَى

بِمَوْتِهِمْ تَحْتَ هَدْمٍ دُفْعَةً، إذْ الْغَرَضُ انْتِهَاءُ عُمُرِهِمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَا بُدَّ مِنْ انْقِضَاءِ مُدَّةٍ تُفِيدُ فَائِدَةً، فَإِنَّهُمْ قَدْ يُجْمِعُونَ عَلَى رَأْيٍ، وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلتَّغْيِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ أَبْدَى الْخِلَافَ فِي مَسَائِلَ بَعْدَ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": الْقَائِلُونَ بِالِاشْتِرَاطِ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: هُوَ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، وَقِيلَ: شَرْطٌ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الِانْقِرَاضَ شَرْطٌ، فَعَلَامَ يُعْتَبَرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيمَا بُنِيَ أَمْرُهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، فَيَتَسَاهَلُ الْأَمْرُ فِيهِ. فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِتْلَافِ: مِنْ قَتْلٍ، أَوْ قَطْعٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ". ثُمَّ قَالَ إلْكِيَا: مُقْتَضَى اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ الْإِجْمَاعُ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَاحِدٌ، وَلَوْ لَحِقَهُمْ زُمْرَةٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ قَبْلَ أَنْ [يَنْقَرِضُوا] فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ صَارُوا مُعْتَبَرِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَصَارَ خِلَافُهُمْ مُعْتَبَرًا، وَمَعَ هَذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ عَصْرِ اللَّاحِقِينَ، فَإِنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِجْمَاعُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّاحِقَ صَارَ كَالسَّابِقِ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِهِ، وَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ يَمْنَعُ مِنْ اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ فَيَنْبَغِي عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ لَوْ خَالَفَ قَبْلَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الْأَوَّلِينَ اُعْتُبِرَ خِلَافُهُمْ، فَإِذَا مَاتَ الْأَوَّلُونَ بَعْدَ تَحَقُّقِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِيرَ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةً. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إنْ كَانَ سُكُوتِيًّا اُشْتُرِطَ لِضَعْفِهِ، بِخِلَافِ الْقَوْلِيِّ،

وَهُوَ رَأْيُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَأَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ، فَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ التَّحْصِيلِ ": إنَّهُ قَوْلُ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ أَيْضًا. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ مِنْ تَعْلِيقِهِ ": إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَجَعَلَ سُلَيْمٌ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الْقَوْلِيِّ قَالَ: وَأَمَّا السُّكُوتِيُّ فَانْقِرَاضُ الْعَصْرِ مُعْتَبَرٌ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ، وَحَاصِلُهُ اخْتِيَارُ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْآمِدِيُّ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا نَقَلْته عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ تَابَعْت فِيهِ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ، لَكِنَّ الَّذِي فِي تَعْلِيقَةِ الْأُسْتَاذِ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى قَاطِعٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَمَادِي زَمَانٍ، وَيَنْتَهِضُ حُجَّةً عَلَى الْفَوْرِ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى ظَنِّيٍّ، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، حَتَّى يَطُولَ الزَّمَانُ، وَتَتَكَرَّرَ الْوَاقِعَةُ، وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ، وَلَمْ يَتَكَرَّرْ، فَلَا أَثَرَ لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ "، وَمُسْتَنَدُهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَمَّا اسْتَنَدَتْ إلَى ظَنِّيٍّ، وَطَالَتْ الْمُدَّةُ، وَتَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِأَحَدٍ خِلَافٌ. اُلْتُحِقَ بِالْمَقْطُوعِ، وَصَرَّجَ بِأَنَّهُمْ لَوْ هَلَكُوا عَقِبَ الْإِجْمَاعِ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ. وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الِانْقِرَاضَ عِنْدَهُ غَيْرُ شَرْطٍ وَلَا مُعْتَبَرٌ فِي حَالَةٍ مِنْ الْأَحْوَالِ، وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ وَهْمُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي نَقْلِهِ عَنْهُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الصَّادِرِ عَنْ قِيَاسٍ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الِانْقِرَاضُ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ كَلَامُهُ مُصَرِّحٌ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الِانْقِرَاضِ أَلْبَتَّةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَا قَالَهُ فِي الظَّنِّيِّ

حَكَمَ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ، وَيَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُقُوعِ [وَ] اشْتِرَاطُهُ طُولُ الزَّمَانِ فِي الظَّنِّيِّ، إنَّمَا هُوَ لِيَصِلَ إلَى الْقَطْعِ، لَا أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ فِي نَفْسِهِ. ثُمَّ أَشَارَ إلَى ضَابِطِ قَدْرِ الزَّمَانِ بِمَا لَا يُفْرَضُ فِي مِثْلِهِ اسْتِقْرَارُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ عَلَى رَأْيٍ إلَّا عَنْ حَامِلٍ قَاطِعٍ، أَوْ نَازِلٍ مَنْزِلَةَ الْقَاطِعِ عَلَى الْإِصْرَارِ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمَنْخُولِ "، وَقَالَ: الرُّجُوعُ فِي مِقْدَارِهِ إلَى الْعُرْفِ، وَرَدَّهُ فِي الْقَوَاطِعِ " بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَى أَيِّ شَيْءٍ اسْتِنَادُ الْمُجْمِعِينَ، وَلَوْ عُرِفَ اسْتِنَادُهُمْ إلَى الْمَقْطُوعِ كَانَ هُوَ الْحُجَّةَ دُونَ الْإِجْمَاعِ. وَقَالَ إلْكِيَا: قَالَ الْإِمَامُ: إنَّ قَطْعَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي مَظِنَّةِ الظَّنِّ، فَلَا يَعْتَبِرُوا انْقِرَاضَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ وَتَقْدِيرٍ يَقْتَضِيهِ خَرْقُ الْعَادَةِ، وَالْعَادَةُ لَا تُخْرَقُ لَا فِي لَحْظَةٍ وَلَا فِي أَمَدٍ طَوِيلٍ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ الْإِمَامُ لَا يَخْتَصُّ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَوْ قَطَعَ فِي مَظِنَّةِ الظَّنِّ كَانَ كَذَلِكَ، وَلَا فَائِدَةَ لَهُ كَبِيرَةٌ هُنَا. قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ فِي الْحُكْمِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِاسْتِنَادِهِ إلَى اجْتِهَادِهِ فَمَا دَامُوا فِي مُهْلَةِ الْبَحْثِ فَلَا مَذْهَبَ لَهُمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا، وَإِنْ جَزَمُوا الْحُكْمَ بِنَاءً عَلَى أَحَدِ النَّظَرَيْنِ، فَهَذَا مِمَّا يُبْعِدُ الْإِمَامُ، وَيَرَى أَنَّ الرَّأْيَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ التَّوَاتُرِ مُسْتَنِدٌ لِلْقَاطِعِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ تَصَوُّرَهُ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُعْتَبَرُ ظُهُورُ إصْرَارِهِمْ، وَالْإِصْرَارُ قَدْ يَتَبَيَّنُ بِالْقَرَائِنِ، إمَّا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ. وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: يَنْعَقِدُ قَبْلَ الِانْفِرَاضِ فِيمَا لَا مُهْلَةَ فِيهِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ. حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ فِي السُّكُوتِيِّ. وَالْمَذْهَبُ السَّادِسُ: أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْمُجْمِعِينَ إلَّا عَدَدٌ يَنْقُصُونَ عَنْ

أَقَلِّ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، فَلَا عِبْرَةَ بِبَقَائِهِمْ: وَعُلِمَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ. حَكَاهُ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ "، وَأَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي، الْوَجِيزِ "، وَالْمَذْهَبُ السَّابِعُ: إنْ شَرَطُوا فِي إجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، وَجَوَّزُوا الْخِلَافَ، اُعْتُبِرَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ، لَمْ يُعْتَبَرْ. حَكَاهُ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ "، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ، ثُمَّ قَيَّدَهُ بِالْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، دُونَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الَّتِي يُقْطَعُ فِيهَا بِخَطَأِ الْمُخَالِفِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّامِنُ: إنْ كَانَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إتْلَافٌ وَاسْتِهْلَاكٌ، اُشْتُرِطَ قَطْعًا، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ كَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ، فَوَجْهَانِ، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْمَاوَرْدِيِّ فِي الْحَاوِي ". قَالَ سُلَيْمٌ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ جَوَّزَ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى حُكْمٍ، ثُمَّ يَرْجِعُوا عَنْهُ، أَوْ بَعْضُهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: [الْمُرَادُ بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ] قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِانْقِرَاضِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، بَلْ مَوْتُ الْمُجْمِعِينَ الْمُجْتَهِدِينَ. فَالْعَصْرُ فِي لِسَانِهِمْ الْمُرَادُ بِهِ عُلَمَاءُ الْعَصْرِ، وَالِانْقِرَاضُ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْتِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ، حَتَّى لَوْ قُدِّرَ مَوْتُهُمْ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ فِي سَفِينَةٍ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: انْقِرَاضُ الْعَصْرِ. الثَّانِي: صَوَّرَ الطَّبَرِيُّ الْمَسْأَلَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ إجْمَاعَ

التَّابِعِينَ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِهِمْ، وَبِهِ صَرَّحَ بَعْدُ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ ظَاهِرٌ فِي التَّعْمِيمِ. وَمِنْ الْمُشْتَرِطِينَ مَنْ أَحَالَ عَدَمَ بُلُوغِ الْأُمَّةِ فِي عَصْرٍ حَدَّ التَّوَاتُرِ، حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَحِينَئِذٍ فَيَخْرُجُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَامِنٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُشْتَرِطِينَ قَالُوا: يُحْتَجُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا، كَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا طَاعَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَإِنْ جَازَ تَبْدِيلُهُ بِنَسْخٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ، ثُمَّ إذَا رَجَعُوا فَغَايَتُهُ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى خَطَأٍ لَمْ يُقَرُّوا عَلَيْهِ. [لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُجْمِعِينَ بُلُوغُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ] الْأَمْرُ الثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُجْمِعِينَ بُلُوغُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي، بَلْ يَجُوزُ انْحِطَاطُهُمْ عَنْهُ عَقْلًا، وَنَقَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ وَعَنْ طَوَائِفَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْلًا. وَإِذَا جَوَّزْنَا، فَهَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِهِ؟ فَذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً، كَمَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَجُوزُ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً، فَإِنَّ مَأْخَذَ الْخِلَافِ

مُسْتَنِدٌ إلَى طَرْدِ الْعَادَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحْسِنْ اسْتِنَادَ الْإِجْمَاعِ إلَيْهِ، لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ قَدَمٌ فِيهِ، وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ دَلَالَةِ الْعَادَةِ أَوْ السَّمْعِ، فَمَنْ أَخَذَهُ مِنْ دَلَالَةِ الْعَقْلِ، وَاسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ شَرَطَ التَّوَاتُرَ، وَمَنْ أَخَذَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ صُورَةَ الْإِجْمَاعِ الْمَشْهُودِ بِعِصْمَتِهِ عَنْ الْخَطَأِ قَدْ وَجَبَتْ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمُهَا. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: الْمُشْتَرِطُونَ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْقُصَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ مَا دَامَ التَّكْلِيفُ بِالشَّرِيعَةِ بَاقِيًا. وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ، لَكِنْ يُقْطَعُ بِأَنَّ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُمْ عَنْ إيمَانِهِمْ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، فَلَا يَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْلَمَ إيمَانُهُمْ بِالْقَرَائِنِ، لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي فِيهِ الظُّهُورُ. لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لِكَوْنِهِ كَاشِفًا عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَهُوَ يُوجِبُ كَوْنَهُ مُتَوَاتِرًا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا، فَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ نَقَلَهُ مُتَوَاتِرًا، وَهُوَ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ بِوُجُودِهِ. فَرْعٌ [إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ، فَهَلْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ كَالْإِجْمَاعِ] وَطَرَدَ الْأُسْتَاذُ قِيَاسَهُ، فَقَالَ: يَجُوزُ أَلَّا يَبْقَى فِي الدَّهْرِ إلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ اتَّفَقَ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ حُجَّةٌ، كَالْإِجْمَاعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْوَاحِدِ: أُمَّةٌ،

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. قُلْت: وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ " الْوَدَائِعِ "، فَقَالَ: وَحَقِيقَةُ الْإِجْمَاعِ هُوَ الْقَوْلُ بِالْحَقِّ، فَإِذَا حَصَلَ الْقَوْلُ بِالْحَقِّ مِنْ وَاحِدٍ، فَهُوَ إجْمَاعٌ، وَكَذَا إنْ حَصَلَ مِنْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَالْحُجَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ إجْمَاعٌ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي أَبِي بَكْرٍ لَمَّا مَنَعَتْ بَنُو حَنِيفَةَ الزَّكَاةَ، فَكَانَتْ بِمُطَالَبَةِ أَبِي بَكْرٍ لَهَا بِالزَّكَاةِ حَقًّا عِنْدَ الْكُلِّ، وَمَا انْفَرَدَ بِمُطَالَبَتِهَا غَيْرُهُ. هَذَا كَلَامُهُ، وَخِلَافُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَنَقَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حُجَّةٌ. وَقَالَ إلْكِيَا: الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَصَوُّرِ اشْتِمَالِ الْعَصْرِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْوَاحِدِ، وَالصَّحِيحُ تَصَوُّرُهُ، وَإِذَا قُلْنَا بِهِ، فَفِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِمُجَرَّدِ قَوْلٍ خِلَافٌ، وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. قَالَ: وَاَلَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي اخْتِصَاصِ الْإِجْمَاعِ بِمَحَلٍّ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَسَوَّى بَيْنَ الْعَدَدِ وَالْفَرْدِ. وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ سِوَاهُ فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْعَدَدَ، ثُمَّ يَقُولُونَ الْمُعْتَبَرُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، فَإِذَنْ مُسْتَنِدُ الْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدٌ إلَى طَرْدِ الْعَادَةِ بِتَوْبِيخِ مَنْ يُخَالِفُ الْعَصْرَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ يَسْتَدْعِي وُفُورَ عَدَدٍ مِنْ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَصْرِ إلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ اسْتِيعَابُ مَدَارِكِ الِاجْتِهَادِ. قَالَ: وَيَنْشَأُ مِنْ هَذَا خِلَافٌ فِي مَسْأَلَتَيْنِ

التواتر في نقل الإجماع

إحْدَاهُمَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِخِلَافٍ، وَالْمُجْمِعُونَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ؟ فَقِيلَ: لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ. وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ إنْ كَانَ اسْتِنَادُ الْإِجْمَاعِ إلَى قِيَاسٍ، إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْجَمَاعَةُ إذَا ابْتَدَرُوا أَجْلَى الْقِيَاسِ وَظَهَرَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِقِيَاسٍ غَامِضٍ يُخَالِفُ فِيهِ. نَعَمْ. إنْ قَطَعُوا فِي مَظِنَّةِ الظَّنِّ، فَأَهْلُ التَّوَاتُرِ لَا يَقْطَعُونَ فِي مَظِنَّةِ الظَّنِّ إلَّا بِقَاطِعٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْقَاطِعُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ لِلْمُخَالِفِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ، هَلْ يَكُونُ حُجَّةً؟ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ إجْمَاعِ الصِّحَابِ وَمَنْ عَدَاهُمْ، خِلَافًا لِدَاوُدَ. [التَّوَاتُرُ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ] [لَا يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ] الْأَمْرُ الثَّالِثُ: لَا يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ فِي نَقْلِهِ، بَلْ يُحْتَجُّ بِالْإِجْمَاعِ الْمَرْوِيِّ بِطَرِيقِ الْآحَادِ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَبِهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْآمِدِيَّ، وَنُقِلَ عَنْ الْجُمْهُورِ اشْتِرَاطُهُ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ عِنْدَ كَوْنِهِ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا.

مسألة قول القائل لا أعلم فيه خلافا هل هو إجماع

[مَسْأَلَةٌ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا هَلْ هُوَ إجْمَاعٌ] ٌ] قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كَذَا. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لَا يَكُونُ إجْمَاعًا، لِجَوَازِ الِاخْتِلَافِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِحْكَامِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِعْرَابِ ": إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرِّسَالَةِ " وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَإِنَّمَا يَسُوغُ هَذَا الْقَوْلُ لِمَنْ بَحَثَ الْبَحْثَ الشَّدِيدَ، وَعَلِمَ أُصُولَ الْعِلْمِ، وَحَمَلَهُ، فَإِذَا عَلِمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ لَمْ يَظْهَرْ، وَلِهَذَا لَا نَقُولُ لِلْإِنْسَانِ عَدْلٌ قَبْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِذَا عَلِمْنَاهُ بِمَا يُعْلَمُ بِهِ مُسْلِمٌ حَكَمْنَا بِعَدَالَتِهِ، وَإِنْ جَازَ خِلَافُ مَا عَلِمْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا يَظْهَرُ، إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الَّذِينَ كَشَفُوا الْإِجْمَاعَ وَالِاخْتِلَافَ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا قَالَ: لَا أَعْرِفُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَمِمَّنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ، لَمْ يَثْبُتْ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَأَثْبَتَ الْإِجْمَاعَ بِهِ قَوْمٌ، وَنَفَاهُ آخَرُونَ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قَالَ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا، فَهُوَ إجْمَاعٌ، وَهُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، إنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَجْمَعَ مِنْهُ لِأَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَكِنْ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.

وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنْهَا تَبِيعٌ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ، فَإِنَّ قَوْمًا يَرَوْنَ الزَّكَاةَ عَلَى الْخَمْسِ كَزَكَاةِ الْإِبِلِ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُوَطَّئِهِ " ": وَقَدْ ذَكَرَ الْحُكْمَ بِرَدِّ الْيَمِينِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَا بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ شَهِيرٌ، وَكَانَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَرَى رَدَّ الْيَمِينِ، وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنْ التَّابِعِينَ الْحَكَمُ وَغَيْرُهُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُمْ كَانُوا الْقُضَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَإِذَا كَانَ مِثْلَ مَنْ ذَكَرْنَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْخِلَافُ، فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِهِ. مَسْأَلَةٌ [تَعْرِيفُ الشُّذُوذِ] اُخْتُلِفَ فِي الشُّذُوذِ، وَمَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْوَاحِدِ، وَتَرْكُ قَوْلِ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ أَنْ يَرْجِعَ الْوَاحِدُ عَنْ قَوْلِهِ، فَمَتَى رَجَعَ عَنْهُ سُمِّيَ شَاذًّا، كَمَا يُقَالُ: شَذَّ الْبَعِيرُ عَنْ الْإِبِلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِيهَا، يُسَمِّي شَاذًّا، فَأَمَّا قَوْلُ الْأَقَلِّ فَلَا مَعْنَى لِتَسْمِيَتِهِ شَاذًّا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَاذًّا لَكَانَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ شَاذًّا.

الفصل الرابع فيما يستقر به الإجماع

[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْإِجْمَاعُ] [الْمُعْتَبَرُ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ] ُ قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَيَسْتَقِرُّ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: الْعِلْمُ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِمْ عَمَلٌ أَمْ لَا، وَقِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ عَمَلٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُحَقِّقٌ لِلْقَوْلِ. قَالَ: وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ حُجَجَ الْأَقْوَالِ آكَدُ مِنْ الْأَفْعَالِ. نَعَمْ، إنْ أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَمَلِ، يُبْطِلُ الْإِجْمَاعَ. ثَانِيهَا: أَنْ يَسْتَدِيمُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَلَا يَحْدُثُ مِنْ أَحَدِهِمْ خِلَافٌ، فَإِنْ خَالَفَهُمْ الْوَاحِدُ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ بَطَلَ الْإِجْمَاعُ، وَسَاغَ الْخِلَافُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا جَازَ حُدُوثُ إجْمَاعٍ بَعْدَ خِلَافٍ، جَازَ حُدُوثُ خِلَافٍ بَعْدَ إجْمَاعٍ كَمَا وَقَعَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. قُلْت: هَذَا رَأْيٌ مَرْجُوحٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ رُجُوعَ الْوَاحِدِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ، بَلْ يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ. وَقَدْ وَافَقَ هُوَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبَحْرِ "، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَنْقَرِضَ عَصْرُهُمْ حَتَّى يُؤْمَنَ الْخِلَافُ مِنْهُمْ، فَإِنْ بَقِيَ الْعَصْرُ رُبَّمَا أَحْدَثَ بَعْضُهُمْ خِلَافًا، كَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ، فَقِيلَ لَهُ: هَلَّا قُلْته فِي أَيَّامِهِ؟ قَالَ: كَانَ رَجُلًا مَهِيبًا، فَهِبْتُهُ.

الْمُعْتَبَرُ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ] قَالَ: وَلَا يُعْتَبَرُ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ مَوْتُ جَمِيعِ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ، وَقَدْ تَتَدَاخَلُ الْأَعْصَارُ. وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي انْقِرَاضِهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى الْعَصْرِ الثَّانِي غَيْرُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْقَضِيَ فِيهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى عَاشَا إلَى عَصْرِ التَّابِعِينَ، وَتَطَاوَلَا إلَى أَنْ جَمَعَا بَيْنَ عَصْرَيْنِ، فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ. قَالَ: ثُمَّ إذَا كَانَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إتْلَافٌ وَاسْتِهْلَاكٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْإِجْمَاعِ انْعِقَادًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. قُلْت: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الِانْقِرَاضَ شَرْطٌ فِي اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ قَطْعًا، وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. رَابِعُهَا: أَنْ لَا يَلْحَقَ بِالْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَنْ يُنَازِعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي، فَإِنْ لَحِقَ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ بَعْضُ التَّابِعِينَ، فَخَالَفَ فِي إجْمَاعِهِمْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَفَصَّلَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَالَةَ حُدُوثِ الْوَاقِعَةِ فَيُعْتَبَرُ، وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ.

الفصل الخامس في المجمع عليه

[الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ] ِ وَهُوَ مَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ فِيهِ دَلِيلًا وَحُجَّةً وَهُوَ كُلُّ أَمْرٍ دِينِيٍّ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ثُبُوتِهِ لَا كَإِثْبَاتِ الْعَالَمِ لِلصَّانِعِ، وَكَوْنِهِ قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا، كَالنُّبُوَّاتِ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ إثْبَاتُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ لِلُّزُومِ الدَّوْرِ، لِتَوَقُّفِ ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ عَلَى ثُبُوتِ الدَّلِيلِ. [جَرَيَانُ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ] وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَالشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ " وَغَيْرُهُمْ: الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَمَلِ بِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ السَّمْعِ، كَحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً فِيهَا، كَمَا لَا يَثْبُتُ الْكِتَابُ بِالسُّنَّةِ، وَالْكِتَابُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ السُّنَّةِ. وَالثَّانِي: مَا لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَمَلِ بِهِ عَلَى السَّمْعِ، كَجَوَازِ الرِّوَايَةِ، وَغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَالتَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ، فَالْإِجْمَاعُ فِيهِ حُجَّةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَلَخَّصُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي جَرَيَانَ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ.

أَحَدُهَا: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْقَاضِي فَقَالَ: وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْأَشْعَرِيُّ: يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ عَلَى نَفْيِ قَدِيمٍ عَاجِزٍ أَوْ مَيِّتٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعُقُولِ عَلَى نَفْيِهِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَبِهِ جَزَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا اسْتِغْنَاءً بِدَلِيلِ الْعَقْلِ عَنْ الْإِجْمَاعِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَهُوَ الْحَقُّ، نَعَمْ يُسْتَعْمَلُ الْإِجْمَاعُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، لَا لِإِفَادَةِ الْعِلْمِ، بَلْ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ وَإِفْحَامِهِ. وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَثْبُتُ حُجَّةً بِالسَّمْعِ، لَا بِالْعَقْلِ. وَقَالَ إلْكِيَا: يَنْشَأُ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمْعُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْرَفَ بِالْإِجْمَاعِ مَا يَجِبُ أَنْ تَتَقَدَّمَ مَعْرِفَتُهُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ، كَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّاتِ. وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ كُلِّيَّاتِ أُصُولِ الدِّينِ، كَحُدُوثِ الْعَالَمِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ، وَبَيْنَ جُزْئِيَّاتِهِ كَجَوَازِ الرُّؤْيَةِ فَيَثْبُتُ بِهِ. ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْإِجْمَاعِ كُلُّ مَا يَصِحَّ أَنْ يُعْلَمَ بِالنُّصُوصِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَيَصِحُّ أَنْ تُعْلَمَ السَّمْعِيَّاتُ كُلُّهَا مِنْ نَاحِيَتِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ". الثَّانِيَةُ: قَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا عَلَى كَوْنِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَكَلِّمًا صَادِقًا فِي كَلَامِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَلْزَمَ الدَّوْرُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْمُعْجِزَةُ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْمُتَحَدِّي مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ، فَالدَّوْرُ لَازِمٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهَا تَدُلُّ دَلَالَةَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، لَمْ يَلْزَمْ. الثَّالِثَةُ: قِيلَ: يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُنَا إثْبَاتُ

الصَّانِعِ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ، ثُمَّ تُعْرَفُ صِحَّةُ النُّبُوَّةِ بِالْمُعْجِزَةِ، ثُمَّ تُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ تُعْرَفُ بِهِ حُدُوثُ الْعَالَمِ. قَالَ: وَيُمْكِنُنَا التَّمَسُّكُ بِهِ فِي التَّوَصُّلِ إلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. الرَّابِعَةُ: اُخْتُلِفَ فِي الْإِجْمَاعِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَالْآرَاءِ وَالْحُرُوبِ، وَالْعَادَةِ وَالزِّرَاعَةِ. هَلْ هِيَ حُجَّةٌ؟ فَأَطْلَقَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ "، وَالْغَزَالِيُّ، وَإِلْكِيَا، وَغَيْرُهُمْ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ الْأَصَحُّ. قَالَ إلْكِيَا: لَا يَبْعُدُ خَطَأُ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ، فَلَوْ قِيلَ بِحُجِّيَّتِهِ، فَرُبَّمَا اخْتَلَفَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ فِي زَمَنٍ، وَصَارَتْ فِي غَيْرِهِ، فَيَلْزَمُ تَرْكُ الْمَصْلَحَةِ، وَإِثْبَاتُ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَهُوَ مَحْذُورٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَصْحَابِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَاجْتِنَابِ الْمَضَارِّ، فَقَدْ صَارَ أَمْرًا دِينِيًّا، وَجَبَتْ مُرَاعَاتُهُ فَيَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ أَدِلَّةَ الْإِجْمَاعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ بَيْنَ مَا يَكُونُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الرَّأْيِ، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ قَبْلَهُ، فَقَالَ بِحُجِّيَّةِ الْأَوَّلِ، دُونَ الثَّانِي، وَلَعَلَّ هَذَا تَنْقِيحُ ضَابِطٍ لِلْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَلَا يُعَدُّ قَوْلًا ثَالِثًا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ فِي الِاسْتِنَادِ إلَى مَا لَا يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى

الْخَطَأِ» ، وَلَمْ يُعَيِّنْ الدِّينِيَّ، وَلَك أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْإِجْمَاعَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مُتَعَذِّرٌ، لِمُخَالَفَةِ الزُّهَّادِ لِأَهْلِهَا، فَمَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ قَوْلُ عَبْدِ الْجَبَّارِ فِي الدِّينِيَّةِ. الْخَامِسَةُ: إذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَمْرٍ لُغَوِيٍّ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ كَانَ إجْمَاعًا مُعْتَدًّا بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، خِلَافًا لِمَنْ أَطْلَقَ الْأَمْرَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ. السَّادِسَةُ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى كَذَا إلَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ؟ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ: يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ الثَّانِي مِمَّا يَتَغَيَّرُ دَلَالَتُهُ صَحَّ إجْمَاعُهُمْ عَلَى مَنْعِ كَوْنِهِ دَلِيلًا، مِثْلُ أَنْ يَتَعَرَّفَ لِلْخُصُوصِ أَوْ يَنْقُلَهُ إلَى الْمَجَازِ أَوْ النَّسْخِ، وَنَحْوِهِ. فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَصِحُّ إجْمَاعُهُمْ عَلَى ثَانِي دَلِيلٍ سِوَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا.

الفصل السادس في أحكام الإجماع

[الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي أَحْكَامِ الْإِجْمَاعِ] ِ [حُكْمُ مُنْكِرِ الْإِجْمَاعِ] وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ فِي تَحْرِيمِ مُخَالَفَتِهِ وَفِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ، هَلْ يُكَفَّرُ؟ وَهُوَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: إنْكَارُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَيُنْظَرُ إنْ أَنْكَرَ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ، أَوْ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَمْ يَنْقَرِضْ أَهْلُ عَصْرِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَاعَاتِ الَّتِي اعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ الْمُعْتَبَرُونَ فِي انْتِهَاضِهَا حُجَّةً، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ، وَلَا يُبَدَّعُ، وَإِنْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ، وَأَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَالْقَوْلُ فِي تَكْفِيرِهِ، كَالْقَوْلِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُنْكِرَ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ، فَيَقُولُ مَثَلًا: لَيْسَتْ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً، وَلَيْسَ لِبِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْأُمِّ السُّدُسُ فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: بِأَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَهُ الْإِجْمَاعُ فِي ذَلِكَ وَأَنْكَرَهُ، وَلَجَّ فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ ظَاهِرَةً كَالصَّلَاةِ كَفَرَ، أَوْ خَفِيَّةً كَمَسْأَلَةِ الْبِنْتِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ. ثَانِيهَا: أَنْ يُنْكِرَ وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَهُ، فَيَقُولُ: لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ وَقَعَ لَقُلْتُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَنْ وُقُوعِهِ الْخَاصَّةَ دُونَ الْعَامَّةِ، كَمَسْأَلَةِ

الْبِنْتِ، فَلَا يَكْفُرُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ كَالصَّلَاةِ كَفَرَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ لَا يَبْلُغَهُ فَيُعْذَرُ فِي الْخَفِيِّ دُونَ الْجَلِيِّ، إنْ لَمْ يَكُنْ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ الْبَغَوِيّ فِي أَوَائِلِ التَّهْذِيبِ "، وَإِلْكِيَا، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمْ تَقْسِيمَ الْإِجْمَاعِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: مَا يَشْتَرِكُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ فِيهِ كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَرَكَعَاتِهَا، وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ، وَزَمَانِهِمَا وَتَحْرِيمِ الزِّنَى، وَالْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ، فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ خِلَافَ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ فَهُوَ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِخِلَافِهِ جَاحِدًا لِمَا قَطَعَ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَصَارَ كَالْجَاحِدِ لِصِدْقِهِ. قَالَ إلْكِيَا وَيَكْفُرُ مَخَالِفُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ الشَّرْعِ قَطْعًا، فَإِنْكَارُهُ كَإِنْكَارِ أُصُولِ الدِّينِ. وَالثَّانِي: إجْمَاعُ الْخَاصَّةِ فَقَطْ، وَهُوَ مَا يَنْفَرِدُ بِمَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ كَتَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَإِفْسَادِ الْحَجِّ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الْوُقُوفِ، وَتَوْرِيثِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ، وَمَنْعِ تَوْرِيثِ الْقَاتِلِ، وَمَنْعِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ. فَإِذَا اعْتَقَدَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ خِلَافَ مَا عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ يُحْكَمُ بِضَلَالِهِ وَخَطَئِهِ، وَمَعْصِيَتِهِ بِإِنْكَارِ مَا خَالَفَ. قَالَ الْبَغَوِيّ: وَمِنْهُ أَنَّهُ يُجْمِعُ عُلَمَاءُ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى حُكْمِ حَادِثَةٍ إمَّا قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، فَهُوَ حُجَّةٌ لَكِنْ لَا يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ، بَلْ يُخَطَّأُ وَيُدْعَى إلَى الْحَقِّ، وَلَا مَسَاغَ لَهُ فِيهِ لِاجْتِهَادٍ. اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ، لَا قَطْعِيٌّ. لَكِنْ حَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ خِلَافًا فِيمَنْ جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ بِالضَّرُورَةِ، هَلْ يَكْفُرُ؟ فَقَالَ: فِيهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ

الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، هَلْ الْعَامَّةُ مَقْصُودَةٌ؟ وَجْهَانِ: فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ جَمِيعَ الْمَعْصُومِينَ فِي الْإِجْمَاعِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكْفُرُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَطْلَقَ الرَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِالْكُفْرِ بِجُحُودِ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ، وَفَصَّلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَصٌّ، وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهَا الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ فَكَافِرٌ، وَإِنْ اخْتَصَّ بِمَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ فَلَا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا لَا نَصَّ فِيهِ، فَفِي الْحُكْمِ بِتَكْفِيرِهِ خِلَافٌ، وَصَحَّحَ فِي بَابِ الرِّدَّةِ فِيهِ الْقَوْلَ بِالتَّكْفِيرِ. وَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ مِنْ التَّكْفِيرِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِيهِ خِلَافٌ، أَشَارَ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ حَدِّ الشُّرْبِ، فَقَالَ: مَنْ اسْتَحَلَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَفَرَ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ الْإِمَامُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ الْمُسْتَحِلِّ فَقَالَ: كَيْفَ يَكْفُرُ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، وَنَحْنُ لَا نُكَفِّرُ مَنْ رَدَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا نُبَدِّعُهُ وَنُضَلِّلُهُ. وَأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ عَلَى مَا إذَا صَدَّقَ الْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ، ثُمَّ حَلَّلَهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ رَادًّا لِلشَّرْعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا أَوْضَحُ فَلْيُحَرَّرْ. مِثْلُهُ فِي سَائِرِ مَا حَصَلَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى افْتِرَاضِهِ فَنَفَاهُ، أَوْ تَحْرِيمِهِ فَأَثْبَتَهُ. اهـ. وَاَلَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ ": أَنَّ مِنْ اعْتَرَفَ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَقَرَّ بِصِدْقِ الْمُجْمِعِينَ فِي النَّقْلِ ثُمَّ أَنْكَرَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، كَانَ هَذَا التَّكْذِيبُ آيِلًا إلَى تَكْذِيبِ الشَّارِعِ وَمَنْ كَذَّبَ الشَّارِعَ كَفَرَ. وَالْقَوْلُ الضَّابِطُ فِيهِ: أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ طَرِيقًا فِي ثُبُوتِ الشَّرْعِ لَمْ يَكْفُرْ، وَمَنْ اعْتَرَفَ بِكَوْنِ الشَّيْءِ مِنْ الشَّرْعِ ثُمَّ جَحَدَهُ، كَانَ مُنْكِرًا لِلشَّرْعِ. وَإِنْكَارُ بَعْضِهِ كَإِنْكَارِ كُلِّهِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي دِيبَاجَةِ كِتَابِهِ الْمُحِيطِ " فِي إنْكَارِ إجْمَاعِ الْخَاصَّةِ: إنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَوَامّ فَفِي الْحُكْمِ بِرِدَّتِهِ وَجْهَانِ، وَعَلَيْهِمَا نَقْتُلُهُ. لَكِنْ عَلَى الثَّانِي نَقْتُلُهُ حَدًّا، وَعَلَى الْأَوَّلِ لِلرِّدَّةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ الْفَزَارِيّ فَقِيهُ الْحَرَمِ: مَنْ جَحَدَ أَصْلًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَفَرَ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا يُكَفَّرُ إلَّا بِمَا اشْتَرَطْنَا فِي الْإِسْلَامِ إذَا أَنْكَرَهُ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ ": الْأَقْرَبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ كَوْنَهُ حُجَّةً فَإِنَّهُ يُخَطَّأُ، وَيُفَسَّقُ، وَلَا يُكَفَّرُ، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حُجَّةٌ، فَإِنْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ بِالتَّوَاتُرِ فَهُوَ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَانَدَةِ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْآحَادِ فَإِنَّهُ مُخْطِئٌ أَوْ فَاسِقٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْآمِدِيَّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَايَةِ الْقَلِقِ، فَإِنَّهُمَا حَكَيَا مَذَاهِبَ فِي مُنْكِرِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ، ثَالِثُهَا: الْمُخْتَارُ أَنَّ نَحْوَ الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ يَكْفُرُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ قَوْلًا بِالتَّكْفِيرِ فِي الْأَمْرِ الْخَفِيِّ، وَقَوْلًا بِعَدَمِهِ فِي نَحْوِ الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَعِبَارَةُ الْهِنْدِيِّ فِي النِّهَايَةِ " هُنَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ: جَاحِدُ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُجْمَعٌ بِإِجْمَاعٍ قَطْعِيٍّ لَا يَكْفُرُ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا: " مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ " لِأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوَهَا يَكْفُرُ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا لِأَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، بَلْ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ، لِأَنَّ جَاحِدَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الظَّنِّيِّ لَا يُكَفَّرُ وِفَاقًا. انْتَهَى.

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ أَدِلَّةَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا شَكَّ فِي نَفْيِ التَّكْفِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَسَائِلَ الظَّنِّيَّةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا نُكَفِّرُ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ قُلْنَا قَطْعِيَّةٌ، فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُخْتَلِفُونَ فِي تَكْفِيرِهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ لَا يَكْفُرَ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ قَطْعِيَّةٌ مُتَوَاتِرَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَعُمُّ مَعْرِفَتُهُ كُلَّ أَحَدٍ بِخِلَافِ مَنْ جَحَدَ سَائِرَ الْمُتَوَاتِرَاتِ، وَالتَّوَقُّفُ عَنْ التَّكْفِيرِ أَوْلَى مِنْ الْهُجُومِ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا جَاءَتْ عَلَيْهِ» . اهـ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيٌّ، فَلَا سَبِيلَ إلَى تَكْفِيرِ مُخَالِفِهِ كَسَائِرِ الظَّنِّيَّاتِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ دَلِيلَهُ قَطْعِيٌّ، فَالْحُكْمُ الْمُخَالِفُ فِيهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا. فَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا، فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّكْفِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا، فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلَا يُتَوَجَّهُ الْخِلَافُ فِيمَا تَوَاتَرَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِالنَّقْلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَكْذِيبًا مُوجِبًا لِلْكُفْرِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا يُتَوَجَّهُ الْخِلَافُ فِيمَا حَصَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ، أَعْنِي أَنَّهُ ثَبَتَ وُجُودُ الْإِجْمَاعِ بِهِ إذَا لَمْ يَنْقُلْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ الْحُكْمَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ تَارَةً يَصْحَبُهُ التَّوَاتُرُ بِالنَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَتَارَةً لَا. فَالْأَوَّلُ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَكْفِيرِهِ، وَالثَّانِي قَدْ يُخْتَلَفُ فِيهِ. فَلَا يُشْتَرَطُ فِي النَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالْقَطْعِ بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْحَصْرِ، كَوُجُوبِ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ. فَتَنَبَّهْ لِهَذَا، فَقَدْ غَلَطَ فِيهِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ، وَيَعْتَقِدُ مِنْ الْمَائِلِينَ إلَى الْفَلْسَفَةِ، حَيْثُ حَكَمَ

ما يعد خرقا للإجماع وما لا يعد

بِكُفْرِ الْفَلَاسِفَةِ لِإِنْكَارِهِمْ عِلْمَ الْبَارِئِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ، فَتَوَهَّمَ هَذَا الْإِنْسَانُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُخَالِفِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي صَحِبَ التَّوَاتُرُ فِيهِ الْإِجْمَاعَ تَوَاتُرًا قَطْعِيًّا مَعْلُومًا بِأُمُورٍ غَيْرِ مُنْحَصِرَةٍ. اهـ. وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ ابْنَ رُشْدٍ، فَإِنَّ لَهُ كِتَابَ فَصْلِ الْمَقَالِ فِيمَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ اتِّصَالِ " وَرَدَّ عَلَى الْغَزَالِيِّ فِي تَكْفِيرِ الْفَلَاسِفَةِ فِي ذَلِكَ. [مَا يُعَدُّ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ وَمَا لَا يُعَدُّ] الْمَبْحَثُ الثَّانِي فِيمَا يُعَدُّ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ وَمَا لَا يُعَدُّ وَفِيهِ مَسَائِلُ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى شَيْءٍ سَبَقَ خِلَافُهُ؟ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. إحْدَاهَا: فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى شَيْءٍ سَبَقَ خِلَافُهُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُجْمِعِينَ كَمَا لَوْ أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى حُكْمٍ،

ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ مَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ، فَفِي جَوَازِ الرُّجُوعِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فِي الْإِجْمَاعِ. فَمَنْ اعْتَبَرَهُ جَوَّزَ ذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ - وَهُوَ الرَّاجِحُ - لَمْ يُجَوِّزْهُ، وَكَانَ إجْمَاعُهُمْ الْأَوَّلُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ أَيْضًا، وَإِلَّا لَتَصَادَمَ الْإِجْمَاعَانِ، وَجَوَّزَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي إجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلٍ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَطْرَأَ عَلَيْهِ إجْمَاعٌ آخَرُ، وَلَكِنْ لَمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي كُلِّ الْأَعْصَارِ أَمْنًا مِنْ وُقُوعِ هَذَا الْجَائِزِ، فَعَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي لَا مِنْ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ الْجَمَاهِيرِ هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْإِجْمَاعِ الثَّانِي. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ نَفْسَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةٌ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ حُصُولِ إجْمَاعٍ آخَرَ مُخَالِفٍ بَعْدَهُ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِإِمْكَانِ تَصَوُّرِ كَوْنِهِ حُجَّةً إلَى غَايَةِ إمْكَانِ حُصُولِ إجْمَاعٍ آخَرَ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَعِنْدَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ مَأْخَذَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ قَوِيٌّ. قِيلَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَجْمَعُوا عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الْعَبْدِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِهَا، فَاَلَّذِي نُقِلَ عَنْ

أَنَسٍ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، وَكَذَا قَوْلُنَا: أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ: " أَجْمَعُوا عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ " مَرْدُودٌ. وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ " لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا غَرِيبًا فَقَالَ: إذَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلٍ، ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ، فَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَوَابَانِ. أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الْأَصَحُّ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ أَنَّ أُمَّتَهُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الضَّلَالَةِ. وَالثَّانِي: لَوْ صَحَّ وُقُوعُهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى التَّابِعِينَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّا لَمَّا وَجَدْنَاهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، عَلِمْنَا كَوْنَهُمْ مُجْمِعِينَ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ بِمَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ حَقًّا، وَقِيلَ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ وَصَوَابٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حُدُوثِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ سَبْقِ الْخِلَافِ بِأَنْ يَخْتَلِفَ أَهْلُ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَقَعْ الْإِجْمَاعُ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَالتَّفْرِيعُ عَلَى جَوَازِ صُدُورِهِ عَنْ الِاجْتِهَادِ كَمَا قَالَهُ إلْكِيَا، فَلِلْخِلَافِ حَالَتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ، بِأَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُمْ قَوْلٌ، كَخِلَافِ الصَّحَابَةِ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَإِجْمَاعِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ ": صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةً بِلَا خِلَافٍ. وَحَكَى الْهِنْدِيُّ تَبَعًا لِلْإِمَامِ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ أَرَهُ فِي كِتَابِهِ، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ يُشْعِرُ بِالْوِفَاقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ، وَيَمْضِي أَصْحَابُ الْخِلَافِ عَلَيْهِ مُدَّةً، وَفِيهِ مَسَائِلُ

إحْدَاهَا: إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ بِعَيْنِهِمْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمَنْعُ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ، هَلْ يَصِيرُ إجْمَاعًا مُتَّبَعًا أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فِي الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ اشْتَرَطْنَاهُ جَازَ وُقُوعُهُ قَطْعًا، وَكَانَ حُجَّةً، إذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوهِمُ تَعَارُضَ الْإِجْمَاعَيْنِ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ؛ وَلِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ إجْمَاعِهِمْ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا جَازَ الرُّجُوعُ فِي الْوَاحِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَفِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَوْلَى. وَالشَّرْطُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ: أَنْ يَرْجِعَ الْجَمِيعُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْقَرِضَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، فَفِيهِ مَذَاهِبُ. أَحَدُهَا: الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَمَا لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ، ثُمَّ رَجَعُوا بِأَسْرِهِمْ، وَلِتَنَاقُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ ". وَالثَّانِي: عَكْسُهُ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَالرَّازِيَّ. وَالثَّالِثُ: الْجَوَازُ فِيمَا دَلِيلُ خِلَافِهِ الْإِمَارَةُ وَالِاجْتِهَادُ، دُونَ مَا دَلِيلُ خِلَافِهِ الْقَاطِعُ عَقْلِيًّا كَانَ أَوْ نَقْلِيًّا. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ": إنْ كَانَ الْخِلَافُ فِيمَا طَرِيقُهُ التَّأْثِيمُ وَالتَّضْلِيلُ، جَازَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فِي الْفُرُوعِ جَازَ أَيْضًا، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْزِمُوا مَعَهُ بِتَحْرِيمِ الذَّهَابِ إلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى كَوْنِ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ خَطَأً. وَمِنْهُمْ مَنْ أَحَالَهُ قَطْعًا.

وَالرَّابِعُ: يَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الِانْقِرَاضِ: إنْ قَرُبَ عَهْدُ الْمُخْتَلِفِينَ ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ فَهُوَ إجْمَاعٌ، وَإِنْ تَمَادَى الْخِلَافُ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ، ثُمَّ اتَّفَقُوا فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ يَجُوزُ وُقُوعُهُ، وَأَنَّهُ حُجَّةٌ. وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ إجْمَاعَ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ بِهِ، فَإِنَّهُمَا جَزَمَا بِالْجَوَازِ، وَقَالَا: يَرْتَفِعُ بِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، ثُمَّ قَالَا: وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ آكَدُ مِنْ إجْمَاعٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ خِلَافٌ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ الْحَقِّ بَعْدَ الْتِبَاسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُقْتَرِنٌ بِكُلٍّ مِنْهُمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ هَاهُنَا عَنْ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّا إذَا لَمْ نَشْتَرِطْ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا، لِتَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا، وَقَدْ اسْتَشْكَلَهَا الْغَزَالِيُّ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ قَدْ تَمَّ عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ، ثُمَّ الِاتِّفَاقُ الثَّانِي قَدْ مَنَعَ الْخِلَافَ، فَقَدْ تَنَاقَصَ الْإِجْمَاعَانِ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاتِّفَاقُ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي. فَإِنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ تِلْكَ، وَقَدْ رَأَى أَنَّ الْمُخَلِّصَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمُ بِإِحَالَةِ وُقُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلتَّنَاقُضِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُحَالٍ، فَقَدْ وَقَعَ فِي قَضِيَّةِ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَيْهَا، فَكَانَ إجْمَاعًا صَحِيحًا، وَيُجَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ

اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ بَلْ لَمْ يَتِمَّ النَّظَرُ، ثُمَّ لَمَّا تَمَّ وَتَبَيَّنَ أَجْمَعُوا، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هِيَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ، وَعَلَى هَذَا فَالظَّاهِرُ بَحْثًا مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ. إذَا عُرِفَ هَذَا، فَلَوْ اخْتَلَفُوا ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، أَوْ ارْتَدَّتْ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - وَبَقِيَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى عَلَى قَوْلِهَا، فَهَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْبَاقِينَ إجْمَاعًا وَحُجَّةً، فَقَوْلَانِ، حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَ الرَّازِيَّ، وَالْهِنْدِيُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، لَا بِالْمَوْتِ وَالْكُفْرِ، بَلْ عِنْدَهُمَا لِكَوْنِهِ قَوْلَ كُلِّ الْأُمَّةِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْكَلَامِ عَلَى اتِّفَاقِ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَحَكَى عَنْ الْآخَرِينَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا، وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ نَحْوَهُ. قُلْت: وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " قَالَ: لِأَنَّ الْمَيِّتَ فِي حُكْمِ الْبَاقِي الْمَوْجُودِ، وَالْبَاقُونَ مِنْ مُخَالِفِيهِ هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهَا، وَقَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى ": إنَّهُ الرَّاجِحُ، وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ عِيَارِ الْجَدَلِ "، وَكَذَا الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي "، قَالَ: لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ الْأُمَّةِ. وَنَقَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ " الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ - وَهُوَ أَقْوَى الطُّرُقِ -: إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَقِيلَ: يَصِيرُ إجْمَاعًا، وَفِيهِ قَوْلَانِ: فَإِنْ قُلْنَا: يَصِيرُ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ ثَمَّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ خِلَافَ مَنْ مَاتَ لَا يَنْقَطِعُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ، إنْ لَمْ يُسَوِّغُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ صَارَ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُتَمَسِّكَةَ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو مِنْهَا زَمَانٌ، وَقَدْ

شَهِدَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلِ الْمُنْقَرِضَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا حَقًّا، وَإِنْ سَوَّغُوا فِيهِ الِاجْتِهَادَ لَمْ يَصِرْ إجْمَاعًا لِإِجْمَاعِ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ. قَالَ: وَهَذَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الْخِلَافِ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ إذَا كَانَ طَرِيقُهُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْضُهُمْ وَيَرْجِعَ مَنْ بَقِيَ إلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إجْمَاعٌ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْعَصْرِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَلَدَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلَى ثَمَانِينَ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَلَمْ يَجْعَلُوا الْمَسْأَلَةَ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ، وَقَدْ مَاتَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْقَرِضُوا عَلَى خِلَافِهِمْ، فَقَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، بَلْ جَوَازُ تَقْلِيدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ إجْمَاعٌ مُبِينٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْهَرَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فَهَلْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَحَدِ ذَيْنِك الْقَوْلَيْنِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ ". وَأَصَحُّهُمَا امْتِنَاعُهُ، وَكَأَنَّهُ حَاضِرٌ، وَلَيْسَ مَوْتُهُ مَسْقَطًا لِقَوْلِهِ، فَيَبْقَى الِاجْتِهَادُ، وَلَا يَخْرُجُ الْخِلَافُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَنَصَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْهُ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ. وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ

أَصْحَابِنَا، وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، قَالَ: وَبِهِ نَقُولُ، وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَأَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَمِنْ عِبَارَاتِهِ الرَّشِيقَةِ: الْمَذَاهِبُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا، أَيْ فَكَانَ الْخِلَافُ بَاقِيًا، وَإِنْ ذَهَبَ أَهْلُهُ. وَقَالَ إلْكِيَا، وَابْنُ بَرْهَانٍ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْخِلَافِ لَا يَرْتَفِعُ. قُلْت: وَهُوَ يُبَايِنُ مَا سَبَقَ عَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ امْتِنَاعِهِ فِي الْعَصْرِ الْوَاحِدِ، فَهَاهُنَا، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ ": إنَّهُ أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَنَقَلَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَالَ: حَدُّ الْخَمْرِ أَرْبَعُونَ؛ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ أَجْمَعُوا بَعْدَ هَذَا عَلَى أَنَّ حَدَّهُ ثَمَانُونَ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: نَرَى أَنَّهُ إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى هَذَا، وَلَمْ نَعُدَّهُ إجْمَاعًا؛ لِسِبْقِ خِلَافِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قُلْت: وَلَا يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ نَقَضَ فِي الْجَدِيدِ قَضَاءَ مَنْ حَكَمَ بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لِأَجْلِ اتِّفَاقِ التَّابِعِينَ بَعْدَ خِلَافِ الصَّحَابَةِ، فَعُدَّ إجْمَاعًا، فَإِنَّهُ إنَّمَا اعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَجْمَعُوا عَلَى الْمَنْعِ، وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهِمْ، وَانْقِرَاضُ الْعَصْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالْكَرْخِيُّ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي قَاضٍ حَكَمَ بِبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا: إنِّي أُبْطِلُ قَضَاءَهُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانَتْ اخْتَلَفَتْ فِيهَا، ثُمَّ أَجْمَعَ بَعْدَ ذَلِكَ قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَهَاؤُهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تُبَاعُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيِّ، وَأَبِي عَلِيٍّ بْنِ خَيْرَانَ، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُمَا الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ: إنَّهُ الْأَصْوَبُ، وَاخْتَارَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالرَّازِيَّ، وَأَتْبَاعُهُ. وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ الْجُبَّائِيُّ وَابْنِهِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ، إنْ كَانَ خِلَافًا يُؤَثِّمُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَانَ إجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا. التَّفْرِيعُ: إنْ قُلْنَا بِالِامْتِنَاعِ، فَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: يَكُونُ مَنْزِلَةُ الْمُجْمِعِينَ مِنْ التَّابِعِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ وَافَقَ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ، وَلِلنَّاسِ أَنْ يَنْظُرُوا أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ أَصْوَبَ وَلَا يَسْقُطُ النَّظَرُ أَبَدًا مَعَ وُجُودِ الْمُخَالِفِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: هُوَ حُجَّةٌ، يَرْتَفِعُ بِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَتَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةً، وَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُخَالِفُوهُمْ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ حُجَّةً. وَنَقَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِهَؤُلَاءِ مَزِيَّةٌ عَلَى أُولَئِكَ. ثُمَّ قَرَّرَهُ بِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ هَلْ يَرَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَصَحُّ لِانْفِرَادِهِ

فِي الْعَصْرِ؟ وَإِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا فِي الْعَصْرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ لَهُ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ إلَّا عَلَى طَرِيقَةٍ لَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ أُخِذَ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ، فَأَمَّا الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ؛ وَنَحْوُهُ مَا حَكَاهُ الصَّيْرَفِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ دَلَّ عَلَى الصَّوَابِ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ، وَلَكِنَّهُ إجْمَاعٌ مَظْنُونٌ، فَإِنَّ مَرَاتِبَ الْإِجْمَاعِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مُرَادٌ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ. حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ ". وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ مَا إذَا لَمْ يُصَرِّحْ الْمَانِعُونَ بِتَحْرِيمِ الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَإِنْ صَرَّحُوا بِتَحْرِيمِهِ، فَقَدْ تَرَدَّدَ، أَعْنِي الْغَزَالِيَّ. هَلْ يَمْنَعُ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ وَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ فِيهِ، هَذَا فِي الْجَوَازِ. وَأَمَّا الْوُقُوعُ، فَظَاهِرُ مَا سَبَقَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي حَدِّ الْخَمْرِ وُقُوعُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْحَقُّ فِي مِثْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ بَعِيدٌ وُقُوعُهُ؛ لِأَنَّهُ غَالِبًا لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ جَلِيٍّ، وَتَبِعَهُ غَفْلَةُ الْمُخَاطَبِ عَنْهُ، لَكِنْ وَقَعَ قَلِيلًا، وَالْوُقُوعُ قَلِيلًا لَا يُنَافِي الْبُعْدَ، كَمَا لَا خِلَافَ فِي بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ زَالَ. وَنَقَلَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ أَحَالَ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ لِلتَّابِعَيْنِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَعَارُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَكَوْنُ أَحَدِهِمَا خَطَأً؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ إجْمَاعٌ

عَلَى تَسْوِيغِ الذَّهَابِ وَرَأْيِ كُلٍّ مِنْهُمَا. قُلْت: وَكَذَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ: عَلَى أَنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا وَقَعَ فِي الصَّحَابَةِ مُنْتَشِرًا فِيهِمْ، ثُمَّ وَقَعَ مِنْ التَّابِعِينَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَاقِلُهُ مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ، فَهَذَا لَا يُتْرَكُ لَهُ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ مِنْ قَوْلِ مَنْ سَلَفَ. اهـ. وَقَالَ إلْكِيَا: ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا يُتَصَوَّرُ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَاَلَّذِينَ أَحَالُوا تَصَوُّرَهُ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ، فَقِيلَ: لِأَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعُ التَّابِعِينَ حُجَّةً لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْخِلَافِ مَعْنًى. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ اجْتِهَادٍ، وَالِاخْتِلَافُ عَلَى قَوْلَيْنِ يَقْتَضِي صُدُورَ الْأَقْوَالِ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: وَاسْتِحَالَةُ تَصَوُّرِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إذَا تَمَادَى الْخِلَافُ فِي زَمَانٍ مُتَطَاوِلٍ، بِحَيْثُ يَقْتَضِي الْعُرْفُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَنْقَدِحُ وَجْهٌ فِي سُقُوطِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَعَ طُولِ الْمُبَاحَثَةِ، لَظَهَرَ ذَلِكَ لِلْبَاحِثَيْنِ، فَإِذَا انْتَهَى الْأَمْرُ إلَى هَذَا انْتَهَى، وَرَسَخَ الْخِلَافُ، وَتَنَاهَى الْبَاحِثُونَ، ثُمَّ لَمْ يَتَجَدَّدْ بُلُوغُ خَبَرٍ أَوْ أَثَرٍ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ، فَلَا يَقَعُ فِي الْعُرْفِ. [دُرُوسُ مَذْهَبٍ طَالَ الذَّبُّ عَنْهُ] . فَإِنْ فَرَضَ فَارِضٌ ذَلِكَ، فَالْإِجْمَاعُ مَحْمُولٌ عَلَى بُلُوغِ خَبَرٍ يَجِبُ بِمِثْلِهِ سِوَى مَا كَانُوا خَائِضِينَ فِيهِ مِنْ مَجَالِ الظُّنُونِ. قَالَ إلْكِيَا: وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مُخَيَّلٌ، لَكِنَّ جَوَابَهُ سَهْلٌ، فَإِنَّا نَرَى أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ يُظْهِرُونَ مَذْهَبًا غَيْرَ الَّذِي عَهِدَهُ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ فِي الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ مَعَ أَنَّ النَّظْمَ يَحْتَمِلُهُ وَغَيْرَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ انْبَنَى عَلَيْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ

هَلْ يُزِيلُ الْحُكْمَ السَّابِقَ أَمْ لَا؟ قَالَ إلْكِيَا: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُلَاحَظُ فِي مَجَارِيهَا أَصْلُ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ. قُلْت: وَطَرِيقَةٌ رَابِعَةٌ لَهُمْ فِي الْإِحَالَةِ وَهِيَ عَلَيْهِمْ، فَقَوْلُهُ هُنَا: إذَا وُجِدَ إجْمَاعٌ بَعْدَ اخْتِلَافٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خِلَافٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْنَا، وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى تَعَارُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ، ذَكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: فِي حُدُوثِ الْخِلَافِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": فَإِنْ كَانَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، مِثْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ يَحْدُثُ مِنْ أَحَدِهِمْ خِلَافٌ، فَهَذَا الْخِلَافُ الْحَادِثُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ، يَعْنِي إنْ شَرَطْنَا انْعِقَادَ الْعَصْرِ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ كَانَ فِي عَصْرَيْنِ، كَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَخِلَافِ التَّابِعِينَ لَهُمْ، فَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِفُوهُمْ مَعَ اتِّفَاقِ الْأُصُولِ فِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، فَهَذَا الْخِلَافُ الْحَادِثُ مَطْرُوحٌ، وَالْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ مُنْعَقِدٌ. ثَانِيهِمَا: أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ، فَيَحْدُثُ الْخِلَافُ فِيهَا لِحُدُوثِ تِلْكَ الصِّفَةِ، فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ فِي الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مُنْعَقِدًا، وَحُدُوثُ الِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ سَائِغٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ دَاوُد وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: يُسْتَصْحَبُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ، وَاخْتِلَافُ الصِّفَةِ الْحَادِثَةِ لَا يُنْتِجُ الْحُكْمُ فِيهَا إلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَجَعَلُوا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إبْطَالِ التَّيَمُّمِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ أَبْطَلُوا تَيَمُّمَهُ اسْتِصْحَابًا لِبُطْلَانِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا بِقِيَاسٍ، وَهَذَا فَاسِدٌ، وَلِكُلِّ حَادِثٍ حُكْمٌ يَتَجَدَّدُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً فِي الْحَالِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا لَا فِي غَيْرِهَا،

إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُوجَبًا لِاسْتِصْحَابِ حُكْمِهِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلُ تَجْوِيزِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْقِيَاسُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ اسْتِصْحَابَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ لَا الْإِجْمَاعُ. اهـ. وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي كِتَابِهِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ، وَقَالَ فِي الْقَوَاطِعِ ": إذَا حَدَثَ الْخِلَافُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِفُ لَمْ يُوَافِقْ قَبْلُ عَلَى خِلَافِهِ، فَيَصِحُّ خِلَافُهُ، وَلَا يَنْعَقِدُ مَعَ خِلَافِهِ الْإِجْمَاعُ، كَمَا خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ مَعَ إجْمَاعِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَافَقَهُمْ ثُمَّ خَالَفَهُمْ، كَخِلَافِ عَلِيٍّ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِ مَعَ عُمَرَ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهِنَّ. فَمَنْ جَعَلَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أَبْطَلَ الْإِجْمَاعَ بِخِلَافِهِ؛ لِحُدُوثِهِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا أَبْطَلَ خِلَافَهُ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: الِاخْتِلَافُ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ إنْ كَانَ فِي عَصْرٍ انْبَنَى عَلَى أَنَّ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: شَرْطٌ، جَازَ الِاخْتِلَافُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَنْعَقِدْ، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَلَا يَجُوزُ فَأَمَّا فِي الْعَصْرَيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُجْمِعَ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ التَّابِعُونَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ خِلَافُهُ مُعَانَدَةً وَمُكَابَرَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ وَخَالَفَهُمْ مَنْ كَفَّرْنَاهُمْ بِالتَّأْوِيلِ فَلَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِمْ لِذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُمْ رَجَعُوا إلَى الْحَقِّ، وَأَقَامُوا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيَّامَ كُفْرِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": يَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، فَإِنْ اعْتَبَرْنَاهُ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ عَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَنْقَرِضْ

عَلَى الْقَوْلِ، حَتَّى يَرْجِعَ الْكَافِرُونَ إلَى الْحَقِّ كَمَا لِلْمُؤْمِنِينَ إنْ رَجَعُوا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْتَبَرُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، قَالَ الْقَاضِي: فَالْوَاجِبُ كَوْنُهُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ إيمَانِ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ، وَبَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ إذَا خَالَفَ مَنْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ عَلَى إجْمَاعٍ سَبَقَ خِلَافُهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: إذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ، ثُمَّ أَسْلَمَ كَافِرٌ، وَبَلَغَ صَبِيٌّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُنَازَعَةٌ مَعَهُمْ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الِاتِّبَاعُ، وَهُوَ وَاضِحٌ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ، وَالْحَقُّ أَنْ تُبْنَى الْمَسْأَلَةُ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فَإِنْ قُلْنَا بِاشْتِرَاطِهِ اُعْتُدَّ بِقَوْلِهِ، وَإِلَّا فَلَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ مَرَّ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا انْعَقَدَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ. وَأَمَّا إذَا اسْتَدَلُّوا بِدَلِيلٍ عَلَى حُكْمٍ أَوْ تَأْوِيلِ لَفْظٍ وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ غَيْرِهِ جَازَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ إلْغَاءِ الْأَوَّلِ، وَلَا إبْطَالِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ خَرْقًا لِإِجْمَاعِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَلَى الشَّيْءِ أَدِلَّةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِدَلِيلٍ، ثُمَّ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ أَيْضًا. قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ، وَسُلَيْمٌ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمْ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الْإِجْمَاعُ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْفَتْوَى، فَأَمَّا فِي الدَّلَالَةِ فَلَا يُقَالُ لَهُ إجْمَاعٌ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ لَا يَضُرُّ اخْتِلَافُهَا. قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ عَنْ دَلَالَتِهِمْ، وَيَكُونُ إجْمَاعًا عَلَى الدَّلِيلِ، لَا عَلَى الْحُكْمِ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْأَدِلَّةِ أَحْكَامُهَا لَا أَعْيَانُهَا، وَمَنْعُهُ يَسُدُّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ بَابَ اسْتِخْرَاجِ الْأَدِلَّةِ، وَيَسْتَلْزِمُ مَنْعَ كُلِّ قَوْلٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأَوَّلُونَ. نَعَمْ، إنْ أَجْمَعُوا عَلَى إنْكَارِ الدَّلِيلِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ.

وَحَكَى صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " مَذْهَبًا ثَالِثًا بِالْوَقْفِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ إلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ النَّصِّ، فَيَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ، وَذَهَبَ ابْنُ بَرْهَانٍ إلَى خَامِسٍ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُهُ وَبَيْنَ الْخَفِيِّ فَيَجُوزُ، لِجَوَازِ اشْتِبَاهِهِ عَلَى الْأَوَّلِينَ. وَمِثْلُ الظَّاهِرِ بِقَوْلِ ابْنِ أَبِي طَاهِرٍ الزِّيَادِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُطَاوِعَةِ سَبَقَ فِطْرُهَا جِمَاعَهَا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ، قِيَاسًا عَلَى مَا إذَا شَرِبَ أَوْ أَكَلَ. قَالَ: لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَشَفَةِ دَخَلَ إلَى جَوْفِهَا قَبْلَ دُخُولِ تَمَامِ الْحَشَفَةِ، وَالْجِمَاعُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا تَغَيَّبَ الْحَشَفَةُ. قُلْنَا: وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا قَبْلَ وُصُولِ تَمَامِ الْحَشَفَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِحْدَاثُ مِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَى الْأَوَّلِينَ. هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَإِنْ نَصُّوا عَلَى صِحَّتِهِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، أَوْ عَلَى فَسَادِهِ لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُمْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ حَيْثُ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِحَّتِهَا إبْطَالُ حُكْمِ مَا أَجْمَعُوا، وَقَالَ سُلَيْمٌ: إلَّا أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ إلَّا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيَمْتَنِعُ. قُلْت: وَهَذَا مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ فِيهِ تَفْصِيلٌ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ. أَمَّا إذَا اعْتَلُّوا بِعِلَّةٍ، وَقُلْنَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، فَهَلْ يَجْرِي مَجْرَى الدَّلِيلِ فِي الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ؟

قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ": نَعَمْ، هِيَ كَالدَّلِيلِ فِي جَوَازِ إحْدَاثِهَا إلَّا إذَا قَالُوا: لَا عِلَّةَ لِهَذِهِ، أَوْ لِكَوْنِ الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ تُخَالِفُ الْعِلَّةَ الْأُولَى فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ، فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ حِينَئِذٍ فَاسِدَةً. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ بِحُكْمٍ عَقْلِيٍّ عَلِمْنَا أَنَّ مَا عَدَاهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِذَلِكَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْعَقْلِيَّ لَا يَجِبُ بِعِلَّتَيْنِ، فَمَنْ جَوَّزَهُ جَعَلَهَا كَالدَّلِيلِ، لَا يَمْنَعُ التَّعَدُّدَ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا تُنَافِيَ الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ عِلَّتَهُمْ، وَأَنْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى خِلَافِهِمْ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ عِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَبَايَنَا امْتَنَعَ لِذَلِكَ، لَا لِتَعْلِيلٍ بِهِمَا، وَمَنْ مَنَعَ التَّعْلِيلَ بِعِلَّتَيْنِ، فَيَجِبُ عَلَى أَصْلِهِ مَنْعُ التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ غَيْرِ عِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُمْ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهَا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ غَيْرِهَا. قَالَ: وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ الْآتِي، وَتَخْرِيجُهُمْ الْأَخْبَارَ فَهُوَ كَالْمَذْهَبِ لَا كَالدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إذَا احْتَمَلَتْ مَعَانِيَ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا، أَوْ أَجْمَعُوا عَلَى تَأْوِيلٍ وَاحِدٍ، صَارَتْ كَالْحَادِثَةِ، فَلَا يُعْدَلُ عَمَّا أَفْتَوْا بِهِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى: أَجْمَعَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى الْتِحَاقِ ذَلِكَ بِالْمَذَاهِبِ لَا بِالْأَدِلَّةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ بِالْأَدِلَّةِ أَشْبَهُ، حَتَّى يَجُوزَ قَطْعًا، ثُمَّ مَثَّلَهُ بِمِثَالٍ يَصِحُّ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ:

الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنْ لَا قَوْلَ سِوَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ إلْكِيَا: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ الْفَتْوَى، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّهُ مَذْهَبُنَا، وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَكَذَا الرُّويَانِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَلَمْ يَحْكِيَا مُقَابِلَهُ إلَّا عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَقَدْ رَأَيْته مَوْجُودًا فِي فُتْيَا بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ قَالَ هَذَا مُنَاقَضَةً، أَوْ غَلَطًا، أَوْ كَانَ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. وَكَذَلِكَ ابْنُ الْقَطَّانِ، لَمْ يَحْكِ مُقَابِلَهُ إلَّا عَنْ دَاوُد، فَقَالَ: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّ السُّكْرِ، فَقِيلَ: ثَمَانُونَ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، فَهُوَ إجْمَاعٌ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُمَا، وَقَالَ دَاوُد: لَا يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ وَقَعَتْ مُخَالَفَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اللَّهِ فِيهَا الِاخْتِلَافَ. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ غَيْرُ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": هُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِسَالَتِهِ "، وَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ "؛ لِأَنَّهُ عَدَّ الْأُصُولَ، وَعَدَّ فِي جُمْلَتِهَا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يَخْتَارُهُ وَيَنْصُرُهُ

وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَنَسَبَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي عِيَاضٌ إلَى دَاوُد. قَالَ: ثُمَّ نَاقَضَ فَشَرَطَ الْوَلِيَّ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ، مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ هَلْ يَلْزَمُ فِيهِمَا، أَوْ لَا يَلْزَمُ فِيهِمَا؟ وَأَنْكَرَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى مَنْ نَسَبَهُ لِدَاوُدَ، وَإِنَّمَا قَالَ كَلَامًا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إذَا رُوِيَا، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَوْ وَاحِدٍ إنْكَارٌ وَلَا تَصْوِيبٌ، أَنَّ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِقَوْلٍ ثَالِثٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ، فَهَذَا مَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُنْسَبَ هَذَا إلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: إنَّ الْأُمَّةَ إذَا تَفَرَّقَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ قَدْ قَرَنَتْ بِقَوْلِهَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةً أُخْرَى، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ لِتِلْكَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ صَحَّتْ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ فَالْأُخْرَى صَحِيحَةٌ، وَلِذَلِكَ حُكِمَ بِالتَّحْلِيفِ بِمَكَّةَ عِنْدَ الْمُقَامِ لِإِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ عَلَى التَّحْلِيفِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَيَصِحُّ وُجُوبُهُ عِنْدَ الزِّحَامِ بِمَكَّةَ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كُنَّا لَا نَقُولُ بِهِ، فَقَدْ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ، وَأَرَدْنَا تَحْرِيرَ النَّقْلِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: إنَّ الْخِلَافَ إذَا صَحَّ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا لَا يَصِحُّ أَبَدًا، وَصَدَقَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا كَالْخِلَافِ فِي حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ، قِيلَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ. فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ إجْمَاعٌ أَبَدًا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الثَّالِثَ إنْ لَزِمَ مِنْهُ رَفْعُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُهُ، وَإِلَّا جَازَ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " يَقْتَضِيهِ، حَيْثُ قَالَ فِي أَوَاخِرِهَا: الْقِيَاسُ تَقَدُّمُ الْأَخِ عَلَى الْجَدِّ، لَكِنْ صَدَّنَا عَنْ الْقَوْلِ بِهِ أَنِّي وَجَدْت الْمُخْتَلِفِينَ مُجْتَمَعِينَ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ مَعَ الْأَخِ مِثْلُهُ أَوْ أَكْثَرُ حَظًّا

مِنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِي عِنْدِي خِلَافُهُمْ، وَلَا الذَّهَابُ إلَى الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ مُخْرِجٌ مِنْ جَمِيعِ أَقَاوِيلِهِمْ. اهـ. وَإِنَّمَا مَنَعَهُ؛ لِأَنَّ فِي إحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ رَفْعًا لِلْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا حَيْثُ لَا رَفْعَ فَتَصَرُّفُهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْهَرَوِيِّ فِي الْإِشْرَافِ " أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَنْ لَفَّقَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ قَوْلًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُعَدُّ خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي وَطْءِ الثَّيِّبِ، هَلْ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ؟ تَحَزَّبَتْ الصَّحَابَةُ حِزْبَيْنِ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ يَرُدُّهَا، وَيُرَدُّ مَعَهَا عُقْرَهَا، وَذَهَبَ حِزْبٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَرُدُّ، فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي إسْقَاطِ الْعُقْرِ بِقَوْلِ حِزْبٍ، وَفِي تَجْوِيزِ الرَّدِّ بِقَوْلِ حِزْبٍ، وَلَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ. اهـ. وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حُدُوثُ إجْمَاعٍ بَعْدَ إجْمَاعٍ سَابِقٍ عَلَى خِلَافِهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ، كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَصْرِيُّ، فَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ، لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ. وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى اخْتِيَارِ الثَّالِثِ، وَقَالَ: لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ إنْ اسْتَلْزَمَ إبْطَالَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ كَانَ مَرْدُودًا، وَالْخَصْمُ يَسْتَلْزِمُ هَذَا، لَكِنْ يَدَّعِي أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، إمَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْعِدَّةِ وَحِرْمَانِ الْجَدِّ، وَإِمَّا فِي مَجْمُوعِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ أَحَدُ الشَّمُولَيْنِ ثَابِتٌ، وَهُوَ ثُلُثُ الْكُلِّ فِي كِلَيْهِمَا، أَوْ ثُلُثُ الْبَاقِي فِي كِلَيْهِمَا. فَثُلُثٌ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. قَالَ: فَالشَّأْنُ فِي تَمْيِيزِ صُورَةٍ يَلْزَمُ مِنْهَا بُطْلَانُ الْإِجْمَاعِ عَنْ صُورَةٍ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنْ اشْتَرَكَا فِي أَمْرٍ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الثَّالِثُ مُسْتَلْزِمًا لِإِبْطَالِ الْإِجْمَاعِ وَإِلَّا فَلَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ إمَّا حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ، كَمَسْأَلَةِ الْجَدِّ مَعَ

الْإِخْوَةِ وَالْعِدَّةِ، أَوْ مُتَعَدِّدٍ. فَإِنْ كَانَ الثَّابِتُ عَنْ الْبَعْضِ الْوُجُودَ فِي صُورَةٍ مَعَ الْعَدَمِ فِي الْأُخْرَى، وَعِنْدَ الْبَعْضِ عَكْسَ ذَلِكَ، كَمَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ وَالْمَسِّ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَاقِضٌ أَوْ لَيْسَ بِنَاقِضٍ، لَا يَكُونُ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ. تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: ذِكْرُ الْقَوْلَيْنِ مِثَالٌ، فَالثَّلَاثَةُ وَأَكْثَرُ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ، وَمَثَّلَهُ بِأَقْوَالِهِمْ فِي الْجَدِّ. قَالَ: فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ سِوَى مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا قَوْلَ سِوَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ. الثَّانِي: أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ أَيْضًا فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ تَوَهَّمَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ مَا أُجْمِعَ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فَيَمْتَنِعُ فِيهِ الْإِحْدَاثُ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَبَّهَ أَيْضًا عَلَى تَصَوُّرِهَا بِالِاخْتِلَافِ الْمُسْتَفِيضِ فِيهِمْ. قَالَ: فَأَمَّا مَا حَكَى مِنْ فَتْوَى وَاحِدٍ، وَلَمْ يَسْتَفِضْ قَوْلُهُ، فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهُ إلَى مَا أَيَّدَهُ دَلِيلٌ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَذْهَبٌ آخَرُ مُفَصَّلٌ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ وَغَيْرِهِ. الرَّابِعُ: قَالَ الْعَبْدَرِيّ: إنَّمَا يَصِحُّ فَرْضُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ الْإِجْمَاعَ عَنْ اجْتِهَادٍ وَقِيَاسٍ، وَعَلَى أَنْ تَكُونَ اجْتِهَادِيَّةً يَتَجَاذَبُهَا أَصْلَانِ، فَيُجْمِعُ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِهَذَا الْأَصْلِ، فَيَكُونُ حَلَالًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِهَذَا الْأَصْلِ، فَيَكُونُ حَرَامًا، فَإِذَا لَمْ يَنْقَرِضْ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ وَأَكْثَرَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا حَصْرَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إذَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ أَجْمَعَ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلٍ، وَخَطَّئُوا مَنْ خَالَفَهُ، وَأَجْمَعَ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ وَخَطَّئُوا مَنْ

خَالَفَهُ، فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَلَكِنَّهُ خِلَافٌ صَحِيحٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ أَوْ رَابِعٍ وَأَكْثَرَ فَجَائِزٌ أَيْضًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَأْخُذُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِجْمَاعَ الشَّرْعِيَّ، بَلْ اللُّغَوِيَّ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. الْخَامِسُ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَصْرٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ يَخْتَلِفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ يُحْدِثُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا ثَالِثًا، وَالْقِيَاسُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ الْخِلَافُ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ، فَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، فَإِنْ قُلْنَا: شَرْطٌ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ أَدْرَكَ بَعْضُ التَّابِعِينَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ، فَأَحْدَثَ ثَالِثًا، فَالْقِيَاسُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الِانْقِرَاضِ أَوْ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِ التَّابِعِيِّ مَعَ الصَّحَابَةِ، وَهَلْ يُعْتَدُّ بِهِ؟ وَمِثَالُهُ مَا لَوْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ فَهَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ، أَوْ يَسْتَعْمِلُهُ وَيَتَيَمَّمُ؟ قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ، فَأَحْدَثَ الْحَسَنُ قَوْلًا ثَالِثًا، فَقَالَ: يَسْتَعْمِلُ مَا مَعَهُ ثُمَّ يَجْمَعُ مَا يَتَسَاقَطُ. مِنْ الْمَاءِ فَيَعْمَلُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا تَعَدَّدَ مَحَلُّ الْحُكْمِ بِأَنْ لَمْ يَفْصِلْ أَهْلُ الْعَصْرِ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ بَلْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى حِكَايَةِ وَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ: الْأَصَحُّ امْتِنَاعُهُ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْ أَصْحَابِهِمْ. قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ سَائِرِ الْإِجْمَاعَاتِ فِي الْقُوَّةِ؛ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ. اهـ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ، فَقَالَ: إنْ كَانَ طَرِيقُ الْحُكْمِ وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ الْفَصْلُ، وَإِلَّا جَازَ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمْ إنْ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بِأَنْ قَالُوا: لَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا فِي

كُلِّ الْأَحْكَامِ أَوْ فِي الْحُكْمِ الْفُلَانِيِّ؛ امْتَنَعَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى الْهِنْدِيُّ فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَفِيهِ خِلَافٌ. حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ "، وَحَكَاهُ فِي اللُّمَعِ " احْتِمَالًا عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصُّوا كَمَنْ وَرَّثَ الْعَمَّةَ، وَرَّثَ الْخَالَةَ، وَمَنْ مَنَعَ إحْدَاهُمَا، مَنَعَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمَأْخَذَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَحْرَمِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الْفَرْقُ، وَالْحَقُّ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَّحِدْ الْمَأْخَذُ لَمْ يَمْتَنِعْ الْخِلَافُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنْ عَيَّنُوا الْحُكْمَ، وَقَالُوا: لَا تَفْصِيلَ، حُرِّمَ الْفَصْلُ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنُوا، وَلَكِنْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مُجَمَّلًا، فَلَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ غَيْرِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا مُعَيَّنًا تَعَيَّنَ، أَوْ أَرَادُوا الْعُمُومَ تَعَيَّنَ الْعُمُومُ. وَمَتَى كَانَ مَدْرُك أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ مُجْمَلًا، أَوْ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا، جَازَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَكَلَامُ التَّبْرِيزِيِّ فِي التَّنْقِيحِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَأْخَذِ، فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِكَا فِيهِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَهُوَ خِلَافُ كَلَامِ الرَّازِيَّ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلْ إحْدَاثُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَإِحْدَاثِ قَوْلٍ فِيهِمَا، فَيَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، أَوْ لَيْسَ كَإِحْدَاثِهِ؛ لِأَنَّ الْمُفَصِّلَ قَالَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلٍ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، كَمَا يَلْزَمُ مِنْ تِلْكَ، فَلَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنْ نَصُّوا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، حُرِّمَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ التَّفْرِيقُ قَطْعًا، وَإِنْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا فِي حُكْمَيْنِ

معنى قولهم هذا لا يصح بالإجماع

عَلَى الْبَدَلِ فَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَبِالْجَوَازِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ، وَالْأَكْلُ نَاسِيًا. وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنْ أَجْمَعُوا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمٍ، كَقَوْلِهِمْ: لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجَدَّتَيْنِ أُمِّ الْأُمِّ، وَأُمِّ الْأَبِ إذَا انْفَرَدَتْ السُّدُسُ، لَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، فَيَجْعَلُ لِأُمِّ الْأُمِّ الثُّلُثَ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُهُمْ فِي الَّتِي تَزِيدُ عَلَى فَرْضِهَا، وَهَكَذَا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِمْ: لِلْأُمِّ مَعَ الْأَبِ الثُّلُثُ، وَلِلْجَدَّةِ مَعَهُ السُّدُسُ، لَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَرْمَ وَالنَّخْلَ فِي الْمُسَاقَاةِ سَوَاءٌ مَنْ يُجِيزُهُمَا وَمَنْ يَأْبَاهُمَا يَرُدُّهَا، فَقَالَ دَاوُد: هَذَا إجْمَاعٌ، وَلَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَيَقُولُ: قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى التَّسْوِيَةِ. قَالَ: وَهَذَا فَاسِدٌ، وَعِنْدَنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْعِلَّةِ غَيْرُ الِاعْتِبَارِ بِهَذَا؛ لِأَنَّا نَجِدُ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْعَيْنُ حَلَالٌ، وَهَذِهِ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَائِلِينَ. فَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ. وَالْعَجَبُ مِنْ دَاوُد فِي هَذَا، فَيُقَالُ لَهُ: خَبَرُنَا عَنْ الْمُسَاقَاةِ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ أَخَذْتهَا؟ فَقَالَ: مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا، فَرَّقُوا فِي الرَّدِّ وَالْإِجَازَةِ. قُلْنَا لَهُمْ: إنَّمَا أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ مِنْ الْإِجَازَةِ، ثُمَّ هُوَ لَا يُجِيزُ الْمُسَاقَاةَ، وَالْمُجْمِعُونَ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا، فَقَالُوا: الْكَرْمُ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ النَّخْلُ، وَمَنْ أَجَازَ سَوَّى بَيْنَهُمَا، فَلِمَ فَرَّقْت؟ [مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذَا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ] مَسْأَلَةٌ: إذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ

قَوْلًا، وَقَالَتْ الْأُخْرَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَيْضًا قَوْلًا، ثُمَّ قَامَ دَلِيلٌ عَنْ نَصٍّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَحَدَيْهِمَا فِي إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَهَلْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَاوُد وَابْنُهُ، فَصَارَ دَاوُد إلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنَعَهُ ابْنُهُ. هَكَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِحْكَامِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَقُولُ ابْنُهُ: لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا قَالَهُ دَاوُد لَكَانَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي قَامَ النَّصُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهَا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مُصِيبَةً فِي جَمِيعِ مَذَاهِبِهَا وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ. نَعَمْ إنْ صَحَّ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ يَقِينًا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَتَيْنِ سَوَاءٌ، ثُمَّ قَامَ نَصٌّ عَلَى صِحَّةِ حُكْمِ مَا فِي إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَقَدْ صَحَّ بِلَا شَكٍّ أَنَّ حُكْمَ الْأُخْرَى كَذَلِكَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُمْ فِيهِمَا تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، بِخِلَافِ الثَّانِي. ثُمَّ مَثَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِالْمُسَاقَاةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهَا جُمْلَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهَا جُمْلَةً، وَمِنْ مُبِيحٍ لَهَا فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ خَاصَّةً، وَمَانِعٍ لَهَا فِي سِوَاهُمَا، فَلَمَّا صَحَّ الْقَوْلُ بِإِبَاحَتِهَا، وَبَطَلَ إبْطَالُهَا، نَظَرْنَا فِي الْمُسَاقَاةِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَوَجَدْنَا الْأُمَّةَ مُجْمِعَةً عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُسَاقَاةِ عَلَى النِّصْفِ كَحُكْمِهَا عَلَى جُزْءٍ مُسَمًّى، أَيِّ جُزْءٍ كَانَ، وَكَذَلِكَ الْمُزَارَعَةُ، النَّاسُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ، فَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا، نَظَرْنَا فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى النِّصْفِ سَوَاءٌ، وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ فَقَدْ أَجْمَلَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّصُّ بِإِبَاحَةِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَى النِّصْفِ، وَصَحَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَى جُزْءٍ مُسَمًّى كَحُكْمِهَا عَلَى النِّصْفِ، صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مُسَمًّى.

فَائِدَةٌ [مَعْنَى قَوْلِهِمْ: هَذَا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ] إذَا قُلْنَا: هَذَا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ. وَالثَّانِي: نَفْيُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَالثَّانِي أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الصِّحَّةِ، نَفْيُ الصِّحَّةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى رَأْيٍ. فَالْإِجْمَاعُ عَلَى الصِّحَّةِ مُنْتَفٍ، لَكِنْ هِيَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ مُطْلَقًا، بَلْ ثَابِتَةٌ عَلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ، بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَهَا مُطْلَقًا، فَإِذَا قُلْنَا: الْوُضُوءُ بِدُونِ مَسْحِ الرَّأْسِ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ، كَانَ هَذَا إجْمَاعًا عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، وَإِذَا قُلْنَا: الْوُضُوءُ بِدُونِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ، كَانَ هَذَا نَفْيًا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى الصِّحَّةِ، لَا لِحَقِيقَةِ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْمُثِيرُ لِهَذِهِ الْمُبَاحَثَةِ أَنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ رَأَى شَافِعِيًّا قَدْ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ، فَمَازَحَهُ، وَقَالَ لَهُ: وُضُوءُك هَذَا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ تَزْعُمُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَيْسَ بِمُعْتَبَرِ الْقَوْلِ. قَالَ: لَا وَقَالَ: كَلَامُك يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَبَيَّنَ لَهُ هَذِهِ النُّكْتَةَ فَزَالَ غَضَبُهُ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْمَنْفِيَّ هَاهُنَا هُوَ الصِّحَّةُ الْمُطْلَقَةُ، أَوْ الْمُقَيَّدَةُ بِكَوْنِهَا مُجْمَعًا عَلَيْهَا. فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَهُوَ إجْمَاعٌ عَلَى النَّفْيِ، وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَهُوَ نَفْيُ الْإِجْمَاعِ. وَحَاصِلُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَوْضِعَ الْإِجْمَاعِ نُصِبَ، لَكِنْ هُوَ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ الْحَالِ؟ إنْ قُلْنَا: عَلَى التَّمْيِيزِ فَهُوَ إجْمَاعٌ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، إذْ تَقْدِيرُهُ لَا

يَصِحُّ إجْمَاعًا إذْ التَّمْيِيزُ رَفْعُ الْإِبْهَامِ عَنْ الذَّاتِ، وَنَفْيُ الصِّحَّةِ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إجْمَاعِيٌّ أَوْ خِلَافِيٌّ، فَبِقَوْلِنَا: إجْمَاعٌ، رَفَعْنَا ذَلِكَ الْإِبْهَامَ، وَقُلْنَا: إنَّ نَفْيَ الصِّحَّةِ إجْمَاعِيَّةٌ، وَإِنْ قُلْنَا عَلَى الْحَالِ، فَهُوَ نَفْيُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الصِّحَّةِ، لَا لِنَفْيِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ نَعْتٌ لِلْفَاعِلِ، فَتَقْدِيرُهُ هَذَا لَا يَصِحُّ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَنَفْيُ الصِّفَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْصُوفِ.

خَاتِمَةٌ [قَدْ يَكُونُ الْخِلَافُ حُجَّةً] قَدْ يَكُونُ الْخِلَافُ حُجَّةً كَالْإِجْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ. مِنْهَا: مَنْعُ الْخُرُوجِ مِنْهُ إذَا انْحَصَرَ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَمِنْهَا: تَسْوِيغُ الذَّهَابِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. وَمِنْهَا: كَوْنُ الْجَمِيعِ صَوَابًا إنْ قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي مَسْأَلَةِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ. [الِاخْتِلَافُ مَذْمُومٌ وَالِاجْتِمَاعُ مَحْمُودٌ] وَقَالَ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِ ذَمِّ التَّقْلِيدِ ": قَدْ ذَمَّ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ دِينِهِ مَا ذَمَّهُ، وَلَوْ كَانَ التَّنَازُعُ مِنْ حُكْمِهِ مَا رَدَّهُ إلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَا أَمَرَ بِإِمْضَاءِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ عَلَى مَا هُمَا بِهِ، وَمَا حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ أُمَّتَهُ مِنْ الْفُرْقَةِ وَأَمَرَهَا بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ رَحْمَةً، لَكَانَ الِاجْتِمَاعُ عَذَابًا؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ خِلَافُ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الِاخْتِلَافُ وَجْهَانِ: فَمَا كَانَ مَنْصُوصًا، لَمْ يَحِلَّ فِيهِ الِاخْتِلَافُ، وَمَا كَانَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يُدْرَكُ قِيَاسًا، فَذَهَبَ الْمُتَأَوِّلُ أَوْ الْمُقَايِسُ إلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ، لَمْ أَقُلْ إنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ ضِيقَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَنْصُوصِ. قَالَ الْمُزَنِيّ: فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَنَّهُ ضَيَّقَ الْخِلَافَ كَتَضْيِيقِهِ فِي الْمَنْصُوصِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب القياس

[كِتَابُ الْقِيَاسِ] [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَة الْقِيَاس] ِ وَالنَّظَرُ فِيهِ أَوْسَعُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَبْوَابِ الْأُصُولِ، فَلِهَذَا خَصُّوهُ بِمَزِيدِ اعْتِنَاءٍ. وَقَدْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مُبَيِّنًا لِشَرَفِهِ: " الْقِيَاسُ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ، وَأَصْلُ الرَّأْيِ، وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الْفِقْهُ وَأَسَالِيبُ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الْمُفْضِي إلَى الِاسْتِقْلَالِ بِتَفَاصِيل أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ مَعَ انْتِفَاءِ الْغَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، فَإِنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَحْصُورَةٌ مَقْصُورَةٌ، وَمَوَاضِعُ الْإِجْمَاعِ مَعْدُودَةٌ مَأْثُورَةٌ، فَمَا يُنْقَلُ مِنْهَا تَوَاتُرًا فَهُوَ الْمُسْتَنِدُ إلَى الْقَطْعِ، وَهُوَ مُعْوِزٌ قَلِيلٌ، وَمَا يَنْقُلُهُ الْآحَادُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَعْصَارِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَهِيَ عَلَى الْجُمْلَةِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْوَقَائِعَ الَّتِي يَتَوَقَّعُ وُقُوعَهَا لَا نِهَايَةٌ لَهَا. وَالرَّأْيُ الْمَبْتُوتُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا تَخْلُو وَاقِعَةٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَلَقًّى مِنْ قَاعِدَةِ الشَّرْعِ وَالْأَصْلُ الَّذِي يَسْتَرْسِلُ عَلَى جَمِيعِ الْوَقَائِعِ الْقِيَاسُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَهُوَ إذًا أَحَقُّ الْأُصُولِ بِاعْتِنَاءِ الطَّالِبِ. وَفِيهِ أَبْوَابٌ:

الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَتِهِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا أَمَّا لُغَةً: فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ تَقْدِيرُ شَيْءٍ عَلَى مِثَالِ شَيْءٍ آخَرَ وَتَسْوِيَتُهُ بِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمِكْيَالُ مِقْيَاسًا، وَمَا يُقَدَّرُ بِهِ النِّعَالُ مِقْيَاسًا، وَفُلَانٌ لَا يُقَاسُ بِفُلَانٍ: أَيْ لَا يُسَاوِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ قِسْت الشَّيْءَ إذَا اعْتَبَرْته، أَقِيسُهُ قَيْسًا وَقِيَاسًا. وَمِنْهُ: قِيسَ الرَّأْيُ، وَامْرُؤُ الْقَيْسِ؛ لِاعْتِبَارِ الْأُمُورِ بِرَأْيِهِ. وَقُسْته (بِضَمِّ الْقَافِ) أُقَوِّسُهُ قَوْسًا ذَكَرَ هَذِهِ اللُّغَةَ ابْنُ أَبِي الْبَقَاءِ فِي نِهَايَتِهِ " وَصَاحِبُ " الصِّحَاحِ "، فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ مُقْلَةَ فِي كِتَابِ " الْبُرْهَانِ ": الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ: التَّمْثِيلُ وَالتَّشْبِيهُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّشْبِيهُ فِي الْوَصْفِ أَوْ الْحَدِّ لَا الِاسْمِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي " كِتَابِ الْقَضَاءِ ": الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ، يُقَالُ: هَذَا قِيَاسُ هَذَا، أَيْ مِثْلُهُ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِي الْحُكْمِ. وَقِيلَ: إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِصَابَةِ، يُقَالُ: قِسْت الشَّيْءَ: إذَا أَصَبْته، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُصِيبُ بِهِ الْحُكْمَ، وَحَكَاهَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ". وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: " الْقِيَاسُ فِعْلُ الْقَائِسِ، وَهُوَ مَصْدَرُ قِسْت الشَّيْءَ قِيَاسًا، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: إمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا، أَوْ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرِ بِالْفِكْرِ، أَوْ جَمِيعِهِمَا بِالْفِكْرِ يُعْلَمُ تَسَاوِيهِمَا فِي الشَّيْءِ الَّذِي جُمِعَا مِنْ أَجْلِهِ بِخِلَافِهِمَا. هَذِهِ فَائِدَةُ الْقِيَاسِ وَنَتِيجَتُهُ، فَإِذَا أَثْمَرَتْ الْمُقَابَلَةُ مُسَاوَاةَ

الشَّيْئَيْنِ مِنْ حَيْثُ كَانَ جَرَى الْحُكْمُ عَلَيْهِمَا فِي الشَّيْءِ الَّذِي اجْتَمَعَا فِيهِ وَخُولِفَ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ اخْتَلَفَا فِيهِ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي قَضِيَّةِ الْعُقُولِ أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ اشْتَبَهَا فِي شَيْءٍ مَا فَحُكْمُهُمَا مِنْ حَيْثُ اشْتَبَهَا وَاحِدٌ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِ وَالْمُتَّفِقِ فَرْقٌ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَاخْتَلَفُوا " أَوَّلًا " فِي إمْكَانِ حَدِّهِ: فَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَتَعَذَّرُ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ فِي الْقِيَاسِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ: كَالْحُكْمِ فَإِنَّهُ قَدِيمٌ، وَالْفَرْعُ وَالْأَصْلُ فَإِنَّهُمَا حَادِثَانِ، وَالْجَامِعُ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ. وَوَافَقَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ شَارِحُهُ عَلَى تَعَذُّرِ الْحَدِّ، لَكِنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ نِسْبَةً وَإِضَافَةً وَهِيَ عَدَمِيَّةٌ، وَالْعَدَمُ لَا يَتَرَكَّبُ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ الْحَقِيقِيَّيْنِ الْوُجُودِيَّيْنِ. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: الْحَقِيقِيُّ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَمَّا تَرَكَّبَ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ. وَكَلَامُ الْجُمْهُورِ يَقْتَضِي إمْكَانَهُ، وَاخْتَلَفُوا:

فَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ: مُسَاوَاةُ فَرْعٍ لِأَصْلٍ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، أَوْ زِيَادَتُهُ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ فِي الْحُكْمِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُكْمٍ مَطْلُوبٍ بِهِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ وَهُوَ الْفَرْعُ؛ وَذَلِكَ لِثُبُوتِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ وَهُوَ الْأَصْلُ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بَيْنَ كُلِّ شَيْئَيْنِ، بَلْ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَمْرٌ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمُسَاوَاةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. فَيَخْتَصُّ الْحَدُّ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ. هَذَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُزَادَ " فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ " سَوَاءٌ ثَبَتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْ لَا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ. وَالْحَقُّ، أَنَّ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ شَامِلٌ لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ الْمَذْكُورَةَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ أَمْ لَا. وَقِيلَ: إدْرَاجُ خُصُوصٍ فِي عُمُومٍ. وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ. وَقِيلَ: إنَّهُ إلْحَاقُ الْمَسْكُوتِ بِالْمَنْطُوقِ، وَقِيلَ: إلْحَاقُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: اسْتِنْبَاطُ الْخَفِيِّ مِنْ الْجَلِيِّ، وَقِيلَ: حَمْلُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَلَمْ يَرْتَضِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: رَدُّ فَرْعٍ مَسْكُوتٍ عَنْهُ وَعَنْ حُكْمِهِ إلَى أَصْلٍ مَنْطُوقٍ بِحُكْمِهِ، وَقِيلَ: الْجَمْعُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ وَإِجْرَاءُ حُكْمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَقِيلَ: إنَّهُ بَذْلُ الْجُهْدَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ بِالنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمِهِ وَإِجْرَاءُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ. وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْجَامِعَ. وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ:

حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ بِضَرْبٍ مِنْ الشَّبَهِ، وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى: إثْبَاتُ حُكْمِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ لِلْمَقِيسِ وَهُوَ رَكِيكٌ، فَإِنَّ الْمَقِيسَ وَالْمَقِيسَ عَلَيْهِ مُشْتَقَّانِ مِنْ الْقِيَاسِ، فَتَعْرِيفُ الْقِيَاسِ بِهِمَا دَوْرٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الْإِحْكَامِ: اسْتِوَاءٌ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَيَخْرُجُ عَنْهُ الْقِيَاسُ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً، فَإِنْ مُنِعَ كَوْنُهُ قِيَاسًا فَبَاطِلٌ، لِأَنَّهُ أَقْوَى أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي - وَاخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَّا، كَمَا قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ: هُوَ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِجَامِعِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَفْيِهِمَا، فَالْحَمْلُ اعْتِبَارُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ وَرَدُّهُ إلَيْهِ، وَالْمَعْلُومُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، بِخِلَافِ الشَّيْءِ وَالْفَرْعِ يُوهِمُ الْمَوْجُودَ. ثُمَّ بَيَّنَ فَبِمَاذَا يَكُونُ الْحَمْلُ بِقَوْلِهِ: " فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ " فَأَفَادَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ وَنَفْيِهَا، وَالْمَعْلُومُ الثَّانِي لَا بُدَّ مِنْهُ، إذْ الْقِيَاسُ يَسْتَدْعِي مُنْتَسِبِينَ، لِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِدُونِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِحُكْمٍ. ثُمَّ قَسَّمَ الْجَامِعَ إلَى حُكْمٍ وَصِفَةٍ. قَالَ إلْكِيَا: وَهُوَ أَسَدُّ مَا قِيلَ عَلَى صِنَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: مِنْهَا: إنْ أَرَدْت بِالْحَمْلِ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فَقَوْلُك: " فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ " ضَائِعٌ لِلتَّكْرَارِ، وَإِنْ أَرَدْت غَيْرَهُ فَبَيِّنْهُ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ يَكُونُ خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِإِثْبَاتِ مِثْلٍ مَعْلُومٍ لِآخَرَ بِجَامِعٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ " فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ لَهَا " يُشْعِرُ بِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، فَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فَرْعًا عَنْ الْقِيَاسِ لَزِمَ الدَّوْرُ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ لَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ لَا بِالنَّصِّ وَكَذَلِكَ فِي الْفَرْعِ، وَالْقِيَاسُ كَاشِفٌ عَمَّا ثَبَتَ فِيهِمَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: هَذَا السُّؤَالُ لَا يَرِدُ مِنْ أَصْلِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ " بِهِمَا " يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفِ صِلَةٍ لِلْحُكْمِ الْمُنَكَّرِ، كَأَنَّهُ قَالَ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ثَابِتٌ لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَالْمُثْبِتُ لَهُ فِي الْأَصْلِ النَّصُّ، وَفِي الْفَرْعِ الْقِيَاسُ، فَلَا تَنَاقُضَ. وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِإِثْبَاتٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ الصِّفَةَ ثَبَتَتْ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ، كَقَوْلِهِ: إنَّهُ عَالِمٌ فَلَهُ عِلْمٌ، كَمَا فِي الشَّاهِدِ، فَإِنْ انْدَرَجَتْ الصِّفَةُ فِي الْحُكْمِ يَكُونُ قَوْلُهُ: بِجَامِعِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمَّا كَانَتْ أَحَدَ أَقْسَامِ الْحُكْمِ كَانَ ذِكْرُ الصِّفَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحُكْمِ تَكْرَارًا، وَإِنْ لَمْ تَنْدَرِجْ كَانَ التَّعْرِيفُ نَاقِصًا، فَهُوَ إمَّا زَائِدٌ وَإِمَّا نَاقِصٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِيَاسِ الْجَامِعُ دُونَ أَقْسَامِهِ، وَلَوْ وَجَبَ ذِكْرُ أَقْسَامِهِ لَوَجَبَ ذِكْرُ أَقْسَامِ الْحُكْمِ. وَمِنْهَا: الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ خَارِجٌ عَنْهُ، لِأَنَّ الْجَامِعَ مَتَى حَصَلَ صَحَّ الْقِيَاسُ. وَقَالَ إلْكِيَا: هُوَ شَامِلٌ لِلصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا يَرْجِعُ إلَى شُرُوطٍ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّحْدِيدِ، وَكَذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ بِشُمُولِهِ لَهَا. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اخْتِصَاصِهِ بِالصَّحِيحِ - تَبَعًا لِلْآمِدِيِّ - فَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا ذَكَرْنَا. وَمِنْهَا: قَالَ الْآمِدِيُّ: الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا يَتَفَرَّعُ عَلَى الْقِيَاسِ إجْمَاعًا وَلَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الْقِيَاسِ، فَإِنَّ نَتِيجَةَ الدَّلِيلِ لَا تَكُونُ رُكْنًا فِي الدَّلِيلِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّوْرِ، فَيَلْزَمُ مِنْ أَخْذِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ رُكْنًا فِي الْقِيَاسِ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ. وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ تَعْرِيفَ الدَّلِيلِ بِنَتِيجَتِهِ تَعْرِيفًا رَسْمِيًّا تَعْرِيفٌ جَائِزٌ،

مسألة القياس في نظر الأصوليين

لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ بِلَازِمِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ تَعْرِيفِهِ الْحَدِّيِّ. وَرَدَّهُ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِاللَّازِمِ شَرْطُهُ اللُّزُومُ الْبَيِّنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَازِمٌ، وَإِلَّا يَلْزَمُ الدَّوْرُ. وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِأَنَّ الْمَحْدُودَ الْقِيَاسُ الذِّهْنِيُّ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْفَرْعِ الذِّهْنِيِّ أَوْ الْخَارِجِيِّ لَيْسَ فَرْعًا لَهُ. وَرَدَّهُ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ حُكْمِ الْفَرْعِ الذِّهْنِيِّ فَرْعُ الْقِيَاسِ الذِّهْنِيِّ، لِأَنَّ نَتِيجَتَهُ ذِهْنًا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْقِيَاسِ الْخَارِجِيِّ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ. وَأَجَابَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَأْخُذْ فِي تَعْرِيفِ الْقِيَاسِ إلَّا الْإِثْبَاتَ لَا الثُّبُوتَ، وَالْمُتَفَرِّعُ عَنْ الْقِيَاسِ الثُّبُوتُ لَا الْإِثْبَاتُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الثُّبُوتَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا النَّاشِئُ بِالْقِيَاسِ اعْتِقَادُ الْمُسَاوَاةِ أَوْ الثُّبُوتِ مُسْتَنِدًا إلَى الْعِلَّةِ لَا مُجَرَّدِ الثُّبُوتِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْإِنْصَافُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَيْسَ بِحَدٍّ وَلَا مَطْمَعٍ فِي الْحَدِّ بِمَا يَتَرَكَّبُ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْحُكْمِ وَالْجَامِعِ. [مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ] حَاصِلُ الْقِيَاسِ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِحُكْمِ شَيْءٍ عَلَى آخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْآخَرِ، وَيُسَمِّيهِ قَوْمٌ " التَّمْثِيلَ ". وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ: فَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِحُكْمِ الْعَامِّ عَلَى حُكْمِ الْخَاصِّ، وَيَرْجِعُ إلَى الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: وَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْمَدْلُولِ

اللُّغَوِيِّ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: " كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " يُنْتَجُ: " كُلُّ نَبِيذٍ حَرَامٌ " لَيْسَ فِيهِ اعْتِبَارٌ بِحَالٍ وَإِنَّمَا النَّبِيذُ أَحَدُ الصُّوَرِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ. قُلْت: بَلْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ، لِأَنَّهُ تَسْوِيَةُ حُكْمِ الْخَاصِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ قَدْ يُتَجَوَّزُ بِإِطْلَاقِهِ فِي النَّظَرِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ فَرْعٍ وَأَصْلٍ فَيَقُولُ الْمُفَكِّرُ: قِسْت الشَّيْءَ إذَا تَفَكَّرَ فِيهِ. وَنَازَعَهُ الْإِبْيَارِيُّ. وَلَا مَعْنَى لِنِزَاعِهِ، لِوُجُودِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِيهِ وَهُوَ الِاعْتِبَارُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي أَسَاسِ الْقِيَاسِ: وَأَمَّا نَحْوُ " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ " أُنْتِجَ " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " هَذَا لَا تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا يُسَمِّيهِ ذَلِكَ الْمَنْطِقِيُّونَ، وَهُوَ ظُلْمٌ مِنْهُمْ عَلَى الِاسْمِ وَخَطَأٌ عَلَى الْوَضْعِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ يَسْتَدْعِي مَقِيسًا وَمَقِيسًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ حَمْلُ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا خَطَأٌ. مَسْأَلَةٌ [لَفْظُ الْقِيَاسِ مُشْتَرَكٌ] وَقَالَ " الْغَزَالِيُّ " أَيْضًا: لَفْظُ الْقِيَاسِ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الرَّأْيِ الْمَحْضِ الْمُقَابِلِ لِلتَّوْقِيفِ حَتَّى يُقَالَ: الشَّرْعُ إمَّا تَوْقِيفٌ أَوْ قِيَاسٌ. وَهَذَا الَّذِي نُنْكِرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِتَشْنِيعِ الظَّاهِرِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَيُطْلَقُ تَارَةً بِمُقَابِلِ التَّعَبُّدِ حَتَّى يُقَالَ: الشَّرْعُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَإِلَى تَعَبُّدٍ. كَرَمْيِ الْجِمَارِ. وَكِلَاهُمَا تَوْقِيفٌ، لَكِنْ يُسَمَّى مَا عُقِلَ مَعْنَاهُ قِيَاسًا لِمَا انْقَدَحَ فِيهِ مِنْ الْمَعْقُولِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَحَدُ نَوْعَيْ التَّوْقِيفِ وَلَيْسَ مُقَابِلًا لَهُ

مَسْأَلَةٌ [يُسَمَّى الْقِيَاسُ اسْتِدْلَالًا] فِي " الْمُعْتَمَدِ " لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ: كَانَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُسَمِّي الْقِيَاسَ اسْتِدْلَالًا، لِأَنَّهُ فَحْصٌ وَنَظَرٌ، وَيُسَمِّي الِاسْتِدْلَالَ قِيَاسًا، لِوُجُودِ التَّعْلِيلِ فِيهِ. وَحَكَى صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاجْتِهَادَ وَاحِدٌ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ: " أَجْتَهِدُ رَأْيِي " وَالْمُرَادُ الْقِيَاسُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ إلْكِيَا: يَمْتَازُ الْقِيَاسُ عَنْ الِاجْتِهَادِ بِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ سَوَاءٌ طُلِبَ مِنْ النَّصِّ أَوْ الْقِيَاسِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " إنَّ الْقِيَاسَ الِاجْتِهَادُ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ أَخَصُّ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاجْتِهَادُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ مُسْتَعْمَلًا فِي تَعْرِيفِ مَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْحُكْمِ، وَعِنْدَهُ أَنَّ طَرِيقَ تَعَرُّفِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَنْ يُحْمَلَ الْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ فَقَطْ، وَذَلِكَ قِيَاسٌ عِنْدَهُ. وَالِاجْتِهَادُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَا اقْتَضَى غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا خَطَأُ الْمُجْتَهِدِ وَيُقَالُ فِيهَا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هَلْ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ مُتَّحِدَانِ أَوْ مُخْتَلِفَانِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ، وَنَسَبَ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي كِتَابِ

الرِّسَالَةِ "، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، أَنَّ الِاجْتِهَادَ غَيْرُ الْقِيَاسِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَفْتَقِرُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَهُوَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ، وَلَيْسَ الِاجْتِهَادُ يَفْتَقِرُ إلَى الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَكُونُ بِالنَّظَرِ فِي الْعُمُومَاتِ وَسَائِرِ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ. مَسْأَلَةٌ [مَا وُضِعَ لَهُ الْقِيَاسُ] اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ اسْمُ " الْقِيَاسِ " عَلَى قَوْلَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ اسْتِدْلَالُ الْمُجْتَهِدِ وَفِكْرُهُ الْمُسْتَنْبَطُ، " وَالثَّانِي " أَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ فِي أَصْلِ الشَّيْءِ وَفَرْعِهِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَمَنْ فَرَّ مِنْهُ فَإِنَّمَا فَرَّ لِشُبْهَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقِيَاسِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ وَفَرْعٌ، فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَقَدْ وَجَبَ وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى بِهِ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْإِلْحَاقِ، وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى غَيْرِهِ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ يُسْتَنْبَطُ بِهِ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَصْلِهِ كَالْكَلَامِ فِيهِ لِنَفْسِهِ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَسْتَشْكِلُ عَلَى الْقَائِلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يُقَالَ: الْمُجْتَهِدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالنَّظَرِ وَالْإِلْحَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الطَّلَبُ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا أَوْ فَرْعًا ثُمَّ يَعُودُ مَا سَبَقَ. وَمَهْمَا كَانَ جَوَابُهُ فَهُوَ جَوَابُنَا. مَسْأَلَةٌ [الَّذِي يُثْبِتُهُ الْقِيَاسُ] وَاخْتَلَفُوا كَمَا قَالَهُ الْمُقْتَرِحُ فِي الَّذِي أَثْبَتَهُ الْقِيَاسُ، هَلْ هُوَ حُكْمٌ وَاحِدٌ

مسألة اشتمال النصوص على الفروع الملحقة بالقياس

يَشْمَلُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ أَوْ حُكْمَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُتَمَاثِلَانِ وَقَرَّرَهُ بِوَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " جَوَازُ نَسْخِ الْأَصْلِ مَعَ إبْقَاءِ الْفَرْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا حُكْمَانِ " وَالثَّانِي " أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُتَعَلَّقَ الْأَصْلِ غَيْرُ الْفَرْعِ، فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ شَامِلٌ لَهُمَا، لِأَنَّا لَا نَنْظُرُ إلَى الْقَضِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إلَى الْأَمْرِ الْعَامِّ. فَإِنْ أَوْرَدَ جَوَازَ النَّسْخِ، قُلْنَا: لَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ الْأَصْلِ مَعَ بَقَاءِ الْفَرْعِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتِمَالُ النُّصُوصِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ] رَوَى الرَّبِيعُ فِي " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ مَا يَقْتَضِي اشْتِمَالَ

الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ أَيْ ابْتِدَاءً أَوْ بِالْوَاسِطَةِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ تَنَاهَتْ فَرَائِضُهُ فَلَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ. وَنَصَّ فِي " الرِّسَالَةِ " عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْقِيَاسُ ضَرُورَاتٌ حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ فِي طَبَقَاتِهِ " وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ اشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ فَلْيُؤَوَّلْ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: جَمِيعُ الْأَحْكَامِ عَلَى مَرَاتِبِهَا مَعْلُومَةٌ بِالنَّصِّ، لَكِنَّ بَعْضَهَا يُعْلَمُ بِظَاهِرٍ، وَبَعْضُهَا يُعْلَمُ بِاسْتِنْبَاطٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَلَوْ لَزِمَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمٌ إلَّا بِنَصٍّ لَبَطَلَ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَدَلِيلِهِ. وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ النُّصُوصَ مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ وَرُبَّمَا تَمَسَّكَ بِقَوْلِ أَحْمَدَ: مَا تَصْنَعُ بِالرَّأْيِ وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُغْنِيك عَنْهُ. وَمُقَابِلُهُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إنَّ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ لَا نَصَّ فِيهَا بِحَالٍ. وَلِذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ: إنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ الْقِيَاسُ أَفْضَى إلَى خُلُوِّ كَثِيرٍ مِنْ الْحَوَادِثِ عَنْ الْأَحْكَامِ، لِقِلَّةِ النُّصُوصِ وَكَوْنِ الصُّوَرِ لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ اتَّسَعَ عِلْمُهُ بِالنُّصُوصِ قَلَّتْ حَاجَتُهُ إلَى الْقِيَاسِ، كَالْوَاجِدِ مَاءً لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْقَلِيلِ. وَتَوَسَّطَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَعْمَالِ الْخَلْقِ الْوَاقِعَةِ، وَبَيْنَ الْمَسَائِلِ الْمُوَلَّدَةِ لِأَعْمَالِهِمْ الْمُقَدَّرَةِ فَالْأُولَى عَامَّتُهَا نُصُوصٌ، وَأَمَّا الْمُوَلَّدَاتُ فَيَكْثُرُ فِيهَا مَا لَا نَصَّ فِيهِ.

مسألة القياس مظهر لا مثبت

[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ] الْحَقُّ أَنَّهُ مُظْهِرٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مُثْبِتٌ لَهُ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ مُثْبِتَ الْحُكْمِ هُوَ اللَّهُ. وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ فِي الظَّاهِرِ لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ إطْلَاقُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ حُكْمُ اللَّهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ، إشْفَاقًا أَنْ يَقْطَعَ عَلَى اللَّهِ بِذَلِكَ، فَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ حُكْمُ اللَّهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوْجَبَهُ كَانَ عَلَى التَّقْيِيدِ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ ": الْقِيَاسُ عِنْدَنَا دِينُ اللَّهِ وَحُجَّتُهُ وَشَرْعُهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَدِينُ رَسُولِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ بَعَثَنَا عَلَى فِعْلِهِ بِالْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ بِمَعْنَى صِيغَةِ " أَفْعَلَ " فَصَحِيحٌ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ دِينِ اللَّهِ فَلَا رَيْبَ فِيهِ إذَا عَنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَإِنْ أُرِيدَ غَيْرُ ذَلِكَ فَعِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْهُذَيْلِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ اسْمَ الدِّينِ يَقَعُ عَلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ يَصِفُ مَا كَانَ وَاجِبًا مِنْهُ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّهُ إيمَانٌ دُونَ مَا كَانَ مِنْهُ نَدْبًا. وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ يَصِفُ بِذَلِكَ وَاجِبَهُ وَمَنْدُوبَهُ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: إنْ أُرِيدَ بِالدِّينِ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ وَهُوَ أَصْلِيٌّ فَلَيْسَ الْقِيَاسُ مِنْ الدِّينِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ مُطْلَقًا فَهُوَ مِنْ الدِّينِ. وَيَتَحَصَّلُ فِي كَوْنِ الْقِيَاسِ مِنْ الدِّينِ أَقْوَالٌ: ثَالِثُهَا حَيْثُ يَتَعَيَّنُ.

الباب الثاني في موضوع القياس

[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَوْضُوعِ الْقِيَاسِ] الْبَابُ الثَّانِي فِي مَوْضُوعِهِ قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَمَوْضُوعُهُ طَلَبُ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِنْ الْأُصُولِ الْمَنْصُوصَةِ بِالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَعَانِيهَا لِيَلْحَقَ كُلُّ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ.

الباب الثالث في وجوب العمل بالقياس

[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ] الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: كَمَا فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ وَالْأَسْعَارِ. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الصَّادِرُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: لِأَنَّ مُقَدِّمَاتِهِ قَطْعِيَّةٌ لِوُجُوبِ عِلْمِ وُقُوعِهِ قَالَ: وَإِنَّمَا النِّزَاعُ مِنَّا وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إذَا عُدِمَ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْقَوَاطِعِ ": ذَهَبَ كَافَّةُ الْأَئِمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِهَا السَّمْعُ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ الْقِيَاسِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْمُثْبِتُونَ لِلْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَالثَّانِي: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ دُونَ الشَّرْعِيَّاتِ، وَبِهِ قَالَ النَّظَّامُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَالثَّالِثُ: نَفْيُهُ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، وَثُبُوتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ. وَالرَّابِعُ: نَفْيُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ قَالَ: وَالْمُثْبِتُونَ لَهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ أَوْجَبُوهُ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَأَجَازُوهُ فِيمَا فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْأُصُولِ إذَا لَمْ يُرَدَّ إلَى خِلَافِهَا، انْتَهَى. ثُمَّ الْمُثْبِتُونَ لَهُ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: فِي طَرِيقِ إثْبَاتِهِ: فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ دَلِيلٌ بِالشَّرْعِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي " الرِّسَالَةِ " فَقَالَ: وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّمَا أَخَذْنَاهُ اسْتِدْلَالًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ دَلِيلٌ بِالْعَقْلِ، وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَرَدَتْ مُؤَكِّدَةً لَهُ وَلَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ وُجُودِهَا لَتَوَصَّلْنَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ إلَى انْتِصَابِ الْأَقْيِسَةِ عِلَلًا فِي الْأَحْكَامِ. وَقَالَ الدَّقَّاقُ: يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، حَكَاهُ فِي " اللُّمَعِ "، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الرَّوْضَةِ " وَجَعَلَهُ مَذْهَبَ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ الْقِيَاسِ قَالَ: وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَالنَّظَّامُ إلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَإِلَيْهِ مَالَ أَحْمَدُ فِي قَوْلِهِ: يَجْتَنِبُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَلَى مَا إذَا كَانَ الْقِيَاسُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مُخَالِفًا لَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ. وَثَانِيهَا: هَلْ دَلَالَةُ السَّمْعِ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ؟ وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ وَالْآمِدِيَّ. وَثَالِثُهَا: قِيلَ: إنَّمَا يُعْمَلُ بِهِ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ

بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْقِيَاسِ، فَأَوَّلُ مَنْ بَاحَ بِإِنْكَارِهِ النَّظَّامُ، وَتَابَعَهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَجَعْفَرِ بْنِ حَرْبٍ وَجَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْإِسْكَافِيِّ، وَتَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى نَفْيِهِ فِي الْأَحْكَامِ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الشَّافِعِيُّ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابٍ فِي الْقِيَاسِ، مِمَّا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ جَامِعِ الْعِلْمِ ": مَا عَلِمْت أَحَدًا سَبَقَ النَّظَّامَ إلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ أَبُو الْهُذَيْلِ فِيهِ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ " انْتَهَى ". وَقَرَّرَ النَّاقِلُونَ بَحْثَ الظَّاهِرِيَّةِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " الْعِلْمِ ": لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي نَفْيِ

الْقِيَاسِ فِي التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا دَاوُد فَإِنَّهُ نَفَاهُ فِيهِمَا جَمِيعًا قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوْحِيدِ وَنَفَاهُ فِي الْأَحْكَامِ. وَأَطْلَقَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ دَاوُد وَالنَّهْرَوَانِيّ وَالْمَغْرِبِيِّ وَالْقَاشَانِيِّ أَنَّ الْقِيَاسَ مُحَرَّمٌ بِالشَّرْعِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَأَمَّا دَاوُد فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنْ لَا حَادِثَةَ إلَّا وَفِيهَا حُكْمٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِفَحْوَى النَّصِّ وَدَلِيلِهِ، وَذَلِكَ مُغْنٍ عَنْ الْقِيَاسِ. فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مُفَصَّلًا، وَمِنْهَا مَا أَجْمَلَ ذِكْرَهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَرَ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالتَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ، وَمِنْهَا مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. وَمَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ فَحُكْمُهُ الْإِبَاحَةُ بِعَفْوِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَرْكُهُ النَّصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ بِإِخْبَارٍ عَنْ فَاعِلٍ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ لَهُ عَلَى فِعْلِهِ، أَوْ تُورَدُ الرِّوَايَةُ عَمَّا فَعَلَ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ دَاوُد وَأَتْبَاعُهُ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِلٌ وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: ذَهَبَ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرِدْ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِهِ وَالْمَصِيرَ إلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَنَا بِهِ. وَكَذَا نَقَلَ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ عَقْلًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي " الْإِحْكَامِ ": ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ جُمْلَةً وَهُوَ قَوْلُنَا الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ وَالْقَوْلُ بِالْعِلَلِ بَاطِلٌ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ إلَى أَنَّ الشَّارِعَ إذَا جَعَلَ شَيْئًا مَا عِلَّةً لِحُكْمٍ

فَحَيْثُمَا وُجِدَ ذَلِكَ وَجَبَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، كَنَهْيِهِ عَنْ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ. قَالَ: وَإِنَّمَا السِّنُّ عَظْمٌ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَظْمٍ لَا يُذْبَحُ بِهِ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ دَاوُد وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ قَوْمٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ مِنْ جُمْلَتِنَا كَالْقَاشَانِيِّ وَضُرَبَائِهِ، وَقَالُوا: أَمَّا مَا لَا نَصَّ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا لِسَبَبِ كَذَا. وَقَالَ دَاوُد وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ: لَا يَفْعَلُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا لِعِلَّةٍ أَصْلًا، وَإِذَا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى أَنَّهُ لِكَذَا، أَوْ بِسَبَبِ كَذَا، أَوْ لِأَنَّهُ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَاءَ النَّصُّ فِيهَا وَلَا تُوجِبُ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمُبَيَّنَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَسْنَا نُنْكِرُ وُجُودَ بَعْضِ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ نُثْبِتُهَا وَنَقُولُ بِهَا لَكِنْ نَقُولُ: إنَّهَا لَا تَكُونُ أَسْبَابًا إلَّا حَيْثُ جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا وَلَا يَتَعَدَّى بِهَا الْمَوْضِعُ الْمَنْصُوصُ عَلَى أَنَّهَا أَسْبَابٌ لَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ عُرِفَ بِهِ مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ دَاوُد وَأَصْحَابَهُ لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ، وَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً، وَإِنَّمَا الْقَائِلُ بِهِ الْقَاشَانِيُّ وَضُرَبَاؤُهُ. وَنَقَلَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ عَنْ الْقَاشَانِيِّ وَالنَّهْرَوَانِيّ الْقَوْلَ بِهِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أُومِئَ إلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَسْبَابِ،

كَرَجْمِ مَاعِزٍ لِزِنَاهُ، وَالْمُعَلَّقِ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ كَالسَّارِقِ، وَكَأَنَّهُمَا يَعْنِيَانِ بِهَذَا الْقِسْمِ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَاخْتُلِفَ هَلْ هُمَا بِهَذَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ أَمْ لَا؟ وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ عَنْهُمَا الْقَوْلَ بِهِ فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ دُونَ مَا إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْأَصْلِ. وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْقَاشَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ حُكْمٍ وَقَعَ فِي شَخْصٍ لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى حُكْمِ كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ إنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ. وَنُقِلَ عَنْ النِّهْرَوَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اُسْتُدِلَّ عَلَى الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ عَلَى السِّنَّوْرِ إذَا وَقَعَ قَالَ: وَهَذَا مِنْهُمَا اعْتِرَافٌ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي " أُصُولِهِ ": الْمُنْكِرُونَ لِلْقِيَاسِ كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا التَّسْمِيَةَ وَإِلَّا فَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ، وَهُوَ الْمَغْرِبِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ النَّهْرَوَانِيُّ وَالْقَاشَانِيُّ. أَمَّا الْقَاشَانِيُّ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا شَرَعَ عَلَى سَبَبٍ فِي شَخْصٍ، فَالْحُكْمُ لِلسَّبَبِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ الشَّخْصَ وَأَنَّهُ يُسَاوِيهِ، فَإِنْ جَرَى عُلِمَ صِحَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ عُلِمَ بُطْلَانُهُ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ، فَهَلْ قَالَ أَصْحَابُ الْقِيَاسِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا؟ وَأَمَّا النَّهْرَوَانِيُّ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِالْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ عَلَى السِّنَّوْرِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ النَّجَاسَةُ ثُمَّ سَلَكَا فِي النَّفَقَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ أَنَّهَا مَعْقُولَةٌ عَنْ الْخِطَابِ وَمَعْلُومَةٌ بِالْعَادَةِ. فَهَؤُلَاءِ مَا اهْتَدَوْا قَطُّ لِنَفْيِ الْقِيَاسِ. وَلَمْ يَنْفِ الْقِيَاسَ قَطُّ فِي الْأَحْكَامِ غَيْرُ إبْرَاهِيمَ (يَعْنِي النَّظَّامَ) مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَتْبَاعِهِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ دَاوُد وَمَنْ بَعْدَهُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَنَا: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِأَنَّهَا حُلْوَةٌ لَمْ يَحْرُمْ غَيْرُهَا مِنْ كُلِّ حُلْوٍ، وَسَوَاءٌ عَلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّهُ حُلْوٌ أَوْ لَمْ يَقُلْ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَقَدْ نُقِلَ عَنْ النَّظَّامِ إنْكَارُ الْقِيَاسِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ

قَالَ إنَّ الشَّيْءَ إذَا تَقَدَّمَتْ إبَاحَتُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَاحْتَاجَ إلَى الْعِبْرَةِ اُعْتُبِرَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَنَصَّ عَلَى إيجَابِ النَّفَقَاتِ لِلْأَزْوَاجِ وَأَنَّهُ اُعْتُبِرَ بِنَظَائِرِهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ الْقِيَاسِيُّونَ: إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُوجِبُ ابْتِدَاءَ الْحِكَمِ وَوَضْعَهَا، فَإِذَا وُضِعَتْ الْأُصُولُ وَاحْتِيجَ إلَى تَمْيِيزِهَا وَالتَّنْفِيذِ لِلْحُكْمِ اُسْتُدِلَّ بِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا ذَكَرَ هَذَا الرَّجُلُ فِي النَّفَقَاتِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: النَّافِي لِلْقِيَاسِ قَائِلٌ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ، فَمِنْهُ رَجْمُ الزَّانِي قِيَاسًا عَلَى مَاعِزٍ، وَإِرَاقَةُ الزَّبَدِ الْمُتَنَجِّسِ قِيَاسًا عَلَى السَّمْنِ، وَجَوَازُ الْخَرْصِ وَالْمُسَاقَاةِ قِيَاسًا عَلَى الْكَرْمِ، وَمَنْعُ التَّضْحِيَةِ بِالْعَمْيَاءِ قِيَاسًا عَلَى الْعَوْرَاءِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ مَكْرُوهٌ قِيَاسًا عَلَى الْغَضَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " جَامِعِ الْعِلْمِ ": وَدَاوُد وَإِنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ فَقَدْ قَالَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَقَدْ جَعَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي " أَدَبِ الْجَدَلِ " لَهُ: كُلُّ مَنْ مَنَعَ كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً فَإِنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِهِ ثُمَّ يُسَمِّيهِ بِاسْمِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِنْبَاطِ أَوْ الِاجْتِهَادِ أَوْ دَلِيلِ الشَّرْعِ أَوْ غَيْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّظَّامَ إنَّمَا أَنْكَرَ الْقِيَاسَ فِي شَرِيعَتِنَا خَاصَّةً، وَلَمْ يُنْكِرْ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَلَا الشَّرْعِيَّ السَّالِفَ. ثُمَّ الْمُنْكِرُونَ لِلْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِ نَفْيِهِ: فَقِيلَ: يُنْفَى بِالْعَقْلِ وَحْدَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقِيلَ: إنَّ الْخَوْضَ فِيهِ قَبِيحٌ

لِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: يَجِبُ أَنْ يَصْطَلِحَ لِعِبَادِهِ فَيَنُصُّ عَلَى الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ طَرِيقُهَا الْمَصَالِحُ وَلَا يَعْرِفُ الْمَصَالِحَ إلَّا صَاحِبُ الشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا جُعِلَتْ عَلَى وُجُوهٍ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا قِيَاسًا، كَتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ، وَإِيجَابِهِ الْقَسَامَةَ بِاللَّوْثِ، وَالْحُكْمَ بِالشُّفْعَةِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَجَمَعَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، وَفَرَّقَتْ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُتَّفِقَةٍ، فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ، وَلَا وَجْهَ إلَّا امْتِنَاعُ النَّصِّ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِالشَّرْعِيَّاتِ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِحُّ مَعَهُ الْقِيَاسُ فَلَوْ وَقَعَ عَلَى خِلَافِهِ صَحَّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَدْنَى طُرُقِ الْبَيَانِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَعْلَاهَا، وَلَا يُعَلِّقُ عِبَادَتَهُ بِالظَّنِّ الَّذِي يُخْطِئُ دُونَ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّضَادِّ فِي الْأَحْكَامِ، وَحَكَاهُمَا ابْنُ فُورَكٍ، وَقِيلَ لِضَعْفِ الْبَيَانِ الْحَاصِلِ بِهِ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقِيلَ: بَلْ يُنْفَى بِالشَّرْعِ، وَالْعَقْلُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ عَنْ دَاوُد. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنَّهُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الظَّاهِرِيَّةِ كَدَاوُد وَالْقَاشَانِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ النِّهْرَوَانِيِّ ثُمَّ إنَّ الْقَاشَانِيَّ وَالنَّهْرَوَانِيّ نَاقَضَا، فَقَالَ الْقَاشَانِيُّ: " كُلُّ حُكْمٍ وَقَعَ. . . " وَنَقَلَ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ وَعَنْ صَاحِبِهِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ وَالنَّظَّامُ فَأَسْرَفَا، فَقَالَ دَاوُد: لَوْ قِيلَ لَنَا حَرُمَ السُّكَّرُ لِأَنَّهُ حُلْوٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ حُلْوٍ،

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ. وَالْفِرَقُ الْمُبْطِلَةُ ثَلَاثَةٌ: الْمُحِيلَةُ لَهُ عَقْلًا، وَالْمُوجِبَةُ لَهُ عَقْلًا، وَالْحَاظِرَةُ لَهُ شَرْعًا. قُلْت: وَالْمَانِعُونَ لَهُ سَمْعًا افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ قَالَتْ: نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَدْ وَفَتْ وَأَثْبَتَتْ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ حَزْمٍ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: بَلْ حَرُمَ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ. وَلَوْ صَحَّ مَا قَالَهُ الظَّاهِرِيُّ مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ وَافِيَةٌ بِحُكْمِ الْحَوَادِثِ لِمَا افْتَقَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحَوَادِثِ إلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَأَدِلَّةِ الْعَقْلِ. وَقَالَ الدَّبُوسِيُّ: نُفَاةُ الْقِيَاسِ أَرْبَعَةٌ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى دَلِيلَ الْعَقْلِ حُجَّةً وَالْقِيَاسُ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً إلَّا فِي مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً فِيهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّا نَحْكُمُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ بِاسْتِصْحَابِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ أَصْلِيَّةٌ لَا حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ. وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إلَى قَوْلٍ غَرِيبٍ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ غَيْرُهُ فِيمَا أَظُنُّ وَهُوَ أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ كَانَ جَائِزًا قَبْلَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقَوْله تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَأَمَّا بَعْدَهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَهُوَ بِدَعٌ مِنْ الْقَوْلِ.

وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ كُلُّهَا مَهْجُورَةٌ وَهُوَ خِلَافٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ بِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَوْلًا وَعَمَلًا، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمَنْ ذَهَبَ إلَى رَدِّ الْقِيَاسِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِخَطَئِهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، مَحْكُومٌ بِكَوْنِهِ مَأْثُومًا. قَالَ الْقَاضِي: وَلَسْت أَعُدُّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ وَلَا أُبَالِي بِخِلَافِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: " وَهُوَ كَمَا قَالَ ". وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي شَرْحِهِ ": ذَكَرَ الْقَاضِي بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقَاضِيَ إسْمَاعِيلَ أَمَرَ بِدَاوُد مُنْكِرِ الْقِيَاسِ فَصُفِعَ فِي مَجْلِسِهِ بِالنِّعَالِ وَحَمَلَهُ إلَى الْمُوَفَّقِ بِالْبَصْرَةِ لِيَضْرِبَ عُنُقَهُ، لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ جَحَدَ أَمْرًا ضَرُورِيًّا مِنْ الشَّرِيعَةِ فِي رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ وَالْجَلَّادُ فِي هَؤُلَاءِ أَنْفَعُ مِنْ الْجِدَالِ. انْتَهَى. وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ فَلَنَا مَسَالِكُ: الْأَوَّلُ: دَلَالَةُ الْقُرْآنِ: وَمِنْ أَشْهَرِهَا قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَقَدْ سُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ اللِّسَانِ عَنْ " الِاعْتِبَارِ " فَقَالَ: أَنْ يَعْقِلَ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ فَيَعْقِلُ مِثْلَهُ. فَقِيلَ: أَخْبِرْنَا عَمَّنْ رَدَّ حُكْمَ حَادِثَةٍ إلَى نَظِيرِهَا أَيَكُونُ مُعْتَبَرًا؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. حَكَاهُ الْبَلْعَمِيُّ فِي كِتَابِ " الْغَرَرِ فِي الْأُصُولِ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْت الْقَاشَانِيُّ وَابْنَ سُرَيْجٍ قَدْ صَنَّفَا فِي الْقِيَاسِ نَحْوَ أَلْفِ وَرَقَةٍ، هَذَا فِي نَفْيِهِ، وَهَذَا فِي إثْبَاتِهِ. اعْتَمَدَ

الْقَاشَانِيُّ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] وَاعْتَمَدَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي إثْبَاتِهِ عَلَى قَوْلِهِ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " اتِّفَاقَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ تَمْثِيلَ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ، وَاعْتِبَارَهُ بِهِ، وَإِجْرَاءَ حُكْمِهِ عَلَيْهِ، وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الِاتِّعَاظُ وَالْفِكْرُ اعْتِبَارًا؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَمِثْلِهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ بِحُكْمِ نَظِيرِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الِاتِّعَاظُ وَالِازْدِجَارُ عَنْ الذَّنْبِ بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَالِانْتِقَامِ بِأَهْلِ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، ثُمَّ حُكِيَ مَا سَبَقَ عَنْ ثَعْلَبٍ. وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاعْتِبَارِ التَّعَجُّبُ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَافَقَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَقَالَ فِي " الْقَوَاعِدِ ": مِنْ الْعَجِيبِ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ الِاتِّعَاظُ وَالِازْدِجَارُ، وَالْمُطْلَقُ إذَا عُمِلَ بِهِ فِي صُورَةٍ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي غَيْرِهَا بِالِاتِّفَاقِ قَالَ: وَهَذَا تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مُرَادِهِ إلَى غَيْرِ مُرَادِهِ، ثُمَّ كَيْفَ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ مَعَ كَوْنِهِ وَاعِظًا بِمَا أَصَابَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الْجَلَاءِ أَنْ يَقْرِنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِقِيَاسِ الدُّخْنِ عَلَى الْبُرِّ وَالْحِمَّصِ عَلَى الشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لَكَانَ مِنْ رَكِيكِ الْكَلَامِ وَإِدْرَاجًا لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَقِرَانًا بَيْنَ الْمُنَافَرَاتِ انْتَهَى. وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّيْخِ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنْ مُنِعَ قُلْنَا: هَذَا يَرْجِعُ إلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ إخْرَاجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَتَعْذِيبَهُمْ قَدْ رُتِّبَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَالْمَعْصِيَةُ عِلَّةٌ لِوُقُوعِ الْعَذَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَقَعُوا فِي الْمَعْصِيَةِ فَيَقَعُ بِكُمْ الْعَذَابُ، قِيَاسًا عَلَى أُولَئِكَ، فَهُوَ قِيَاسُ نَهْيٍ عَلَى نَهْيٍ، بِعِلَّةِ الْعَذَابِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِي الِاعْتِبَارِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعُبُورِ، وَهُوَ يُجَاوِزُ الْمَذْكُورَ إلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ. وَالثَّانِي: مِنْ الْعِبْرَةِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، وَمِنْهُ عَبْرُ الْخَرَاجِ أَيْ قِيَاسُ خَرَاجِ عَامٍ بِخَرَاجِ غَيْرِهِ فِي الْمُمَاثَلَةِ. وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ دَلِيلُ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ، وَبِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي " الرِّسَالَةِ " بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَقَالَ: فَهَذَا تَمْثِيلُ الشَّيْءِ بِعَدْلِهِ وَقَالَ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَأَوْجَبَ الْمِثْلَ وَلَمْ يَقُلْ أَيَّ مِثْلٍ فَوَكَلَ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِنَا، وَأَمَرَنَا بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَاحْتَجَّ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي الْوَدَائِعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ الْعُلَمَاءُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْقِيَاسُ. فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالنَّصِّ فِي إثْبَاتِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] الْآيَةَ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ فَإِذَا جَازَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ لِيُرِيَكُمْ وَجْهَ مَا تَعْلَمُونَ فَهُوَ مِمَّنْ لَا يَخْلُو مِنْ الْجَهَالَةِ وَالنَّقْصِ أَجْوَزُ. وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] فَهَذَا صَرِيحٌ فِي إثْبَاتِ الْإِعَادَةِ قِيَاسًا. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] قَالَ: وَالِاسْتِنْبَاطُ مُخْتَصٌّ بِإِخْرَاجِ الْمَعَانِي مِنْ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ، مَأْخُوذٌ مِنْ اسْتِنْبَاطِ الْمَاءِ: إذَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ مَعْدِنِهِ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْأَحْكَامِ أَعْلَامًا

مِنْ الْأَسْمَاءِ، وَالْمَعَانِي بِالْأَلْفَاظِ ظَاهِرَةٌ، وَالْمَعَانِي عِلَلٌ بَاطِنَةٌ، فَيَكُونُ بِالِاسْمِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَبِالْمَعْنَى مُتَعَدِّيًا. فَصَارَ مَعْنَى الِاسْمِ أَخَصَّ بِالْحُكْمِ مِنْ الِاسْمِ، فَعُمُومُ الْمَعْنَى بِالتَّعَدِّي، وَخُصُوصُ الِاسْمِ بِالتَّوْقِيفِ وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً لِلْأَسْمَاءِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِيهَا، فَالْأَسْمَاءُ تَابِعَةٌ لِمَعَانِيهَا لِتَعَدِّيهَا إلَى غَيْرِهَا. وَاحْتَجَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَدْلَ: هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مِثْلَيْنِ فِي الْحُكْمِ فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الْآيَةِ. الثَّانِي دَلَالَةُ السُّنَّةِ: كَحَدِيثِ مُعَاذٍ " أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي وَلَا آلُو "، وَقَالَ النَّبِيُّ فِي خَبَرِ الْمَرْأَةِ: «أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ» ، «وَقَالَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَيَقْضِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» ، «وَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ فَزَارَةَ أَنْكَرَ وَلَدَهُ لَمَّا جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ قَالَ: وَهَذَا لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ» . قَالَ الْمُزَنِيّ: فَأَبَانَ لَهُ بِمَا يَعْرِفُ أَنَّ الْحُمْرَ مِنْ الْإِبِلِ تُنْتِجُ الْأَوْرَقَ فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ

الْبَيْضَاءُ تَلِدُ الْأَسْوَدَ، فَقَاسَ أَحَدَ نَوْعَيْ الْحَيَوَانِ عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَيْسَ فِيهِ نَسَبٌ حَتَّى نَقُولَ قِيَاسٌ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ، «وَقَالَ لِعُمَرَ، وَقَدْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت وَمَجَجْته؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ فَقَالَ: فَفِيمَ؟» قَالَ الْمُزَنِيّ: فَبَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَا شَيْءَ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مُحَرِّمُ الْحَلَالَ كَمُحَلِّلِ الْحَرَامَ» وَهُوَ كَثِيرٌ. وَصَنَّفَ النَّاصِحُ الْحَنْبَلِيُّ جُزْءًا فِي أَقْيِسَةِ النَّبِيِّ. وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: وَاعْرِفْ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَك. وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ فِي

الْعِلَلِ، فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى لَمَّا نَهَى عَنْ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ فَتَحَدَّثْنَا أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ نَهَى عَنْهَا أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ. الثَّالِثُ: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ: فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ قَوْلًا وَفِعْلًا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ: وَقَدْ بَلَغَ التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ عَنْ الصَّحَابَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَهُوَ قَطْعِيٌّ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ هُوَ الْمُعَوِّلُ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عِنْدِي أَنَّ الْمُعْتَمَدَ اشْتِهَارُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ إلَّا عِنْدَ شُذُوذِ مُتَأَخِّرِينَ قَالَ: وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: أَوْجَزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْعِبَادَةَ فَقَالَ: انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِدَلِيلِهِ جَائِزٌ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ دَلِيلُهُ. الرَّابِعُ: طَرِيقُ الْعَقْلِ. وَهُوَ أَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِالْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ وَالْحَوَادِثُ غَيْرُ

مُتَنَاهِيَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ يُضَافُ إلَيْهِ، لَكِنَّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا تَنَاهِي النُّصُوصِ فَإِنَّ الْمَعْنَى إذَا ظَهَرَ تَنَاوَلَ ذَلِكَ الْفَرْعَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْأَذْهَانِ، فَإِنَّ أَفْرَادَ الْعُمُومِ لَا تَتَنَاهَى، فَإِذَا تُصُوِّرَ عَدَمُ التَّنَاهِي فِي الْأَلْفَاظِ فَفِي الْمَعَانِي أَوْلَى، قَالَ الْقَفَّالُ: وَلِأَنَّهُ لَا حَادِثَةَ إلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى بَيَانِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَرَأَيْنَا الْمَنْصُوصَ لَمْ يُحِطْ بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّا مَأْمُورُونَ بِالِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِ " إثْبَاتِ الْقِيَاسِ ": لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَبَطَلَ الْقِيَاسُ، وَلَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إلَّا بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَكَانَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مُهْمَلًا لَا حُكْمَ لَهُ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ. قَالَ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِ " إثْبَاتِ الْقِيَاسِ ": تَعَلَّقَ الْمَانِعُونَ بِآثَارٍ وَرَدَتْ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَمَا رَأَى أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا فِي الدِّينِ رَأْيًا وَسَمَّوْا فُرُوعَهُ قِيَاسًا، وَأَغْفَلُوا كَشْفَ الْقَوْلِ فِي الرَّأْيِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّمْثِيلِ عَلَيْهِمَا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ لَطِيفًا دَقِيقًا يَحْتَاجُ إلَى حِدَّةِ الْعُقُولِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي الْأُصُولِ، «كَتَقْرِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا عَلَى الِاجْتِهَادِ عَلَى أَصْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» ، وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَضِيَّةِ الطَّاعُونِ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ لَك إبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا. وَعَلَى الْمَذْمُومِ يُحْمَلُ

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ بَعْضِهَا. قَالَ ابْنُ الْقَفَّالِ: وَقَدْ قِيلَ: إنَّ دَاوُد سَأَلَ الْمُزَنِيّ عَنْ الْقِيَاسِ أَهُوَ أَصْلٌ أَمْ الْفَرْعُ فَأَجَابَهُ الْمُزَنِيّ: إنْ قُلْت الْقِيَاسُ أَصْلٌ أَوْ فَرْعٌ، أَوْ أَصْلٌ وَفَرْعٌ، أَوْ لَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَنَّهُ أَصْلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ فَرْعٌ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَصْلٌ وَفَرْعٌ بِاعْتِبَارَيْنِ لَمَّا عَرَفْت أَنَّهُ فَرْعٌ لِغَيْرِهِ الَّذِي عُرِفَ مِنْهُ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ " لَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ " أَنَّهُ فِعْلُ الْقَائِسِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: سَأَلَ دَاوُد الْقَائِسِينَ سُؤَالًا دَلَّ عَلَى جَهْلِهِ بِمَعْنَى الْقِيَاسِ فَقَالَ: خَبِّرُونِي عَنْ الْقِيَاسِ أَصْلٌ هُوَ أَمْ فَرْعٌ؟ فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ، وَإِنْ كَانَ فَرْعًا فَفَرْعٌ عَلَى أَيِّ أَصْلٍ. قَالَ الرَّازِيَّ: وَالْقِيَاسُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْقَائِسِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِفِعْلِ الْقَائِسِ: إنَّهُ أَصْلٌ أَوْ فَرْعٌ. وَإِنَّمَا وَجْهُ تَصْحِيحِ السُّؤَالِ أَنْ يَقُولَ: خَبِّرُونِي عَنْ وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، أَوْ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ أَهُوَ أَصْلٌ أَمْ فَرْعٌ؟ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ بِمَا بُنِيَ عَلَيْهِ، وَفَرْعٌ عَلَى مَا بُنِيَ عَلَيْهِ، فَأَصْلُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَفَرْعُهُ سَائِرُ الْحَوَادِثِ الْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: فِي كِتَابِ " إثْبَاتِ الْقِيَاسِ " قَالَ بَعْضُهُمْ: خَبِّرُونَا عَنْ الْقِيَاسِ فَرْضٌ هُوَ أَوْ نَدْبٌ، فَإِنْ قُلْتُمْ نَدْبٌ فَقَدْ أَوْجَبْتُمْ التَّشْرِيعَ فِي الدِّينِ، وَإِنْ قُلْتُمْ فَرْضٌ فَمَا وَجَدْنَا ذَلِكَ. قُلْنَا: بَلْ فَرْضٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَبِالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ وَبِقَبُولِ الْجِزْيَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فَوَجَبَ النَّظَرُ فِيهِ قَالَ: وَحَقِيقَةُ الْقِيَاسِ فِعْلُ أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِهِ فِي وَقْتٍ كَمَا أَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فِي وَقْتٍ، فَلَا يُسَمَّى الْقِيَاسُ أَصْلًا وَلَا فَرْعًا لِذَلِكَ.

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ حَرَّرَ الْهِنْدِيُّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فَقَالَ: إذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مُعَلَّلٌ بِكَذَا، أَوْ عَلِمْنَا حُصُولَ الْوَصْفِ مَعَ جَمِيعِ مَا يُعْتَبَرُ فِي إفْضَائِهِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ عَلِمْنَا حُصُولَ مِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقِيَاسِ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ بَلْ الْكُلُّ أَطْبَقُوا عَلَى حُجِّيَّتِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ ظَنِّيَّتَيْنِ، أَوْ إحْدَاهُمَا ظَنِّيَّةً، كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ ظَنًّا لَا مَحَالَةَ. وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ بِالنَّتِيجَةِ، بَلْ إنْ كَانَ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ. وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ أَنَّ هَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي التَّفْصِيلَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتَا ظَنِّيَّتَيْنِ فَكَذَلِكَ، أَوْ إحْدَاهُمَا ظَنِّيَّةً وَالْأُخْرَى قَطْعِيَّةً، فَلَيْسَ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى مَا إذَا كَانَتْ الْأُولَى قَطْعِيَّةً، أَعْنِي كَوْنَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِكَذَا، وَالثَّانِيَةُ، أَعْنِي تَحْقِيقَهَا فِي صُورَةِ النِّزَاعِ ظَنِّيَّةٌ، فَهَذَا مَحَلُّ وِفَاقٍ. أَمَّا إذَا كَانَتْ هِيَ ظَنِّيَّةً سَوَاءٌ كَانَتْ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً فَإِنَّهُ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ يَقْتَضِي أَنَّ الْكُلَّ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ. الثَّانِي: أَفْرَطَ فِي الْقِيَاسِ فِرْقَتَانِ: الْمُنْكِرُ لَهُ، وَالْمُسْتَرْسِلُ فِيهِ، كَغُلَاةِ أَهْلِ

مسألة القياس من أصول الفقه

الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَمَا شَبَّهْتُ تَصَرُّفَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالْعُقُولِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إلَّا بِتَصَرُّفِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ الْوُجُودِيَّةِ: أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، لَا جَبْرٌ وَلَا تَفْوِيضٌ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا تَعَبُّدِيَّةٌ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا أَلْحَقَهُ بِجُحُودِ الْجَبْرِيَّةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا قِيَاسِيَّةٌ مَحْضَةٌ وَأَطْلَقَ لِسَانَهُ فِي التَّصَرُّفِ أَلْحَقَهُ بِتَهَوُّرِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْحَقُّ فِي التَّوَسُّطِ {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] قُلْت: وَمِنْ الْبَلِيَّةِ اقْتِصَارُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقِيَاسِ وَعَدَمُ بَحْثِهِمْ عَنْ النَّصِّ فِيهَا وَهُوَ مَوْجُودٌ لَوْ تَطْلُبُوهُ. [مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ] أَيْ أَدِلَّتِهِ، خِلَافًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَإِلْكِيَا، وَاخْتَلَفَتْ مَآخِذُهُمْ: فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ هِيَ الْمُثْمِرَةُ، وَالْأَحْكَامُ وَالْقِيَاسُ مِنْ طُرُقِ الِاسْتِثْمَارِ، فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ مِنْ حَيْثُ مَعْقُولُ اللَّفْظِ وَأَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ دَلَالَةٌ مِنْ حَيْثُ صِيغَتُهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: لِأَنَّ الدَّلَالَةَ إنَّمَا تُطْلَقُ عَلَى الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَالْقِيَاسُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ. ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْ إدْخَالِهِ فِي الْأُصُولِ بِقِيَامِ الْقَاطِعِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَهَذَا فَرْعٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ قَطْعِيًّا - كَمَا سَيَأْتِي - لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ عِبَارَةٌ عَنْ أَدِلَّةٍ فَقَطْ، سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى الْمَقْطُوعِ بِهِ.

مَسْأَلَةٌ وَالْقِيَاسُ ظَنِّيٌّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الرِّسَالَةِ " فَقَالَ: إنَّهُ حَقٌّ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَ قَائِسِهِ لَا عِنْدَ الْعَامَّةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ حَقًّا فِي الظَّاهِرِ حَتَّى يَلْزَمَ بِظَاهِرِ الْأَدِلَّةِ، وَيَجُوزُ الْخِلَافُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ قَطْعِيًّا لَمْ يَقَعْ فِيهِ خِلَافٌ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ فِي الْفَحْوَى: إنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، مَعَ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ الْقَوْلُ فِيهِ - كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ - وَأَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ عَلَى قَوْلٍ، فَعَلَى هَذَا لَا تَظْفَرُ بِقِيَاسٍ قَطْعِيٍّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا. عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَجْعَلْهُ قِيَاسًا. قُلْت: دَلَالَةُ اللَّفْظِ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ بِهِ مُنْكِرُو الْقِيَاسِ. وَمِمَّنْ أَطْلَقَ ظَنِّيَّةَ الْقِيَاسِ الْإِمَامَانِ الْجُوَيْنِيُّ وَالرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمَا وَحِينَئِذٍ فَيَنْتَهِضُ بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ. قَالَ فِي " الْبُرْهَانِ " لَا يُفِيدُ الْعِلْمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِأَعْيَانِهَا، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ عِنْدَهَا، وَالْعِلْمُ بِوُجُوبِهِ مُسْتَنِدٌ إلَى أَدِلَّةٍ قَاطِعَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الظَّاهِرُ الدَّالُّ عَلَى كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً، فَإِنْ كَانَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَلَكِنْ اقْتَرَنَتْ بِهَا أُمُورٌ مَجْمُوعُهَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، قُلْنَا: هَذَا مُجَرَّدُ دَعْوَى الْقَطْعِ فِي مَوَاضِعِ الظُّنُونِ، وَمُطَالَبَتُهُ بِالدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْمَقْرُونَةِ بِالظَّاهِرِ، وَلَا نَجِدُ إلَى بَيَانِهَا سَبِيلًا أَصْلًا، وَلَوْ أَفَادَ مَا ذَكَرَهُ الْقَطْعَ لَمَا عَجَزَ أَحَدٌ عَنْ دَعْوَى الْقَطْعِ فِي مَوَاضِعِ الظُّنُونِ. وَحَكَى سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِيَاسَ قَطْعِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْحَاكِمِ صِدْقُهُمَا.

مسألة القياس يعمل به قطعا

مَسْأَلَةٌ لَا يُحْكَمُ بِفِسْقِ الْمُخَالِفِ وَإِنْ قُلْنَا دَلِيلُهُ قَطْعِيٌّ، لِأَنَّهُ مُتَأَوَّلٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إنَّهُ يُحْكَمُ بِفِسْقِهِ، حَكَاهُ الْحَلْوَانِيُّ. [مَسْأَلَة الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ قَطْعًا] الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ قَطْعًا عِنْدَنَا فِي نَصِّ الشَّارِعِ: أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَصِّ الْمُجْتَهِدِ، كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى حُكْمٍ، فَهَلْ تُسْتَنْبَطُ الْعِلَّةُ وَيُعَدَّى الْحُكْمُ؟ قَالَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي " كِتَابِ الْقَضَاءِ ": حَكَى وَالِدِي عَنْ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْمَنْعَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ لِأَنَّا تُعُبِّدْنَا وَأُمِرْنَا

بِالْقِيَاسِ، وَالْأَشْبَهُ بِصَنِيعِ الْأَصْحَابِ خِلَافُهُ، أَلَا تَرَاهُمْ يَنْقُلُونَ الْحُكْمَ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ كَذَا وَكَذَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُطَّرِدُ الْحُكْمِ فِي فُرُوعِ عِلَّتِهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّخْرِيجِ. مَسْأَلَةٌ [الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ ابْتِدَاءً] وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يُعْمَلُ بِهِ ابْتِدَاءً، فَأَمَّا النَّسْخُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ فَلَا يَقَعُ وَقَدْ سَبَقَتْ فِي النَّسْخِ. قُلْت: وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ أَثْبَتْنَاهَا بِالظَّنِّيِّ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ، قَالَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي " الْمُرْشِدِ ". مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ. مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهَ بِالْقِيَاسِ مَنْ عَاصَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ مَذْهَبُ الْمُعْظَمِ جَوَازُهُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: يُفْصَلُ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، هَكَذَا

مسألة التعبد بالقياس الشرعي

حَكَى الْخِلَافَ هُنَا ابْنُ بَرْهَانٍ، وَتَابَعَ فِيهِ الْغَزَالِيُّ فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ التَّعَبُّدِ بِالِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِالْقِيَاسِ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ] مَسْأَلَةٌ [التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ] لَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَنُقِلَ عَمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ خِلَافُهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ فِي جَمِيعِ الشَّرْعِيَّاتِ بِالنُّصُوصِ قَالَ: وَمِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى صِفَاتِ الْمَسَائِلِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَدْخُلُ تَفْصِيلُهَا فِيهَا، فَأَمَّا التَّعَبُّدُ فِي جَمِيعِهَا بِالْقِيَاسِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ حَمْلُ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْقِيَاسُ؟ وَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ جَمِيعِهَا بِالْقِيَاسِ فَتَقُولُ: لَيْسَ بِالْقِيَاسِ تَخْصِيصٌ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ جَمِيعُهَا ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ قَالَ: فَعَلَى هَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ ثَبَتَتْ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَخَصَّصُ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ؛ بَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي كُلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ.

مسألة نص الشارع على الحكم والعلة

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ. [مَسْأَلَةٌ نَصُّ الشَّارِعِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ] إذَا نَصَّ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَى حُكْمٍ وَنَصَّ عَلَى عِلَّتِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: حَرُمَتْ الْخَمْرُ لِكَوْنِهَا مُسْكِرًا، أَوْ أَعْتَقْت غَانِمًا لِسَوَادِهِ، هَلْ هُوَ إذَنْ مِنْهُ فِي الْقِيَاسِ أَيْنَمَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى الْقِيَاسِ؟ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالنَّظَّامِ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ مِنْ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ إلَى أَنَّهُ إذْنٌ فِي إلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعِلَّةِ فَائِدَةٌ، وَسَوَاءٌ وَرَدَ ذَلِكَ قَبْلَ ثُبُوتِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ أَوْ بَعْدَ ثُبُوتِهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: وَإِلَيْهِ كَانَ يُشِيرُ شَيْخُنَا يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ " فِي احْتِجَاجِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا ذَلِكَ دَمُ عِرْقٍ فَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ الرُّعَافِ وَنَحْوِهِ، وَصَارَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمِ عِرْقٍ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: وَأَوْجَبَ أَبُو هَاشِمٍ الْقِيَاسَ بِهَا وَإِنَّمَا لَمْ يُرِدْ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ، وَصَارَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِذْنٍ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ. وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَعَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ

وَالْمُتَكَلِّمُونَ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْعِلَّةِ لِتَعْرِيفِ الْبَاعِثِ عَلَى الْحُكْمِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الِاعْتِبَارِ لَا لِأَجْلِ الْإِلْحَاقِ. وَيَقْوَى الْقَوْلُ بِهَذَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى وُجُوبِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا، فَإِنَّ غَايَةَ هَذَا الظَّنُّ. فَإِنْ قِيلَ: النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ فِي نَحْوِ حَرُمَتْ الْخَمْرُ لِشِدَّتِهَا لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ التَّعْمِيمُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ. قُلْنَا: لَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا: مَعْرِفَةُ الْبَاعِثِ كَمَا سَبَقَ. وَمِنْهَا: زَوَالُ الْحُكْمِ عِنْدَ زَوَالِ الْعِلَّةِ كَزَوَالِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ. وَمِنْهَا مَا سَيَأْتِي فِي فَائِدَةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ مِنْ انْقِيَادِ الْمُكَلَّفِ إلَى الِامْتِثَالِ لِظُهُورِ الْمُنَاسِبِ. وَمُرَادُهُمْ بِالدَّلِيلِ تَقَدُّمُ الْإِذْنِ بِالْقِيَاسِ، وَلِهَذَا فَصَّلَ جَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ وَابْنُ مُبَشِّرٍ شَيْخَا الْمُعْتَزِلَةِ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ قَبْلَ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وَلَا يَجُوزُ تَعَدٍّ بِهِ وَإِلَّا جَازَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَفَصَّلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ بَيْنَ إنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ إذْنٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ أَوْ الْوَاجِبِ فَلَا. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا، لَا بِطَرِيقِ اللَّفْظِ وَلَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالْقِيَاسِ. وَهُنَا تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالِاكْتِفَاءِ مُطْلَقًا هُمْ أَكْثَرُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ الْعَامِّ فِي وُجُوبِ

تَعْمِيمِ الْحُكْمِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: حَرُمَتْ الْخَمْرُ لِإِسْكَارِهَا أَوْ حَرُمَتْ عَلَى كُلِّ مُسْكِرٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ. هَذَا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ النَّظَّامِ وَغَيْرِهِ وَمُنْكِرِي الْقِيَاسِ فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ تَسْمِيَةَ هَذَا قِيَاسًا وَإِنْ كَانَ قَائِلًا بِهِ فِي الْمَعْنَى. وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ أَنَّ تَعْمِيمَ مِثْلِ هَذَا هَلْ هُوَ بِالْقِيَاسِ أَوْ الصِّيغَةِ؟ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَمَّمَ بِالْقِيَاسِ: وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: نَقَلَ الْأَكْثَرُونَ عَنْ النَّظَّامِ أَنَّ التَّعْمِيمَ فِيهِ بِالْقِيَاسِ، وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ يَجْرِي تَعْمِيمُ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ بِطَرِيقِ اللَّفْظِ وَالْعُمُومِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَقْلِ الْأَكْثَرِ وَمُنَافٍ لَهُ، فَإِنَّ التَّعْمِيمَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لَا يُجَامِعُ التَّعْمِيمَ بِالْقِيَاسِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِالْقِيَاسِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عِنْدَهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا. قُلْت: وَمَا حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ أَظْهَرُ، لِمَا سَبَقَ عَنْ النَّظَّامِ مِنْ إنْكَارِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: ظَنَّ النَّظَّامُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقِيَاسِ وَقَدْ زَادَ عَلَيْنَا إذْ قَاسَ حَيْثُ لَا يَقِيسُ، لَكِنَّهُ أَنْكَرَ اسْمَ الْقِيَاسِ. انْتَهَى. وَهُوَ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِاللَّفْظِ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُبْطِلَ هَذِهِ الْجِهَةَ مِنْ الْقِيَاسِ. وَقَدْ يَجْمَعُ بَيْنَ إنْكَارِهِ الْقِيَاسَ وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعِلَّةِ فَمَدْلُولُ اللَّفْظِ الْأَمْرُ بِالْقِيَاسِ لُغَةً، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُقُوعِهِ مِنْ الشَّارِعِ أَوْ غَيْرِهِ وَهُنَاكَ أَحَالَ وُرُودَهُ مِنْ الشَّارِعِ لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ: إنَّ الشَّارِعَ لَا يَقَعُ مِنْهُ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَمَدْلُولُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.

مسألة استعمال القياس إذا عدم النص

الثَّانِي: سَبَقَ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ نَقْلُ التَّعْمِيمِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: إذَا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى الْعِلَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلَهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَعُمَّ الْحُكْمُ إذْ لَوْ اخْتَصَّ الْحُكْمُ لَوَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ الْعِلَّةُ، وَوَضْعُ التَّعْلِيلِ يُنَاقِضُهُ الِاخْتِصَاصُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ لِلنَّظَّامِ لَكِنَّ مَأْخَذَهُ خِلَافُ مَأْخَذِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِامْتِنَاعِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ يَرَى أَنَّ النَّصَّ عَلَى التَّعْلِيلِ نَصٌّ عَلَى التَّعْمِيمِ، وَلَكِنَّ هَذَا عِنْدَهُ مِنْ ضَرُورَةِ فَهْمِ التَّعْلِيلِ وَهُوَ يَمْنَعُ النَّصَّ عَلَى التَّعْلِيلِ مَعَ النَّصِّ عَلَى التَّخْصِيصِ. وَيَنْبَغِي تَنْزِيلُ إطْلَاقِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُوَافِقِينَ لِلنَّظَّامِ عَلَى ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ اسْتِعْمَال الْقِيَاسُ إذَا عُدِمَ النَّصُّ] مَسْأَلَةٌ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ الْقِيَاسُ إذَا عُدِمَ النَّصُّ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي آخِرِ " الرِّسَالَةِ ": الْقِيَاسُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقِيَاسُ وَالْخَبَرُ مَوْجُودٌ، كَمَا يَكُونُ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً عِنْدَ الْإِعْوَازِ مِنْ الْمَاءِ، وَلَا يَكُونُ طَهَارَةً إذَا وُجِدَ الْمَاءُ انْتَهَى. وَأَطْلَقَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَجَبَ الْقِيَاسُ فِيهَا وَإِلَّا جَازَ. وَهَلْ يُعْمَلُ بِهِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمَنْصُوصِ وَجَمِيعِ دَلَالَتِهَا؟ لِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ الْعَمَلَ بِهِ قَبْلَ طَلَبِ الْحُكْمِ مِنْ النُّصُوصِ الْمَعْرُوفَةِ، فَيَمْتَنِعُ قَطْعًا.

مسألة المرسل والضعيف أولى من القياس

الثَّانِيَةُ: قَبْلَ طَلَبِ نُصُوصٍ لَا يَعْرِفُهَا مَعَ رَجَاءِ الْوُجُودِ أَوْ طَلَبِهَا فَطَرِيقُهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا جَعَلُوا الْقِيَاسَ ضَرُورَاتٍ بِمَنْزِلَةِ التَّيَمُّمِ، لَا يَعْدِلُ إلَيْهِ إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الْمَاءِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ: وَمَا تَصْنَعُ بِالْقِيَاسِ وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُغْنِيك عَنْهُ؟ ، وَلَهَا شَبَهٌ بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ وُجُودَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ إذَا خَافَ الْفَوْتَ عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَيْأَسُ مِنْ النَّصِّ وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُهُ، فَهَاهُنَا يَجُوزُ قَطْعًا، وَقَدْ سَبَقَ قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ وَالنَّاسِخِ، وَأَنَّهُ إذَا اجْتَهَدَ وَلَمْ يَجِدْ الْمُعَارِضَ عَمِلَ بِهِ، وَيَزِيدُ هُنَا أَنَّهُ هَلْ لَهُ أَنْ يَقِيسَ عَلَيْهِ؟ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: لَا لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِثُبُوتِهِ، وَخَالَفَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " وَهُوَ الْأَظْهَرُ، كَمَا يَجِبُ أَنْ يَقْضِيَ بِظَاهِرِهِ وَهُوَ فَرْعٌ غَرِيبٌ. [مَسْأَلَة الْمُرْسَلُ وَالضَّعِيفُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ] حَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُرْسَلَ وَالضَّعِيفَ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ، وَلَا يَحِلُّ الْقِيَاسُ مَعَ وُجُودِهِ، قَالَ: وَالرِّوَايَةُ عَنْ الصَّاحِبِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ مَعَ نَصِّ الْقُرْآنِ أَوْ خَبَرٍ مُسْنَدٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا عِنْدَ

عَدَمِهِمَا فَإِنَّ الْقِيَاسَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ حُكْمٍ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْقَاضِي وَأَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ، الْمَالِكِيَّانِ: الْقِيَاسُ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَمَا نَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ مُسْلِمٍ يَرَى قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ قَبْلَهُمَا. وَحَكَى الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِ " الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ " عَنْ الْقَاضِي ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْوَفَاءِ بْنَ عَقِيلٍ فِي رِحْلَتِهِ إلَى الْعِرَاقِ يَقُولُ: مَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّ ضَعِيفَ الْأَثَرِ خَيْرٌ مِنْ قَوِيِّ النَّظَرِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذِهِ وَهْلَةٌ مِنْ أَحْمَدَ لَا تَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ، فَإِنَّ ضَعِيفَ الْأَثَرِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ مُطْلَقًا. وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا مَا حَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلِهِ. وَمُرَادُهُ بِالضَّعِيفِ غَيْرُ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ قِسْمِ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ، بَلْ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ قِسْمَانِ: صَحِيحٌ وَضَعِيفٌ، وَالضَّعِيفُ مَا انْحَطَّ عَلَى دَرَجَةِ الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ حَسَنًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ يُعْمَلُ بِهِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فِي صُوَرٍ: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ النَّصُّ عَامًّا وَالْقِيَاسُ خَاصًّا، وَقُلْنَا بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ: إنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ، فَالْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْقِيَاسِ ثَبَتَ بِنَصٍّ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ النَّصِّ الْمُعَارِضِ وَقَطَعَ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى النَّصِّ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ النَّصُّ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا.

الباب الرابع في أنواع القياس

[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ] الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَنْوَاعِهِ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَدْ قَسَّمَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ إلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى. النَّوْعُ الْأَوَّلُ قِيَاسُ الْعِلَّةِ وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَ الْفَرْعَ عَلَى الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ الَّتِي عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَيْهَا فِي الشَّرْعِ، وَيُسَمَّى " قِيَاسُ الْمَعْنَى ". وَيَنْقَسِمُ إلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ. فَأَمَّا " الْجَلِيُّ " فَمَا عُلِمَ مِنْ غَيْرِ مُعَانَاةٍ وَفِكْرٍ. " وَالْخَفِيُّ "، مَا لَا يَتَبَيَّنُ إلَّا بِإِعْمَالِ فِكْرٍ. وَالْجَلِيُّ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَنَاهَى فِي الْجَلَاءِ حَتَّى لَا يَجُوزَ وُرُودُ الشَّرِيعَةِ فِي الْفَرْعِ عَلَى خِلَافِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَنَحْوِهِ.

أقسام القياس الجلي

وَثَانِيهِمَا: دُونَهُ، كَقَوْلِهِ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» هَذَا كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ. وَقَسَّمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ قِيَاسَ الْعِلَّةِ إلَى: جَلِيٍّ وَوَاضِحٍ وَخَفِيٍّ قَالَ: " فَالْجَلِيُّ " مَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ قَطْعًا إمَّا نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ. وَ " الْوَاضِحُ " مَا ثَبَتَتْ عِلَّتُهُ بِضَرْبٍ مِنْ الظَّاهِرِ وَ " الْخَفِيُّ " مَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ بِالِاسْتِنْبَاطِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: الْجَلِيُّ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ فِي الْفَرْعِ زَائِدًا عَلَى مَعْنَى الْأَصْلِ وَالْخَفِيُّ مَا يَكُونُ فِي الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِمَعْنَى الْأَصْلِ. [أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ] ثُمَّ قَسَمَا الْجَلِيَّ - تَبَعًا لِلْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَغَيْرِهِ - إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ قَالَا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ فِيهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ بِالْبَدِيهَةِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ قِيَاسًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ التَّأْفِيفَ وَيُبِيحَ الضَّرْبَ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَازِيَ عَلَى قَلِيلِ الطَّاعَةِ وَلَا يُجَازِيَ عَلَى كَبِيرِهَا، وَيُعَاقِبَ عَلَى قَلِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا يُعَاقِبَ عَلَى كَبِيرِهَا. قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: حُكْمُ ذَرَّةٍ وَنِصْفٍ بِمَنْزِلَةِ ذَرَّةٍ. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا حَتَّى لَا يَقُولَ مَبْهُوتٌ: إنَّ الْكَثِيرَ ذَرَّاتٌ فَالِاسْمُ مُتَنَاوِلٌ لَهَا. يُشِيرُ إلَى مَا حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ

فِي مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ لِابْنِ سُرَيْجٍ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد إذْ قَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنْتَ تَلْزَمُ الظَّاهِرَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّتَيْنِ؟ فَقَالَ مُجِيبًا: الذَّرَّتَانِ ذَرَّةٌ وَذَرَّةٌ فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَوْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَنِصْفٍ فَتَبَلَّدَ وَظَهَرَ انْقِطَاعُهُ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا يُسَمَّى هَذَا قِيَاسًا. قُلْت: لِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ بِاللَّفْظِ، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ " مَفْهُومُ الْخِطَابِ " وَقِيلَ " فَحْوَى الْخِطَابِ ". قَالُوا: وَالْقِيَاسُ مَا خَفِيَ حُكْمُ الْمَنْطُوقِ عَنْهُ حَتَّى عُرِفَ بِالِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَمَا خَرَجَ عَنْ الْخَفَاءِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلَيْسَ بِقِيَاسٍ. وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: لَيْسَ بِقِيَاسٍ بَلْ نَصٌّ. وَقِيلَ: تَنْبِيهٌ وَضَعْفٌ، لِأَنَّ النَّصَّ مَا عُرِفَ " حُكْمُ مَرَاتِبِهِ " وَالْقِيَاسُ مَا عُرِفَ حُكْمُهُ مِنْ اسْمِ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ لِأَنَّ اسْمَ التَّأْفِيفِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الضَّرْبِ كَمَا لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ، فَتَحْرِيمُ الضَّرْبِ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى التَّأْفِيفِ لَا مِنْ اسْمِهِ، فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا فَقَدْ خَالَفُوا فِي الِاسْمِ، فَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ فِي الْوُضُوحِ وَالْغُمُوضِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهَا نُصُوصًا، فَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي فِي الْخَفَاءِ، وَالْجَلَاءُ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ قِيَاسًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مِنْ الْقِيَاسِ أَقْرَبُ وُجُوهِهِ إلَى النُّصُوصِ لِدُخُولِ فَرْعِهَا فِي النَّصِّ. الثَّانِي: مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ، كَالنَّهْيِ عَنْ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ وَالْعَمْيَاءِ وَالْعَرْجَاءِ، فَالْعَمْيَاءُ أَوْلَى قِيَاسًا عَلَى الْعَوْرَاءِ، وَالْقَطْعَاءُ عَلَى الْعَرْجَاءِ، لِأَنَّ نَقْصَهَا أَكْثَرُ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ التَّعَبُّدَ بِخِلَافِ أَصْلِهِ، وَإِنْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِإِبَاحَةِ الْعَمْيَاءِ وَالْقَطْعَاءِ مَعَ تَحْرِيمِ الْعَرْجَاءِ وَالْعَوْرَاءِ.

وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ، فَاقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ النَّصِّ وَأَبَاحَ مَا عَدَاهُ، فَأَبَاحَ التَّضْحِيَةَ بِالْعَمْيَاءِ وَالْقَطْعَاءِ، وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بِالتَّنْبِيهِ دُونَ النَّصِّ. وَالثَّالِثُ: مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِاسْتِدْلَالٍ ظَاهِرٍ، كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ، وَقِيَاسِ الْعَبْدِ عَلَيْهَا فِي تَنْصِيفِ حَدِّ الْقَذْفِ، وَقِيَاسِ النِّكَاحِ عَلَى الْبَيْعِ فِي تَحْرِيمِهِ عِنْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ. وَفِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، وَهَذِهِ الضُّرُوبُ الثَّلَاثَةُ يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهَا الْإِجْمَاعُ وَيُنْقَضُ بِهَا حُكْمُ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْحُكَّامِ انْتَهَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ نَحْوَ مَا سَبَقَ: قَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْوُجُوهِ قِيَاسًا، وَحَكَى فِي " الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ " أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى هَذَا قِيَاسًا لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا اُحْتُمِلَ فِيهِ شَبَهٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، فَنَقِيسُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَيَقُولُ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَا عَدَا النَّصَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَانَ مَعْنَاهُ فَهُوَ قِيَاسٌ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا حَكَاهُ فِيهَا أَنَّ مَا فُهِمَ مِنْ الْمَعْنَى فَهُوَ نَصٌّ وَلَا أَنَّهُ مَفْهُومُ مَعْنَى الِاسْمِ انْتَهَى. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْقَسْمِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْحُكْمِ؟ قُلْنَا: سَبَقَ فِي بَحْثِ الْمَفْهُومِ لَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا فِي فَرْعٍ مِنْ الْفُرُوعِ وُجُودَ نَصٍّ يُشْعِرُ بِنَقِيضِ الْحُكْمِ فَهَلْ يَتَعَارَضَانِ أَوْ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؟ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ اللَّفْظِ قَالَ: فَيَتَعَارَضَانِ.

أقسام القياس الخفي

[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ] وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْخَفِيِّ فَقَسَّمَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَيْضًا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا خَفِيَ مَعْنَاهُ فَلَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَائِحًا، وَتَارَةً يَكُونُ الِاسْتِدْلَال مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ فَكَانَتْ عَمَّاتُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فِي التَّحْرِيمِ قِيَاسًا عَلَى الْأُمَّهَاتِ، لِاشْتِرَاكِهِنَّ فِي الرَّحِمِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ فِي صِغَرِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَكَانَتْ نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ عَجْزِهِمَا فِي كِبَرِهِمَا قِيَاسًا عَلَى نَفَقَةِ الْوَلَدِ لِصِغَرِهِ. وَالْمَعْنَى فِي هَذَا الضَّرْبِ لَائِحٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْخَفِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ مِنْ ضُرُوبِ الْجَلِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِمِثْلِهِ، وَهَلْ يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ؟ وَجْهَانِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ غَامِضًا لِلِاسْتِدْلَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، كَتَعْلِيلِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِالْقُوتِ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَأْكُولٍ، فَهَذَا لَا يُنْتَقَضُ فِيهِ الْحُكْمُ وَلَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ. الثَّالِثُ: مَا يَكُونُ شَبَهًا وَهُوَ مَا احْتَاجَ فِي نَصِّهِ وَمَعْنَاهُ إلَى اسْتِدْلَالٍ كَاَلَّذِي «قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ» ، يُعْرَفُ بِالِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْخَرَاجَ هُوَ النَّفَقَةُ، وَأَنَّ الضَّمَانَ هُوَ ضَمَانُ النَّفَقَةِ ثُمَّ عُرِفَ مَعْنَى النَّفَقَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ فَتَقَابَلَتْ الْمَعَانِي بِالِاخْتِلَافِ فِيهَا، فَمَنْ مُعَلِّلٌ لَهَا بِأَنَّهَا آثَارٌ فَلَمْ يَجْعَلْ الْمُشْتَرِيَ إذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ مَالِكًا لِلْأَعْيَانِ مِنْ الثِّمَارِ وَالنِّتَاجِ، وَمَنْ مُعَلِّلٌ بِأَنَّهَا مَا خَالَفَتْ أَجْنَاسَ أُصُولِهَا فَجَعَلَ مَالِكًا لِلثِّمَارِ دُونَ النِّتَاجِ، وَعَلَّلَهَا الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهَا مَا يَجْعَلُ مَالِكًا لِكُلِّ ثِمَارٍ مِنْ ثِمَارٍ وَنِتَاجٍ، فَمِثْلُ هَذَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ فِي حُكْمِ أَصْلِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ فِي مَعْنَاهُ، وَلَا يُقْضَى بِقِيَاسِ حُكْمِهِ، وَلَا يُخَصُّ بِهِ عُمُومٌ وَهُوَ أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ.

مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُشَابَهَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ فِي الْقِيَاسِ تَمَامُ الْمُشَابَهَةِ، وَلَا يُكْتَفَى بِأَدْنَاهَا، بَلْ يُعْتَبَرُ مَا يُشِيرُ إلَى الْمَأْخَذِ. النَّوْعُ الثَّانِي قِيَاسُ الشَّبَهِ قَالَا: وَهُوَ مَا أُخِذَ حُكْمُ فَرْعِهِ مِنْ شَبَهِ أَصْلِهِ، وَقَالَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هُوَ مَا تَجَاذَبَهُ الْأُصُولُ فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ شَبَهًا، وَسَمَّاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ " قِيَاسَ الدَّلَالَةِ " وَفَسَّرَهُ بِأَنْ يُحْمَلَ الْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ بِضَرْبٍ مِنْ الشَّبَهِ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي عُلِّقَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا فِي الشَّرْعِ قَالَ: وَهَذَا الضَّرْبُ لَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ إلَّا بِاسْتِدْلَالِ الْأُصُولِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُسْتَدَلَّ بِثُبُوتِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ عَلَى ثُبُوتِ الْفَرْعِ، ثُمَّ رُدَّ إلَى أَصْلٍ، كَاسْتِدْلَالِنَا عَلَى سُجُودِ التِّلَاوَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، بِأَنَّ سُجُودَهَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُسْتَدَلَّ بِحُكْمٍ يُشَاكِلُ حُكْمَ الْفَرْعِ وَيَجْرِي مَجْرَاهُ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ، ثُمَّ يُقَاسُ عَلَى أَصْلٍ، كَقَوْلِنَا فِي ظِهَارِ الذِّمِّيِّ: صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، فَيَصِحُّ ظِهَارُهُ، فَصِحَّةُ قِيَاسِ الطَّلَاقِ عَلَى صِحَّةِ الظِّهَارِ لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَوْلِ وَيَخْتَصَّانِ بِالزَّوْجَةِ، فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ الْآخَرِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُحْمَلَ الْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ بِضَرْبٍ مِنْ الشَّبَهِ، كَقِيَاسِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ. لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُخَاطَبٌ مُثَابٌ مُعَاقَبٌ، فَمُلِّكَ كَالْحُرِّ.

قَالَ: فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يُسَمَّى " قِيَاسُ الشَّبَهِ " وَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ، لِأَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَبَا مُوسَى بِاعْتِبَارِهِ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ رَدُّ الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ بِالشَّبَهِ لَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ كُلُّ قِيَاسٍ لِأَنَّهُ مَا مِنْ فَرْعٍ إلَّا وَيُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى أَصْلٍ بِضَرْبٍ مِنْ الشَّبَهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ ": اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَهُوَ تَرَدُّدُ الْفَرْعِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ لِشَبَهِ أَحَدِهِمَا فِي ثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ وَالْآخَرِ مِنْ وَصْفَيْنِ فَقِيلَ: صَحِيحٌ، وَلِلشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ " الرِّسَالَةِ " وَأَوَاخِرِهَا. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ، وَتَأَوَّلَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنْ يُرَجَّحَ بِهِ قِيَاسٌ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً؟ عَلَى قَوْلَيْنِ قَالَ: وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قِيَاسُ الشَّبَهِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّبَهَ يُعْتَبَرُ فِي الصُّورَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجِنَايَاتِ إنَّ الْعَبْدَ إذَا جُنِيَ عَلَيْهِ اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ بِالْحُرِّ لِوُقُوعِهِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبَهِيمَةُ، لِأَنَّهُ سِلْعَةٌ فَيَتَصَرَّفُ فِيهَا. وَالثَّانِي: الْحُرُّ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُتَعَبَّدٌ. وَقِيلَ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصِحُّ حَتَّى تُسْتَخْرَجَ الْعِلَّةُ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَيُؤْخَذُ فِي الْفَرْعِ أَكْثَرُ الْأَوْصَافِ، فَيُلْحَقُ حُكْمُهُ بِحُكْمِ ذَاكَ الْأَصْلِ، وَهَذَا لَا يُنْقَضُ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ

عِلَّةٌ أُخْرَى تُوجِبُ التَّحْلِيلَ بِهَا خَمْسَةُ أَوْصَافٍ، وَعِلَّةٌ تُوجِبُ التَّحْرِيمَ بِهَا خَمْسَةُ أَوْصَافٍ فَيُوجَدُ فِيهَا مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ الْمُبِيحَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُحَرِّمَةِ فَيُلْحَقُ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ شَبَهًا. فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ لَوْ تَسَاوَى الْجَرَيَانُ فِي الْأَصْلَيْنِ وَتَسَاوَتْ الْأَوْصَافُ؟ قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: يَتَوَقَّفُ فِيهِ لِأَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا أَشْبَهُ مِنْ الْأَوَّلِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةً فَتَتَّحِدُ بِهَا فَتَقُومُ الدَّلَالَةُ عَلَى إلْحَاقِهَا بِأَحَدِ الْأُصُولِ هُوَ الْأَشْبَاهُ. انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذِكْرُ " قِيَاسُ عِلَّةِ الْأَشْبَاهِ " فَقِيلَ هُوَ قَسِيمُ " قِيَاسُ الْعِلَّةِ " وَقِيلَ هُوَ " قِيَاسُ الْعِلَّةِ " إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ كَثْرَةَ الْأَشْبَاهِ تَرْجِيحًا لِلْعِلَّةِ وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ قَالَ: وَحَكَى أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ كَانَ يَقُولُ: إنَّ غَلَبَةَ الْأَشْبَاهِ هِيَ الْعِلَّةُ وَإِنَّ الْأَشْبَاهَ ثَلَاثَةٌ مَا حُكِمَ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ وَلَهُ وَصْفَانِ، وَمَا حُكِمَ فِيهِ بِالتَّحْلِيلِ وَلَهُ وَصْفٌ وَاحِدٌ وَوَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا لَمْ يُحْكَمْ فِيهِ بِشَيْءٍ. قَالَ: فَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَهُمَا كَانَ رَدُّهُ إلَى أَشْبَهِهِمَا أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى أَبْعَدِهِمَا مِنْهُ فِي الشَّبَهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ عِلَّةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ رَدَّهَا إلَى مَا هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى مَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَا الَّذِي كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَنْكَرَ الْقِيَاسَ عَلَى شَبَهٍ لَمْ يَعْتَبِرْ كَوْنَهُ عِلَّةً وَقَالَ الْخَفَّافُ فِي " الْخِصَالِ ": عِلَّةُ غَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ صَحِيحَةٌ، وَالْحُكْمُ بِهَا جَائِزٌ إذَا كَانَتْ عِلَّةَ مَا وَصَفْنَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ فِيهَا مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَخْرَجَةِ. وَأَمَّا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فَفَسَّرَا قِيَاسَ الشَّبَهِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَقَسَمَاهُ إلَى نَوْعَيْنِ: قِيَاسُ تَحْقِيقٍ يَكُونُ الشَّبَهُ فِي أَحْكَامِهِ، وَقِيَاسُ تَقْرِيبٍ يَكُونُ الشَّبَهُ فِي أَوْصَافِهِ. وَقِيَاسُ التَّحْقِيقِ مُقَابِلٌ لِقِيَاسِ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ وَإِنْ ضَعُفَ عَنْهُ.

(الْأَوَّلُ) قِيَاسُ التَّحْقِيقِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَرَدَّدَ حُكْمُ فَرْعٍ بَيْنَ أَصْلَيْنِ فَيَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إلَى أَحَدِهِمَا وَلَا يَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إلَى الْآخَرِ، فَيَرُدُّهُ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَا يَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ شَبَهًا دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ شَبَهًا، كَالْعَبْدِ يُمَلَّكُ، يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَالْحُرِّ فَلَمَّا انْتَقَضَ رَدُّهُ إلَى الْمِيرَاثِ حَيْثُ لَمْ يُمَلَّكْ بِهِ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْبَهِيمَةِ لِسَلَامَتِهِ مِنْ النَّقْضِ، وَإِنْ كَانَ شَبَهُهُ بِالْأَحْرَارِ أَكْثَرَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ، فَيَسْلَمُ مِنْ النَّقْضِ رَدَّهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ أَكْثَرُ شَبَهًا، مِثْلُ أَنْ يُشْبِهَ أَحَدَهُمَا مِنْ وَجْهٍ وَالْآخَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَوْ أَحَدَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ وَالْآخَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَيُرَدُّ إلَى الْأَكْثَرِ. مِثَالُهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى طَرَفِ الْعَبْدِ فَيُرَدِّدُهُ بَيْنَ رَدِّهِ إلَى الْحُرِّ وَإِلَى الْبَهِيمَةِ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْبَهِيمَةَ فِي أَنَّهُ مَمْلُوكٌ، وَيُوَرَّثُ عَيْنُهُ، وَيُشْبِهُ الْحُرَّ فِي أَنَّهُ آدَمِيٌّ مُخَاطَبٌ مُكَلَّفٌ يَجِبُ فِي قَتْلِهِ الْقَوَدُ وَالْكَفَّارَةُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْحُرِّ فِي تَقْدِيرِ أَرْشِ طَرَفِهِ دُونَ الْبَهِيمَةِ لِكَثْرَةِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَتَرَدَّدَ حُكْمُ الْفَرْعِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الصِّفَتَيْنِ، وَيُوجَدُ فِي الْفَرْعِ بَعْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصِّفَتَيْنِ وَالْأَقَلُّ مِنْ الْأُخْرَى، فَيَجِبُ رَدُّهُ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي فِيهِ أَكْثَرُ صِفَاتِهِ، مِثَالُهُ ثُبُوتُ الرِّبَا فِي السَّقَمُونْيَا، لِمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْخَشَبِ فِي الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغِذَاءٍ، وَبَيْنَ الطَّعَامِ فِي التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ، فَكَانَ رَدُّهُ إلَى الْغِذَاءِ فِي التَّحْرِيمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غِذَاءً أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى الْخَشَبِ فِي الْإِبَاحَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غِذَاءً لِأَنَّ الْأَكْلَ أَغْلَبُ صِفَاتِهِ. الثَّانِي: قِيَاسُ التَّقْرِيبِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: تَرَدُّدُ الْفَرْعِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ صِفَةً، وَقَدْ جَمَعَ الْفَرْعُ مَعْنَى الْأَصْلِ فَيَرْجِعُ فِي الْفَرْعِ إلَى أَغْلِبْ الصِّفَتَيْنِ، مِثَالُهُ فِي الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مَعْلُولًا بِالْبَيَاضِ وَالْآخَرُ مَعْلُولًا بِالسَّوَادِ، وَيَكُونَ الْفَرْعُ جَامِعًا بَيْنَ

السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَيُعْتَبَرُ بِحَالِهِ، فَإِنْ كَانَ بَيَاضُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَوَادِهِ رُدَّ إلَى الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ بِالْبَيَاضِ وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّوَادِ فِيهِ تَأْثِيرٌ، وَإِنْ كَانَ سَوَادُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَيَاضِهِ رُدَّ إلَى الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ بِالسَّوَادِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَيَاضِ فِيهِ تَأْثِيرٌ، وَمِثَالُهُ فِي الشَّرْعِ الشَّهَادَاتُ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا بِقَبُولِ الْعَدْلِ وَرَدِّ الْفَاسِقِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يُمْحِضُ الطَّاعَةَ حَتَّى لَا يَشُوبَهَا شَيْءٌ وَيَخْرِمَهَا، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَغْلَبِ فِي حَالَتَيْهِ: فَإِنْ كَانَتْ الطَّاعَاتُ أَغْلَبَ حُكِمَ بِعَدَالَتِهِ، أَوْ الْمَعَاصِي أَغْلَبَ حُكِمَ بِفِسْقِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا الضَّرْبُ لَا يُسَمَّى قِيَاسًا، لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا اُسْتُخْرِجَ عِلَّةُ فَرْعِهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَهَذَا قَدْ اُسْتُخْرِجَ عِلَّةُ أَصْلِهِ مِنْ فَرْعِهِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مَعْنَى الْأَصْلِ مَوْجُودًا بِكَمَالِهِ مِنْ الْفَرْعِ، فَإِذَا وَجَدَ بَعْضَ أَوْصَافِهِ لَا يَصِحُّ إلْحَاقُهُ بِهِ. وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ صِفَةَ الْعِلَّةِ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ الْفَرْعِ وَحُكْمُ الْعِلَّةِ مُسْتَخْرَجٌ مِنْ الْأَصْلِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَوْضُوعٌ بِحُكْمِ الْعِلَّةِ دُونَ صِفَتِهَا. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ فِي الْمَاءِ الْمُطْلَقِ: إذَا خَالَطَهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ نُظِرَ: إنْ كَانَ الْمَاءُ أَكْثَرَ حَكَمْنَا لَهُ بِالتَّطْهِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ، وَإِنْ كَانَ مَاءُ الْوَرْدِ أَكْثَرَ حَكَمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهَّرٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ طَهُورٌ، وَأَنَّ الْحَادِثَةَ أَشْبَهَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَوْصَافِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ حُكْمِهَا، وَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِغَيْرِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِمَا لَا يُشْبِهُهَا وَتَرْكُهُ مَا يُشْبِهُهَا، وَلَا إلْحَاقُهُ بِهِمَا لِتَضَادِّهِمَا فَكَانَ أَكْثَرُهَا شَبَهًا أَوْلَى. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: هَذَا النَّوْعُ فِي الْقِيَاسِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يُقَاسُ عَلَى مَا يَلْحَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَا يَخْلُو الْوَصْفُ الَّذِي أَشْبَهَ الْأَصْلَ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الْأَصْلِ، أَوْ لَيْسَ بِعِلَّةٍ، فَإِنْ كَانَ عِلَّةً فَهُوَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ لَا قِيَاسُ الشَّبَهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ بِغَيْرِ عِلَّةٍ قَالَ: وَمَعْنَى هَذَا عِنْدَك إذَا تَرَدَّدَ فَرْعٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَقَاسَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ

مِنْ الْأَصْلَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ بِعِلَّةٍ ظَاهِرُهَا الصِّحَّةُ يَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ لِتَغْلِيبِ أَحَدِ الْأَوْصَافِ لِكَثْرَةِ الشَّبَهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّرْجِيحِ. الثَّانِي: أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الصِّفَتَيْنِ، وَالصِّفَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي الْفَرْعِ، وَصِفَةُ الْفَرْعِ تُقَارِبُ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَإِنْ خَالَفَتْهَا. مِثَالُهُ فِي الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَصْلَيْنِ مَعْلُولًا بِالْبَيَاضِ، وَالْآخَرُ بِالسَّوَادِ، وَالْفَرْعُ أَخْضَرُ لَا أَبْيَضُ وَلَا أَسْوَدُ، فَرُدَّ إلَى أَقْرَبِ الْأَصْلَيْنِ شَبَهًا بِصِفَتَيْهِ وَالْخُضْرَةُ أَقْرَبُ إلَى السَّوَادِ، وَمِثَالُهُ فِي الشَّرْعِ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَلَيْسَ الْمِثْلُ مِنْ النَّعَمِ شَبِيهًا بِالصَّيْدِ فِي جَمِيعِ أَوْصَافِهِ وَلَا مُنَافِيًا لَهُ فِي جَمِيعِهَا، فَاعْتُبِرَ فِي الْجَزَاءِ أَقْرَبُ الشَّبَهِ بِالصَّيْدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ قِيَاسًا، لِأَنَّ الْقِيَاسَ: مَا وُجِدَتْ أَوْصَافُ أَصْلِهِ فِي فُرُوعِهِ، وَأَوْصَافُ الْأَصْلِ فِي هَذَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فِي الْفَرْعِ، فَصَارَ قِيَاسًا بِغَيْرِ عِلَّةٍ. وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْحَادِثَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حُكْمٍ، وَالْحُكْمُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الْإِجْمَاعِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا لَمْ يَبْقَ لَهَا أَصْلٌ غَيْرُ الْقِيَاسِ كَمَا فِي أَقْرَبِهِمَا شَبَهًا بِأَصْلٍ هُوَ عِلَّةُ الْقِيَاسِ. وَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا اجْتِهَادًا مَحْضًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ قِيَاسًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَالْفَرْعُ جَامِعٌ لِصِفَتَيْ الْأَصْلَيْنِ وَأَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْفَرْعِ دُونَ الْآخَرِ. وَمِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مِنْ الطَّهَارَةِ، وَأَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالثَّانِي مِنْ الطَّهَارَةِ. فَيَكُونُ رَدُّهُ إلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ لِمُجَانَسَتِهِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ. ثُمَّ قَالَا: وَهَاهُنَا قِسْمٌ رَابِعٌ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُرُودِهِ، وَهُوَ أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ فِيهِ شَبَهُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ، وَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، فَمَنَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ وُجُودِهِ وَأَحَالَ تَكَافُؤَ الْأَدِلَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِمَا لَمْ يُوصِلْهُمْ إلَى عِلْمِهِ، وَلَكِنْ رُبَّمَا خَفِيَ

عَلَى الْمُسْتَدِلِّ لِقُصُورِهِ فِي الِاجْتِهَادِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ عَدَلَ إلَى الْتِمَاسِ حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ الْقِيَاسِ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى جَوَازِ وُجُودِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَدِلَّةِ غَامِضَةٌ لِمَا عُلِمَ فِيهَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُتَكَافِئَةٌ لِمَا رَآهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ مَعَ التَّكَافُؤِ. فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَا تَكَافَأَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ، وَتَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ حَاظِرٍ وَمُبِيحٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُجْتَهِدُ بِالْخِيَارِ فِي رَدِّهِ إلَى أَيِّ الْأَصْلَيْنِ شَاءَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُرِدْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَنَصَبَ عَلَى مُرَادِهِ مِنْهُمَا دَلِيلًا. وَالثَّانِي: يَرُدُّهُ إلَى أَغْلَظِ الْأَصْلَيْنِ حُكْمًا وَهُوَ الْحَظْرُ دُونَ الْإِبَاحَةِ احْتِيَاطًا، لِأَنَّ أَصْلَ التَّكْلِيفِ مَوْضُوعٌ لِلتَّغْلِيظِ. قَالَا: فَصَارَ أَقْسَامُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا شَرَحْنَا اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا: سِتَّةٌ مِنْهَا مُخْتَصَّةٌ بِقِيَاسِ الْمَعْنَى، مِنْهَا ثَلَاثَةٌ فِي الْخَفِيِّ. وَسِتَّةٌ مُخْتَصَّةٌ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ، مِنْهَا ثَلَاثَةٌ فِي قِيَاسِ التَّحْقِيقِ، وَثَلَاثَةٌ فِي قِيَاسِ التَّقْرِيبِ. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ بِمَا حَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ مِنْ غَيْرِ بِنَاءِ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ قَالَ: قَدْ ثَبَتَ أُصُولٌ مُعَلَّلَةٌ اتَّفَقَ الْقَائِسُونَ عَلَى عِلَلِهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحَدُّ فِي تِلْكَ الْأُصُولِ مَعْنَوِيٌّ، وَجَعَلَ الِاسْتِدْلَالَ قَرِيبَةً مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَعْيَانِهَا حَتَّى كَأَنَّهَا أُصُولٌ مُعْتَمَدَةٌ مَثَلًا، وَالِاسْتِدْلَالُ مُعْتَبَرٌ بِهَا، وَاعْتِبَارُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى تَقْرِيبًا أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ صُورَةٍ بِصُورَةٍ لِمَعْنًى جَامِعٍ. ثُمَّ مَثَّلَ الْإِمَامُ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ وَطْءِ الرَّجْعِيَّةِ بِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهَا مُتَرَبِّصَةٌ فِي تَبْرِئَةِ الرَّحِمِ وَتَسْلِيطُ الزَّوْجِ عَلَى رَحِمِهَا فِي الزَّمَانِ الَّذِي تُؤْمَرُ فِيهِ بِالتَّرَبُّصِ لِلتَّبْرِئَةِ تَنَاقُضُ، وَهَذَا مَعْنًى

مَعْقُولٌ. وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ تَرَبَّصَتْ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَاعْتَزَلَهَا الزَّوْجُ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ عِنْدَهُ، وَلَوْ طَلَبَ الشَّافِعِيُّ لِهَذَا أَصْلًا لَمْ يَجِدْهُ، وَلَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْقَوَاعِدِ. وَمَنْ قَاسَ الرَّجْعِيَّةَ عَلَى الْبَائِنِ لَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُخَالِفَ يَقُولُ: الْبَيْنُونَةُ هِيَ الْمُسْتَقِلَّةُ بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَالرَّجْعِيَّةُ لَيْسَتْ مِثْلَهَا. النَّوْعُ الثَّالِثُ قِيَاسُ الْعَكْسِ وَهُوَ إثْبَاتُ نَقِيضِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، كَذَا عَرَّفَهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " " وَالْأَحْكَامِ " وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: إنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْعَكْسِ الْمُلَازِمَةِ الثَّابِتَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: الْمَلْزُومُ نَقِيضُ الْمَطْلُوبِ، وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمُلَازَمَةِ الْقِيَاسُ، كَقَوْلِنَا: لَوْ لَمْ تَجِبْ أَوَّلًا عَلَى الصَّبِيِّ لَمَا وَجَبَتْ عَلَى الْبَالِغِ، قِيَاسًا عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ إجْمَاعًا فَيَنْتَفِي الْمَلْزُومُ. انْتَهَى وَقَدْ وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتِعْمَالُ هَذَا النَّوْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ يَعْنِي: أَكَانَ يُعَاقَبُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَهْ يَعْنِي: أَنَّهُ إذَا وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ يَأْثَمُ، كَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ» فَقَدْ

جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقِيضَ حُكْمِ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ وَهُوَ الْإِثْمُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْوَطْءُ الْحَرَامُ، لِافْتِرَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ وَهُوَ كَوْنُ هَذَا مُبَاحًا وَهَذَا حَرَامًا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا فَقِيلَ: إنَّهُ قِيَاسٌ حَقِيقَةً، وَقَالَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " هُوَ قِيَاسٌ مَجَازًا، وَقِيلَ: لَا يُسَمَّى قِيَاسًا، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ "، لِأَنَّ غَايَتَهُ تُمْسِكُ بِنَظْمِ التَّلَازُمِ وَإِثْبَاتٌ لِإِحْدَى مُقَدِّمَتِهِ بِالْقِيَاسِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " الْمُلَخَّصِ " أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - احْتَجَّ بِهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي إبْطَالِ عِلَّتِهِ فِي الرِّبَا فِي الْأَثْمَانِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الْفِضَّةُ وَالْحَدِيدُ يَجْمَعُهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا لَمْ يَجُزْ اسْتِلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ لَوْ جَمَعَهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَجُزْ اسْتِلَامُ. أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، فَلَمَّا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ اسْتِلَامُ الْفِضَّةِ فِي الْحَدِيدِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، " وَأَصَحُّهُمَا " وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَصِحُّ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْعَكْسِ اسْتِدْلَالٌ بِقِيَاسِ مَدْلُولٍ عَلَى صِحَّتِهِ بِالْعَكْسِ، وَإِذَا صَحَّ الْقِيَاسُ فِي الطَّرْدِ وَهُوَ غَيْرُ مَدْلُولٍ عَلَى صِحَّتِهِ فَلَأَنْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِالْعَكْسِ وَهُوَ قِيَاسُ مَدْلُولٍ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ بِالْعَكْسِ فَقَالَ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِهِ بِالْعَكْسِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . قُلْت: وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْمُخْتَصَرِ " فَقَالَ فِي زَكَاةِ الْخُلْطَةِ: وَلَمَّا لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا إذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ خُلَطَاءَ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أُخِذَتْ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ فَصَدَّقُوا صَدَقَةَ الْوَاحِدِ فَنَقَصُوا الْمَسَاكِينَ شَاتَيْنِ مِنْ مَالِ الْخُلَطَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَوْ تَفَرَّقَ مَا لَهُمْ كَانَ فِيهِمْ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ

يَقُولُوا لَوْ كَانَتْ أَرْبَعُونَ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمْ شَاةٌ لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا الْخُلَطَاءَ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ. انْتَهَى فَقَاسَ وُجُوبَ وَاحِدَةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ لِثَلَاثَةٍ خُلَطَاءَ عَلَى سُقُوطِ اثْنَتَيْنِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ لِثَلَاثَةٍ خُلَطَاءَ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ " مُنَاظَرَةً جَرَتْ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: لَا قَوَدَ عَلَى مَنْ شَارَكَ الصَّبِيَّ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: فَأَوْجِبْ الْقَوَدَ عَلَى مَنْ شَارَكَ الْأَبَ لِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ، وَإِذَا لَمْ تُوجِبْ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ فَهُوَ تَرْكٌ لِأَصْلِك. قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: هَذَا السُّؤَالُ لَا يَلْزَمُ مُحَمَّدًا، لِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَّلَ بِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ، فَنَقِيضُهُ أَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ شَارَكَ مَنْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ وَمَعَ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، فَأَمَّا مَنْ شَارَكَ الْأَبَ فَهُوَ عَكْسُ عِلَّتِهِ، لِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذَا، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هَذَا يَلْزَمُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عِلَّةٌ لِلْأَعْيَانِ، وَعِلَّةٌ لِلْجِنْسِ، فَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ لِلْأَعْيَانِ انْقَضَتْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ وَلَا حُكْمَ كَقَوْلِك: لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ، فَالنَّقْضُ أَنْ يُوجَدَ مُرْتَدٌّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ. وَالثَّانِيَةُ عِلَّةُ الْجِنْسِ فَهَذِهِ تُنْقَضُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ وَلَا حُكْمَ، وَأَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ وَلَا عِلَّةَ، كَقَوْلِك: عِلَّةُ الْقَتْلِ الْقَتْلُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا قَتْلَ إلَّا بِقَتْلٍ، فَهَذِهِ تُنْقَضُ بِمَا قُلْنَاهُ: إنْ قَتَلَ بِغَيْرِ قَتْلٍ انْتَقَضَتْ الْعِلَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ مَعَ وُجُودِ الْقَتْلِ انْتَقَضَتْ الْعِلَّةُ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعِلَّةُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ لِلْجِنْسِ، لِأَنَّهُ عَلَّلَ سُقُوطَ الْقَوَدِ عَنْ الشَّرِيكِ دُونَ شَرِيكِ مَنْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ، فَهَذِهِ لِلْجِنْسِ فَيَنْتَقِضُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَنْ يُوجَدَ الْعِلَّةُ وَلَا حُكْمَ وَأَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ وَلَا عِلَّةَ فَقَدْ أَوْجَدَ الْحُكْمَ وَلَا عِلَّةَ فَبَطَلَ قَوْلُهُ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَكُنْت أَجَبْت بِجَوَابٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَلْزَمَهُمْ الْعَكْسَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْعَكْسِ عِنْدَهُمْ دَلِيلُ تَنَاقُضِهِمْ فِي الْعَكْسِ. وَجَوَابٌ آخَرُ جَدِيدٌ وَهُوَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ فَرَّقَ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ فَطَالَبَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْفَرْقِ بَيْنَ شَرِيكِ الصَّبِيِّ حَيْثُ قُلْت: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قُلْت: إذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلِينَ كَانَ عَلَى شَرِيكِهِ الْقَوَدُ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لِأَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ قَدْ شَارَكَ مَنْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا إذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ الْقَلَمُ جَارٍ عَلَيْهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا بَاطِلٌ بِمَا إذَا شَارَكَ الْأَبَ فِي قَتْلِ وَلَدِهِ، لِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ الْقَلَمُ جَارٍ عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا لَا قَوَدَ عَلَيْهِ عِنْدَك. فَأَمَّا الْمُزَنِيّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى مَسَائِلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: قَدْ شَرِكَ الشَّافِعِيُّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ فِيمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَسْقَطَ الْقَوَدَ عَنْ شَرِيكِ الْخَاطِئِ وَأَوْجَبَهُ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. قُلْنَا لَهُ: هَذَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ إنْ قُلْنَا فِي حُكْمِ الْخَطَأِ فَلَا قَوَدَ عَلَى شَرِيكِهِ كَمَنْ شَارَكَ الْخَاطِئَ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، فَإِنْ قُلْنَا عَمْدُهُ عَمْدٌ، فَعَلَى شَرِيكِهِ الْقَوَدُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ. ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ: قَدْ كَسَرَ الشَّافِعِيُّ فَرْقَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، فَأَنْتَ أَوْرَدْت كَلَامًا يَنْقُضُ الْكَسْرَ وَإِنَّمَا تُنَاقَضُ الْعِلَلُ، فَأَمَّا الْكَسْرُ فَلَا يُنَاقَضُ، فَسَقَطَ، هَذَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي بَابِ مَسْحِ الْخُفِّ، فِي تَعْلِيلِ جَوَازِ الِاخْتِصَارِ عَلَى الْأَسْفَلِ: لَمَّا كَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ كَظَاهِرِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُتَمَزِّقًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَسْفَلُهُ كَأَعْلَاهُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ بِالْمَسْحِ إذَا كَانَ صَحِيحًا. ثُمَّ إنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ رَدَّ هَذَا التَّعْلِيلَ بِأَنَّهُ قِيَاسُ عَكْسٍ فَكَأَنَّهُ رَدَّ قِيَاسَ الْعَكْسِ.

النَّوْعُ الرَّابِعُ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَامِعُ وَصْفًا لَازِمًا مِنْ لَوَازِمِ الْعِلَّةَ، أَوْ أَثَرًا مِنْ آثَارِهَا، أَوْ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهَا، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَمِيعِ دَلِيلَ الْعِلَّةِ لَا نَفْسَ الْعِلَّةِ فَالْأَوَّلُ: كَقِيَاسِ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ بِجَامِعِ الرَّائِحَةِ الْمُلَازِمَةِ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِنَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ قَتْلٌ أَثِمَ بِهِ صَاحِبُهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ قَتْلًا، فَوَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالْجَارِحِ، فَكَوْنُهُ إثْمًا لَيْسَ هُوَ بِعِلَّةٍ بَلْ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا. وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ قَطْعِ الْأَيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ إنَّهُ قَطْعٌ مُوجِبٌ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا فَوُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَيْسَ نَفْسَ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ بَلْ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ، بِدَلِيلِ اطِّرَادِهَا وَانْعِكَاسِهَا، كَمَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانُ وَالْخَطَأُ وَشِبْهِ الْعَمْدُ.

وَاخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ قِسْمٌ بِرَأْسِهِ، أَوْ هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْمَعْنَى وَالشَّبَهِ؟ وَقَالَ الْإِمَامُ: قِيَاسُ الدَّلَالَةِ هُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا لَا يُنَاسِبُ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى جَامِعٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا مَعْنَى لِعَدِّهِ قِسْمًا عَلَى حِيَالِهِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ تَارَةً مُنْبِئًا عَنْ مَعْنًى، وَتَارَةً عَنْ شَبَهٍ، وَهُوَ فِي طَوْرَيْهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى أَوْ الشَّبَهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " مِعْيَارِهِ ": الْحَدُّ الْأَوْسَطُ إذَا كَانَ عِلَّةً لِلْأَكْبَرِ سَمَّاهُ الْفُقَهَاءُ " قِيَاسُ الْعِلَّةِ " وَسَمَّاهُ الْمَنْطِقِيُّونَ " بُرْهَانُ اللِّمَ " أَيْ: ذِكْرُ مَا يُجَابُ بِهِ عَنْ لِمَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً سَمَّاهُ الْفُقَهَاءُ " قِيَاسُ الدَّلَالَةِ " وَسَمَّاهُ الْمَنْطِقِيُّونَ " قِيَاسُ الْبُرْهَانِ " أَيْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ الْأَكْبَرَ مَوْجُودٌ فِي الْأَصْغَرِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ عِلَّةٍ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِك: هَذَا الْإِنْسَانُ شَبْعَانُ لِأَنَّهُ أَكَلَ الْآنَ، وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ عَكْسُهُ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالنَّتِيجَةِ عَلَى الْمُنْتِجِ فَيَقُولُ شَبْعَانُ فَإِذًا هُوَ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْأَكْلِ وَقِيَاسُ الْعِلَّةِ: هَذِهِ عَيْنٌ نَجِسَةٌ فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَهَا، وَفِي قِيَاسِ الدَّلَالَةِ: هَذِهِ عَيْنٌ لَيْسَتْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَهَا فَإِذًا هِيَ نَجِسَةٌ. النَّوْعُ الْخَامِسُ فِي الْفَارِقِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا أَوْ اسْتِدْلَالًا، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالثَّانِي قَوْلُ الْغَزَالِيِّ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُقْصَدُ بِهِ التَّسْوِيَةُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ نَفْيَ الْفَارِقِ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ، وَقَدْ جَاءَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْعِلَّةِ. وَالْقِيَاسُ هُوَ الَّذِي يُبْنَى عَلَى الْعِلَّةِ ابْتِدَاءً وَهَذَا لَمْ يُبْنَ عَلَى الْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ فِيهِ ضِمْنًا. وَزَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ. وَنَازَعَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ؛ فَإِنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ يَقُولُ: اللَّفْظُ مُنْقَطِعُ الدَّلَالَةِ لُغَةً عَنْ الْفَرْعِ سَاكِتٌ عَنْهُ، وَالْحُكْمُ

فِيهِ إنَّمَا يُتَلَقَّى مِنْ الْقِيَاسِ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يَقُولُ: لَفْظُ الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُ الْفَرْعَ مِنْ جِهَةٍ مَا، لَكِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْفَرْعَ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى حَدِّ تَنَاوُلِ الْأَصْلِ، وَفَصَّلَ الْإِمَامُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَقَالَ: الْوَجْهُ عِنْدَنَا إنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ إشْعَارٌ بِهِ فَلَا نُسَمِّيهِ قِيَاسًا، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ» فَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي ذَكَرٍ فَالْعُبُودِيَّةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْأَمَةِ وَقَدْ قِيلَ لِلْأَمَةِ عَبْدَةٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لَمْ يَكُنْ لَفْظُ الشَّارِعِ مُشْعِرًا بِهِ فَهُوَ قِيَاسٌ قَطْعِيٌّ، كَإِلْحَاقِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَرَقَ الْكَلْبِ بِلُعَابِهِ فِي الْعَدَدِ وَالتَّعْفِيرِ، وَفِي دَعْوَى الْقَطْعِ فِي الثَّانِي نَظَرٌ. النَّوْعُ السَّادِسُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْ الْمَنْصُوصِ كَالضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ وَسَبَقَ أَوَّلَ الْبَابِ. تَنْبِيهٌ: أَعْلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ حَتَّى اُخْتُلِفَ أَنَّهُ لَفْظِيٌّ أَوْ قِيَاسٌ وَهُوَ الْقَطْعِيُّ، ثُمَّ يَلِيهِ قِيَاسُ الْمَعْنَى، ثُمَّ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ، ثُمَّ قِيَاسُ الشَّبَهِ وَهِيَ الْمَظْنُونَاتُ. وَالْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ تَارَةً يَكُونُ قَطْعِيًّا، وَتَارَةً يَكُونُ ظَنِّيًّا، لِأَنَّ الْإِلْحَاقَ يَجِيءُ هَكَذَا تَارَةً وَتَارَةً. وَيَأْتِي فِي التَّرْجِيحَاتِ.

الباب الخامس ما يجري فيه القياس

[الْبَابُ الْخَامِسُ مَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ] الْبَابُ الْخَامِسُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: مَسْأَلَةٌ قَالَ ابْنُ عَبْدَانِ فِي شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ: شَرْطُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ حُدُوثُ حَادِثَةٍ تُؤَدِّي الضَّرُورَةُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِمَا، لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ. وَالْأَوَّلُ يَأْبَاهُ وَضْعُ الْأَئِمَّةِ الْكُتُبَ الطَّافِحَةَ بِالْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْحَادِثَةِ، وَالثَّانِي غَرِيبٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُنَاظِرِينَ فِي مَقَامِ الْجَدَلِ قُلْت: وَكَأَنَّهُ جَرَى عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ يُفْهِمُ عَدَمَ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَاسِ عِنْدَ وِجْدَانِ النَّصِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: الْأَصْلُ قُرْآنٌ وَسُنَّةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيَاسٌ عَلَيْهِمَا. لَكِنَّ هَذَا فِي الْعَمَلِ بِهِ لَا فِي صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي " التَّقْوِيمِ ": قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ حَادِثَةً فِيهَا نَصٌّ فَيَزْدَادُ بِالْقِيَاسِ مَا كَانَ النَّصُّ سَاكِتًا عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ، لِأَنَّ الْكَلَامَ وَإِنْ ظَهَرَ مَعْنَاهُ يَحْتَمِلُ الْبَيَانَ الزَّائِدَ وَلَا يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ إذَا جَاءَ مُخَالِفًا. وَقَالَ إلْكِيَا: لَا يَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَفَائِدَتُهُ تَشْحِيذُ الْخَاطِرِ. وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي شُرُوطِ الْفَرْعِ. مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ

بِالْقِيَاسِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. قَالَ: فَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِالْقِيَاسِ فَجَائِزٌ وِفَاقًا وَحَكَى الْبَاجِيُّ عَنْ أَصْحَابِهِمْ كَقَوْلِنَا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأُمِّ: وَلَا يَقْطَعُ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ إلَّا مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، قِيَاسًا عَلَى السُّنَّةِ فِي السَّارِقِ وَيَتَّجِهُ أَنْ يُخَرَّجَ لَهُ فِي هَذِهِ قَوْلَانِ مِنْ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ الْأَطْرَافَ وَأُرُوشَ الْجِرَاحَاتِ وَالْحُكُومَاتِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يُضْرَبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لَكِنْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي النَّفْسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا لَا قَسَامَةَ وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْأَطْرَافِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ كَدِيَةِ النَّفْسِ قِيَاسًا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقَلُّ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْقِيَاسُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْأَحْكَامُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ النُّصُوصِ، فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ وَالْحُدُودُ فِي الْمَقَادِيرِ فَفِي جَوَازِ اسْتِخْرَاجِهَا بِالْقِيَاسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إذَا تَعَلَّقَ بِأَسْمَاءِ الْأَحْكَامِ كَتَسْمِيَةِ النَّبِيذِ خَمْرًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَمْرِ فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ الْمَقَادِيرَ قِيَاسًا كَمَا قَدَّرْنَا أَقَلَّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرَهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا أَحْكَامٌ وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ، وَمَعَانِي

الْحُدُودِ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ وَالْمَقَادِيرُ مَشْرُوعَةٌ انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ لَكِنْ نُقِلَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَفَّارَةً فَوْقَ كَفَّارَةِ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ وَدُونَ كَفَّارَةِ الْمُجَامِعِ: قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى خَبَرٍ وَلَا إلَى أَثَرٍ وَلَا قِيَاسٍ، حَكَاهُ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ، قَالَ صَاحِبُ " الذَّخَائِرِ " وَقَدْ حَكَى أَنَّهُ لَا وَقَصَ فِي النَّقْدَيْنِ فَيَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَنَّهُ اعْتَبَرَهُ بِالْمَاشِيَةِ. قَالَ: وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ سِيَّمَا عَلَى رَأْيِهِمْ فَإِنَّ الْقِيَاسَ فِي الْمُقَدَّرَاتِ مَمْنُوعٌ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأَصْحَابُ فِيمَا إذَا قُلْنَا: يَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ بِالْمَاءِ، هَلْ يَتَقَدَّرُ مُدَّةُ الْمَسْحِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ وَثَلَاثَةٍ لِلْمُسَافِرِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِنَقْلٍ وَتَوْقِيفٍ وَلَمْ يَرِدْ، وَنَقَلَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " وَالشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " عَنْ الْجُبَّائِيُّ مِثْلَ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَا: وَقِيلَ: يَجُوزُ إثْبَاتُ ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الْقِيَاسِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: مَنَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ جَرَيَانَ الْقِيَاسِ فِي الزَّكَاةِ وَالْحُدُودِ وَالْمَقَادِيرِ، وَرُبَّمَا أَلْحَقَ بِهَا الْكَفَّارَاتِ قَالَ: وَمَا مِنْ بَابٍ إلَّا وَلَهُمْ فِيهِ ضَرْبٌ مِنْ الْقِيَاسِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُمْ بِغَيْرِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهُ فِي الْوَصْفِ إذَا ثَبَتَ بِغَيْرِ الْأَصْلِ، وَمَنَعُوهُ فِي الْإِيجَابِ، وَجَوَّزُوهُ فِي التَّرْكِ. انْتَهَى وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إثْبَاتُ الْحُدُودِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، قَالَ: فَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَاحْتَجَّ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " بِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَجَازَ إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ تَبْطُلُ بِالنَّسْخِ وَقَدْ صَارَ الْمُزَنِيّ إلَى أَنَّ أَقَلَّ النِّفَاسِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ مِثْلُ أَكْثَرِ الْحَيْضِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَلْيَكُنْ أَقَلُّهُ مَعَ أَقَلِّهِ

كَذَلِكَ، وَخَالَفَهُ الْأَصْحَابُ وَقَالُوا أَقَلُّهُ سَاعَةٌ فَقَدْ خَالَفُوا الْأَصْلَ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: مَنَعَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ جَرَيَانَ الْقِيَاسِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَلِهَذَا مَنَعَ مِنْ قَطْعِ النَّبَّاشِ بِالْقِيَاسِ، وَمَنَعَ مِنْ إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى اللِّوَاطِ بِالْقِيَاسِ، وَمَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ بِإِيمَاءِ الْحَاجِبِ بِالْقِيَاسِ، وَمَنَعَ مِنْ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ بِالْقِيَاسِ قَالَ: وَلَا فَرْقَ فِي الْكَفَّارَاتِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْعُقُوبَاتِ وَبَيْنَ مَا لَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَاتِ، وَمَنَعَ أَيْضًا مِنْ إثْبَاتِ النُّصُبِ بِالْقِيَاسِ. قَالَ: وَلِهَذَا الْأَصْلِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْفُصْلَانِ وَصِغَارِ الْغَنَمِ. وَالْأَصَحُّ عَلَى مَذْهَبِنَا جَوَازُ الْقِيَاسِ فِي الْمَقَادِيرِ. وَمَنَعَ الْكَرْخِيّ أَيْضًا أَنْ يُعَلَّلَ مَا رُخِّصَ فِيهِ لِنَوْعِ مُسَاهَلَةٍ كَأُجْرَةِ الْحَمَّامِ، وَقَطْعِ السَّارِقِ، وَالِاسْتِصْنَاعِ عَلَى أُصُولِهِمْ فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهِ مِثْلُ الْخِفَافِ وَالْأَوَانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَتَبَّعَ الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَهُمْ وَأَبَانَ أَنَّهُمْ لَمْ يَفُوا بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرُوهُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَمَّا الْحُدُودُ فَقَدْ كَثُرَتْ أَقْيِسَتُكُمْ فِيهَا تَعَدَّيْتُمُوهَا إلَى الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ فِي مَسْأَلَةِ شُهُودِ الزِّنَى فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْحَدَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَنَصُّوا أَنَّهُ اسْتِحْسَانٌ. وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ فَقَدْ قَاسُوا الْإِفْطَارَ بِالْأَكْلِ عَلَى الْإِفْطَارِ بِالْوِقَاعِ، وَقَاسُوا قَتْلَ الصَّيْدِ نَاسِيًا عَلَى قَتْلِهِ عَامِدًا مَعَ تَقْيِيدِ النَّصِّ بِالْعَمْدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] وَأَمَّا الْمُقَدَّرَاتُ فَقَاسُوا فِيهَا وَمِمَّا أَفْحَشُوا فِي ذَلِكَ تَقْدِيرُ عَدَدِ الدِّلَاءِ عِنْدَ وُقُوعِ الْفَأْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلُوا تَقْدِيرًا عَلَى تَقْدِيرٍ فَقَدَّرُوا لِلْحَمَامِ غَيْرَ تَقْدِيرِ الْعُصْفُورِ وَالْفَأْرَةِ، وَقَدَّرُوا الدَّجَاجَةَ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَمَامَةِ وَقَدَّرُوا الْخِرْصَ بِالْقُلَّتَيْنِ فِي الْعُشْرِ. وَأَمَّا الرُّخَصُ فَقَدْ قَاسُوا فِيهَا وَتَنَاهَوْا فِي الْقَصْدِ فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِجْمَارِ مِنْ أَظْهَرِ الرُّخَصِ ثُمَّ اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ نَجَاسَةٍ نَادِرَةٍ أَوْ مُعْتَادَةٍ مَقِيسَةٌ عَلَى الْأَثَرِ اللَّاصِقِ بِمَحَلِّ النَّجْوِ، وَانْتَهَوْا فِي ذَلِكَ إلَى نَحْوِ نَفْيِ إيجَابِ اسْتِكْمَالِ الْأَحْجَارِ مَعَ قَطْعِ كُلِّ مُنْصِفٍ بِأَنَّ الَّذِينَ عَاصَرُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِمُوا هَذَا التَّخْفِيفَ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِشِدَّةِ الْبَلْوَى.

ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَمِنْ شَنِيعِ مَا قَالُوا فِي الرُّخَصِ، إثْبَاتُهُمْ لَهَا عَلَى خِلَافِ وَضْعِ الشَّرْعِ فِيهَا فَإِنَّهَا شُرِعَتْ تَخْفِيفًا وَإِعَانَةً عَلَى مَا يُعَانِيهِ الْمَرْءُ فِي سَفَرِهِ مِنْ كَثْرَةِ أَشْغَالٍ قَاسُوهَا فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ يَزِيدُ عَلَى الْقِيَاسِ إذْ الْقِيَاسُ تَقْدِيرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ قَرَارُهُ، وَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ، وَهَذَا قَلْبُ الْمَوْضُوعِ الْمَنْصُوصِ فِي الرُّخَصِ الْكُلِّيَّةِ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَلَيْسَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِيهَا بَلْ الضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ جَازَ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَعْنًى مُخَيَّلٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَإِنَّهُ مُعَلَّلٌ، وَمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ مِثْلُ هَذَا لَا يُعَلَّلُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْحُدُودِ أَوْ الْكَفَّارَاتِ. ثُمَّ قَدْ تَنْقَسِمُ الْعِلَلُ أَقْسَامًا، فَقِسْمٌ يُعَلَّلُ جُمْلَتُهُ لَا تَفْصِيلُهُ وَهُوَ كُلُّ مَا يُمْكِنُ إبْدَاءُ مَعْنًى مِنْ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ، وَقِسْمٌ يُعَلَّلُ جُمْلَتُهُ وَتَفْصِيلُهُ لِعَدَمِ اطِّرَادِ التَّعْلِيلِ فِي التَّفَاصِيلِ، وَقِسْمٌ آخَرُ لَا تُعَلَّلُ جُمْلَتُهُ، لَكِنْ بَعْدَ ثُبُوتِ جُمْلَتِهِ تُعَلَّلُ تَفَاصِيلُهُ، كَالْكِتَابَةِ وَالْإِجَازَةِ وَفُرُوعِ تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ. وَقَدْ يُوجَدُ قِسْمٌ لَا يَجْرِي التَّعْلِيلُ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفَاصِيلِهِ، كَالصَّلَاةِ وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيَامِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَقَادِيرُ الْأَنْصِبَةِ وَالْأَوْقَاصُ انْتَهَى. وَقَالَ إلْكِيَا: نُقِلَ عَنْ زُعَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ امْتِنَاعُ الْقِيَاسِ فِي التَّقْدِيرَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالرُّخَصِ، وَلِذَلِكَ مَنَعُوا إثْبَاتَ حَدِّ السَّارِقِ فِي الْمُخْتَلِسِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ لِهَذَا الْمُحْصَرِ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ وَقَالَ: إنَّهُ يَقْتَضِي إثْبَاتَ عِبَادَةٍ مُبْتَدَأَةٍ وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ النُّصُبَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُبْتَدَأَ بِقِيَاسٍ وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِذَلِكَ اعْتَدَّ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فِي الْفَصِيلِ، وَكَانَ يُجَوِّزُ أَنْ يَعْمَلَ الْقِيَاسُ فِي نُصُبِ مَا قَدْ يَثْبُتُ الزَّكَاةُ فِيهَا، كَمَا يُجَوِّزُ أَنْ يَعْمَلَ الْقِيَاسُ فِي صِفَةِ الْعِبَادَةِ مِنْ وُجُوبٍ وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَبِلُوا خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي إثْبَاتِ النِّصَابِ فِيمَنْ زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ، وَفِي وُجُوبِ الْوَتْرِ. فَقِيلَ لَهُمْ: تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الْحُدُودِ وَالْأَيْمَانِ بِالْقِيَاسِ، فَأَجَابُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِأَجْلِ

إثْبَاتِ حَدٍّ بِهِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا لِبَيَانِ الشُّبَهِ الْمُسْقِطَةِ لَهُ مَعَ تَحَقُّقِ إثْبَاتِهَا، وَسُقُوطُ الْحَدِّ لَيْسَ بِحَدٍّ فَيَصِحُّ الْقِيَاسُ. وَأَوْجَبُوا الْكَفَّارَةَ عَلَى الْقَتْلِ قِيَاسًا عَلَى الْمُجَامِعِ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ، وَعَلَى الْمُجَامِعِ نَاسِيًا فِي الْإِحْرَامِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ خَطَأً وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ نَصٍّ وَلَا عُمُومٍ وَلَا إجْمَاعٍ. فَأَجَابُوا بِأَنَّ هَذَا لَمْ نَعْلَمْهُ قِيَاسًا بَلْ اسْتِدْلَالًا بِالْأُصُولِ عَلَى الْأَحْكَامِ مُغَايِرٌ لِلْقِيَاسِ لِنَحْوِ السِّرِّ. وَهَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهَا غَيْرُ الْقِيَاسِ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ وَأَطَالَ، وَقَالَ: الَّذِي يَسْتَقِيمُ مَذْهَبًا لِلْمُحَصِّلِ عَلَى مَا يَرَاهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي إجْرَاءِ الْقِيَاسِ فِي أُصُولِ الْكَفَّارَاتِ وَأُصُولِ الْحُدُودِ كَإِلْحَاقِ الرِّدَّةِ، وَالْقَذْفِ بِالْقَتْلِ فِي الْكَفَّارَةِ وَكَإِلْحَاقِ مَنْ يُكَاتِبُ وَيُطْلِعُهُمْ عَلَى عَوْرَاتِنَا بِالسَّارِقِ مِنْ حَيْثُ إنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ فِي عَلَائِقِ غَيْبٍ لَا يُهْتَدَى إلَيْهِ فَانْعَدَمَ طَرِيقُ الْقِيَاسِ. فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الَّذِي يُكَاتِبُ الْكُفَّارَ وَإِنْ زَادَ ضَرَرُ فِعْلِهِ عَلَى ضَرَرِ السَّارِقِ الْوَاحِدِ فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إلَى سَارِقٍ وَاحِدٍ، أَمَّا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجِنْسِ فَلَا مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّرِقَةَ مِمَّا يَتَشَوَّفُ إلَيْهَا الرَّعَاعُ بِخِلَافِ مُكَاتَبَةِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهَا لَا تَكَادُ تُوجَدُ، أَوْ لَا يَظْهَرُ اسْتِوَاءُ السَّبَبِ، فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ لِفَقْدِ الشَّرْطِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَشَارَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ الْجَارِيَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ لَيْسَ قِيَاسًا بَلْ هُوَ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَسْبَابِ، وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيّ فِي الْأَسْبَابِ، وَقَالَ: هِيَ تَخْرِيجٌ، لَا تَنْقِيحٌ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِجَرَيَانِهِ فِي الْحُدُودِ زِيَادَةُ عُقُوبَةٍ فِي الْحَدِّ،

لِوُجُودِ عِلَّةٍ تَقْتَضِي الزِّيَادَةَ، كَزِيَادَةِ التَّعْزِيرِ فِي حَقِّ الشُّرْبِ وَتَبْلِيغِهِ إلَى ثَمَانِينَ، قِيَاسًا عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ. أَمَّا إنْشَاءُ حَدٍّ بِالْقِيَاسِ عَلَى حَدٍّ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ. الثَّالِثُ: ذَكَرَ فِي " الْمَحْصُولِ " تَبَعًا لِلشَّيْخِ فِي " اللُّمَعِ " أَنَّ الْعَادَاتِ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِيهَا وَمَثَّلَهُ بِأَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِتَمْثِيلِ الْمَاوَرْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - السَّابِقِ، لِأَنَّهُ مَثَّلَ بِهِ لِلْمَقَادِيرِ وَقَدْ خَطَّأَ مَنْ قَاسَ فِي الْعِبَادَاتِ بِأَنَّ هَذِهِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْمَوْجُودِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّ الْأُمُورَ الْوُجُودِيَّةَ لَا تَطَّرِدُ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا حِينَئِذٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ: فَإِنْ كَانَتْ الْعَادَةُ مَوْجُودَةً فِي هَذَا الْفَرْعِ أَثْبَتْنَا الْحُكْمَ فِيهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْأَصْلِ لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْفَرْعِ حِينَئِذٍ فِي سَبَبِ الْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيَّنْ وُجُودُهُ فَالْحُكْمُ مُثْبِتٌ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ سَبَبَ وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ اُشْتُهِرَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الرَّأْي وَالتَّقْلِيلُ مِنْ التَّوْقِيفِ وَالْأَحَادِيثِ، فَتَبَرَّأَ أَصْحَابُهُ مِنْ ذَلِكَ فَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي قَاسَ فِيهَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ. قُلْت: وَكَذَلِكَ مَنَعَهُمْ مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ فَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّا أَقْوَلُ بِالْقِيَاسِ مِنْهُمْ. الْخَامِسُ: سَبَقَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَنَعَ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ ثُمَّ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُفْطِرِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَالشَّافِعِيُّ مَعَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ جَوَازُ الْقِيَاسِ فِيهَا فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي غَيْرِ الْوِقَاعِ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: مَا أَجْدَرَ كُلًّا مِنْ الْإِمَامَيْنِ أَنْ يَنْتَحِلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبَ صَاحِبِهِ، يَعْنِي: أَنَّ قِيَاسَ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ فِي الْكَفَّارَاتِ عَدَمُ تَخْصِيصِهَا بِالْوِقَاعِ دُونَ سَائِرِ الْمُفْطِرَاتِ،

وَقِيَاسُ عَدَمِ الْقِيَاسِ عَدَمُ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي غَيْرِ الْوِقَاعِ. وَهَذَا الْقَوْلُ جَهْلٌ بِمَدَارِكِ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَثْبَتُوا بِالْحَدِيثِ الْمَأْمُورَ بِهِ بِالْكَفَّارَةِ بِمُطْلَقِ الْإِفْطَارِ فَهَذَا الْمُطْلَقُ هُوَ الْمُقَيَّدُ بِالْجِمَاعِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُبْنَى الْخِلَافُ فِي الْقِيَاسِ فِي الْكَفَّارَاتِ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْبَحْثُ عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ هَلْ يَجْرِي الْقِيَاسُ فِيهَا أَمْ لَا؟ وَهَلْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَدِلَّةَ الْقِيَاسِ عَامَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى آحَادِ الْمَسَائِلِ؟ وَأَنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي صُورَةِ الْخِلَافِ الْخَاصَّةِ صَحِيحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَخَلِيَّةٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ؟ وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ إلَى هَذَا الْبِنَاءِ الْمَذْكُورِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ فِي " الْمَحْصُولِ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْقِيَاسِ فِي الرُّخَصِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فِيمَا سَبَقَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الْبُوَيْطِيِّ " عَلَى امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ، فَقَالَ فِي أَوَائِلِهِ: لَا يُتَعَدَّى بِالرُّخْصَةِ مَوَاضِعُهَا وَقَالَ فِي " الْأُمِّ ": لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ حَرَّمَ جُمْلَةً وَأَحَلَّ بَعْضَهَا. وَكَذَلِكَ إنْ فَرَضَ شَيْئًا رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّخْفِيفَ فِي بَعْضِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا كَانَ لَهُ حُكْمٌ مَنْصُوصٌ ثُمَّ كَانَتْ لِرَسُولِهِ سُنَّةٌ بِتَخْفِيفٍ فِي بَعْضِ الْفَرْضِ دُونَ بَعْضٍ عُمِلَ بِالرُّخْصَةِ فِيمَا رَخَّصَ فِيهِ دُونَ مَا سِوَاهَا وَلَمْ نَقِسْ مَا سِوَاهَا عَلَيْهَا. وَهَكَذَا مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حُكْمٍ عَامٍّ لِشَيْءٍ ثُمَّ سَنَّ فِيهِ سُنَّةً تُفَارِقُ حُكْمَ الْعَامِّ، كَمَسْحِ الْخُفَّيْنِ وَالْعَرَايَا " هَذَا لَفْظُهُ، وَذَكَرَ فِي " الرِّسَالَةِ " مِثْلَهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ " الْأُمِّ ":

وَلَا يُقَاسُ إلَّا مَا عَقَلْنَا مَعْنَاهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِمَا عِمَامَةٌ وَلَا بُرْقُعٌ وَلَا قُفَّازَانِ وَكَذَلِكَ الْقَسَامَةُ. وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ، وَالتَّحَلُّلُ رُخْصَةٌ فَلَا يُتَعَدَّى بِهَا مَوَاضِعُهَا. كَمَا أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ رُخْصَةٌ فَلَمْ يُقَسْ عَلَيْهِ مَسْحُ الْعِمَامَةِ. انْتَهَى. وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عِنْدَنَا عَلَى الرُّخَصِ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْدُولًا بِهَا عَنْ الْأَصْلِ وَمَا عَدَا مَحَلِّ الرُّخْصَةِ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ ": لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي الرُّخَصِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ ثُمَّ رُخِّصَ فِي مَحَلِّ الْخُفِّ الْمَسْحُ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَسْحُ الْقَلَنْسُوَةِ وَالْعِمَامَةِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ تَلَبَّسَ بِالْإِحْرَامِ لَا يَنْقَضِي عَنْهُ إلَّا بِالْإِتْمَامِ، وَرُخِّصَ لِلْمُحْصَرِ بِالْعَدْوِ فِي التَّحَلُّلِ، ثُمَّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْمَصْدُودُ بِالْمَرَضِ. وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمَيِّتُ. فَأَوْجَبَ الْغُرَّةَ فِي الْجَنِينِ لَا عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ الرُّخَصِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجِنَايَةَ تُوجِبُ عَلَى الْجَانِي فَاسْتَثْنَى مِنْهُ جِنَايَةَ الْخَطَأِ ثُمَّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا. وَقَالَ إلْكِيَا: إنَّمَا نَمْنَعُ الْقِيَاسَ عَلَى الرُّخَصِ إذَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى حَاجَاتٍ خَاصَّةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الرُّخْصَةِ فَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ لِعَدَمِ الْجَامِعِ كَغَيْرِ الْمُسَافِرِ يُعْتَبَرُ بِالْمُسَافِرِ فِي رُخَصِ السَّفَرِ إذْ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ تَخْصِيصِ الشَّرْعِ. وَقَدْ يَمْتَنِعُ أَيْضًا مَعَ شُمُولِ الْحَاجَةِ إذَا لَمْ يَبِنْ عِنْدَنَا اسْتِوَاءُ السَّبَبَيْنِ فِي الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى شَرْعِ الْقَصْرِ مَعَ أَنَّ الْمَرِيضَ خُفِّفَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ ذَلِكَ فِي الرُّخْصَةِ سَدًّا لِحَاجَتِهِ، كَالْقُعُودِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ فِي الْأَرْكَانِ مُقَابِلٌ لِلتَّخْفِيفِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ. انْتَهَى. وَأَلْحَقَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْقِيَاسَ عَلَى الرُّخَصِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَخْصُوصِ وَسَيَأْتِي فِيهِ التَّفْصِيلُ الْآتِي قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ

أمثلة للقياس في الرخص

يَكُونَ الْمَنْعُ عَنْهُ لِأَنَّ عِلَّتَهُ قَاصِرَةٌ عَلَيْهِ، لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ رُخْصَةً. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَحْتَمِلُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلرُّخْصَةِ مَعْنًى فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وَبَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ فَيُقَاسُ، وَيَنْزِلُ الْخِلَافُ عَلَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. وَرَأَيْت فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مَنْصُوصًا فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادًا فَلَا. فَحَصَلَ مَذَاهِبُ. [أَمْثِلَةٌ لِلْقِيَاسِ فِي الرُّخَصِ] وَقَدْ اسْتَعْمَلَ أَصْحَابُنَا الْقِيَاسَ فِي الرُّخَصِ فِيمَا سَبَقَ فَلْنُشِرْ إلَى ذَلِكَ أَدْنَى إشَارَةٍ، فَإِنَّهُ يَعِزُّ اسْتِحْضَارُهُ: وَمِنْهَا: أَنَّ السَّلَمَ رُخْصَةٌ وَرَدَ مُقَيَّدًا بِالْأَجَلِ وَجَوَّزَهُ أَصْحَابُنَا حَالًّا، لِأَنَّهُ إذَا جَازَ مُؤَجَّلًا مَعَ الْغَرَرِ فَلَأَنْ يَجُوزَ حَالًّا أَوْلَى لِقِلَّةِ الْغَرَرِ وَقَدْ يُنَازَعُ فِي كَوْنِهِ هَذَا قِيَاسًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْفَحْوَى، أَيْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، وَفِي كَوْنِهَا قِيَاسًا خِلَافٌ. عَلَى أَنَّ الْغَزَالِيَّ فِي الْمُسْتَصْفَى أَبْدَى فِي كَوْنِ السَّلَمِ رُخْصَةً احْتِمَالَيْنِ لَهُ. وَمِنْهَا: ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ النَّهْيُ عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَهِيَ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِالتَّمْرِ ثُمَّ وَرَدَ التَّرْخِيصُ فِي " الْعَرَايَا " وَهِيَ بَيْعُ

الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ مُفَسَّرًا مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ، وَأَلْحَقَ أَصْحَابُنَا بِهِ الْعِنَبَ بِجَامِعِ أَنَّهُ زَكَوِيٌّ يُمْكِنُ خَرْصُهُ وَيُدَّخَرُ بِالسَّنَةِ، فَكَانَ كَالرُّطَبِ وَإِنْ لَمْ يَشْمَلْهُ الِاسْمُ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الرُّطَبُ، وَالْعِنَبُ مَقِيسٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْمَاوَرْدِيَّ فِي " الْحَاوِي " حَكَى خِلَافًا فَقَالَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ جَازَتْ الرُّخْصَةُ فِي الْكَرْمِ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ إنَّهَا نَصٌّ فَرَوَوْا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا» وَالْعَرَايَا: بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْبَغْدَادِيِّينَ إنَّهَا جَازَتْ قِيَاسًا عَلَى النَّخْلِ لِبُرُوزِ ثَمَرَتِهَا وَإِمْكَانِ الْخَرْصِ فِيهِمَا وَتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِمَا. قُلْت: وَالظَّاهِرُ تَرْجِيحُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ. وَمَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُونَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ غَيْرُ ثَابِتٍ بَلْ الْمَعْرُوفُ عَنْهُ خِلَافُهُ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أَوْ بِالتَّمْرِ وَلَمْ يُرَخَّصْ فِي غَيْرِهِ» ، وَمِنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ أَنَّهُ هَلْ يَلْتَحِقُ بِهِمَا مَا سِوَاهُمَا مِنْ الْأَشْجَارِ؟ قَوْلَانِ، مَدْرَكُهُمَا جَوَازُ الْقِيَاسِ فِي الرُّخَصِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ. وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْرُمُ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ، وَاسْتُثْنِيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ، يُسْتَثْنَى بَاقِي الْأَوْقَاتِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَوَقْتِ الِاسْتِوَاءِ تَخْصِيصًا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَتَفْضِيلًا لَهُ، " وَأَصَحُّهُمَا " الْمَنْعُ، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ قَدْ وَرَدَتْ فِي وَقْتِ الِاسْتِوَاءِ خَاصَّةً، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ لِقُوَّةِ عُمُومِ النَّهْيِ. وَمِنْهَا: الرُّخْصَةُ فِي مَسْحِ الْخُفِّ وَرَدَتْ وَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الضَّرُورَةِ فَلَا يُلْحَقُ بِهَا الْجُرْمُوقُ عَلَى الْجَدِيدِ - لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَيْهِ فَلَا تَتَعَلَّقُ الرُّخْصَةُ بِهِ. وَاسْتَشْكَلَ هَذَا بِتَجْوِيزِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ الزُّجَاجِ وَالْخَشَبِ وَالْحَدِيدِ.

وَمِنْهَا: لَوْ مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ كَفَى وَهُوَ الْأَكْمَلُ، لِوُرُودِهِ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَسْفَلِ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْوَارِدِ. وَمِنْهَا: التَّيَمُّمُ لِلْفَرْضِ رُخْصَةً لِلضَّرُورَةِ، وَفِي جَوَازِهِ لِلنَّافِلَةِ خِلَافٌ. وَمِنْهَا: النِّيَابَةُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ عَنْ الْمَعْضُوبِ رُخْصَةٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ اسْتَنَابَ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ جَازَ فِي الْأَصَحِّ. وَمِنْهَا: أَنَّ الرُّخْصَةَ وَرَدَتْ فِيمَنْ أَقَامَ بِبَلَدٍ لِحَاجَةٍ يَتَوَقَّعُهَا كُلَّ وَقْتٍ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّرَخُّصُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. لَكِنْ هَلْ يَتَعَدَّى هَذَا الْحُكْمُ لِبَاقِي الرُّخْصِ مِنْ الْجَمْعِ وَالْفِطْرِ وَالْمَسْحِ وَغَيْرِهَا؟ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْجُمْهُورُ، وَيُحْتَمَلُ إلْحَاقُهُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ فِي الرُّخْصَةِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالنِّسْبَةِ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ. وَيُحْتَمَلُ مَنْعُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّا مَنَعْنَا الزِّيَادَةَ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَصْرِ مَعَ وُرُودِ أَصْلِهِ فَلَأَنْ يَمْتَنِعَ رُخَصُ مَا لَمْ يَرِدْ أَصْلُهُ أَوْلَى. وَمِنْهَا: أَنَّ الرُّخْصَةَ وَرَدَتْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالْمَطَرِ وَأَلْحَقُوا بِهِ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ إنْ كَانَا يَذُوبَانِ، وَقِيلَ: لَا يُرَخَّصَانِ اتِّبَاعًا لِلَفْظِ الْمَطَرِ. وَمِنْهَا: قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْعَصْرِ بِعُذْرِ الْمَطَرِ تَأْخِيرًا، وَكَذَا تَقْدِيمًا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ الْجُمُعَةَ رُخْصَةٌ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ. وَمِنْهَا: أَنَّ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ لَا تَخْتَصُّ بِالْقِتَالِ، بَلْ لَوْ رَكِبَ الْإِنْسَانُ سَيْلًا يَخَافُ الْغَرَقَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْقِتَالِ. وَأَجَابَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ " إذْ قَالَ: مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ الرُّخَصَ لَا تُتَعَدَّى مَوَاضِعُهَا وَلِذَلِكَ لَمْ يُثْبِتُوا رُخَصًا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا بِالنَّصِّ وَهُوَ عُمُومٌ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 239] وَالثَّانِي: أَنَّا نُجَوِّزُ الْقِيَاسَ فِي الرُّخَصِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ، وَالْإِجْمَاعُ يَمْنَعُ مِنْ إجْرَاءِ رُخَصِ السَّفَرِ فِي الْمَرَضِ. وَمِنْهَا: أَنَّ صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَجُوزُ فِي الْجَدِيدِ، وَيَجُوزُ فِي الْقَدِيمِ لِلْمُتَمَتِّعِ إذَا عُدِمَ الْهَدْيُ، وَفِي جَوَازِهِ لِغَيْرِهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ وَالرُّخْصَةُ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ. وَمِنْهَا: قَالَ الرَّافِعِيُّ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِالْمُسَاقَاةِ عَلَى النَّخْلِ، وَالْكَرْمِ فِي مَعْنَاهُ. وَفِي " الْكِفَايَةِ " قِيلَ: إنَّ الشَّافِعِيَّ قَاسَ عَلَى النَّخْلِ وَقِيلَ: أَخَذَهُ مِنْ النَّصِّ. وَمِنْهَا: الْمَبِيتُ بِمِنًى لِلْحَاجِّ وَاجِبٌ وَقَدْ رُخِّصَ فِي تَرْكِهِ لِلرُّعَاةِ وَأَهْلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ، فَهَلْ يَلْتَحِقُ بِهِمْ الْمَعْذُورُ كَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَرِيضٌ مَنْزُولٌ بِهِ مُحْتَاجٌ لِتَعَهُّدِهِ، أَوْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ، أَوْ لَهُ بِمَكَّةَ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: (أَصَحُّهُمَا) : نَعَمْ قِيَاسًا عَلَى الْعُذْرِ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَالرُّخْصَةُ وَرَدَتْ لَهُمْ خَاصَّةً. قَالَ فِي " الْبَحْرِ ": فَلَوْ عَمِلَ أَهْلُ الْعَبَّاسِ أَوْ غَيْرُهُمْ فِي غَيْرِ سِقَايَتِهِ هَلْ يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ وَالرَّمْيُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا، وَالثَّانِي: نَعَمْ، قِيَاسًا عَلَيْهِمْ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأَوْسَطِ " عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرِكُهُ بَاقِي السِّقَايَاتِ وَبِهَذَا يَعْتَرِضُ عَلَى تَصْحِيحِهِ فِي الرَّوْضَةِ الْجَوَازَ. الْقِيَاسُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ: مِيقَاتُ الْمُحْرِمِ مِنْ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ كَبَاقِي الْمَوَاقِيتِ أَوْ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ؟

فِيهِ وَجْهَانِ، صَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الثَّانِيَ، وَهُوَ نَصُّ الْإِمَامِ فِي " الْأُمِّ " وَصَحَّحَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ كَمَا قَالَهُ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " وَلَوْ جَاءَ الْغَرِيبُ مِنْ نَاحِيَةٍ لَا يُحَاذِي فِي طَرِيقِهِ مِيقَاتًا لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ إلَّا مَرْحَلَتَانِ، قِيَاسًا عَلَى قَضَاءِ عُمَرَ فِي تَأْقِيتِ ذَاتِ عِرْقٍ لِأَهْلِ الشَّرْقِ. قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَفَقُّهًا، وَتَابَعَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ. الْقِيَاسُ فِي الْكَفَّارَاتِ: مِنْهَا: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالْعُدْوَانِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوهَا قِيَاسًا. وَمِنْهَا: لَوْ رَأَى مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ يَغْرَقُ أَوْ غَيْرُهُ وَكَانَ فِي تَخْلِيصِهِ الْإِفْطَارُ لَزِمَهُ وَيَقْضِي. وَفِي الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا: الْوُجُوبُ قِيَاسًا عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ. وَمِنْهَا: وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ: مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا بِغَيْرِ الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ. الْقِيَاسُ فِي الْجَوَابِرِ: عَلَى الْمُتَمَتِّعِ دَمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِنِ بِالْقِيَاسِ فَإِنَّ أَفْعَالَ الْمُتَمَتِّعِ أَكْثَرُ مِنْ أَفْعَالِ الْقَارِنِ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَارِنِ

أَوْلَى، وَهُوَ دَمُ حُرْمَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ لَا نُسُكٍ. وَدَمُ فَوَاتِ الْحَجِّ كَدَمِ التَّمَتُّعِ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ دَمَ الْمُتَمَتِّعِ إنَّمَا وَجَبَ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَالنُّسُكُ الْمَتْرُوكُ فِي صُورَةِ الْفَوَاتِ أَعْظَمُ. وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَفْهُومِ الْأَوْلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ. الْقِيَاسُ فِي الْأَحْدَاثِ: قَالَ فِي " الْبُرْهَانِ " لَا يَجْرِي فِي الطَّهَارَاتِ وَالْأَحْدَاثِ لِعَدَمِ اطِّلَاعِنَا عَلَى ضَبْطِ أَهْلِهَا. قَالَ الْقَاضِي: وَكَمَا لَا تَثْبُتُ الْأَحْدَاثُ بِالْقِيَاسِ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ أَيْضًا فِي الْأَحْدَاثِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ كَمَا لَا يَهْتَدِي لِتَأْقِيتِ الطَّهَارَةِ لَا يَهْتَدِي لِنَفْيِ إثْبَاتِهَا، وَقَالَ فِي " الْقَوَاطِعِ ": قِيلَ: إنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِي الْأَحْدَاثِ وَتَفَاصِيلِهَا وَالْوُضُوءِ وَتَفَاصِيلِهِ بَلْ يَتْبَعُ مَحْضَ النَّصِّ وَقِيلَ: إنَّ الْوُضُوءَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالتَّنْظِيفِ وَالتَّنْقِيَةِ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ يُعْقَلُ فِيهَا الْخُشُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ، قُلْت: وَمِنْ فُرُوعِهِ لَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ بِدُبُرِ غَيْرِهِ. قَالَ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ " لَا يَنْتَقِضُ، وَفِي الشَّامِلِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِضَ، لِأَنَّهُ مَسَّهُ بِالْآلَةِ الَّتِي تَمَسُّ بِهَا هَذَا الْمَحَلَّ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَقْيَسُ لِأَنَّ الْأَحْدَاثَ لَا تُثْبِتُ قِيَاسًا وَلَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْيَدِ كَمَا أَنَّا لَمْ نُعَدِّهِ إلَّا فِي الْأَمْرَدِ، وَإِنْ وُجِدَ الْمَعْنَى، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَقَالُوا: أَصْلُهَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَهُوَ الثِّقَةُ وَحُصُولُ الظَّنِّ وَالْغَفْلَةُ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسْوَةِ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِنَّ مِنْ الذُّهُولِ وَالْغَفْلَةِ، وَأَمَّا أَصْلُ عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ فَمَعْقُولُ الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنْ التَّعَبُّدَاتِ فَلَزِمَ اتِّبَاعُهَا وَلَا يَجُوزُ تَجَاوُزُهَا وَتَعَدِّيهَا انْتَهَى.

مسألة جريان القياس العقلي في العقليات

[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فِي الْعَقْلِيَّاتِ] الْأَكْثَرُونَ مِنَّا وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ، عَلَى جَرَيَانِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، أَيْ: الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، كَقَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ: اللَّهُ مَوْجُودٌ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ مَرْئِيٌّ، فَيَكُونُ مَرْئِيًّا. وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّرْعِيِّ. ثُمَّ قِيلَ: قَطْعِيٌّ، وَالْمُحَقِّقُونَ - مِنْهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ - عَلَى أَنَّهُ ظَنِّيٌّ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: الْقِيَاسُ الْقَطْعِيُّ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي إثْبَاتِ الْقَطْعِيَّاتِ، بِخِلَافِ الظَّنِّيِّ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا الْقَطْعُ، وَالْيَقِينُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ. وَذَهَبَ الصَّيْرَفِيُّ وَالْغَزَالِيُّ إلَى الْمَنْعِ وَحَكَاهُ فِي الْبُرْهَانِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ قَالَ: وَلَيْسُوا مُنْكِرِينَ أَيْضًا نَظَرَ الْعَقْلِ إلَى الْعِلْمِ، وَلَكِنْ يَنْهَوْنَ عَنْ مُلَابَسَتِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: الْعَقْلُ وُضِعَ لِإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ بِهِ فَلَا يَجُوزُ انْتِقَالُهُ عَنْ هَذَا أَبَدًا قَالَ: وَإِنَّمَا أَخْطَأَ النَّاسُ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُمْ رَامُوا جَعْلَ الْعَقْلِيَّاتِ كَالْمُوجَبِ فِي الشَّرْعِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَحَالُوهُ وَلَوْ سَلَكُوا بِكُلِّ وَاحِدٍ طَرِيقَهُ لَأَصَابُوا. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَطْلَقَ النَّقَلَةُ الْقِيَاسَ وَأَنَا أَقُولُ: إنْ عَنَوْا النَّظَرَ الْفِعْلِيَّ فَهُوَ فِي نَوْعِهِ مُفْضٍ إلَى الْعِلْمِ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهُ، مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا، وَإِنْ عَنَوْا بِهِ اعْتِبَارَ شَيْءٍ، بِشَيْءٍ وَاسْتِثَارَةَ مَعْنًى فِي قِيَاسٍ غَائِبٍ عَلَى شَاهِدٍ فَذَاكَ بَاطِلٌ عِنْدِي.

مسألة جريان القياس في اللغات

قُلْت: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْنُوا بِهِ الْأَوَّلَ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى النَّظَرِ الْمَحْضِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَمَنْ قَالَ بِجَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ جَمَعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: الْعِلَّةُ كَقَوْلِنَا: الْعَالَمِيَّةُ فِي الشَّاهِدِ حَاصِلَةٌ اتِّفَاقًا فَكَذَا فِي الْغَائِبِ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْلِيمِ بِالشَّاهِدِ إنَّمَا كَانَ لِلْعَالَمِيَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِهِ لِلْعِلْمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْغَائِبِ. فَيَكُونُ لَهُ الْعِلْمُ وَهَذَا جَمْعٌ بِالْعِلَّةِ. ثَانِيهَا: الْجَمْعُ بِالدَّلِيلِ. قَالُوا: الْإِتْقَانُ فِي الشَّاهِدِ دَلِيلُ الْعِلْمِ. وَأَفْعَالُ اللَّهِ مُتْقَنَةٌ فَيَكُونُ عَالِمًا لِوُجُودِ دَلِيلِ الْعِلْمِ. ثَالِثُهَا: الْجَمْعُ بِالشَّرْطِ كَقَوْلِنَا الْعِلْمُ مِنْ الشَّاهِدِ شَرْطُهُ الْحَيَاةُ وَاَللَّهُ عَالِمٌ فَيَكُونُ حَيًّا. رَابِعُهَا: الْجَمْعُ بِالْإِطْلَاقِ الْحَقِيقِيِّ كَقَوْلِنَا: الْمُرِيدُ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ تُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ. [مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَاتِ] فِي جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَاتِ وَجْهَانِ، وَقَدْ سَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ اللُّغَاتِ بِتَحْرِيرِهَا وَنُقُولِهَا، وَاَلَّذِي نَذْكُرُهُ هَاهُنَا أَنَّهُ لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ التَّعْلِيلِ بِالِاسْمِ، بَلْ تِلْكَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُنَاطُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِاسْمٍ؟ وَهَذِهِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسَمَّى شَيْءٌ بِاسْمِ شَيْءٍ آخَرَ لُغَةً لِجَامِعٍ؟ وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ إلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ فِي حُكْمِهِ.

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ هَلْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى اسْمِ الْفَرْعِ ثُمَّ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَوْ يَدُلُّ ابْتِدَاءً عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ؟ فَحَكَى عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ الْأَسْمَاءُ فِي الشَّرْعِ ثُمَّ تُعَلَّقُ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، فَكَانَ يَتَوَصَّلُ إلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَرِكَةٌ ثُمَّ يَجْعَلُهَا مَوْرُوثَةً، وَأَنَّ وَطْءَ الْبَهِيمَةِ زِنًى ثُمَّ تَعَلَّقَ بِهِ الْحَدُّ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَانَ يَقِيسُ النَّبِيذَ عَلَى الْخَمْرِ فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الشِّدَّةِ ثُمَّ يُحَرِّمُهُ بِالْآيَةِ. وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعِلَلَ تَثْبُتُ بِهَا الْأَحْكَامُ فَإِنْ كَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَمْنَعُ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ فِي الشَّرْعِ بِالْعِلَلِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَسَائِلِ إنَّمَا تُعَلَّلُ فِيهَا أَحْكَامُهَا دُونَ أَسْمَائِهَا. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعِلَلَ قَدْ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْأَسْمَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِنْ أَرَادَ بِالْعِلَلِ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ أَقْدَمُ مِنْ الشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِأُمُورٍ طَارِئَةٍ. قَالَ إلْكِيَا: كَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ: إنَّمَا ثَبَتَتْ الْأَسَامِي بِالْقِيَاسِ ثُمَّ تُعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهَا نَحْوُ مَا كَانَ يَقُولُ: إنَّ الْقِيَاسَ يُوَصِّلُ إلَى أَنَّ وَطْءَ الْبَهِيمَةِ زِنًى ثُمَّ ثَبَتَ الْحَدُّ فِيهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ زِنًى أَنَّهُ إيلَاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ تَمَحَّضَ تَحْرِيمًا فَكَانَ زِنًى، وَالنَّبِيذُ خَمْرٌ لِلشِّدَّةِ وَالْخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا النَّوْعُ بَاطِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْأَسَامِي يَتَلَقَّى مِنْ فَهْمِ مَقَاصِدِ اللُّغَةِ وَمَعْرِفَتُهُ مَوْضِعَ اشْتِقَاقِ الِاسْمِ، ثُمَّ يَجْرِي عَلَى مَا فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ذَلِكَ الِاسْمُ، فَيَكُونُ نِهَايَةُ نَصِّهِمْ عَلَى فَائِدَةِ التَّسْمِيَةِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ تَعَلُّقٌ بِالشَّرْعِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ شَرْعٌ أَمْ لَا، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي يَخْتَصُّ الشَّرْعُ بِهِ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ فَقَطْ بِأَنْ يُعَلِّلَ الْأُصُولَ الَّتِي يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا، لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِالتَّعْلِيلِ إلَى مَا شَارَكَهَا فِي الْعِلَّةِ.

مسألة القياس في الأسباب

وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْخَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ، وَالْقَوْلُ فِي بُطْلَانِهِ ظَاهِرٌ فِي الشَّرْعِ أَوَّلًا، وَفِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ فَهْمَ مَوْضِعِ الِاشْتِقَاقِ لَا يَمْنَعُ إمْكَانَ تَخْصِيصِ الِاسْمِ. [مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ] إذَا أُضِيفَ حُكْمٌ إلَى سَبَبٍ وَعُلِمَتْ فِيهِ عِلَّةُ السَّبَبِ فَإِذَا وُجِدَتْ فِي وَصْفٍ آخَرَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ سَبَبًا؟ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ فَنُقِلَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ وَغَيْرِهِ الْمَنْعُ. وَقَالُوا: الْحُكْمُ يَتْبَعُ الْعِلَّةَ دُونَ حِكْمَةِ الْعِلَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ اللِّوَاطُ سَبَبًا لِلْحَدِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الزِّنَى، وَلَا النَّبْشُ سَبَبًا لِلْقَطْعِ قِيَاسًا عَلَى السَّرِقَةِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ " الْمَحْصُولِ " إنَّهُ الْأَظْهَرُ. لَكِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَصْحَابِنَا جَوَازُهُ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَعِبَارَتُهُ: " مُعْتَقَدُنَا جَوَازُ اعْتِبَارِ السَّبَبِ بِالسَّبَبِ بِشَرْطِ ظُهُورِ عَدَمِ تَفَاوُتِ السَّبَبَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ، ثُمَّ فِي وَضْعِ الْأَسْبَابِ ثُمَّ صُورَةِ الْأَسْبَابِ لَا يُرَاعَى عِنْدَ ظُهُورِ التَّفَاوُتِ فِي مَضْمُونِ السَّبَبَيْنِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ الْقِيَاسَ فِي الْأَسْبَابِ، وَعِنْدَنَا يُسَوَّغُ كَمَا إذَا ثَبَتَ لَنَا أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ لِزَجْرِ الْقَاتِلِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَتْلَ

صَارَ سَبَبًا لِمَكَانِ الْحِكْمَةِ لَا لِصُورَتِهِ، فَيَجُوزُ اعْتِبَارُ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْقَتْلِ بِالْقَتْلِ وَإِنْ ثَبَتَ لَنَا أَنَّهُ غَيْرُ قَاتِلٍ قَالَ: وَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ الْمُسَاقَاةَ بِالْقِرَاضِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي مَقْصُودِ التُّجَّارِ وَمَصْلَحَةِ الْمُتَعَامِلِينَ وَهُمَا سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: عُمُومُ الْحَاجَةِ إلَى الْقِرَاضِ بِخِلَافِ الْمُسَاقَاةِ، لَكِنَّ جَوَابَهُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ كَانَتْ أَعَمَّ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُمْ قَوْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهُ اعْتِبَارُ الشَّافِعِيِّ الشَّهَادَةَ بِالْإِكْرَاهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ يَظْهَرُ إفْضَاؤُهَا إلَى الْقَتْلِ كَالْإِكْرَاهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْإِكْرَاهِ مَزِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ فَلِلشَّهَادَةِ مَزِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ. وَمِنْهُ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْمَرْأَةَ يَلْزَمُهَا الْحَجُّ إذَا وَجَدَتْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ يَقَعُ الْأَمْنُ بِمِثْلِهِنَّ إلْحَاقًا لَهُنَّ بِالْمُحْرِمِ وَالزَّوْجِ فَقَاسَ أَحَدَ سَبَبَيْ الْأَمْنِ عَلَى الثَّانِي قَالَ: وَكَذَلِكَ يَجْرِي فِي مِثْلِهِنَّ فِي الشُّرُوطِ وَقَدْ نَفَى الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ فِي الْإِحْصَانِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْجَلْدِ فَقَالَ: الْجَلْدُ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ ثُمَّ اسْتَوَى فِيهِ إنْكَارُ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فَالرَّجْمُ كَذَلِكَ وَهُوَ حَسَنٌ. ثُمَّ قَالَ: وَالضَّابِطُ أَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ نَظِيرٌ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ. فَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْ الْمَرَضُ بِالسَّفَرِ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ نَظِيرًا لَهُ فِي الْحَاجَةِ، وَهَذَا وَاضِحٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: التَّقَابُضُ شَرْطٌ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ قِيَاسًا عَلَى النَّقْدَيْنِ وَصَحَّ هَذَا الْقِيَاسُ لِلشَّافِعِيِّ بِلَا مُدَافِعٍ انْتَهَى. وَأَمَّا صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " فَنَقَلَ الْمَنْعَ فِي أَصْلِ تَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَصْحَابِهِمْ ثُمَّ قَالَ: وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِيهِ بِشُرُوطِهِ وَجَبَ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ قِيَاسًا عَلَى التَّيَمُّمِ: طَهَارَتَانِ فَأَنَّى يَفْتَرِقَانِ. انْتَهَى. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ قُلْنَا: إنَّ الْأَسْبَابَ وَالْمَوَانِعَ وَالشُّرُوطَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ جَرَى فِيهَا الْقِيَاسُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَفِي جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِيهَا نَظَرٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْأَوْلَى جَرَيَانُهُ، لِأَنَّا عَقَلْنَا أَنَّ الزِّنَى إنَّمَا نُسِبَ

سَبَبًا لِلرَّجْمِ لِعِلَّةِ كَذَا، وَوَجَدْنَاهَا فِي اللِّوَاطِ مَثَلًا، فَيَلْزَمُ نَصْبُ سَبَبِهَا. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي السَّرِقَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِهَا نَبْشُ الْقَبْرِ وَأَخْذُ الْأَكْفَانِ فَهَذَا إذَا تَمَّ عَلَى شُرُوطِهِ قِيَاسٌ صَحِيحٌ انْتَهَى. وَقَدْ أَلْزَمُوا الْمَانِعَ مَنْعَ حَمْلِ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّ خُصُوصَ وَصْفِ الْمَحَلِّ لَوْ اعْتَبَرَ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ لَاقْتَضَى مَنْعَ تَوْسِيعِ الْحُكْمِ، وَفِي مَنْعِ تَوْسِيعِهِ رَفْعُ الْقِيَاسِ أَصْلًا. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ سَبَبُ حُكْمٍ قِيَاسًا عَلَى سَبَبٍ آخَرَ، فَإِذَا حَكَمَ اللَّهُ بِرَجْمِ الزَّانِي جَازَ أَنْ يَطْلُبَ سَبَبَ ذَلِكَ حَتَّى يَقِفَ عَلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الزِّنَى، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزِّنَى عِلَّةُ الرَّجْمِ صَحَّ أَنْ يُعَلِّلَهُ بِعِلَّةِ تَعَدِّيهَا إلَى غَيْرِ الزِّنَى، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّلَ الْحُكْمَ الثَّابِتَ عَلَى زَيْدٍ وَيُعَدَّى إلَى عَمْرٍو عِنْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّعْدِيَةِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَا مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّعْلِيلِ، وَقَالَ: الْحُكْمُ يَتْبَعُ السَّبَبَ دُونَ حِكْمَةِ السَّبَبِ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ ثَمَرَةٌ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: جُعِلَ الْقِيَاسُ سَبَبًا لِلْقِصَاصِ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، فَيَنْبَغِي أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى شُهُودِ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى الزَّجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْقَتْلُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ": وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ يُمْكِنُ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى تَوْقِيفٍ ثَابِتٍ يَمْنَعُ مِنْ الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَتْبَعُ وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا عُمُومُ شَرْعِيَّةِ الْقِيَاسِ عِنْدَ فَهْمِ الْمَعَانِي فَهَذَا يَجُرُّ أَنْوَاعًا مِنْ الْخَيَالِ، وَيَقْتَضِي مَنْعَ الْقِيَاسِ إلَّا فِي مَوَاضِعِ الْإِجْمَاعِ، وَقَلَّ أَنْ يُصَادَفَ ذَلِكَ بِحَالٍ. وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: إنَّ تَعْلِيلَ الْأَسْبَابِ يَفُوتُ بِهِ حَقِيقَةُ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ مِنْ شَرْعِ الْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ تَقْرِيرَهَا أُصُولًا، وَفِي تَقْرِيرِ الْأَسْبَابِ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَسْبَابًا قَالَ: وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مُعْتَمَدُ الْقَوْمِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا إذَا قُلْنَا: الزِّنَى عِلَّةُ الرَّجْمِ وَاسْتَنْبَطْنَا مِنْهُ إيلَاجَ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ قَطْعًا إلَى تَمَامِ الْقِيَاسِ، وَاعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ فَقَدْ أَبَانَ آخِرًا أَنَّ الزِّنَى

لَمْ يَكُنْ عِلَّةً، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ أَمْرٌ أَعَمُّ مِنْ الزِّنَى فَقَدْ عَلَّلَ الزِّنَى فِي كَوْنِهِ [سَبَبًا] بِعِلَّةٍ أَخْرَجَتْ الزِّنَى عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا. وَيُمْنَعُ تَعْلِيلُ الْأُصُولِ بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أُصُولًا. هَذَا أَعْظَمُ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ فِي مَنْعِ تَعْلِيلِ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ تَحَيَّرَ الْأَصْحَابُ فِي الْجَوَابِ، وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى تَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ دُونَ تَخْرِيجِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْإِنْصَافُ يَقْتَضِي مُسَاعَدَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَزَعَمَ أَنَّ الْجَارِيَ فِي تَعْلِيلِ الْأَصْحَابِ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ دُونَ تَخْرِيجِهِ وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ، وَقَالَ: لَا وَجْهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ. وَحَاصِلُ مَا قَالَهُ الِاعْتِرَافُ بِامْتِنَاعِ إجْرَاءِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ، لَا لِخُصُوصٍ فِي التَّعَبُّدِ، وَلَا لِتَعَذُّرِ فَهْمِ الْمَعْنَى، وَلَكِنْ لِاسْتِحَالَةِ وِجْدَانِ الْأَصْلِ عِنْدَ التَّعْلِيلِ إذْ يَفُوتُ الْقِيَاسُ لِفَوَاتِ بَعْضِ أَرْكَانِهِ وَلَا يَبْقَى لِلْقِيَاسِ حَقِيقَةٌ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الصَّحِيحُ إجْرَاءُ الْقِيَاسِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي الْأَسْبَابِ، وَلَا فَرْقَ فِي تَصَوُّرِ الْقِيَاسِ بَيْنَ تَعْلِيلِ الْأَسْبَابِ وَتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ. وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ إذَا حَرُمَتْ الْخَمْرَةُ فَهَلْ حَرُمَتْ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِيَّةِ وَصْفِهَا وَهُوَ الْخَمْرِيَّةُ حَتَّى لَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى النَّبِيذِ بِحَالٍ، أَوْ حَرُمَتْ الْخَمْرُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُزِيلَةً لِلْعَقْلِ وَهُوَ الْوَصْفُ الْأَعَمُّ؟ فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ أَصْلًا بِاعْتِبَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهَا، وَقَدْ بَانَ لَنَا أَنَّهُ إنَّمَا حُكِمَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ اشْتِدَادِهَا وَإِسْكَارِهَا فَكَذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا الزِّنَى عِلَّةَ الرَّجْمِ فَيُقَالُ: هَلْ هُوَ عِلَّةٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ زِنًى أَوْ مِنْ جِهَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى أَعَمَّ مِنْ هَذَا، أَوْ لَا عِلَّةَ وَهُوَ بَاطِلٌ فَهَذَا هُوَ الْمُنَاقِضُ. أَمَّا إذَا جُعِلَ عِلَّةً مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ عِلَّةً مُطْلَقًا. هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ تَعْلِيلُ الْأَسْبَابِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ فِي الْأُصُولِ السَّابِقَةِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَعْظَمِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَقَدْ زَلَّ فِيهَا الْجَمَاهِيرُ

وَأَثْبَتُوا الْقِيَاسَ فِي الْأَسْبَابِ عَلَى وَجْهٍ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْقِيَاسِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: صُورَةُ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَامَ عَلَى أَنَّ الزِّنَى سَبَبٌ فِي الرَّجْمِ، وَالنَّصُّ أَوْمَأَ إلَى ذَلِكَ أَيْضًا، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ نَقِيسَ عَلَيْهِ اللِّوَاطَ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ السَّبَبِيَّةِ لَهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلرَّجْمِ، أَوْ لَا؟ هَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ. وَمِنْهُ قِيَاسُ النَّبْشِ عَلَى السَّرِقَةِ وَلِلْمَانِعِينَ مَسْلَكَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِحِكْمَةِ السَّبَبِ، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِالْأَوْصَافِ. قَالُوا: وَالْحِكَمُ خَفِيَّةٌ لَا تَنْضَبِطُ، وَالْأَوْصَافُ ظَاهِرَةٌ مُنْضَبِطَةٌ، وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِمَا لَا يَنْضَبِطُ، فَلَوْ فَرَضْنَا انْضِبَاطَ الْحِكَمِ فَفِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِهَا خِلَافٌ، فَإِنْ أَجَزْنَاهُ فَلَا يُقَاسُ فِي الْأَسْبَابِ بَلْ نَقِيسُ الْفَرْعَ بِالْحِكْمَةِ الْمُنْضَبِطَةِ، وَيُسْتَغْنَى عَنْ تَوْسِيطِ السَّبَبِ، وَإِنْ مَنَعْنَاهُ بَطَلَ الْقِيَاسُ فِي السَّبَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْأَسْبَابِ يُؤَدِّي إثْبَاتُهُ إلَى أَصَالَتِهِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْأَحْكَامِ يُقَرِّرُ الْأَصْلَ أَصْلًا وَيَلْحَقُ بِهِ فَرْعًا، وَالْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ يُبْطِلُ كَوْنَ السَّبَبِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ سَبَبًا، وَيُحَقِّقُ أَنَّ السَّبَبِيَّةَ أَمْرٌ أَعَمُّ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ، وَيُؤَوَّلُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ وَلَا فَرْعَ فَلَا قِيَاسَ، فَقِيَاسُ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ لَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَ الْأَصْلِ، وَلَا إضَافَةَ التَّحْرِيمِ إلَيْهَا، وَقِيَاسُ اللِّوَاطِ عَلَى الزِّنَى غَيَّرَ كَوْنَ الزِّنَى سَبَبًا وَصَيَّرَ السَّبَبَ (الْإِيلَاجَ) الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ، فَيَصْدُقُ عَلَى الزِّنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ إنْ فَرَضْنَاهُ سَبَبًا. وَأَمَّا الْمُجَوِّزُونَ فَاحْتَجُّوا بِأَمْرٍ جَلِيٍّ وَهُوَ انْسِحَابُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ اسْتَرْسَلُوا فِي الْأَقْيِسَةِ، وَلَوْ ذَهَبْنَا نَشْتَرِطُ فِي كُلِّ صُورَةٍ إجْمَاعًا خَاصًّا بِهَا لَاسْتَحَالَ، فَالْقِيَاسُ فِي السَّبَبِ كَالْقِيَاسِ فِي الْإِجَارَةِ مَثَلًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إجْمَاعٍ خَاصٍّ (قَالَ) : وَيَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ

الْأَسْبَابَ لَا تَنْتَصِبُ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَإِنَّمَا تَنْتَصِبُ بِإِيمَاءِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا فَرَضْنَا الْقِيَاسَ فِي الْأَسْبَابِ فَلَا بُدَّ أَنْ نَفْرِضَ فِيهَا جِهَةً عَامَّةً كَالْإِيلَاجِ، وَجِهَةً خَاصَّةً لِكَوْنِهِ فَرْجًا لِآدَمِيَّةٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى زِنًى بِلَفْظِ السَّبَبِ، وَيَتَنَاوَلُ أَمْرَيْنِ أَعَمَّ وَأَخَصَّ، وَلَا يَنْتَظِمُ الْقِيَاسُ إلَّا بِحَذْفِ الْأَخَصِّ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ لِيَتَغَيَّرَ الْأَعَمُّ، إذْ لَوْ كَانَ الْأَخَصُّ بَاقِيًا عَلَى تَقْيِيدِهِ لَاسْتَحَالَ الْقِيَاسُ، وَإِذَا حُذِفَ الْأَخَصُّ عَنْ كَوْنِهِ مُرَادَ اللَّفْظِ بَقِيَ الْأَعَمُّ وَهُوَ مُرَادُ النَّصِّ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ تَنْقِيحَ مَنَاطٍ، وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ، حَاصِلُهُ تَأْوِيلٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى دَلِيلٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى قَبُولِ الْمَسْلَكِ الَّذِي سَمَّاهُ مَنْ سَمَّاهُ قِيَاسًا فِي الْأَسْبَابِ، لِاتِّفَاقِنَا عَلَى قَبُولِ تَأْوِيلِ الظَّاهِرِ بِالدَّلِيلِ، فَلَا حَجْرَ فِي التَّسْمِيَةِ، وَلَا مَنْعَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا، لِأَنَّ فِيهِ صُورَةَ النُّطْقِ فِي مَوْضِعٍ وَالسُّكُوتَ فِي مَوْضِعٍ، وَوُجُودُ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ سَبَبُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ، غَيْرَ أَنَّ امْتِيَازَ الْمَحَلَّيْنِ نُطْقًا وَسُكُوتًا إنَّمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي قَامَ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، فَلِهَذَا تَكَدَّرَتْ التَّسْمِيَةُ وَالْخَطْبُ يَسِيرٌ. مَسْأَلَةٌ كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَمْكَنَ تَعْلِيلُهُ يَجْرِي الْقِيَاسُ فِيهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَجُوزُ إثْبَاتُ جَمِيعِ الشَّرْعِيَّاتِ بِالْقِيَاسِ خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ، وَقَدْ سَبَقَتْ.

مَسْأَلَةٌ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ إلَّا عَنْ أَمَارَةٍ، وَلَا يَجُوزُ عَنْ دَلَالَةٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا، حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي " الْمِيزَانِ " وَهُوَ غَرِيبٌ. وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ الْإِجْمَاعِ عَنْ دَلَالَةٍ. مَسْأَلَةٌ ذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا يَجُوزُ فِي تَعْيِينِ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَيُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ تَفْصِيلُهُ، كَوُرُودِ النَّصِّ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَبِجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَبِتَحْرِيمِ الرِّبَا فَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَفَ بِالْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَصِفَةِ الْمِثْلِ فِي الْجَزَاءِ، وَتَفْصِيلِ مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الِاسْمِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ. وَأَمَّا إثْبَاتُ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَرِدْ فِيهَا النَّصُّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْتَدَأَ إلْحَاقُهَا بِالْقِيَاسِ وَلِهَذَا لَمَّا ثَبَتَ بِالنَّصِّ مِيرَاثُ الْأَخِ جَازَ إثْبَاتُ إرْثِهِ مَعَ الْجَدِّ بِالْقِيَاسِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ جَوَازُ الْقِيَاسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا كَقِيَاسِ الصَّلَاةِ عَلَى الزَّكَاةِ وَالْعَكْسِ، وَالْكَفَّارَةِ عَلَى الزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ عَلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ فِي أَنْوَاعِ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ إلْكِيَا: مَا قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ هُوَ عَيْنُ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ وَأَبْطَلْنَاهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ أَثْبَتُوا قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ بِالْقِيَاسِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَصٌّ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] أَمَارَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَلَا يُفِيدُ حُكْمُهُ إذَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: عَلِمُوا أَصْلًا غَابَ عَنَّا فَيُقَالُ: رَأَيْنَاهُمْ يَتَشَرَّفُونَ لِلْقِيَاسِ بِاتِّبَاعِ الْأَوْصَافِ الْمُخَيِّلَةِ الْمُؤَثِّرَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى جُمَلٍ.

مَسْأَلَةٌ حَكَى سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعُمُومَ إذَا خُصَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَعْنًى يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ إذَا خُصَّ صَارَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِقَرِينَةٍ، فَإِذَا اُسْتُنْبِطَ الْمَعْنَى مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُ الْمَعْنَى مَعَ تِلْكَ الْقَرِينَةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالْقَرِينَةَ تَقْتَضِي الْخُصُوصَ فَلَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا، قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا خُصَّ خَرَجَ مِنْهُ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ فَبَقِيَ الْبَاقِي ثَابِتًا بِاللَّفْظِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْحُكْمَ لِلْبَاقِي وَرَدَ ابْتِدَاءً، فَجَازَ اسْتِنْبَاطُ الْمَعْنَى مِنْهُ. مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ الْجُزْئِيُّ إذَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى وَفْقِهِ مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ خَرَّجَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلَيْنِ كَانَ الْخِلَافُ فِي ضَمَانِ الدَّرْكِ بِأَنَّ الْقِيَاسَ الْجُزْئِيَّ يَقْتَضِي مَنْعَهُ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَلَكِنَّ عُمُومَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِمُعَامَلَةِ الْغُرَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَقْتَضِي جَوَازَهُ وَلَمْ يُنَبِّهْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ فَمَنَعَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَالصَّحِيحُ صِحَّتُهُ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ لَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ الْمُؤَكَّدَةِ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ جَوَازَهُ مُطْلَقًا لِأَصْلِ الْحَاجَةِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَقْسَامِ الْمُنَاسَبَةِ: إنَّ مَا ابْتَنَى عَلَى الْحَاجَةِ كَالْإِجَارَةِ لَا خِلَافَ فِي جَرَيَانِ قِيَاسِ الْجُزْءِ مِنْهُ عَلَى الْجُزْءِ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ غَيْرِ ذَلِكَ الْأَصْلِ مَعَ جَامِعِ الْحَاجَةِ فَهَذَا امْتَنَعَ مِنْهُ مُعْظَمُ الْقِيَاسِيِّينَ. ثُمَّ أَشَارَ إلَى جَوَازِهِ وَقَالَ: فَإِذَنْ الْقِيَاسُ عَلَى الْإِجَارَةِ إذَا اسْتَجْمَعَ الشَّرَائِطَ لَا يَضُرُّ. وَالِاسْتِصْلَاحُ الْجُزْئِيُّ فِي مُقَابَلَةِ الْوُجُودِ بِالْمَوْجُودِ، وَهَذَا كَقِيَاسِ النِّكَاحِ مَثَلًا فِي وَجْهِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ عَلَى الْإِجَارَةِ.

مَسْأَلَةٌ التَّمَسُّكُ بِقِيَاسٍ جُزْئِيٍّ فِي مُصَادَمَةِ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ مَرْدُودٌ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قِيَاسُ الْأَقَارِيرِ السَّابِقَةِ فِي إثْبَاتِ الْحَقِّ الْآنَ، عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ السَّابِقِ، فِي أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْآنَ فَهَذَا قِيَاسٌ جُزْئِيٌّ فِي مُقَابَلَةِ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ عَمِلَ بِذَلِكَ فَمَا كَانَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَقَارِيرِ فَائِدَةٌ، وَالْحُجَّةُ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ سَاعَةٍ، قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي كِتَابِ " اقْتِنَاصِ السَّوَانِحِ ". مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ مَا طَرِيقُهُ الْقَطْعُ فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ بِالْقِيَاسِ الْمَقْطُوعِ بِصِحَّتِهِ عَلَيْهِ دُونَ مَا لَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ. مِثَالُهُ فِي الْفُرُوعِ، قَوْلُنَا: إنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ فِي كُلِّ سُورَةٍ لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ بِلَا تَغْيِيرٍ، مَتْلُوٌّ بِلَا نَكِيرٍ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ. فَهَذَا قِيَاسٌ مَدْلُولٌ عَلَى صِحَّتِهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كِتَابَتِهِ فِي الْمُصْحَفِ وَتِلَاوَتِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِصِحَّتِهِ. وَمِثَالُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ، لِأَنَّهُ وُجِدَ إجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ فَكَانَ حُجَّةً، دَلِيلُهُ إذَا انْقَرَضَ الْعَصْرُ عَلَيْهِ.

الباب السادس في أركان القياس

[الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَرْكَانِ الْقِيَاس] [الرُّكْن الْأَوَّل الْأَصْلِ] الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَرْكَانِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَصْلُ، وَالْفَرْعُ، وَالْعِلَّةُ، وَحُكْمُ الْأَصْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْقِيَاسِ، كَقَوْلِنَا فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ: طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى نِيَّةٍ كَالتَّيَمُّمِ، فَالْوُضُوءُ هُوَ الْفَرْعُ، وَالتَّيَمُّمُ هُوَ الْأَصْلُ، وَالطَّهَارَةُ عَنْ حَدَثٍ هِيَ الْوَصْفُ، وَقَوْلُنَا وَجَبَ هُوَ الْحُكْمُ. وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَتْرُكُ التَّصْرِيحَ بِالْحُكْمِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ كَالتَّيَمُّمِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ كَمَا قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي بَابِ " أَدَبِ الْجَدَلِ " فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ إلَّا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالْحُكْمِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُحَالًا إلَى السُّؤَالِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. مَسْأَلَةٌ اُخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ أَمْرٍ خَامِسٍ أَنَّهُ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْجَامِعُ مُسْتَنْبَطًا بِالنَّظَرِ وَالْفِكْرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إلْحَاقَ الْعَبْدِ بِالْأَمَةِ، وَالضَّرْبِ بِالتَّأْفِيفِ، هَلْ يُسَمَّى قِيَاسًا؟ الْأَوَّلُ: الْأَصْلُ وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ خِلَافًا فِي رُكْنِيَّتِهِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ بِغَيْرِ أَصْلٍ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ خَلَطَ الِاجْتِهَادَ بِالْقِيَاسِ. وَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلٍ، لِأَنَّ الْفُرُوعَ لَا تَتَفَرَّعُ إلَّا عَنْ أُصُولٍ.

وَهُوَ يُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى أُمُورٍ سَبَقَتْ فِي أَوَّلِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَذَكَرَ هُنَا إلْكِيَا مِنْهَا أَرْبَعَةً: أَحَدُهَا: مَا يَقْتَضِي الْعِلْمُ بِهِ عِلْمًا بِغَيْرِهِ أَوْ يُوَصِّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ، كَمَا يُقَالُ: إنَّ الْخَبَرَ أَصْلٌ لِمَا وَرَدَ بِهِ، وَالْكِتَابَ أَصْلُ السُّنَّةِ لَمَّا عُلِمَ صِحَّتُهَا بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى إلَّا بِهِ. الثَّالِثُ: فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَعْتَرِيهِ مَا سِوَاهُ، فَيُقَالُ: هَذَا الْحُكْمُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْقِيَاسُ وَهُوَ مُرَادُنَا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: هُوَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، كَخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا مَثَلًا، وَحَكَاهُ فِي " الْمُلَخَّصِ " عَنْ الْقَاضِي، وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْوَاضِحِ " عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: هُوَ مَحَلُّ الْحُكْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ سَوَاءٌ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ وَالْمَنْصُوصُ كَالْبُرِّ الْمَحْكُومِ بِهِ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ: وَتَمَامُهُ أَنَّ الْخَبَرَ أَصْلٌ لِلْبُرِّ، وَالْبُرُّ أَصْلٌ لِكُلِّ مَا يُقَاسُ عَلَيْهِ قَالَ: وَهَذَا ظَاهِرٌ حَسَنٌ فَلْيُعْتَمَدْ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ: إنَّهُ نَقِيضُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخَبَرِ قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ عِنْدَنَا، وَلَمْ نَرَ فِي كَلَامِ الْمُخَالِفِ مَا يُضَعِّفُهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: مَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ نَفْسِهِ: وَقِيلَ: مَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاصِرَةً. وَرَجَّحَ الْعَبْدَرِيّ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْأَصْلَ مَحْكُومٌ فِيهِ حَتَّى يُفْهَمَ الْحُكْمُ، وَبِالْعَكْسِ فَإِنْ سَمَّى مُسَمَّى الْخَمْرِ وَحْدَهَا أَصْلًا بِمَعْنَى أَنَّهَا هِيَ الْمَحَلُّ الَّذِي نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى الْحُكْمِ بِالتَّحْرِيمِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْمَحَالِّ فَيَجُوزُ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: الْأَصْلُ هُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّعِ الْعِلَّةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فَرْعٌ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّعِهِ عَلَيْهِ وَالْعِلَّةُ بِالْعَكْسِ فَرْعٌ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ لِأَنَّا إنَّمَا نُعَلِّلُ الْحُكْمَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَصْلٍ فِي مَحَلٍّ لِأَنَّا نَعْرِفُ الْعِلَّةَ فِيهِ ثُمَّ نُفَرِّعُ الْحُكْمَ عَلَيْهَا. قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: وَقَوْلُهُ: الْحُكْمُ أَصْلٌ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ ذَهَابٌ عَظِيمٌ عَنْ مَقْصُودِ الْبَحْثِ إذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ تَعْرِيفَ مَا سُمِّيَ أَصْلًا بِاعْتِبَارٍ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بَيَانُ الْأَصْلِ الَّذِي يُقَابِلُ الْفَرْعَ فِي الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَحَلُّ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَهَذَا تَهْوِيلٌ لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ يَرْجِعُ إلَى الِاصْطِلَاحِ فَلَا مُشَاحَّةَ فِيهِ، أَوْ إلَى اللُّغَةِ فَهُوَ يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ. وَلَا فَائِدَةَ لِهَذَا الْخِلَافِ إلَّا الصُّورَةُ. وَقِيلَ: بَلْ يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ " بِالْأَصْلِ "، وَهُوَ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الْغَالِبِ، وَتَارَةً عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لِقَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، وَعَلَى إرَادَةِ الْبَعِيدِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِمْ: خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنْ مَحَلٍّ وَإِيجَابُ الطَّهَارَةِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَقَدْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى إرَادَةِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْجِيهِ الِاسْتِشْعَارِ عَلَى الْأَصْلِ حَتَّى يَصِحَّ الْكَلَامُ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: يُطْلَقُ الْأَصْلُ عَلَى مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَعَلَى مَا يُعْرَفُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يُبْنَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، كَقَوْلِنَا: تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ أَصْلٌ، وَهَذَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ الْخَمْرُ أَوْ النَّصُّ

أَوْ الْحُكْمُ؟ قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ أَصْلًا وَقَالَ الرَّازِيَّ: تَسْمِيَةُ الْعِلَّةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ أَصْلًا أَوْلَى مِنْ تَسْمِيَتِهِ مَحَلَّ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ أَصْلًا، لِأَنَّ التَّعَلُّقَ الْأَوَّلَ أَقْوَى مِنْ الثَّانِي (قَالَ) : وَتَسْمِيَةُ مَحَلِّ الْوِفَاقِ بِالْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ تَسْمِيَتِهِ مَحَلَّ الْخِلَافِ بِالْفَرْعِ، لِأَنَّهُ أَصْلُ الْأَصْلِ، وَهَذَا أَصْلُ الْفَرْعِ قَالَ: لَكِنَّا نُسَاعِدُ الْفُقَهَاءَ عَلَى مُصْطَلَحِهِمْ فِي تَسْمِيَةِ مَحَلِّ الْوِفَاقِ بِالْأَصْلِ وَمَحَلِّ الْخِلَافِ بِالْفَرْعِ. مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى الْقِيَاسِ بِنَوْعِهِ أَوْ شَخْصِهِ، بَلْ كُلُّ مَعْنًى قَدَحَ فِيهِ مَعْنًى مُخَيَّلٌ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اتِّبَاعُهُ قِيسَ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْلِيلِهِ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَشَرَطَ قَوْمٌ فِي جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْجَامِعِ الشَّبَهِيِّ دُعَاءَهُ إلَى التَّعْلِيلِ فَلَوْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ وُجُوبِ التَّعْدِيَةِ فِي الْبُرِّ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا لَمَا جَازَ الْقِيَاسُ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَتَعَدَّى عِنْدِي فِي أَكْثَرِ الْأَشْبَاهِ، فَإِنَّهُ إذَا أَمْكَنَ تَعَرُّفُ الْحُكْمِ بِاسْمِ الْمَحَلِّ فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى طَلَبِ مَنَاطٍ لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ؟ وَفَرَّقَ الْإِمَامُ فِي الْأَشْبَاهِ فَقَالَ فِي بَعْضِهَا: يَكْفِي فِي الْإِلْحَاقِ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ، وَفِي بَعْضِهَا: لَا بُدَّ مِنْ دُعَاءِ ضَرُورَةٍ إلَى التَّعْلِيلِ وَبَسَطَ ذَلِكَ.

مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ مُعَلَّلٌ، أَوْ أَنْ تُثْبِتَ عِلَّتَهُ عَيْنًا بِالنَّصِّ، بَلْ لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْ الظَّنِّيَّةِ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ. وَخَالَفَ فِيهِ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ وَالشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فَزَعَمَا أَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَى أَصْلٍ حَتَّى يَدُلَّ نَصٌّ عَلَى عَيْنِ عِلَّةِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، أَوْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ حُكْمِهِ مُعَلَّلًا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " شِفَاءِ الْعَلِيلِ " نُقِلَ عَنْ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى أَصْلٍ بِمُجَرَّدِ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَصْلِ تَجْوِيزِ الْقِيَاسِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يُقَاسُ عَلَيْهِ مَعْلُولٌ بِعِلَّةٍ، لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الدَّلِيلِ الْخَاصِّ بِذَلِكَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَصْلٌ لَا يُعَلَّلُ بَلْ يُخَصَّصُ مَوْرِدُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى كَوْنِهِ الْأَصْلَ مُعَلَّلًا. قَالَ: وَلَسْت أَعْرِفُ لِهَذَا الْمَذْهَبِ وَجْهًا إلَّا مَا ذَكَرْته، فَإِنَّ الْوَصْفَ الْمُخَصِّصَ إذَا عَادَلَ الْوَصْفَ الْمُتَعَدِّيَ فِي الِانْفِكَاكِ عَنْ الْمُنَاسَبَةِ تَعَادُلًا، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى التَّعْدِيَةِ، فَإِنْ خَصَّصَ صَاحِبُ هَذَا الْمَذْهَبِ مَذْهَبَهُ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنْ التَّعْلِيلِ الْخَالِي عَنْ الْمُنَاسَبَةِ فَلَهُ وَجْهٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ طَرَدَهُ فِيمَا ظَهَرَتْ فِيهِ الْمَعَانِي الْمُنَاسِبَةُ وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ الشَّرْعُ الْمُنَاسِبَ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلِ التَّعْدِيَةِ، أَوْ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ وُقُوعُ هَذَا الْمُنَاسِبِ اتِّفَاقًا فَهُوَ فِي هَذَا الطَّرَفِ أَضْعَفُ. وَاسْتِمْدَادُهُ مِنْ الْقَوْلِ بِإِنْكَارِ أَصْلِ الْقِيَاسِ. انْتَهَى. مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْصُورٍ بِالْعَدَدِ، بَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ

مسألة تأثير الأصل في كل موضع

عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مَحْصُورًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَحْصُورُ بِالْعَدَدِ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالُوا: لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ، لِأَنَّهُنَّ مَحْصُورَاتٌ بِاسْمِ الْعَدَدِ. وَهُوَ مَمْنُوعٌ بَلْ هُنَّ مَحْصُورَاتٌ فِي الذِّكْرِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَصْلُ مَحْصُورًا فِي اللَّفْظِ فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ. وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ حُجَّةٌ لَكِنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى مِنْ الْمَفْهُومِ. مَسْأَلَةٌ وَلَا يُشْتَرَطُ الِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، بَلْ يَكْفِي انْتِهَاضُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ حَيْثُ اشْتَرَطَهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: إنْ أَرَادَ بِالِاتِّفَاقِ الَّذِي اشْتَرَطَهُ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْأُصُولَ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ. وَإِنْ أَرَادَ إجْمَاعَ الْقِيَاسِيِّينَ فَهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ بِدَلِيلٍ. [مَسْأَلَةٌ تَأْثِيرُ الْأَصْلِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ] وَلَا يُشْتَرَطُ تَأْثِيرٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إبْطَالِ بَيْعِ الْغَائِبِ: بَاعَ عَيْنًا لَمْ يَرَ مِنْهَا شَيْئًا. فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ، أَصْلُهُ إذَا بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْرِ، فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمْ لَمْ يَرَ مِنْهَا شَيْئًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ بَعْضَ النَّوَى إذَا كَانَ ظَاهِرًا يَرَاهُ، وَبَعْضُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لَا يَصِحُّ أَيْضًا، قُلْنَا: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَإِنَّمَا يَكْفِي التَّأْثِيرُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَتَأْثِيرُهُ فِي بَيْعِ الْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فَإِنَّهُ يَرَى بَعْضَهَا وَهُوَ ظَاهِرُهَا دُونَ بَاطِنِهَا وَيَكُونُ بَيْعُهَا صَحِيحًا.

مَسْأَلَةٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ صَحِيحًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا وَشَهَادَتُهُ صَحِيحَةٌ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي مَقَامِ الْإِلْزَامِ وَالْإِفْحَامِ، كَإِلْزَامِنَا مَنْ اعْتَبَرَ الْأَصْلَ جَوَازَ اجْتِمَاعِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَهَذَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ فَاسِدًا عِنْدَنَا. الرُّكْنُ الثَّانِي حُكْمُ الْأَصْلِ

[الرُّكْنُ الثَّانِي] : حُكْمُ الْأَصْلِ وَقَدْ مَرَّ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ: وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، تَبَعًا لِلشَّيْخِ فِي " اللُّمَعِ ": الْحُكْمُ مَا تَعَلَّقَ بِالْعِلَّةِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِسْقَاطِ، وَهُوَ إمَّا مُصَرَّحٌ بِهِ كَقَوْلِهِ: فَجَازَ أَنْ يَجِبَ كَذَا، أَوْ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ كَذَا، أَوْ مُبْهَمٌ. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: فَأَشْبَهَ كَذَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: شَرَابٌ فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ فَأَشْبَهَ الْخَمْرَ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُبْهَمٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ الصِّحَّةُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فَأَشْبَهَ كَذَا فِي الْحُكْمِ الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ، وَذَلِكَ شَيْءٌ مَعْلُومٌ بَيْنَ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ فَيَجِبُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ بَيَانِهِ اكْتِفَاءً بِالْمَعْلُومِ الْمَوْجُودِ بَيْنَهُمَا. الثَّانِي: أَنْ تُذْكَرَ الْعِلَّةُ وَلَا يُصَرَّحُ بِالْحُكْمِ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ، بَلْ يُعَلَّقُ عَلَى الْعِلَّةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ حُكْمَيْنِ، كَقَوْلِنَا فِي إيجَابِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ: طَهَارَةٌ فَيَسْتَوِي جَامِدُهَا وَمَائِعُهَا فِي النِّيَّةِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ يُرِيدُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَصْلِ فِي إسْقَاطِ النِّيَّةِ، وَفِي الْفُرُوعِ فِي إيجَابِهَا، وَهُمَا حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُشْبِهَ حُكْمُ الشَّيْءِ مِنْ نَظِيرِهِ لَا مِنْ ضِدِّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ فِي النِّيَّةِ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي النِّيَّةِ مَوْجُودٌ فِي الْأَصْلِ فَصَحَّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّفْصِيلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُكْمٍ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ. وَحَكَى شَارِحُ " اللُّمَعِ " عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَّا الْوَجْهَيْنِ هُنَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ.

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي " أَدَبِ الْجَدَلِ ": اخْتَلَفُوا فِي الْقِيَاسِ إذَا كَانَ حُكْمُهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ حُكْمٍ وَحُكْمٍ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعِ: إنَّهُ مَائِعٌ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَاءِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْبَوْلِ وَالْمَرَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقِيلَ: إنَّهُ فَاسِدٌ، لِأَنَّ حُكْمَهُ مَجْهُولٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِثْبَاتِ أَوْ النَّفْيِ، سَوَاءٌ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ فَهُوَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَصْلِ أَوْ الْفَرْعِ فِي الْإِثْبَاتِ، أَوْ فِي الْفَرْعِ فِي النَّفْيِ وَفِي الْأَصْلِ فِي الْإِثْبَاتِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّنَا فِي الْأُولَى نَقِيسُ الشَّيْءَ عَلَى نَظِيرِهِ وَمِثْلِهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ نَقِيسُهُ عَلَى ضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ فَامْتَنَعَ. وَقِيلَ: إنْ ابْتَدَأَ الْمَسْئُولُ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ جَازَ، وَإِنْ قَلَبَهَا عَلَى خَصْمِهِ بِمِثْلِهَا لَمْ يَجُزْ. وَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ فِي أَنَّهُ إذَا قَابَلَ قِيَاسًا لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ حُكْمٍ وَحُكْمٍ، فَقِيلَ: الْقِيَاسُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ التَّسْوِيَةَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِالْحُكْمِ وَيُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ دَرَجَةٍ أُخْرَى فَيُخَالِفُ قِيَاسَ التَّسْوِيَةِ. وَقِيلَ: قِيَاسُ التَّسْوِيَةِ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ التَّشْبِيهَ أَكْثَرَ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ سَهْلٌ الصُّعْلُوكِيُّ فِي بَعْضِ الْمُنَاظَرَاتِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ انْتَهَى. الثَّالِثُ مِنْ الْأَضْرُبِ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْعِلَّةِ إثْبَاتَ التَّأْثِيرِ بِمَعْنًى، كَقَوْلِنَا فِي كَرَاهَةِ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ: خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْفَمِ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلصَّوْمِ فِيهِ تَأْثِيرٌ كَالْمَضْمَضَةِ، فَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ صَحِيحٌ، وَالْقَصْدُ بِالْعِلَّةِ إثْبَاتُ حُكْمِ التَّأْثِيرِ عَلَى الْجُمْلَةِ.

الكلام في شروط حكم الأصل

[الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ] الْكَلَامُ فِي شُرُوطِهِ [شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ] أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي أُرِيدَ تَعْدِيَتُهُ إلَى الْفَرْعِ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِيهِ بِأَنْ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ ابْتِدَاءً أَوْ شُرِعَ لَكِنْ نُسِخَ لَمْ يُمْكِنْ بِنَاءُ حُكْمِ الْفَرْعِ عَلَيْهِ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَى حُكْمٍ مَنْسُوخٍ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقِيَاسِ إثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ الْقِيَاسِ فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ غَيْرَ ثَابِتٍ بِالشَّرْعِ اسْتَحَالَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مِثْلٌ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ يُبَيِّنُ عَدَمَ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لِلْوَصْفِ الْجَامِعِ حِينَئِذٍ، وَتَعْدِيَةُ الْحُكْمِ فَرْعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي بَابِ النَّسْخِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ إنَّهُ إذَا نُسِخَ حُكْمُ الْأَصْلِ يَبْقَى حُكْمُ الْفَرْعِ، لَكِنْ حَيْثُ كَانَ الْأَصْلُ مَعْمُولًا بِهِ، ثُمَّ رَأَيْت هَذَا الْجَمْعَ لِشَارِحِ " اللُّمَعِ " فَقَالَ: الْمَذْكُورُ فِي النَّسْخِ هُوَ فِيمَا إذَا وَقَعَ نَسْخُ الْأَصْلِ بَعْدَ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَالْمَذْكُورُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ نَقِيسَ عَلَى أَصْلٍ بَعْدَ النَّسْخِ فِي مَحَلِّ النَّسْخِ، كَمَا نَقِيسُ عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ بَعْدَ نَسْخِهِ وُجُوبَ صَوْمِ يَوْمٍ، بِخِلَافِ قِيَاسِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى عَاشُورَاءَ فِي عَدَمِ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ سَلَّمَ وُجُوبَهُ ابْتِدَاءً وَسَلَّمَ عَدَمَ افْتِقَارِهِ إلَى التَّبْيِيتِ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِهِ عَلَى رَمَضَانَ، فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ الْوُجُوبُ، وَلَيْسَ الْقِيَاسُ فِي

الْوُجُوبِ، وَلَكِنَّهُ فِي عَدَمِ دَلَالَةِ الْوُجُوبِ إلَى الِافْتِقَارِ إلَى النِّيَّةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نَعَمْ هُنَا إشْكَالٌ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا وَيَلْزَمُهُ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُهَا بِارْتِفَاعِ خُصُوصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَهَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى ذَلِكَ اللَّازِمِ أَمْ لَا؟ مِثَالُهُ صِحَّةُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ إذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ بِنِيَّةٍ نَهَارِيَّةٍ، فَإِذَا نُسِخَ عَاشُورَاءُ بِخُصُوصِهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ نَسْخُ اللَّازِمِ وَهُوَ صِحَّةُ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِنِيَّةٍ نَهَارِيَّةٍ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ الْوَاجِبُ فَيَصِحُّ بِنِيَّةٍ نَهَارِيَّةٍ؟ فِيهِ نَظَرٌ. انْتَهَى. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ شَرْعِيًّا لِيَخْرُجَ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ وَاللُّغَوِيُّ، فَإِنَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجْرِيَ الْقِيَاسُ التَّمْثِيلِيُّ فِيهِمَا: قِيَاسًا شَرْعِيًّا بَلْ عَقْلِيًّا وَلُغَوِيًّا، وَكَلَامُنَا فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ. تَنْبِيهٌ وَيَنْشَأُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ فِي النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْبِنَاءُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ، هَلْ يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ؟ وَهَذَا إذَا قُلْنَا: إنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ حُكْمٌ فَلَا إشْكَالَ عِنْدَهُ فِي صِحَّةِ إثْبَاتِهِ بِالْقِيَاسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ لَيْسَ بِحُكْمٍ، فَقِيلَ: يَصِحُّ أَنْ يَتَلَقَّى مِنْ الْقِيَاسِ. وَقِيلَ: بِالْمَنْعِ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ النَّفْيِ الْمَسْبُوقِ بِالْإِثْبَاتِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ

بِقِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَالنَّفْيُ الْأَصْلِيُّ لَا يَثْبُتُ بِقِيَاسِ الْعِلَّةِ وَيَجُوزُ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ. قَالَ الْأَنْبَارِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَسْبُوقَ بِإِثْبَاتٍ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ أَدِلَّةَ الْإِثْبَاتِ تَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّلَالَةِ فِي حَالَةِ مَنْ يُبْقِي تِلْكَ الْحَالَةَ عَلَى مَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. وَمِثَالُهُ: أَنَّ الْخَمْرَ كَانَ تَحْرِيمُهَا مُنْتَفِيًا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّرْعُ بِالتَّحْرِيمِ مَخْصُوصًا بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَبَقِيَ ثُبُوتُهَا فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَهَذَا نَفْيٌ مَسْبُوقٌ بِإِثْبَاتٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ فَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَكُونَ نَفْيًا أَصْلِيًّا. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ إلَى مَعْرِفَتِهِ سَمْعِيًّا، لِأَنَّ مَا لَيْسَ طَرِيقُهُ بِسَمْعِيٍّ لَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ بَيَانُ طُرُقِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَذَا الشَّرْطُ عَلَى رَأْيِنَا ظَاهِرٌ. وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ فَاحْتَرَزُوا بِهِ عَنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْعَقْلُ وَفِي " الْمَحْصُولِ ": هَذَا الشَّرْطُ عَلَى رَأْيِنَا، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الْمُجَوِّزُونَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعَقْلِ فَفِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ احْتِمَالٌ. رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالنَّصِّ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَيُعْرَفُ حُكْمُهُ بِالنَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَالْعُمُومِ، فَأَمَّا مَا عُرِفَ الْحُكْمُ مِنْهُ بِالْمَفْهُومِ وَالْفَحْوَى فَهَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؟ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ، وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ قُلْنَا: إنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ النُّطْقِ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ كَالْقِيَاسِ فَيَلْحَقُ بِهِ فِيمَا سَيَأْتِي. وَأَمَّا مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ فَهَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا، كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْجَوَازُ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعْرَفْ النَّصُّ الَّذِي أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ كَالنَّصِّ، فَإِذَا جَازَ الْقِيَاسُ عَلَى الثَّابِتِ بِالنَّصِّ جَازَ عَلَى الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ.

قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَشُبْهَةُ الْمَانِعِ احْتِمَالُ كَوْنِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ قَاصِرَةً لَا تَتَعَدَّى. وَجَوَابُهَا: إنَّمَا نُعَلِّلُ بِعِلَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إلَى الْفَرْعِ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ وَمُتَعَدِّيَةٍ جَائِزٌ. وَهَذَا يَلْتَفِتُ إلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ وَعَلَى عِلَّتِهِ هَلْ يَجُوزُ تَعْلِيلُهُ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَنَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى الْحُكْمِ لَا عَلَى الْعِلَّةِ، لِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْعَقْلِيَّاتِ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى. وَأَمَّا مَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ فَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ قِيَاسًا عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْأَصْلُ فَرْعًا لِأَصْلٍ آخَرَ. فَاحْتَجُّوا عَلَى الْمَنْعِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ إنْ اتَّحَدَتْ كَانَ ذِكْرُ الْأَصْلِ الثَّانِي تَطْوِيلًا بِلَا فَائِدَةٍ لِأَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِقِيَاسِ الْفَرْعِ الثَّانِي عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، فَلَا مَعْنَى لِقِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَى الْأُرْزِ بِقِيَاسِ الْأُرْزِ عَلَى الْبُرِّ. وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لَمْ يَنْعَقِدْ الْقِيَاسُ الثَّانِي، لِعَدَمِ اشْتِرَاكِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِيهِ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ. لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْعَ الْقِيَاسِ عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ؛ قَالَ: وَيُسَاعِدُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ. وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْجَوَازِ قَالَ: وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ: جَوَازُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ: قُلْت: وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي " الْأُمِّ " الْمَنْعُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ مِنْ

اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ: إنَّ الْمُسَاقَاةَ عَلَى النَّخْلِ جَائِزَةٌ، وَالْمُزَارَعَةَ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ مُمْتَنِعَةٌ، وَإِنَّ مَنْ أَجَازَهَا قَاسَهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَقَالَ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا غَلَطٌ فِي الْقِيَاسِ، إنَّمَا أَجَزْنَا بِخَبَرِ الْمُضَارَبَةِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا كَانَتْ قِيَاسًا عَلَى الْمُعَامَلَةِ فِي النَّخْلِ فَكَانَتْ تَبَعًا قِيَاسًا، لَا مَتْبُوعًا مَقِيسًا عَلَيْهَا. انْتَهَى. وَأَمَّا الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " فَإِنَّهُ قَسَمَ الْمَسْأَلَةَ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ نَفْسَ الْمَعْنَى الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْهُ مَعْنَى الَّذِي يَقِيسُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَيُقَاسُ غَيْرُهُ قَالَ: وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: الْجَوَازُ، وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ فِي " التَّبْصِرَةِ ". وَالثَّانِي: وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيّ: الْمَنْعُ. قَالَ الشَّيْخُ: وَهُوَ يَصِحُّ عِنْدِي الْآنَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إثْبَاتِ حُكْمٍ فِي الْفَرْعِ بِغَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَكَذَا صَحَّحَهُ فِي الْقَوَاطِعِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْغَزَالِيُّ غَيْرَهُ. وَمِثَالُهُ قِيَاسُ الْأُرْزِ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الطُّعْمِ مَنْ يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأُرْزِ مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي الْبُرِّ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فِي الرِّبَا، كَمَا لَوْ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ أَنَّهُ نَبْتٌ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ الْمَاءُ ثُمَّ يُقَاسُ عَلَيْهِ النَّيْلُوفَرُ. فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ بِالْقِسْمَيْنِ فِي بَابِ الرِّبَا، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْأَوَّلِ، وَحَكَى الْوَجْهَيْنِ فِي الثَّانِي مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَقَالَ: وَأَصْلُهُمَا الْقَوْلُ بِالتَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ، فَمَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ مَنَعَ هُنَا، وَمَنْ أَجَازَهُمَا أَجَازَ هَاهُنَا. لَكِنَّ قَوْلَهُ وَقَوْلَ الشَّيْخِ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إلْحَاقِهِ رَدَّهُ تَعْلِيلُهُمْ بِأَنَّهُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ، وَعَلَى أَنَّ الْغَزَالِيَّ قَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّ تَطْوِيلَ الطَّرِيقِ فِي ذَلِكَ عَيْبٌ فَلَمْ يَجُزْ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَّجِهُ. ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِهِ: وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ

هُمَا الْوَجْهَانِ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ، لِأَنَّهُ يُرَجَّحُ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ. وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ هَذَا الشَّرْطِ مَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ لِلْوَسَطِ فَائِدَةٌ، فَإِنْ ظَهَرَ فَلَا يَمْتَنِعُ قِيَاسُ الْفَرْعِ عَلَى الْفَرْعِ. وَكِتَابُ السِّلْسِلَةِ " لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاظِرِ: أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَبِحَسَبِ مَا يَصْطَلِحُونَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فَأَقْوَالُ مُقَلِّدِيهِمْ وَإِنْ كَانَتْ فُرُوعًا تُنَزَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقَلِّدِينَ مَنْزِلَةَ أَقْوَالِ الشَّارِعِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِذَا حَفِظَ مِنْ إمَامِهِ فُتْيَا وَفَهِمَ مَعْنَاهَا جَازَ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ بِهَا مَا يُشَابِهُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، خِلَافًا لِمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ " بِالتَّخْرِيجِ " وَجَعَلَ إلْكِيَا مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي هَذَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ بِنَصٍّ أَوْ دَلِيلِ نَصٍّ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مِثْلِهِ، وَيَكُونُ الْفَرْعُ الثَّانِي مِثْلًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ قَطْعًا كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَمَعَ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ حَمْلُ الْفَرْعِ عَلَيْهِ بِعِلَّةٍ، فَرَجَعَ حَاصِلُ الْخِلَافِ إلَى أَنَّ الَّذِي ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا وَمَا لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا إذَا كَانَ ثُبُوتُهُ بِعُمُومٍ أَوْ نَصٍّ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ فَرْعًا ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ يَسْتَدْعِي الْبِنَاءَ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ هَلْ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: يَمْتَنِعُ، نَشَأَ مِنْهُ أَنَّ الْفَرْعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِفَرْعٍ آخَرَ. تَنْبِيهٌ إذَا مَنَعْنَا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ قِيَاسًا، يُسْتَثْنَى مِنْهُ صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا: الْقِيَاسُ الَّذِي قَاسَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا جَوَّزْنَا لَهُ الِاجْتِهَادَ.

وَالثَّانِيَةُ: الَّتِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ، ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ وَسَتَأْتِي. خَامِسُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلُ حُكْمِهِ شَامِلًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَمَّهُ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ فَرْعًا وَضَاعَ الْقِيَاسُ، لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ بِالِاسْتِغْنَاءِ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وَالْآخَرِ فَرْعًا أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، وَقَدْ يُنَازَعُ فِيهِ. وَمِثَالُهُ: السَّفَرْجَلُ مَطْعُومٌ، فَيَجْرِي فِيهِ الرِّبَا قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ، ثُمَّ يُسْتَدَلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ الطُّعْمِ بِقَوْلِهِ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» . وَجَوَّزَ آخَرُونَ ذَلِكَ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا ذَكَرَ دَلِيلًا لَهُ مَدْلُولَانِ وَتَمَسَّكَ بِأَحَدِ مَدْلُولَيْهِ عَلَى مَرَامِهِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمُ تَكْلِيفَهُ التَّمَسُّكَ بِمَدْلُولِهِ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَدْلُولُهُ الْآخَرُ غَيْرَ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْعِلَّةِ إنَّمَا تُرَادُ لِإِثْبَاتِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَالدَّلَالَةُ عَلَى ثُبُوتِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ ثُبُوتِهَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَدْلُولُ الْآخَرُ مَحَلَّ النِّزَاعِ وَقَدْ وَجَّهَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ الْحُلُولِ فِي زَكَاةِ الْمَعْدِنِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى النَّقْدَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمَعْدِنِ وَيُقَالُ عَلَيْهِ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْدِنِ وَغَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى

يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» فَإِنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ مَالٍ فَلِمَ جَعَلْتُمْ مَالَ الْمَعْدِنِ فَرْعًا؟ سَادِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ لَاحْتَاجَ الْقِيَاسُ إلَى ثُبُوتِهِ فَيَنْتَقِلُ مِنْ مَسْأَلَةٍ إلَى أُخْرَى. وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُغْنِي عَنْ قَوْلِهِمْ فِيمَا سَبَقَ: أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ. لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ مَعَ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ. وَجَوَّزَ آخَرُونَ الْقِيَاسَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ الْحُكْمِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي نَفْسِهِ لَا يَشْتَرِطُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِهِ، فَسُقُوطُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْلَى. وَقِيلَ: يَجُوزُ إنْ كَانَ الْمَنْعُ خَفِيًّا. وَقِيلَ: يَجُوزُ إنْ أَمْكَنَ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ يُثْبِتَانِ حُكْمَ الْأَصْلِ وَلَا يَتَنَاوَلَانِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْأَصْلُ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ عِلَّةً عَدَّى بِهَا الْحُكْمَ إلَى الْفَرْعِ، فَلَا يَكُونُ حُكْمُ الْفَرْعِ ثَابِتًا بِمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ. فَيُقَالُ: كَانَ اسْتِعْمَالُ الْأَصْلِ حَشْوًا، وَلَا يَكُونُ حُكْمُ الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ مُخْتَصًّا فِي ثُبُوتِهِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِهِ. وَقِيلَ: يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى اصْطِلَاحِ

أَهْلِ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ جُحُودٍ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ: فَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ: فَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتَّفِقَ عَلَيْهِ الْخَصْمَانِ فَقَطْ لِتَنْضَبِطَ فَائِدَةُ الْمُنَاظَرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَاخْتَارَ فِي " الْمُنْتَهَى " أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إنْ كَانَ مُقَلِّدًا لَمْ يُشْتَرَطْ الْإِجْمَاعُ إذْ لَيْسَ مَنْعُ مَا ثَبَتَ: مَذْهَبًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا اُشْتُرِطَ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَيْسَ مُرْتَبِطًا بِإِمَامٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَلَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ فِي الْأَصْلِ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ أَوْ يُعَيِّنَ عِلَّةً لَا تَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ. وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، لَكِنَّ وُقُوعَهُ بَعِيدٌ. ثُمَّ إذَا اتَّفَقَا عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ بِعِلَّتَيْنِ فَالْعِلَّةُ عِنْدَ الْخَصْمِ غَيْرُ الْعِلَّةِ عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ، فَهُوَ مُرَكَّبُ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ، أَيْ مَا جُعِلَ جَامِعًا، وَصْفَانِ يَصْلُحُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، كَمَا فِي قِيَاسِ حُلِيِّ الْبَالِغَةِ عَلَى حُلِيِّ الصَّبِيَّةِ، فَإِنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ فِي حُلِيِّ الصَّبِيَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ لَكِنْ لِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَإِنَّهُ عِنْدَنَا لِعِلَّةِ كَوْنِهِ حُلِيًّا، وَعِنْدَهُمْ لِعِلَّةِ كَوْنِهِ مَالًا لِلصَّبِيَّةِ، وَالْمُعْتَرِضُ عَلَى أَحَدِ الْحُسْنَيَيْنِ لِأَنَّ عِلَّتَهُ إنْ كَانَتْ هِيَ الصَّحِيحَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ انْقَطَعَ قِيَاسُ خَصْمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عِلَّةُ الْمُعْتَرِضِ هِيَ الْبَاطِلَةُ مُنِعَ حُكْمُ الْأَصْلِ فَانْقَطَعَ الْقِيَاسُ أَيْضًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ مُرَكَّبًا لِاخْتِلَافِ الْحُكْمَيْنِ فِي عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَقَطْ، كَمَا صَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ قِيَاسٍ اخْتَلَفَ فِي عِلَّةِ أَصْلِهِ مُرَكَّبًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، بَلْ لِاخْتِلَافِ الْخَصْمِ فِي تَرْكِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ الْمُسْتَدِلَّ. يَزْعُمُ أَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهِيَ فَرْعٌ لَهُ، وَالْمُعْتَرِضُ يَزْعُمُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ فَرْعٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَلَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِهِ سِوَاهَا، وَلِذَلِكَ

يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ انْتِفَائِهَا وَبُطْلَانِهَا. وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَرْكِيبَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ نَظَرٌ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ. وَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ، وَلَكِنْ مَنَعَ الْخَصْمُ وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ فَيُسَمَّى مُرَكَّبَ الْوَصْفِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِهِمْ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَصْلِ أَمْ لَا؟ وَسُمِّيَ تَرْكِيبًا فِي الْوَصْفِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي وَقَعَ التَّرْكِيبُ فِي عِلَّتِهِ وَقَعَ جَامِعًا فِي الْقِيَاسِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ وَصْفًا لِأَنَّ أَصْلَ الْجَمْعِ بِالْأَوْصَافِ. وَمِثَالُهُ اخْتِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِالْوَلَدِ، فَإِذَا قَاسَ الشَّافِعِيُّ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِحُكْمٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ مُخْتَلَفٍ فِي عِلَّتِهِ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ كَوْنُ الْمُسْلِمِ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ إذَا قَتَلَهُ بِالْمُثَقَّلِ، يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِهِ إذَا قَتَلَهُ بِالْمُحَدَّدِ، لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِابْنِهِ بِاتِّفَاقِهِمَا مُحَدَّدًا أَوْ مُثَقَّلًا. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أُخِذَ مِنْ اجْتِمَاعِ الْحُكْمَيْنِ فِي الْأَبِ وَاسْتِوَائِهِمَا فِي حَقِّهِ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، لَكِنَّ الْعِلَّةَ مُخْتَلِفَةٌ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِالْمُثَقَّلِ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِهِ مُثَقَّلًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ. وَكَلَامُ الْهِنْدِيِّ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ بِالْأَوَّلِ فَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا الثَّانِي، وَالْأَصَحُّ تَنَاوُلُهُ لِلْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَيْهِ جَرَى الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا، فَقَبِلَهُمَا جَمَاعَةٌ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُمَا لَا يُقْبَلَانِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يُنْقَلُ عَنْ عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ أَوْ مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالثَّانِي لَا يُنْقَلُ عَنْ عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ أَوْ مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ ": أَمَّا مُرَكَّبُ الْأَصْلِ فَمِنْهُ الشَّيْءُ الْمُتَفَاحِشُ وَمِنْهُ مَا لَا يَتَفَاحَشُ، كَقَوْلِهِ: أُنْثَى فَلَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا كَبِنْتِ خَمْسَ

عَشْرَةَ، فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَحَاصِلُ خِلَافِهِمْ يُؤَوَّلُ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْمُعَلِّلُ يَلْتَزِمُ إثْبَاتَ الْأُنُوثَةِ عِلَّةً، فَإِنْ أَثْبَتَهَا ثَبَتَ بِهِ أَنَّهَا الْعِلَّةُ، وَتَشَعُّبُ الْمَذَاهِبِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُعَلِّلُ مِنْ إثْبَاتِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَرْعِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ فَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرَكَّبًا. فَإِذَنْ لَا تَأْثِيرَ لِلتَّرْكِيبِ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا الْمُتَّبَعُ إثْبَاتُ عِلَلِ الْأُصُولِ قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ يَقُولُ: ظَنَنْت الْخَمْسَ عَشْرَةَ صَغِيرَةً، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى الصَّغِيرَةِ بَاطِلًا كَمَا تَقَدَّمَ إلْحَاقًا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَأْلُوفٍ، قَالَ: وَأَمَّا التَّرْكِيبُ فِي الْوَصْفِ فَيَنْقَسِمُ كَذَلِكَ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ لَا يَسْتَوْجِبُ الْقِصَاصَ، كَقَتْلِ الْمُثَقَّلِ لَا يُوجِبُ قَتْلَ السَّيْفِ كَالْأَبِ فِي ابْنِهِ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ عِنْدَنَا. وَقَالَ إلْكِيَا فِي تَعْلِيقِهِ ": لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ فِي الْمُرَكَّبِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَتَرَكَّبَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَلَوْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ يَتَعَرَّضُونَ لَهُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ، وَنُقِلَ عَنْ الدَّارَكِيِّ أَنَّهُ قَالَ: التَّرْكِيبُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ يُمْكِنُ انْتِقَاضُهُ بِأَنْ يُعَارَضَ بِالتَّعْدِيَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا غَفْلَةٌ مِنْهُ وَلَعَلَّهُ قَالَهُ فِي ضِيقِ النَّظَرِ فَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سَلَّمَ لِخَصْمِهِ وُجُودَ عِلَّتِهِ وَهِيَ الْأُنُوثَةُ وَهُوَ لَمْ يُسَلِّمْ وُجُودَ عِلَّتِهِ وَهِيَ الصِّغَرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَّلَ وَعَدَّى إلَى فَرْعٍ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ، وَالْمُسْتَدِلُّ عَلَّلَ وَعَدَّى فَتَكَاسَلَ عَنْهُ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَا مِنْ الْأَصْحَابِ غَيْرُ صَحِيحٍ،

وَالرَّجُلُ مَا قَالَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ نَظَرٍ وَتَحْقِيقٍ. أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ خَصْمُهُ وُجُودَ الصِّغَرِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ قَدْ سَلَّمَ لَهُ وُجُودَ الْأُنُوثَةِ، فَلِهَذَا يُبْنَى عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ السَّائِلَ إذَا عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ مُعَارَضَتَهُ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَدُلَّ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَارَضَ فَقَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ مُسْتَدِلًّا فَلَهُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ إذَا مُونِعَ وُجُودُ الصِّغَرِ ذَكَرَ عِلَّتَهُ وَيَكْفِيهِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَذَهَبَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا (الطَّرْدِيِّينَ) وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ إلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ وَتَكُونَ عِلَّةُ الْأَصْلِ مُخْتَلَفًا فِيهَا بِحَيْثُ لَوْ قَدَّرْنَا فَسَادَ تِلْكَ الْعِلَّةِ لَتَضَمَّنَ ذَلِكَ بُطْلَانَ الْحُكْمِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مِنْ أَصْلٍ يُبْنَى عَلَيْهِ فَرْعٌ إلَّا وَيَكُونُ عِلَّةُ ذَلِكَ الْأَصْلِ مُخْتَلَفًا فِيهَا، فَبِمَ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْيِسَةِ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ، وَفِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ تَكُونُ الْعِلَّةُ نَتِيجَةَ الْحُكْمِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ مَاذَا فِي الرِّبَا؟ هَلْ هِيَ الطُّعْمُ أَوْ الْكَيْلُ؟ وَحُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّهُمْ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ الْعِلَلِ اتَّفَقُوا عَلَى الْحُكْمِ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ إلَّا أَنَّهُمْ نَازَعُوا بَعْدَهُ فِي عِلَّةِ هَذَا الْحُكْمِ. وَلَوْ قَدَّرْنَا فَسَادَ هَذِهِ الْعِلَلِ بِأَسْرِهَا لَمْ يَبْطُلْ الْحُكْمُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ، فَلَوْ بَطَلَتْ الْعِلَّةُ بَطَلَ الْحُكْمُ، كَقَوْلِنَا فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ: ابْنُ فُلَانٍ يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى بِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَالْحُكْمُ فِي هَذَا الْقِيَاسِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّ بِنْتَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَا تَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا صَارُوا إلَيْهِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهَا، وَلَوْ قَدَّرْنَا بُطْلَانَ هَذِهِ الْعِلَّةِ بَطَلَ هَذَا الْحُكْمُ.

الثَّانِي: أَنَّ التَّنَازُعَ فِي الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ يَقَعُ فِي وُجُودِ الْعِلَّةِ دُونَ الِاعْتِبَارِ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ يَقَعُ فِي الِاعْتِبَارِ دُونَ الْوُجُودِ. وَأَلْحَقَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْقِيَاسَ بِالطَّرْدِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَالَ: وَطَائِفَةٌ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ يُصَحِّحُونَهُ وَيَقُولُونَ: الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَالْمُعَلِّلُ عَلَّلَ بِالْأُنُوثَةِ وَهِيَ تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ وَقِيَاسٌ عَلَى أَصْلٍ مُسَلَّمٍ، فَاخْتِلَافُ الْمَذَاهِبِ لَا يَضُرُّ قَبْلَ هَذَا التَّعْلِيلِ. وَالدَّلِيلُ لَا يَرْضَى بِهِ مُحَقِّقٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَاَلَّذِي يُوقِعُ فِي التَّرْكِيبِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إنَّمَا هُوَ عِلْمُ الْمُرَكَّبِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْإِشْهَادِ عَلَى مَعْنَاهُ بِأَصْلِ الْعِلَّةِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ بَاطِلٌ فَيُحِيلُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ بِصُورَةِ الْأَقْيِسَةِ فَيَتَخَلَّفُ أَيْضًا فِي كَوْنِهِ أَصْلًا فِيهِ وَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ نَفْسُ الْفَرْعِ، وَهَذِهِ حِيَلٌ جَدَلِيَّةٌ لَا وَقْعَ لَهَا عِنْدَ طَالِبِ التَّحْقِيقِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْخَصْمُ مَا جَعَلَهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ فِيهِمَا، أَوْ أَثْبَتَ الْمُسْتَدِلُّ وُجُودَهَا فِي الْأَصْلِ، أَوْ سَلَّمَ النَّاظِرُ انْتَهَضَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى الْخَصْمِ، فَلَوْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الْأَصْلِ وَلَكِنْ أَثْبَتَ الْمُسْتَدِلُّ بِأَصْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ بِمُوَافَقَةِ الْحُكْمِ، ثُمَّ أَثْبَتَ الْعِلَّةَ بِطَرِيقِهَا، فَإِنَّهُ يَنْتَهِضُ دَلِيلُهُ عَلَى الْخَصْمِ الْمُجْتَهِدِ عَلَى الْأَصَحِّ وَيُقْبَلُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ فَذَكَرَ فِيهَا السَّبَبَ. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى سِتَّةِ أَضْرُبٍ: مُرَكَّبِ الْأَصْلِ، وَمُرَكَّبِ الْفَرْعِ، وَمُرَكَّبِ الْوَصْفِ، وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ، وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَالْفَرْعِ، وَزَادَ هُوَ قِسْمًا سَابِعًا وَهُوَ مُرَكَّبُ الْوَصْفِ وَالْفَرْعِ، وَالْمُسْتَعْمَلُ مِنْ هَذِهِ ثَلَاثَةٌ: مُرَكَّبُ الْأَصْلِ، وَمُرَكَّبُ الْوَصْفِ، وَمُرَكَّبُ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ. مِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ تَعْلِيلُ أَصْحَابِنَا فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ أَنَّهُ مُسْلِمٌ قَتَلَ كَافِرًا فَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ، وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْمُثَقَّلِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ لِكَوْنِهِ قَتْلًا بِمُثَقَّلٍ، وَعِنْدَنَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ

بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ، فَالْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ فِيهِ لَكِنْ مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ. وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْفَرْعِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَيَفْرِضَ الْكَلَامَ فِيمَنْ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَقُولُ: مَنْ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي زَرْعِهِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ كَالْبَالِغِ، وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ فِيهِ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مُخْتَلَفٌ فِي بُلُوغِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُخَالِفُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَنْ يَقُولَ: الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَكَذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ قَالَ الْمُعَلِّلُ: لَا أُسَلِّمُ هَذَا. وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْوَصْفِ أَنْ يُعَلِّلَ شَافِعِيٌّ لِلْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِذَا قَتَلَهُ بِمُحَدَّدٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مِنْ أَصْلِهِ إذَا كَانَ حَرْبِيًّا. وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ قَوْلُ أَصْحَابِنَا: فِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ حَالَةٌ يَصِحُّ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ فِيهَا بِالثَّمَنِ عِنْدَ الْمُخَالِفِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهَا الْخِيَارُ، كَمَا إذَا قَالَ: بِعْنِي، فَقَالَ: بِعْتُك. فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْوَصْفِ أَنَّ إلْحَاقَ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ يَجُوزُ قَبْلَ انْبِرَامِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ لِثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَقَوْلُهُ: " حَالَةٌ يَجُوزُ الْإِلْحَاقُ لِلزِّيَادَةِ فِيهَا بِالثَّمَنِ " صَحِيحٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ بِالْأَصْلِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ لَا يَتِمُّ عِنْدَ الْمُخَالِفِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْت، وَعِنْدَنَا قَدْ تَمَّ لَكِنْ لَمْ يَلْزَمْ لِأَجْلِ الْمَجْلِسِ فَثُبُوتُ الْخِيَارِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عِلَّتِهِ. وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ: أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ بِالْخَلِّ وَيَقُولَ: أَفْرِضُ الْكَلَامَ فِي غَسْلِ الثَّوْبِ بِالنَّبِيذِ وَأَقُولُ: مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَا يُطَهِّرُ النَّجِسَ، كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ. فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّ النَّبِيذَ عِنَبٌ. لَكِنْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ وَإِنَّمَا اسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةَ.

وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ الْمُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ نَجِسٌ عِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَجُوزُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِهِ، وَعِنْدَنَا هُوَ طَاهِرٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا الْأَصْلُ وَلَا الْفَرْعُ مُسَلَّمٌ. وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَالْفَرْعِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالْخَلِّ وَيَقُولَ: أَفْرِضُ الْكَلَامَ فِي غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالنَّبِيذِ، فَأَقُولُ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَمْ يُرْفَعْ بِهِ حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ، فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ التَّطْهِيرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِكَوْنِهِ نَجِسًا، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ لَكِنْ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِنَجَاسَتِهِ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَمَا يَرْفَعُهُ الْمَاءُ لَكِنْ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ. وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ نَجِسٌ. وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْفَرْعِ وَالْوَصْفِ: أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ الْمَنْعَ مِنْ غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالْخَلِّ، وَيَفْرِضَ الْكَلَامَ فِي غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالنَّبِيذِ، فَيَقُولُ: مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ النَّجِسِ. سَابِعُهَا: أَنْ لَا نَكُونَ مُتَعَبَّدِينَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالْقَطْعِ، فَإِنْ تُعُبِّدْنَا بِالْقَطْعِ لَمْ يَجُزْ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ غَيْرَ الظَّنِّ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الْقِيَاسُ، كَإِثْبَاتِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً بِالْقِيَاسِ عَلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْفَتْوَى عَلَى رَأْيِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ. وَذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي جَدَلِهِ " وَالْهِنْدِيُّ فِي " النِّهَايَةِ " وَالْبُرْهَانُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي " الْعُنْوَانِ " وَفِيهِ نَظَرٌ. إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ تَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ بِجَامِعٍ شَبَهِيٍّ، فَيَكُونُ حُصُولُهُ فِي الْفَرْعِ مَظْنُونًا. وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ إذْ قَدْ نَصُّوا عَلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ تَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا، وَتَارَةً أَقْوَى، وَتَارَةً

أَضْعَفُ. هَذَا إذَا كَانَ الْقِيَاسُ شَبِيهًا، فَإِنْ كَانَ قِيَاسَ الْعِلَّةِ فَنَحْنُ لَا نَقِيسُ إلَّا إذَا وُجِدَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَإِذَا وُجِدَتْ فِيهِ أَثَّرَتْ مِثْلَ حُكْمِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ مَقْطُوعًا بِهِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ يُفِيدُ وُجُودَ الْمَدْلُولِ، فَدَلَالَةُ عِلَّةِ الْأَصْلِ إذَا وُجِدَتْ فِي الْفَرْعِ دَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ قَطْعًا. وَكَانَ الْقِيَاسُ قَطْعًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ. وَقَدْ ضَعَّفَ الْإِبْيَارِيُّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ. وَقَالَ: بَلْ مَا يَتَعَدَّ فِيهِ بِالْعِلْمِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ. وَقَدْ قَسَمَهُ الْمُحَقِّقُونَ إلَى: مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ: وَقَالُوا: إنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ النَّصُّ الْمُتَوَاتِرُ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، فَأَجْرَوْهُ مَجْرَى الْمَقْطُوعِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": لَعَلَّ هَذَا الشَّرْطَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ دَلِيلَ الْقِيَاسِ ظَنِّيٌّ، وَإِلَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَعَلِمْنَا الْعِلَّةَ قَطْعًا وَوُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ قَطْعًا فَقَدْ عَلِمْنَا الْحُكْمَ قَطْعًا. وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: عِنْدِي أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِي الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْيَقِينِ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ ثُمَّ تَحْصِيلُ الْيَقِينِ بِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ حَاصِلَةٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ بِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ مِثْلُ حُكْمِ الْأَصْلِ. بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الْبَحْثُ فِي أَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْصِيلُ هَذَيْنِ الْيَقِينَيْنِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا الَّذِي طَرِيقُهُ الظَّنُّ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِيهِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ عَلَى النُّدُورِ لَمْ يَمْتَنِعْ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ لِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ قِيَاسًا شَرْعِيًّا مُخْتَلَفًا فِيهِ قَالَ: وَهَذَا يَسْتَقِيمُ إنْ أُرِيدَ بِهِ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي الْقِيَاسِ الظَّنِّيِّ الَّذِي هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَأَمَّا إنْ أُرِيدَ بِهِ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي الْقِيَاسِ كَيْفَ كَانَ، فَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ حَذْفُ قَيْدِ الْعِلْمِ عَنْهُ.

ثَامِنُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ إثْبَاتَ الْقِيَاسِ مَعَهُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ مَعَ مُنَافِيهِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْخَارِجُ عَنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَهَذَا إطْلَاقٌ مُجْمَلٌ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُمَا، لَكِنْ أَطْلَقَ ابْنُ بَرْهَانٍ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا جَوَازُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُدِلَ فِيهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، وَمَثَّلَهُ بِمَا زَادَ عَلَى أَرْشِ الْمُوضِحَةِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَمَا دُونَهُ هَلْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَنَا: تَحْمِلُهُ قِيَاسًا عَلَى أَرْشِهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَحْمِلُهُ. وَهَكَذَا حَكَى إلْكِيَا عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا أَقْوَالَهُمْ بِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي الْمَعْدُولِ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ قَالَ: وَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ عِنْدَنَا فَذَكَرَهُ وَسَيَأْتِي، وَالْجَوَازُ هُنَا قَضِيَّةُ مَا سَبَقَ مِنْ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالرُّخَصِ. وَقَالَ فِي " الْقَوَاطِعِ ": يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى أَصْلٍ مُخَالِفٍ فِي نَفْسِهِ الْأُصُولَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَدَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيّ وَمَنَعَ جَوَازَهُ إلَّا بِإِحْدَى خِلَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ قَدْ نَصَّ عَلَى عِلَّتِهِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ» لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ كَالتَّصْرِيحِ بِوُجُوبِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ.

ثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى تَعْلِيلِ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ عَلَى بَعْضِ الْأُصُولِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ كَالْخَبَرِ الْوَارِدِ بِالتَّحَالُفِ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا تَبَايَعَا، فَإِنَّهُ يُخَالِفُ قِيَاسَ الْأُصُولِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ، لِأَنَّهُ يُوَافِقُ بَعْضَ الْأُصُولِ، وَهُوَ أَنَّ مَا يُمْلَكُ عَلَى الْغَيْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ فِي أَنَّهُ أَيُّ شَيْءٍ مَلَكَ عَلَيْهِ، وَقَالُوا إذَا كَانَ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ يُنْتِجُ الْقِيَاسَ وَأَصْلٌ يَحْظُرُهُ، وَكَانَ الْأَصْلُ جَوَازَ الْقِيَاسِ وَجَبَ الْقِيَاسُ، وَقَالُوا أَيْضًا: يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَخْصُوصِ إذَا لَمْ يُفْصَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْصُوصِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا خُصَّ مِنْ جُمْلَةِ الْقِيَاسِ كَجِمَاعِ النَّاسِي وَأَكْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ: إذَا كَانَ الْخَبَرُ الْوَارِدُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ الْقِيَاسُ، فَاقْتَضَى قَوْلُهُ هَذَا إذَا كَانَ الْخَبَرُ مَقْطُوعًا بِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ. لَنَا أَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ أَصْلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَعْنًى وَيُقَاسَ عَلَيْهِ دَلِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ فِيهِ الْخَبَرُ صَارَ أَصْلًا فِي نَفْسِهِ، فَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ كَالْقِيَاسِ عَلَى بَاقِي الْأُصُولِ.

قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَدْ يُمْنَعُ التَّعْلِيلُ بِنَصِّ كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى الِاقْتِصَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بُرْدَةَ: «وَلَنْ يُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» وَقَوْلِهِ: «أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» ، فَإِذَا امْتَنَعَ النَّصُّ عَلَى الْقِيَاسِ امْتَنَعَا. وَكَذَلِكَ لَوْ فُرِضَ إجْمَاعٌ عَلَى هَذَا النَّحْوِ كَالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْصُرُ، وَإِنْ سَاوَى الْمُسَافِرَ فِي الْفِطْرِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: وَلَا يُقَاسُ عَلَى الْمَخْصُوصِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ فَيُقَالُ: إنَّهُ أَرَادَ بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ فِيهِ. وَالْأَصْلُ فِيمَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَخْصُوصِ وَيَمْتَحِنَ، فَإِنْ كَانَ يَتَعَدَّى قِيسَ عَلَيْهِ، كَقِيَاسِ الْخِنْزِيرِ عَلَى الْكَلْبِ فِي الْوُلُوغِ، وَقِيَاسِ خُفِّ الْحَدِيدِ عَلَى الْأَدَمِ بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَخْصُوصِ وَصْفٌ يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ كَالْجَنِينِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الشَّخْصُ الْمَلْفُوفُ فِي الثَّوْبِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى فِي الْجَنِينِ يُقَاسُ عَلَيْهِ الْمَلْفُوفُ. أهـ. وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا فَالْقَطْعِيُّ يَجُوزُ إلْحَاقُ الْغَيْرِ بِهِ وَالظَّنِّيُّ يَكُونُ الْفَرْعُ مِنْهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَصْلَيْنِ: أَصْلٌ يُوجِبُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِيهِ، وَآخَرُ يَنْفِيهِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمُسَمَّى وَغَيْرِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ التَّرْجِيحُ بِدَلِيلٍ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَسْتَدْعِي تَعْرِيفَ مَا عُدِلَ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ إلْكِيَا ذَلِكَ بِأَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ قَاعِدَةً مُتَأَصِّلَةً فِي نَفْسِهَا مُخْتَصَّةً بِأَحْكَامِ غَيْرِهَا، فَلَا يُقَالُ لِهَذَا الْمَعْنَى إنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَصْلٌ أَوْلَى بِهِ، كَقَوْلِهِمْ: النِّكَاحُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ يَصِحُّ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ، فَصِحَّتُهُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ مَا فِي النِّكَاحِ مِنْ الْمَقْصُودِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِإِبْهَامِ الْمُدَّةِ

كَالتَّنَاسُلِ، فَالْإِبْهَامُ فِيهِ كَالْإِعْلَامِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: السَّلَمُ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ مُعَامَلَةُ مَوْجُودٍ بِمَعْدُومٍ، وَكَذَا الْإِجَارَةُ. فَإِنَّا لَمْ نُجَوِّزْ الْمُعَامَلَةَ بِمَوْجُودٍ لِمَعْدُومٍ لِغَرَرٍ مُتَوَقَّعٍ، وَإِلَّا فَالْعَقْلُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ إذَا وُجِدَ الرِّضَا، وَلَكِنَّ الِاغْتِرَارَ مِمَّا يَجُرُّ نَدَمًا وَضَرَرًا، فَإِذَا ظَهَرَ لَنَا فِي السَّلَمِ أَنَّ الْحَالَةَ الدَّاعِيَةَ إلَى تَجْوِيزِهِ هِيَ الْغَرَرُ الْمَقْرُونُ بِالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْوَزْنِ مَا يُخَالِفُ أَنَّهُ مُخَالِفُ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الرِّضَا وَيَعْتَدُّ بِهِ الشَّارِعُ لِلْمَصَالِحِ الْجُزْئِيَّةِ وَحَيْثُ لَا مَصْلَحَةَ فِي نَفْيِ الْغَرَرِ رُدَّ إلَى الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ الرِّضَا، فَغَلَّبْنَا مَصْلَحَةً عَلَى أُخْرَى. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَلَقَّى مِنْ أَصْلٍ آخَرَ وَلَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْأَصْلِ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ، وَبِهِ يَتَمَيَّزُ هَذَا الْقِسْمُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَنَظِيرُهُ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ مَعَ الْجَرِيمَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ غَلَّبَ حُرْمَةَ الْأُبُوَّةِ فَقَالَ: لَا يُقْتَلُ بِهِ، فَهَذَا لَا يَظْهَرُ لَنَا وَجْهُ تَغْلِيبِهِ. بِخِلَافِ السَّلَمِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لَنَا مِنْ قِيَاسِ الْأُصُولِ تَغْلِيبُ حَاجَةِ الْمُسْلِمِ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لِمَعْنًى خَفِيٍّ. وَمِنْهُ: الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَإِنَّهَا أُثْبِتَتْ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْمَضْمُونَاتِ، وَكُلُّ قِيَاسٍ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ هَذَا الِاخْتِصَاصِ مَرْدُودٌ، وَكُلُّ قِيَاسٍ يَتَضَمَّنُ تَقْرِيبًا مَقْبُولٌ، فَهُوَ عَلَى اعْتِبَارِ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِمِقْدَارِ الْمُوضِحَةِ، وَتَحَمُّلُ الْعَاقِلَةِ. أُثْبِتَ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ حَتَّى يَهْتَدِيَ الْبَدَلُ وَتَتَعَاوَنَ عَلَى أَدَائِهِ، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي بَدَلِ الْعَبْدِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي إخْرَاجِ الصَّيْدِ مِنْ قِيمَتِهِ وَهَلْ هُوَ كَخِرَاجِ الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهِ اعْتِبَارِ قِيَاسِ الْغَرَامَاتِ، وَيَجُوزُ إجْرَاءُ الْقِيَاسِ فِيهِ عَلَى شَرْطِ الْتِزَامِ التَّقْرِيبِ بِحَيْثُ لَا يَلْتَزِمُ إبْطَالَ التَّخْصِيصِ أَوْ تَصَرُّفًا فِي غَيْبٍ وَالتَّقْرِيبُ الْخَاصُّ أَوْلَى مِنْ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الْمُخَيَّلِ، فَهَذَا هُوَ الْعُدُولُ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ فَهَاهُنَا أَوْلَى.

الثَّالِثُ: إذَا كَانَ أَصْلُهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ وَلَا جُزْئِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ لَنَا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْعَرَايَا إنَّهُ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ الرِّبَا وَفِي الْعَرَايَا مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا يُتَخَيَّلُ ذَلِكَ فِي الرِّبَا، وَلَكِنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ فِي الرِّبَا: وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَصْلَحَةٍ خَفِيَّةٍ كَمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهَا فِي رِبَا النَّسَاءِ، وَلَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَهُ لِأَنَّ التَّوَسُّعَ فِيهِ يَجُرُّ إلَى رِبَا النَّسَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَايَا مُخَالِفَةٌ لِهَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: الْعَرَايَا مُخَالِفَةٌ لِقِيَاسِ الرِّبَا أَنَّهَا عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَعْهُودِ مِنْ قِيَاسِ الرِّبَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْمَصْلَحَةِ مَعْهُودًا لَنَا، وَإِذَا سَاغَ - دُونَ فَهْمِ الْمَعْنَى - إلْحَاقُ مَا عَدَا الْمَنْصُوصَ بِهِ سَاغَ تَقْدِيرُ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ حَيْثُ امْتَنَعَ الِاعْتِبَارُ وَالتَّقْرِيبُ مِنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الْأَجَلَ وَالْخِيَارَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ اتِّبَاعُ التَّرَاضِي وَهُوَ الْقِيَاسُ الْأَصْلِيُّ، فَإِنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْعَالِمِ إلَّا بِهِ، وَتَجْوِيزُ الْخِيَارِ مِنْ تَفَاصِيلِ أَصْلِ الرِّضَا، فَصَحَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لَكِنَّهُ خِلَافُ قِيَاسٍ هُوَ أَوْلَى بِهِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ. وَأَقُولُ: هُوَ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرَدَّ ابْتِدَاءً غَيْرَ مُقْتَطَعٍ مِنْ أَصْلٍ، وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِتَعَذُّرِ الْعِلَّةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُسَمَّى هَذَا خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ تَجَوُّزًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مُنْقَاسًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقِيَاسِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ. وَمِثَالُهُ الْمُقَدَّرَاتُ وَأَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ وَنُصُبُ الزَّكَوَاتِ وَمَقَادِيرُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ. أَمَّا أَصْلُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا كَمَا سَبَقَ. الثَّانِي: مَا شُرِعَ مُبْتَدَأً غَيْرَ مُقْتَطَعٍ مِنْ أَصْلٍ وَهُوَ مَعْقُولٌ لَكِنَّهُ عَدِيمُ النَّظِيرِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِتَعَذُّرِ الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَتَسْمِيَتُهُ هَذَا بِالْخَارِجِ عَنْ الْقِيَاسِ بَعِيدَةٌ جِدًّا. قُلْت: فِيهِ التَّأْوِيلُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَمِثَالُهُ تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ وَالْقَسَامَةُ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وُجُودُ الْبَهِيمَةِ فِي الْمَحَلَّةِ مَقْتُولَةً، وَكَذَا جَنِينُهَا لَا يُضْمَنُ، بِخِلَافِ جَنِينِ الْآدَمِيِّ، لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي جَنِينِ الْآدَمِيِّ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ.

وَمِنْهُ: رُخَصُ السَّفَرِ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْمُضْطَرُّ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ بِالْمَرَضِ قِيَاسًا عَلَى السَّفَرِ، وَعِنْدَ الْغَزَالِيِّ مِنْ هَذَا ضَرْبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَخَالَفَ إمَامَهُ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مِمَّا عُقِلَ مَعْنَاهُ، وَتَعَلُّقُ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَقِسْ الْأَرْشَ عَلَى الدِّيَةِ فِي الْعَقْلِ: وَلَا أَقِيسُ عَلَى الدِّيَةِ غَيْرَهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْجَانِيَ أَوْلَى أَنْ يَغْرَمَ جِنَايَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا يَغْرَمُهَا عَنْ الْخَطَأِ فِي الْجِرَاحِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْقَاتِلِ خَطَأَ دِيَةٍ وَرَقَبَةٍ، فَزَعَمَتْ أَنَّ الرَّقَبَةَ فِي مَالِهِ لِأَنَّهَا مِنْ جِنَايَتِهِ، وَأَخْرَجَتْ الدِّيَةَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اتِّبَاعًا انْتَهَى. الثَّالِثُ: مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ وَثَبَتَ اخْتِصَاصُ الْمُسْتَثْنَى بِحُكْمِهِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ فُهِمَ مِنْ الشَّرْعِ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ الْمُسْتَثْنَى، وَفِي الْقِيَاسِ إبْطَالُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ، سَوَاءٌ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ كَاخْتِصَاصِ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ أَوْ عُقِلَ كَاخْتِصَاصِ أَبِي بُرْدَةَ بِالتَّضْحِيَةِ بِعَنَاقٍ نَظَرًا لِفَقْرِهِ، فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ غَيْرُهُ لِأَجْلِ صَرِيحِ الْمَنْعِ مِنْ الشَّارِعِ: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» ثُمَّ تَارَةً يُعْلَمُ الِاخْتِصَاصُ بِالتَّنْصِيصِ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِ، كَقَبُولِ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ ذُو الْحِجَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَاشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ فِي الزِّنَى وَالثَّلَاثَةِ فِي الشَّهَادَةِ بِالْإِعْسَارِ عَلَى وَجْهٍ، لِأَجْلِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ إلْكِيَا: التَّخْصِيصُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: تَخْصِيصُ عَيْنٍ، أَوْ مَكَان أَوْ حَالٍ. فَالْعَيْنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] وَالْمَكَانُ

كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» وَالْحَالُ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ. الرَّابِعُ: مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ لَكِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْقُولُ الْمَعْنَى، كَبَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فِي الْعَرَايَا، فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ الرِّبَا عِنْدَنَا وَاقْتَطَعَ عَنْهَا بِحَاجَةِ الْمَحَاوِيجِ وَقَاسَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْعِنَبَ عَلَى الرُّطَبِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَيُشْبِهُ أَنْ يُخَرَّجَ فِيهِ قَوْلَانِ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ هَلْ يُنَجِّسُ؟ إنَّمَا الدَّلِيلُ وَالْقِيَاسُ التَّنْجِيسُ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُهُ قِيَاسًا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ فِي الذُّبَابِ الْخَارِجِ عَنْ الْقَاعِدَةِ الْمُمَهَّدَةِ. وَمِنْهُ: أَنَّ الْإِتْمَامَ أَصْلٌ وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ، ثُمَّ إنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فَهَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ أَمْ يَجُوزُ زَائِدًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَدْرَكَهُمَا هَذَا. وَمِنْهُ: أَنْ تَحْرُمَ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ ثُمَّ إنَّهُ تَزَوَّجَ تِسْعًا، فَهَلْ يَنْحَصِرُ فِيهِنَّ أَوْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا؟ فِيهِ خِلَافٌ، لَكِنَّ الْأَرْجَحَ الْجَوَازُ هُنَا، وَفِي تِلْكَ الْمَنْعُ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهَا عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ، إلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا يَعْنِي إذَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي التَّلْخِيصِ لِكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ، لَكِنَّ الْمُجَوِّزَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ لَا يُسَمِّيهِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " لِلْجُمْهُورِ وَقَالَ: إنَّهُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ. وَالثَّالِثُ: إنْ ثَبَتَ الْمُسْتَثْنَى بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ شِجَاعٍ الْبَلْخِيّ مِنْهُمْ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي فِي " الْمُلَخَّصِ "

وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " الْكَشْفِ " وَصَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " وَقَالَ: إنَّهُ الْأَصْوَبُ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ إلَّا بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً وَأُجْمِعَ عَلَى تَعْلِيلِهِ أَوْ وَافَقَ بَعْضَ الْأُصُولِ، كَخَبَرِ التَّحَالُفِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعِينَ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِقِيَاسِ الْأُصُولِ - إذْ قِيَاسُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ لِلْمُنْكِرِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ مِنْ الْقَدْرِ الزَّائِدِ - لَكِنْ ثَمَّ قَوْلٌ آخَرُ يُوَافِقُهُ وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ مَلَكَ عَلَيْهِ أَصْلَهُ، كَالشَّفِيعِ مَعَ الْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ عَلَيْهِ الشِّقْصَ، فَكَذَلِكَ يَتَأَتَّى التَّحَالُفُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ، مَا عَدَا الْمَبِيعَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقِرَاضِ وَالْجَعَالَةِ وَالصُّلْحِ عَلَى الدَّمِ وَالْخُلْعِ وَالصَّدَاقِ وَالْكِتَابَةِ. وَالْخَامِسُ: وَهُوَ رَأْيُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى إنْ كَانَ دَلِيلُهُ مَقْطُوعًا بِهِ فَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مُرَادَنَا بِالْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ إمْكَانُ الْقِيَاسِ عِلَّةً كَالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَجِّحَ الْمُجْتَهِدُونَ الْقِيَاسَ، مُؤَكَّدُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْنَعْ الْعُمُومُ مِنْ قِيَاسٍ يَخُصُّهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْقِيَاسُ عَلَى الْعُمُومِ مَانِعًا مِنْ قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ، لِأَنَّ الْعُمُومَ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا الِاخْتِيَارِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْطُوعٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ حُكْمِهِ مَنْصُوصَةً أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ، فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى الْأُصُولِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ

عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى مَا طَرِيقُ حُكْمِهِ مَعْلُومٌ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا طَرِيقُ حُكْمِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَسْتَوِي الْقِيَاسَانِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَخْتَصُّ بِأَنَّ طَرِيقَ حُكْمِهِ مَعْلُومٌ وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ عِلَّتِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ، وَهَذَا الْقِيَاسُ طَرِيقُ حُكْمِهِ مَظْنُونٌ، وَطَرِيقُ عِلَّتِهِ مَعْلُومٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ اخْتَصَّ بِحَظٍّ مِنْ الْقُوَّةِ. هَذَا كَلَامُهُ فِي " الْمَحْصُولِ " وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ مِنْهُمْ الْبَيْضَاوِيُّ فِي " الْمَنْهَجِ ": وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، اعْتَرَضَهُ الْهِنْدِيُّ فَقَالَ: فِيهِ نَظَرٌ: أَمَّا (أَوَّلًا) فَلِأَنَّهُ إنْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ: إنَّ مُرَادَنَا بِالْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ هُوَ اصْطِلَاحُ نَفْسِهِ فَلَا مُنَاقَشَةَ، لِأَنَّ الْخَصْمَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا الْأَصْلِ يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَيَمْنَعُ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ كَالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ كُلَّ هَذَا مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: " مُؤَكَّدَةٌ " لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ مَا سَبَقَهُ لَيْسَ دَلِيلًا حَتَّى يَكُونَ تَأْكِيدًا لَهُ، وَدَعْوَاهُ " إنَّ الْعُمُومَ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ قِيَاسٍ يَخُصُّهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْقِيَاسُ عَلَى الْعُمُومِ مَانِعًا مِنْ قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ " مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ عُمُومَ الْقِيَاسِ أَقْوَى مِنْ الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّخْصِيصِ، بِنَاءً عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. بِخِلَافِ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِنْ عُنِيَ بِهِ اصْطِلَاحُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا يُقَاسُ، فَمَنْ مَنَعَ الْقِيَاسَ عَلَى الْمَعْدُولِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ سَوَاءٌ أَثْبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ أَوْ غَيْرِ مَقْطُوعٍ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا أَصْلًا عِنْدَهُ؟ وَأَمَّا (ثَانِيًا) فَدَعْوَاهُ التَّسَاوِي فِيمَا إذَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً إنْ أَرَادَ

بِهِ ثُبُوتَ النَّصِّ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَتَسْتَحِيلُ الْمَسْأَلَةُ، لِأَنَّ كَوْنَ دَلِيلِ الْحُكْمِ ظَنِّيًّا مَعَ أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى عِلَّتِهِ قَطْعِيٌّ مُحَالٌ ضَرُورَةً أَنَّهُ مَهْمَا عُلِمَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ كَانَ الْحُكْمُ مَعْلُومًا قَطْعًا فَدَلِيلُهُ قَطْعِيٌّ لَا مَحَالَةَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَيْ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ بَطَلَ قَوْلُهُ آخِرًا: " وَهَذَا الْقِيَاسُ طَرِيقُ حُكْمِهِ مَظْنُونٌ وَطَرِيقُ عِلَّتِهِ مَعْلُومٌ ". (قَالَ) : وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي الضَّابِطِ: مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْأُصُولِ وَعُقِلَ مَعْنَاهُ وَوُجِدَ فِي غَيْرِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الشَّارِعِ قَصْدُ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَمَا لَمْ يَتَرَجَّحْ قِيَاسُ الْأُصُولِ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَجَحَ بِمَا يَتَرَجَّحُ بِهِ بَعْضُ الْأَقْيِسَةِ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَجُزْ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ لِحُصُولِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ، لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " الْخِلَافَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: إذَا وَرَدَتْ قَاعِدَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ قِيَاسِ الْقَوَاعِدِ كَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ، قِيلَ: لَا يُقَاسُ عَلَى أَصْلِهَا وَلَا فَرْعِهَا، وَقِيلَ: يُقَاسُ فِي فُرُوعِهَا وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ أَصْلٌ آخَرُ (قَالَ) : وَالْمُخْتَارُ أَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرَيْنِ مُسْتَقِيمٌ، فَإِنَّ الْقَوَاعِدَ وَإِنْ تَبَايَنَتْ فِي خَوَاصِّهَا فَقَدْ تَلْتَقِي فِي أُمُورٍ جُمَلِيَّةٍ، لِمُلَاحَظَةِ الشَّرْعِ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ فِي كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَأْبَى ذَلِكَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَرِ لِعُذْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَهُ وَقَالَ: الْمَخْصُوصُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مَخْصُوصٌ بِالْمَعْنَى، وَمَخْصُوصٌ بِالذِّكْرِ. وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الثَّانِي، وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ " إذَا لَمْ أَجِدْ عِلَّةَ الْحُكْمِ فَلَمْ أَقِسْ عَلَيْهِ غَيْرَهَا ". وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَقِيسُ عَلَى الْمَخْصُوصِ وَمَا يَرِدُ مِنْ الْأَخْبَارِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ الْأُصُولِ، وَشَبَّهُوهُ بِمَا قُلْنَا فِي مَسِّ الذَّكَرِ أَنَّا لَا نَقِيسُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ.

وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ وُرُودَ الْأَخْبَارِ بِشَيْءٍ تُخَالِفُهُ الْأُصُولُ، لِأَنَّهَا أُصُولٌ فِي أَنْفُسِهَا فَقِيَاسٌ عَلَيْهَا حَيْثُ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ، لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْحُكْمِ. وَقَالَ إلْكِيَا: الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ قَدْ يَقَعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ الْقِيَاسِ كَذَلِكَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَعْنَى لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمَعْنَاهُ فَلَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِهِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْجَامِعِ. ثُمَّ قَسَّمَهُ إلَى مَا سَبَقَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمَخْصُوصُ بِالْمَعْنَى لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ خُصَّ الْحُكْمُ مَفْقُودٌ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمَخْصُوصِ بِالِاسْمِ فَقَطْ قَالَ الْأُسْتَاذُ: جُمْلَةُ مَا يَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ فِي الْأُصُولِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: تَخْصِيصُ غَيْرِهِ بِالذِّكْرِ وَإِفْرَادُهُ بِالْحُكْمِ خُصُوصًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] وَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوْ بِلَا مَهْرٍ أَصْلًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَبِي بُرْدَةَ: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» . الثَّانِي: تَخْصِيصُ مَكَان بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ كَقَوْلِهِ فِي مَكَّةَ: «أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي» . وَالثَّالِثُ: تَخْصِيصُ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ كَتَخْصِيصِ حَالِ الضَّرُورَةِ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ: الرَّابِعُ: وُقُوعُ التَّغْلِيظِ فِي جِنْسٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَخْصِيصًا بِهِ وَحْدَهُ، كَتَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا التُّهْمَةُ فِي قَتْلِ الْبَهِيمَةِ. الْخَامِسُ: الرُّخَصُ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ عَلَى الْبُرْقُعِ وَالْقُفَّازَيْنِ، وَكَالِاسْتِنْجَاءِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ عَلَى الثَّوْبِ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْقِيَاسُ عِنْدَنَا قَالَ: وَأَمَّا فِي الْمَخْصُوصِ مِنْ الْعَامِّ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، كَالْأَمَةِ فِي تَنْصِيفِ حَدِّهَا قِيسَ عَلَيْهَا الْعَبْدُ بِعِلَّةِ الرِّقِّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَعْنًى لَمْ يَجُزْ كَإِيجَابِ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ، لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْمَلْفُوفُ.

قَالَ: وَهَذَا تَفْصِيلُ أَصْحَابِنَا فِي الْقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْأَثَرِ مِنْ جُمْلَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَثَرُ مُعَلَّلًا، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، أَوْ يَتَّفِقَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ نَظَائِرُهُ وَإِنْ خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ كَقَوْلِهِمْ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ: إنَّ قِيَاسَ الْأُصُولِ أَنَّ مَا كَانَ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ كَانَ حَدَثًا فِي غَيْرِهَا إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ فِي ذَلِكَ مَتْرُوكٌ بِالْخَبَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا الْقَهْقَهَةُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَفِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي خَصَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْقِيَاسِ إنَّمَا وَرَدَ فِي صَلَاةٍ لَهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْبَيَانِ " فِي كِتَابِ الْحَجِّ: الْمَنْصُوصُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَأَرْكَانِهَا، وَكَذَلِكَ لَمْ يُقَسْ عَلَيْهَا وُجُوبُ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، وَالثَّانِي: مَا عُقِلَ مَعْنَاهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي غَيْرِهِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْحَاجَةُ إلَى لُبْسِهِ، وَالْمَشَقَّةُ فِي نَزْعِهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْعِمَامَةِ وَالْقُفَّازَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْمُتَحَلِّلُ مِنْ الْإِحْرَامِ لِأَجْلِ الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ عُقِلَ مَعْنَاهُ وَهُوَ التَّخَلُّفُ مِنْ الْعَدُوِّ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَرَضِ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ عُقِلَ مَعْنَاهُ وَهُوَ قِيمَةُ الْأَشْيَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِهَا، فَلَمْ يُقَسْ عَلَيْهَا الْحَدِيدُ وَالرُّصَاصُ. وَالثَّالِثُ: مَا عُقِلَ وَوُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي غَيْرِهِ فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ كَتَحْرِيمِ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ. تَنْبِيهٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ فِيهِ تَغْلِيظًا لَكِنَّ كَلَامَ أَصْحَابِنَا يُخَالِفُ هَذَا فَإِنَّهُمْ أَلْحَقُوا عَرَقَ الْكَلْبِ وَرَوَثَهُ وَجَمِيعَ أَجْزَائِهِ بِسُؤْرِهِ وَجَعَلُوهُ كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ، وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ وَمَأْخَذُهُ مَا ذَكَرْنَا.

مسألة ما يمتنع فيه القياس

[مَسْأَلَةٌ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ] مَسْأَلَةٌ [مِمَّا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ] قَالَ إلْكِيَا: مِمَّا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ مُقْتَضِيًا تَصَرُّفًا فِي عَيْنٍ لَا يَتَصَوَّرُ إحَاطَةَ عِلْمِ الْعَبْدِ بِهِ، فَالْقِيَاسُ مُمْتَنِعٌ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ ظُهُورُ الظَّنِّ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ ارْتِبَاطُ الظَّنِّ بِهِ. فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الطَّهَارَةَ شُرِعَتْ لِلنَّظَافَةِ، وَالصَّلَاةَ لِلْخُشُوعِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَضَعَ شَيْئًا آخَرَ وَيَجْعَلَهُ مِثْلًا لِلصَّلَاةِ فِي إفَادَةِ مِثْلِ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ مِنْ الْخُشُوعِ وَالنَّظَافَةِ كَانَ مَرْدُودًا، لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ ضَوَابِطِ الشَّرْعِ كَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ وَتَقْدِيرِ الْبُلُوغِ وَتَقْدِيرِ الزَّوَاجِرِ وَغَيْرِهَا. فَائِدَةٌ قَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: لَا يُقَاسُ عَلَى خَاصٍّ، وَلَا يُقَاسُ أَصْلٌ عَلَى أَصْلٍ، وَلَا يُقَالُ لِلْأَصْلِ: كَمْ؟ وَكَيْفَ؟ فَإِذَا صَحَّ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَصْلِ ثَبَتَ. قَالَ الْعَبَّادِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يُقَاسُ أَصْلٌ عَلَى أَصْلٍ أَيْ لَا يُقَاسُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْوُضُوءِ فَيُجْعَلُ أَرْبَعًا، وَلَا يُقَاسُ الْوُضُوءُ عَلَى التَّيَمُّمِ فَيُجْعَلُ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ يَرْفَعُ النَّصَّ، وَالثَّانِيَ يَرْفَعُ

مسألة ثبوت الحكم في محل الأصل

الْإِجْمَاعَ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: لَا يُقَاسُ عَلَى خَاصٍّ مُنْتَزَعٍ مِنْ عَامٍّ كَالْمُصَرَّاةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَا يُقَاسُ عَلَى مَخْصُوصٍ، وَلَا مَنْصُوصٍ عَلَى مَنْصُوصٍ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ عَلَى الْمَخْصُوصِ إبْطَالٌ، وَفِي قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ إبْطَالُ الْمَنْصُوصِ. وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ فَقَالَ: الْقِيَاسُ عَلَى الْمَخْصُوصِ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَاسَ مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ عَلَى الْمُوضِحَةِ فِي تَحَمُّلِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ التَّخْصِيصُ بِإِلْحَاقِ الْأَمْوَالِ بِهَا، فَأَمَّا إذَا أَلْحَقَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا فَلَا إذَنْ. انْتَهَى. [مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِ] ِ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ هَلْ ثَبَتَ بِالْعِلَّةِ أَوْ بِالنَّصِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَحَكَى فِي " الْمُسْتَصْفَى " وَجْهًا ثَالِثًا بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً فَيَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهَا فِي مَحَلِّ النَّصِّ كَالسَّرِقَةِ مَثَلًا، وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ غَرِيبٌ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ وَالْعِلَّةِ جَمِيعًا فَقَالَ: وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَا يُضَافُ إلَى النَّصِّ. قُلْنَا: يُضَافُ، فَيُقَالُ: النَّصُّ يُفِيدُ هَذَا الْحُكْمَ، وَالْعِلَّةُ أَيْضًا مُفِيدَةٌ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَالَى دَلِيلَانِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: ثُبُوتُهُ بِالنَّصِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ، فَنَحْنُ نَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَنَقُولُ: الْحُكْمُ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا جَمِيعًا، وَيَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى دَلِيلَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِهِ بِعِلَّتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: إنَّ حَقِيقَةَ الْقَوْلِ فِي مُوجِبِ الْحُكْمِ

الْكَشْفُ عَنْ الدَّلِيلِ الْمُبَيِّنِ لَهُ، قَالُوا: وَلَهُ فِي الْأَصْلِ دَلِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: النَّصُّ، وَلَهُ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ الشَّرِيعَةِ، وَالثَّانِي: بَيَانُ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ. وَفِي الْفَرْعِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ وَاحِدَةً قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَدْرَكَ حُكْمِهِ بِوُجُوهٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ. ثُمَّ يَعْرِفُ حُكْمَ غَيْرِهِ بِبَعْضِ أَدِلَّتِهِ وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا النَّصُّ، وَحَظُّ النَّصِّ فِيهَا التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَعَنْ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِذَا اسْتَنْبَطَ مِنْ مَحَلِّ عُمُومِ عِلَّةٍ خَاصَّةٍ تَخْصِيصَ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهُوَ بِمَثَابَةِ اسْتِنْبَاطِ الْإِسْكَارِ مِنْ آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّبِيذِ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّبِيذِ هُوَ الْمُسْتَنِدُ إلَى الْعِلَّةِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْخَمْرِ فَيَسْتَنِدُ إلَى اللَّفْظِ الْعَامِّ. قَالَ ابْنُ النَّفِيسِ فِي " الْإِيضَاحِ ": وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّافِعِيَّةِ ثُبُوتَهُ بِالْعِلَّةِ فَظَنُّ أَنَّ ثُبُوتَهُ بِالنَّصِّ لِأَجْلِ الْعِلَّةِ لَا لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لَهُ بِدُونِ النَّصِّ. وَلَا أَنَّهَا جُزْءُ الْمُوجِبِ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا، وَكَذَا زَعَمَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ لَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى، لِأَنَّ النَّصَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ أَيْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بِهِ الْحُكْمُ. وَالْمَعْنَى عِنْدَ مَنْ يُفْسِدُهُ بِالْبَاعِثِ هُوَ الَّذِي اقْتَضَى الْحُكْمَ، فَمَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ أَيْ عُرِفَ بِهِ فَقَوْلُهُ صَحِيحٌ وَلَا يُنَازَعُ فِيهِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمُقْتَضَى وَالْبَاعِثَ هُوَ الْمَعْنَى فَلَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ وَلَهُ أَصْلٌ وَفَرْعٌ. أَمَّا أَصْلُهُ فَيَرْجِعُ إلَى تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ: فَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ، فَحُكْمُ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِهَا، وَكَذَا عَلَى قَوْلِ الْغَزَالِيِّ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ بِجَعْلِ اللَّهِ. وَأَمَّا مَنْ يُفَسِّرُهَا بِالْبَاعِثِ فَمَعْنَى أَنَّهُ شُرِعَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ مَشْرُوعِيَّتَهُ وَبَعَثَتْ عَلَيْهِ فَفِي الْقَاصِرَةِ فَائِدَةُ مَعْرِفَةِ الْبَاعِثِ وَأَمَّا مَنْ يُفَسِّرُهَا بِالْمُعَرِّفِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا تُعَرِّفُ حُكْمَ الْأَصْلِ بِمُجَرَّدِهَا، وَقَدْ تَجْتَمِعُ هِيَ وَالنَّصُّ فَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ مُعَرِّفَيْنِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهُمَا فِي حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ مُعَرِّفَيْنِ. وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ، وَأَنَّ نِسْبَةَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إلَى الْعِلَّةِ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا فَرْعُهُ فَالْخِلَافُ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ، فَمَنْ جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِهَا قَالَ: الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ بِالْعِلَّةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا فَائِدَةٌ، وَلِهَذَا فِي التَّعْدِيَةِ لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْمُقَايَسَةِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ. وَذَكَرَ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " مِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ تَحْرِيمَ قَلِيلِ النَّبِيذِ وَكَثِيرِهِ كَالْخَمْرِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ لَا يَحْرُمُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ قَلِيلَهُ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ وَحُرْمَةِ النَّبِيذِ، وَالْفَرْعُ ثَابِتٌ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَهِيَ الْإِسْكَارُ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا فَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ قَدْرٌ لَا يُسْكِرُ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: هَذَا الْخِلَافُ فِي النَّصِّ ذِي الْعِلَّةِ. أَمَّا التَّعَبُّدِيُّ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْقِيَاسِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ هُنَاكَ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ، وَظَنَّ الْهِنْدِيُّ أَنَّ كَلَامَ أَصْحَابِنَا عَلَى إطْلَاقِهِ فَرَدَّدَ الْقَوْلَ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. الثَّانِي: صَوَابُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: " ثَابِتٌ عِنْدَ الْعِلَّةِ " لَا " بِهَا " وَكَأَنَّ الشَّارِعَ

قَالَ: مَهْمَا وُجِدَ الْوَصْفُ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْحُكْمَ الْفُلَانِيَّ حَاصِلٌ فِي ذَلِكَ التَّمْثِيلِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ: التَّحْقِيقُ أَنَّ مَعْنَى الْعِلَّةِ مَا قَضَى الشَّارِعُ بِالْحُكْمِ عِنْدَ الْحِكْمَةِ، لَا أَنَّهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ. الثَّالِثُ: بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَنْحَلُّ إشْكَالٌ أَوْرَدَهُ نُفَاةُ الْقِيَاسِ وَهُوَ: كَيْفَ ثَبَتَ حُكْمُ الْفَرْعِ بِغَيْرِ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ. كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَحُكْمَ الْفَرْعِ ثَابِتٌ بِالْإِلْحَاقِ كَتَحْرِيمِ النَّبِيذِ، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَالطَّرِيقُ مُخْتَلِفٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ بِالْعِلَّةِ، لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَالُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَعْنَى الْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ. وَمَنْ أَثْبَتَ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ قَالَ: الْمَقْصُودُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا تَعْيِينُ طَرِيقِهِ بِكَوْنِهِ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا، أَوْ نَصًّا فِي الْأَصْلِ قِيَاسًا فِي الْفَرْعِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَسِيلَةٌ وَالْحُكْمَ مَقْصِدٌ، وَمَعَ حُصُولِ الْمَقْصِدِ لَوْ قُدِّرَ عَدَمُ الْوَسَائِلِ لَمْ يَضُرَّ، فَضْلًا عَنْ اخْتِلَافِهَا، وَهَذَا كَمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْبِلَادِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ دَخَلَهَا.

الركن الثالث الفرع

[الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْفَرْعُ] [الرُّكْنُ الثَّالِثُ] الْفَرْعُ وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ. فَقِيلَ: هُوَ مَحَلُّ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِي الْأَصْلِ. وَقِيلَ: هُوَ نَفْسُ الْحُكْمِ الَّذِي فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ قِيَاسُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ ثَمَّ. وَقِيَاسُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ النَّصُّ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ هُنَا هُوَ الْعِلَّةُ، لَكِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ لِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي الْفَرْعِ وَفَرْعٌ فِي الْأَصْلِ، فَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَرْعًا فِي الْفَرْعِ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ عِنْدَهُمْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ أَوْ عِلَّتِهِ أَوْ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي " أَدَبِ الْجَدَلِ ": الْفَرْعُ: مَا اخْتَلَفَ الْخَصْمَانِ فِيهِ. وَقِيلَ: مَا قَصَدَ الْقَائِسُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِيهِ. وَقِيلَ: مَا نُصِبَتْ الدَّلَالَةُ فِيهِ. وَلَهُ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: وُجُودُ الْعِلَّةِ الْمَوْجُودَةِ أَيْ قِيَامُهَا بِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَدَمِيَّةً وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِوُجُودِهَا فِيهِ، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، بَلْ يَكْفِي الظَّنُّ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْعِلَّةِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهِ مِثْلَ عِلَّةِ الْأَصْلِ بِلَا تَفَاوُتٍ،

أَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى النُّقْصَانِ، أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا يُشْتَرَطُ انْتِفَاؤُهَا، إذْ قَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ أَوْلَى، كَقِيَاسِ الضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ، وَقَدْ يَكُونُ مُسَاوِيًا، كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ. فَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ مَقْطُوعًا بِهِ صَحَّ الْإِلْحَاقُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا كَقِيَاسِ الْأَدْوَنِ كَالتُّفَّاحِ عَلَى الْبُرِّ بِجَامِعِ الطَّعْمِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِهِ، بَلْ يَكْفِي فِي وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ الظَّنُّ لِأَنَّا إذَا ظَنَنَّا وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ ظَنَنَّا الْحُكْمَ، وَالْعَمَلُ بِالظَّنِّ وَاجِبٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يُسَاوِيَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ فِيمَا يُقْصَدُ مِنْ عَيْنٍ أَوْ جِنْسٍ لِيَتَأَدَّى بِهِ مِثْلُ مَا يَتَأَدَّى بِالْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ فَسَدَ الْقِيَاسُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ يَقْتَضِي نَقِيضَ مَا اقْتَضَتْهُ عِلَّةُ الْقِيَاسِ. هَذَا إنْ جَوَّزْنَا تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ، فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا شَرْطًا فِي الْفَرْعِ الَّذِي يُقَاسَ، بَلْ الْفَرْعُ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ يَقْتَضِي الْقِيَاسَ. الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ دَلِيلَ الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ ثَابِتًا بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَنْ لَا يَكُونَ الْفَرْعُ مَنْصُوصًا أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَإِلَّا لَزِمَ تَقْدِيمُ الْقِيَاسِ عَلَى النَّصِّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، نَعَمْ يَجُوزُ لِتَجْرِبَةِ النَّظَرِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى مُوَافَقَتِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْفَرْعِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي دَلَّ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ

أَوْ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ جَعَلَ تِلْكَ الصُّورَةَ أَصْلًا وَالْأُخْرَى فَرْعًا أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَالْقِيَاسُ فِيهِ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَا نَقَلَهُ فِي " الْمَحْصُولِ " لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بَلْ الِاسْتِظْهَارَ بِتَكْثِيرِ الْحُجَجِ. وَتَرَادُفُ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَدْلُولِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ لِإِفَادَةِ زِيَادَةِ الظَّنِّ. وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى اشْتِرَاطِهِ، وَنَقَلَ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ " الْجَوَازَ مُطْلَقًا عَنْ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ كَوْنَ الْفَرْعِ فِيهِ نَصٌّ وَيَزْدَادُ بِالْقِيَاسِ بَيَانُ مَا كَانَ النَّصُّ سَاكِتًا عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ. السَّادِسُ: شَرَطَ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ انْتِفَاءَ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ يُوَافِقُهُ، أَيْ لَا يَكُونُ مَنْصُوصًا عَلَى شَبَهِهِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي نَصِّهِ هُوَ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا غَيْرُ شَرْطٍ، وَفَائِدَةُ الْقِيَاسِ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ أَوْ الْحُكْمِ، وَفَائِدَةُ النَّصِّ ثُبُوتُ الْحُكْمِ. السَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ ثَابِتًا قَبْلَ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ، فَلَوْ تَقَدَّمَ مَعَ مَا ذَكَرْته مِنْ وُجُوبِ تَأَخُّرِهِ لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ أَوْ الضِّدَّيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَهَذَا كَقِيَاسِ الْوُضُوءِ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، لِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِالتَّيَمُّمِ إنَّمَا وَرَدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَالتَّعَبُّدَ بِالْوُضُوءِ كَانَ قَبْلَهُ وَنَازَعَ الْعَبْدَرِيُّ فِي الْمِثَالِ بِأَنَّهُ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ لَا

مِنْ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَمَعْنَاهُ: طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقَانِ؟ وَمَنَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " هَذَا الشَّرْطَ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ أَمَارَاتٍ مُتَقَدِّمَةً وَمُتَأَخِّرَةً، فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا وَالْمُتَأَخِّرِ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ يَجُوزُ تَأَخُّرُهُ عَنْ ثُبُوتِهِ. وَلِهَذَا مُعْجِزَاتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا مَا قَارَنَ نُبُوَّتَهُ، وَمِنْهَا مَا تَأَخَّرَ عَنْهُ، وَيَجُوزُ الِاسْتِدْلَال عَلَى نُبُوَّتِهِ بِمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَا فِي الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ وَكَذَا نَقَلَ إلْكِيَا فِي تَعْلِيقِهِ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَالَمَ مُتَرَاخٍ عَنْ الْقَدِيمِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إثْبَاتِ الْقَدِيمِ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّا لَا نَسْتَدِلُّ بِوُجُودِ الْعَالِمِ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ قَطْعًا. وَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا بِالْعَالِمِ عَلَى الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ. فَيَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ هُنَا: النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ كَانَتْ ثَابِتَةً بِدَلِيلِهَا، وَهُوَ إخَالَةٌ وَمُنَاسَبَةٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا إنَّمَا نَشَأَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ قَبْلَ مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ إلَى أَنْ شُرِعَ التَّيَمُّمُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ وَيَكُونَ فَرْعًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ وَمُعَرِّفَاتٌ لَهَا وَتَقْدِيمُهَا كَالدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: قَوْلُهُمْ لَا يُسْتَفَادُ حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا إلَّا أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إذَا ثَبَتَ ثَبَتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. قَالَ: قَالُوا: هَذَا إذَنْ يَكُونُ نَسْخًا. وَإِنَّمَا هُوَ ضَمُّ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا الشَّرْطُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ إذَا تَوَقَّفَ اسْتِنَادُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْمُحَالَ إنَّمَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّهُ مَنْشَأُ الِاسْتِحَالَةِ فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ لِعَدَمِ النَّصِّ انْتَفَى وَجْهُ الِاسْتِحَالَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: نَعَمْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إلْزَامًا لِلْخَصْمِ لِتَسَاوِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ الرَّازِيَّ وَالْهِنْدِيُّ: هَذَا

إذَا لَمْ يَكُنْ لِحُكْمِ الْفَرْعِ دَلِيلٌ سِوَى ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُتَأَخِّرِ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ آخَرُ وَذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ لِلْخَصْمِ لَا بِطَرِيقِ تَقْوِيَةِ الْمَأْخَذِ، أَوْ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الدَّلِيلُ عَنْ الْمَدْلُولِ - كَالْعَالِمِ عَلَى الصَّانِعِ - جَازَ تَأَخُّرُهُ، لِزَوَالِ الْمَحْذُورِ، وَتَوَارُدُ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَدْلُولٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفَرُّعِهِ عَنْ الْأَصْلِ الْمُتَأَخِّرِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ غَيْرُهُ أَمْ لَا. الثَّامِنُ: شَرَطَ أَبُو هَاشِمٍ دَلَالَةَ دَلِيلٍ غَيْرِ الْقِيَاسِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ، وَيَكُونُ حَظُّ الْقِيَاسِ إبَانَةَ فَيْصَلِهِ وَالْكَشْفَ عَنْ مَوْضُوعِهِ، وَحَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَيْضًا، وَرَدَّدَهُ بِأَنَّ الْأَوَّلِينَ تَشَوَّفُوا إلَى إجْرَاءِ الْقِيَاسِ اتِّبَاعًا لِلْأَوْصَافِ الْمُخَيَّلَةِ الْمُؤَثِّرَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَقَدْ أَثْبَتُوا قَوْلَهُ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " بِالْقِيَاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَصٌّ عَلَى جِهَةِ الْجُمْلَةِ عَلَى وَجْهٍ مَا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] ، إنَّمَا يُمْكِنُ عَنْ الْمَنْعِ مِنْ تَحْرِيمِهِ وَلَا يُفِيدُ حُكْمُهُ إذَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ (قَالَ) : وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّهُمْ عَلِمُوا لَهُ أَصْلًا غَابَ عَنَّا. تَنْبِيهٌ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّ الْفَرْعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فِيهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ. وَالْحَقُّ جَوَازُهُ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَعَدَّى الْحُكْمَ مِنْ الْمَنْصُوصِ إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ بِذَلِكَ

كَمَا بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ خَمْرًا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ فَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» فَهَذَا الْحُكْمُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَاسْتُعْمِلَ فِيهِ الْقِيَاسُ.

الركن الرابع العلة

[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ] [الرُّكْنُ الرَّابِعُ] الْعِلَّةُ وَهِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ لِيَجْمَعَ بِهَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: مِنْ النَّاسِ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الشَّبَهِ وَمَنَعَ الْقَوْلَ بِالْعِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ذَهَبَ بَعْضُ الْقَيَّاسِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ إذَا لَاحَ بَعْضُ الشَّبَهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْقَيَّاسِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْقِيَاسِ وَهِيَ رُكْنُ الْقِيَاسِ لَا يَقُومُ الْقِيَاسُ إلَّا بِهَا. وَالْعِلَّةُ فِي اللُّغَةِ قِيلَ: هِيَ اسْمٌ لِمَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الشَّيْءِ بِحُصُولِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَضُ، لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي الْحُكْمِ كَأَثَرِ الْعِلَّةِ فِي ذَاتِ الْمَرِيضِ. وَيُقَالُ: اعْتَلَّ فُلَانٌ إذَا حَالَ عَنْ الصِّحَّةِ إلَى السَّقَمِ. وَهَذَا الْمَعْنَى اعْتَمَدَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْكَامِ الْعِلَلِ " وَهُوَ مُجَلَّدٌ لَطِيفٌ وَجَرَى عَلَيْهِ إلْكِيَا وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا نَاقِلَةٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ كَالِانْتِقَالِ بِالْعِلَّةِ مِنْ الصِّحَّةِ إلَى الْمَرَضِ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَقَالَ: الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، لِأَنَّا قَبِلْنَا صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ. وَقِيلَ: إنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَلَلِ بَعْدَ النَّهَلِ، وَهُوَ مُعَاوَدَةُ الْمَاءِ لِلشُّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي اسْتِخْرَاجِهَا يُعَاوِدُ النَّظَرَ بَعْدَ النَّظَرِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ وُجُودِهَا، وَلِأَنَّ الْحَادِثَةَ مُسْتَمِرَّةٌ بَاقِيَةٌ غَيْرُ مُتَكَرِّرَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَدَرِيَّةِ. قَالَ إلْكِيَا: وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا لِأَجْلِ ذَلِكَ يُقْدِمُ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ يُمْنَعُ مِنْهُ يُقَالُ: فَعَلَ الْفِعْلَ لِعِلَّةِ كَيْتَ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْ لِعِلَّةِ كَيْتَ. وَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْمَعْلُولَاتِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ لِغَيْرِهِ حَالًا كَالْعِلْمِ يُوجِبُ الْعَالَمِيَّةَ، وَالْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ حَالِ السَّوَادِ فَقَالَ: إنَّهُ عِلَّةٌ فِي وَصْفِ الْمَحَلِّ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ أَيْ جُعِلَتْ عَلَمًا عَلَى الْحُكْمِ إنْ وُجِدَ الْمَعْنَى وُجِدَ الْحُكْمُ، قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي " كِتَابِ الْإِعْلَامِ " وَابْنُ عَبْدَانَ فِي " شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ " وَأَبُو زَيْدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " وَالْمِنْهَاجِ ". أَيْ مَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى وُجُودِ الْحُكْمِ وَلَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ اللَّهُ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ قَدِيمٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَادِثُ. وَنُقِضَ بِ " الْعَلَامَةِ " فَإِنَّ الْحَدَّ صَادِقٌ عَلَيْهَا وَلَيْسَتْ الْأَحْكَامُ مُضَافَةً إلَيْهَا. وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ. أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَمُوجِبَةٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرْعَ دَخَلَهُ التَّعَبُّدُ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، بِخِلَافِ الْعَقْلِ فَإِنَّ أَحْكَامَهُ مَعْقُولَةُ الْمَعَانِي فَمِنْ ثَمَّ كَانَتْ عِلَلُهُ مُؤَثِّرَةً وَعِلَلُ الشَّرْعِ مُعَرِّفَاتٍ وَالْمُؤَثِّرُ إنَّمَا هُوَ خِطَابُ الشَّرْعِ. وَعِبَارَةُ ابْنِ عَبْدَانَ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ، وَالشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ مُوجِبَاتِهِ، بَلْ هِيَ أَمَارَاتٌ وَدَلَالَاتٌ فِي الظَّاهِرِ. وَقَالَ فِي " التَّقْوِيمِ ": عِلَلُ الشَّرْعِ أَعْلَامٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِدَلِيلِ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الشَّرْعِ، وَلَوْ كَانَتْ مُوجَبَةً لَمْ تَنْفَكَّ عَنْ مَعْلُولَاتِهَا قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى أَدِلَّةً لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فِي الْفُرُوعِ قَالَ: وَبَعْضُهَا أَظْهَرُ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الظَّاهِرُ مِنْهَا قِيَاسٌ، وَالْبَاطِنُ اسْتِحْسَانٌ.

تَنْبِيهٌ قَالَ الْهِنْدِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا مُعَرِّفَةً أَنَّهَا تُعَرِّفُ حُكْمَ الْأَصْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ بَلْ حُكْمِ الْفَرْعِ، لَكِنْ يَخْدِشُهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا إنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مُعَلَّلٌ بِالْعِلَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرْعِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَرِّفٍ بِهَا. الثَّانِي: أَنَّهَا الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهَا مُوجِبَةً لِذَاتِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَسُلَيْمٍ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ قَرِيبٌ لَا بَأْسَ بِهِ، فَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ هِيَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِهَا، وَلَكِنَّهَا عِلَّةٌ بِجَعْلِ الشَّارِعِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ بِذَاتِهَا لَا بِجَعْلِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ. وَالْعِلَّةُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَا يُوقَفُ عَلَى جَعْلِ جَاعِلٍ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ تَارَةً بِالْمُؤَثِّرِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْمُوجِبَةُ بِالْعَادَةِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ فِي " الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ " فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ غَيْرُ الثَّانِي. الْخَامِسُ: الْبَاعِثُ عَلَى التَّشْرِيعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ صَالِحَةٍ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهَا بِاَلَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ صَلَاحَ الْمُتَعَبِّدِينَ فِي التَّعَبُّدِ بِالْحُكْمِ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَهُوَ نَزْعَةُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يُعَلِّلُ أَفْعَالَهُ بِالْأَغْرَاضِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ خِلَافُهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَطَّانِ: الْعِلَّةُ عِنْدَنَا هِيَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ الْغَرَضُ وَالْمَعْنَى الْجَالِبُ لِلْحُكْمِ ثُمَّ قَالَ: وَالْعِلَّةُ مَا جَلَبَ الْحُكْمُ. قَالَ: وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَبُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. انْتَهَى. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الرِّبَا الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ: الْعِلَّةُ هِيَ الَّتِي لِأَجْلِهَا ثَبَتَ الْحُكْمُ. وَقِيلَ: الصِّفَةُ الْجَالِبَةُ لِلْحُكْمِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: اُخْتُلِفَ فِي الْعِلَّةِ فَقِيلَ: إنَّهَا صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمَعْلُولِ كَالشِّدَّةِ فِي الْخَمْرِ. وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ بَعْضَ الْأَغْرَاضِ قَدْ يَكُونُ عِلَّةً لِغَرَضٍ آخَرَ وَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَقَالَ: وَإِنَّمَا مَعْنَى الْعِلَّةِ السَّبَبُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ اجْتِهَادًا فَإِنَّ النَّصَّ الْجَالِبَ لِلْحُكْمِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَالِاعْتِلَالُ اسْتِدْلَالُ الْمُعَلِّلِ بِالْعِلَّةِ وَإِظْهَارُهُ لَهَا، وَالْمُعْتَلُّ هُوَ الْمُعَلِّلُ وَالْمُعْتَلُّ بِهِ نَفْسُ الْعِلَّةِ وَقَالَ إلْكِيَا: الْعِلَّةُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الصِّفَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بِهَا، وَالْعَقْلِيَّةُ مُوجِبَةٌ عَلَى رَأْيِ الْقَائِلِينَ بِهَا وَالشَّرْعِيَّةُ مَوْضُوعَةٌ وَلَكِنَّهَا مُشَبَّهَةٌ بِهَا فِي الشَّرْعِ، أُثْبِتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهَا فِي طَرِيقِ الْفُقَهَاءِ فَكَانَ أَقْرَبُ عِبَارَةٍ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عِبَارَةَ الْعِلَّةِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ تَبَعَ الْحَقِيقَةِ عَلَى مِثَالِهَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: قَالُوا: إنَّهَا الصِّفَةُ الْجَالِبَةُ لِلْحُكْمِ. وَقِيلَ: إنَّهَا الْمَعْنَى الْمُنْشِئُ. مَسْأَلَةٌ وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى عَقْلِيَّةٍ: وَهِيَ لَا تَصِيرُ عِلَّةً بِجَعْلِ جَاعِلٍ بَلْ بِنَفْسِهَا، وَهِيَ مُوجِبَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَزْمَانِ كَحَرَكَةِ الْمُتَحَرِّكِ. وَشَرْعِيَّةٍ: وَهِيَ الَّتِي صَارَتْ عِلَّةً بِجَعْلِ جَاعِلٍ كَالْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ، وَكَانَتْ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ، وَتَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ وَلَا تَتَخَصَّصُ بِعَيْنٍ دُونَ عَيْنٍ. مَسْأَلَةٌ الْعِلَّةُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْلِيَّةِ. كَالْحَرَكَةِ عِلَّةٌ فِي كَوْنِ الْمُتَحَرِّكِ مُتَحَرِّكًا، كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَإِنَّمَا تُسَمَّى الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ عِلَّةً مَجَازًا أَوْ اتِّسَاعًا، وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ الْعِلَّةُ مَا أَوْجَبَ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ، وَأَمَّا الَّتِي تُوجِبُهُ بِغَيْرِهَا فَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ فِي وَضْعِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَإِنَّمَا هِيَ أَمَارَةٌ عَلَى الْحُكْمِ.

مَسْأَلَةٌ وَتَنْقَسِمُ إلَى: مُسْتَنْبَطَةٍ وَمَنْصُوصَةٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ خُرَاسَانَ: مَسْطُورَةٍ وَمَنْشُورَةٍ. وَقَالَ فِي " اللُّمَعِ ": وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ جَعْلَ الْمَنْصُوصَةِ عِلَّةً وَهُوَ قِيَاسُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ. وَقِيلَ: هِيَ عِلَّةٌ فِي الْمَعْنَى فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ عِلَّةً فِي غَيْرِهِ إلَّا بِأَمْرٍ ثَانٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عِلَّةٌ مُطْلَقًا. قَالَ: وَأَمَّا الْمُسْتَنْبَطَةُ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً إلَّا مَا ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ. مَسْأَلَةٌ قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: طَرِيقُ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: سَمْعِيٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَقْلِيٌّ، فَمَنْ قَالَ: سَمْعِيٌّ يُرَاعِي فِي كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً دَلَالَةً سَمْعِيَّةً، وَمَنْ قَالَ: عَقْلِيٌّ قَالَ: طَرِيقَةُ اعْتِبَارِ عِلَلِ السَّمْعِ كَطَرِيقِ اعْتِبَارِ عِلَلِ الْعَقْلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالتَّقْسِيمِ بِأَنْ يُقَالَ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حُرِّمَ لِكَذَا أَوْ كَذَا، كَمَا يُقَالُ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَحَرَّكَ لِكَذَا أَوْ لِكَذَا، فَيَقَعُ عَلَى الْمَعْنَى لَهُ تَحَرُّكٌ. مَسْأَلَةٌ قَالَ فِي " الْمُقْتَرَحِ ": لِلْعِلَّةِ أَسْمَاءٌ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَهِيَ: السَّبَبُ، وَالْإِشَارَةُ، وَالدَّاعِي، وَالْمُسْتَدْعِي، وَالْبَاعِثُ، وَالْحَامِلُ، وَالْمَنَاطُ، وَالدَّلِيلُ، وَالْمُقْتَضِي، وَالْمُوجِبُ، وَالْمُؤَثِّرُ. انْتَهَى. وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الْمَعْنَى. وَالْكُلُّ سَهْلٌ غَيْرُ السَّبَبِ وَالْمَعْنَى.

أَمَّا السَّبَبُ: فَهُوَ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْعِلَّةِ مِنْ جِهَةِ الِاصْطِلَاحِ الْكَلَامِيِّ وَالْأُصُولِيِّ وَالْفِقْهِيِّ وَاللُّغَوِيِّ. أَمَّا اللُّغَوِيُّ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: السَّبَبُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ بِوَسَائِطَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَبْلُ سَبَبًا، وَذَكَرُوا لِلْعِلَّةِ مَعَانِيَ يَدُورُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِيهَا عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ أَمْرًا مُسْتَمَدًّا مِنْ أَمْرٍ آخَرَ وَأَمْرًا مُؤَثِّرًا فِي آخَرَ. وَقَالَ أَكْثَرُ النُّحَاةِ: اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ وَلَمْ يَقُولُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَقَالُوا الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَلَمْ يَقُولُوا لِلتَّعْلِيلِ. وَصَرَّحَ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّعْلِيلِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمَا غَيْرَانِ. وَأَمَّا الْكَلَامِيُّ: فَاعْلَمْ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي تَوَقُّفِ الْمُسَبَّبِ عَلَيْهِمَا وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبَبَ مَا يَحْصُلُ الشَّيْءُ عِنْدَهُ لَا بِهِ، وَالْعِلَّةُ مَا يَحْصُلُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْلُولَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْعِلَّةِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَا شَرْطٍ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِهِ، وَالسَّبَبُ إنَّمَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِوَسَائِطَ، وَلِذَلِكَ يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْهَا حَتَّى تُوجَدَ الشَّرَائِطُ وَتَنْتَفِي الْمَوَانِعُ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَلَا يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْهَا، إذَا اُشْتُرِطَ لَهَا، بَلْ هِيَ أَوْجَبَتْ مَعْلُولًا بِالِاتِّفَاقِ، حَكَى الِاتِّفَاقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمَا. وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ: فَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي جَدَلِهِ ": الْعِلَّةُ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ تُطْلَقُ عَلَى الْمَظِنَّةِ أَيْ الْوَصْفِ الْمُتَضَمِّنِ لِحِكْمَةِ الْحُكْمِ، كَمَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: قَتْلٌ لِعِلَّةِ الْقَتْلِ، وَتَارَةً يُطْلِقُونَهَا عَلَى حِكْمَةِ الْحُكْمِ، كَالزَّجْرِ الَّذِي هُوَ حِكْمَةُ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الْعِلَّةُ الزَّجْرُ. وَأَمَّا السَّبَبُ: فَلَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى مَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ دُونَ الْحِكْمَةِ إذْ بِالْمَظِنَّةِ يُتَوَصَّلُ إلَى الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْحِكْمَةِ. انْتَهَى. وَأَمَّا الْفِقْهِيُّ فَقَالَ إلْكِيَا: يُطْلَقُ السَّبَبُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ:

أَحَدُهَا: السَّبَبُ الَّذِي يُقَالُ: إنَّهُ مِثْلُ الْعِلَّةِ كَالرَّمْيِ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ عَيْنَ الرَّمْيِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ حَيْثُ لَا فِعْلَ مِنْهُ، وَمِنْهُ الزِّنَى. الثَّانِي: مَا يَكُونُ الطَّارِئُ مُؤَثِّرًا وَلَكِنَّ تَأْثِيرَهُ مُسْتَنِدٌ إلَى مَا قَبْلَهُ، فَهُوَ سَبَبٌ مِنْ حَيْثُ اسْتِنَادُ الْحُكْمِ إلَى الْأَوَّلِ لَا اسْتِنَادُ الْوَصْفِ الْآخَرِ إلَى الْأَصْلِ. الثَّالِثُ: مَا لَيْسَ سَبَبًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يَصِيرُ سَبَبًا بِغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِمْ: الْقِصَاصُ وَجَبَ رَدْعًا وَزَجْرًا، ثُمَّ قَالُوا: وَجَبَ لِسَبَبِ الْقَتْلِ، إذْ الْقَتْلُ عِلَّةُ الْقِصَاصِ، فَقَطَعُوا الْحُكْمَ عَنْ الْعِلَّةِ، وَجَعَلُوهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعِلَّةِ، وَالْعِلَّةُ غَيْرُ الْحُكْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْلَا الْحِكْمَةُ لَكَانَ الْحُكْمُ صُورَةً غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلْحُكْمِ، فَبِالْحِكْمَةِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ صُورَةً، وَالْعِلَّةُ صَارَتْ جَالِبَةً لِلْحُكْمِ بِمَعْنَاهَا لَا بِصُورَتِهَا، وَدُونَ الْحِكْمَةِ لَا شَيْءَ إلَّا صُورَةُ الْفِعْلِ، وَالصُّورَةُ لَا تَكُونُ عِلَّةً قَطُّ، فَعَلَى هَذَا، الْحِكْمَةُ رَاجِعَةٌ إلَى الْعِلَّةِ فَلَا عِلَّةَ بِدُونِهَا، وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ. الرَّابِعُ: مَا يُسَمَّى سَبَبًا مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِمَا يَجِبُ، كَقَوْلِهِمْ الْإِمْسَاكُ سَبَبُ الْقَتْلِ، وَلَيْسَ سَبَبَ الْقَتْلِ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ لَيْسَ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ، بَلْ الْقَتْلُ بِاخْتِيَارِ الْقَاتِلِ، وَلَكِنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْقَتْلِ بِإِلْحَاقٍ، وَقِيلَ: سَبَبُ الْقَتْلِ. فَالْأَسْبَابُ لَا تَعْدُو هَذِهِ الْوُجُوهَ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي " تَعْلِيقِهِ ": الْمُتَكَلِّمُونَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ، وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: الْعِلَّةُ هِيَ الَّتِي يَعْقُبُهَا الْحُكْمُ، وَالسَّبَبُ مَا تَرَاخَى عَنْهُ الْحُكْمُ وَوَقَفَ عَلَى شَرْطٍ أَوْ شَيْءٍ بَعْدَهُ. وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ، بِأَنَّ السَّبَبَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْحُكْمِ، وَالْحِكْمَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ مُفِيدٌ لَهَا، كَالْجُوعِ سَبَبُ الْأَكْلِ، وَمَصْلَحَةُ رَفْعِ الْجُوعِ وَتَحْصِيلِ الشِّبَعِ حِكْمَةٌ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفِقْهِيَّاتِ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي لَهُ مَدْخَلٌ فِي زَهُوقِ الرُّوحِ

إنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الزَّهُوقِ وَلَا فِيمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَهُوَ " الشَّرْطُ "، كَحَفْرِ الْبِئْرِ الَّتِي يَتَرَدَّى فِيهَا مُتَرَدٍّ. وَإِنْ أَثَّرَ فِيهِ وَحَصَّلَهُ فَهُوَ " الْعِلَّةُ " كَالْقَدِّ وَالْحَزِّ. وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الزَّهُوقِ وَلَكِنْ أَثَّرَ فِيمَا يُؤَثِّرُ فِي حُصُولِهِ فَهُوَ " السَّبَبُ " كَالْإِكْرَاهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِالشَّرْطِ قَطْعًا، وَيَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ قَطْعًا، وَفِي السَّبَبِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ. وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ فَوْقَ السَّبَبِ، صَحَّ الْحُكْمُ بِتَقَاصُرِ رُتْبَتِهِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ كَمَا قَرَّرُوهُ فِي كِتَابِ الْجِرَاحِ مِنْ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ عِلَّةٌ، وَالْعِلَّةُ أَقْوَى مِنْ السَّبَبِ، وَمِنْ نَظَائِرِ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا فَتَحَ زِقًّا بِحَضْرَةِ مَالِكِهِ فَخَرَجَ مَا فِيهِ وَالْمَالِكُ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْفَاتِحِ وَجْهَانِ، وَلَوْ رَآهُ يَقْتُلُ عَبْدَهُ أَوْ يَحْرُقُ ثَوْبَهُ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَنْعِ وَجَبَ الضَّمَانُ وَجْهًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَتْلَ وَالتَّحْرِيقَ مُبَاشَرَةٌ، وَفَتْحَ الزِّقِّ سَبَبٌ، وَالسَّبَبُ قَدْ يَسْقُطُ حُكْمُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَنْعِهِ، بِخِلَافِ الْعِلَّةِ لِاسْتِقْلَالِهَا فِي نَفْسِهَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: قَدْ يَسْقُطُ حُكْمُهُ وَلَمْ نَجْعَلْ السُّقُوطَ مُطَّرِدًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ صَالَتْ عَلَيْهِ بَهِيمَةُ غَيْرِهِ وَأَمْكَنَهُ الْهَرَبُ فَلَمْ يَهْرُبْ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ وَهُوَ بِعَدَمِ هُرُوبِهِ مُفَرِّطٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُ لِوُقُوعِ الصِّيَالِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَرْجَحُ مِنْهُ فِي مَسْأَلَةِ الزِّقِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ الصِّيَالِ دَهْشَةٌ تَشْغَلُهُ عَنْ الدَّفْعِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: الطُّرُقُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ وَالشَّرْطِ: أَنَّا نَنْظُرُ إلَى الشَّيْءِ إنْ جَرَى مُقَارِنًا لِلشَّيْءِ وَأَثَّرَ فِيهِ فَهُوَ " الْعِلَّةُ "، أَوْ غَيْرَ مُقَارَنٍ وَلَا تَأْثِيرَ لِلشَّيْءِ فِيهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ " سَبَبٌ ". وَأَمَّا " الشَّرْطُ " فَهُوَ مَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ. وَهُوَ مُقَارَنٌ غَيْرُ مُفَارِقٍ لِلْحُكْمِ كَالْعِلَّةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ أَصْلًا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشَّرْطُ مَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ،

وَالسَّبَبُ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْحُكْمِ بَلْ يُوجِبُ مُصَادَفَتَهُ وَمُوَافَقَتَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الْقَفَّالِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ مَقْصُودَةٌ فِي نَفْسِهَا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الشَّرْطُ إذَا اتَّصَلَ بِالسَّبَبِ وَلَمْ يَكُنْ مُبْطِلًا كَانَ تَأْثِيرُهُ فِي حُكْمِ تَأَخُّرِ السَّبَبِ إلَى حِينِ وُجُودِهِ لَا فِي مَنْعِ وُجُودِهِ، وَمِثَالُهُ إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَالسَّبَبُ قَوْلُهُ: " فَأَنْتِ طَالِقٌ " لِأَنَّ " أَنْتِ طَالِقٌ " ثَابِتٌ مَعَ الشَّرْطِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِدُونِهِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ أُوقِفَ حُكْمُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِهِ، فَتَأْثِيرُ الشَّرْطِ إنَّمَا هُوَ فِي مَنْعِ حُكْمِ الْعِلَّةِ، لَا فِي نَفْسِ الْعِلَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الشَّرْطُ ثَبَتَ حُكْمُ الْعِلَّةِ. وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يُبْطِلُ السَّبَبِيَّةَ، وَلَكِنْ يُؤَخِّرُ حُكْمَهَا، وَالسَّبَبُ يَنْعَقِدُ وَلَكِنَّ الشَّرْطَ يَرْفَعُهُ وَيُؤَخِّرُ حُكْمَهُ فَإِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ عَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ، وَمِنْ ثَمَّ يَقُولُونَ: الصِّفَةُ وُقُوعٌ لَا إيقَاعٌ، وَالشَّرْطُ عِنْدَهُمْ قَاطِعُ طَرِيقٍ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَوَقُّفٌ عَنْ الْحُكْمِ. وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ طَلُقَتْ لِكَوْنِهِ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا لِكَوْنِهَا دَخَلَتْ. قَالَ أَصْحَابُنَا مَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ فَقَدْ نَجَزَ السَّبَبَ، وَالْمُعَلَّقُ إنَّمَا هُوَ عَمَلُ السَّبَبِ لَا نَفْسُهُ، وَقَدْ وَافَقَنَا عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الشَّرْطُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ فِي الْحَالِ وَخَرَّجَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِنَا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ: إنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ وَطَلْقَتَانِ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ الْمُعَلَّقِ، وَرُبَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الشَّرْطُ دَاخِلٌ عَلَى نَفْسِ الْعِلَّةِ لَا عَلَى حُكْمِهَا. قَالَ: وَالشَّرْطُ يَحُولُ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَمَحَلِّهَا. فَلَا تَصِيرُ عِلَّةً مَعَهُ. وَالظَّاهِرُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ فَكَيْفَ يَمْنَعُ الْعِلِّيَّةَ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: مِنْهَا: تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ عِنْدَنَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ عِنْدَنَا وَقْتَ التَّعْلِيقِ مَحَلًّا قَابِلًا لِمَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ لَا يَمْنَعُ السَّبَبِيَّةَ،

وَإِذَا لَمْ يَمْنَعْهَا انْعَقَدَتْ، وَانْعِقَادُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فِي غَيْرِ زَوْجَةٍ وَرَقِيقٍ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ: لَمَّا مَنَعَ التَّعْلِيقُ السَّبَبِيَّةَ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا فَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ فِي غَيْرِ مَمْلُوكٍ بَلْ هُوَ إنَّمَا هِيَ فِي مَمْلُوكٍ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَأَخَّرَتْ إلَى زَمَنِ الْمِلْكِ فَالْمَوْجُودُ وَقْتَ التَّعْلِيقِ لَفْظُ الْعِلَّةِ لَا نَفْسُهَا وَقَدْ قَطَعَهَا التَّعْلِيقُ. تَنْبِيهٌ قَدْ عَرَفْت حُكْمَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ الْمُسَلَّطَةِ عَلَى الْأَسْبَابِ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إنَّهَا لَا تَرْفَعُ السَّبَبِيَّةَ بَلْ تُوقِفُ حُكْمَهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: بَلْ تَرْفَعُهَا وَلَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الصِّفَةِ. وَبَالَغَ الْقَاضِي ابْنُ سُرَيْجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي انْعِقَادِ السَّبَبِيَّةِ، وَزَادَ أَنَّ الشَّرْطَ يُلْغَى بِالْكُلِّيَّةِ، لِكَوْنِهِ وَرَدَ قَطْعًا لِشَيْءٍ بَعْدَ مُضِيِّ حُكْمِهِ، فَقَالَ: إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ تُنَجَّزُ فِي الْحَالِ، فَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ وَقَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَبَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ بِهِ، وَزَادَ أَنَّ الشَّرْطَ مَنْعُ انْعِقَادِ السَّبَبِ مُطْلَقًا، وَأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ لَا يَقَعُ رَأْسًا وُجِدَتْ الصِّفَةُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ وَهَذَا خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّرْطَ الدَّاخِلَ عَلَى السَّبَبِ قَاطِعٌ لَهُ عِنْدَ ابْنِ حَزْمٍ رَأْسًا، وَيُقَابِلُهُ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: إنَّهُ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُعَرَّضٍ لِلسَّبَبِ فِي شَيْءٍ وَلَكِنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ يَقْصُرُ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا بَدَأَ بِالسَّبَبِ قَبْلَ الشَّرْطِ، وَلَا يَقُولُهُ فِيمَا إذَا عَكَسَ فَقَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَالْجُمْهُورُ لَا يُلْغُونَ الشَّرْطَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَأَشَدُّهُمْ إعْمَالًا الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قَالَ: إنَّهُ يَنْتَصِبُ فِي الْحَالِ سَبَبًا فِي ثَانِي الْحَالِ وَنَقَلُوهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ فِي الْحَالِ وَلَا يَكُونُ مُنْهِيًا، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ فِي ثَانِي الْحَالِ. وَمِنْهَا: أَعْنِي مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى أَنَّهُ هَلْ انْعَقَدَ السَّبَبُ فِي حَالِ

التَّعْلِيقِ، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، أَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ أَنَّ الْغُرْمَ عَلَى شُهُودِ التَّعْلِيقِ دُونَ شُهُودِ الصِّفَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ. وَفِي وَجْهٍ أَرَاهُ أَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَقَدْ أَشْبَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْأَصْلَ تَقْرِيرًا فِي الْخِلَافِيَّاتِ ثُمَّ عَادَ عَنْهُ فِي الْفُرُوعِ فَقَالَ: وَقَدْ حَكَى قَوْلَ الْأُسْتَاذِ فِيمَنْ قَالَ: وَقَفْتُ دَارِي بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَاعَدَهُ أَئِمَّةُ الزَّمَانِ إنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، بَلْ هُوَ زَائِدٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إيقَاعُ تَصَرُّفٍ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: كَأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ الدَّارَ عَلَى الْبَيْعِ صَارَ رَاجِعًا. وَأَمَّا " الْمَعْنَى " فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ " الْمَعْنَى " " بِالْعِلَّةِ " وَهُوَ تَجَوُّزٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِي الْمَعْنَى وَالْعِلَّةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْعِلَّةَ وَالْمَعْنَى مَوْجُودَانِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ. وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْمَعْنَى مُسْتَنْبَطًا مِنْ الْعِلَّةِ لِتَقَدُّمِ الْمَعْنَى وَحُدُوثِ الْعِلَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ، وَالْمَعْنَى لَا يَشْتَمِلُ عَلَى عِلَلٍ، لِأَنَّ الطُّعْمَ وَالْجِنْسَ مَعْنَيَانِ وَهُمَا عِلَّةُ الرِّبَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى مَا يُوجَبُ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ حَتَّى يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ وَالْعِلَّةُ اجْتِذَابُ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ، فَصَارَ " الْمَعْنَى " مَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَالْعِلَّةُ مَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْفَرْعِ. ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْعِلَّةُ وَالْمَعْنَى فِي اعْتِبَارِ أَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ، وَأَنْ يَسْلَمَ الْمَعْنَى وَلَا يَرُدُّهُمَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَأَنْ لَا يُعَارِضَهُمَا مِنْ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ أَقْوَى مِنْهُمَا، وَأَنْ يَطَّرِدَ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةُ فَيُوجَدُ الْحُكْمُ

مسألة المعلول

بِوُجُودِهِمَا وَيَسْلَمَانِ مِنْ نَقْضٍ أَوْ كَسْرٍ، فَإِنْ عَارَضَهُمَا نَقْضٌ أَوْ كَسْرٌ لِعَدَمِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِهِمَا فَسَدَ وَبَطَلَتْ الْعِلَّةُ، لِأَنَّ فَسَادَ الْعِلَّةِ يَرْفَعُهَا، وَفَسَادُ الْمَعْنَى لَا يَرْفَعُهُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَازِمٌ وَالْعِلَّةَ طَارِئَةٌ، لِأَنَّ الْكَيْلَ إذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فِي الرِّبَا فِي الْبُرِّ لَمْ يَبْطُلْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ بَاقِيًا فِي الْبُرِّ، فَيَصِيرُ التَّعْلِيلُ بَاطِلًا وَالْمَعْنَى بَاقِيًا، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمَعَانِي مِنْ الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَفِي الْمَنْصُوصَةِ وَجْهَانِ. وَالثَّانِي وُقُوفُ الْعِلَّةِ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ وَعَدَمُ تَأْثِيرِهَا فِيمَا عَدَاهَا هَلْ يَصِحُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَأَمَّا " الْمَظِنَّةُ " فَهِيَ مَعْدِنُ الشَّيْءِ قَالَ صَاحِبُ " الْمُقْتَرَحِ " مِنْ غَلَطِ الطَّلَبَةِ تَسْمِيَةُ الْعِلَّةِ مَظِنَّةً. قَالَ شَارِحُهُ: يُرِيدُ أَنَّهُمْ غَلِطُوا فِي إطْلَاقِ اسْمِ الْمَظِنَّةِ عَلَى كُلِّ عِلَّةٍ، وَإِنَّمَا تُطْلَقُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى بَعْضِ الْعِلَلِ، وَلَهَا دَلَالَتَانِ: دَلَالَةٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَدَلَالَةٌ عَلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَهِيَ إذَا أُضِيفَتْ إلَى الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ سُمِّيَتْ مَظِنَّةً. وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ سُمِّيَتْ عِلَّةً لَهُ، وَمَنْ عَكَسَ ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ. فَالسَّفَرُ مَثَلًا يَدُلُّ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَيَدُلُّ عَلَى الرُّخْصَةِ، فَإِذَا أَضَفْتَهُ إلَى الْمَشَقَّةِ قُلْت هُوَ مَظِنَّةٌ، وَإِذَا أَضَفْتَهُ إلَى الرُّخْصَةِ قُلْت هُوَ عِلَّةٌ لَهُ، فَالسَّفَرُ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ، وَعِلَّةُ الرُّخْصَةِ وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى اصْطِلَاحٍ جَدَلِيٍّ. [مَسْأَلَة الْمَعْلُولُ] ُ] اخْتَلَفُوا فِي " الْمَعْلُولِ " مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ مَحَلُّ الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْمَحْكُومُ فِيهِ كَالْخَمْرِ لِلْإِسْكَارِ وَالْبُرِّ لِلطُّعْمِ، فَإِنَّ الْمَعْلُولَ مَنْ وُجِدَ فِيهِ الْعِلَّةُ، كَالْمَضْرُوبِ وَالْمَقْتُولِ وَكَالْمَرِيضِ الْمَعْلُولِ ذَاتِهِ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَخَيَالُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ مَجْلُوبُ الْعِلَّةِ

مسألة تقدم العلة على المعلول في العقليات

وَلَا عِلَّةَ فِيهِ إذَنْ، وَإِنَّمَا جَلَبَتْهُ الْعِلَّةُ وَصَحَّ بِهَا، بَلْ الْعِلَّةُ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لِوُجُودِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إنَّ الْعِلَّةَ جَارِيَةٌ فِي مَعْلُولَاتِهَا، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ فِي أَحْكَامِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُولَ هُوَ الْحُكْمُ لَا نَفْسُ الْمَحْكُومِ فِيهِ، كَالْمَدْلُولِ حُكْمُ الدَّلِيلِ، وَكَذَا الْمَعْلُولُ حُكْمُ الْعِلَّةِ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ وَسُلَيْمٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالُ وَصَحَّحَاهُ: وَكَذَا إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي التَّلْخِيصِ لِلْجُمْهُورِ. لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ دُونَ ذَاتِ الْمَحْكُومِ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ. وَأَمَّا " الْمُعَلَّلُ " بِفَتْحِ اللَّامِ. فَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ الْحُكْمُ فِي الْبُرِّ وَالْخَمْرِ دُونَ ذَاتَيْهِمَا، وَمَتَى قُلْنَا إنَّ الْبُرَّ مُعَلَّلٌ فَمَجَازٌ، وَمُرَادُنَا أَنَّ حُكْمَهُ مُعَلَّلٌ، وَأَمَّا " الْمُعَلِّلُ " بِكَسْرِهَا فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: هُوَ النَّاصِبُ لِلْعِلَّةِ وَ " الْمُعْتَلُّ " هُوَ الْمُسْتَدِلُّ بِالْعِلَّةِ قَالَ الْقَاضِي وَأَمَّا " الْمُعْتَلُّ بِهِ " فَهُوَ الْعِلَّةُ كَمَا أَنَّ الْمُسْتَدَلَّ بِهِ هُوَ الدَّلِيلُ. وَأَمَّا " التَّعْلِيلُ " فَقِيلَ: هُوَ إلْحَاقُ الْمُعَلَّلِ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ الْإِخْبَارُ مِنْهُ عَنْ إلْحَاقِهِ وَالِاعْتِلَالُ وَالتَّعْلِيلُ وَاحِدٌ. [مَسْأَلَةٌ تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ] ِ] الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْمَعْلُولِ فِي الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَرَكَةَ الْخَاتَمِ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْ حَرَكَةِ الْإِصْبَعِ، وَلَيْسَتْ حَرَكَةُ الْأُصْبُعِ مُتَفَرِّعَةً عَنْ حَرَكَةِ الْخَاتَمِ، وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: هُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ

أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ تُفْعَلُ بِذَاتِهَا وَالشَّرْعِيَّةُ يَجْعَلُ الشَّارِعُ إيَّاهَا مُوجِبًا أَوْ عِلَّةً عَلَى الْخِلَافِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعِلَّةَ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَعْلُولِ فِي الرُّتْبَةِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ تَسْبِقُهُ فِي الزَّمَانِ أَوْ تُقَارِنُهُ؟ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّهَا تُقَارِنُهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ فَإِنَّهُ قَالَ: الَّذِي ارْتَضَاهُ الْإِمَامُ وَنُسِبَ إلَى الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ يَقَعُ مَعَ وُجُودِهَا، فَإِنَّ الشَّرْطَ عِلَّةٌ وَضْعِيَّةٌ، وَالطَّلَاقُ مَعْلُولٌ لَهَا مُقَارَنٌ فِي الْوُجُودِ، كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مَعَ مَعْلُولِهَا. انْتَهَى: وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ وَأَجَابَ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: إنْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ. أَنَّ الْإِكْرَامَ فِعْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مُتَأَخِّرًا عَنْ الْمَجِيءِ فَلَزِمَ التَّرْتِيبُ ضَرُورَةً، وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا لَا يَرِدُ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مَعْلُولٍ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِلَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ بِنَفْسِهِ وَمَا ذَكَرُوهُ تَرْتِيبُ إنْشَاءِ فِعْلٍ عَلَى وُقُوعِ شَيْءٍ وَهُوَ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ضَرُورَةً. أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا يَفْتَقِرُ إلَى زَمَانٍ مَخْصُوصٍ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَعَهُ. وَلِلرَّافِعِيِّ إلَيْهِ صَغْوٌ ظَاهِرٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ تُقَارِنُ مَعْلُولَهَا لِكَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً بِذَاتِهَا، وَالْوَضْعِيَّةُ تَسْبِقُ الْمَعْلُولَ، وَالشَّرْعِيَّةُ مِنْ الْوَضْعِيَّةِ. حَكَاهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ " الْمَطْلَبِ ".

مسألة لا بد للحكم من علة

[مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ] ٍ] وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْكَلَامِ عَلَى السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ إجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ وَاسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِالْأَصْلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ لَا تُعَلَّلُ بِالْغَرَضِ. قُلْت: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ غَيْرُ الْأَفْعَالِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": نَدَّعِي شَرْعِيَّةَ الْأَحْكَامِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَلَا نَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَنَدَّعِي إجْمَاعَ الْأُمَّةِ، وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ إجْمَاعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى ذَلِكَ، بِمَعْنَى أَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بَلَّغُوا الْأَحْكَامَ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ بِهَا غَايَةَ الظُّهُورِ مُطَابَقَتُهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ثُمَّ انْقَسَمَ النَّاسُ إلَى مُوَفَّقٍ وَغَيْرِهِ، فَالْمُوَفَّقُ طَابَقَ فِعْلَهُ وَتَرَكَهُ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَفَازَ بِالسَّعَادَتَيْنِ فِي الدَّارَيْنِ، وَالْمَخْذُولُ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَمْرُ فِيهِمَا لَيْسَ إلَّا لِخَالِقِ الْعِبَادِ. انْتَهَى. وَهَكَذَا ذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ لَمْ تَخُصَّ شَرِيعَتَنَا بَلْ كَانَ مَعْهُودًا فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَعَلَيْهَا انْبَنَتْ وَوَقَفَ عَلَيْهِ الْفَقِيهُ الْمُقْتَرِحُ وَقَالَ: لَا عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ، وَقَطَعَ بِهِ الْإِبْيَارِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: لَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ شَرِيعَةَ عِيسَى لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ فِيهَا مَشْرُوعًا، وَقَدْ أُرِيدَ بِهَا صَلَاحُ الْخَلْقِ إذْ ذَاكَ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِصَاصِ مِنْ شَرِيعَةِ عِيسَى بَاطِلٌ بَلْ كَانَ مَشْرُوعًا وَإِنَّمَا الَّذِي لَمْ يَشْرَعْ فِيهَا الدِّيَةُ، وَيَتَلَخَّصُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: ثَالِثُهَا: الْوَقْفُ. فَإِنْ قُلْتَ: إذَا كَانَتْ كُلُّ شَرِيعَةٍ انْبَنَتْ عَلَى مَصَالِحِ الْخَلْقِ إذْ ذَاكَ فَبِمَاذَا

اخْتَصَّتْ شَرِيعَتُنَا حَتَّى صَارَتْ أَفْضَلَ الشَّرَائِعِ وَأَتَمَّهَا؟ قُلْت: بِخَصَائِصَ عَدِيدَةٍ: مِنْهَا: نِسْبَتُهَا إلَى رَسُولِهَا وَهُوَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ. وَمِنْهَا: نِسْبَتُهَا إلَى كِتَابِهَا وَهُوَ أَفْضَلُ الْكُتُبِ: وَمِنْهَا اسْتِجْمَاعُهَا لِمُهِمَّاتِ الْمَصَالِحِ وَتَتِمَّاتِهَا وَلَعَلَّ الشَّرَائِعَ قَبْلَهَا إنَّمَا انْبَنَتْ عَلَى الْمُهِمَّاتِ وَهَذِهِ جَمَعَتْ الْمُهِمَّاتِ وَالتَّتِمَّاتِ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» «وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا» إلَى قَوْلِهِ: «فَكُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةُ» يُرِيدُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَجْرَى عَلَى يَدِهِ وَصْفَ الْكَمَالِ وَنُكْتَةَ التَّمَامِ. وَيَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ نُكْتَةِ الْكَمَالِ حُصُولُ مَا قَبْلَهَا مِنْ الْأَصْلِ دُونَ الْعَكْسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ أَحْكَامَهُ تَعَالَى غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لِغَرَضٍ، وَلَا يَبْعَثُهُ شَيْءٌ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إيجَادِ الْمَصْلَحَةِ بِدُونِ أَسْبَابِهَا وَإِعْدَامِ الْمَضَارِّ بِدُونِ دَوَافِعِهَا. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الْأَحْكَامُ مُعَلَّلَةٌ وَلَمْ يُخَالِفُوا أَهْلَ السُّنَّةِ بَلْ عَنَوْا بِالتَّعْلِيلِ الْحِكْمَةَ وَتَحَجَّرَ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَاسِعًا فَزَعَمُوا: أَنَّ تَصَرُّفَهُ تَعَالَى مُقَيَّدٌ بِالْحِكْمَةِ مُضَيَّقٌ بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ. وَفِي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ مَا يَجْنَحُ إلَيْهِ، وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمْ، وَكَذَا نَبِيذُ التَّمْرِ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ خِلَافًا لَهُمْ.

وَالْحَقُّ أَنَّ رِعَايَةَ الْحِكْمَةِ لِأَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ جَائِزٌ وَاقِعٌ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ الْعِلَّةَ وَالْغَرَضَ وَالتَّحْسِينَ الْعَقْلِيَّ وَرِعَايَةَ الْأَصْلَحِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَرِعَايَةِ الْحِكْمَةِ وَاضِحٌ، وَلِخَفَاءِ الْغَرَضِ وَقَعَ الْخَبْطُ. وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الْحِكْمَةِ فِي أَمْرٍ كَوْنِيٍّ أَوْ دِينِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ فَانْظُرْ إلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْغَايَاتِ فِي جُزْئِيَّاتِ الْكَوْنِيَّاتِ وَالدِّينِيَّاتِ مُتَعَرِّفًا بِهَا مِنْ النَّقْلِ الصَّحِيحِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] فِي حِكْمَةِ الْإِسْرَاءِ وَبِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْقَانُونِ يَتَّضِحُ كَثِيرٌ مِنْ الْإِشْكَالِ وَيَطَّلِعُ عَلَى لُطْفِ ذِي الْجَلَالِ. وَقَرَّرَ ابْنُ رَحَّالٍ فِي " شَرْحِ الْمُقْتَرِحِ " الْإِجْمَالَ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَقَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا شَرْعِيَّةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ، إمَّا عَلَى جِهَةِ اللُّطْفِ وَالْفَضْلِ عَلَى أَصْلِنَا، أَوْ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَنَحْنُ نَقُولُ: هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الشَّرْعِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، وَلَا لِأَنَّ خُلُوَّ الْأَحْكَامِ مِنْ الْمَصَالِحِ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ كَمَا يَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنَّمَا نَقُولُ رِعَايَةُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ أَمْرٌ وَاقِعٌ فِي الشَّرْعِ، وَكَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ لَا يَقَعَ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ. ثُمَّ الْقَائِلُ بِالْوُجُوبِ مَا يُرِيدُ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ أَنَّ نَقِيضَهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْبَارِي، كَمَا يَجِبُ وَصْفُهُ بِالْعِلْمِ لِأَنَّ نَقِيضَهُ - وَهُوَ الْجَهْلُ - مُمْتَنِعٌ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَنْزِلُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: اُشْتُهِرَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ وَاشْتُهِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ التَّعْلِيلُ وَأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَيَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّهَا الْبَاعِثُ لِلشَّرْعِ فَيَتَنَاقَضُ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ وَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا تَنَاقُضَ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْعِلَّةَ بَاعِثَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، مِثَالُهُ حِفْظُ النُّفُوسِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ بَاعِثَةٌ عَلَى الْقِصَاصِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ الْمَحْكُومُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَحُكْمُ الشَّرْعِ لَا عِلَّةَ لَهُ وَلَا بَاعِثَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ النُّفُوسَ بِغَيْرِ

ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ أَمْرُهُ بِحِفْظِ النُّفُوسِ، وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَبِالْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ: حِفْظُ النُّفُوسِ قَصْدَ الْمَقَاصِدِ، وَالْقِصَاصُ قَصْدَ الْوَسَائِلِ، وَأَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّ الْقِصَاصَ سَبَبٌ لِلْحِفْظِ. فَإِذَا قَصَدَ بِأَدَاءِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَوَلِيِّ الدَّمِ الْقِصَاصَ، وَانْقَادَ إلَيْهِ الْقَاتِلُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَسِيلَةً إلَى حِفْظِ النُّفُوسِ، كَانَ لَهُ أَجْرَانِ أَجْرٌ عَلَى الْقِصَاصِ وَأَجْرٌ عَلَى حِفْظِ النُّفُوسِ، وَكِلَاهُمَا مَأْجُورٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَحَدُهُمَا بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] وَالثَّانِي: إمَّا بِالِاسْتِنْبَاطِ أَوْ بِالْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] . وَهَكَذَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ هُنَا نُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلِلشَّارِعِ فِيهِ مَقْصُودَانِ: أَحَدُهُمَا: ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَالثَّانِي: الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ طَرِيقٌ إلَيْهِ وَأَمْرُ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَفْعَلَهُ قَاصِدًا بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَالْمَعْنَى بَاعِثٌ لَهُ لَا لِلشَّارِعِ. وَمِنْ هُنَا تَعْرِفُ أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ فَاتَهُمْ نِصْفُ التَّفَقُّهِ وَنِصْفُ الْأَجْرِ، وَتَعْرِفُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى أَكْثَرُ أَجْرًا مِنْ التَّعَبُّدِيِّ، نَعَمْ التَّعَبُّدِيُّ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النُّفُوسَ لَا حَظَّ لَهَا فِيهِ فَقَدْ يَكُونُ الْأَجْرُ الْوَاحِدُ يَعْدِلُ الْأَجْرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْحُكْمِ غَيْرِ التَّعَبُّدِيِّ، وَتَعْرِفُ بِهِ أَيْضًا أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ سَوَاءٌ فِيهَا الْمُسْتَنْبَطَةُ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ. فَائِدَةٌ: بِعَيْنِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: حُكْمُ اللَّهِ بِالْقِصَاصِ، وَنَفْسُ الْقِصَاصِ وَحِفْظُ النُّفُوسِ، وَهُوَ بَاعِثٌ عَلَى الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ، وَكَذَا حِفْظُ الْمَالِ بِقَطْعِ السَّرِقَةِ، وَحِفْظُ الْعَقْلِ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ فِي تَفْسِيرِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إنَّ الْأَحْكَامَ وَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ الْمَصَالِحِ لَا أَنَّهَا عِلَّةٌ لَهَا، وَهَذَا وَحْدَهُ لَا يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ. انْتَهَى.

نَعَمْ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ مَرْدُودَةٌ فَإِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ الْقَطَّانِ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا اخْتَارَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْأَحْكَامَ جَمِيعَهَا إنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْعِلَّةِ، إلَّا أَنَّ مِنْهَا مَا يَقِفُ عَلَى مَعْنَاهُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَقِفُ، وَلَيْسَ إذَا خَفِيَتْ عَلَيْنَا الْعِلَّةُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى عَدَمِهَا، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا السَّعْيَ وَالِاضْطِبَاعَ لِعِلَّةٍ سَبَقَتْ فِي غَيْرِنَا. ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الْأَحْكَامِ تُعَلَّلُ، بَلْ مِنْهَا مَا هُوَ لِعِلَّةٍ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ. قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْوَاضِعَ حَكِيمٌ. وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ فِي " فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ "، عَنْ كِتَابِ الْعِلَلِ فِي " الْأَحْكَامِ " لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّجَّاجِ تِلْمِيذِ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا: اخْتَلَفَ الْقَيَّاسُونَ فِي الْعِلَلِ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِنَفْيِ الْعِلَلِ، وَزَعَمُوا أَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ عَلَى مَا يَغْلِبُ فِي النَّفْسِ، لَا أَنَّ ثَمَّ لَهُ عِلَّةً تُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ لَهُمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْعِلَلَ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ جَمِيعِهِمْ الْقِيَاسُ، فَقُلْنَا بِالتَّشْبِيهِ إذْ هُوَ مَنْقُولٌ عَنْهُمْ وَلَمْ يُعَلَّلْ بِالْعِلَلِ. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ، فَقَالَ قَوْمٌ: مَا أَعْلَمَنَا اللَّهُ عِلَّتَهُ قُلْنَا: إنَّهُ لِعِلَّةٍ، وَمَا لَمْ يُعْلِمْنَا عِلَّتَهُ لَمْ نَقْطَعْ أَنَّهُ لِعِلَّةٍ بَلْ جَوَّزْنَا فِيهِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي هُوَ الْأَصَحُّ. انْتَهَى. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي " الْأَرْبَعِينَ ": اتَّفَقَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَهُوَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ. إلَى آخِرِهِ

وَقَالَ إلْكِيَا: فَصْلٌ: فِي أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ هَلْ وُضِعَتْ لِعِلَلٍ حُكْمِيَّةٍ أَمْ لَا؟ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا لَا اسْتِصْلَاحَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. وَنَحْنُ وَإِنْ جَوَّزْنَا أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَرَفْنَاهُ مِنْ الشَّرَائِعِ أَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى الِاسْتِصْلَاحِ، دَلَّتْ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى مُلَاءَمَةِ الشَّرْعِ لِلْعِبَادَاتِ الْجِبِلِّيَّةِ وَالسِّيَاسَاتِ الْفَاضِلَةِ وَأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء: 165] وَقَالَ {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا تَعَبَّدَهُمْ بِالشَّرَائِعِ لِاسْتِصْلَاحِ الْعِبَادِ، وَهَذَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ وُقُوعِ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ يَقَعُ الْآخَرُ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُخْتَارُ مِمَّنْ ثَبَتَتْ حِكْمَتُهُ، فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ السَّمْعُ فَأَحَدُهَا الْقِيَاسُ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ. ثُمَّ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ بِأَدِلَّةٍ مَوْضُوعَةٍ مِنْ النَّصِّ تَارَةً، وَمِنْ مَفْهُومٍ وَتَنْبِيهٍ وَسَيْرٍ وَإِيجَازٍ، وَمِنْهَا مَا لَا يُطَّلَعُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ أَلْطَافِ اللَّهِ الَّتِي لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهَا، فَمِنْ هَاهُنَا تَخْصِيصُ التَّكَالِيفِ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَتَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ بِالنَّدْبِ، وَبَعْضِهَا بِالْوُجُوبِ، وَهَذِهِ الْمَصَالِحُ بِحَسَبِ الْمَعْلُومِ مِنْ حَالِ الْمُتَعَبَّدِينَ بِهِ وَاحِدًا اخْتَلَفَ الْأَفْعَالُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي النَّقْلِ مِنْ شَرِيعَةٍ إلَى أُخْرَى، وَقَدْ بَنَى اللَّهُ أُمُورَ عِبَادِهِ عَلَى أَنْ عَرَّفَهُمْ مَعَانِيَ دَلَائِلِهَا وَجُمَلِهَا، وَغَيَّبَ عَنْهُمْ مَعَانِيَ دَقَائِقِهَا وَتَفَاصِيلِهَا، كَمَا إذَا رَأَيْنَا رَجُلَيْنِ عَلِيلَيْنِ تَفَاوَتَتْ عِلَلُهُمَا عَرَفْنَا الْوَجْهَ فِي افْتِرَاقِهِمَا، وَلَوْ سَأَلْنَا عَنْ تَعْدَادِ الِاخْتِلَافِ جَهِلْنَا وَهَذَا فَنٌّ يَهُونُ بَسْطُهُ.

إذَا عَرَفْت هَذَا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: اُحْكُمْ فَكُلُّ مَا حَكَمْتَ هُوَ الصَّوَابُ؟ أَوْ يَأْمُرُ عَامَّةَ الْخَلْقِ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا عَنَّ لَهُمْ، أَوْ بَعْضَ الْعَالِمِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَيَأْتِي. فَقِيلَ: لِلَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِذَلِكَ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إذَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ الْفَسَادَ وَالصَّلَاحَ جَمِيعًا وَلَيْسَ اخْتِيَارُهُ عَلَمًا عَلَى الصَّوَابِ، وَبِمِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِتَصْدِيقِ نَبِيٍّ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، فَكَمَا يَجُوزُ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْنَا فِي الْخَبَرِ عَلَى اتِّفَاقِ الصِّدْقِ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْمَصْلَحَةِ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ أَنَّ الْأَمَارَةَ عَلَى التَّعَبُّدِ بِهِ مَقْطُوعٌ بِهَا، وَالظَّنُّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمَارَةٍ تُفْضِي إلَى الظَّنِّ قَطْعًا، وَهُنَا بِخِلَافِهِ، إذْ لَا أَمَارَةَ. إذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اشْتِمَالِ كُلِّيَّاتِ الشَّرْعِ وَجُزْئِيَّاتِهِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَانْقِسَامِهَا إلَى مَا يَلُوحُ لِلْعِبَادِ وَإِلَى مَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا وَرَاءَ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ وَأَنَّهُ مِنْ مَدَارِك الْأَحْكَامِ أَوْ مِنْ الْقَوْلِ بِالشَّبَهِ الْمَحْضِ، وَاَلَّذِينَ رَدُّوا الْقِيَاسَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ أَصْلًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ، قَالَ: وَيَمْتَنِعُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أُصُولٍ تُعَلَّلُ وَتُحْمَلُ الْفُرُوعُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ مَظْنُونٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ جِهَاتِ الْمَصَالِحِ مُغَيَّبَةٌ عَنَّا، فَلَا وُصُولَ إلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ مِنْ بَيْنِ الْمَعَانِي عَلَى وَجْهٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ الْأَصْلَحُ دُونَ مَا سِوَاهُ قَطْعًا، وَلِأَجْلِهِ تَفَاوَتَتْ الْآرَاءُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْأُصُولَ السَّمْعِيَّةَ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَدُّ الْفَرْعِ إلَى الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَصَّلُ إلَى أَحْكَامِهَا بِالْأَمَارَاتِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِمِثْلِهَا إلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ لَهَا أَمَارَاتٍ مَعْلُومَةً بِالْعَادَةِ. انْتَهَى. مَسْأَلَةٌ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ إمَّا جَوَازًا أَوْ وُجُوبًا - عَلَى

الْخِلَافِ - انْبَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْصِبُ أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ إلَّا بِمُنَاسَبَةٍ أَوْ مَظِنَّةِ مَعْنًى يُنَاسِبُ، وَإِلَّا لَزِمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا لِمَصْلَحَةٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِ الْمُنَاسِبِ مَصْلَحَةٌ وَأَقَرَّ التَّعْرِيفَ وَالْعَلَامَةَ وَصَارَ لَهُ طَرِيقَانِ: ظُهُورُ الْمُنَاسِبِ، وَمَحْضُ الْعَلَامَةِ. قُلْنَا: لَا يَجُوزُ عَنْ الْمُنَاسَبَةِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا. عَلَى أَنَّهُ سَيَأْتِي فِي فَصْلِ الطَّرْدِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ظُهُورُ الْمُنَاسَبَةِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَحْكَامُ الضِّمْنِيَّةُ لَا تُعَلَّلُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا سَافَرَ إلَى بَلَدٍ لَزِمَ مِنْهُ نَقْلُ الْأَقْدَامِ وَقَطْعُ الْمَسَافَاتِ، ثُمَّ إنَّهُ لَا يُعَلَّلُ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِبَالِهِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ، فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَلَا، لِأَنَّ الشَّارِعَ لِلْأَحْكَامِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فَتَحَقُّقُ شَرَائِطِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَصَالِحِ مُضَافٌ وَمُعَلَّلٌ، لِأَنَّ شَرْطَ الْإِضَافَةِ لَيْسَ إلَّا الْعِلْمُ وَالْخُطُورُ بِالْبَالِ. مَسْأَلَةٌ هَلْ الْأَصْلُ فِي الْأُصُولِ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُعَلَّلَةٍ مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا مُعَلَّلَةً، أَوْ الْأَصْلُ أَنَّهَا مُعَلَّلَةٌ إلَّا لِدَلِيلٍ مَانِعٍ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الدَّبُوسِيُّ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ. قَالَا: وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا مُعَلَّلَةٌ < m s=1> فِي الْأَصْلِ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِجَوَازِ التَّعْلِيلِ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُ. قَالَا: وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ هَذَا مِنْ قِيَامِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعَلَّلًا فِي الْحَالِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الدَّبُوسِيُّ: حُكْمُ الْعِلَّةِ عِنْدَنَا تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ الْمُعَلَّلِ إلَى فَرْعٍ لَا

نَصَّ فِيهِ وَلَا إجْمَاعَ وَلَا دَلِيلَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُكْمُ الْعِلَّةِ تَوَقُّفُ حُكْمِ النَّصِّ بِالْوَصْفِ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ، وَالثَّانِيَةُ: امْتِنَاعُ تَعَدِّيهَا إلَى فَرْعٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ: لَا. قُلْتُ: وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالْأَصْلِ أَوْ الْعِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ ثُبُوتُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ ثُبُوتُ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِهَا. ثُمَّ إنْ وُجِدَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ ثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِلَّا فَلَا يَثْبُتُ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ هَلْ تَصِحُّ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَنَا: تَصِحُّ، وَعِنْدَهُمْ: لَا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا جَرَى الِاخْتِلَافُ فِي الْحُكْمِ فَكَذَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ هَلْ هُوَ عِلَّةُ الْعِصْمَةِ أَمْ لَا؟ وَكَذَا الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَنَا عِلَّةٌ لِلضَّمَانِ وَعِنْدَهُمْ: لَيْسَ بِعِلَّةٍ. مَسْأَلَةٌ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا، لِأَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ كَالْحُكْمِ، فَكَمَا لَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ فَكَذَا الْعِلَّةُ. قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَادَّعَى أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِمَعْنًى أَبْدَاهُ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِتَصْحِيحِ دَعْوَاهُ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ لَا تُسَوَّغُ هَذِهِ الْمُطَالَبَةُ، لَكِنْ عَلَى الْمُعْتَرِضِ أَنْ يُبْطِلَ مَعْنَاهُ الَّذِي ذَكَرَهُ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مُبْطِلٌ لَهُ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ فَسَادِ الطَّرْدِ، وَسَتَأْتِي مَسَالِكُ الْعِلَّةِ الدَّالَّةُ عَلَى صِحَّتِهَا، وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: نَعْلَمُ صِحَّةَ الْعِلَّةِ بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا وَلَا يَرْفَعُهَا أَصْلٌ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَتَيْنِ يُعْلَمُ بِأَحَدِهِمَا أَنَّهُ عِلَّةٌ وَبِالْآخَرِ

أَنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى غَيْرِهَا، لِأَنَّ الْفَائِدَةَ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَرَيَانِ، هَلْ هُوَ دَلَالَةُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَمَعْنَى الْجَرَيَانِ هُوَ اسْتِمْرَارُهَا عَلَى الْأُصُولِ حَتَّى لَا يَدْفَعَهَا أَصْلٌ ثَابِتٌ. مَسْأَلَةٌ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ هَلْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى اسْمِ الْفَرْعِ ثُمَّ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؟ هَكَذَا تَرْجَمَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَحَكَى عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ الْأَسْمَاءُ فِي الْفُرُوعِ ثُمَّ تُعَلَّقُ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، وَكَانَ يَتَوَصَّلُ إلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَرِكَةٌ، ثُمَّ يَجْعَلُهَا مَوْرُوثَةً، وَأَنَّ وَطْءَ الْبَهِيمَةِ زِنًى ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ. وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَانَ يَقِيسُ النَّبِيذَ عَلَى الْخَمْرِ فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الشِّدَّةِ ثُمَّ يُحَرِّمُهُ بِالْآيَةِ. وَأَكْثَرُ الْقَيَّاسِينَ عَلَى أَنَّ الْعِلَلَ ثَبَتَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ، فَإِنْ كَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَمْنَعُ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْفُرُوعِ بِالْعِلَلِ فَذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَسَائِلِ إنَّمَا تُعَلَّلُ فِيهَا أَحْكَامُهَا دُونَ أَسْمَائِهَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعِلَلَ قَدْ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْأَسْمَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَانِعِ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى الْأَحْكَامِ، فَإِنْ أَرَادَ بِالْعِلَلِ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ وَبِالْأَسْمَاءِ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللُّغَةَ أَسْبَقُ مِنْ الشَّرْعِ، وَلِتَقَدُّمِ اللُّغَةِ خَاطَبَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا، فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ أَسْمَائِهَا بِأُمُورٍ طَارِئَةٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ قَدْ ثَبَتَتْ فِي اللَّهِ بِقِيَاسٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ نَحْوُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ سَمَّوْا الْجِسْمَ الَّذِي حَضَرَهُمْ بِأَنَّهُ أَبْيَضُ لِوُجُودِ الْبَيَاضِ، قِسْنَا مَا غَابَ عَنْهُمْ مِنْ الْأَجْسَامِ الْبِيضِ فَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مِنْ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَثْبُتُ بِالْعِلَلِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَيْضًا انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ.

مَسْأَلَةٌ إذَا حَرُمَ الشَّيْءُ لِعِلَّةٍ فَارْتَفَعَتْ هَلْ وَجَبَ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ؟ قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: الَّذِي نَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى الدَّلِيلِ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِلشِّدَّةِ، ثُمَّ تَحْرُمُ لِلنَّجَاسَةِ، وَكَمِلْكِ الْغَيْرِ مَعَ عَدَمِ الْإِذْنِ. ثُمَّ هِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عِلَلٌ مُطْلِقَةٌ لِلْحُكْمِ، وَعِلَلٌ مُقَيِّدَةٌ، فَالْمُطْلِقَةُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ عِلَّةُ الْقَتْلِ الْقَتْلُ. وَشَرْطُهَا أَنْ يَرْتَفِعَ الْحُكْمُ بِارْتِفَاعِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ قَتْلٌ إلَّا بِقَتْلٍ، وَمِنْهُ مُنَاقَضَةُ الشَّافِعِيِّ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْمَبْتُوتَةِ، لِأَنَّ اعْتِلَالَهُ وَقَعَ مُطْلِقًا بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِ مَائِهِ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ. فَقَالَ: إذَا خَلَا بِهَا وَطَلَّقَهَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى ذَلِكَ فَأَجِزْهُ. فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: ذَلِكَ لِعِلَّةٍ أُخْرَى قُلْنَا: إنَّ الِاعْتِلَالَ وَقَعَ مُطْلِقًا، فَلِذَلِكَ كَانَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ نَقْضًا لِمَا قَالَ. فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ عِلَّةُ قَتْلِ الْقَاتِلِ كَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ غَيْرَ الْقَاتِلِ، كَمَا تَقُولُ أَدْرَكْته لِقُرْبِهِ وَارْتِفَاعِ الْمَانِعِ لَمْ يُدْرِكْهُ. قُلْنَا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فَلَا يَكُونُ نَقْضًا وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ.

فصل في ذكر شروط العلة

[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ] ِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ: فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْجُمْ مَاعِزًا لِاسْمِهِ وَلَا لِهَيْئَةِ جِسْمِهِ، وَلَكِنَّ الزِّنَى عِلَّةُ الرَّجْمِ، وَكَذَا الطُّعْمُ عِلَّةُ الرِّبَا دُونَ الزَّرْعِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. وَمُرَادُهُمَا بِالتَّأْثِيرِ الْمُنَاسَبَةُ وَأَحْسَنُ مِنْ عِبَارَتِهِمَا قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ: أَنْ يَكُونَ وَصْفُهَا مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى وَصْفٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَكُونُ عِلَّةً لِلتَّخْفِيفِ، وَأَبْطَلْنَا بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الرِّدَّةَ عِلَّةً لِإِسْقَاطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَإِبَاحَةَ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَكُونُ مَعْصِيَةً. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ التَّعْلِيلَ بِمُجَرَّدِ الْأَمَارَةِ الطَّرْدِيَّةِ. وَالْحَقُّ خِلَافُهُ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى حُكْمٍ يَبْعَثُ الْمُكَلَّفَ عَلَى الِامْتِثَالِ وَيَصِحُّ شَاهِدًا لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": مَعْنَى كَوْنِ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرَةً فِي الْحُكْمِ هُوَ الْحُكْمُ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّ الْحُكْمَ حَاصِلٌ عِنْدَ ثُبُوتِهَا لِأَجْلِهَا دُونَ شَيْءٍ سِوَاهَا، وَالْمُرَادُ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي الْحُكْمِ دُونَ مَا عَدَاهَا أَنَّهَا جُعِلَتْ عَلَامَةً عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيمَا هِيَ فِيهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُهَا مَعَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ أَوْ ثُبُوتُ حُكْمِهَا مَعَ انْتِقَائِهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إنَّهَا جَالِبَةٌ لِلْحُكْمِ وَمُقْتَضِيَةٌ لَهُ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَجْمَعَ أَنَّهَا عَلَامَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا يُوجِبُهُ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَوْنُهَا مُؤَثِّرَةً فِيهِ.

وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ يُعْتَبَرُ تَأْثِيرُ الْعِلَّةِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ ": أَحَدُهُمَا: فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تُنْزَعُ مِنْ الْأَصْلِ أَوَّلًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يُؤَثِّرَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأُصُولِ. قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي، وَحَكَى شَارِحُهُ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: تَأْثِيرُهُ فِي الْأَصْلِ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: اشْتَرَطَ تَأْثِيرَهَا فِي الْفَرْعِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَالْأَصْلُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكْفِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأُصُولِ سَوَاءٌ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي مَوْضِعٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَصْفًا ضَابِطًا: لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا لِحِكْمَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ لَا حِكْمَةٍ مُجَرَّدَةٍ لِخَفَائِهَا، فَلَا يَظْهَرُ إلْحَاقُ غَيْرِهَا بِهَا، وَهَلْ يَجُوزُ كَوْنُهَا نَفْسَ الْحِكْمَةِ، وَهِيَ الْحَاجَةُ إلَى جَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ؟ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي " الْمَحْصُولِ ": يَجُوزُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَمْتَنِعُ وَاخْتَارَهُ فِي " الْمَعَالِمِ "، وَفَصَّلَ آخَرُونَ فَقَالُوا: إنْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً بِنَفْسِهَا جَازَ التَّعْلِيلُ بِهَا لِمُسَاوَاةِ ظُهُورِ الْوَصْفِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا، أَيْ مَظِنَّتِهَا بَدَلًا عَنْهَا، مَا لَمْ يُعَارِضْهُ قِيَاسٌ وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَنْعُ، وَقَالَ: الْحِكْمَةُ مِنْ الْأُمُورِ الْغَامِضَةِ، وَشَأْنُ الشَّرْعِ فِيمَا هُوَ كَذَلِكَ قَطْعُ النَّظَرِ عِنْدَ تَقْدِيرِ الْحُكْمِ عَنْ دَلِيلِهِ وَمَظِنَّتِهِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ الْجَوَازُ وَأَنَّ

اعْتِبَارَهَا هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْمَظِنَّةُ لِلتَّسْهِيلِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي خِلَافُهُمَا فِي الْمُصَابَةِ بِالزِّنَى، هَلْ تُعْطَى حُكْمَ الْأَبْكَارِ أَوْ الثَّيِّبَاتِ فِي السُّكُوتِ؟ فَإِنْ قَطَعَ بِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَاسْتِبْرَاءِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِتَبَيُّنِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الصَّغِيرَةِ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَتِلْمِيذُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالْمَظِنَّةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ قَدْ صَارَ مُتَعَلِّقًا بِهَا، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجَدَلِيُّونَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ فَإِنَّهَا أَصْلُ الْعِلَّةِ، وَقَالَ ابْنُ رَحَّالٍ: التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ مُمْتَنِعٌ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ الْقِيَاسَ فِي الْأَسْبَابِ، وَجَائِزٌ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَهُ. فَرْعَانِ فِيهِمَا نَظَرٌ: الْأَوَّلُ: هَلْ الْعِلَّةُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَصْفِ الْمُتَرْجَمِ عَنْ الْحِكْمَةِ مَجَازٌ فِي الْحِكْمَةِ؟ أَوْ الْعَكْسُ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ اعْتِبَارًا وَالْمُلَاحَظُ بِالْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ مَعْنَاهَا وَتَوَسُّطُ الْوَصْفِ مَقْصُودٌ لِأَجْلِهَا. الثَّانِي: إذَا وُجِدَ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْحِكْمَةُ نَهَضَتْ بِشَرْطِهَا وَسَارَتْ الْعِلَّةُ فِي تَأْثِيرِ التَّعْدِيَةِ بِإِلْحَاقِ فُرُوعٍ تُنْشِئُ أَحْكَامًا مِنْ الْأَصْلِ، فَالْأَوْلَى فِي النَّظَرِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْوَصْفِ أَوْ الْحِكْمَةِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: الْوَصْفُ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى التَّعْلِيلِ بِهِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الثَّانِي.

وَالثَّانِي: الْحِكْمَةُ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ وَالْوَصْفُ وَسِيلَةٌ إلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِهَا. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً: وَإِلَّا لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهَا فِي الْفَرْعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَخْفَى مِنْهُ أَوْ مُسَاوِيَةً لَهُ فِي الْخَفَاءِ، ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي جَدَلِهِ ". وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَصْلِ أَظْهَرَ مِنْهَا فِي الْفَرْعِ، وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ: " الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ " يَقْتَضِي اسْتِوَاءَ حَالِهِمَا فِي الْمَحَلَّيْنِ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ نَصْبُهُ أَمَارَةً، لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّعْرِيفِ يَحْصُلُ مِنْهُ. كَمَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ خَفِيًّا أَوْ لَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّضَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعُقُودِ وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ الْعَمْدِيَّةُ عِلَّةٌ فِي الْقِصَاصِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْخَفَاءَ بِمَا لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، وَمَثَّلُوهُ بِالرِّضَا فِي الْعُقُودِ وَالْعَمْدِيَّةِ فِي الْقِصَاصِ، وَاسْتَشْكَلَ لِأَنَّهُمْ إنْ عَنَوْا بِكَوْنِهِ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَّا الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ نَصْبُهُ أَمَارَةً بِنَفْسِهِ وَلَا مَظِنَّةَ، وَإِنْ عَنَوْا بِهِ أَنَّهُ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَيُمْكِنُ [أَنْ] يُوقَفَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْإِشْكَالُ خَفِيًّا، لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ

عَلَيْهِ بِآثَارِهِ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إذْ يَعْسُرُ تَعْيِينُ قَدْرٍ فِي الْأَصْلِ هُوَ ثَابِتٌ فِي الْفَرْعِ، وَأَيْضًا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ انْدَفَعَتْ النُّصُوصُ إذْ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي مَحَلِّهَا مِنْ الْحُكْمِ غَيْرَ قَاصِرٍ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ. قَالَ ابْنُ النَّفِيسِ فِي " الْإِيضَاحِ ": إنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ يَرِدُ حِينَئِذٍ مَنْعٌ يَعْسُرُ دَفْعُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ هَذَا الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ قَدْرٌ يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ؟ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ بِالْحِكْمَةِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ حِكْمَةٍ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً بِشَرْطِهَا، أَيْ بِحَيْثُ لَا يَرُدُّهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ. لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعٌ لَهَا لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لَهَا، فَإِذَا رَدَّهُ أَحَدُهُمَا بَطَلَ. الْخَامِسُ: أَنْ لَا يُعَارِضَهَا مِنْ الْعِلَلِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنَّ الْأَقْوَى أَحَقُّ بِالْحُكْمِ، كَمَا أَنَّ النَّصَّ أَحَقُّ بِالْحُكْمِ مِنْ الْقِيَاسِ، وَمَا أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْأَقْوَى فَهُوَ الْبَاطِلُ بِالْأَقْوَى. ذَكَرَهُ - وَاَلَّذِي يَلِيهِ - الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً، أَيْ كُلَّمَا وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْمُ لِيَسْلَمَ مِنْ النَّقْضِ وَالْكَسْرِ، فَإِنْ عَارَضَهَا نَقْضٌ أَوْ كَسْرٌ فَعُدِمَ الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِهَا بَطَلَتْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا عَقْلِيَّةٌ أَوْ سَمْعِيَّةٌ، فَالْعَقْلِيَّةُ يَمْتَنِعُ تَخْصِيصُهَا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ النَّظَرِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ فُورَكٍ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَابْنُ عَبْدَانَ، فِي شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ، وَغَيْرُهُمْ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّرْعِيَّةِ. وَهِيَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَنْبَطَةً أَوْ مَنْصُوصَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً فَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ بِامْتِنَاعِ تَخْصِيصِهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَبْقَى حُجَّةً فِيمَا وَرَاءَ الْحُكْمِ الْمَخْصُوصِ لِبُطْلَانِ الْوُثُوقِ بِهَا، وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ

أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ " الْبَيَانِ " فِي بَابِ الرِّبَا: إنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْمَنْصُوصَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَزَعَمَ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ. وَأَطْلَقَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " مَنْعَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً. فَمَنْ جَوَّزَ تَخْصِيصَ الْمُسْتَنْبَطَةِ جَوَّزَ هَذِهِ أَيْضًا، وَمَنْ مَنَعَ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، كَالْمُسْتَنْبَطَةِ. قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّفْظِ الْعَامِّ حَيْثُ جَازَ تَخْصِيصُهُ أَنَّ الْعَامَّ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ، فَإِذَا وَرَدَ لَمْ يُنَافِهِ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ فَإِنَّمَا انْتَزَعَهَا الْقَائِسُ مِنْ الْأَصْلِ، وَمُقْتَضَاهُ الِاطِّرَادُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " إنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ، ثُمَّ اخْتَارَهُ الْقَاضِي آخِرًا وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَنَصَرَهُ فِي " كِتَابِ الْجَدَلِ " لَهُ، وَكَذَا الْخَفَّافُ فِي " الْخِصَالِ " وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَقَالَ إلْكِيَا: إنَّهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ فِي " الْقَوَاطِعِ ": إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ إلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَالُوا: تَخْصِيصُهَا نَقْضٌ لَهَا، وَنَقْضُهَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَهَا. قَالَ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ بَاطِلٌ، وَمَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَقَدْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالسَّفَهِ وَالْعَبَثِ، لِأَنَّهُ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ إذْ الْعِلَّةُ شُرِعَتْ لِلْحُكْمِ، وَالْكَلَامِ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِذَا خَلَا الْفِعْلُ عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ يَكُونُ عَبَثًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يُشْبِهُ الْإِبْدَاءَ أَوْ النَّاسِخَ وَكِلَاهُمَا لَا يُدْخِلُ الْعِلَلَ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ سَوَاءٌ الْمَنْصُوصَةُ وَالْمُسْتَنْبَطَةُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى جَوْهَرِ عِلَّةِ الشَّارِعِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعَمِّ الصِّيَغِ، وَلَا نَظُنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ أَنْ يُنَصَّبَ عَلَمًا ثُمَّ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، نَعَمْ يَتَطَرَّقُ إلَى مَحَلِّ كَلَامِهِ بِتَخْصِيصِ بَعْضِ الْمَحَالِّ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] فَيَذْكُرُ الْمَحَلَّ دُونَ الْعِلَّةِ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُسْتَنْبَطَةِ حَيْثُ امْتَنَعَ فِيهَا أَنَّ الْمَنْصُوصَةَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ، بَلْ هِيَ كَالِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِدَلَالَةِ الْعُمُومِ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا جَازَ تَخْصِيصُهَا لِأَنَّ وَاضِعَهَا قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا عِنْدَ إطْلَاقِهَا الْعُمُومَ فَصَارَ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُعَلَّلُ يَقْصِدُ بِالْعِلَّةِ جَمِيعَ مَعْلُولَاتِهَا، فَإِذَا وُجِدَتْ وَلَا حُكْمَ كَانَ نَقْضًا، وَحَكَاهُ

الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: وَحَكَاهُ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ. انْتَهَى. قَالَ إلْكِيَا: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قُدَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ. - وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ عَنْهُ - وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ عَامَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: وَمِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ وَادَّعَى أَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْهُمْ وَافَقُوا الشَّافِعِيَّ عَلَى الْمَنْعِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ كَأَبِي زَيْدٍ جَوَّزُوا وَرَجَعَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": جَوَّزَ قَوْمٌ مِنْ أَسْلَافِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ تَخْصِيصَهَا مُسْتَنْبَطَةً وَمَنْصُوصَةً، وَزَعَمُوا أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ عَنْهُ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُجِيزُهُ، وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوْلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَقَالُوا: إنَّمَا يَتْرُكُ بَعْضُ أَسْلَافِنَا الْحُكْمَ لِأَجْلِ عِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَوْلَى مِنْهَا فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ تَخْصِيصِهَا فَلَا. وَهَذَا اعْتِذَارٌ مِنْهُمْ وَتَحَامٍ لِلْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهَا. وَتَحَصَّلَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ: ثَالِثُهَا: الْمَنْعُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَالْجَوَازُ فِي الْمَنْصُوصَةِ. وَفِيهَا مَذْهَبٌ رَابِعٌ: وَهُوَ تَجْوِيزُ تَخْصِيصِهَا فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ، وَأَمَّا فِي عِلَّةِ النَّظَرِ. فَلَا يَجُوزُ، حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي " أَدَبِ الْجَدَلِ " عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ فِي النَّاظِرَةِ إنَّمَا يُثْبِتُ الْمَذْهَبَ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ مَا فِيهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ اخْتِيَارِ ابْنِ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " شَرَطَ الِاطِّرَادَ فِي الْمُنَاظَرَةِ حَتَّى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ النَّقْضِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْخَصْمُ. وَالْجَوَازُ فِي الْمُجْتَهِدِ نَفْسِهِ حَتَّى أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ إلَى ذَلِكَ. وَفِيهَا مَذْهَبٌ: خَامِسٌ: حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ بَعْضِ

الْقَدَرِيَّةِ وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ عِلَّةِ الْإِقْدَامِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهَا، وَبَيْنَ عِلَّةِ تَرْكِ الْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ، بَلْ يَكُونُ عِلَّةً لِتَرْكِهِ وَاجْتِنَابِهِ أَيْنَ وُجِدَتْ. قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ خُرُوجٌ عَنْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَرُبَّمَا عُزِيَ لِقُدَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَلِأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ طَرِيقَةٌ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَالْعُمُومِ فَيَقُولُ: إنَّ تَخْصِيصَهَا سَوَاءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ الْمُطْلَقَةِ كَمَا يَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ، وَأَمَّا إذَا اقْتَرَنَتْ بِهِمَا قَرِينَةٌ فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ نَقْضًا، وَالنَّقْضُ أَنْ يُقَالَ: كَانَتْ مُطْلَقَةً فَقُيِّدَتْ الْآنَ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ مَا قَالَهُ الْخَصْمُ تَخْصِيصًا مِنْ عِلَلِ السَّمْعِ، بَلْ تَبَيَّنَ بِالْقَرِينَةِ، أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي الِابْتِدَاءِ مُقَيَّدَةً. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي تَحْرِيرِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْغَزَالِيَّ ذَكَرَ فِي " شِفَاءِ الْعَلِيلِ " أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ التَّصْرِيحُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَوْ مَنْعُهُ، وَنَقَلَ الدَّبُوسِيُّ تَعْلِيلَاتٍ عَنْهُمَا مَنْقُوضَةً. قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهَا التَّخْصِيصَ. انْتَهَى. وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَعْلَامِ " أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ قَاسُوا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " الْقِيَاسُ كَذَا لَوْلَا الْأَثَرُ " وَ " النَّظَرُ كَذَا لَوْلَا الْخَبَرُ "، وَكَذَا أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: " الْقِيَاسُ كَذَا إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ "، وَلَوْلَا الْأَثَرُ لَكَانَ الْقِيَاسُ كَذَا. فَلَوْ كَانُوا يُبْطِلُونَ الْأَصْلَ الَّذِي جَرَى الْقِيَاسُ فِيهِ لَمَا وَجَدُوا الْأَثَرَ فِي الْعَيْنِ الَّتِي جَاءَ الْأَثَرُ فِيهَا، انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": نَقَلَ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازَ التَّخْصِيصِ مُطْلَقًا، وَحَكَى عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا. وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ عَنْهُ. وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوْلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ: إنَّمَا يَتْرُكُ بَعْضُ أَسْلَافِنَا الْحُكْمَ بِعِلَّةٍ لِأَجْلِ عِلَّةٍ أُخْرَى هِيَ أَوْلَى مِنْهَا،

فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ تَخْصِيصِهَا فَلَا، وَإِنَّمَا هَذَا اعْتِذَارٌ وَتَحَامٍ عَنْ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهَا. وَنَقَلَ ابْنُ فُورَكٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعَ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بَاطِلٌ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ: لَوْ صَحَّ عِنْدِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مَا كُنْت أُعِدُّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأُصُولِيِّينَ. وَذَكَرَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " أَنَّ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَهُ، قَالَ: وَذَكَرَ أَقْضَى الْقُضَاةِ يَعْنِي عَبْدَ الْجَبَّارِ - فِي " الشَّرْحِ " أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَعْدِلُ عَنْ حُكْمِ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى. وَالْمَعْلُومُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ شَرَطَ فِي الْعِلَّةِ التَّأْثِيرَ حَتَّى لَا تُنْتَقَضَ. قُلْت: وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " مَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَسُنُّ سُنَّةً فِي نَصٍّ مُعَيَّنٍ فَيَحْفَظُهَا حَافِظٌ وَلَيْسَ يُخَالِفُهُ فِي مَعْنًى، وَيُجَامِعُهُ سَنَةً غَيْرَهَا لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فَيَحْفَظُ غَيْرَهُ تِلْكَ السَّنَةَ. فَإِذَا أَدَّى كُلَّ مَا حَفِظَ رَأَى بَعْضُ السَّامِعِينَ اخْتِلَافًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُخْتَلِفٌ، انْتَهَى. وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ ابْنُ اللَّبَّانِ فِي " تَرْتِيبِ الْأُمِّ " جَوَازَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْمُعَارَضَةِ.

الثَّانِي: مَثَّلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: هُوَ الْوَزْنُ، وَجَعَلُوا لِذَلِكَ فُرُوعًا مِنْ الْمَوْزُونَاتِ، ثُمَّ جَوَّزُوا إسْلَامَ الدَّرَاهِمِ فِي الزَّعْفَرَانِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ مَعَ اجْتِمَاعِهَا فِي الْوَزْنِ، فَحَكَمُوا بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَانْتَقَضَتْ عِلَّةُ الْوَزْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ لَمْ تَنْتَقِضْ. قِيلَ: قَدْ نَاقَضَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: الْوَاجِبُ فِي إتْلَافِ الْمِثْلِ الْمِثْلُ، ثُمَّ خَصَّ هَذَا الْأَصْلَ فِي الْمُصَرَّاةِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ فِي اللَّبَنِ الْمُسْتَهْلَكِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَقَالَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِلشِّدَّةِ، وَقَاسَ عَلَيْهَا النَّبِيذَ، وَلِلْخَمْرِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: التَّحْرِيمُ، وَالتَّفْسِيقُ، وَالْحَدُّ، فَطَرَدَ عِلَّتَهُ فِي الشَّرْعِ فِي الْحَدِّ، وَلَمْ يَطْرُدْهَا فِي التَّفْسِيقِ، فَإِنَّهُ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَةُ شَارِبِ النَّبِيذِ وَلَمْ يُحْكَمْ بِفِسْقِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ خَصَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَرَايَا، وَجَوَّزَ الْعَقْدَ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ كَيْلًا، وَكَذَلِكَ خَصَّ ضَمَانَ الْجَنِينِ بِالْغُرَّةِ مَعَ مُخَالَفَةِ سَائِرِ أَجْنَاسِهِ، وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ. وَأَجَابَ بِأَنَّا لَا نُنْكِرُ وُجُودَ مَوَاضِعَ فِي الشَّرْعِ وَتَخْصِيصَهَا بِأَحْكَامٍ تُخَالِفُ سَائِرَ أَجْنَاسِهَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَقُومُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى الْخُصُوصِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ، إنَّمَا الْمَمْنُوعُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. وَأَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْ الْعَرَايَا بِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الْمُزَابَنَةِ الْجَهْلُ الْكَثِيرُ، وَمَا أُجِيزَتْ فِيهِ قَلِيلٌ، فَتَكُونُ هَذِهِ عِلَّةً مُقَيِّدَةً لِعِلَّةِ الرِّبَا مُقَيِّدَةً لِلْجِنْسِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ تَمَسَّكُوا بِآيَاتٍ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف: 78] فَإِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ الَّتِي قَصَدُوا بِهَا إطْلَاقَهُ مِنْ يَدِ الْعَزِيزِ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذِهْنِهِمْ أَنَّ الْعَزِيزَ يَعْرِفُ أُخُوَّتَهُمْ الَّذِي أَخَذُوا الِاحْتِرَازَ مِنْ مَحَلِّ النَّقْضِ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْمُعْتَرِضِ

بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِضُ إلَّا بِحَسَبِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ لَفْظًا، وَتَكْفِي إرَادَتُهُ. فَالْعِلَّةُ أَنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا وَأَنَّهُ صَغِيرٌ يَصْدُرُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُزْنِ مَا لَا يَصْدُرُ عَلَى أَحَدٍ، فَحَذَفَ هَذَا الْقَيْدَ مَعَ إضْمَارِهِ، وَإِنَّ فِي حَذْفِهِ لَفَائِدَةً جَلِيلَةً، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَصْدٌ فِي التَّعْرِيفِ بِأُخُوَّتِهِمْ لَهُ، وَلَوْ صَرَّحُوا لَهُ بِذِكْرِ هَذَا الْقَيْدِ لَفَهِمَ أُخُوَّتَهُمْ لَهُ. فَتَأَمَّلْ هَذَا مَا أَحْسَنَهُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] الْآيَةَ. دَلَّ النَّصُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْ اسْتِغْفَارِ إبْرَاهِيمَ بِالْوَعْدِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] فَإِنَّهُ طَالَبَ الْكُفَّارَ بِبَيَانِ الْعِلَّةِ فِيمَا ادَّعَوْا فِيهِ الْحُرْمَةَ لِأَوْجُهٍ لَا تَدْفَعُ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ إذَا أَثْبَتُوا أَحَدَ هَذِهِ الْمَعَانِي أَنَّ الْحُرْمَةَ لِأَجْلِهِ انْتَقَضَ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْجَوَازِ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ، وَلَوْ كَانَ التَّخْصِيصُ فِي عِلَلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزًا لَمَا كَانُوا مَحْجُوجِينَ فَإِنَّهُ لَا يَعِزُّ أَنْ يُقَالَ امْتَنَعَ ثُبُوتُهُ هُنَاكَ لِمَانِعٍ. الرَّابِعُ: مَثَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِمَسْأَلَةِ الْعَرَايَا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ إنْ قُلْنَا: إنَّ تَحْرِيمَ الْمُزَابَنَةِ وَارِدٌ أَوَّلًا وَاسْتَقَرَّ، ثُمَّ وَرَدَتْ رُخْصَةُ الْعَرَايَا. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ النَّهْيَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَى خُصُوصِ الْعَرَايَا، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُزَابَنَةِ مَا سِوَاهَا مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ فَلَا. وَهَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " وَنَقَلَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ " عَنْ الرَّبِيعِ عَنْهُ، وَنَقَلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَوْلَى الِاحْتِمَالَيْنِ عِنْدِي الثَّانِي: وَقَدْ يُقَالُ: تَرْجِيحُ الثَّانِي يَقْتَضِي مَنْعَ كَوْنِ الْعَرَايَا رُخْصَةً.

الْخَامِسُ: أَنَّ إلْكِيَا الطَّبَرِيَّ قَسَمَ الْمَسْأَلَةَ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِحَسَبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْآخَرُ: الْمُجْتَهِدُ. فَأَمَّا الْمُنَاظَرَةُ إذَا تَوَجَّهَ إلَيْهَا النَّقْضُ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ لَمْ أَحْكُمْ بِمِثْلِ مَا حَكَمْت بِهِ هَاهُنَا لِمَانِعٍ وَيَتَكَلَّفُ عُذْرًا، أَمْ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُنَاقِضُ كَلَامَهُ فَلَزِمَهُ أَنْ يَسْكُتَ؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَيَتْبَعُ الْعِلَّةَ الْمُطَّرِدَةَ فِي مَحَالِّهَا ثُمَّ حَكَى الْخِلَافَ السَّابِقَ. السَّادِسُ: أَنَّ الْمَانِعِينَ تَعَلَّقُوا بِأَنَّ التَّخْصِيصَ يُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً فِي ضِدِّ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَيُجْرِيهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ، لِأَنَّ نَفْسَ هَذَا الْمَعْنَى تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ جَعَلَ الْمُعَلِّلُ مَا خَالَفَ حُكْمَهُ مَخْصُوصًا، وَمَا وَافَقَهُ تَعْمِيمًا. فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ جَعَلَ " مَا جَعَلَهُ أَصْلًا " مَخْصُوصًا وَمَا " جَعَلَهُ مَخْصُوصًا " أَصْلًا. مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُعَلِّلُ: طَهَارَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ قِيَاسًا عَلَى التَّيَمُّمِ، فَيُقَالُ: بَاطِلٌ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَيَقُولُ: إنَّهَا مَخْصُوصَةٌ، فَتُقْلَبُ عَلَيْهِ فَتَقُولُ: طَهَارَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِيُقَالَ: بَاطِلٌ بِالتَّيَمُّمِ فَيَقُولُ: ذَلِكَ مَخْصُوصٌ فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ دَالَّةً عَلَى الْحُكْمِ بِإِخَالَتِهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي مَحَلِّ النَّصِّ فَفِيمَا عَدَاهُ لَا يَكُونُ دَلَالَتُهَا مِنْ نَاحِيَةِ الِاطِّرَادِ فَقَطْ لَكِنْ مِنْ نَاحِيَةِ التَّأْثِيرِ وَالْإِخَالَةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَنَاقُضُ شَهَادَتِهِمَا حِينَئِذٍ. أَمَّا إذَا كَانَتْ الدَّلَالَةُ تُتَلَقَّى مِنْ الِاطِّرَادِ الْمَحْضِ فَيَتَّجِهُ ادِّعَاءُ التَّكَافُؤِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ إنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِالطَّرْدِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: تَقُولُ لِمَنْ خَصَّ الْعِلَّةَ بِمَا اسْتَنْبَطَ: عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ؟ إنْ ادَّعَيْت عُمُومَهُ وَاسْتِغْرَاقَهُ بَطَلَتْ الدَّعْوَى بِالْمُنَاقَضَةِ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ لَمْ تَدَّعِ عُمُومَهُ وَقُلْت: إنَّهَا عِلَّةٌ فِي مَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ فَلَعَلَّهَا عِلَّةٌ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ دُونَ الْفَرْعِ. ثُمَّ قَالَ إلْكِيَا: مَنْ اشْتَرَطَ الِاطِّرَادَ وَمَنْعَ التَّخْصِيصِ فَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ اطِّرَادَ كُلِّ عِلَّةٍ فِي فُرُوعِ مَعْلُولَاتِهَا لَا

مسألة اقتصار الشارع على أحد الوصفين في العلة

فِي فُرُوعِ مَعْلُومَاتِ غَيْرِهَا، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي عِلَّةٍ جُزْئِيَّةٍ لَا تَطَّرِدُ فِي فُرُوعِ مَعْلُولَاتِهَا، فَلَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهَا عِلَّةً. السَّابِعُ: أَنَّهُ سَبَقَ فِي بَابِ الْعُمُومِ تَقْسِيمُ اللَّفْظِ إلَى مَا قُصِدَ فِيهِ الْعُمُومُ نَصًّا وَإِلَى مَا لَا يُقْصَدُ فِيهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " فِي " بَابِ التَّرْجِيحِ ": مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ مِنْ أَنَّ عِلَّةَ الشَّارِعِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تُنْقَضُ، مَحْمُولٌ عَلَى مَا قُصِدَ فِيهِ الْعُمُومُ نَصًّا، أَمَّا مَا لَمْ يُقْصَدْ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ قُصِدَ تَنْزِيلُ الْكَلَامِ عَلَى مَقْصُودٍ آخَرَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ. [مَسْأَلَةٌ اقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْعِلَّة] مَسْأَلَةٌ [اقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ] لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ الشَّارِعُ عَلَى أَحَقِّ الْوَصْفَيْنِ وَيَقُولَ: إنَّهُ الْمُسْتَقِلُّ وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِوَصْفَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خُلْفٌ، قَالَهُ إلْكِيَا قَالَ: وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنْ صَرَّحَ بِهِ وَقَالَ: إنَّهُ تَعْلِيلٌ وَلَكِنْ لَمْ أَطَّرِدْهُ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَنَاقُضًا مِنْهُ إلَّا أَنْ يَقُولَ هُوَ: دَلَالَةُ الْحُكْمِ دَلَالَةُ الْعُمُومِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ، فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا مَصْلَحَةً فِي الْمَحَالِّ كُلِّهَا إلَّا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَصَارَ عِلَّةً كَمِثْلِ ذَلِكَ إلَّا حَيْثُ يَعْلَمُ الشَّرْعُ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ تَعْلِيلًا لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ الْمَحَلُّ كَالزَّمَانِ مِنْ جِهَةِ الْوَجْهِ. الشَّرْطُ السَّابِعُ: الْعَكْسُ. وَهُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِهِ،

إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ وَإِلَى هَذَا الشَّرْطِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَشَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ: لَا تَكُونُ الْعِلَّةُ عِلَّةً حَتَّى يُقْبِلَ الْحُكْمُ بِإِقْبَالِهَا وَيُدْبِرَ بِإِدْبَارِهَا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ شَرْطًا، أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " الْإِجْمَاعَ عَلَى اشْتِرَاطِ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ فِيهَا، لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَكْسُهَا وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، فَقَالَ: وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْعَكْسَ فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَمَا أَوْجَبُوهُ فِي الشَّرْعِيَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ فِي الْعَقْلِيَّةِ فَذَكَرَهُ. وَنَقَلَ الْقَاضِي بَعْدَ ذَلِكَ الِاتِّفَاقَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِنَقْلِهِ أَوَّلًا، تَوَهُّمًا مِنْهُ أَنَّ الْأَدِلَّةَ هِيَ الْعِلَلُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّلِيلِ الِانْعِكَاسُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ كَالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ. وَأَخَذَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " مِنْ النَّصِّ السَّابِقِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ فَقَالَ: وَصَارَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ اللَّبَّانِ إلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ شُرُوطِهَا. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا فِي الشَّرْعِيِّ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، بَلْ إذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا صَحَّتْ وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِعْ بِعَدَمِهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا إثْبَاتُ الْحُكْمِ دُونَ نَفْيِهِ، كَمَا يَصِحُّ الْمَعْنَى إذَا اطَّرَدَ وَلَمْ يَنْعَكِسْ. وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ، وَنَقَلَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا.

وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ، كَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ فِي ارْتِفَاعِهَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّأْثِيرِ فِي وُجُودِهَا. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الرِّبَا: إنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ دُونَ الْمَنْصُوصَةِ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ إنْ تَعَدَّدَتْ الْعِلَّةُ فَلَا يُطَالَبُ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّا نُجَوِّزُ ازْدِحَامَ الْعِلَلِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، فَلَا مَطْمَعَ فِي الْعَكْسِ مَعَهُ. وَكَذَا إذَا اسْتَنَدَ الْحُكْمُ إلَى حَدِيثٍ عَامٍّ وَقِيَاسٍ، فَقَدْ لَا يَطَّرِدُ الْقِيَاسُ وَيَطَّرِدُ الْحَدِيثُ فَلَا يُطْلَبُ الْعَكْسُ وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَكْسِهَا، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ، بَلْ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ، فَإِذَا اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ وَانْتَفَتْ فَلَوْ بَقِيَ الْحُكْمُ لَكَانَ ثَابِتًا بِغَيْرِ سَبَبٍ. أَمَّا حَيْثُ تَعَدَّدَتْ الْعِلَّةُ فَلَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ بَعْضِ الْعِلَلِ بَلْ عِنْدَ انْتِفَاءِ جَمِيعِهَا. وَأَطَالَ فِي الِاحْتِجَاجِ لِذَلِكَ. قَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": فَكَأَنَّمَا نَقُولُ: شَرْطُ الْعِلَّةِ الِانْعِكَاسُ إلَّا لِمَانِعٍ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ خِلَافٌ وَنِزَاعٌ لِأَحَدٍ. وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَرْعُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى اشْتِرَاطِ الِانْعِكَاسِ جُمْلَةً أَيْ سَوَاءٌ قُلْنَا بِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ أَوْ بِجَوَازِ اجْتِمَاعِهَا. وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فَقَالَ: أَمَّا الْتِزَامُ الْعَكْسِ مَعَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ وَانْتِفَاءِ تَوْقِيفِ مَانِعٍ فَلَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَنَا. وَالْإِنْصَافُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَازِمٌ فِي الِاجْتِهَادِ وَلَا يَحْسُنُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي الْمُنَاظَرَةِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي تَدْرِيسِهِ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: ثُمَّ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا الْعَكْسَ اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ عَكْسٍ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا

شَرَطْنَا الِاطِّرَادَ عُمُومًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ - وَهُوَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ - يَكْتَفِي بِالْعَكْسِ وَلَوْ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَكْسِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ التَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، فَمَنْ مَنَعَهُ اشْتَرَطَ الْعَكْسَ فِي الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلْحُكْمِ إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ، فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِقَاءِ دَلِيلِهِ. وَهَذَا الْبِنَاءُ أَشَارَ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " وَحَوَّمَ عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ مَنْ يُجَوِّزُ التَّعْلِيلَ بِعِلَّتَيْنِ لِعِلَّةٍ يَشْتَرِطُ الْعَكْسَ وَيَقُولُ عِنْدَ انْتِفَاءِ وَاحِدَةٍ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ الْمُضَافِ إلَيْهَا وَذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْأَحْكَامِ، وَمَنْ لَا يُعَلِّلُ إلَّا بِوَاحِدَةٍ يُجَوِّزُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ وَبَقَاءَهُ لَا بِعِلَّةٍ أَصْلًا بَلْ عَنْ دَلِيلٍ [مِنْ] الشَّرْعِ تَعَبُّدِيٍّ فَلَمْ يَكُنْ انْتِفَاءُ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ مُسْتَلْزِمًا لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: حَيْثُ قُلْنَا بِامْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ وَإِنَّ الْعَكْسَ لَازِمٌ فَلَا نَعْنِي بِلُزُومِهِ مَا أَرَادَهُ مُشْتَرِطُوهُ، بَلْ نَقُولُ مِنْ الزُّهُوقِ حُكْمًا بِعِلَّةٍ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ وَجَدَ الْحُكْمَ فِي صُورَةِ كَذَا بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَا ضَيْرَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِنْدِي إمَّا الْوَصْفُ الَّذِي ذَكَرْته أَوْ أَمْرٌ صَادِقٌ عَلَى الْوَصْفِ صِدْقًا لِلْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَأَيًّا مَا كَانَ حَصَلَ الْغَرَضُ مِنْ صِدْقِ الْعِلَّةِ عَلَى الْوَصْفِ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عِلَّةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَحَدَ وَصْفَيْنِ يَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عِلَّةٌ فَقَدْ صَدَقَ الْعِلَّةُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ. فَحَصَلَ الْغَرَضُ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي صُورَةٍ أُخْرَى بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ. وَهَذَا كَشَفَ الِاضْطِرَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا الْعَكْسَ فَهِمُوا أَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ وَهَمُوا فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْوَصْفَ مَهْمَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ لَزِمَ أَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً صَدَقَ الْعِلَّةُ عَلَيْهِ كَمَا يَصْدُقُ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُوجَدَ الْعَامُّ بِوُجُودِ خَاصٍّ آخَرَ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْ وُجُودِ الْخَاصِّ وُجُودُ الْعَامِّ. نَعَمْ، يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ

الْوَصْفِ نَفْيُ الْحُكْمِ إذَا كَانَ صَدَقَ الْعِلَّةُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ هَذَا الْوَصْفَ. وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا عُرِفَ الْوَصْفُ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا الْعَكْسَ فَهِمُوا أَنَّ بَعْضَ الْأَوْصَافِ الْمُتَّفَقِ عَلَى عِلِّيَّتِهَا يَنْتَفِي مَعَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَاعْتَقَدُوا الْعَكْسَ لَغْوًا بِالْكُلِّيَّةِ، وَفَاتَهُمْ أَنَّ الْعَكْسَ مَا ثَبَتَ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَ انْتِفَاءِ وَصْفٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ صِدْقَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ وَهُوَ الْعِلَّةُ. نَعَمْ، لَوْ انْتَفَى ذَلِكَ الْعَامُّ - وَهُوَ الْعِلَّةُ - بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ الْخَاصِّ لَزِمَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ قَطْعًا. ثُمَّ قَالَ: وَالْعَكْسُ - عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدِي - عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ نَفْيِ الْعِلَّةِ. وَعَلَى مُخْتَارِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، النَّفْيُ عِلَّةٌ لِلنَّفْيِ. وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ بَعْضَ الْعِلَلِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيُهُ وُجُودَ عِلَّةٍ أُخْرَى مُشْعِرَةٍ بِالنَّقْضِ، فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ ذَلِكَ لِارْتِبَاطٍ بَيْنَ النَّفْيِ، وَالنَّفْيُ لَيْسَ كَذَلِكَ. الشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَنْ تَكُونَ أَوْصَافُهُمَا مُسَلَّمَةً أَوْ مَدْلُولًا عَلَيْهَا، وَإِذَا نُوزِعَ الْمُعَلِّلُ فِي وَصْفِ الْعِلَّةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّتِهِ إنْ كَانَ مُجِيبًا وَلَيْسَ لِلسَّائِلِ إنْ نُوزِعَ وَصْفُ الْعِلَّةِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّتِهِ. الشَّرْطُ التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُعَلَّلًا بِالْعِلَّةِ الَّتِي تَعَلَّقَ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ. ذَكَرَهُ وَمَا قَبْلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَقَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْفَرْعِ عِلَّةَ الْأَصْلِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ ثَبَتَ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ الْفَرْعُ إلَّا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ قِيسَ عَلَيْهِ الْفَرْعُ بِعِلَّةٍ مُسْتَخْرَجَةٍ بِالِاجْتِهَادِ. فَأَمَّا إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِأَصْلِهِ بِعِلَّةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ فَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلِهَذَا قَالُوا، فِي رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا

أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَبْدٍ فِي يَدِ الْآخَرِ أَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ وَأَقْبَضَهُ، وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ، وَلَمْ تُؤَرَّخْ الْبَيِّنَتَانِ: أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي أَدَلُّ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّأْرِيخِ فِي الْعَقْدَيْنِ يُوجِبُ عِنْدَهُمْ وُقُوعَهُمَا مَعًا فِي الْحُكْمِ. وَمَتَى وَقَعَا سَبَقَ وُقُوعُ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ الْمِلْكَ بِالْهِبَةِ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَالْهِبَةُ لَا تُوجِبُهُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَهَذِهِ الْعِلَّةُ عِنْدَهُمْ تُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْبَيْعِ دُونَ الْهِبَةِ. ثُمَّ قَالُوا: لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الرَّهْنِ وَالْآخَرُ عَلَى الْهِبَةِ، وَشَهِدَتْ الشَّهَادَتَانِ عَلَى الْقَبْضِ كَانَ الرَّهْنُ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ، لِأَنَّهُمَا قَدْ تَسَاوَيَا فِي أَنَّ شَرْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَبْضَ، وَالرَّهْنَ يُشْبِهُ الْبَيْعَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ ضَمَانِ الدَّيْنِ وَالثَّمَنِ فَقَاسُوا الرَّهْنَ عَلَى الْبَيْعِ بِعِلَّةٍ غَيْرِ الْعِلَّةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ كَوْنَ الْبَيْعِ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: الْعِلَّةُ فِي الْفَرْعِ لَيْسَتْ هِيَ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ، بَلْ مِثْلُهَا. الشَّرْطُ الْعَاشِرُ: أَنْ لَا تَكُونَ فِي الْفَرْعِ مُوجِبَةً حُكْمًا، وَفِي الْأَصْلِ حُكْمًا آخَرَ غَيْرَهُ، كَاعْتِلَالِ مَنْ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، قِيَاسًا عَلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ بِعِلَّةِ الصِّغَرِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعِلَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي الْحُكْمِ الْوَاحِدِ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُهَا فِي الْفَرْعِ غَيْرَ حُكْمِهَا فِي الْأَصْلِ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ لَا تُوجِبَ ضِدَّيْنِ، بِأَنْ تَنْقَلِبَ عَلَى الْمُعَلَّلِ فِي ضِدِّ حُكْمِهَا لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ شَاهِدَةٌ بِحُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، كَالشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَا لِلْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ وَشَهِدَا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ دَعْوَى الْمُدَّعِي، تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمَا جَمِيعًا، فَلِذَلِكَ تَبْطُلُ شَهَادَةُ الْعِلَّةِ لِلْحُكْمَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ، هَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَدُلَّ عَلَى الضِّدَّيْنِ، كَمَا يَدُلُّ وُجُودُ الْحَرَكَةِ عَلَى حَرَكَةِ الْجِسْمِ، وَعَلَى أَنَّهَا إذَا عَدِمَتْ عَدِمَتْ الْحَرَكَةَ ثُمَّ خَالَفَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ لِأَنَّ الْأَصْلَ إذَا كَانَ مَثَلًا: الْوَاطِئُ فِي رَمَضَانَ فَفِيهِ كَفَّارَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوجَدَ مِنْهُ دَلَالَةُ الْكَفَّارَةِ وَأَنْ لَا كَفَّارَةَ.

الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ ثُبُوتُهَا عَنْ ثُبُوتِ الْأَصْلِ، خِلَافًا لِقَوْمٍ. كَمَا يُقَالُ فِيمَا أَصَابَهُ عَرَقُ الْكَلْبِ: أَصَابَهُ عَرَقُ حَيَوَانٍ نَجِسٍ فَيَكُونُ نَجِسًا كَلُعَابِهِ، فَيَمْنَعُ كَوْنَ عَرَقِ الْكَلْبِ نَجِسًا، فَيُقَالُ: لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ، فَإِنَّ اسْتِقْذَارَهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ، فَكَانَ كَمَا يُعَلَّلُ سَلْبُ الْوِلَايَةِ عَنْ الصَّغِيرَةِ بِالْجُنُونِ الْعَارِضِ لِلْوَلِيِّ، لَنَا: لَوْ تَأَخَّرَتْ الْعِلَّةُ - بِمَعْنَى (الْبَاعِثِ) عَنْ الْحُكْمِ - لَثَبَتَ الْحُكْمُ بِغَيْرِ بَاعِثٍ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ جَعَلْنَا الْعِلَّةَ بِمَعْنَى (الْأَمَارَةِ) لَزِمَ تَعْرِيفُ الْمُعَرَّفِ. وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا تَجْوِيزَ كَوْنِ وَصْفِ الْعِلَّةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ حُكْمِهَا، فَاعْتَلَّ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَنْ الْخَيْلِ بِالِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ، قِيَاسًا عَلَى الْحَمِيرِ قَالَ: وَهَذَا اعْتِلَالٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي إبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ إنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالزَّكَاةُ فِيمَا فِيهِ الزَّكَاةُ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي حَيَاتِهِ، وَكَذَلِكَ سُقُوطُهَا عَمَّا سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ كَانَ فِي حَيَاتِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِلَّةُ سُقُوطِهَا عَنْ شَيْءٍ مُتَأَخِّرَةً عَنْ سُقُوطِهَا عَنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ الْحُكْمِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: يَجُوزُ، وَعَلَّلُوا طَهَارَةَ جِلْدِ الْكَلْبِ بِالدِّبَاغِ كَالْكَلْبِ قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ؛ وَهُوَ قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ لَمْ يَجُزْ، قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، وَقِيلَ بِجَوَازِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ إنْ أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ الْعُرْفُ، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَأْخِيرُ الْمُعَرَّفِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا " الْمُوجِبُ وَالْبَاعِثُ " فَلَا. لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ حُكْمُ الْأَصْلِ بِالْأَمَارَةِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْلِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ

فِي الْوُجُودِ، لَكَانَ لَا لِكَوْنِهَا مُتَأَخِّرَةً بَلْ لِكَوْنِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعَرِّفَةً، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَيَجُوزُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُعَيَّنًا، لِأَنَّ رَدَّ الْفَرْعِ إلَيْهَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ، فَلَوْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مُشْتَرَكٌ مُبْهَمٌ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إلَّا عِنْدَ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا شَرْعِيًّا كَالْحُكْمِ. ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي جَدَلِهِ ". الْخَامِسَ عَشَرَ: يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ وَصْفًا مُقَدَّرًا خِلَافًا لِلرَّازِيِّ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِالصِّفَاتِ الْمُقَدَّرَةِ، خِلَافًا لِلْأَقَلِّينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَقَوْلِنَا: جَوَازُ التَّصَرُّفَاتِ نَحْوَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ مُعَلَّلٌ بِالْمِلْكِ، وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ، فَيُقَدَّرُ لَهُ وُجُودٌ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا بِمَا لَا وُجُودَ لَهُ حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا، فَيَكُونُ عَدَمًا مَحْضًا وَنَفْيًا صِرْفًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. فَنَقُولُ: الْمِلْكُ مَعْنًى مُقَدَّرٌ

شَرْعِيٌّ فِي الْمَحَلِّ، أَثَرُهُ جَوَازُ التَّصَرُّفَاتِ وَغَيْرِهَا. قُلْت: وَكَتَعْلِيلِ الْعِتْقِ عَنْ الْغَيْرِ بِتَقْدِيرِ الْمِلْكِ. هَذَا إذَا قِيلَ بِالْمُقَدَّرَاتِ فَإِنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ أَنْكَرَ وُجُودَهَا فِي الشَّرْعِ، قَالَ: لَيْسَ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ بِتَقْدِيرِ الْمِلْكِ لَهُ، وَأُنْكِرَ تَقْدِيرُ الْأَعْيَانِ فِي الذِّمَّةِ. قَالَ صَاحِبُ " التَّنْقِيحِ ": وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يَعْرَى عَنْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ عَلَى إرْدَبِّ قَمْحٍ صَحَّ الْعَقْدُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا فِي الذِّمَّةِ وَإِلَّا لَكَانَ عَقْدًا بِلَا مَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِلَا ثَمَنٍ. وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَنَافِعَ فِي الْأَعْيَانِ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُورِدًا لِلْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْعَارِيَّةُ لَا بُدَّ مِنْ تَخَيُّلِ ذَلِكَ فِيهَا. وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَى الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَخَيُّلِ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَإِذَا لَمْ يُقَدَّرْ الْمِلْكُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ كَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ الَّتِي عَتَقَ عَنْهَا؟ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ فِي غَيْرِ عَبْدٍ يَمْلِكُهُ مُحَقَّقًا؟ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا. وَالتَّصْوِيرُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ لَا يَكُونَ عَدَمًا فِي الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ عِنْدَ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَغَيْرِهِ وَخَالَفَهُ الْآمِدِيُّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْعَدَمِيِّ بِمِثْلِهِ

وَالْعَدَمِيِّ بِالْوُجُودِيِّ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِ الْوُجُودِيِّ بِالْعَدَمِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ، مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ إلَى الْجَوَازِ، لِأَنَّ لَا مَعْنَى لِلْعِلَّةِ إلَّا الْمُعَرِّفُ وَهُوَ غَيْرُ مُنَافٍ لِلْعَدَمِ. وَمِثَالُهُ عِلَّةُ تَحْرِيمِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَدَمُ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ، كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ " إلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِوُجُودِ مَعْنًى يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ، وَالنَّفْيُ عَدَمُ مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ الْحُكْمَ. وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ. وَمِنْ حُجَّةِ الْمَانِعِ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَنْشَأً لِلْحِكْمَةِ كَالسَّرِقَةِ الْمَنْصُوبَةِ عِلَّةً لِلْقَطْعِ، فَإِنَّهَا مَنْشَأُ الْحِكْمَةِ، إذْ كَوْنُهَا جِنَايَةً وَمَفْسَدَةً إنَّمَا نَشَأَ مِنْ ذَاتِهَا لَا مِنْ خَارِجٍ عَنْهَا. وَهَذَا مُنَازَعٌ فِيهِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي كَوْنُهَا أَمَارَةً عَلَى الْحِكْمَةِ وَحِينَئِذٍ فَالْعَدَمُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَمَارَةً عَلَيْهَا، وَقَدْ سَاعَدَ الْخَصْمَ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيلِ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ وَهُوَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِإِمْكَانِ جَعْلِ الْعَدَمِ أَمَارَةً، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ الْعَدَمِ أَمْكَنَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ لِأَنَّ الظُّهُورَ لَا يَخْتَلِفُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: أَنْكَرَهُ قَوْمٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ، وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ فِيهِمَا جَمِيعًا، قَالَ: وَفَصَّلَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا فَجَوَّزَهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ دُونَ الْعَقْلِيَّاتِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - فِيمَا رَدَّ عَلَى الْعِرَاقِيِّينَ - فِي خَرَاجِ الْبَيْعِ مِنْ غَلَّةٍ وَثَمَرَةٍ وَوَلَدٍ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ صَفْقَةُ الْبَيْعِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ فِي إبَاحَةِ الْقَصْرِ: لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ وَقَالَ إلْكِيَا: إنْ كَانَ الْحُكْمُ مِنْ قَبِيلِ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأُصُولِ تَطَرَّقَ الْقِيَاسُ إلَيْهِ مِنْ جِهَتَيْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، كَقَوْلِنَا: لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْأَكْلِ وَلَا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ ظَنًّا وَإِنْ أَمْكَنَ تَلَقِّيه مِنْ أَمَارَةٍ غَيْرِ الْقِيَاسِ لَمْ يَمْتَنِعْ تَلَقِّيه مِنْ الْقِيَاسِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: الْحُكْمُ وَالْعِلَّةُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتِيَّيْنِ، كَثُبُوتِ الرِّبَا لِعِلَّةِ

الطُّعْمِ، أَوْ عَدَمِيَّيْنِ، كَعَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ لِعَدَمِ الرِّضَا، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَا نِزَاعَ فِيهِمَا. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَنْ يَجْعَلُ الْعِلَّةَ ثُبُوتِيَّةً يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجَوِّزَ قِيَاسَهَا بِالْعَدَمِ، سَوَاءٌ كَانَ عِلَّةُ الْحُكْمِ الثُّبُوتِيَّ أَوْ الْعَدَمِيَّ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ ثُبُوتِيَّةً وَالْحُكْمُ عَدَمِيًّا، كَعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِثُبُوتِ الدَّيْنِ وَهَذَا الْقِسْمُ تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ " تَعْلِيلًا بِالْمَانِعِ " وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ مِنْ شَرْطِ وُجُودِ الْمُقْتَضَى أَمْ لَا؟ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَدَمِيَّةً وَالْحُكْمُ ثُبُوتِيًّا، كَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ لِعَدَمِ الْفَسْخِ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ، وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ الْجَوَازِ. انْتَهَى وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَصَاحِبُ " التَّنْقِيحِ " وَالْإِمَامُ فِي " الْمَعَالِمِ " وَاخْتَارَ فِي " الْمَحْصُولِ " الْجَوَازَ وَقَالَ فِي " الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ ": إنْ كَانَ الْوَصْفُ ضَابِطًا لِحِكْمَةِ مَصْلَحَةٍ يَلْزَمُ حُصُولُ الْمَفْسَدَةِ عِنْدَ ارْتِفَاعِهَا كَانَ عَدَمُ ذَلِكَ الْوَصْفِ ضَابِطًا لِتِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَدَمُ مُنَاسِبًا لِلْحُرْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْمُخْتَارُ أَنَّ النَّفْيَ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ وَلَا لِلنَّفْيِ، لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَفْرُوضَ عِلَّتُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّفْيَ الْمُطْلَقَ بِاتِّفَاقٍ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا مُضَافًا إلَى أَمْرٍ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ إنْ كَانَ مَنْشَأَ مَصْلَحَةٍ اسْتَحَالَ أَنْ يُعَلَّلَ بِنَفْيِهِ حُكْمٌ ثُبُوتِيٌّ، إذْ عَدَمُ الْمَصْلَحَةِ لَا يَكُونُ عِلَّةً فِي الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ مَنْشَأَ مَفْسَدَةٍ فَهُوَ مَانِعٌ، وَنَفْيُ الْمَانِعِ لَا يَكُونُ عِلَّةً وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ بِمَعْنَى " الْمُعَرِّفِ " جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ عِلَّةً لِلْوُجُودِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ جَمِيعَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ أَمْرًا عَدَمِيًّا، بِدَلِيلِ أَنَّ وُجُودَ الضِّدِّ فِي الْمَحَلِّ يَقْتَضِي عَدَمَ الضِّدِّ الْآخَرِ فِي الْمَحَلِّ، فَقَدْ صَارَ الْعَدَمُ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا عَدَمِيًّا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْعَدَمِ الصِّرْفِ عِلَّةً لِلْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ وَالْعِلْمِ بِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ هُوَ الْمَعْنَى الْمَوْجُودُ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ عَدَمِيًّا، لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَوْجُودَةِ وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ.

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: التَّحْقِيقُ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ لَا يُتَصَوَّرُ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْعَدَمِ الْمَحْضِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إضَافَةٌ إلَى شَيْءٍ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَعْدَامِ الْمُضَافَةِ فَيَصِحُّ أَنْ يُعَلَّلَ بِهَا قَطْعًا، كَمَا تَكُونُ شُرُوطًا، خُصُوصًا فِي الشَّرْعِيَّةِ فَهِيَ أَمَارَاتٌ. فَلْيُتَأَمَّلْ. وَجَعَلَ النَّصِيرُ الطُّوسِيُّ فِي " شَرْحِ التَّحْصِيلِ " الْخِلَافَ فِي الْعَدَمِ الْمُقَيَّدِ، كَمَا يُقَالُ: عَدَمُ الْمَالِ عِلَّةُ الْفَقْرِ، أَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَا يُعَلَّلُ وَلَا يُعَلَّلُ بِهِ قَطْعًا. الثَّانِي أَنَّ الْخِلَافَ يَجْرِي فِي الْجُزْءِ أَيْضًا، فَالْمَانِعُونَ اشْتَرَطُوا أَنْ لَا يَكُونَ الْعَدَمُ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ كَمَا يَكُونُ كُلًّا. وَالْمُجَوِّزُونَ فِي الْكُلِّ جَوَّزُوهُ فِي الْجُزْءِ. الثَّالِثُ لَوْ وَرَدَ مِنْ الشَّرْعِ لَفْظٌ يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى ثُبُوتِ تَعْلِيلِ الثُّبُوتِ بِالْعَدَمِ نَحْوُ: أُثْبِتَ حُكْمٌ بِهَذَا الْعَدَمِ كَذَا فَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ - وَهُوَ مِنْ الْمَانِعِينَ -: يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ اللَّفْظِ وَحَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ التَّعْلِيلِ مِنْ تَأْقِيتٍ أَوْ غَيْرِهِ، جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ. وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ عِنْدَهُ عِبَارَةٌ عَنْ نَصْبِ الْأَمَارَةِ خَاصَّةً، فَإِذَا حُمِلَ الْكَلَامُ عَلَى التَّأْقِيتِ رَجَعَ إلَى الْأَمَارَةِ فَكَأَنَّهُ فَرَّ مِنْ التَّعْلِيلِ فَوَقَعَ فِي التَّعْلِيلِ فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يُعَلَّلُ قَالُوا: إنَّ الْمَعْدُومَ وَالْمَوْجُودَ رُتْبَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ

النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ، وَجَوَّزُوا التَّعْلِيلَ بِهَا وَقَالُوا: لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وُجُودِيًّا، بَلْ مِنْ شُرُوطِهَا أَلَّا تَكُونَ عَدَمِيَّةً، ثُمَّ تَارَةً تَكُونُ أَمْرًا وُجُودِيًّا، وَتَارَةً تَكُونُ أَمْرًا مَعْلُومًا مِنْ قَبِيلِ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ. وَبِهِ يَظْهَرُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِمْ: " أَنْ لَا يَكُونَ عَدَمِيًّا " وَلَمْ يَقُولُوا: " أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا ". وَمِثَالُهُ قَوْلُنَا: الْبُنُوَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُبُوَّةِ، وَهَذَا عِلَّةُ الْمِيرَاثِ وَهُمَا إضَافِيَّانِ ذِهْنِيَّانِ لَا وُجُودَ لَهُمَا فِي الْأَعْيَانِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّعْلِيلِ بِهِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَالْحَقُّ ابْتِنَاءُ هَذَا الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الْإِضَافِيَّاتِ مِنْ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ أَوْ الْوُجُودِيَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا: عَدَمِيَّةٌ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْعَدَمِيِّ، وَإِنْ قُلْنَا: وُجُودِيَّةٌ فَهِيَ كَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ فَهُوَ عِلَّةٌ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ. الثَّانِي: الْوَصْفُ التَّقْدِيرِيُّ هُوَ كَالْعَدَمِيِّ، لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ لَهُ وُجُودٌ لِلضَّرُورَةِ فِيمَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَدَمِيًّا تَعْلِيلُ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِمُعْتَقٍ عَنْهُ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَتَوْرِيثُ الدِّيَةِ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَقْتُولِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِي الزَّمَنِ الْفَرْدِ، فَإِنَّهُ حَيٌّ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَمَا لَا يَمْلِكُ لَا يُورَثُ عَنْهُ، وَالْمِلْكُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُحَالٌ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْمِلْكِ قَبْلَ الزُّهُوقِ. وَالْخِلَافُ فِيهِ أَضْعَفُ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْعَدَمِيِّ. تَنْبِيهٌ امْتِنَاعُ الشَّيْءِ مَتَى دَارَ اسْتِنَادُهُ إلَى عَدَمِ الْمُقْتَضَى أَوْ وُجُودِ الْمَانِعِ، كَانَ اسْتِنَادُهُ إلَى عَدَمِ الْمُقْتَضَى أَوْلَى، لِأَنَّا لَوْ أَسْنَدْنَاهُ إلَى وُجُودِ الْمَانِعِ لَكَانَ الْمُقْتَضَى قَدْ وُجِدَ وَتَخَلَّفَ أَثَرُهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَهَذَا كَتَعْلِيلِهِمْ عَدَمَ صِحَّةِ بَيْعِ الصَّبِيِّ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ أَوْلَى مِنْ التَّعْلِيلِ بِالصِّبَا. وَفِيهِ الْخِلَافُ فِي تَعْلِيلِهِمْ مَنْعَ إطْلَاقِهِمْ

كَافِرٌ " عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لِوُجُودِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لِعَدَمِ الْمُقْتَضَى وَهُوَ عَدَمُ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ. السَّابِعَ عَشَرَ: إنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً فَالشَّرْطُ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَى الْأَصْلِ بِإِبْطَالِهِ أَوْ إبْطَالِ بَعْضِهِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَرْكِ الرَّاجِحِ إلَى الْمَرْجُوحِ، إذْ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ النَّصِّ أَقْوَى مِنْ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ، لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِهَذَا الْحُكْمِ، وَالْفَرْعُ لَا يَرْجِعُ عَلَى إبْطَالِ أَصْلِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى نَفْسِهِ بِالْإِبْطَالِ. وَمِنْ ثَمَّ ضَعُفَ مَدْرَكُ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَأْوِيلِهِمْ قَوْلَهُ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ، لِأَنَّ الْقَصْدَ دَفْعُ الْحَاجَةِ أَوْ الْقِيمَةِ، فَإِنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَجِبَ الشَّاةُ أَصْلًا، لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لَمْ تَجُزْ الشَّاةُ فَلَمْ تَكُنْ مُجْزِئَةً وَهِيَ مُجْزِئَةٌ بِالِاتِّفَاقِ. هَكَذَا مَثَّلُوا بِهِ، وَنَازَعَ فِيهِ الْغَزَالِيُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَنْ أَجَازَ الْقِيمَةَ فَهُوَ مُسْتَنْبِطُ مَعْنًى مُعَمِّمٍ، لَا مُبْطِلٍ، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ إجْزَاءَ الشِّيَاهِ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اسْتِنْبَاطَ الْقِيمَةِ أَلْغَى تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ ابْتِدَاءً الَّذِي عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَهَذَا مَعْنَى الْإِبْطَالِ أَيْ إبْطَالِ التَّعَلُّقِ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَلْغَى تَعْيِينَهَا، مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ أَوْ بِنْتِ اللَّبُونِ أَوْ حِقَّةٍ أَوْ جَذَعَةٍ، وَصَيَّرَ الْوَاجِبَ جَائِزًا. لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ هِيَ الْوَاجِبَ لَمْ تَكُنْ الشَّاةُ وَاجِبَةً وَلَا يَلْزَمُ وُجُوبُهَا وَلَا قَائِلَ بِهِ.

الثَّالِثُ: يُقَالُ: وَإِنْ أَجْزَأَتْ الشَّاةُ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَخُصَّ الْأَجْزَاءَ بِهَا فَبَطَلَ لَفْظُ «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَلَيْسَتْ الْقِيمَةُ أَعَمَّ مِنْ الشَّاةِ. وَمِنْ مِثْلِهِ أَيْضًا مَصِيرُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إلَى الِاكْتِفَاءِ فِي إتْبَاعِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ شَوَّالٍ، نَظَرًا لِمَعْنَى تَكْمِيلِ السُّنَّةِ. وَهَذَا يُبْطِلُ خُصُوصَ شَوَّالٍ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ. وَكَذَا قَوْلُهُ «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» فَإِنَّ الْخُصُومَ يُقَدِّرُونَ فِيهِ " مِثْلُ " ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُرْفَعُ، لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، لِإِمْكَانِ صِحَّةِ الْكَلَامِ بِدُونِهِ لِأَنَّ الْجَنِينَ إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَكَاتِهِ فَذَكَاتُهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ لَا خُصُوصِيَّةَ لِأُمِّهِ. ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْرِفُ أَنَّ ذَكَاتَهُ كَذَكَاتِهَا فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُفِيدًا أَلْبَتَّةَ. وَلَا يُقَالُ: لِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ يَقْتَضِي الْجَوَازَ حَيْثُ جَوَّزَ الْإِمْعَانَ فِي غَسَلَاتِ الْكَلْبِ، نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي التُّرَابِ الْخُشُونَةُ الْمُزِيلَةُ. وَهَذَا يُبْطِلُ خُصُوصَ التُّرَابِ، لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَادَ عَلَى أَصْلِهِ بِالتَّعْمِيمِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ الِاسْتِظْهَارَ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّهُورَيْنِ.

وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحٌ إنْ عَنَى بِذَلِكَ إبْطَالَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَمَّا إذَا لَزِمَ فِيهِ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، لِأَنَّهُ كَتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِحُكْمِ نَصٍّ آخَرَ وَهُوَ جَائِزٌ، فَكَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَطِيفٌ لَا يَنْتَهِي إلَى دَرَجَةِ أَنْ لَا يَجُوزَ بِذَلِكَ مَعَهُ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي تَوَقَّفَ فِيهِ وَلَمْ يَظْفَرْ فِيهِ بِنَقْلٍ قَدْ وَجَدْت النَّقْلَ بِخِلَافِهِ فِي كِتَابِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَتِلْمِيذِهِ أَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ، فَشَرَطَا فِي الْعِلَّةِ: أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَى أَصْلِهَا بِالتَّخْصِيصِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ اعْتَلُّوا لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالْكَيْلِ، لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِمَا شَامِلٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُمَا، وَالْكَيْلُ يَخُصُّ الْكَثِيرَ دُونَ الْقَلِيلِ، فَهَذِهِ الْعِلَّةُ تُوجِبُ فِي الْقَلِيلِ مِنْ أَصْلِهَا ضِدَّ مَا أَوْجَبَهُ النَّصُّ فِي ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنْ أَصْلٍ مُخَصَّصَةً لِأَصْلِهَا وَإِنْ جَازَ تَخْصِيصُ اسْمٍ آخَرَ غَيْرِ أَصْلِهَا بِهَا. انْتَهَى: وَاعْلَمْ أَنَّ فِي عَوْدِهَا عَلَى الْأَصْلِ بِالتَّخْصِيصِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَسَبَقَتْ فِي بَابِ الْعُمُومِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: إنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً فَالشَّرْطُ أَنْ لَا تُعَارَضَ بِمُعَارِضٍ مُنَافٍ مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ بِأَنْ تُبْدَى عِلَّةٌ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَإِلَّا

جَازَ التَّعْلِيلُ بِمَجْمُوعِهِمَا أَوْ بِالْأُخْرَى وَقِيلَ: وَلَا بِمُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ بِأَنْ تَثْبُتَ فِيهِ عِلَّةٌ أُخْرَى تُوجِبُ خِلَافَ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، فَإِنَّ الْمُعَارِضَ يُبْطِلُ اعْتِبَارَهَا. وَقِيلَ: أَنْ لَا يَكُونَ بِمُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ مَعَ تَرْجِيحِ الْمُعَارِضِ. وَلَا بَأْسَ بِالتَّسَاوِي لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ. وَقِيلَ: الْمُعَارِضُ الْمُسَاوِي يَمْنَعُ التَّعْلِيلَ أَيْضًا. التَّاسِعَ عَشَرَ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ أَنْ لَا تَتَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ أَيْ حُكْمًا فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مَا أَثْبَتَهُ النَّصُّ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِمَا أُثْبِتَ بِهِ. مِثَالُهُ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فَعَلَّلَ الْحُرْمَةَ بِأَنَّهَا رِبًا فِيمَا يُوزَنُ كَالنَّقْدَيْنِ، فَيَلْزَمُ التَّقَابُضُ، مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ. وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنَافِيَةً لِحُكْمِ الْأَصْلِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ نَسْخٌ لَهُ فَهُوَ مِمَّا يُعَكِّرُ عَلَى أَصْلِهِ بِالْإِبْطَالِ، وَإِلَّا لَجَازَ. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَجَعَلَهُ الْهِنْدِيُّ تَنْقِيحَ مَنَاطٍ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إلَيْهِ. الْعِشْرُونَ: أَنْ لَا تَكُونَ مُعَارِضَةً لِعِلَّةٍ أُخْرَى تَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا بِأَنْ نَقُولَ: مَا ذَكَرْتَ مِنْ الْوَصْفِ وَإِنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ فَيُوقَفُ ذَلِكَ فَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الِاعْتِرَاضَاتِ وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنْ عَنَى بِهِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى كَيْفَ كَانَتْ فَهَذَا مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً عَلَى مَا يُعَارِضُهَا مِنْ الْعِلَّةِ لَا مَانِعَ مِنْ اسْتِنْبَاطِهَا وَجَعْلِهَا عِلَّةً. وَإِنْ عَنَى بِهِ أَنْ لَا تَكُونَ مُعَارِضَةً أُخْرَى رَاجِحَةً عَلَيْهَا فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْمَعْمُولِ بِهَا لَكِنْ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعِلَّةِ فِي ذَاتِهَا، فَإِنَّ الْعِلَّةَ الْمَوْجُودَةَ وَالدَّلِيلَ الْمَرْجُوحَ لَا يَخْرُجَانِ بِسَبَبِ الْمَرْجُوحِيَّةِ عَنْ الْعِلَّةِ وَالدَّلَالَةِ، وَإِلَّا لَمَا تُصُوِّرَ التَّعَارُضُ إلَّا بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ.

الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ: إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ شَرْطٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ تُوجِبُ إزَالَةَ شَرْطِ أَصْلِهَا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: لَمَّا جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ جَازَ وَلَكِنْ لِمَنْ لَا يَخْشَاهُ لِوَصْفٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ خَشْيَةَ الْعَنَتِ شَرْطٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ فِي إبَاحَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ تُوجِبُ سُقُوطَ هَذَا الشَّرْطِ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنْ لَا يَكُونَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَيْهَا مُتَنَاوِلًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ لَا بِعُمُومِهِ وَلَا بِخُصُوصِهِ عَلَى الْمُخْتَارِ لِلِاسْتِغْنَاءِ حِينَئِذٍ عَنْ الْقِيَاسِ. وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " مَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَلَّ لَهُمْ شَيْئًا جُمْلَةً وَحَرَّمَ مِنْهُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، فَيُحِلُّونَ الْحَلَالَ بِالْحُكْمِ، وَيُحَرِّمُونَ الشَّيْءَ بِعَيْنِهِ، وَلَا يَقِيسُونَ عَلَى الْأَقَلِّ الْحَرَامَ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْأَكْثَرِ أَوْلَى أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَقَلِّ. هَذَا لَفْظُهُ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ ابْنُ اللَّبَّانِ فِي تَرْتِيبِ الْأُمِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَقَالَ إلْكِيَا: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمَنْصُوصَاتِ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمَتَى وُجِدَ فِي الْفَرْعِ نَصٌّ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِهِ بِأَصْلٍ آخَرَ كَانَ الْقِيَاسُ فَاسِدَ الْوَضْعِ، لِعَدَمِ شَرْطِهِ، كَقِيَاسِ الْقَتْلِ عَمْدًا عَلَى الْقَتْلِ خَطَأً فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَقِيَاسِ الْمُحْصَرِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ فِي إيجَابِ الصَّوْمِ بَدَلًا عَنْ الْهَدْيِ عِنْدَ الْعَدَمِ، لِأَنَّ كُلَّ حَادِثَةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا. قَالَ: وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا دَلَّتْ الْأَمَارَاتُ عَلَى أَنَّهُ اسْتَقْصَى حُكْمَ الْوَاقِعَةِ وَلَمْ يُقَارِبْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا شَيْءٌ. أَمَّا إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ ذَكَرَ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ مِمَّا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ أَوْ قَصَدَ بِهِ مَا يَدُلُّ فَحَوَاهُ عَلَى اسْتِقْصَاءِ حُكْمِهِ وَبَقِيَ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ فَذَلِكَ مَحْضُ

تَخْصِيصِ حُكْمٍ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي بَابِ الْمَفْهُومِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ لَا يَكُونَ مُؤَيِّدًا لِلْقِيَاسِ أَصْلٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِالْإِثْبَاتِ عَلَى أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ، كَالْعِلَّةِ الَّتِي يَقِيسُ بِهَا الْعِرَاقِيُّونَ الْمَسَافَاتِ عَلَى الْمُزَارَعَةِ، وَالدَّعْوَى فِي الدَّمِ مَعَ اللَّوْثِ عَلَى الدَّعْوَى فِي الْأَمْوَالِ فِي الْبُدَاءَةِ فِيهِمَا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَقَالَ: هَذَا مَعْنَى مَا رَوَى يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ أَصْلٌ عَلَى أَصْلٍ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: إنْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً أَيْ تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْأَصْلِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ لَا يَكُونَ التَّعْلِيلَ فِي الْمَحَلِّ وَلَا جُزْءًا مِنْهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَعْدِيَتُهَا بِخِلَافِ الْقَاصِرَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا ذَلِكَ. هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الرَّازِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ بِالْمَحَلِّ وَجُزْئِهِ فِيهِمَا. وَقِيلَ: يَمْتَنِعُ فِيهِمَا وَنُسِبَ لِلْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: يَجُوزُ بِجُزْءِ الْمَحَلِّ دُونَ الْمَحَلِّ، وَلَيْسَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَذْهَبًا ثَالِثًا، كَمَا يُوهِمُ صَاحِبُ " الْبَدِيعِ " وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْجُزْءِ (الْعَامُّ) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَمَّا الْجُزْءُ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِهِ لِاحْتِمَالِ عُمُومِهِ لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَهَذَا بِخِلَافِهِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: الْحَقُّ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ فَإِنْ جَوَّزَ ذَلِكَ جَازَ هَذَا، سَوَاءٌ ثَبَتَ عِلِّيَّتُهُ بِنَصٍّ أَوْ بِغَيْرِهِ، إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: حَرُمَتْ الرِّبَا فِي الْبُرِّ لِكَوْنِهِ بُرًّا أَوْ يُعَرِّفُهُ مُنَاسَبَةُ مَحَلِّ الْحُكْمِ لَهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى حِكْمَةٍ دَاعِيَةٍ لَهُ، وَلَا نَظَرَ إلَى أَنْ يُقَالَ: لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ قَابِلًا وَفَاعِلًا، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ ذَلِكَ، وَاسْتِحَالَتُهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا الْوَاحِدُ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا وَإِنْ يُجَوَّزُ التَّعْلِيلُ بِالْقَاصِرَةِ، لَمْ يُجَوَّزْ هَذَا، لِأَنَّ مَحَلَّ الْحُكْمِ وَجُزْأَهُ الْخَاصَّ

يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجَدَ فِي غَيْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَنْقُولَةٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ مَشْهُورَةٍ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ إلَّا إذَا تَعَدَّدَتْ الْقَوَابِلُ. وَبَنَوْا عَلَيْهِ تَرْتِيبَ الْمَوْجُودَاتِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: أَقَلُّ مَا صَدَرَ مِنْ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْفَلَكِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ صَدَرَ مِنْ الْفَلَكِ الْأَوَّلِ عَقْلٌ وَنَفْسٌ، ثُمَّ بَنَوْا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ فَاسِدًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ، وَإِلَّا لَكَانَ فَاعِلًا لَهَا وَقَابِلًا لَهَا وَهُوَ مُحَالٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَالْقَبُولَ أَمْرَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَالْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَفْرِيعِ الْفَاسِدِ عَلَى الْفَاسِدِ.

فصل في ذكر أمور اشترطت في العلة

[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ فِي الْعِلَّةِ] فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ فِي الْعِلَّةِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهَا مِنْهَا: شَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ تَعَدِّي الْعِلَّةِ مِنْ الْأَصْلِ إلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ وَقَعَتْ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي غَيْرِهِ كَتَعْلِيلِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ إنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا صَحَّ التَّعْلِيلُ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَابْنُ بَرْهَانٍ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ نَقَلَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً؛ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً فَهِيَ مَحْضُ الْخِلَافِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَنَقَلَهُ فِي " الْحَاوِي " عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ الْمَنْعُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فِي " الِاصْطِلَامِ "، لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا جَذَبَتْ حُكْمَ الْأَصْلِ إلَى فَرْعِهِ. وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْحَلِيمِيِّ مَا يَقْتَضِيهِ فَقَالَ: مَنْ يُنْشِئُ النَّظَرَ لَا يَدْرِي أَيَقَعُ عَلَى عِلَّةٍ قَاصِرَةٍ أَوْ مُتَعَدِّيَةٍ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِصِفَةِ الْعِلَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ حَالَةَ إنْشَاءِ النَّظَرِ، فَيَجِبُ النَّظَرُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا قَلِيلُ النَّيْلِ، فَإِنَّ الْخَصْمَ لَا يُنْكَرُ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا تَحَقَّقَ قُصُورُهُ، فَمَا قَوْلُ هَذَا الشَّيْخِ إذَا انْكَشَفَ النَّظَرُ وَالْعِلَّةُ قَاصِرَةٌ انْتَهَى. وَأَصَحُّهُمَا: وَنَصَرَهُ فِي " الْقَوَاطِعِ " تَبَعًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: إنَّهَا عِلَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ حُكْمَ الْأَصْلِ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَحْمَدَ، لَكِنْ أَبُو الْخَطَّابِ حَكَى عَنْ أَصْحَابِهِمْ مُقَابِلَهُ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ ": كَانَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ الْغُلَاةِ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَيَقُولُ: هِيَ أَوْلَى مِنْ الْمُتَعَدِّيَةِ وَكَذَلِكَ الْقَاضِي وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ

وُقُوفَهَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِ الْأَصْلِ، كَمَا أَوْجَبَ تَعَدِّيهَا ثُبُوتَ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي غَيْرِهِ، فَصَارَ وُقُوفُهَا مُؤَثِّرًا فِي النَّفْيِ، كَمَا كَانَ تَعَدِّيهَا مُؤَثِّرًا فِي الْإِثْبَاتِ فَاسْتُفِيدَ بِوُقُوفِهَا وَتَعَدِّيهَا حُكْمُ غَيْرِ الْأَصْلِ، فَعَلَى هَذَا ثُبُوتُ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ. وَيَخْرُجُ مِمَّا سَبَقَ حِكَايَةُ مَذْهَبٍ ثَالِثٍ: وَهُوَ الْجَوَازُ فِي الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ. قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَحَكَاهُ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا. وَلِهَذَا فَوَائِدُ: مِنْهَا: مَعْرِفَةُ الْبَاعِثِ الْمُنَاسِبِ: وَمِنْهَا: عَدَمُ إلْحَاقِ غَيْرِهَا. وَقَوْلُهُمْ: " هَذِهِ الْفَائِدَةُ عُلِمَتْ مِنْ النَّصِّ " مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ النَّصَّ لَمْ يُفِدْ إلَّا إثْبَاتَ الْحُكْمِ خَاصَّةً، وَخَصَّهُ الْقَاضِي بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهَا، وَجَوَّزْنَا اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ فَبِاطِّلَاعِنَا عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ نَزْدَادُ عِلْمًا كُنَّا غَافِلِينَ عَنْهُ وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ أَعْظَمُ فَائِدَةً، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا تُشَوَّقُ إلَيْهِ النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ، ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا طَابَقَتْ النَّصَّ زَادَهُ قُوَّةً وَيَتَعَاضَدَانِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَمِنْهَا: أَنَّ الْفَاعِلَ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِأَجْلِهَا فَيَحْصُلُ لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ قَصْدِ الْفِعْلِ وَالِامْتِثَالِ وَأَجْرُ قَصْدِ الْفِعْلِ لِأَجْلِهَا، وَهَذَانِ الْقَصْدَانِ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فَيَفْعَلُ الْمَأْمُورَ لِكَوْنِهِ أُمِرَ بِفِعْلِهِ. ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَمِنْهَا: إذَا حَدَثَ هُنَاكَ فَرْعٌ يُشَارِكُهُ فِي الْمَعْنَى عُلِقَ عَلَى الْعِلَّةِ وَأُلْحِقَ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " فِي بَابِ الرِّبَا وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ

وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي الْقَاصِرَةِ، وَمَتَى حَدَثَ فَرْعٌ يُشَارِكُهَا فِي الْمَعْنَى خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ قَاصِرَةً. وَقَدْ نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ فَائِدَتَهَا أَنَّا إذَا عَلَّلْنَا تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ فِي النَّقْدَيْنِ بِالنَّقْدِيَّةِ أَنْ يَلْحَقَ بِهَا التَّحْرِيمُ فِي الْفُلُوسِ إذَا جَرَتْ نُقُودًا، قَالَ الْإِمَامُ وَهَذَا خَرَفٌ مِنْ قَائِلِهِ وَخَبْطٌ عَلَى الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ جَرَيَانِ الرِّبَا فِي الْفُلُوسِ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ نُقُودًا فَإِنَّ النَّقْدِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَطْبُوعَاتِ، وَالْفُلُوسُ فِي حُكْمِ الْعُرُوضِ وَإِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا قِيلَ لِصَاحِبِهِ: إنْ دَخَلَتْ الْفُلُوسُ تَحْتَ الدَّرَاهِمِ بِالنَّصِّ فَالْعِلَّةُ بِالنَّقْدِيَّةِ قَائِمَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّصُّ فَالْعِلَّةُ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي الْقَاصِرَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُفِيدُ بِعَكْسِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ (النَّقْدِيَّةُ) عِلَّةً فِي النَّقْدَيْنِ فَعَدَمُ النَّقْدِيَّةِ مُشْعِرٌ بِانْتِفَاءِ تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَالنَّصُّ عَلَى اللَّقَبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ. وَرَدَّهُ الْإِمَامُ بِأَنَّ الِانْعِكَاسَ لَا يَتَحَتَّمُ فِي الْعِلَلِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ مَتَى زَالَتْ الصِّفَةُ عَنْهُ زَالَ الْحُكْمُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " (قَالَ) : وَيَجِبُ عَلَى هَذَا تَخْصِيصُ الْقَاصِرَةِ بِاَلَّتِي ثَبَتَتْ تَارَةً وَتَزُولُ أُخْرَى وَإِلَّا بَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ. قُلْت: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَصْفَانِ قَاصِرٌ وَمُتَعَدٍّ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّ الْقَاصِرَةَ عِلَّةٌ، هَلْ يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ أَمْ لَا، فَعِنْدَنَا يَمْتَنِعُ إنْ مَنَعْنَا اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِغَلَبَةِ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ. وَمِنْ فَوَائِدِهِ: إذَا عُورِضَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ بِوَصْفٍ قَاصِرٍ لِيَقْطَعَ الْقِيَاسَ فَاحْتَاجَ إلَى دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ، فَهَلْ يَكْفِي فِي إفْسَادِ الْوَصْفِ قُصُورُهُ أَوْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُفْسِدًا؟ وَهَذَا هُوَ وَجْهُ جَعْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " (الْقُصُورَ) مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْفَاسِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ، إذْ الْقُصُورُ يُنَافِي الْقِيَاسَ، ثُمَّ اخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ

الشَّرْعِ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا يَتَأَتَّى تَأْوِيلُهُ وَيُمْكِنُ تَقْدِيرُ حَمْلِهِ عَلَى الْكَثِيرِ مَثَلًا دُونَ الْقَلِيلِ، فَإِذَا نَتَجَتْ عِلَّةٌ تُوَافِقُ ظَاهِرَهُ فَهِيَ تُعْصَمُ مِنْ التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى لَا تَرْقَى رُتْبَتُهَا عَلَى الْمُسْتَنْبَطَةِ الْقَاصِرَةِ، فَالْعِلَّةُ فِي مَحَلِّ الظَّاهِرِ كَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي مُقْتَضَى النَّصِّ مِنْهُ، مُتَعَدِّيَةٌ إلَى مَا اللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِيهِ مِنْ حَيْثُ عِصْمَتُهُ مِنْ التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ، وَكَانَ ذَلِكَ إفَادَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا حَقِيقِيًّا.

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ زَعَمَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي نُكَتِهِ عَلَى الْمُسْتَصْفَى " أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَتَوَارَدْ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ. قَالَ: وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا صَحِيحَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، بَاطِلَةٌ بِاعْتِبَارِ الْفَرْعِ. وَقَالَ ابْنُ رَحَّالٍ: إذَا فُسِّرَ اللَّفْظُ زَالَ الْخِلَافُ، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ صَحِيحٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: نَصْبُ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ أَمَارَةً بَاطِلٌ، وَهَذَا أَيْضًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ التَّعْلِيلِ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْوَصْفِ وَتَارَةً عَلَى نَصْبِهِ، فَهَذَا الِاشْتِرَاكُ هُوَ سَبَبُ الْخِلَافِ. الثَّانِي أَنَّ كَلَامَ أَصْحَابِنَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَاصِرَةِ لَيْسَ مَشْرُوطًا بِانْتِفَاءِ التَّعْدِيَةِ، بَلْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْقَوَاطِعِ "، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَمَا تُصُوِّرَ وُقُوعُ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ التَّعَارُضَ فَرْعُ اجْتِمَاعِهِمَا، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا تَعَارَضَا، فَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ الْمُتَعَدِّيَةَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: الْقَاصِرَةُ، وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ. الثَّالِثُ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِلَافُ فِي بُطْلَانِهَا لَا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ظَنِّ كَوْنِهَا حِكْمَةً فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، بَلْ عَلَى خُرُوجِهَا عَنْ مُتَعَلَّقِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ إذَا لَمْ تَظْهَرْ لَهُ فَائِدَةٌ تَزِيدُ عَلَى مُقْتَضَى النَّصِّ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى صِحَّتِهَا، لِصِحَّةِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهَا، وَلِمُسَاوَاتِهَا لِلْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ فِي اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وَالْقُصُورِ،

إذْ مَا مِنْ مُتَعَدِّيَةٍ إلَّا وَهِيَ قَاصِرَةٌ مِنْ وَجْهٍ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُطَابَقَةُ النَّصِّ لَهَا، وَذَلِكَ مِمَّا يُؤَيِّدُهَا لَا مِمَّا يُبْطِلُهَا، كَمُطَابَقَةِ الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَكَمُطَابَقَةِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَاضِدَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ مَوْضِعَ التَّعَبُّدِ بِالتَّعْلِيلِ هَلْ هُوَ لِإِفَادَةِ مَا لَمْ يُفِدْهُ النَّصُّ أَوْ بِمُجَرَّدِ إنَاطَةِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ؟ وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّأْثِيرِ فِي الْعِلَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِخَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَمَعْنَى التَّأْثِيرِ: اعْتِبَارُ الشَّرْعِ جِنْسَ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعَهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ إلَى آخِرِ مَا سَيَأْتِي وَقَالَ إلْكِيَا: الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ عِلَّةَ الشَّرْعِ هَلْ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الدَّبُوسِيُّ: هُوَ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ عِنْدَنَا: تَعَدِّي حُكْمِ النَّصِّ إلَى الْفَرْعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: تَعَلَّقَ الْحُكْمُ فِي النَّصِّ الْمَعْلُولِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ لَا التَّعَدِّي. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى كَوْنِهَا هَلْ هِيَ مَأْمُورٌ بِهَا؟ وَمَعْنَى صِحَّتِهَا: مُوَافَقَتُهَا لِلْأَمْرِ، وَمَعْنَى فَسَادِهَا: عَدَمُ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ: لَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فَائِدَةٌ فَرْعِيَّةٌ أَلْبَتَّةَ، لِأَنَّا إنْ رَدَدْنَاهَا فَلَا إشْكَالَ فِي عَدَمِ إفَادَتِهَا، وَإِنْ قَبِلْنَاهَا فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهَا لَا يَتَعَدَّى بِهَا حُكْمُهَا، وَالنَّصُّ فِي الْأَصْلِ مُغْنٍ عَنْهَا فَرَجَعَ ثَبَاتُهَا إلَى الْفَوَائِدِ الْعِلْمِيَّةِ لَا الْعَمَلِيَّةِ، إلَّا إذَا بَنَيْنَا عَلَى الْتِزَامِ اتِّحَادِ الْعِلَلِ وَصَحَّحْنَا الْقَاصِرَةَ، وَجَعَلْنَاهَا مُقَاوِمَةً لِلْمُتَعَدِّيَةِ فَيَنْبَنِي حِينَئِذٍ قَبُولُهَا فَائِدَةً عَمَلِيَّةً لِأَنَّهَا قَدْ تُعَارِضُ مُتَعَدِّيَةً بِتَعَطُّلِ الْعَمَلِ بِهَا. وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: لَا يَتَحَرَّرُ الْخِلَافُ فِي رَدِّهَا، لِأَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا الْبَاعِثُ أَوْ الْعَلَامَةُ، فَإِنْ فَسَّرْنَا بِالْبَاعِثِ وَهُوَ الْحَقُّ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَنُصَّ بِالشَّرْعِ عَلَى الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ حَتَّى لَا يُبْقِيَ مِنْ مَحَالِّهِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، وَيَنُصُّ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْبَاعِثِ وَلَا يَتَخَيَّلُ عَاقِلٌ خِلَافَ ذَلِكَ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالْعَلَامَةِ وَعَلَيْهِ بَنَى الرَّازِيَّ كَلَامَهُ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ عَلَامَةً وَالْوَصْفُ عَلَامَةً، فَيَجْتَمِعُ عَلَى الْحُكْمِ عَلَامَتَانِ كَمَا يَجْتَمِعُ عَلَى

الْحُكْمِ نَصَّانِ مَعًا وَظَاهِرَانِ مَعًا، أَوْ نَصٌّ وَظَاهِرٌ، أَوْ نَصٌّ وَقِيَاسٌ. وَهَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَا مَحَلَّ لِلْخِلَافِ. وَمِنْهَا: مَنَعَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ مِنْ التَّعْلِيلِ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ، كَمَا لَوْ عَلَّلْنَا كَوْنَ النَّقْدَيْنِ رِبَوِيَّيْنِ بِكَوْنِ اسْمِهِمَا ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَحَكَى فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَاعْتَرَضَ النَّقْشَوَانِيُّ بِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا فُسِّرَتْ بِالْمُعَرِّفِ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ جَعْلِ الِاسْمِ عِلَّةً؟ فَإِنَّ فِيهِ تَعْرِيفًا، وَقَوَّاهُ الْقَرَافِيُّ بِمَا إذَا قُلْنَا: إنَّ مُجَرَّدَ الطَّرْدِ كَافٍ فِي الْعِلَّةِ، وَيَصْعُبُ مَعَ اشْتِرَاطِ الْمُنَاسِبِ. وَمَا ادَّعَى الْإِمَامُ فِيهِ مِنْ الِاتِّفَاقِ تَبِعَهُ فِيهِ الْهِنْدِيُّ فِي النِّهَايَةِ. وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَوْا، فَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ، وَهِيَ وُجُوهٌ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهَا: الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَهُوَ رَأْيُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُشْتَقُّ كَقَاتِلٍ وَسَارِقٍ، وَالِاسْمِ الَّذِي هُوَ لَقَبٌ كَحِمَارٍ وَفَرَسٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ: لِأَنَّهُ بَوْلٌ فَشَابَهُ بَوْلَ الْآدَمِيِّ (انْتَهَى) وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ: إنَّهُ الْأَقْرَبُ إلَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْقَائِسِينَ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ لِأَنَّهُ كَلْبٌ، قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْمَنْعِ مِنْ ضَمِّ الْقُطْنِيَّةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَوَاتِ: إنَّهَا حُبُوبٌ مُنْفَرِدَةٌ بِأَسْمَاءٍ مَخْصُوصَةٍ. وَقَاسَهَا عَلَى التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، فَإِذَا جَعَلَ افْتِرَاقَهَا فِي الِاسْمِ عِلَّةً

لِافْتِرَاقِهَا فِي الْحُكْمِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ اتِّفَاقُهَا فِي الِاسْمِ عِلَّةً، لِاتِّفَاقِهَا فِي الْحُكْمِ، وَقَالَ أَهْلُ الرَّأْيِ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّكْرَارِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ: إنَّهُ مَسْحٌ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي زَكَاةِ الْعَوَامِلِ: إنَّهَا تَعُمُّ قِيَاسًا عَلَى السَّائِمَةِ (انْتَهَى) وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ. وَ (الثَّانِي) الْمَنْعُ لَقَبًا وَمُشْتَقًّا. وَ (الثَّالِثُ) التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمُشْتَقِّ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ اللَّقَبِ فَلَا، حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي التَّبْصِرَةِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ. وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي بَابِ الرِّبَا فِي أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الرِّبَوِيِّ الطُّعْمُ: الْحُكْمُ مَتَى عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى يَصِيرُ مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً. وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ وَجْهًا أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِشَرْطِ الْإِخَالَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ، وَنَسَبَهُ لِلْحَنَفِيَّةِ. وَهَذَا يَقْتَضِي (مَذْهَبًا رَابِعًا) وَهُوَ التَّفْصِيلُ فِي الْمُشْتَقِّ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ": إنْ كَانَ الِاسْمُ يُفِيدُ مَعْنًى فِي الْمُسَمَّى جَازَ التَّعْلِيلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَقَبًا فَفِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِهِ قَوْلَانِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ: إنْ كَانَ الْوَصْفُ اسْمًا مُشْتَقًّا فَلَا شَكَّ فِي جَرَيَانِ الْقِيَاسِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ، كَبَغْلٍ وَحِمَارٍ وَدَابَّةٍ وَدَارٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) وَهُوَ الْأَقْرَبُ إلَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ الْجَوَازَ. وَ (الثَّانِي) الْمَنْعُ كَالْوَصْفِ مِنْ اسْمٍ وَلَقَبٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو. وَفِي الْأُمِّ: فِي بَوْلِ الْحَيَوَانِ تَعْلِيقُ حُكْمٍ بِاسْمٍ (قَالَ) : وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ لَكَانَ جَائِزًا، فَإِذَا اسْتَنْبَطَهُ الْمُعَلِّلُ فَكَذَلِكَ (انْتَهَى) وَهَذَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِالْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ. أَمَّا الْمَنْصُوصَةُ مِنْ الشَّارِعِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهَا، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بُيُوعِ الْحَاوِي: يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقِّ، كَعَاقِلٍ وَقَاتِلٍ وَوَارِثٍ، وَبِالِاسْمِ إذَا عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْجِنْسِ، كَمَا جَازَ التَّعْلِيلُ بِالصِّفَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ فِي نَجَاسَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ: لِأَنَّهُ بَوْلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى بَوْلِ الْآدَمِيِّ.

وَقَالَ فِي الْقَوَاطِعِ: وَأَمَّا جَعْلُ الِاسْمِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ فَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ: إنَّ الِاسْمَ ضَرْبَانِ: اسْمُ اشْتِقَاقٍ، وَاسْمُ لَقَبٍ. فَأَمَّا الْمُشْتَقُّ فَضَرْبَانِ: (أَحَدُهُمَا) مَا اُشْتُقَّ مِنْ فِعْلٍ كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ، اُشْتُقَّ مِنْ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، فَيَجُوزُ جَعْلُهُ عِلَّةً فِي قِيَاسِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْأَفْعَالَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَلًا لِلْأَحْكَامِ. وَ (ثَانِيهِمَا) مَا اُشْتُقَّ مِنْ صِفَةٍ كَالْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ، مُشْتَقٌّ مِنْ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الشَّبَهِ الصُّورِيِّ. فَمَنْ جَعَلَهُ حُجَّةً جَوَّزَ التَّعْلِيلَ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ» فَجَعَلَ السَّوَادَ عِلَّةً لِإِبَاحَةِ الْقَتْلِ، فَأَمَّا اللَّقَبُ فَضَرْبَانِ: (أَحَدُهُمَا) مُسْتَعَارٌ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَلَا يَدْخُلُهُ حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْقُلُ اسْمَ زَيْدٍ إلَى عَمْرٍو وَعَمْرٍو إلَى زَيْدٍ، فَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهَذَا الِاسْمِ لِعَدَمِ لُزُومِهِ وَجَوَازِ انْتِقَالِهِ. وَ (ثَانِيهِمَا) لَازِمٌ كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ. وَقَدْ حَكَى الْأَصْحَابُ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِهَا وَجْهَيْنِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ بِالْأَسَامِي مُطْلَقًا، لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الطَّرْدَ. وَأَمَّا الْأَسَامِي الْمُشْتَقَّةُ فَالتَّعْلِيلُ بِمَوْضِعِ الِاشْتِقَاقِ لَا بِنَفْسِ الِاسْمِ (انْتَهَى) وَهُوَ تَفْصِيلٌ لَا مَزِيدَ عَلَى حَسَنِهِ. فَإِنْ قُلْت: فَهَلْ لِلْإِمَامِ سَلَفٌ فِي دَعْوَاهُ الِاتِّفَاقَ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُ فِي كِتَابِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ مَا نَصُّهُ: اتَّفَقُوا عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ إذَا اقْتَصَرْت بِهَا عَلَى الِاسْمِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ إذَا ضَاقَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ تَعَلَّقَ بِهِ،

كَالرَّجُلِ يَسْأَلُ عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ فَيُقَالُ: لِأَنَّهُ كَلْبٌ قِيَاسًا عَلَى مَا لَا نَفْعَ فِيهِ، أَوْ عَلَى الْقُصُورِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ خِلَافًا بَعْدُ. هَذَا لَفْظُهُ مَعَ أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ حَكَى وَجْهَيْنِ فِي التَّعْلِيلِ بِالِاسْمِ. فَإِنْ قُلْت: فَمَا تَحْمِلُ كَلَامَ الْإِمَامِ، عَلَى الْمُشْتَقِّ أَوْ اللَّقَبِ؟ قُلْت: أَحْمِلُهُ عَلَى اللَّقَبِ، لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقِّ كَانَ مُعَلَّلًا بِمَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُنَا مُرَادُهُ الِاسْمُ الَّذِي لَيْسَ بِمُشْتَقٍّ. نَعَمْ الْخِلَافُ جَارٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَقًّا. وَ (مِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ وَصْفُهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا عِنْدَ قَوْمٍ لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ فَكَيْفَ يَكُونُ عِلَّةً. وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، كَقَوْلِنَا: حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ فَيَبْطُلُ بَيْعُهُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَدُورُ مَعَ الْحُكْمِ الْآخَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَالدَّوَرَانُ يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ، وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْمُعَرِّفِ وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُجْعَلَ حُكْمٌ مُعَرِّفًا لِحُكْمٍ آخَرَ بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: رَأَيْتُمُونِي أُثْبِتُ الْحُكْمَ الْفُلَانِيَّ فِي الصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَاعْلَمُوا أَنِّي أُثْبِتُ الْحُكْمَ الْفُلَانِيَّ فِيهَا أَيْضًا. وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ إنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْأُصُولِيِّينَ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ (قَالَ) وَقَدْ قَاسَ الشَّافِعِيُّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْقَتْلِ، وَفِي أَنَّ الْإِيمَانَ شَرْطٌ فِيهِمَا، بِأَنَّ

كُلَّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ بِالْعِتْقِ، وَقَالَ فِي زَكَاةِ مَالِ الْيَتِيمِ: لِأَنَّهُ مَالِكٌ تَامُّ الْمِلْكِ، وَقَالَ فِي الذِّمِّيِّ: يَصِحُّ ظِهَارُهُ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ كَالْمُسْلِمِ، وَقَاسَ الْوُضُوءَ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي النِّيَّةِ بِأَنَّهُمَا طُهْرَانِ عَنْ حَدَثٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ فِطْرٍ مَعْصِيَةٌ فِيهَا الْكَفَّارَةُ كَالْفِطْرِ بِالْوَطْءِ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْمَنِيُّ نَجِسٌ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْبَدَنِ كَالْبَوْلِ (انْتَهَى) . وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ حُكْمُ تِلْكَ الْعِلَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً كَقَوْلِنَا: حَرُمَ الرِّبَا لِأَنَّهُ رِبًا، حَرُمَ الْأَكْلُ لِأَنَّهُ أَكْلٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ الشَّيْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ هَذَا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ هَذَا تَحْرِيمَ غَيْرِهِ، كَأَنْ يَقُولَ: الْعِلَّةُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَاطِئِ إيجَابُهَا عَلَى الْقَاتِلِ وَتَحْرِيمُ الْقَتْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا: مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاهُ. وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِيمَا يُخْرَجُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا حُكْمٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَرَدَ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وَالظُّلْمُ هُوَ اسْمُ حُكْمٍ. وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنِيرِ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ عِلَّةً وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمُلَازَمَةُ، وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ تَقْتَضِي حُكْمَيْنِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا اسْتَدْلَلْنَا بِوُجُودِهِ عَلَى وُجُودِهَا ثُمَّ عَلَى وُجُودِ الْحُكْمِ الْمَعْلُومِ ضَرُورَةُ تَلَازُمِ الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ: الْمُخْتَارُ أَنَّ الشَّرْعِيَّ يَكُونُ عِلَّةً شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى (الْأَمَارَةِ) لَا فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ بَلْ فِي غَيْرِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: إذَا عَرَفْتُمْ أَنِّي حَكَمْت بِإِيجَابِ كَذَا فَاعْلَمُوا أَنِّي حَكَمْت بِكَذَا. وَإِنَّمَا امْتَنَعَ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (الْبَاعِثِ) ، فَإِنْ كَانَ بَاعِثًا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ كَتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ يَقْتَضِيهَا حُكْمُ الْأَصْلِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ

لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَلَا، وَتَابَعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَهُوَ تَحَكُّمٌ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا شُرِعَ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ، فَلَمَّا يُخَصَّصُ بِالْمَصْلَحَةِ دُونَ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ؟ تَنْبِيهٌ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْحَقِيقِيِّ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، كَقَوْلِنَا فِي إثْبَاتِ الْحَيَاةِ فِي الشَّعْرِ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ بِالطَّلَاقِ وَيَحِلُّ بِالنِّكَاحِ فَيَكُونُ حَيًّا كَالْيَدِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعِلَّةِ الْمُعَرِّفُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مُعَرِّفًا لِلْحُكْمِ الْحَقِيقِيِّ فَأَمَّا إذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْمُوجِبِ وَالدَّاعِي امْتَنَعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْمَنْعَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ بِالْمُوجِبِ فَصَحِيحٌ لَكِنْ لَا نَرْتَضِيهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُطْلَقًا فَبَاطِلٌ، وَكَلَامُ الْعَبْدَرِيِّ يَقْتَضِي التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ وَالْمُسْتَنْبَطِ، فَإِنَّهُ قَالَ: يُقَالُ لِلْمَانِعِ مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْحُكْمِ: إنْ أَرَدْت بِهِ الْحُكْمَ الَّذِي يَسْتَنْبِطُهُ الْمُجْتَهِدُ فَقَوْلُك صَحِيحٌ وَلَسْنَا نَنْفِيهِ، وَإِنْ أَرَدْت الْحُكْمَ الَّذِي صَدَرَ عَنْ الشَّارِعِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمَ الشَّرْعُ بِحُكْمٍ ثُمَّ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْحُكْمَ عِلَّةً لِحُكْمٍ آخَرَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرًا بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ بِالْمُوجِبِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ فِي الْمَحْصُولِ: يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِالْأَوْصَافِ الْعُرْفِيَّةِ وَهِيَ الشَّرَفُ وَالْخِسَّةُ، وَالْكَمَالُ وَالنَّقْصُ وَلَكِنْ بِشَرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوصًا مُتَمَيِّزًا عَنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُطَّرِدًا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَإِلَّا لَجَازَ أَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ الْمُعَرِّفُ حَاصِلًا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ.

وَ (مِنْهَا) شَرَطَ قَوْمٌ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ ذَاتَ وَصْفٍ، كَالْإِسْكَارِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ تَعَدُّدِ الْوَصْفِ وَوُقُوعِهِ كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ لِلْقِصَاصِ. وَنَسَبَهُ الْهِنْدِيُّ لِلْمُعْظَمِ، وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ إجْمَاعَ الْقَيَّاسِينَ وَصَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِالْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَالَ: وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْعَقْلِيَّةِ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: لَا يَجُوزُ تَرْكِيبُهَا مِنْ وَصْفَيْنِ فَأَكْثَرَ (قَالَ) : وَأَجَازَهُ الْبَاقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا (قَالَ) : وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ امْتَنَعَ مِنْ تَرْكِيبِهَا الْأَشْعَرِيُّ وَأَجَازَهُ الْبَاقُونَ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَحَيْثُ قُلْنَا بِالتَّرْكِيبِ فَقِيلَ لَا يَتَعَدَّى خَمْسَةً، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ الْحَنَفِيِّ، وَنَصَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِ شَرْحِ التَّرْتِيبِ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ زَادُوا فِي الْعِلَّةِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْصَافٍ، بَلْ إذَا بَلَغَتْ خَمْسَةً اسْتَثْقَلُوهَا وَلَمْ يُتَمِّمُوهَا وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: أَقْوَاهَا مَا تَرَكَّبَ مِنْ وَصْفَيْنِ ثُمَّ يَلِيهِ الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ الْأَرْبَعَةُ، ثُمَّ الْخَمْسَةُ وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ زِيَادَةً عَلَيْهِ. وَيَخْرُجُ ذَلِكَ عَنْ الْأَقْسَامِ وَالضَّبْطِ إذَا كَثُرَتْ الْأَوْصَافُ. وَحَكَى فِي الْمَحْصُولِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّهُ حَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ زِيَادَتُهَا عَلَى سَبْعَةٍ لَكِنْ نَقَلَ فِي رِسَالَتِهِ " الْبَهَائِيَّةِ " عَنْهُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى خَمْسَةٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عَنْ حِكَايَةِ الشَّيْخِ. نَعَمْ، قَوْلُ عَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعَةِ مَحْكِيٌّ أَيْضًا، حَكَاهُ ابْنُ الْفَارِضِ فِي كِتَابِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ، قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا أَعْرِفُ لَهُ حُجَّةً. وَقَالَ صَاحِبُ

فائدة العلة إذا كثرت أوصافها في القياس

التَّنْقِيحِ: غَايَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ سَبْعَةٌ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: مَنْ كَانَ بِقُرْبِ مِصْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ، إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ حُرٌّ، مُسْلِمٌ، صَحِيحٌ، مُقِيمٌ، فِي مَوْطِنٍ يَبْلُغُهُ النِّدَاءُ، فِي مَوْضِعٍ تَصِحُّ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَهُوَ كَالْمُقِيمِ فِي مِصْرٍ (قَالَ) وَهَذَا يَتَضَمَّنُ سَبْعَةَ أَوْصَافٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ تَرْتِيبَهَا عَلَى مَا سَبَقَ قَالَ: وَإِنَّمَا قَدَّمَ مَا قَلَّ وَصْفُهُ عَلَى مَا كَثُرَ مِنْهُ لِلْحَاجَةِ فِيمَا كَثُرَ وَصْفُهُ إلَى زِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازِ الْخَطَأِ وَسَلَامَةِ مَا قَلَّ وَصْفُهُ فِي أَحَدِ مَوَاضِعِهِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وَالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ الصَّرِيحِ وَالْمُحْتَمَلِ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُ. وَقَالَ إلْكِيَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ أَوْصَافًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَفِيهِ إخَالَةٌ، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي إفْرَادَ كُلِّ وَصْفٍ بِالتَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَخِيلًا كَفَى ذَلِكَ. وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِجْمَاعُ وَلَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ أَنَّ الْوَصْفَ مَخِيلُ، لَكِنْ يَجِبُ أَلَّا يَكْتَفِيَ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَالْإِخَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا وَصْفٌ وَاحِدٌ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا وَصْفًا وَالْآخَرُ مَخِيلًا وَإِنَّمَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَخِيلًا بِأَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي الْحُكْمِ أَصْلًا وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ فِي الْعِلَّةِ لِتَعْظِيمِ وَقْعِهَا، أَوْ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ فَيَكُونُ عَلَمًا مَحْضًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُلَقَّبُ بِالشَّرْطِ وَالشَّرْطُ الْعَلَامَةُ. [فَائِدَةٌ الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا فِي الْقِيَاسِ] تَنْبِيهٌ: قَدْ يَسْتَشْكِلُ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِلزِّيَادَةِ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ، أَوْ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّجْوِيزِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مَوْضِعَ الْخِلَافِ وَقَدْ عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ الرِّبَا فِي الْأَرْبَعَةِ بِكَوْنِهَا مَطْعُومَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَأَضَافَ فِي الْقَدِيمِ إلَى ذَلِكَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَزَيَّفَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا اسْتَقَلَّتْ بِوَصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِمَا وَصْفٌ ثَالِثٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي الْعِلَّةِ إنَّمَا يُذْكَرُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ كَانَ ذِكْرُهُ لَغْوًا. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ

فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ إذَا تَقَابَلَتْ الْعِلَّتَانِ وَإِحْدَاهُمَا أَكْثَرُ أَوْصَافًا مِنْ الْأُخْرَى فَالْقَلِيلَةُ أَوْلَى بِإِجْمَاعِ النُّظَّارِ وَأَهْلِ الْأُصُولِ (قَالَ) وَلَوْ جَازَ أَنْ يَزِيدَ الْوَاحِدُ وَصْفًا بَعْدَ اسْتِقَامَةِ الْعِلَّةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ لَجَازَ أَنْ يَزِيدَ خَمْسَةَ أَوْصَافٍ وَعَشَرَةً، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا، لِأَنَّ الْعِلَّةَ كُلَّمَا زَادَتْ أَوْصَافُهَا ضَعُفَتْ، وَكُلَّمَا قَلَّتْ قَوِيَتْ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى كَثْرَةِ الْأَوْصَافِ لِبُعْدِ الْفَرْعِ عَنْهُ، وَقِلَّةُ الْأَوْصَافِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ وَمَنْ بَعُدَ، لَمَّا كَانَ ابْنُ الْعَمِّ لَا يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ إلَّا بِجَمَاعَةٍ تَوَسَّطُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ وَالْأَبِ اللَّذَيْنِ يُدْلِيَانِ إلَيْهِ بِأَنْفُسِهِمَا. وَأَيْضًا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ كُلَّمَا كَثُرَتْ فِي الْعِلَّةِ قَلَّتْ الْفُرُوعُ، أَلَا تَرَى مَنْ ضَمَّ وَصْفَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ إلَى الطُّعْمِ أَسْقَطَ الرِّبَا عَنْ الْمَطْعُومَاتِ الَّتِي لَا تُكَالُ وَلَا تُوزَنُ، كَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالتِّينِ وَالْجَوْزِ وَغَيْرِهَا، فَكَانَ كَاجْتِمَاعِ الْمُتَعَدِّيَةِ مَعَ الْقَاصِرَةِ، ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى أَنَّ مِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ جَعَلَ الْعِلَّةَ عَلَى الْجَدِيدِ مُرَكَّبَةً مِنْ الْجِنْسِ وَالطُّعْمِ (قَالَ) : وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَسِيطَةٌ وَهِيَ الطُّعْمُ وَأَمَّا الْجِنْسُ فَحَمْلُ الْحُكْمِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي تَعَلُّقِ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّ الشِّدَّةَ مَحَلٌّ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَلَيْسَتْ الْخَمْرُ عِلَّةً لِوُجُودِ الشِّدَّةِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إنْكَارِ جَوَازِ كَوْنِ الْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ عِلَّةً، فَإِنَّ اسْتِقْرَارَ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ وُقُوعِهِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْقِصَاصِ وَاجِبًا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ الرِّبَا جَارِيًا فِي الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِذَلِكَ، بَلْ مَجْمُوعُ الْوَصْفَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا بِشَرْطِ الْآخَرِ، وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى إطْلَاقِهَا بَلْ بِعُقُودٍ مُعْتَبَرَةٍ فِيهَا، وَاسْتِنْبَاطُ الْعِلَّةِ الْبَسِيطَةِ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَيَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى كَوْنِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ تَعَبُّدِيَّةً، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، أَوْ تَجْوِيزُ اسْتِخْرَاجِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

فَائِدَةٌ الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا قَلَّتْ مَعْلُولَاتُهَا، وَإِذَا قَلَّتْ كَثُرَتْ. ذَكَرَهُ بَعْضُ تَلَامِذَةِ إلْكِيَا. وَنَظِيرُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْحَدِّ نُقْصَانٌ فِي الْمَحْدُودِ وَالنُّقْصَانُ فِيهِ زِيَادَةٌ فِي الْمَحْدُودِ. وَ (مِنْهَا) أَنْ تَكُونَ مُسْتَنْبَطَةً مِنْ أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِحُكْمِهِ عِنْدَ قَوْمٍ. وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْعَمَلِ. وَ (مِنْهَا) الْقَطْعُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ عِنْدَ قَوْمٍ، مِنْهُمْ الْمَرْوَزِيِّ فِي جَدَلِهِ وَنَقَلَهُ عَنْ شَيْخِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى تِلْمِيذُ الْغَزَالِيِّ وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ، لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَلِأَنَّ سَائِرَ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ يَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ إبَاحَةَ وَطْءِ الْحَائِضِ عَلَى الطُّهْرِ بِقَوْلِهِ {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ: تَطَهَّرْت اكْتَفَى بِذَلِكَ وَجَازَ الْوَطْءُ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ إبَاحَةُ الْعَقْدِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا عَلَى أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا قَالَتْ: تَزَوَّجْت اكْتَفَى بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ قَوْلُهَا إلَّا الظَّنَّ. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا قَامَ عَلَى الْعَمَلِ بِالظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ الْأَوْصَافِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْقَاطِعَ لَا يَخْتَصُّ دَلَالَتُهُ فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْمَظْنُونِ حَيْثُ تَحَقَّقَتْ. وَتَوَسَّطَ الْمُقْتَرَحُ فَقَالَ: لَا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِوُجُودِهَا إلَّا إذَا كَانَتْ وَصْفًا حَقِيقِيًّا كَالْإِسْكَارِ، أَمَّا الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ فَيَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ بِحُصُولِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الْوَصْفِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الْعُرْفِيِّ وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الشَّرْعِيِّ بِالِاكْتِفَاءِ بِالظَّنِّ. وَ (مِنْهَا) حُصُولُ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُودِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ. هَكَذَا شَرَطَ بَعْضُهُمْ. وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ حَصَلَ الْغَرَضُ. وَ (مِنْهَا) أَنْ لَا تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ. وَالْحَقُّ جَوَازُهَا لِجَوَازِ أَنْ

يَكُونَ مَذْهَبُهُ لِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ أَصْلٍ آخَرَ. وَ (مِنْهَا) أَنْ تَكُونَ مُتَّحِدَةً فِي الْأَصْلِ أَيْ لَا يَكُونُ مَعَهَا عِلَّةٌ أُخْرَى، ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارِهِ فِي مَنْعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ. وَ (مِنْهَا) إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ وُجُودَ مَانِعٍ أَوْ انْتِفَاءَ شَرْطٍ فَشَرَطَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ الْآمِدِيُّ وَصَاحِبُ التَّنْقِيحِ وُجُودَ الْمُقْتَضَى. وَالْمُخْتَارُ - وِفَاقًا لِلرَّازِيِّ - أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، كَقَوْلِنَا: الزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ بِدَلِيلِ عَدَمِهَا فِي اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ. ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ - وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ - هَذَا الْخِلَافُ مُفَرَّعٌ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، لِإِمْكَانِ اجْتِمَاعِ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَانِعِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ مَنَعْنَاهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا الْخِلَافُ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْمَانِعِ حِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِبَيَانِ الْمُقْتَضَى أَمْ لَا. وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ عَلَّلَ عَدَمَ الْحُكْمِ بِفَوَاتِ شَرْطٍ وَمَنَعَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَقَالَ بِمَجِيءِ الْخِلَافِ وَإِنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّخْصِيصِ يَقُولُ: مَا يُسَمُّونَهُ بِالْمَانِعِ مُقْتَضٍ عِنْدِي لِلْحُكْمِ بِالْعَدَمِ، فَقَتْلُ الْمُكَافِئِ فِي غَيْرِ الْأَبِ هُوَ الْعِلَّةُ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ وَقَتْلُ الْأَبِ بِخُصُوصِهِ هُوَ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ الْإِيجَابِ، وَيَعُودُ حِينَئِذٍ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا. وَ (مِنْهَا) إذَا أَثَّرَتْ الْعِلَّةُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأُصُولِ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَصْلَ الْعِلَّةِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُعْتَبَرُ تَأْثِيرُهَا فِي الْأَصْلِ، قَالَهُ الشَّيْخُ فِي التَّبْصِرَةِ. مَسْأَلَةٌ فِي جَوَازِ تَعْلِيلِ الشَّيْءِ بِجَمِيعِ أَوْصَافِهِ خِلَافٌ - حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ - مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْعِلَّةِ التَّعَدِّي فَمَنْ شَرَطَهُ مَنَعَهَا هُنَا، وَمَنْ جَوَّزَهُ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) لَا يَصِحُّ لِأَنَّ حَقَّ الْعِلَّةِ التَّأْثِيرُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ بَعْضَ الْأَوْصَافِ دُونَ بَعْضٍ، فَتَعْلِيلُهُ بِجَمِيعِهَا لَا يَصِحُّ فَلَوْ اتَّفَقَ أَنَّ جَمِيعَهَا مُؤَثِّرَةٌ جَازَ. و (الثَّانِي) يَصِحُّ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ لَا يَتَعَدَّى، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا. مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا - كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ - فِي الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ إذَا احْتَاجَتْ إلَى تَقْدِيمِ أَسْبَابٍ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ كَالزِّنَى الْمُوجِبِ لِلرَّجْمِ بِشَرْطِ وُجُودِ الْإِحْصَانِ، وَتَكْمِيلِ جَلْدِ الزِّنَى مِائَةً بِشَرْطِ وُجُودِ الْحُرِّيَّةِ. فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يَكُونُ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ، لِسُقُوطِهِ عِنْدَ عَدَمِ بَعْضِهَا كَمَا يَسْقُطُ عِنْدَ عَدَمِ جَمِيعِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِلَّةُ هِيَ الْوَصْفُ الْجَالِبُ لِلْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا فَعِلَّةُ الرَّجْمِ وَتَكْمِيلِ الْحَدِّ وُجُودُ الزِّنَى دُونَ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِحْصَانِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى وَشَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ بِالْحُرِّيَّةِ أَوْ بِالْإِحْصَانِ، وَوَقَعَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ الْكُلُّ عَنْ شَهَادَتِهِمْ إنَّ الضَّمَانَ عَلَى شُهُودِ الزِّنَى دُونَ شُهُودِ الْإِحْصَانِ، وَقَالُوا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَمْسِ، فَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ كَانَ قَدْ جَنَى أَوَّلَ أَمْسِ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ، فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي الدِّيَةَ وَجَعَلَهُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ كُلُّهُمْ، إنَّ ضَمَانَ الدِّيَةِ عَلَى شُهُودِ الْجِنَايَةِ وَضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَلْزَمَهُ الدِّيَةَ بِشَهَادَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلدِّيَةِ أَكْثَرَ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ: إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى وَشَاهِدَانِ بِالْإِحْصَانِ فَرُجِمَ، ثُمَّ رَجَعَ

وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ سُدُسُ الدِّيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ مَجْمُوعَ الْإِحْصَانِ وَالزِّنَى عِلَّةً لِلرَّجْمِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ فَعَلَيْهِمْ ثُلُثُ الدِّيَةِ، أَوْ شُهُودُ الزِّنَى فَثُلُثَاهَا، وَهَذَا إذَا كَانَ شُهُودُ الزِّنَى غَيْرَ شَاهِدَيْ الْإِحْصَانِ فَإِنْ كَانَا مِنْ شُهُودِ الزِّنَى فَعَلَيْهِمَا بِرُجُوعِهِمَا عَنْ شَهَادَةِ الْإِحْصَانِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَبِرُجُوعِهِمَا عَنْ شَهَادَةِ الزِّنَى ثُلُثَا الدِّيَةِ وَإِنْ شَهِدَ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الْإِحْصَانِ وَالزِّنَى فَالْحُكْمُ وَاضِحٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا إذَا كَانَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ غَيْرَ شُهُودِ الزِّنَى، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَقِيلَ: إنْ رَجَعُوا كُلُّهُمْ فَعَلَى هَؤُلَاءِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَى الْآخَرِينَ النِّصْفُ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَوْصَافَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ. قُلْت: وَالرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ لَا يَغْرَمُونَ (قَالَ) : وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي شُهُودِ الْعِتْقِ وَشُهُودِ الْجِنَايَةِ فِي الْعَبْدِ فَإِذَا رَجَعُوا كُلُّهُمْ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ عَلَى شُهُودِ الْجِنَايَةِ، وَضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ، وَأَبْطَلَ أَبُو ثَوْرٍ الْعِتْقَ. مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَصْفًا لَازِمًا بِالْإِجْمَاعِ، كَتَعْلِيلِنَا تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْمَطْعُومَاتِ بِإِمْكَانِ الطُّعْمِ مِنْهَا، وَكَتَعْلِيلِ أَهْلِ الرَّأْيِ تَحْرِيمَ النِّسَاءِ بِالْجِنْسِ وَحْدَهُ، نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفًا غَيْرَ لَازِمٍ لِلْمَعْلُومِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُرَكَّبَةً مِنْ أَوْصَافٍ بَعْضُهَا لَازِمٌ وَبَعْضُهَا ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ أَوْ الْعَادَةِ، كَتَعْلِيلِنَا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْجِنْسِ، وَكَوْنُهُ نَقْدًا عَامًّا، وَالْجِنْسُ: وَصْفٌ لَازِمٌ، وَكَوْنُهُ عَامًّا: بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.

مَسْأَلَةٌ قَالَ صَاحِبُ اللُّبَابِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ ذَاتَ وَصْفَيْنِ وَوُجِدَا عَلَى التَّعَاقُبِ، أَوْ شَرَطَ ذُو وَصْفَيْنِ، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْحُكْمُ مَنْسُوبٌ إلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْطِ آخِرُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْأَثَرِ، وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَعْقُبُ الْحُكْمَ. وَبَنَوْا عَلَى هَذَا مَسَائِلَ، مِنْهَا: شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا وُجُودًا، فَصَارَ الشِّرَاءُ مُعْتِقًا. وَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَ جَمَاعَةٌ فِي سَفِينَةٍ شَيْئًا فَغَرِقَتْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى آخِرِهِمْ وَضْعًا، وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْمُثَلَّثِ حَرَامٌ إلَى حَالَةِ السُّكْرِ، ثُمَّ إذَا أَسْكَرَ الْقَدَحُ الْعَاشِرُ كَانَ هُوَ الْحَرَامُ لَا غَيْرُهُ، وَإِنْ حَصَلَ السُّكْرُ بِشُرْبِ الْجَمِيعِ، لَكِنَّ هَذَا آخِرُهَا وُجُودًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُضَافُ إلَى آخِرِهَا بَلْ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا جُزْءَا عِلَّةٍ. قُلْت: وَالْخِلَافُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِيمَا لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فِي دَفَعَاتٍ هَلْ يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِالطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ وَحْدَهَا بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثِ؟ وَجْهَانِ، وَفَائِدَتُهُمَا فِيمَا لَوْ شَهِدُوا بِالثَّالِثَةِ ثُمَّ رَجَعُوا هَلْ يَكُونُ الْغُرْمُ بِجُمْلَتِهِ عَلَيْهِمْ أَوْ ثُلُثُهُ فَقَطْ. مَسْأَلَةٌ تَنْقَسِمُ الْعِلَّةُ إلَى مَا يُفِيدُ الْأَثَرَ فِي الْحَالِ، كَإِفْضَاءِ الْكَسْرِ إلَى الِانْكِسَارِ، وَالْحَرْقِ إلَى الْإِحْرَاقِ، وَإِلَى مَا يُفِيدُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ، كَاقْتِضَاءِ الزِّرَاعَةِ وَالْغِرَاسَةِ حُصُولَ الْغَلَّةِ وَالثَّمَرَةِ، وَكَإِفْضَاءِ الطَّلَاقِ [إلَى] حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ الْعِلَّةُ تَارَةً تُفِيدُ الْمَعْلُولَ بِلَا شَرْطٍ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَتَارَةً لَا تُفِيدُهُ إلَّا مَعَ الشَّرْطِ كَإِفْضَاءِ التَّعْلِيقِ [إلَى] وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَلَكِنَّ السَّابِقَ عَلَى الشَّرْطِ لَا يَكُونُ عِلَّةً إلَّا لِلْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ الْأَثَرُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ مِنْهَا مَا يُفِيدُ الْمَعْلُولَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ،

وَتَارَةً لَا يُفِيدُهُ إلَّا بِوَاسِطَةٍ، كَاقْتِضَاءِ قَطْعِ الْيَدِ الزُّهُوقَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي السِّرَايَةِ، ثُمَّ تُفِيدُ السِّرَايَةَ أَثَرًا آخَرَ، أَوْ آثَارًا يَنْشَأُ مِنْهَا زُهُوقُ الرُّوحِ، وَمَتَى بَطَلَتْ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ بَطَلَ اقْتِضَاءُ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ مِنْ حَيْثُ التَّحْقِيقُ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَسْتَدِلُّ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى عَلَى الْمَعْلُولِ الثَّانِي وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ انْتِفَاءُ الْوَاسِطَةِ، قَالَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِ الْفُصُولِ: وَهُوَ خَطَأٌ يَأْبَاهُ الْعَقْلُ (قَالَ) وَكَانَ شَيْخُنَا رُكْنُ الدِّينِ الطَّاوُسِيُّ يَقُولُ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخْبَرَنَا وَسَطَ النَّهَارِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي مَوْضِعٍ عَلَّقَ رَجُلٌ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ آخَرُ: يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ هُنَا، لِأَنَّ إخْبَارَ الرَّجُلِ اقْتَضَى غُرُوبَ الشَّمْسِ، وَغُرُوبُ الشَّمْسِ مُسْتَلْزِمٌ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ بِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ اقْتِضَاءَ الْإِخْبَارِ الْوُقُوعَ إنَّمَا كَانَ بِوَاسِطَةِ ثُبُوتِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ، فَلَمَّا بَطَلَتْ الْوَاسِطَةُ بَطَلَ الِاقْتِضَاءُ. مَسْأَلَةٌ الْعِلَّةُ تَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: (أَحَدُهَا) مَا يَكُونُ عِلَّةً لِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ وَاسْتِدَامَتِهِ كَالرَّضَاعِ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ، وَكَالْإِيمَانِ وَعَدَمِ الْمِلْكِ فِي الْمَنْكُوحَةِ. (الثَّانِي) مَا تَكُونُ عِلَّةً لِلِابْتِدَاءِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ، كَالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ هُمَا عِلَّتَانِ فِي مَنْعِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ، وَكَعَدِمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ وَعَدَمِ الْإِحْرَامِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلَلِ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، مِنْهُمْ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ وَإِلْكِيَا وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُمْ، وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ

وَنَقْضِهَا، وَالْعِدَّةُ وَالرِّدَّةُ إنَّمَا جُعِلَتَا عِلَّةً فِي مَنْعِ ابْتِدَاءِ عِلَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُمَا عِلَّةٌ فِي مَنْعِ ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَمْ يُجْعَلَا عِلَّةً فِي مَنْعِ الِاسْتِدَامَةِ، فَلَا يُقَالُ: إنَّ اسْتِدَامَتَهُ تَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَشْبَهَهُ. (الثَّالِثُ) : عَكْسُهُ، كَالطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُهُ، إذْ الطَّلَاقُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ نِكَاحٍ جَدِيدٍ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا أَنَّ الْعِلَلَ عَلَى حَسَبِ مَا رَتَّبَهَا اللَّهُ وَنَصَبَهَا، فَإِنْ نَصَبَهَا لِلِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، كَانَتْ لَهُ. وَقَدْ أَطَالَ أَصْحَابُنَا الْكَلَامَ مَعَ الْمُزَنِيّ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ، هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ؟ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى انْفِسَاخِهِ كَالِابْتِدَاءِ، وَنَاقَضَ فِي ذَلِكَ فَجَوَّزَهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَنَتِ وَهُوَ لَا يَحِلُّ فِي الِابْتِدَاءِ. فَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ مَا نَصَبَهُ تَعَالَى دُونَ الِاشْتِغَالِ بِأَعْيَانٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ مُضْطَرًّا فِي الِابْتِدَاءِ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِي الِانْتِهَاءِ، هَلْ يَأْكُلُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ؟ فَخَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ يَأْكُلُ، وَ (الثَّانِي) لَا، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ ارْتَفَعَتْ الْعِلَّةُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا: الشَّيْءُ إذَا أُبِيحَ لِمَعْنَيَيْنِ فَارْتَفَعَ أَحَدُهُمَا هَلْ يُبَاحُ أَوْ يَرْجِعُ إلَى الضِّدِّ؟ وَقِيلَ: لَا حَتَّى يَرْتَفِعَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا. وَعِنْدَنَا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا نُصِبَ لَهُ قُلْت: وَهَذَا الْخِلَافُ حَكَاهُ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ إذَا وَجَبَ بِعِلَّتَيْنِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. مَسْأَلَةٌ فِي تَعَدُّدِ الْعِلَلِ مَعَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَعَكْسِهِ: يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ الْمُخْتَلِفِ بِالْجِنْسِ لِشَخْصٍ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، كَتَعْلِيلِ إبَاحَةِ قَتْلِ

زَيْدٍ بِرِدَّتِهِ، وَعَمْرٍو بِالْقِصَاصِ، وَخَالِدٍ بِالزِّنَى وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ فِيهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالْآمِدِيَّ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَلَامُ الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ ظَاهِرٌ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ فِيهِ. وَلَا وَجْهَ لَهُ. وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلٌّ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ فِي إبَاحَةِ الدَّمِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إسْلَامٍ، أَوْ زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ فِي شَخْصٍ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِهِ بِعِلَلٍ عَقْلِيَّةٍ، كَذَا قِيلَ، لَكِنْ لِأَهْلِ الْكَلَامِ فِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ثُمَّ قَالَ: اخْتَلَفُوا إذَا وَجَبَ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ بِعِلَّتَيْنِ، فَقِيلَ: لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِارْتِفَاعِهِمَا جَمِيعًا: وَقِيلَ: يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ إحْدَاهُمَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا عِلَلًا بِذَلِكَ مِنْ خَارِجٍ، هَلْ يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِهَا؟ كَمُحْصَنٍ زَنَى وَقَتَلَ، فَإِنَّ الزِّنَى يُوجِبُ الْقَتْلَ بِمُجَرَّدِهِ، فَهَلْ تُعَلَّلُ إبَاحَةُ دَمِهِ بِهِمَا مَعًا أَمْ لَا؟ وَكَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، هَلْ تُعَلَّلُ نَجَاسَتُهُ بِهِمَا مَعًا أَمْ لَا؟ وَكَتَحْرِيمِ وَطْءِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُحْرِمَةِ الْحَائِضِ عَلَى مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، مَنْصُوصَةً وَمُسْتَنْبَطَةً، وَبِهِ جَزَمَ الصَّيْرَفِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِهِمْ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ الْقَاضِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ مَذْهَبِهِمَا. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَنَظِيرُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيرُ الْعُمُومِ فِي نَفْيِ الْإِجْزَاءِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْعُمُومِ الشَّرْعِيِّ وَالْحِسِّيِّ جَمِيعًا، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الشَّرْعِيِّ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحِسِّيِّ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيرُ اجْتِمَاعِهِمَا. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِهَذَا نَقُولُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَلَ عَلَامَاتٌ وَأَمَارَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ، لَا مُوجِبَةٌ لَهَا، فَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ. هَذَا لَفْظُهُ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ: إنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ: كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ مِنْ الْأُمِّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ مُصَرِّحٌ بِجَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُ عُمَرَ: نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ. وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ لِإِجْلَالِهِ لِذَاتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَكَيْفَ وَهُوَ يَخَافُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَدَمُ عِصْيَانِهِ مُعَلَّلًا بِالْخَوْفِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا بِعِلَّتَيْنِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلَّةٌ فِي التَّعْلِيلِ وَيُقْصَرُ عَلَى إحْدَاهُمَا لِنُكْتَةٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَنْفِرُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا بَلْ تَحْرِيمُ الضِّعْفِ كَتَحْرِيمِهِ مُضَاعَفًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ قُبَيْلَ مَا جَاءَ فِي الصَّرْفِ ": " إذَا شُرِطَ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ السَّقْيُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَالْمَبِيعُ فَاسِدٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ السَّقْيَ مَجْهُولٌ وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا أَبْطَلْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ " انْتَهَى فَالْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ مَوْجُودٌ مَعَ الْجَهَالَةِ وَعَدَلَ عَنْ التَّعْلِيلِ بِهَا فِي الْحَالَتَيْنِ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِلْبُطْلَانِ

بِالْجَهَالَةِ أَقْرَبُ إلَى الْأَفْهَامِ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّنْزِيلُ لَكَانَ فِي هَذَا النَّصِّ لَمْحٌ لِمَنْعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ، قُلْت: وَقَدْ قَالَ فِي، الْأُمِّ، وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ النَّاظِرِينَ: أَفَتَحْكُمُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ؟ ". قُلْت: نَعَمْ إذَا اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهُ قَالَ: فَاذْكُرْ مِنْهُ شَيْئًا، قُلْت: قَدْ يُقِرُّ الرَّجُلُ عِنْدِي عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَقِّ أَوْ لِبَعْضِ الْآدَمِيِّينَ فَآخُذُهُ بِإِقْرَارِهِ، أَوْ لَا يُقِرُّ فَآخُذُهُ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَيْهِ، أَوْ لَا تَقُومُ عَلَيْهِ فَيُدَّعَى عَلَيْهِ فَآمُرُهُ أَنْ يَحْلِفَ فَيَمْتَنِعُ، فَآمُرُ خَصْمَهُ أَنْ يَحْلِفَ فَآخُذُهُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَخَصْمُهُ إذَا أَتَى بِالْيَمِينِ الَّتِي تُبَرِّئُهُ ". انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ جَوَابُ أَحْمَدَ فِي خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ وَقَدْ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ كَالنَّصِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَادِثَةِ نَصَّانِ فَأَكْثَرُ، وَلِأَنَّهَا أَمَارَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَيَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْأَمَارَاتِ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ فِي الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالْمَنْصُوصَةِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلِلْقَاضِي إلَيْهِ صَغْوٌ ظَاهِرٌ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ وَهَذَا هُوَ عُمْدَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي نَقْلِهِ هَذَا الْمَذْهَبَ فِي " مُخْتَصَرِهِ " عَنْ الْقَاضِي، فَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي التَّقْرِيبِ لَهُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ يُرْشِدُ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ فِي الْمُسْتَصْفَى وَإِنْ كَانَ أَطْلَقَ صَرِيحَ الْجَوَازِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ إطْلَاقًا وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ فِي الْوَسِيطِ فِي الْكَلَامِ عَلَى زَوَائِدِ الْبَيْعِ: الْحُكْمُ الْوَاحِدُ قَدْ يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ لِاحْتِمَالِ إرَادَةِ تَنْزِيلِهِ عَلَى الْمَنْصُوصَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ مَا يُرِيدُهُ الْفَقِيهُ مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْوَصْفَيْنِ صَالِحٌ لِإِفَادَةِ الْحُكْمِ، وَمُرَادُهُ فِي الْمُسْتَصْفَى امْتِنَاعُ حُصُولِ الْعُرْفَانِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ، أَوْ التَّأْثِيرُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْعِلَّةَ مُؤَثِّرَةٌ بِجَعْلِ اللَّهِ وَالْحَاصِلُ

أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي كُلِّ فَنٍّ بِحَسَبِهِ فَلَا تَظُنُّهُ تَنَاقُضًا. وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ. حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ الْمُنِيرِ فِي شَرْحِهِ لِلْبُرْهَانِ وَقَدْ اُسْتُغْرِبَتْ حِكَايَتُهُ، وَسَيَأْتِي لَهُ نَظِيرٌ فِي النَّقْضِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ: إنْ لَمْ تَكُنْ إحْدَاهُمَا عِلَّةَ حُكْمِ الْأَصْلِ جَازَ، كَاسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ لِلرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ، وَفَسَادِ الصَّلَاةِ لِلْحَدَثِ وَالْكَلَامِ إذَا وُجِدَا مَعًا. وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا دَلِيلًا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَاسَ بِهَا عَلَى أَصْلٍ آخَرَ فَهِيَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِهِ: إنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ لَوْ انْفَرَدَتْ لَكَانَتْ صَحِيحَةً فَاجْتِمَاعُهُمَا غَيْرُ مُضِرٍّ وَلَا مَانِعَ مِنْ التَّعْلِيلِ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْإِيرَادُ يُبَيِّنُ جَانِبَ التَّعْلِيلِ وَعِنْدَ التَّعَدُّدِ يَقَعُ الشَّكُّ فِي النَّفْسِ، فَيَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ لَا لِضِيقِ الْمَحَلِّ عَنْ الْعِلَلِ، فَأَمَّا الْعِلَلُ الْمُؤَثِّرَةُ فَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهَا، وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُلَائِمُ فَيَنْبَنِي عَلَى قَبُولِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُرْسَلِ: فَمَنْ رَدَّهُ كَانَ تَعَدُّدُ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مُخِلًّا بِالشَّهَادَةِ، وَمِنْ قَبْلِهِ لَمْ يَضُرَّ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ حُكْمٌ عَلَى وَفْقِهِ، فَكَيْفَ إذَا وَرَدَ عَلَى الْوَفْقِ. وَقَالَ ابْنُ رَحَّالٍ السَّكَنْدَرِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْخِلَافُ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّعْلِيلِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَرَادَ مَعْنًى غَيْرَ مَا أَرَادَ الْآخَرُ فَلَا خِلَافَ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالتَّعْلِيلِ نَصْبُ الْأَمَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّعْلِيلِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْوَصْفِ

فَهُوَ جَائِزٌ فِي صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِحَيْثُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ صُورَةٍ لِعِلَّةٍ، فَأَمَّا ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِعِلَلٍ كُلٌّ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ فِيهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ. انْتَهَى. التَّفْرِيعُ إنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْوُقُوعِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ جَائِزٌ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَأَرَادَ بِالْجَوَازِ الْعَقْلِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْبُرْهَانِ: لَيْسَ مُمْتَنِعًا عَقْلًا وَتَسْوِيغًا وَنَظَرًا إلَى الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ، وَلَكِنَّهُ يَمْتَنِعُ شَرْعًا. وَجَرَى عَلَيْهِ إلْكِيَا وَقَالَ: إنَّ الْمَانِعَ لَهُ اسْتِقْرَاءُ عُرْفِ الشَّرْعِ لَا الْعَقْلِ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ: إنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْإِمَامِ - أَخِيرًا هُوَ الْمَنْعُ يَعْنِي كَمَا نَقَلَهُ الْآمِدِيُّ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ وَحَكَى الْهِنْدِيُّ قَوْلًا عَكْسَ مَقَالَةِ الْإِمَامِ فَقَالَ: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَجُوزُ عَقْلًا وَلَمْ يَقَعْ سَمْعًا، وَقِيلَ بِعَكْسِهِ. وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ بِوُقُوعِهِ إنْ دَلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ وَإِلَّا فَلَا لِتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَيْنِ، فَلَا يَحْكُمُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ. وَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَلَوْ اجْتَمَعَتْ كَاللَّمْسِ وَالْمَسِّ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ قَوْمٌ: كُلُّ وَاحِدٍ جُزْءُ عِلَّةٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لَا بِعَيْنِهِ حَذَرًا مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إذَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْحَاجِبِ فَحَكَى هَذَا الْخِلَافَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ. وَالْمَعْرُوفُ اتِّفَاقُ الْمُجَوِّزِينَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةٌ وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ. نَعَمْ، قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: اتَّفَقُوا عِنْدَ التَّرْتِيبِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُسْتَنِدٌ إلَى الْأُولَى فَقَطْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا وَقَعَتْ دَفْعَةً، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ - وَهُوَ مِنْ الْمَانِعِينَ - إنْ قِيلَ: لَوْ وُجِدَتْ الْعِلَّتَانِ فِي حُكْمٍ فَمَاذَا يَعْمَلُ؟ قِيلَ: لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا عِلَّةً

بَاطِلَةً، أَوْ إحْدَاهُمَا رَاجِحَةً، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَافِي، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ تَسَاوِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانٌ انْتَهَى. ثُمَّ الَّذِينَ مَنَعُوا الِاجْتِمَاعَ فِي الْعِلَّةِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَأْخَذِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَفِي بِمُقْتَضَيَاتِ الْعِلَلِ، لِأَنَّ مُقْتَضَيَاتِهَا الْأَمْثَالُ، وَالْأَمْثَالُ - كَالْأَضْدَادِ - لَا تَجْتَمِعُ، فَعَلَى هَذَا يَمْتَنِعُ فِي الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ يَفِي بِمُقْتَضَيَاتِهَا وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ شَهَادَةُ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ هُوَ الْعِلَّةُ، أَوْ يَكُونَ الْعِلَّةُ بَعْضَ الْمَجْمُوعِ دُونَ بَعْضٍ، فَيَتَعَارَضُ الِاحْتِمَالَانِ فِي الشَّهَادَةِ بِالِاسْتِقْلَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا يَجْتَمِعُ فِي الْمَنْصُوصَةِ وَيَمْتَنِعُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ لِلِاجْتِمَاعِ مِنْ نَاحِيَةِ مُقْتَضَاهَا فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ مِثْلِ الْحَائِضِ الْمُحْرِمَةِ الصَّائِمَةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مُقْتَضَيَاتُهَا أَحْكَامٌ عَدِيدَةٌ: قِيلَ: حُكْمٌ ذُو وَجْهَيْنِ، وَالتَّعَدُّدُ بِالْجِهَةِ كَالتَّعَدُّدِ بِالتَّعْيِينِ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا الْمَجْمُوعُ عِلَّةٌ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْعِلَلَ لَا يَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُهَا عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ مُقْتَضَيَاتِهَا وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ الشَّهَادَةِ لَهَا أَحْيَانًا، فَإِنْ الْتَبَسَتْ الشَّهَادَةُ لِأَعْدَادِهَا، كَمَا عَلَى صِحَّةِ الِاجْتِمَاعِ أَنَّ الْمُصَحَّحَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ - وَهُوَ انْتِظَامُ الْمَصْلَحَةِ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ - حَاصِلٌ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْأَوْصَافِ بَلْ لِتَحْصُلَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَصَالِحُ فَهُوَ بِالصِّحَّةِ أَوْلَى. وَقَدْ أَوْرَدَ الْمَانِعُونَ إشْكَالًا وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِعِلَلٍ فَإِمَّا: [1] أَنْ يَثْبُتَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا. [2] أَوْ لَا شَيْءَ. [3] أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَ شَيْءٍ، وَالْأَقْسَامُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ: أَمَّا [الْأَوَّلُ] فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إثْبَاتُ الثَّابِتِ وَأَمَّا [الثَّانِي] فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ سَلْبُ الْعِلَّةِ عَنْ الْكُلِّ. وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلْغَرَضِ. وَأَمَّا [الثَّالِثُ] فَيَلْزَمُ مِنْهُ الِاحْتِكَامُ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَاتِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ. ثُمَّ يَلْزَمُ سَلْبُ الْعِلَّةِ فِيمَا فَرَضْنَاهُ عِلَّةً وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَجَابَ الْحُذَّاقُ بِاخْتِيَارِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُمْ يَلْزَمُ إثْبَاتُ الثَّابِتِ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّ الْعِلَلَ

الشَّرْعِيَّةَ مُعَرِّفَاتٌ وَوَقَفُوا هَاهُنَا. وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْمُنِيرِ: وَلِلْمَانِعِ أَنْ يُدِيرَ التَّقْسِيمَ مَعَ فَرْضِ كَوْنِهَا مُعَرِّفَاتٍ فَيَقُولُ؛ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلْمُعَرِّفَةِ، فَعَلَى هَذَا إنَّمَا تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَثْبَتَتْ الْمَعْرِفَةَ بِالْحُكْمِ. أَوْ لَمْ يُثْبِتْ شَيْءٌ مِنْهَا الْمَعْرِفَةَ، أَوْ أَثْبَتَهَا الْبَعْضُ، فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ حَصَلَ مِنْ إلْحَاقِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْعَقْلِيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إذَا نُسِبَ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ وُجِدَتْ مَصْلَحَةٌ أَوْ انْدَفَعَتْ مَفْسَدَةٌ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَتَخَيَّلُ عَاقِلٌ امْتِنَاعَ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ فَإِنَّ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْحُكْمُ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْأَوْصَافِ تَحْصُلُ مَفَاسِدُ عَدِيدَةٌ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قِيلَ: الْخِلَافُ هَلْ يَجْرِي فِي التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ سَوَاءٌ، كَانَا مُتَعَاقِبَيْنِ أَمْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَعِيَّةِ؟ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ صَرِيحٌ فِي الْأَوَّلِ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الثَّانِيَ، وَيُسَاعِدُهُ تَمْثِيلُ الْغَزَالِيِّ بِمَنْ لَمَسَ وَبَالَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَبِهِ صَرَّحَ الْآمِدِيُّ فِي جَوَابِ دَلِيلِ الْمَانِعِينَ. قُلْت: وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلَلِ ضَرْبَانِ مُتَقَارِنَةٌ وَمُتَعَاقِبَةٌ، فَالْمُتَعَاقِبَةُ تَجْتَمِعُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَتْ لَأَوْجَبَتْ مِثْلَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمُتَعَاقِبَةِ لَا تَجْتَمِعُ فِي الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ دَمِ الْحَيْضِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ الدَّمُ وَيَبْقَى تَحْرِيمُ الْوَطْءِ، لِأَجْلِ عَدَمِ الطَّهَارَةِ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي كِتَابِ النُّكَتِ: وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَمْنَعُ جَوَازَ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ عَلَى الْجَمْعِ، وَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّتَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ.

الثَّانِي زَعَمَ صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْنَعُ قِيَامَ وَصْفَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ لَاسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ، لَكِنْ هَلْ نَقُولُ: الْحُكْمُ مُضَافٌ إلَيْهِمَا أَمْ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ فِي الْمَحَلِّ حُكْمَانِ؟ [قَالَ] : وَيَجْتَمِعُ لِلْأَصْحَابِ فِيهَا أَرْبَعَةٌ: [أَحَدُهَا] تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُطْلَقًا. وَ [الثَّانِي] التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ. وَ [الثَّالِثُ] أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ حُكْمَا الْعِلَّتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَحْدَاثِ إذَا نَوَى أَحَدُهَا لَمْ يَرْتَفِعْ مَا عَدَاهُ. وَ [الرَّابِعُ] أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا كَانَتَا كَوَصْفَيْنِ، فَهُمَا هُنَاكَ عِلَّةٌ وَفِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ عِلَّتَانِ. وَالثَّالِثُ إذَا قُلْنَا: بِالْجَوَازِ فَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَتَنَافَيَا، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ بِأَنْ تَقْتَضِيَ إحْدَاهُمَا إثْبَاتَ حُكْمٍ وَالْأُخْرَى نَفْيَهُ، بَلْ وَيَتَضَادَّانِ بِالْإِجْمَاعِ كَتَعْلِيلِ الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلٌ، وَبِأَنَّهُ قُوتٌ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا قَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُعَلَّلُ إلَّا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَ التَّنَافِي، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُتَعَدِّيَةً وَالْأُخْرَى قَاصِرَةً فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقِيلَ: يَتَنَافَيَانِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ، وَهَذَا إنْ قُلْنَا: إنَّ التَّعَدِّيَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، قَالَ الْبَاجِيُّ: هَذَا الْخِلَافُ جَارٍ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُتَّفِقَةً فِي التَّعَدِّي وَعَدَمِهِ أَوْ بَعْضُهَا مُتَعَدٍّ وَبَعْضُهَا قَاصِرٌ انْتَهَى وَرَأَيْت فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: إذَا أَقْبَلَتْ الدُّنْيَا عَلَيْك فَأَنْفِقْ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَأَنْفِقْ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى فَعَلَّلَ الْإِنْفَاقَ - وَهُوَ حُكْمٌ وَاحِدٌ - بِالْإِقْبَالِ

وَالْإِدْبَارِ. وَقَالَ آخَرُ: إنْ كَانَ رِزْقُك قُسِمَ فَلَا تَتْعَبْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُسِمَ فَلَا تَتْعَبْ، فَعَلَّلَ تَرْكَ التَّعَبِ بِقَسْمِ الرِّزْقِ وَعَدَمِهِ. فَهَذِهِ الْعِلَّةُ وَإِنْ تَقَابَلَتْ وَتَضَادَّتْ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْحُكْمِ مِنْ وَجْهٍ. الرَّابِعُ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ مَثَّلَ الْمَسْأَلَةَ فِي كُتُبِهِ بِالْمَرْأَةِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْإِحْرَامُ وَالْحَيْضُ وَالصَّوْمُ، وَغَلَّطَهُ الْإِبْيَارِيُّ لِاسْتِحَالَةِ مُجَامَعَةِ الصَّوْمِ شَرْعًا لِلْحَيْضِ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ بِإِمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي حَقِّ مَنْ انْقَطَعَ دَمُهَا قَبْلَ الْفَجْرِ فَثَبَتَ الصَّوْمُ وَلَمْ تَغْتَسِلْ، وَهَذَا صَوْمٌ صَحِيحٌ وَحُكْمُ الْحَيْضِ - بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ بَاقٍ حَتَّى تَغْتَسِلَ عَلَى الصَّحِيحِ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ. فَإِنْ قُلْت: الْحَيْضُ غَيْرُ مَوْجُودٍ حَقِيقَةً، قُلْت: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى صُورَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اسْتِصْحَابِهِ حُكْمًا، كَمَا أَنَّ الْإِحْرَامَ عِلَّةٌ فِي إبْقَاءِ الْحَجِّ مَعْقُودًا لَا حُكْمُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِمَامُ أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا وَصْفَانِ وَيَعْتَرِيهَا حَالَتَانِ مُقْتَضَيَانِ لِلتَّحْرِيمِ، إمَّا إحْرَامٌ وَحَيْضٌ أَوْ إحْرَامٌ وَصَوْمٌ وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ فِي الْبُرْهَانِ مَثَّلَ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ بِعِلَّةِ الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ، وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ. فَمُرَادُهُ اجْتِمَاعُ وَصْفَيْنِ مِنْ ذَلِكَ كَالصِّيَامِ مَعَ الصَّلَاةِ، أَوْ الْإِحْرَامِ مَعَ الْحَيْضِ، لَا أَنَّ الْأَرْبَعَةَ تَجْتَمِعُ. الْخَامِسُ الْقَائِلُونَ بِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ كَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، لَا بِعَيْنِهَا، عِلَّةً. حَذَرًا مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إذَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً.

وَمِنْ اللَّطِيفِ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49] : فَقِيلَ: فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْبَعْضِ تَعْظِيمُ قَدْرِ الذَّنْبِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَ ذُنُوبِهِمْ كَافٍ فِي إهْلَاكِهِمْ. وَقِيلَ: فَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعُقُوبَاتِ فَكَانَ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ يُوجِبُ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا، وَبَعْضُهَا يُوجِبُ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ. فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِيهَا تَمَسُّكٌ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُسْتَقِلَّةَ إذَا انْفَرَدَتْ تَكُونُ عِلَّةً مِنْهَا إذَا اجْتَمَعَتْ وَاحِدَةٌ لَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ صَدَرَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ كُلِّ سَبَبٍ مِنْهَا لَوْ انْفَرَدَ لَاسْتَقَلَّ بِالْهَلَاكِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ اسْمُهُ أَنَّ السَّبَبَ مِنْهَا فِي الْإِصَابَةِ بِالْعُقُوبَاتِ وَالْإِهْلَاكِ بَعْضُهَا، لَا كُلُّهَا وَالْبَاقِي فَاتَ مَحَلُّ تَأْثِيرِهِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْقَوْلِ بِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ. السَّادِسُ: قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ إثْبَاتِ الْقِيَاسِ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا اسْتَنْبَطَ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَسُبِرَا فَصَحَّا مَا السَّبِيلُ فِي ذَلِكَ؟ قِيلَ: إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ كَدُخُولِ الْمَأْكُولِ الْمُدَّخَرِ فِي الْمَأْكُولِ غَيْرِ الْمُدَّخَرِ نُظِرَ فِي زِيَادَةِ الزَّائِدِ فَاعْتُبِرَ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي تَعْلِيلِ الرِّبَوِيِّ. وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَيَانِ مُتَضَادَّيْنِ اُحْتِيجَ إلَى قِيَاسِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا لِيُعْلَمَ أَيُّهُمَا أَصَحُّ وَذَلِكَ مِثْلُ تَخْيِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِيرَةَ لَمَّا عَتَقَتْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: خَيَّرَهَا لِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:

بَلْ كَانَ حُرًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أُبَالِي أَكَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا. وَإِنَّمَا خَيَّرَهَا لِحُدُوثِ الْعِتْقِ، فَأَمَّا كَوْنُهُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَيُدْرَكُ بِالْخَبَرِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ خَيَّرَهَا لِحُدُوثِ الْعِتْقِ فَهُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ عِلَّتُهُ وَعِلَّةُ مَنْ خَالَفَهُ إلَى قِيَاسِهِمَا عَلَى نَظِيرِهِمَا، لِيُعْلَمَ أَصَحُّهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْعِلَّةَ فَضْلُ الْحُرِّيَّةِ لِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْحُرَّ عَلَى الْعَبْدِ، فَإِذَا حَدَثَ الْحُرِّيَّةُ حَدَثَ الْخِيَارُ لِلنَّقْصِ وَالْفَضْلِ، فَيَعْمَلُ فِي هَذَا الْبَابِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْعِلَّةِ الْمُعَارِضَةِ وَإِلَى مَا يُخَالِفُهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَصَحَّهُمَا. فَصْلٌ

وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْحُكْمَيْنِ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى (الْأَمَارَةِ) فَلَا خِلَافَ كَمَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ فِي الْجَوَازِ، كَمَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: جَعَلْت طُلُوعَ الْهِلَالِ أَمَارَةً عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَمِنْهُ الْبُلُوغُ وَالْحَيْضُ عَلَامَةٌ لِأَحْكَامٍ عَدِيدَةٍ. وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى (الْبَاعِثِ) فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا) وَهُوَ الصَّحِيحُ - الْجَوَازُ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ بَاعِثًا عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَيْ مُنَاسِبًا لَهُمَا بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، كَمُنَاسَبَةِ الرِّبَا وَالشُّرْبِ لِلْحَدِّ وَالتَّحْرِيمِ. وَ (الثَّانِي) : الْمَنْعُ مُطْلَقًا. وَ (الثَّالِثُ) : الْمَنْعُ إنْ لَمْ يَتَضَادَّا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَيَجُوزُ تَعْلِيلُ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِالْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لَكِنْ فِي مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ، كَالْقَتْلِ الصَّادِرِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا. وَقَدْ يُعَلَّلُ بِهِمَا مُخْتَلِفَانِ غَيْرُ مُتَضَادَّيْنِ كَالْحَيْضِ يُحَرِّمُ الْوَطْءَ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوَهُ، وَكَالْإِحْرَامِ الْمَانِعِ مِنْ النِّكَاحِ وَالصَّيْدِ وَالطِّيبِ وَأَخْذِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ، ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَقَدْ يُعَلَّلُ بِهَا مُخْتَلِفَانِ مُتَضَادَّانِ بِشَرْطَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، كَالْجِسْمِ يَكُونُ عِلَّةً لِلسُّكُونِ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ فِي الْحَيِّزِ، وَعِلَّةُ الْحَرَكَةِ بِشَرْطِ الِانْتِقَالِ عَنْهُ. وَمَثَّلَهُ إلْكِيَا بِمَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِعَقْدٍ مُصَحِّحًا لِآخَرَ: قُلْت: كَالتَّأْبِيدِ فِي التِّجَارَةِ

مسالك العلة

وَالْبَيْعِ. قَالَ: إلْكِيَا: وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِحُكْمَيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، لِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْحُكْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهُمَا عِلَّتَيْنِ لِحُكْمَيْنِ مِثْلَيْنِ فِي شَيْئَيْنِ. فَأَمَّا كَوْنُهُمَا عِلَّةً لِحُكْمَيْنِ مِثْلَيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَمُحَالٌ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَصِحُّ فِيهَا الزَّائِدُ، وَإِنَّمَا تَتَمَاثَلُ الْأَحْكَامُ وَتُعَلَّلُ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي أَحْوَالٍ، كَقَطْعِ الْيَدِ قِصَاصًا وَسَرِقَةً فَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْآثَارِ وَإِنْ تَمَاثَلَا فِي الصُّورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسَالِكُ الْعِلَّةِ] [الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً] مَسَالِكُ الْعِلَّةِ أَيْ الطُّرُقُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعِلَّةِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِي الْقِيَاسِ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْجَامِعِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يَشْهَدُ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ. وَالْأَدِلَّةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: إجْمَاعٌ، وَنَصٌّ، وَاسْتِنْبَاطٌ وَمِنْهُمْ مَنْ أَضَافَ إلَيْهِ دَلِيلَ الْعَقْلِ. [وَجَعَلَهُ] الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ وَجْهًا. وَالْمَشْهُورُ طَرِيقَةُ السَّمْعِ فَقَطْ. [الْمَسْلَكُ] الْأَوَّلُ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً وَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي الرُّتْبَةِ عَلَى الظَّوَاهِرِ مِنْ النُّصُوصِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ

احْتِمَالُ النَّسْخِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى النَّصِّ، لِشَرَفِهِ. وَهُوَ نَوْعَانِ: إجْمَاعٌ عَلَى عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، كَتَعْلِيلِ وِلَايَةِ الْمَالِ بِالصِّغَرِ. وَإِجْمَاعٌ عَلَى أَصْلِ التَّعْلِيلِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ، كَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الرِّبَا فِي الْأَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ مُعَلِّلٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعِلَّةَ مَاذَا؟ . وَمِثَالُ الْقِيَاسِ فِيهِ أَنَّ الْأَخَ لِلْأَبَوَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَخِ مِنْ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ، لِامْتِزَاجِ النَّسَبَيْنِ، فَقِيَاسٌ عَلَيْهِ وِلَايَةُ النِّكَاحِ وَغَيْرُهَا فَإِنَّهَا أَثَّرَتْ فِي الْإِرْثِ إجْمَاعًا وَلَكِنْ فِي غَيْرِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ: إجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ الْغَصْبَ هُوَ عِلَّةُ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ السَّارِقُ وَجَمِيعُ الْأَيْدِي الْغَاصِبَةِ، وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ مُوَلًّى عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ، فَقَاسَ عَلَيْهَا أَبُو حَنِيفَةَ الثَّيِّبَ الصَّغِيرَةَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» وَقَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا عِلَّةٌ تَعُودُ عَلَى أَصْلِهَا بِالتَّعْمِيمِ إلَّا هَذَا الْمِثَالُ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. وَقَدْ سَبَقَ تَعَدِّي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْجَامِدِ الْقَالِعِ مِنْ النَّصِّ عَلَى الْأَحْجَارِ، نَظَرًا لِمَعْنَى الْإِزَالَةِ. وَمَثَّلَهُ غَيْرُهُ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي السَّوَادِ، لَوْ قَسَمْته بَيْنَكُمْ لَصَارَتْ دُوَلًا بَيْنَ أَغْنِيَائِكُمْ. وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ. وَقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فِي شَارِبِ الْخَمْرِ: إذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْمُفْتَرِي. وَلَمْ يُخَالَفْ وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْقِيَاسَ عَلَى أَصْلٍ مُجْمَعٍ عَلَى حُكْمِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الِافْتِيَاتِ عَلَى الصَّحَابَةِ، إذْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ لِنُطْقٍ خَاصٍّ، أَوْ لِمَعْنًى لَا يَتَعَدَّى. وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْجَوَازِ طَرْدًا أَوْجَبَ دَلِيلَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إذَا ظَهَرَ التَّسَاوِي فِي الْمُنَاسَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَجَانَسْ الْحُكْمَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَعَلَّهُ شَطْرُ الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ عِنْدَهُمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ مِنْ طُرُقِ الْعِلَّةِ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ عَنْ مُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا، فَإِنَّ الْقَائِسِينَ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ ثُمَّ رَدَّدَ الْقَاضِي جَوَابَهُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فَقَالَ لَوْ جَعَلْنَا الْقَائِسِينَ أَمَارَةً لِخَبَرِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فِي الْمَقَايِيسِ لَكَانَ مُحْتَمَلًا، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ: إنَّهُ يُفْضِي إلَى الْقَطْعِ. وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ جَوَابُهُ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ رُجُوعُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ عَنْ الْإِنْكَارِ، ثُمَّ يُجْمِعُ الْكَافَّةُ عَلَى عِلَّةٍ فَتَثْبُتُ حِينَئِذٍ قَطْعًا. وَرَدَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ هَذَا بِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ لَيْسُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَلَا حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَدَرَتْ عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَالنُّصُوصُ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا ثَالِثًا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعْرَفْ النَّصُّ الَّذِي أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ وَهَاهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا، بَلْ يَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ. ثَانِيهَا: أَنَّهُ إذَا كَانَ قَطْعِيًّا امْتَنَعَ وُرُودُهُ فِي الطَّرْدِيِّ، فَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا وَرَدَ فِيهِ لَكِنْ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ. ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا قَاسَ عَلَى عِلَّةٍ إجْمَاعِيَّةٍ فَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ وَلَا فِي الْفَرْعِ، فَإِنَّ تَأْثِيرَهَا فِي الْفَرْعِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِهَا فِي الْفَرْعِ فَلِاطِّرَادِ الْمُطَالَبَةِ فِي كُلِّ قِيَاسٍ، إذْ الْقِيَاسُ هُوَ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ بِالْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ. وَمَا مِنْ قِيَاسٍ إلَّا وَيَتَّجِهُ عَلَيْهِ سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عَلَى الْمُعْتَرِضِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: إنَّا قَدْ نُثْبِتُ الْعِلَّةَ مُؤَثِّرَةً فِي الْأَصْلِ بِالِاتِّفَاقِ وَيَثْبُتُ وُجُودُهَا

المسلك الثاني النص على العلة

فِي الْفَرْعِ فَتَمِّمْ لِي الْقِيَاسَ، فَإِنْ ثَبَتَ عَدَمُ تَأْثِيرِهَا امْتَنَعَ قِيَاسُك، فَعَلَيْك بَيَانُهُ. فَإِنْ بَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَزِمَ الْمُسْتَدِلَّ جَوَابُهُ وَإِلَّا انْقَطَعَ. أَمَّا فَتْحُ بَابِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّأْثِيرِ ابْتِدَاءً فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ، لِمَا ذَكَرْنَا. [الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ] قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَتَى وَجَدْنَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَصْبِهِ أَدِلَّةً أَوْ أَعْلَامًا ابْتَدَرْنَا إلَيْهِ، وَهُوَ أَوْلَى مَا يُسْلَكُ. ثُمَّ الْمَشْهُورُ أَنَّ إلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ قِيَاسٌ، وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: لَيْسَ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِمْسَاكٌ بِنَصِّ لَفْظِ الشَّارِعِ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّعْلِيلِ إذَا لَمْ يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ عَنْ كُلِّ مَا تَجْرِي الْعِلَّةُ فِيهِ كَانَ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُسْتَدِلًّا بِلَفْظٍ نَاصٍّ فِي الْعُمُومِ، حَكَاهُ فِي الْبُرْهَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَرَاتِبِ الْأَقْيِسَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيلَ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي، وَأَصْلُهُ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الْحُرُوفُ كَبَقِيَّةِ الْمَعَانِي، لَكِنْ تَدُلُّ الْأَسْمَاءُ وَالْأَفْعَالُ عَلَى الْحُرُوفِ، فِي إفَادَةِ الْمَعَانِي. فَمِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ: كَيْ، وَاللَّامُ، وَإِذَنْ، وَمِنْ، وَالْبَاءِ، وَالْفَاءِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ: أَجَلْ، وَجَرَّاءُ، وَعِلَّةٌ، وَسَبَبٌ، وَمُقْتَضًى، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمِنْ أَفْعَالِهِ: عَلَّلْت بِكَذَا، وَنَظَرْت كَذَا بِكَذَا. ثُمَّ قَدْ يَدُلُّ السِّيَاقُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، كَمَا دَلَّ عَلَى غَيْرِ الْعِلِّيَّةِ. وَقَدْ يَكُونُ مُحْتَمِلًا فَيُعَيِّنُ السِّيَاقُ أَحَدَ الْمُحْتَمَلَيْنِ. وَقَدْ خَلَطَ الْمُصَنِّفُونَ الشُّرُوطَ بِالْعِلَلِ، وَعَمَدُوا إلَى أَمْثِلَةٍ يُتَلَقَّى التَّعْلِيلُ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فَظَنُّوهُ يَتَلَقَّى مِنْ شَيْءٍ

آخَرَ، وَرُبَّمَا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ مَوْضُوعُ الْحُرُوفِ لِكَوْنِهَا مُشْتَرَكَةً فَظَنُّوهُ لِلتَّعْلِيلِ فِي مَحَلٍّ لَيْسَ هُوَ فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ، كَتَمْثِيلِهِمْ التَّعْلِيلَ بِالْفَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ. وَقَدْ قَسَمُوا النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ إلَى صَرِيحٍ وَظَاهِرٍ. [الْأَوَّلُ: الصَّرِيحُ] : قَالَ الْآمِدِيُّ: فَالصَّرِيحُ هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، بَلْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا فِي اللُّغَةِ لَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ سَوَاءٌ كَانَ مَوْضُوعًا لَهُ أَوْ لِمَعْنًى يَتَضَمَّنُهُ. فَدَخَلَ الْحُرُوفُ الْمُتَّصِلَةُ بِغَيْرِهَا. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالصَّرِيحِ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، بَلْ الْمَنْطُوقُ بِالتَّعْلِيلِ فِيهِ عَلَى حَسَبِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الظَّاهِرِ عَلَى الْمَعْنَى. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي إنَّهُ لِلتَّعْلِيلِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] قَالَ: لَا يَصْلُحُ الدُّلُوكُ لِكَوْنِهِ عِلَّةً، فَهُوَ مَعْنًى عِنْدَ الدُّلُوكِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَيْسَ مَيْلُ الشَّمْسِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. ثُمَّ الدَّالُّ عَلَى الصَّرِيحِ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا - التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْحُكْمِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر: 5]

وَهَذَا أَهْمَلَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَهُوَ أَعْلَاهَا رُتْبَةً. وَثَانِيهَا - لِعِلَّةِ كَذَا، أَوْ لِسَبَبِ كَذَا. وَثَالِثُهَا - مِنْ أَجْلِ، أَوْ لِأَجْلِ: وَهُوَ دُونَ مَا قَبْلَهُ، قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، يَعْنِي: لِأَنَّ لَفْظَ الْعِلَّةِ تُعْلَمُ بِهِ الْعِلَّةُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ مِنْ قَوْلِهِ لِأَجْلِ يُفِيدُ مَعْرِفَتَهَا بِوَاسِطَةِ مَعْرِفَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ مَا لِأَجْلِهَا الْحُكْمُ، وَالدَّالُّ بِلَا وَاسِطَةٍ أَقْوَى. وَكَذَا قَالَهُ الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي النُّكَتِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] [الْآيَةَ] عَلَى أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي أَنَّ " مِنْ أَجْلِ " مُتَعَلِّقٌ بِ " كَتَبْنَا "، أَيْ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي آدَمَ الْقِصَاصَ مِنْ أَجْلِ قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ، بِمَعْنَى السَّبَبُ فِي شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ حِرَاسَةُ الدُّنْيَا. وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: {مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] أَيْ مِنْ أَجْلِ قَتْلِ أَخِيهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ عِلَّةٌ لِحُكْمِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى بَاقِي الْأُمَمِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ. فَإِنْ قُلْت: فَكَيْفَ يَكُونُ قَتْلُ وَاحِدٍ بِمَثَابَةِ قَتْلِ النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ قُلْت: تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الْقَتْلِ، وَأَنَّهُ وَصَلَ فِي أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُتَشَابِهِينَ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ الْإِثْمِ وَاسْتِوَائِهِمَا فِي أَصْلِهِ لَا وَصْفِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» ، وَقَوْلُهُ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ» .

رَابِعُهَا - كَيْ: كَذَا جَعَلَهَا الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ مِنْ الصَّرِيحِ، وَخَالَفَهُ الرَّازِيَّ. وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] فَعَلَّلَ سُبْحَانَهُ قِسْمَةَ الْفَيْءِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ بِتَدَاوُلِهِ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ دُونَ الْفُقَرَاءِ. وَقَوْلِهِ: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدَّرَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الْبَلَاءِ قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ الْأَنْفُسُ، أَوْ الْمُصِيبَةُ، أَوْ الْأَرْضُ، أَوْ الْمَجْمُوعُ؛ وَهُوَ الْأَحْسَنُ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَصْدَرَ ذَلِكَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ وَحِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ الَّتِي فِيهَا أَنْ لَا يُحْزِنَ عِبَادَهُ عَلَى مَا فَاتَهُمْ وَلَا يُفْرِحَهُمْ بِمَا آتَاهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُصِيبَةَ مُقَدَّرَةٌ كَائِنَةٌ وَلَا بُدَّ، كُتِبَتْ قَبْلَ خَلْقِهِمْ، فَهَوَّنَ عَلَيْهِمْ. خَامِسُهَا - إذَنْ: كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا إذَنْ» كَذَا جَعَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ مِنْ الصَّرِيحِ، وَجَعَلَهُ فِي الْبُرْهَانِ وَالْمَحْصُولِ مِنْ الظَّاهِرِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: وَلَمْ يَسْأَلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ بِالْحِسِّ، وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنْهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَنْقُصُ، لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ لِغَيْرِ هَذِهِ الْعِلَّةِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عَنْ الْبَيْعِ عِنْدَ النُّقْصَانِ، لِأَنَّ إذَا لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُسْتَقْبَلَ. وَرَدَّ عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ

الْحَالِ، وَلَمْ يَجْرِ لِفِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ ذِكْرٌ، وَإِنَّمَا يَجْرِي السُّؤَالُ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْقَوَاعِدِ، فَإِنَّ (إذَا) أَبَدًا لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُسْتَقْبَلَ، وَالْفِعْلُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ مُسْتَقْبَلٌ قَطْعًا، لِأَنَّ الْمَاضِيَ وَالْحَالَ الْحَقِيقِيَّ، - أَيْ الَّذِي حَدَثَ، لَا يَسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ غَيْرَ أَنَّا لَا نَقُولُ: إنَّ الْمُسْتَقْبَلَ هُوَ الْبَيْعُ فِي حَالَةِ النُّقْصَانِ مُتَفَاضِلًا، بَلْ الْمُسْتَقْبَلُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ حَقِيقَةً: هَذَا رُطَبٌ وَهَذَا تَمْرٌ. وَسَادِسُهَا - ذِكْرُ الْمَفْعُولِ لَهُ: فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89] وَنَصْبُ ذَلِكَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 150] فَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ هِيَ الرَّحْمَةُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] أَيْ لِأَجْلِ الذِّكْرِ، كَمَا قَالَ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58] وَقَوْلُهُ: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} [المرسلات: 5] {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ. [الثَّانِي: الظَّاهِرُ] وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ كُلُّ مَا يَنْقَدِحُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ التَّعْلِيلِ أَوْ الِاعْتِبَارِ إلَّا عَلَى بُعْدٍ. وَهُوَ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا - اللَّامُ: وَهِيَ إمَّا مُقَدَّرَةٌ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَإِمَّا ظَاهِرَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] ، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران: 126] وَالْقُرْآنُ مَحْشُوٌّ مِنْ هَذَا.

فَإِنْ قُلْت: اللَّامُ فِيهِ لِلْعَاقِبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وَقَوْلِهِ: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} [الحج: 53] قُلْت: لَامُ الْعَاقِبَةِ إنَّمَا تَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ يَجْهَلُهَا، كَقَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ} [القصص: 8] . . . أَوْ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهَا، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:. . . لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ وَأَمَّا مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَيَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ مَعْنَى هَذِهِ اللَّامِ، وَإِنَّمَا اللَّامُ الْوَارِدَةُ فِي أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ لَامُ الْحُكْمِ وَالْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الْحِكْمَةِ. وَقَوْلِهِ: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] هُوَ تَعْلِيلٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ بِالْتِقَاطِهِ وَتَقْدِيرِهِ لَهُ، فَإِنَّ الْتِقَاطَهُمْ إنَّمَا كَانَ لِقَضَائِهِ، وَذَكَرَ فَضْلَهُمْ دُونَ قَضَائِهِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي كَوْنِهِ جَزَاءً لَهُمْ وَحَسْرَةً عَلَيْهِمْ وَعَنْ الْبَصْرِيِّينَ إنْكَارُ لَامِ الْعَاقِبَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَالتَّحْقِيقُ لَامُ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ التَّعْلِيلَ فِيهَا وَارِدٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ دَاعِيَهُمْ لِلِالْتِقَاطِ لَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ عَدُوًّا وَحَزَنًا، بَلْ الْمَحَبَّةُ وَالتَّبَنِّي، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ نَتِيجَةَ الْتِقَاطِهِمْ لَهُ وَثَمَرَةً، شُبِّهَ بِالدَّاعِي الَّذِي يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِأَجْلِهِ، فَاللَّامُ مُسْتَعَارَةٌ لِمَا يُشْبِهُ التَّعْلِيلَ، كَمَا اُسْتُعِيرَ الْأَسَدُ لِمَنْ يُشْبِهُ الْأَسَدَ. وَنَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْمُبْتَدَأِ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا لَامُ الصَّيْرُورَةِ، وَعَنْ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهَا لَامُ التَّعْلِيلِ. وَنَقَلَ ابْنُ فُورَكٍ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ كُلَّ لَامٍ نَسَبَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ فَهِيَ لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ دُونَ التَّعْلِيلِ، لِاسْتِحَالَةِ الْغَرَضِ، فَكَأَنَّ الْمُخْبِرَ فِي " لَامِ الصَّيْرُورَةِ " قَالَ: فَعَلْتُ هَذَا بَعْدَ هَذَا، لَا أَنَّهُ غَرَضٌ

لِي. وَاسْتَشْكَلَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ} [الحشر: 7] ، وَبِقَوْلِهِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ} [الفتح: 1 - 2] فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّعْلِيلِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، إذْ هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: اللَّامُ فِي اللُّغَةِ تَأْتِي لِلتَّعْلِيلِ، وَتُسْتَعْمَلُ لِلْمِلْكِ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى الْوَصْفِ تَعَيَّنَتْ لِلتَّعْلِيلِ. وَجَعَلَ الرَّازِيَّ فِي الْمَحْصُولِ اللَّامَ مِنْ الصَّرَائِحِ. وَقَالَ فِي الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ إنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي التَّعْلِيلِ، وَكَذَلِكَ الْبَاءُ وَالْفَاءُ ثُمَّ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصَّرِيحِ مَا لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي التَّعْلِيلِ أَوْ مَا يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ فِي التَّعْلِيلِ أَظْهَرَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَتْ اللَّامُ صَرِيحَةً فِي التَّعْلِيلِ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ:. . . لِدُوا لِلْمَوْتِ وَقَوْلِ الْمُصَلِّي: أُصَلِّي لِلَّهِ. فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا يَبْقَى بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْإِيمَاءِ فَرْقٌ، لِأَنَّ الْإِيمَاءَ إنَّمَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ إذَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْعِلِّيَّةِ رَاجِحَةً عَلَى دَلَالَتِهِ عَلَى غَيْرِ الْعِلِّيَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَصِيرُ فِيهِ اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي الْعِلَّةِ، وَعِنْدَ عَدَمِهِ يَصِيرُ إيمَاءً، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ. الثَّانِي - أَنْ (الْمَفْتُوحَةُ الْمُخَفَّفَةُ) فَإِنَّهَا بِمَعْنَى " لِأَجْلِ "، وَالْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَهَا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، نَحْوُ أَنْ كَانَ كَذَا، وَمِنْهُ: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] فَإِنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، قَدَّرَهُ الْبَصْرِيُّونَ؛ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا وَالْكُوفِيُّونَ: لِئَلَّا تَقُولُوا، أَوْ: لِأَجْلِ أَنْ تَقُولُوا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا} [الزمر: 56] ، وَقَوْلُهُ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] . فَالْكُوفِيُّونَ فِي هَذَا كُلِّهِ يُقَدِّرُونَ

اللَّامَ، أَيْ: لِئَلَّا تَضِلَّ، وَ: لِئَلَّا تَقُولَ. وَالْبَصْرِيُّونَ يُقَدِّرُونَ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا، أَوْ: حَذَرًا أَنْ تَقُولُوا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الطَّرِيقَانِ فِي قَوْلِهِ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] ؟ فَإِنَّك إنْ قَدَّرْت: " لِئَلَّا تَضِلَّ إحْدَاهُمَا " لَمْ يَسْتَقِمْ عَطْفُ " فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا " عَلَيْهِ، وَإِنْ قَدَّرْت: " حَذَرًا أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا " لَمْ يَسْتَقِمْ الْعَطْفُ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ إنْ قَدَّرْت " إرَادَةَ أَنْ تَضِلَّ ". قِيلَ: الْمَقْصُودُ إذْ كَانَ إحْدَاهُمَا تَنْسَى، إذَا نَسِيَتْ أَوْ ضَلَّتْ، فَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ سَبَبًا لِلِادِّكَارِ جُعِلَ مَوْضِعَ الْعِلَّةِ، كَمَا تَقُولُ: أَعْدَدْت هَذِهِ الْخَشَبَةَ أَنْ يَمِيلَ الْحَيْطُ فَأَدْعَمَهُ بِهَا، فَإِنَّمَا أَعْدَدْتهَا لِلدَّعْمِ لَا لِلْمَيْلِ. هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ، وَقَدَّرَهُ الْكُوفِيُّونَ فِي تَذْكِيرِ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى إنْ ضَلَّتْ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ الْجَزَاءُ اتَّصَلَ بِمَا قَبْلَهُ فَصَحَّتْ (أَنْ) . الثَّالِثُ - إنْ " الْمَكْسُورَةُ سَاكِنَةُ النُّونِ " الشَّرْطِيَّةُ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ، فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ عَدَّهَا مِنْ ذَلِكَ. نَعَمْ، التَّعْلِيقُ مِنْ الْمَوَانِعِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى مَا تَرَتَّبَ عَلَى الْأَسْبَابِ، وَعَلَيْهِ الْخِلَافُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ: هَلْ الْأَسْبَابُ الْمُعَلَّقَةُ بِشَرْطٍ انْعَقَدَتْ وَتَأَخَّرَ تَرَتُّبُ حُكْمِهَا إلَى غَايَةٍ، أَوْ لَمْ تَنْعَقِدْ أَسْبَابًا؟ لَكِنْ مَنْ جَعَلَ وُجُودَ الْمَانِعِ عِلَّةً لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ يَصِحُّ عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الشَّرَائِطَ مَوَانِعُ، وَهِيَ عِلَلٌ لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ. الرَّابِعُ - إنَّ: كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: كَذَا عَدُّوهَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا لِتَحْقِيقِ الْفِعْلِ، وَلَا حَظَّ لَهَا مِنْ التَّعْلِيلِ، وَالتَّعْلِيلُ فِي الْحَدِيثِ مَفْهُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَتَعَيُّنُهُ فَائِدَةٌ لِلذِّكْرِ. وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ كَوْنَهَا لِلتَّعْلِيلِ الْكَمَالُ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ نُحَاةِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَنَقَلَ إجْمَاعَ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرِدُ لِلتَّعْلِيلِ قَالَ: وَهِيَ فِي قَوْلِهِ: «إنَّهَا مِنْ

الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» لِلتَّأْكِيدِ، لَا لِأَنَّ عِلَّةَ الطَّهَارَةِ هِيَ الطَّوَافُ، وَلَوْ قَدَّرْنَا مَجِيءَ قَوْلِهِ: (هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ) بِغَيْرِ إنَّ لَأَفَادَ التَّعْلِيلَ، فَلَوْ كَانَتْ " إنَّ " لِلتَّعْلِيلِ لَعُدِمَتْ الْعِلَّةُ بِعَدَمِهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ " لِأَنَّهَا " وَإِلَّا لَوَجَبَ فَتْحُهَا وَلَا سَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ مِنْ اللَّامِ. وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، مِنْهُمْ الْفَخْرُ إسْمَاعِيلُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ جَنَّةِ الْمَنَاظِرِ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ يُوسُفُ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ الْإِيضَاحِ فِي الْجَدَلِ. وَلَكِنْ مِمَّنْ صَرَّحَ بِمَجِيئِهَا لِلتَّعْلِيلِ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي. وَنَقَلَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ فِي فُصُولِهِ قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَأَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى إثْبَاتِهِ. وَلَيْسَ مَعَ النَّافِي إلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ، وَكَفَى بِابْنِ جِنِّي حُجَّةً فِي ذَلِكَ. الْخَامِسُ - الْبَاءُ: قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَضَابِطُهُ أَنْ يَصْلُحَ غَالِبًا فِي مَوْضِعِهَا اللَّامُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] ، وَقَوْلِهِ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160] ، {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» ، وَجَعَلَ مِنْهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ لِلْمُقَابَلَةِ، كَقَوْلِهِمْ: هَذَا بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُعْطِيَ هُوَ مَنْ قَدْ يُعْطِي مَجَّانًا، وَأَمَّا الْمُسَبَّبُ فَلَا يُوجَدُ بِدُونِ السَّبَبِ. وَتَقَدَّمَ فِي الْحُرُوفِ الْفَرْقُ بَيْنَ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَبَاءِ الْعِلَّةِ وَ " إنْ " تُشَارِكُ الْبَاءَ فِي التَّعْلِيلِ وَتَمْتَازُ عَنْهَا بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا يَلِيهَا فِي حُكْمِ مَنْ رَجَعَ إلَيْهِ فِيمَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ فَقَالَ مُوَسِّعًا كَالْجَوَابِ: لِأَنَّهُ كَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّ خَبَرَهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُخَاطَبِ. أَوْ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْمَعْلُومِ لِمَا لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ. وَزَعَمَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَنَّ دَلَالَةَ الْبَاءِ عَلَى التَّعْلِيلِ مَجَازٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ذَاتَ الْعِلَّةِ لِمَا اقْتَضَتْ وُجُودَ الْمَعْلُولِ دَخَلَ الْإِلْصَاقُ هُنَاكَ، فَحَسُنَ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ مَجَازًا. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ. وَلِمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُهُ

هُنَا مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ اللَّامِ وَالْبَاءِ قَائِمَةٌ عَلَى التَّعْلِيلِ ظَاهِرَةٌ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا فِي اللَّامِ حَقِيقَةً وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي نُكَتِهِ: الْبَاءُ دُونَ اللَّامِ فِي الْعِلِّيَّةِ، لِأَنَّ مَحَامِلَ اللَّامِ أَقَلُّ مِنْ مَحَامِلِ الْبَاءِ. وَاللَّامُ وَإِنْ جَاءَتْ لِلِاخْتِصَاصِ فَالتَّعْلِيلُ لَا يَخْلُو عَنْ الِاخْتِصَاصِ فَكَانَتْ دَلَالَةُ اللَّامِ أَخَصَّ بِالْعِلَّةِ. السَّادِسُ - الْفَاءُ: إذَا عُلِّقَ بِهَا الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَأَخُّرِهَا وَهِيَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدْخُلَ عَلَى السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُتَقَدِّمًا. كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْمُحْرِمِ وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» . وَالثَّانِي: أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْحُكْمِ وَتَكُونَ الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] . {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] . . . فَالْفَاءُ لِلْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ مُسْتَحَقٌّ بِالْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَهُوَ السَّرِقَةُ مَثَلًا، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] ظَاهِرُ الْخِطَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مِنْ قِيَامِ الْوَلِيِّ بِالْإِمْلَاءِ أَنَّ مُوَلِّيَهُ لَا يَسْتَطِيعُهُ، فَصَارَ ذَلِكَ مُوجِبًا قِيَامَ الْوَلِيِّ بِكُلِّ مَا عَجَزَ عَنْهُ مُوَلِّيهِ ضَرُورَةَ طَرْدِ الْعِلَّةِ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الْإِشْعَارِ بِالْعِلَّةِ أَقْوَى مِنْ عَكْسِهِ، يَعْنِي: لِقُوَّةِ إشْعَارِ الْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ، لِوُجُوبِ الطَّرْدِ فِي الْعِلَلِ دُونَ الْعَكْسِ، وَنَازَعَهُ النَّقْشَوَانِيُّ. وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْخُلَ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إمَّا فِي الْوَصْفِ، كَالْحَدِيثِ السَّابِقِ، أَوْ فِي الْحُكْمِ، كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَدْخُلَ فِي كَلَامِ الرَّاوِي، كَقَوْلِهِ: سَهَا فَسَجَدَ، وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّاوِي الْفَقِيهُ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْهَمْ لَمْ يُعَاقَبْ. قِيلَ: وَالْفَاءُ إذَا امْتَنَعَ كَوْنُهَا لِلْعَطْفِ تَعَيَّنَ لِلسَّبَبِ. وَالْمَانِعُ لِلْعَطْفِ أَنَّهَا مَتَى قُدِّرَتْ لَهُ الْوَاوُ اخْتَلَّ الْكَلَامُ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَاطِفَةً بِمَعْنَى الْوَاوِ لَتَضَمَّنَتْ الْجُمْلَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ بِلَا جَوَابٍ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى حَصْرِ الْفَاءِ لِلتَّعْلِيلِ وَالْعَطْفِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ هِيَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ جَوَابٌ، أَيْ رَابِطَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْأَوَّلِ شَرْطًا كَوْنُهُ عِلَّةً. وَقَدْ جَعَلَ فِي الْمَحْصُولِ - تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ - الْبَاءَ وَالْفَاءَ مِنْ صَرَائِحِ التَّعْلِيلِ، ثُمَّ خَالَفَ الرَّازِيَّ فِي رِسَالَتِهِ الْبَهَائِيَّةِ وَرَدَّ عَلَى الْغَزَالِيِّ وَقَالَ: الْبَاءُ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ التَّعْلِيلِ، وَمِنْهُ: بِاسْمِ اللَّهِ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ لَا لِلتَّعْلِيلِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ النَّحْوِيِّينَ: الْفَاءُ إنَّمَا يَكُونُ فِيهَا إيمَاءٌ إلَى الْعِلَّةِ إذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ اسْمًا مَوْصُولًا بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ أَوْ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ: فَالِاسْمُ الْمَوْصُولُ نَحْوُ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 274] فَمَا بَعْدَ الْفَاءِ، مِنْ حُصُولِ الْأَجْرِ، وَنَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، مُسْتَحَقٌّ بِمَا قَبْلَهَا، مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ. وَيَجْرِي مَجْرَى " الَّذِي " الْأَلِفُ وَاللَّامُ إذَا وُصِلَتْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . . .، وَ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] . . .، أَيْ: لِسَرِقَتِهِمَا وَلِزِنَاهُمَا. فَاسْتِحْقَاقُ

الْقَطْعِ وَالْجَلْدِ إنَّمَا كَانَ لِلسَّرِقَةِ وَالزِّنَى لَا لِغَيْرِهِمَا، وَلَوْلَا الْفَاءُ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا. وَالنَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ نَحْوُ: كُلُّ إنْسَانٍ يَفْعَلُ كَذَا فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَيَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الدِّرْهَمِ بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ، إذًا الْمَعْنَى: إنْ يَأْتِنِي رَجُلٌ فَلَهُ دِرْهَمٌ. وَالشَّرْطُ سَبَبٌ فِي الْجَزَاءِ وَعِلَّةٌ لَهُ، وَلِهَذَا دَخَلَتْ الْفَاءُ، لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ، وَالْمُسَبَّبُ فِي الرُّتْبَةِ عَقِبَ السَّبَبِ، فَكَانَ فِي دُخُولِهَا إيمَاءٌ إلَى الْعِلَّةِ، وَإِذَا حُذِفَتْ لَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ أَنْ يَكُونَ الدِّرْهَمُ مُسْتَحَقًّا بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ، بَلْ بِهِ وَبِغَيْرِهِ لِعَدَمِ الْفَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلِاسْتِحْقَاقِ. وَهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دُخُولَ فَاءِ التَّعْقِيبِ عَلَى الْمَعْلُومِ وَاضِحٌ، لِوُجُوبِ تَأَخُّرِهِ عَنْ الْعِلَّةِ. وَأَمَّا دُخُولُهَا عَلَى الْعِلَّةِ نَحْوُ (فَإِنَّهُ يَبْعَثُ) فَوَجْهُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ الْغَائِبَةَ لَهَا تَقَدُّمٌ فِي الذِّهْنِ وَتَأَخُّرٌ فِي الْوُجُودِ، كَمَا تَقُولُ: أَكَلَ فَشَبِعَ، فَالشِّبَعُ مُتَأَخِّرٌ فِي الْوُجُودِ مُتَقَدِّمٌ فِي الذِّهْنِ. وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْقَوْلِ بِاسْتِفَادَةِ التَّعْلِيلِ مِنْ الْفَاءِ بِتَرْتِيبِ الْوُضُوءِ عَلَى الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ عِلَّةَ الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، بَلْ عِلَّةُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وُجُودُ الْحَدَثِ. وَلَقَدْ اعْتَاصَ الْجَوَابُ عَلَى الْغَزَالِيِّ حَتَّى انْتَهَى فِيهِ إلَى الْإِسْهَابِ. وَجَوَابُهُ يُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يَتَقَدَّمُ تَصَوُّرُهَا وَإِلَى مَا يَنْعَدِمُ تَصَوُّرُهَا. وَالصَّلَاةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُضُوءِ لَك أَنْ تَجْعَلَهَا مِنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهَا حِكْمَةُ الْوُضُوءِ وَلَهَا شَرْطٌ يَصِحُّ تَرْتِيبُهُ عَلَيْهَا بِالْفَاءِ، كَمَا رَتَّبَ بَعْثَ الشَّهِيدِ الْمُحْرِمِ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَأَنْ تَجْعَلَهَا مِنْ الثَّانِي فَإِنَّهُ قَدْ أَمْكَنَ جَعْلُ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مَظِنَّةً وَسَبَبًا، وَيَكُونُ الْحَدَثُ

شَرْطًا مِنْ شَرَائِطِ السَّبَبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الْحُكْمِ وَإِلْحَاقُ شَرْطٍ بِالْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ لَا يُسْتَكْثَرُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَوْلَى أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ عَلَى الْأَحْكَامِ، لِأَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْعِلَلِ، وَلَا تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ لِاسْتِحَالَةِ تَأَخُّرِ الْعِلَّةِ عَنْ الْمَعْلُولِ، إلَّا أَنَّهَا قَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهَا دَوَامٌ، لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ دَائِمَةً كَانَتْ فِي حَالَةِ الدَّوَامِ مُتَرَاخِيَةً عَنْ ابْتِدَاءِ الْحُكْمِ، فَصَحَّ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَيْهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ هُوَ فِي حَبْسٍ ظَالِمٍ إذَا ظَهَرَ آثَارُ الْفَرَجِ: أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاك الْغَوْثُ، وَقَدْ نَجَوْت. الثَّانِي: مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْلِيلِ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ رَتَّبَ الْقَطْعَ عَلَى السَّرِقَةِ بِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ هِيَ السَّبَبُ لَا يَأْتِي عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ قَوْلَهُ؛ {فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] جَوَابٌ لِمَا فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، إنَّمَا الْكَلَامُ عِنْدَهُ عَلَى مَعْنَى؛ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، فَهَذِهِ تَرْجَمَةٌ سِيقَتْ لِلتَّشَوُّفِ إلَى مَا بَعْدَهَا، فَلَمَّا كَانَ فِي مَضْمُونِ التَّرْجَمَةِ مُنْتَظِرًا قِيلَ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا فَالْفَاءُ إذَنْ لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْجَوَابِ. وَإِنَّمَا حَمَلَ سِيبَوَيْهِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْفَاءَ لَوْ كَانَتْ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ} وَكَانَ الْكَلَامُ مُبْتَدَأً أَوْ خَبَرًا لَكَانَتْ الْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي النَّصْبَ فِي {السَّارِقُ} لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ أَوْلَى، كَقَوْلِهِ: زَيْدًا اضْرِبْهُ. فَلَمَّا رَأَى الْعَامَّةُ مُطَبِّقَةً عَلَى الرَّفْعِ تَفَطَّنَ، لِأَنَّهَا لَا تُجْمِعُ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى، فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ خَارِجٌ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ وَذَكَرَ مِثْلَ قَوْلِهِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] كَالتَّرْجَمَةِ وَالْعُنْوَانِ. السَّابِعُ - لَعَلَّ: عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ مِنْ النُّحَاةِ، وَقَالُوا: إنَّهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّعْلِيلِ الْمَحْضِ مُجَرَّدَةٌ عَنْ مَعْنَى التَّرَجِّي لِاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا تُجْهَلُ عَاقِبَتُهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] قِيلَ: هُوَ تَعْلِيلٌ

لِقَوْلِهِ (اُعْبُدُوا) ، وَقِيلَ: لِقَوْلِهِ (خَلَقَكُمْ) ، وَقِيلَ: لَهُمَا. وَقَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ، {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] فَ " لَعَلَّ " فِي هَذَا اخْتَصَّتْ لِلتَّعْلِيلِ وَالرَّجَاءِ الَّذِي فِيهِمَا مُتَعَلَّقُ الْمُخَاطَبِينَ. الثَّامِنُ - إذْ: ذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ، نَحْوُ {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 16] ، {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ} [الزخرف: 39] . . . وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، وَنَازَعَهُ أَبُو حَيَّانَ. التَّاسِعُ - حَتَّى: أَثْبَتَهُ ابْنُ مَالِكٍ أَيْضًا. قَالَ: وَعَلَامَتُهَا أَنْ يَحْسُنَ فِي مَوْضِعِهَا (كَيْ) ، نَحْوُ: خُذْ حَتَّى تُعْطِيَ الْجُودَ. وَمِنْ مِثْلِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد: 31] وَقَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] ، وَيَحْتَمِلُهَا {حَتَّى تَفِيءَ} [الحجرات: 9] . . . . وَزَعَمَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ أَنَّ مِنْهَا (لَا جَرَمَ) بَعْدَ الْوَصْفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} [النحل: 62] وَجَمِيعُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، «. مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» . وَكَذَا حَرْفُ (إذَا) فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ مِنْهَا (مَنْ) أَيْضًا. تَنْبِيهٌ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَمَا تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهَا فِي أَنْفُسِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْلِيلِ كَذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ وُقُوعِهَا فِي كَلَامِ الْقَائِلِينَ، فَهِيَ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَقْوَى مِنْهَا فِي كَلَامِ الرَّاوِي، وَفِي كَلَامِ الرَّاوِي الْفَقِيهُ أَقْوَى مِنْهَا فِي غَيْرِ الْفَقِيهِ،

المسلك الثالث الإيماء والتنبيه

مَعَ صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي الْكُلِّ، خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بِهَا إلَّا فِي كَلَامِ الرَّاوِي الْفَقِيهِ، وَهَذَا بَحْثٌ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَيْسَ قَوْلًا. وَزَعَمَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْوَارِدَ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَقْوَى مِنْ الْوَارِدِ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْحَقُّ تَسَاوِيهِمَا، وَبِهِ صَرَّحَ الْهِنْدِيُّ، لِعَدَمِ احْتِمَالِ تَطَرُّقِ الْخَطَأِ إلَيْهِمَا. [الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ] وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّهُ يَفْهَمُهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَا اللَّفْظِ، وَإِلَّا لَكَانَ صَرِيحًا، وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ أَنَّ ذِكْرَهُ مَعَ الْحُكْمِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَا لِفَائِدَةٍ، لِأَنَّهُ عَبَثٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ إمَّا كَوْنُهُ عِلَّةً أَوْ جُزْءَ عِلَّةٍ أَوْ شَرْطًا، وَالْأَظْهَرُ كَوْنُهُ عِلَّةً لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ فِي تَصَرُّفِ الشَّارِحِ. وَهُوَ أَنْوَاعٌ. أَحَدُهَا: ذِكْرُ الْحُكْمِ السُّكُوتِيِّ أَوْ الشَّرْعِيِّ عَقِبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، وَتَارَةً يَقْتَرِنُ بِ (أَنْ) ، وَتَارَةً بِالْفَاءِ، وَتَارَةً يُذْكَرُ مُجَرَّدًا. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89]- إلَى قَوْلِهِ: {خَاشِعِينَ} وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45] . . . الْآيَةُ

وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] . . . وَ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] . . . وَالثَّالِثُ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر: 54] ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277] . وَاَلَّذِي بَعْدَ الْفَاءِ تَارَةً يَكُونُ حُكْمًا، نَحْوُ {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} [البقرة: 222] . . .، وَتَارَةً يَكُونُ عِلَّةً، نَحْوُ «فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» فَإِنَّهُ عِلَّةُ تَجْنِيبِهِ الطَّيِّبَ. ثُمَّ مِنْهُ مَا صَرَّحَ فِيهِ بِالْحُكْمِ وَالْوَصْفِ مَعًا فَهُوَ إيمَاءٌ بِلَا خِلَافٍ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» ، «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ» ، فَقَدْ صَرَّحَ فِي الْأَوَّلِ بِالْإِحْيَاءِ، وَهُوَ الْوَصْفُ، وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ. وَفِي الثَّانِي بِالْمِلْكِ وَهُوَ الْوَصْفُ، وَبِالْعِتْقِ وَهُوَ الْحُكْمُ. وَمِنْهُ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِمَا: فَإِنْ صُرِّحَ بِالْحُكْمِ - وَالْوَصْفُ مُسْتَنْبَطٌ - كَتَحْرِيمِ الرَّبَّا فِي الْبُرِّ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْهُ عِلَّةُ الْكَيْلِ أَوْ الطُّعْمِ أَوْ الْوَزْنِ، فَلَيْسَ بِإِيمَاءٍ قَطْعًا. وَقِيلَ: عَلَى الْخِلَافِ فِي عَكْسِهِ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَاسْتَبْعَدَهُ الْهِنْدِيُّ. وَإِنْ صَرَّحَ بِالْوَصْفِ - وَالْحُكْمُ مُسْتَنْبَطٌ - كَالصِّحَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ حِلِّ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَهَلْ النَّصُّ الدَّالُ عَلَى ثُبُوتِ الْحِلِّ إيمَاءٌ أَوْ ثُبُوتُ الصِّحَّةِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى إثْبَاتِهِ، وَرَجَّحَهُ الْهِنْدِيُّ، لِأَنَّ الصِّحَّةَ لَازِمَةٌ لِلْحِلِّ، إذْ لَوْلَا الصِّحَّةُ لَمْ يَكُنْ لِلْإِحْلَالِ فَائِدَةٌ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِيمَاءٍ إلَيْهَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْحُكْمِ وَاسْتَخْرَجْنَا الْعِلَّةَ قِيَاسًا لِأَحَدِهِمَا عَلَى عَكْسِهِ. وَجَمَعَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الصُّورَتَيْنِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ يَلْتَفِتُ إلَى تَفْسِيرِ (الْإِيمَاءِ) هَلْ هُوَ اقْتِرَانُ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ، سَوَاءٌ

كَانَا مَذْكُورَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَذْكُورًا وَالْآخَرُ مُقَدَّرًا، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مَذْكُورَيْنِ؟ وَإِنَّ إثْبَاتَ مُسْتَلْزِمِ الشَّيْءِ نَقِيضُ إثْبَاتِهِ. الثَّانِي - أَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ مَعَ الْحِكْمَةِ وَصْفًا لَوْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةٌ لَعَرِيَ عَنْ الْفَائِدَةِ، إمَّا مَعَ سُؤَالٍ فِي مَحَلِّهِ، أَوْ سُؤَالٍ فِي نَظِيرِهِ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِقَاعَ عِلَّةٌ لِلْإِعْتَاقِ، وَالسُّؤَالُ مُقَدَّرٌ فِي الْجَوَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا وَاقَعْتَ فَكَفِّرْ. وَقَدْ مَرَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لِلتَّعْلِيلِ فَكَذَا هُنَا، لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ كَالْمُحَقَّقِ، فَإِنْ حُذِفَتْ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْأَوْصَافِ وَعُلِّلَتْ بِالْبَاقِي سُمِّيَ (تَنْقِيحُ مَنَاطٍ) ، مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ: كَوْنُهُ أَعْرَابِيًّا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلَّةِ، إذْ الْأَعْرَابِيُّ وَغَيْرُهُ حُكْمُهُمَا سَوَاءٌ. وَكَذَا كَوْنُ الْمَحَلِّ أَهْلًا، فَإِنَّ الزِّنَى أَجْدَرُ بِهِ. (وَالثَّانِي) كَقَوْلِهِ، وَقَدْ سَأَلَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ: إنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ وَعَلَيْهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ أَيَنْفَعُهُ إنْ حَجَجْتُ عَنْهُ؟ قَالَ: «أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ، فَذَكَرَ نَظِيرَهُ وَهُوَ دَيْنُ الْآدَمِيِّ، فَنَبَّهَ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً فِي النَّفْعِ وَإِلَّا لَزِمَ الْعَبَثُ. وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ مِنْهُ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلسَّائِلِ عَنْ الْقُبْلَةِ: «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ» فَقَالَ: نَبَّهَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى قِيَاسِ

الْقُبْلَةِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ مَعَهَا. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا نَبَّهَ عَلَى نَقِيضِ قِيَاسٍ يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِ السَّائِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِشْكَالَ الَّذِي عِنْدَ الْقَائِلِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْقُبْلَةَ مُقَدِّمَةُ الْجِمَاعِ، وَالْجِمَاعُ مُفْسِدٌ وَمُقَدِّمَةُ الشَّيْءِ يَنْبَغِي أَنْ تُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ، لِمَا بَيْنَ الْمُقَدِّمَةِ وَالْغَايَةِ مِنْ التَّنَاسُبِ، فَنَبَّهَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ تَعْلِيلَ تَنْزِيلِ الْقُبْلَةِ مَنْزِلَةَ الْجِمَاعِ فِي الْإِفْسَادِ بِكَوْنِهَا مُقَدِّمَةً مَنْقُوضٌ بِالْمَضْمَضَةِ فِي الْوُضُوءِ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا، فَإِنَّ الْمُقَدِّمَةَ وُجِدَتْ مِنْ الْمَضْمَضَةِ وَلَمْ يُوجَدْ الْإِفْسَادُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ تُقَاسُ الْقُبْلَةُ عَلَى الْمَضْمَضَةِ فِي عَدَمِ الْإِفْسَادِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا مُقَدِّمَتَيْنِ لِلْمُفْسِدِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ مُقَدِّمَةٌ لِفَسَادِ الصَّوْمِ وَبَيْنَ كَوْنِ الصَّوْمِ صَحِيحًا مَعَهُ، بَلْ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ. أَمَّا إذَا عَلِمَ الشَّارِعُ فِعْلًا مُجَرَّدًا تَكَلَّمَ عَقِيبَهُ بِحُكْمٍ فَهَلْ يَكُونُ عِلْمُهُ كَإِعْلَامِهِ حَتَّى يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ الْمَعْلُومُ سَبَبًا؟ فِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ الْإِبْيَارِيُّ. وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِنَادُ التَّعْلِيلِ إلَيْهِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ وَجَرَى ذِكْرُ الْوَاقِعَةِ اتِّفَاقًا، وَيُحْتَمَلُ الرَّبْطُ لِقُرْبِهِ مِنْ الْقَرِينَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ جَنَّةِ النَّاظِرِ ": مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيمَاءِ الْحُكْمُ عِنْدَ رَفْعِ الْحَادِثَةِ إلَيْهِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " كَفِّرْ " لِمَنْ قَالَ: وَاقَعْتُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّ شَرْطَ فَهْمِ التَّعْلِيلِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ وَقَعَ جَوَابًا لِمَا رُفِعَ إلَيْهِ، إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ اسْتِئْنَافًا لَا جَوَابًا، وَهَذَا كَمَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ فَأَخْبَرَهُ تِلْمِيذٌ بِمَوْتِ السُّلْطَانِ مَثَلًا، فَأَمَرَهُ عَقِبَ الْإِخْبَارِ بِقِرَاءَةِ دَرْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيلِ الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، بَلْ الْأَمْرُ بِالِاشْتِغَالِ بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ وَبِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِيه. وَإِذَا ثَبَتَ افْتِقَارُ فَهْمِ التَّعْلِيلِ إلَى الدَّلِيلِ فَلَيْسَ إلَّا انْتِفَاءُ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ، إذْ السُّؤَالُ يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ، فَتَأْخِيرُهُ عَنْهُ يَكُونُ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِرَافَ هَؤُلَاءِ بِكَوْنِ السُّؤَالِ يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ اعْتِرَافٌ بِكَوْنِ السُّؤَالِ قَرِينَةٌ عَلَى كَوْنِ الْوَاقِعِ جَوَابًا، فَيَكُونُ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِمْ: إنَّ فَهْمَ التَّعْلِيلِ يَفْتَقِرُ إلَى الدَّلِيلِ، وَالْقَرَائِنُ الصَّارِفَةُ تُرْشِدُ الْمُعَارِضَ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْيِينِ الْوَاقِعِ جَوَابًا، فَلَا يُؤْخَذُ انْتِفَاؤُهَا فِي حَدِّ الدَّلِيلِ. نَعَمْ يَقِفُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ عَلَى انْتِفَائِهَا، وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْإِيمَاءِ، بَلْ هُوَ جَارٍ فِي جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ، لِأَنَّ انْتِقَاءَ الْمُعَارِضِ مُشْتَرَطٌ فِي الْعَمَلِ بِجَمِيعِ الدَّلَائِلِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ لِوَصْفٍ. إمَّا مَعَ ذِكْرِهِمَا مَعًا، نَحْوُ: «لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ» ، وَقَوْلُهُ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] فَإِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا جَعَلَهُ غَايَةً لِلْحُكْمِ يَكُونُ عِلَّةً، قَوْلُهُ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي حُكْمِ الْمُؤَاخَذِ وَالتَّفْصِيلُ مَا وَقَعَ بِهِ الْفَرْقُ. وَإِمَّا مَعَ ذِكْرِ أَحَدِهِمَا، نَحْوُ: الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ وَإِرْثِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْإِرْثِ الْقَتْلُ. وَأَيْضًا: إمَّا بِالْغَايَةِ، مِثْلُ {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] . وَالرَّابِعُ: مَنْعُهُ مَا قَدْ يُفَوِّتُ الْمَطْلُوبَ، بِأَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ الْكَلَامِ أَوْ

فِي سِيَاقِهِ شَيْئًا لَوْ لَمْ يُعَلِّلْ بِهِ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَنْتَظِمْ الْكَلَامُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَأَحْكَامِهَا، فَلَوْ لَمْ يُعَلِّلْ النَّهْيَ عَنْ الْبَيْعِ بِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ شَاغِلًا عَنْ الْمَشْيِ إلَيْهَا لَكَانَ ذِكْرُهُ عَبَثًا، لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ مُطْلَقًا. كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» فَلَوْ لَمْ يُعَلِّلْ [النَّهْيَ] عَنْ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْغَضَبِ بِكَوْنِهِ يَتَضَمَّنُ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ لَكَانَ ذِكْرُهُ لَاغِيًا. إذْ الْقَضَاءُ لَا يُمْنَعُ مُطْلَقًا كَمَا مَرَّ. وَالْخَامِسُ: رَبْطُ الْحُكْمِ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ بِمَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ يَنْتَهِضُ عِلَّةً فِيهِ. وَإِلَى هَذَا صَارَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا، وَأَوَّلَ الْقَاضِي مَذْهَبَهُ وَقَالَ: لَعَلَّهُ تَمَسَّك بِالْحَدِيثِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الرِّبَا لَا فِي إثْبَاتِ عِلَّتِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَيْسَ كَمَا ظَنَّهُ الْقَاضِي، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ عِلِّيَّةَ الطُّعْمِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: تَعَلَّقَ أَئِمَّتُنَا فِي تَعْلِيلِ رِبَا الْفَضْلِ بِالطُّعْمِ بِقَوْلِهِ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إثْبَاتِ كَوْنِ الطَّعَامِ مُشْعِرًا بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، وَإِلَّا فَالطَّعَامُ وَالْبُرُّ سَوَاءٌ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ. وَالسَّادِسُ: تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] أَيْ لِأَجْلِ تَقْوَاهُ. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أَيْ لِأَجْلِ تَوَكُّلِهِ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَقَّبُ الشَّرْطَ، وَالسَّبَبُ مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ عَقِبَهُ، فَإِذَا الشَّرْطُ فِي مِثْلِ هَذَا سَبَبُ الْجَزَاءِ، فَيَكُونُ الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ سَبَبًا وَعِلَّةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اتَّبَعَ جِنَازَةً فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ قِيرَاطٌ» ، وَ «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» .

وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَكُونُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ إلَّا حُكْمًا، وَمَا قَبْلَهَا إلَّا سَبَبًا، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مُتَأَخِّرٌ بِالْوَضْعِ عَنْ الشَّرْطِ تَحْقِيقًا، نَحْوُ: إنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَاتَّقِ اللَّهَ، أَوْ تَقْدِيرًا، نَحْوُ: اتَّقِ اللَّهَ إنْ كُنْت مُؤْمِنًا، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ لَازِمٌ، وَالشَّرْطُ مَلْزُومٌ، وَاللَّازِمُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَلْزُومِ، وَثُبُوتُهُ فَرْعٌ عَنْ ثُبُوتِهِ. بِخِلَافِ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ. فَإِذَا مَا بَعْدَ الْفَاءِ قَدْ يَكُونُ حُكْمًا وَقَدْ يَكُونُ عِلَّةً. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ رُجُوعَهُ إلَى بَابِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ قَدْ يَقْتَضِيَانِ الشَّرْطَ فَيُجْزَمُ جَوَابُهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] {يَرِثُنِي} [مريم: 6] أَيْ: هَبْ لِي، فَإِنَّك إنْ تَهَبْ لِي وَلِيًّا يَرِثُنِي. وَقَوْلُك: لَا تَقْرَبْ الشَّرَّ تَنْجُ: أَيْ: لَا تَقْرَبْهُ، فَإِنَّك إنْ لَا تَقْرَبْهُ تَنْجُ، وَتَدْخُلُ الْفَاءُ فِي جَوَابِهِمَا، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ» أَيْ إنَّهُ مَاتَ مُحْرِمًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا فَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا. فَالظَّاهِرُ اسْتِوَاءُ الصِّيَغِ كُلِّهَا فِي تَأَخُّرِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ وَالْحُكْمُ إمَّا مُسَبَّبٌ أَوْ مَشْرُوطٌ وَهُوَ مُسَبَّبٌ أَيْضًا، وَكِلَاهُمَا مُتَأَخِّرٌ، نَعَمْ بَعْضُ ذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ تَحْقِيقًا، وَبَعْضُهُ مُتَأَخِّرٌ تَقْدِيرًا. السَّابِعُ: تَعْلِيلُ عَدَمِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف: 33] . . . {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} [الشورى: 27] . . .، {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ} [الإسراء: 59] . . . أَيْ: آيَاتِ الِاقْتِرَاحِ لَا الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ، وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44] وَقَوْلِهِ: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام: 8] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ الْمَانِعِ الَّذِي مَنَعَ مِنْ إنْزَالِ الْمَلَكِ عِيَانًا بِحَيْثُ يُشَاهِدُونَهُ، وَأَنَّ لُطْفَهُ بِخَلْقِهِ مَنَعَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ مَلَكًا

وَعَايَنُوهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا فَعُجِّلُوا الْعُقُوبَةَ، وَجَعَلَ الرَّسُولَ بَشَرًا لِيُمْكِنَهُمْ التَّلَقِّي عَنْهُ وَالرُّجُوعَ إلَيْهِ. الثَّامِنُ: إنْكَارُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْخَلْقَ لِغَايَةٍ وَلَا لِحِكْمَةٍ. بِقَوْلِهِ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] وَقَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] وَقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38] {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الدخان: 39] . . التَّاسِعُ: إنْكَارُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَيُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ. (فَالْأَوَّلُ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 36] وَقَوْلِهِ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] وَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] . . . وَ (الثَّانِي) كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] وَقَوْلِهِ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، وَقَوْلِهِ: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] . مَسْأَلَةٌ فِي اشْتِرَاطِ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ لِلْحُكْمِ فِي الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ مَذَاهِبُ.

أَحَدُهَا) . اشْتِرَاطُهُ. وَهُوَ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ، كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالصَّوْمِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا فَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ بِالْقَلْبِ. وَ (الثَّانِي) - وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ - عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ، بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّعَلُّقِ مَعَ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ فِي الْبُرْهَانِ " عَنْ إطْلَاقِ الْأُصُولِيِّينَ، وَاخْتَارَهُ إلْكِيَا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ مَعْنًى وَتَعَطَّلَ الْكَلَامُ. وَ (الثَّالِثُ) - وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ - إنْ كَانَ التَّعْلِيلُ فُهِمَ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» اُشْتُرِطَ. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يُفْهَمُ مِنْ غَيْرِهَا. وَحَكَى الْهِنْدِيُّ قَوْلًا بِاشْتِرَاطِهِ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى الِاسْمِ دُونَ غَيْرِهِ. وَفَصَّلَ ابْنُ الْمُنِيرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ يَتَنَاوَلُ مَعْهُودًا مُعَيَّنًا فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ وَلَوْ كَانَ مُنَاسِبًا، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفًا. وَأَمَّا إذَا عُلِّقَ بِعَامٍّ أَوْ مُنَكَّرٍ فَهُوَ تَعْلِيلٌ وَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ الْمُنَاسَبَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِعِلَّةِ كَذَا، وَلَمْ تَظْهَرْ الْمُنَاسَبَةُ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: الْإِيمَاءَاتُ بِأَنْوَاعِهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشَرِّعَ اعْتَبَرَ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ وَلَمْ يُلْغِهِ. وَأَمَّا أَنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ، أَوْ جُزْءُ عِلَّةٍ، أَوْ شَرْطُ عِلَّةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّالُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَقَدْ يَدُلُّ بِقَرِينَةٍ. وَإِنْ شِئْت فَقُلْ: هَلْ التَّنْصِيصُ أَوْ

التَّنْبِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذَا الْمَنْصُوصَ أَوْ الْمُنَبَّهَ عَلَى عِلَّتِهِ مَقْصُودٌ بِعَيْنِهِ، أَوْ جُزْئِيٌّ أُقِيمَ مَقَامَ كُلِّيٍّ، وَالْعِلَّةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا أَوْ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهَا هُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الَّذِي أُقِيمَ هَذَا الْجُزْئِيُّ مَقَامَهُ؟ قُلْنَا: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَعَيْنِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جُزْئِيًّا أُقِيمَ مَقَامَ كُلِّيٍّ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» . وَهَذَا السُّؤَالُ وَقَعَ فِي الْمُسْتَصْفَى " مجا وَصَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا. الثَّانِي: دَلَالَةُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فِي الْإِيمَاءَاتِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ إنَّمَا هِيَ ظَاهِرَةٌ إلَّا فِيمَا كَانَ مِنْهَا بِصِيغَةِ الشَّرْطِ. الثَّالِثُ: لَوْ ظَفِرْنَا فِي الْوَصْفِ بِمُنَاسَبَةٍ تَعَيَّنَ لِحَاظُهَا، وَجَازَ لِلنَّاظِرِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَالنَّقْصُ: فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» فَإِنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْمَنْعَ لِعِلَّةِ تَشْوِيشِ الْفِكْرِ فَأَلْحَقَ بِهِ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ لِاخْتِلَافِ الْفِكْرِ. وَالثَّانِي: كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضْ، فَإِنَّهُ إضَافَةُ الْمَنْعِ إلَى عَدَمِ الْقَبْضِ لَيْسَتْ لِصُورَتِهِ. وَاضْطَرَبَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: لِتَوَالِي الضَّمَانَيْنِ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْبَيْعُ مِنْ الْبَائِعِ. وَقِيلَ: لِضَعْفِ الْمِلْكِ فَلَا يَخْرُجُ، لَكِنْ يَخْرُجُ مِنْهُ الِاسْتِبْدَالُ عَنْ بَدَلِ الثَّلَاثِمِائَةِ بِمِائَةٍ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ لِتَضَمُّنِهِ غَرَرًا مِنْ حَيْثُ يُتَوَقَّعُ انْقِلَابُ الْمِلْكِ إلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِالتَّلَفِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَبَيَّنَ بِالْآخِرَةِ أَنَّ الْبَائِعَ الثَّانِيَ بَاعَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَيَكُونُ غَرَرًا، فَيَخْرُجُ مِنْهُ بَيْعُ الْعَقَارِ فَإِنَّ تَلَفَهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٌ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أُصُولِهِمْ. وَأَيْضًا كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» فَإِنَّهُ يُنَبِّهُ عَلَى

المسلك الرابع الاستدلال على علية الحكم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم

كَوْنِ الدِّبَاغِ يُطَهِّرُ الْجِلْدَ مُطْلَقًا. وَخَرَجَ بِهِ عِنْدَنَا جِلْدُ الْكَلْبِ، وَكَانَ الْمَعْنَى مِنْهُ أَنَّا وَجَدْنَا الْمُنَاسَبَةَ خَاصَّةً بِجِلْدِ مَا كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ الْمَمَاتِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الدِّبَاغِ فِي رَدِّ الْجِلْدِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَيَعُودُ طَاهِرًا، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي حَقِّ الْكَلْبِ. وَقَضَى أَبُو حَنِيفَةَ بِطَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغِ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِطَهَارَتِهِ حَالَ الْحَيَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: إدَارَةُ الْحُكْمِ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ حَتَّى سَارَ الْقَوْلُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يُنَاقِضُ أَصْلَكُمْ فِي مَنْعِ إرْثِ كُلِّ قَاتِلٍ، بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ» مَعَ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ خَاصَّةٌ، وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فِي اسْتِعْجَالِ الْمِيرَاثِ، فَيَخْرُجُ الْقَتْلُ الْمُبَاحُ وَالْوَاجِبُ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ. قُلْنَا: الْمُنَاسَبَةُ خَاصَّةٌ - كَمَا ذَكَرْتُمْ - لَكِنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِ مَنْ مَنَعَ الْقَاتِلَ مُطْلَقًا أَنَّ الْإِرْثَ اضْطِرَارِيٌّ، وَلَوْ حَصَلَ بِالْقَتْلِ لَكَانَ كَسْبِيًّا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْقَتْلُ يَمْنَعُ الْمُوَالَاةَ فَيَمْنَعُ الْإِرْثَ كَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ. وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْمُنَاسَبَاتُ تَسَاقَطْنَ وَلَمْ يُعْمَلْ بِإِحْدَاهَا، وَرَجَعَ إلَى عُمُومِ الْحَدِيثِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمُنَاسَبَاتِ. عَلَى أَنَّ أَصْلَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَإِنْ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الشِّفَاءِ " فَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ. وَيُشْكِلُ مَا سَمَّاهُ زِيَادَةً، فِي مَسْأَلَةِ الْقَاضِي، مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، وَمَا سَمَّاهُ نُقْصَانًا عَنْ عُمُومِ الْخَبَرِ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مُعَارِضٍ أَمَّا لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ فَلَا. [الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ الِاسْتِدْلَال عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَهَذَا مِمَّا أَهْمَلَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ". وَصُورَتُهُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا بَعْدَ وُقُوعِ شَيْءٍ، فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي وَقَعَ. وَوُقُوعُ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنْ

المسلك الخامس في إثبات العلية المناسبة

يَرَى أَنَّهُ سَهَا فِي الصَّلَاةِ فَسَجَدَ، فَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ لِذَلِكَ السَّهْوِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ وَيَكُونُ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَى فَرُجِمَ. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يَجِبُ مِثْلُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بَعْدَ نَقْلِهِ بِالْقِيَاسِ إذْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» وَنَحْوُهُ مِمَّا يَحِلُّ الْفِعْلُ فِيهِ مَحَلَّ الْقَوْلِ الْعَامِّ، لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا: إنَّ قَضَاءَهُ عَلَى الْمُعَيَّنِ لِعِلَّةٍ وَصْفِيَّةٍ لَا تَقْتَضِي وُجُوبَ عُمُومِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ اجْتِنَابُهُ الطِّيبَ وَمَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُونَ عِنْدَ إحْرَامِهِمْ إذْ عُقِلَ مِنْ ذَلِكَ شَاهِدُ الْحَالِ أَنَّهُ إنَّمَا اجْتَنَبَهُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ. وَمِنْ أَمْثَالِهِ الْمُنَبِّهَةِ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ تَخْيِيرُهُ بَرِيرَةَ لَمَّا عَتَقَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا. [الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ الْمُنَاسَبَةُ] وَهِيَ مِنْ الطُّرُقِ الْمَعْقُولَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِ " الْإِخَالَةِ " وَبِ " الْمَصْلَحَةِ " وَبِ " الِاسْتِدْلَالِ " وَبِ " رِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ ". وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا " تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ " لِأَنَّهُ إبْدَاءُ مَنَاطِ الْحُكْمِ. وَهِيَ عُمْدَةُ كِتَابِ الْقِيَاسِ وَغَمْرَتُهُ وَمَحَلُّ غُمُوضِهِ وَوُضُوحِهِ. وَهُوَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ، أَيْ: الْمُنَاسَبَةِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمُلَاءَمَةُ. فَلَا دُورَ مِنْ ذَاتِ الْأَصْلِ، لَا بِنَصٍّ وَلَا غَيْرِهِ، مَعَ السَّلَامَةِ عَنْ الْقَوَادِحِ. كَالْإِسْكَارِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَالْمُنَاسِبُ - لُغَةً: الْمُلَائِمُ، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَالَ مَنْ لَمْ يُعَلِّلْ

أَفْعَالَ اللَّهِ بِالْغَرَضِ: إنَّهُ الْمُلَائِمُ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ فِي الْعَادَاتِ، أَيْ مَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَقْصِدُ الْعُقَلَاءُ لِفِعْلِهِ عَلَى مَجَارِي الْعَادَةِ تَحْصِيلَ مَقْصُودٍ مَخْصُوصٍ. وَقَالَ مَنْ يُعَلِّلُهَا: هُوَ مَا يَجْلِبُ لِلْإِنْسَانِ نَفْعًا، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ ضُرًّا. وَهُوَ قَوْلُ الدَّبُوسِيِّ: مَا لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ. قِيلَ: وَعَلَى هَذَا فَإِثْبَاتُهَا عَلَى الْخَصْمِ مُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَقُولُ: عَقْلِيٌّ لَا يَتَلَقَّى هَذَا بِالْقَوْلِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: هُوَ حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ لِأَنَّهُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ، دُونَ الْمُنَاظِرِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - ": وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ عَلَى الْجَاحِدِ بِتَبْيِينِ مَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ عَلَى وَجْهٍ مَضْبُوطٍ، فَإِذَا أَبْدَاهُ الْمُعَلِّلُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى جَحْدِهِ. وَقِيلَ: إنَّ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ بُنِيَ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَأَنَّ الْمُنَاسِبَ لَا يَنْخَرِمُ بِالْمُعَارِضِ. وَالتَّفْسِيرَ الثَّانِي بُنِيَ عَلَى مَنْعِ التَّخْصِيصِ وَيَأْخُذُ انْتِفَاءَ الْعَارِضِ فِي حَدِّ الْمُنَاسِبِ. وَقَالَ الْخِلَافِيُّونَ: الْمُنَاسَبَةُ مُبَاشَرَةُ الْفِعْلِ الصَّالِحِ لِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ. أَوْ: صَلَاحِيَّةُ الْفِعْلِ لِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ: هُوَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ يَحْصُلُ عَقْلًا مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ. فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ خَفِيًّا أَوْ ظَاهِرًا غَيْرَ مُنْضَبِطٍ فَالْمُعْتَبَرُ مَا يُلَازِمُهُ، وَهُوَ الْمَظِنَّةُ، كَالْمَشَقَّةِ، فَإِنَّهَا لِلْمَقْصُودِ وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا بِنَفْسِهَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ، فَتُعْتَبَرُ بِمَا يُلَازِمُهُ وَهُوَ السَّفَرُ. قَالَ

تقسيم المناسب

الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي مَاهِيَّةِ الْمُنَاسَبَةِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ، وَهُوَ اقْتِرَانُ الْحُكْمِ لِلْوَصْفِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الْمُنَاسَبَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ: الْمُنَاسَبَةُ مَعَ الِاقْتِرَانِ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ، وَلَوْ كَانَ الِاقْتِرَانُ دَاخِلًا فِي الْمَاهِيَّةِ لَمَا صَحَّ هَذَا. وَأَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالظَّاهِرَةِ الْمُنْضَبِطَةِ جَائِزٌ، عَلَى مَا اخْتَارَهُ قَائِلُ هَذَا الْحَدِّ، وَالْوَصْفِيَّةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِيهَا مَعَ تَحَقُّقِ الْمُنَاسَبَةِ. وَقَدْ احْتَجَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى إفَادَتِهَا الْعِلِّيَّةَ بِتَمَسُّكِ الصَّحَابَةِ بِهَا، فَإِنَّهُمْ يُلْحِقُونَ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُ يُضَاهِيه لِمَعْنًى أَوْ يُشْبِهُهُ. وَرَدَّهُ فِي الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ " بِأَنَّهُ مَا نُقِلَ إلَيْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِكُلِّ ظَنٍّ غَالِبٍ، فَلَا يَبْعُدُ التَّعَبُّدُ مِنْ نَوْعِ الظَّنِّ الْغَالِبِ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ النَّوْعَ. ثُمَّ قَالَ: الْأَوْلَى الِاعْتِمَادُ عَلَى الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى اعْتِبَارِ الْفُقَهَاءِ " الْمُنَاسَبَةَ " فِي الْأَحْكَامِ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ أَحْكَامِ اللَّهِ بِالْغَرَضِ، كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْرِيرُ هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِلَلِ. وَالْحَقُّ أَنَّ اسْتِقْرَاءَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ دَلَّ عَلَى ضَبْطِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ، وَهَذَا كَافٍ فِيمَا نَرُومُهُ، وَذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ (جَلَّ اسْمُهُ) لَا وُجُوبًا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي وُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ " التَّعَبُّدِ " لِنُدْرَتِهِ فِي الْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى " مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ ". وَالْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِالتَّعَبُّدِ فِيمَا لَا تَظْهَرُ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ إلَّا عِنْدَ مَنْ يُعَلِّلُ بِالْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ بِنَفْسِهِ وَلَا مَعْلُومٌ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْمُنَاسِبِ، وَلَا يُصَارُ إلَى التَّعَبُّدِ مَعَهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ. [تَقْسِيمُ الْمُنَاسِبِ] [أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ] ثُمَّ النَّظَرُ فِي (الْمُنَاسِبِ) فِي مَوَاضِعَ:

أقسام المناسب من حيث الحقيقة والإقناع

الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ [أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ] إنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ يَقِينًا، كَمَصْلَحَةِ الْبَيْعِ لِلْحِلِّ أَوْ ظَنًّا، كَالْقِصَاصِ لِحِفْظِ النَّفْسِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُهَا عَلَى السَّوَاءِ، كَحَدِّ الْخَمْرِ لِحِفْظِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْمَيْلَ وَالْإِقْدَامَ مُسَاوٍ لِلْإِحْجَامِ. وَقَدْ يَكُونُ نَفْيُ الْحُصُولِ أَوْضَحَ، كَنِكَاحِ الْآيِسَةِ لِتَحْصِيلِ التَّنَاسُلِ. وَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْمَقْصُودِ مِنْهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ، لِلْمُسَاوَاةِ فِي الثَّالِثِ، والمرجوحية فِي الرَّابِعِ. وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ ظُهُورِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ التَّعْلِيلِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: يَجُوزُ إنْ كَانَ فِي آحَادِ الصُّوَرِ الشَّاذَّةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَغْلَبِ الصُّوَرِ مِنْ الْجِنْسِ مُفْضِيًا إلَى الْمَقْصُودِ، وَإِلَّا فَلَا. أَمَّا إذَا حَصَلَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ ثَابِتٌ فَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: يُعْتَبَرُ التَّعْلِيلُ بِهِ. وَالْأَصَحُّ لَا يُعْتَبَرُ، سَوَاءٌ مَا لَا تَعَبُّدَ فِيهِ، كَلُحُوقِ نَسَبِ الْمَشْرِقِيِّ بِالْمَغْرِبِيَّةِ، وَمَا فِيهِ تَعَبُّدٌ، كَاسْتِبْرَاءِ جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا بَائِعُهَا فِي الْمَجْلِسِ. [أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ] الْمَوْضِعُ الثَّانِي [أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ] إنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى حَقِيقِيٍّ وَإِقْنَاعِيٍّ. وَالْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ وَاقِعٌ فِي

مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَمَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَمَحَلِّ التَّحْسِينِ. الْأَوَّلُ - الضَّرُورِيُّ: وَهُوَ الْمُتَضَمِّنُ حِفْظَ مَقْصُودٍ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْخَمْسِ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهَا الشَّرَائِعُ، بَلْ هِيَ مُطْبِقَةٌ عَلَى حِفْظِهَا، وَهِيَ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا - حِفْظُ النَّفْسِ: بِشَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لِتَهَارَجَ الْخَلْقُ وَاخْتَلَّ نِظَامُ الْمَصَالِحِ. ثَانِيهَا - حِفْظُ الْمَالِ: بِأَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعْتَدِي فِيهِ فَإِنَّ الْمَالَ قِوَامُ الْعَيْشِ. (وَثَانِيهِمَا) بِالْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ. ثَالِثُهَا - حِفْظُ النَّسْلِ: بِتَحْرِيمِ الزِّنَى وَإِيجَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْأَسْبَابَ دَاعِيَةٌ إلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاضُدِ وَالتَّعَاوُنِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى الْعَيْشُ إلَّا بِهِ عَادَةً. رَابِعُهَا: حِفْظُ الدِّينِ: بِشَرْعِيَّةِ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ، فَالْقَتْلُ لِلرِّدَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْقَتْلِ، لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ، وَالْقِتَالُ فِي جِهَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ. خَامِسُهَا - حِفْظُ الْعَقْلِ: بِشَرْعِيَّةِ الْحَدِّ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ قِوَامُ كُلِّ فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ، فَاخْتِلَالُهُ مُؤَدٍّ إلَى مَفْسَدَةٍ عُظْمَى. هَذَا مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ. وَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ نِزَاعٍ، فَدَعْوَاهُمْ إطْبَاقُ الشَّرَائِعِ عَلَى ذَلِكَ مَمْنُوعٌ.

أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ فَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مَا خَلَا شَرْعٌ عَنْ اسْتِصْلَاحٍ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ. وَالْأَقْرَبُ فِيهِ الْوَقْفُ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلِ: فَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقِصَاصِ فَيَرُدُّهُ أَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا عُلِمَ وُجُوبُهُ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَذَلِكَ لَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ: يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ بُطْلَانُ الْعَالَمِ. فَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي الْخَمْرِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ: قِيلَ: بَلْ كَانَ الْمُبَاحُ شُرْبُ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ، لَا مَا يَنْتَهِي إلَى السُّكْرِ الْمُزِيلِ لِلْعَقْلِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ فِي كُلِّ مِلَّةٍ. قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ "، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي تَفْسِيرِهِ " عَنْ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ ثُمَّ نَازَعَهُ وَقَالَ: تَوَاتَرَ الْخَبَرُ حَيْثُ كَانَتْ مُبَاحَةً بِالْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ إلَى حَدٍّ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ. وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ". فَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْصِيلَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُسْكِرِ لَمْ يَزَلْ مُحَرَّمًا فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. انْتَهَى. وَقَدْ نَاقَشَهُمْ الْأَصْفَهَانِيُّ صَاحِبُ النُّكَتِ " مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ إنَّمَا تَحْصُلُ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ، لَا بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تُخِلُّ بِمَقْصُودِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ الْمُنَاسِبُ هُوَ الْحُكْمُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ، لَا الْوَصْفُ وَهُوَ السَّرِقَةُ وَالْقَتْلُ وَالرِّدَّةُ. وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ صِفَةُ السَّرِقَةِ وَالرِّدَّةِ. وَغَيْرِهَا، لِأَنَّهُ يُقَالُ: السَّرِقَةُ تُنَاسِبُ الْقَطْعَ، وَالْقَتْلُ يُنَاسِبُ الْقِصَاصَ، وَلَا يُقَالُ: إيجَابُ الْقِصَاصِ مُنَاسِبٌ. وَقَدْ زَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ (سَادِسًا) وَهُوَ: حِفْظُ الْأَعْرَاضِ، فَإِنَّ

عَادَةَ الْعُقَلَاءِ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ أَعْرَاضِهِمْ، وَمَا فُدِيَ بِالضَّرُورِيِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا. وَقَدْ شُرِعَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ الْحَدُّ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْحِفْظِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَجَاوَزُ مَنْ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَتَجَاوَزُ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى عِرْضِهِ، وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْجِنَايَةِ يَتَوَقَّعُونَ الْحَرْبَ الْعَوَانَ الْمُبِيدَةَ لَلْفَرَسَانِ لِأَجْلِ كَلِمَةٍ، فَهَؤُلَاءِ عَبْسٌ وَذُبْيَانَ اسْتَمَرَّتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِأَجْلِ سَبْقِ فَرَسٍ فَرَسًا، وَهُمَا دَاحِسٌ وَالْغَبْرَاءُ، وَإِلَيْهِمَا تُضَافُ هَذِهِ الْحَرْبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ، وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرٍ، اعْتَقَدَ مَسْبُوقِيَّتَهُ عَارًا يُقَبِّحُ عِرْضَهُ. وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا الْقِسْمِ مُشْكَلُ الضَّرُورِيِّ، كَحَدِّ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ، وَتَحْرِيمِ الْبِدْعَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي عُقُوبَةِ الْمُبْتَدِعِ الدَّاعِي إلَيْهَا، وَفِي حِفْظِ النَّسَبِ بِتَحْرِيمِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ، وَالتَّعْزِيرِ عَلَى ذَلِكَ. الثَّانِي - الْحَاجِيُّ: وَهُوَ مَا يَقَعُ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ، لَا الضَّرُورَةِ، كَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ

عَلَى مَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَسَاكِنِ مَعَ الْقُصُورِ عَنْ تَمَلُّكِهَا وَضَنِّ مَالِكِهَا بِبَذْلِهَا عَارِيَّةً. وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ لِاشْتِغَالِ بَعْضِ الْمُلَّاكِ عَنْ تَعَهُّدِ أَشْجَارِهِ. وَكَذَلِكَ الْقِرَاضُ. . . وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْبَيْعَ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: تَصْحِيحُ الْبَيْعِ آيِلٌ إلَى الضَّرُورَةِ. وَالْإِجَارَةُ دُونَهُ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْبَيْعِ، فَالضَّرُورَةُ إلَيْهِ عَامَّةٌ، وَفِي الْآحَادِ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ الْإِجَارَةِ، فَالْحَاجَةُ إلَيْهَا لَيْسَتْ عَامَّةً. وَنَازَعَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَقَالَ: وُقُوعُ الْإِجَارَاتِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ. وَمِنْهُ: نَصْبُ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ، لِأَنَّهُ أَكْمَلُ نَظَرًا مِنْ الْمَرْأَةِ، لِكَمَالِ عَقْلِهِ، فَلَوْ فَوَّضَ نِكَاحَهَا إلَيْهَا أَوْقَعَتْ نَفْسَهَا فِي مَعَرَّةٍ، لِقُصُورِ نَظَرِهَا، وَلِأَنَّ تَوَلِّيهَا النِّكَاحَ يُسْتَقْبَحُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، لِإِشْعَارِهِ بِبَذَاءَتِهَا. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ، كَالْإِجَارَةِ لِتَرْبِيَةِ الطِّفْلِ. وَتَكْمِيلًا كَخِيَارِ الْبَيْعِ، وَرِعَايَةِ الْكَفَاءَةِ، وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ أَفْضَى إلَى دَوَامِ النِّكَاحِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ (الْمُنَاسَبَةَ) قَدْ تَكُونُ جَلِيَّةً حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى الْقَطْعِ، كَالضَّرُورِيَّاتِ. وَقَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً، كَالْمَعَانِي الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْفُقَهَاءُ وَلَيْسَ لَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ احْتِمَالِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهَا. وَقَدْ يُشْتَبَهُ كَوْنُ (الْمُنَاسَبَةِ) وَاقِعَةً فِي مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ أَوْ الْحَاجَةِ لِتَقَارُبِهِمَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: إنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْإِجَارَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَنَازَعَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَقَالَ: إنَّهَا فِي مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ قَادِرًا عَلَى الْمَسَاكِنِ بِالْمِلْكِ وَلَا أَكْثَرُهُمْ، وَالسَّكَنُ مَا يُكِنُّ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ مِنْ مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ. وَقَدْ يَخْتَلِفُ التَّأْثِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ.

الثَّالِثُ - التَّحْسِينِيُّ: وَهُوَ قِسْمَانِ: مِنْهُ مَا هُوَ غَيْرُ مُعَارِضٍ لِلْقَوَاعِدِ، كَتَحْرِيمِ الْقَاذُورَاتِ، فَإِنَّ نُفْرَةَ الطِّبَاعِ عَنْهَا لِقَذَارَتِهَا مَعْنًى يُنَاسِبُ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا، حَثًّا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْمُسْتَحَبِّ عَادَةً عَلَى تَفْصِيلٍ. وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَ (مِنْهُ) : إزَالَةُ النَّجَاسَةِ، فَإِنَّهَا مُسْتَقْذَرَةٌ فِي الْجِبِلَّاتِ، وَاجْتِنَابُهَا أَهَمُّ فِي الْمَكَارِمِ وَالْمُرُوآتِ، وَلِذَا يَحْرُمُ التَّضَمُّخُ بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. قَالَ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ: وَالشَّافِعِيُّ نَصَّ عَلَى هَذَا فِي الْكَثِيرِ. ثُمَّ إنَّهُ فِي النِّهَايَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى وَطْءِ الْأَمَةِ فِي دُبُرِهَا قَالَ: لَا يَحْرُمُ. وَ (مِنْهُ) : إيجَابُ الْوُضُوءِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إفَادَةِ النَّظَافَةِ، إذْ الْأَمْرُ بِهَا فِي اسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَاتِ مِمَّا يَعْسُرُ فَوَظَّفَ الْوُضُوءَ فِي الْأَوْقَاتِ وَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى إفَادَتِهِ الْمَقْصُودَ، وَعَلِمَ الشَّارِعُ أَنَّ أَرْبَابَ الْعُقُولِ لَا يَعْتَمِدُونَ فِعْلَ الْأَوْسَاخِ وَالْأَدْرَانِ إلَى أَعْضَائِهِمْ الْبَادِيَةِ مِنْهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ النِّهَايَةُ فِي الِاسْتِصْلَاحِ.

قَالَ الْإِمَامُ: وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ أَظْهَرُ فِي هَذَا مِنْ النَّظَافَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الْوُضُوءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْجُمْلَةَ تَسْتَقْذِرُهَا، وَالْمُرُوءَةَ تَقْتَضِي اجْتِنَابُهَا، فَهِيَ أَظْهَرُ مِنْ اجْتِنَابِ الشُّعْثِ وَالْغَمَرَاتِ. (قَالَ) : وَلِهَذَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْوُضُوءَ بِالنِّيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْتَحَقَ بِالْعَادَاتِ الْعَرِيَّةِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَضَاهَى الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةَ. وَ (مِنْهُ) سَلْبُ الْعَبْدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهَا مَنْصِبٌ شَرِيفٌ، وَالْعَبْدُ نَازِلُ الْقَدْرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُلَائِمٍ. وَهَذَا اسْتَشْكَلَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِ الشَّاهِدِ وَاتِّصَالِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَدَفْعِ الْيَدِ الظَّالِمَةِ عَنْهُ مِنْ مَرَاتِبِ الضَّرُورَةِ، وَاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْعَبْدِ فِي الرُّتْبَةِ وَالْمَنْصِبِ مِنْ مَرَاتِبِ التَّحْسِينِ، وَتَرْكِ مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ التَّحْسِينِ بَعِيدًا جِدًّا. نَعَمْ، لَوْ وُجِدَ لَفْظٌ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ وَيُعَلِّلُ هَذَا التَّعْلِيلَ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ. فَأَمَّا مَعَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا التَّعْلِيلِ فَفِيهِ هَذَا الْإِشْكَالُ. وَقَدْ تَنَبَّهْ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِإِشْكَالِ الْمَسْأَلَةِ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لِمَنْ رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ مُسْتَنَدًا أَوْ وَجْهًا. وَأَمَّا سَلْبُ وِلَايَتِهِ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ إذْ وِلَايَةُ الْأَطْفَالِ تَسْتَدْعِي اسْتِغْرَاقًا وَفَرَاغًا، وَالْعَبْدُ مُسْتَغْرَقٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ، فَتَفْوِيضُ أَمْرِ الطِّفْلِ إلَيْهِ إضْرَارٌ بِالطِّفْلِ. أَمَّا الشَّهَادَةُ فَتَتَّفِقُ أَحْيَانًا، كَالرِّوَايَةِ وَالْفَتْوَى. و (مِنْهُ) مَا هُوَ مُعَارِضٌ كَالْكِتَابَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا مَكْرُمَةً فِي الْعَوَائِدِ مَا احْتَمَلَ الشَّرْعُ فِيهَا خَرْمَ قَاعِدَةٍ مُمَهَّدَةٍ، وَهِيَ امْتِنَاعُ مُعَامَلَةِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ وَامْتِنَاعُ مُقَابَلَةِ الْمِلْكِ بِالْمِلْكِ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ. نَعَمْ، هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى قِيَاسِ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ. وَزَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ قِيَاسِ الْوَسَائِلِ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهَا مَعَ أَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَى الْعِتْقِ الَّذِي لَا يَجِبُ. وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. لَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقَدِّرُونَ خُرُوجَهَا عَنْ الْقِيَاسِ وَاشْتِمَالَهَا عَلَى شَائِبَتَيْ مُعَاوَضَةٍ وَتَعْلِيقٍ، عَلَى خِلَافِ قِيَاسِهِمَا.

وَهَذَا الْقِسْمُ كُلُّهُ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، كَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَرِيَاضَتِهَا وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ. وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالدَّارَيْنِ، كَإِيجَابِ الْكَفَّارَاتِ، إذْ يَحْصُلُ بِهَا الزَّجْرُ عَنْ تَعَاطِي الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لَهَا، وَتَحْصِيلِ تَلَافِي الذَّنْبِ الْكَبِيرِ. وَفَائِدَةُ مُرَاعَاةِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ مَصْلَحَتَانِ وَجَبَ إعْمَالُ الضَّرُورَةِ الْمُهِمَّةِ وَإِلْغَاءُ التَّتِمَّةِ. وَأَمَّا الْإِقْنَاعِيُّ فَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ، لَكِنْ إذَا بُحِثَ عَنْهُ حَقَّ الْبَحْثِ ظَهَرَ بِخِلَافِهِ، كَقَوْلِهِمْ، فِي مَنْعِ بَيْعِ الْكَلْبِ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيِّتَةِ: إذْ كَوْنُ الشَّيْءِ نَجَسًا يُنَاسِبُ إذْلَالَهُ. وَمُقَابَلَتُهُ بِالْمَالِ فِي الْبَيْعِ إعْزَازٌ لَهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ يُنَاسِبُ عَدَمَ جَوَازِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ مَعَ الِاقْتِرَانِ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ فَهَذَا - وَإِنْ كَانَ مُخَيَّلًا - فَهُوَ عِنْدَ النَّظَرِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ، إذْ، لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الشَّيْءِ نَجِسًا إلَّا عَدَمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَهُ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ. كَذَا قَالَ الرَّازِيَّ وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ. وَقَدْ يُنَازَعُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ نَجَسًا مَنْعُ الصَّلَاةِ مَعَهُ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِ النَّجَسِ، وَحِينَئِذٍ فَالتَّعْلِيلُ بِكَوْنِ النَّجَاسَةِ يُنَاسِبُ الْإِذْلَالَ لَيْسَ بِإِقْنَاعِيٍّ. الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ [تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ وَعَدَمِهِ] الْمُنَاسَبَةُ تَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّرْعِ لَهَا بِالْمُلَائِمَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَعَدَمِهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ، أَوْ يُعْلَمَ أَنَّهُ أَلْغَاهُ، أَوْ لَا يُعْلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَا عُلِمَ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لَهُ وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الرُّجْحَانُ، وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِبَارِ إيرَادُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ، لَا التَّنْصِيصَ عَلَيْهِ وَلَا الْإِيمَاءَ إلَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ الْعِلِّيَّةُ مُسْتَفَادَةً مِنْ الْمُنَاسَبَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: شَهِدَ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ ": الْمَعْنَى بِشَهَادَةِ أَصْلٍ مُعَيَّنٍ لِلْوَصْفِ أَنَّهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ أُثْبِتَ شَرْعًا عَلَى وَفْقِهِ. وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ فِي نَوْعِهِ أَوْ فِي جِنْسِهِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي نَوْعِهِ أَوْ جِنْسِهِ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يُعْتَبَرُ نَوْعُهُ فِي نَوْعِهِ: مِنْ خُصُوصِ الْوَصْفِ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ، وَعُمُومِهِ فِي عُمُومِهِ، كَقِيَاسِ الْقَتْلِ بِالْجَارِحِ عَلَى الْمُثْقِلِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ، بِجَامِعِ كَوْنِهِ قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانِيًّا، فَإِنَّهُ قَدْ عُرِفَ تَأْثِيرُ خُصُوصِ كَوْنِهِ قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فِي الْمُحَدَّدِ. وَهَذَا الْقِسْمُ يُسَمَّى بِالْمُنَاسِبِ الْمُلَائِمِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِيَاسِيِّينَ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ فِي جِنْسِهِ: كَقِيَاسِ تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ عَلَى الْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ فِي النِّكَاحِ عَلَى تَقْدِيمِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي الْإِرْثِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ نَوْعٌ وَاحِدٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَلَمْ يُعْرَفْ تَأْثِيرُهُ فِي التَّقْدِيمِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، لَكِنْ عُرِفَ تَأْثِيرُهُ فِي جِنْسِهِ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ عَدَمِ الْأَمْرِ، كَمَا فِي الْإِرْثِ وَالصَّلَاةِ. وَهَذَا الْقِسْمُ دُونَ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ أَقَلُّ مِنْ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُعْتَبَرَ جِنْسُهُ فِي نَوْعِهِ: كَقِيَاسِ إسْقَاطِ الْقَضَاءِ عَنْ الْحَائِضِ عَلَى إسْقَاطِ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ

السَّاقِطَتَيْنِ عَنْ الْمُسَافِرِ، بِتَعْلِيلِ الْمَشَقَّةِ وَالْمَشَقَّةُ جِنْسٌ، وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ يُسْتَعْمَلُ عَلَى صِنْفَيْنِ: إسْقَاطُ قَضَاءِ الْكُلِّ، وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الْبَعْضِ، وَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فِي هَذَا النَّوْعِ ضَرُورَةَ تَأْثِيرِهَا فِي إسْقَاطِ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ. وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مُتَقَارِبَانِ، لَكِنَّ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الْإِيهَامَ فِي الْعِلَّةِ أَكْثَرُ مَحْذُورًا مِنْ الْإِيهَامِ فِي الْمَعْلُولِ. الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: اعْتِبَارُ جِنْسِ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ: وَهُوَ كَتَعْلِيلِ كَوْنِ حَدِّ الشُّرْبِ ثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ الْقَذْفِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مَظِنَّةُ الِافْتِرَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَهُ، قِيَاسًا عَلَى الْخَلْوَةِ، فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَظِنَّةَ الْوَطْءِ أُقِيمَتْ مَقَامَهُ فِي الْحُرْمَةِ. وَهَذَا الْقِسْمُ كَالْأَوَّلِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَ الْوَفَاءُ بِإِقَامَةِ الْمَظِنَّةِ مَقَامَ الْمَظْنُونِ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْخَلْوَةِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي مَا عُلِمَ إلْغَاءُ الشَّرْعِ لَهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ إيجَابُ الصَّوْمِ ابْتِدَاءً فِي كَفَّارَةِ مَنْ وَاقَعَ فِي رَمَضَانَ، لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا الِانْزِجَارُ، وَهُوَ لَا يَنْزَجِرُ بِالْعِتْقِ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا لَكِنَّ الشَّرْعَ أَلْغَاهُ، حَيْثُ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ مُرَتَّبَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْقَوْلُ بِهِ مُخَالِفٌ لِلنَّهْيِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خَصَّصُوا الْعُمُومَ بِالْمَعْنَى فِيمَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ. قُلْنَا: حَيْثُ لَمْ يُعَكِّرْ عَلَى النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ، وَهُوَ هُنَا يُعَكِّرْ، فَإِنَّ اعْتِبَارَهُ يُؤَدِّي إلَى الشَّرْعِ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِتْقُ. الْقِسْمُ الثَّالِثِ أَلَّا يُعْلَمَ اعْتِبَارُهُ وَلَا إلْغَاؤُهُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى ب " الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ "، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ اخْتِصَاصُ

تقسيم المناسبة من حيث التأثير والملاءمة

الْمَالِكِيَّةِ بِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ يَكْتَفُونَ بِمُطْلَقِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إلَّا ذَلِكَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ أَسَاسِ الْقِيَاسِ ": قَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ اسْتِيلَادَ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ سَعْيًا لِنَقْلِ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ وُرُودِ نَصٍّ فِيهِ، وَلَا وُجُودِ أَصْلٍ مُعَيَّنٍ يَشْهَدُ بِنَقْلِ الْمِلْكِ، وَالْقَدْرِ الْمُصْلِحِ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ الْإِعْفَافِ عَلَى وَلَدِهِ ، وَقَدْ مَسَّتْ حَاجَتُهُ إلَيْهِ فَيَنْقُلُ مِلْكَهُ إلَيْهِ. وَهَذَا كَأَنَّهُ اتِّبَاعُ مَصْلَحَةٍ مُرْسَلَةٍ. وَكَذَا قَالَ فِي الْغَاصِبِ تَكْثُرُ تَصَرُّفَاتُهُ فِي الْمَالِ الْمَغْصُوبِ أَنَّ لِمَالِكِهِ إجَازَةَ تَصَرُّفَاتِهِ إذْ يُعْتَبَرُ اتِّبَاعُ مَصْلَحَةٍ وَكَذَا قَالَ فِي الْعَامِلَيْنِ مَعَ أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَالْإِجَازَةُ عِنْدَ بُطْلَانِهِ مِنْ الْفُضُولِيِّ، وَلَكِنْ إذَا كَثُرَتْ التَّصَرُّفَاتُ وَظَهَرَ الْعُسْرُ اقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ ذَلِكَ. [تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلَاءَمَةُ] الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ [تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ، وَالْمُلَاءَمَةُ] الْمُنَاسِبُ إمَّا مُؤَثِّرٌ أَوْ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَغَيْرُ الْمُؤَثِّرِ إمَّا مُلَائِمٌ أَوْ غَيْرُ مُلَائِمٍ، وَغَيْرُ الْمُلَائِمِ إمَّا غَرِيبٌ أَوْ مُرْسَلٌ أَوْ مَلْغِيٌّ. الْأَوَّلُ: [الْمُؤَثِّرُ] : وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً بِشَرْطِ دَلَالَتِهَا عَلَى تَأْثِيرِ غَيْرِ الْوَصْفِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، أَوْ نَوْعِهِ فِي نَوْعِهِ، بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ. قَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى ": هُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ. وَسُمِّيَ مُؤَثِّرًا لِظُهُورِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ فَالنَّصُّ كَمَسِّ الْمُتَوَضِّئِ ذَكَرَهُ، فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ عَيْنَ مَسِّ الْمُتَوَضِّئِ ذَكَرَهُ فِي عَيْنِ الْحَدَثِ بِنَصِّهِ عَلَيْهِ. وَالْإِجْمَاعُ: كَالصِّغَرِ، فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ فِي الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ. ثُمَّ قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ: قَدْ يَكُونُ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا، كَالصِّغَرِ الْمُنَاسِبِ لِلْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا، كَخُرُوجِ الْمَنِيِّ لِإِيجَابِ الْغُسْلِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ:

إنَّمَا يَتِمُّ بِالْمُنَاسَبَةِ أَوْ التَّغَيُّرِ. وَهَذَا الْقِسْمُ أَقَلُّ الْأَقْسَامِ، وَلِهَذَا قَبِلَهُ أَبُو زَيْدٍ دُونَ أَنْوَاعِ الْمُنَاسَبَاتِ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحَاتِ. وَقَالَ صَاحِبُ جَنَّةِ النَّاظِرِ ": إطْلَاقُ لَفْظِ الْعَيْنِ هُنَا تَجَوُّزٌ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ هِيَ الْمُشَخَّصَاتُ، وَهِيَ لَا تَقْبَلُ التَّعْدَادَ لِيُمْكِنَ وُجُودُهَا فِي مَحَلَّيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْعَيْنِ هَاهُنَا مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ الْجِنْسِ، كَالنَّوْعِ وَالصِّنْفِ. الثَّانِي: [الْمُلَائِمُ] : وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّارِعُ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ النَّصِّ، لَا بِنَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ. سُمِّيَ مُلَائِمًا لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ. وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ دُونَ مَا قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ عَنْهَا لِبُعْدِ مَرْتَبَةِ النَّوْعِ بِدَرَجَةٍ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا تَأَخَّرَتْ الْمَرْتَبَةُ لَهُ أَمْكَنَ الْمُزَاحَمَةُ، كَتَعْلِيلِ الْوَصْفِ بِعَيْنِهِ، وَإِذَا كَثُرَ الْمُزَاحِمُ ضَعْفُ الظَّنُّ. الثَّالِثُ: [الْغَرِيبُ] : وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، فَتَرَتُّبُ الْحُكْمِ وَفْقَ الْوَصْفِ فَقَطْ، وَلَا يُعْتَبَرُ عَيْنُ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَلَا عَيْنُهُ وَلَا جِنْسُهُ فِي جِنْسِهِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، كَالْإِسْكَارِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ اُعْتُبِرَ عَيْنُ الْإِسْكَارِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِتَرْتِيبِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْإِسْكَارِ فَقَطْ، وَمَنَعَ السُّهْرَوَرْدِيّ فِي التَّنْقِيحَاتِ وُجُودَ الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ وَرَدَّ أَمْثِلَتَهُ إلَى الْمُلَائِمِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ " وَقَالَ: قَلَّمَا يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارُ مَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ إلَّا وَلِلشَّرْعِ الْتِفَاتٌ إلَى جِنْسِهَا، وَعَلَى الْأُصُولِيِّ التَّقْسِيمُ، وَعَلَى الْفَقِيهِ الْأَمْثِلَةُ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ: هَذَا لَا يَحْسُنُ جَعْلُهُ قِسْمًا بِرَأْسِهِ، بَلْ إنْ شَهِدَ لَهُ أَصْلٌ بِعَيْنِهِ دَخَلَ فِيمَا سَبَقَ، وَإِلَّا كَانَ مُرْسَلًا. وَمَثَّلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِنَظَرِ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي التَّفْضِيلِ فِي الْعَطَاءِ.

وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ: إذَا ظَهَرَتْ الْمَعَانِي فَيَبْعُدُ أَنْ لَا يُوجَدَ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا مَدَارٌ، بَلْ لَا يَكَادُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ يَنْفَكُّ عَنْ نَظَرٍ بِحَالٍ. وَقَدْ قُلْت أَمْثِلَةَ الْغَرِيبِ، وَمِنْهَا تَوْرِيثُ الْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، إلْحَاقًا بِالْقَاتِلِ الْمَمْنُوعُ مِنْ الْمِيرَاثِ، تَعْلِيلًا بِالْمُعَارَضَةِ بِنَقِيضِ الْقَصْدِ، فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ ظَاهِرَةٌ. لَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَمْ يُعْهَدْ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْخَاصِّ، فَكَانَ غَرِيبًا لِذَلِكَ. هَكَذَا قَالَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ: ثُمَّ اخْتَارَ تَفْصِيلًا، وَقَالَ: إنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيه مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْغَرِيبَ إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ اُعْتُبِرَ، كَالْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَالْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَظْهَرَ - وَهِيَ الْعِبَادَاتُ - قَالَ: فَلَا تَعْلِيلَ بِهَا، كَالْمَعَانِي الْغَرِيبَةِ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً، لِأَنَّا لَمْ نَعْتَمِدْ عَلَى نَفْسِ الْمَعْنَى، بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ. هَذَا كُلُّهُ فِيمَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ. فَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ نُظِرَ: فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إلْغَائِهِ لَمْ يُعَلَّلْ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِلَّا فَهُوَ الْمُرْسَلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَسَّمَهُ إلَى غَرِيبٍ وَمُلَائِمٍ، وَقَبِلَهُ مَالِكٌ مُطْلَقًا، وَصَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِقَبُولِهِ أَيْضًا مَعَ تَشْدِيدِهِ الْإِنْكَارَ عَلَى مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، لَكِنَّهُ شَرَطَ فِي اعْتِبَارِ الْقَطْعِ فِيهِ كَوْنَ الْمَصْلَحَةِ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً، وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لِأَصْلِ الْقَوْلِ بِهِ قَالَ: وَالظَّنُّ الْقَرِيبُ مِنْ الْقَطْعِ كَالْقَطْعِ، وَتَابَعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ ". وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَرْدُودٌ مُطْلَقًا. وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ الِاتِّفَاقَ عَلَى رَدِّ الْمُرْسَلِ غَيْرِ الْمُلَائِمِ الَّذِي لَمْ يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ. وَفَصَّلَ قَوْمٌ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ وَلَا نَرَى التَّعَلُّقَ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ، وَلَمْ يَرَ

ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ: وَمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ بِمَالِكٍ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَيَتَحَصَّلُ فِي أَقْسَامِ الْمُنَاسِبَاتِ أَنْ يُقَالَ: إنْ الْمُؤَثِّرَ - وَهُوَ مَا دَلَّ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِهِ - مَقْبُولٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ، وَمَا دَلَّ عَلَى الْغَايَةِ مَرْدُودٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَا لَمْ يَشْهَدْ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا إلْغَائِهِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: الْمَنْعُ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمْ الْقَاضِي، إذْ لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا دَلَالَةُ الْعُقُولِ، وَلَا يَشْهَدُ لَهَا أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهَا رَدَّ الشَّرِيعَةِ إلَى السِّيَاسَةِ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ. وَالثَّالِثُ: تُقْبَلُ مَا لَمْ يُصَادِفْهَا أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ، طَرْدًا لِدَلِيلِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ. وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَضَّدَهُ بِأَنْ قَالَ: الْأُصُولُ مُنْحَصِرَةٌ، وَالْأَحْكَامُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، وَلَمَّا كَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَسْتَرْسِلُونَ فِي الْأَحْكَامِ اسْتِرْسَالَ مَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْأُصُولَ احْتِفَاءً، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَرَدٍّ، وَلَا مَرَدَّ إلَّا إلَى صَحِيحِ اسْتِدْلَالٍ، وَصَارَ هَؤُلَاءِ فِي ضَبْطِ مَا يَصِحُّ بِهِ الِاسْتِدْلَال إلَى أَنَّهُ كُلُّ مَعْنَى مُنَاسِبٌ لِلْمَحَلِّ مُطَّرِدٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ لَا يَرُدُّهُ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ مَالِكٍ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ. وَاَلَّذِي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ التَّأَنِّي وَالْإِفْرَادَ فِي الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا يَسُوغُ تَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ بِمَصَالِحَ يَرَاهَا شَبِيهَةً بِالْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ، وِفَاقًا بِالْمَصَالِحِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى أَحْكَامٍ ثَابِتَةِ الْأُصُولِ، فَإِنَّهُ فِي الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ. وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ نَحْوَهُ.

وَالرَّابِعُ: يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ الْحُكْمِ بِهَا وَصَلَاحِيَّتُهَا لِلِاعْتِبَارِ؟ وَأَرَادَ آخَرُونَ انْضِمَامَ السَّبَبِ إلَيْهَا فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِهَا، إذْ لَا يَمْتَنِعُ مُسَاوَقَتُهَا لَمُنَاسِبٍ آخَرَ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ مَنَعَ التَّعْلِيلَ بِعِلَّتَيْنِ. وَالْخَامِسُ: يَمْتَنِعُ فِي الْعِبَادَاتِ، دُونَ مَا عَدَاهُ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي نُكَتِهِ: أَعْلَى الْأَقْسَامِ مَا يَكُونُ الْأَصْلُ شَاهِدًا بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَجِنْسِهِ فِي جِنْسِهِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ بِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ يَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ بِالْحُكْمِ، فَإِذَا تَقَوَّى بِوَجْهَيْ الِاعْتِبَارِ كَانَ اعْتِبَارُهُ أَحْرَى، وَذَلِكَ كَاعْتِبَارِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فِي قَتْلِ الذِّمِّيِّ وَالْعَبْدِ فَإِنَّ عَيْنَهُ مُعْتَبَرَةٌ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْحُرِّ، وَهُوَ مَشْهُودٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْجِنَايَةِ فِي جِنْسِ الْعُقُوبَةِ. وَيَلِيه: مَا يُعْتَبَرُ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ السُّكْرِ بِالْإِسْكَارِ. وَيَلِيه: مَا تُؤَثِّرُ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، كَتَأْثِيرِ الصِّغَرِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، لِظُهُورِ تَأْثِيرِ الصِّغَرِ فِي جِنْسِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَهُوَ وِلَايَةُ الْمَالِ. وَيَلِيه: مَا يُؤَثِّرُ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، كَتَعْلِيلِ نَفْيِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ عَنْ الْحَائِضِ بِعِلَّةِ الْحَرَجِ. وَيَلِيه: الْمُنَاسِبُ الْغَرِيبُ، كَالْمُطَلَّقَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ. وَلَيْسَ بَعْدَهُ إلَّا الْمُنَاسِبُ الْعَارِي عَنْ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ، هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ - وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُنَاسَبَةُ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ: أَمَّا فِي جَانِبِ الْحُكْمِ فَأَعَمُّ مَرَاتِبِ

الْحُكْمُ كَوْنُهُ حُكْمًا، ثُمَّ يَنْقَسِمُ إلَى الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ مِنْ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَغَيْرِهِمَا. ثُمَّ الْوَاجِبُ مِنْهَا إلَى عِبَادَةٍ، وَغَيْرِهَا، ثُمَّ الْعِبَادَةُ إلَى: بَدَنِيَّةٍ، وَغَيْرِهَا. ثُمَّ الْبَدَنِيَّةُ إلَى: الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. ثُمَّ الصَّلَاةُ إلَى: فَرْضِ عَيْنٍ، وَإِلَى فَرْضِ كِفَايَةٍ. فَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي فَرْضِ الْعَيْنِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي مُطْلَقِ الْفَرْضِ. وَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي مُطْلَقِ الْفَرْضِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي جِنْسِ الْفَرْضِ - وَهُوَ الصَّلَاةُ - وَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الصَّلَاةِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي جِنْسِهَا - وَهُوَ الْعِبَادَةُ - وَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي جِنْسِهَا - وَهُوَ الْوَاجِبُ - أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ فِي جِنْسِهِ وَهُوَ الْحُكْمُ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: حَيْثُ أَطْلَقُوا اعْتِبَارَ الْجِنْسِ فِي الْحُكْمِ وَفِي الْوَصْفِ فَلَا يُرِيدُونَ بِهِ جِنْسَ الْأَجْنَاسِ، وَهُوَ كَوْنُ الْوَصْفِ مَصْلَحَةً، وَكَوْنُ الْحُكْمِ خِطَابًا. وَلَوْ أَرَادُوا ذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ وَصْفٍ مَشْهُودًا لَهُ، فَعَلَى هَذَا جِنْسُ الْأَجْنَاسِ لَا يُعْتَبَرُ، وَنَوْعُ الْأَنْوَاعِ لَا يُشْتَرَطُ، وَالْمُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ نَعَمْ الشَّأْنُ فِي ضَبْطِ ذَلِكَ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ مَارَسَ الْفِقْهَ وَتَرَقَّى عَنْ رُتْبَةِ الشَّادِّينَ فِيهِ وَنَظَرَ فِي مَسَائِلِ الِاعْتِبَارِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُخَيَّلُ لَا يَعُمُّ وُجُودُهُ الْمَسَائِلَ، بَلْ لَوْ قِيلَ: لَا يَطَّرِدُ عَلَى الْإِخَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عُشْرُ الْمَسَائِلِ لَمْ يَكُنْ الْقَائِلُ مُجَازِفًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ الْمُنَاسَبَةُ هَلْ تَنْخَرِمُ بِالْمُعَارَضَةِ؟ هَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْتِيَ بِمُعَارِضٍ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ فَهُوَ قَادِحٌ بِلَا خِلَافٍ. الثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَ بِمُعَارِضٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مَفْسَدَةٍ أَوْ فَوَاتِ مَصْلَحَةٍ تُسَاوِي الْمَصْلَحَةَ أَوْ تُرَجَّحُ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ قِيلَ فِي مُعَارَضَةِ كَوْنِ الْوَطْءِ إذْلَالًا بِأَنَّ فِيهِ إمْتَاعًا وَمَدْفَعًا لِضَرَرِ الشَّبَقِ، فَهَلْ تَبْطُلُ الْمُنَاسَبَةُ؟ فِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَعُزِيَ لِلْأَكْثَرِينَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالصَّيْدَلَانِيُّ، لِأَنَّ دَفْعَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَلِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ، وَالْمَصْلَحَةَ إذَا عَارَضَهَا مَا يُسَاوِيهَا لَمْ تَعُدْ عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ مَصْلَحَةً. وَالثَّانِي: اخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ - أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ، وَاخْتَارَهُ الشَّرِيفُ فِي جَدَلِهِ، وَرُبَّمَا نَقَلَ عَنْ ظَاهِرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَالْمَعْنَى مِنْ انْخِرَامِهَا وَبُطْلَانِهَا هُوَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ مُنَاسَبَتَهَا لِلْحُكْمِ إذْ ذَاكَ، فَلَا يَكُونُ لَهَا أَثَرٌ فِي اقْتِضَاءِ الْحُكْمِ، لَا أَنَّهُ يَلْزَمُ خُلُوُّ الْوَصْفِ عَنْ اسْتِلْزَامِ الْمَصْلَحَةِ وَذَهَابِهَا عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُعَارِضًا. وَاعْلَمْ أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي اخْتِلَالِ الْمُنَاسِبِ الْمَصْلَحِيِّ بِمُعَارِضَةِ مِثْلِهِ أَوْ أَرْجَحَ مِنْهُ فِي الْمَفْسَدَةِ، أَمَّا الْعَمَلُ بِهِ فَمَمْنُوعٌ مِمَّنْ أَثْبَتَ اخْتِلَالَ الْمُنَاسَبَةِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ تَصَرَّفَ فِي الْعَمَلِ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا. وَالْوَاجِبُ هَاهُنَا امْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِهِ لِلُزُومِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ أَوْ الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ، فَيَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، لَكِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَأْخَذِ، فَالْأَوَّلُ يَتْرُكُهُ لِاخْتِلَالِ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ وَالْآخَرُ يَتْرُكُهُ لِمُعَارَضَةِ الْمُقَاوِمِ أَوْ الرَّاجِحِ، فَتَرْكُ الْعَمَلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنَّ طَرِيقَهُ مُخْتَلِفٌ فِيهِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَدْ حَقَّقَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ ذَاتَ الْوَصْفِ مُغَايِرَةٌ

المسلك السادس السبر والتقسيم

لِلْمُنَاسَبَةِ قَطْعًا، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَنَّ ذَاتَ الْوَصْفِ الْمَصْلَحِيِّ تَبْطُلُ إذَا عَارَضَتْهَا مَفْسَدَةٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ ذَاتَ الْوَصْفِ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا تَبْطُلُ بِالْمُعَارِضَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَنَّ مُنَاسَبَتَهُ تَبْطُلُ وَمَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ اقْتِضَاؤُهَا لِلْحُكْمِ وَاسْتِدْعَاؤُهَا لَهُ فَالْحَقُّ أَنَّهَا تَبْطُلُ. وَإِنْ شِئْت قُلْت: الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْمُنَاسَبَةِ يَسْتَدْعِي سَلَامَتَهَا عَنْ الْمُعَارِضِ، وَالْمَعْنَى بِالْمُنَاسَبَةِ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْوَصْفِ مَصْلَحِيًّا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَتَّجِهُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. أَمَّا مَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِهَا فَيَقُولُ بِبَقَاءِ الْمُنَاسَبَتَيْنِ أَوْ اجْتِمَاعِ جِهَتَيْ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ. التَّفْرِيعُ: إنْ قُلْنَا: إنَّهَا تَبْطُلُ الْتَحَقَ الْوَصْفُ بِالطَّرْدِيَّاتِ وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ إلَّا بِتَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ، كَأَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُضَافٌ إلَى الْمَصْلَحَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَهِيَ رَاجِحَةٌ عَلَى مَا عَارَضَهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ الْمَرْجُوحَةِ أَوْ إلَى مَصْلَحَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا. أَوْ لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى شَيْءٍ أَصْلًا، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ بَقِيَ الْوَصْفُ عَلَى مُنَاسَبَتِهِ وَيَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ، وَيَحْتَاجُ الْمُعَارِضُ إلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ. [الْمَسْلَكُ السَّادِسُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ] ُ وَيُسَمِّيه الْمَنْطِقِيُّونَ (الْقِيَاسُ الشَّرْطِيُّ الْمُنْفَصِلُ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقْسِيمًا سَمُّوهُ بِالْمُتَّصِلِ. وَهُوَ لُغَةً: الِاخْتِبَارُ، وَمِنْهُ الْمِيلُ الَّذِي يُخْتَبَرُ بِهِ الْجُرْحُ

الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمِسْبَارُ، وَسُمِّيَ هَذَا بِهِ لِأَنَّ الْمُنَاظِرَ فِي الْعِلَّةِ يَقْسِمُ الصِّفَاتِ وَيَخْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي أَنَّهُ هَلْ يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ أُشِيرَ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] وقَوْله تَعَالَى {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] فَإِنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ، لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ خَلْقُهُمْ مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ، وَكَوْنُهُ يَخْلُقُونَ أَنْفُسَهُمْ أَشَدُّ امْتِنَاعًا، فَعُلِمَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ، ذَكَرَ الدَّلِيلَ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ الْمُسْتَدَلُّ بِهَا بِطَرِيقَةٍ بَدِيهِيَّةٍ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا. وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ، فِي ابْنِ صَيَّادٍ. «إنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَك فِي قَتْلِهِ» . وَهُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدُورَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ الْمُنْحَصِرُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَهُوَ الْمُنْتَشِرُ.

فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَحْصُرَ الْأَوْصَافَ الَّتِي يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِهَا لِلْمَقِيسِ عَلَيْهِ ثُمَّ اخْتِبَارُهَا وَإِبْطَالُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْهَا، بِدَلِيلِهِ: إمَّا بِكَوْنِهِ طَرْدًا، أَوْ مُلْغًى، أَوْ نَقْضِ الْوَصْفِ أَوْ كَسْرِهِ أَوْ خَفَائِهِ وَاضْطِرَابِهِ، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِلِّيَّةِ، وَهُوَ قَطْعِيٌّ لِإِفَادَةِ الْعِلَّةِ، وَيَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَالظَّنِّيَّاتِ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ حَادِثًا، بَطَلَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا فَثَبَتَ أَنَّهُ حَادِثٌ. وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا: وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ إمَّا أَنْ لَا تُعَلَّلَ أَوْ تُعَلَّلَ بِالْبَكَارَةِ أَوْ الصِّغَرِ أَوْ الْأُبُوَّةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَالْكُلُّ بَاطِلٌ سِوَى الثَّانِي، فَالْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ. وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَحُصُولُ هَذَا الْقَسْمِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عَسِرٌ جِدًّا، أَيْ عَلَى وَجْهِ التَّنْقِيبِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِمُنَاسِبٍ، خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الطَّرْدِيُّ إذَا قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَصْلِ تَعْلِيلِهِ، كَمَا لَوْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَعْلِيلِ حُكْمٍ بِأَحَدِ أَوْصَافٍ ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إبْطَالِهَا كُلِّهَا خَلَا وَاحِدًا، فَيَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ وَإِنْ كَانَ طَرْدِيًّا وَإِلَّا اخْتَلَفَ الْإِجْمَاعُ. وَهُوَ مُلَخَّصُ مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَأَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَرْكِيبَ فِيهَا، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَلَا يَكْفِي، فَإِنَّهُ وَإِنْ بَطَلَ كَوْنُهُ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا. وَإِذَا انْضَمَّ إلَى غَيْرِهِ صَارَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكْفِي فِي إبْطَالِ سَائِرِ الْأَقْسَامِ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إبْطَالِ كَوْنِ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً أَوْ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ حَاصِرًا

لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ. وَطَرِيقُهُ أَنْ يُوَافِقَهُ الْخَصْمُ عَلَى انْحِصَارِهَا فِيمَا ذَكَرَ أَوْ يَعْجِزَ عَنْ إظْهَارِ زَائِدٍ، وَإِلَّا فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلُّ أَنْ يَقُولَ: بَحَثْت عَنْ الْأَوْصَافِ فَلَمْ أَجِدْ مَعْنًى سِوَى مَا ذَكَرْته، أَوْ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَاهَا، وَاكْتَفَوْا فِي حَصْرِ الْأَوْصَافِ بِعَدَمِ الْوِجْدَانِ. وَهَذَا إذَا كَانَ أَهْلًا لِلْبَحْثِ، وَنَازَعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ النُّصُوصِ، ثُمَّ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ، وَهَذَا عَسِرٌ جِدًّا. وَقَدْ يَكُونُ عِلْمُهُ قَلِيلًا وَفَهْمُهُ نَاقِصًا. وَكَذَلِكَ قَالَ الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي نُكَتِهِ: مِنْ الْفَاسِدِ قَوْلُ الْمُعَلِّلِ فِي جَوَابِ طَالِبِ الْحَصْرِ: بَحَثْت وَسَبَرْت فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنْ ظَفِرْت بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَأَبْرِزْهَا وَإِلَّا يَلْزَمُك مَا يَلْزَمُنِي قَالَ: وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ سِبْرَهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا، لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْمَدْلُولُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَعْلَمَ طَالِبُ الْحَصْرِ الِانْحِصَارَ بِبَحْثِهِ وَنَظَرِهِ، وَجَهْلُهُ لَا يُوجِبُ عَلَى خَصْمِهِ أَمْرًا، وَاخْتَارَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا رَجَعَ إلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، وَإِنْ كَانَ مُنَاظِرًا وَلَمْ يُسَاعِدْهُ الْخَصْمُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ إبْدَاءُ كَيْفِيَّةِ السَّبْرِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ دَرْءُ قَوْلِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ تَقْسِيمٌ مُتَوَجِّهٌ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَ (أَصَحُّهُمَا) ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمَنْخُولِ، أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إبْدَاءِ كَيْفِيَّةِ السَّبْرِ، لِيَكُونَ دَلِيلًا غَيْرَ مُقْتَصَرٍ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَلَيْسَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَمْ يُبْحَثْ، أَوْ يُسْبِرْ، أَوْ هُوَ غَرِيبٌ، وَلَا أَنْ يَقُولَ: بَقِيَ وَصْفٌ آخَرُ وَلَا أُبْرِزُهُ. تَنْبِيهٌ: لَمْ يَحْكُوا خِلَافًا فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَرَأَيْت فِي كِتَابِ ابْنِ فُورَكٍ: إذَا كَانَتْ

فِي الْمَسْأَلَةِ عِلَلٌ فَفَسَدَتْ إلَّا وَاحِدَةٌ، هَلْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهَا؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: نَعَمْ، إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَثَبَتَ أَنَّ مَا عَدَاهَا فَاسِدٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا أَوْ لَا يَجُوزُ خُرُوجُ الْحَقِّ عَنْ جَمَاعَتِهَا. انْتَهَى. الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمُنْتَشِرُ، بِأَنْ لَا يَدُورَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَوْ دَارَ وَلَكِنْ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ عِلِّيَّةِ مَا عَدَا الْوَصْفِ الْمُعَيَّنِ فِيهِ ظَنًّا، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، لَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَلَا فِي الظَّنِّيَّاتِ، وَحَكَاهُ فِي الْبُرْهَانِ عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ. الثَّانِي: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ فَقَطْ لِأَنَّهُ يُثِيرُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَمَثَّلَ ابْنُ بَرْهَانٍ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْقَطْعِيِّ هُنَا بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا: اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَرَى لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ أَنْ يَرَى. وَفِي الظَّنِّيِّ بِقَوْلِهِمْ: الْإِيلَاءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا أَوْ يَمِينًا، فَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا ثَبَتَ أَنَّهُ يَمِينٌ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا وَلَهُ حُكْمٌ آخَرُ. قُلْنَا: نَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ آخَرُ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا، وَلَكِنَّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّنَا هُوَ هَذَا الْقَدْرُ، وَالْمَقْصُودُ إظْهَارُ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَهِيَ حَاصِلَةٌ. (انْتَهَى) . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ دُونَ الْمُنَاظِرِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأَسَالِيبِ: بِقَيْدٍ تَضَمَّنَ إبْطَالَ مَذْهَبِ الْخَصْمِ دُونَ تَصْحِيحِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، إذْ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ: مَا أَبْطَلْته بَاطِلٌ، وَمَا اخْتَرْته بَاطِلٌ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي وَقَعَ الْبَحْثُ فِيهِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَلَا يَصْلُحُ السَّبْرُ لِإِثْبَاتِ مَعْنَى الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ. وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَبَسِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَعَزَاهُ لِلشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي وَسَائِرِ الْأَصْحَابِ.

قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ فَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ ضِمْنًا وَتَصْرِيحًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، فَمِنْ الضِّمْنِ قَوْلُهُ: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ} [الأنعام: 139] إلَى قَوْلِهِ: {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] ، وَمِنْ التَّصْرِيحِ قَوْلُهُ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: 143] إلَى قَوْلِهِ: {الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] . تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمَسَالِكِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَنَازَعَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي جَدَلِهِ فَقَالَ: إنَّهُ شَرْطٌ لَا دَلِيلٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي يَنْفِيه السَّبْرُ إمَّا أَنْ يَقْطَعَ بِمُنَاسَبَتِهِ فَهُوَ التَّخْرِيجُ، أَوْ يَعْرُوَ عَنْهَا فَهُوَ الطَّرْدِيُّ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعَلِّلَ بِهِ، أَوْ لَا يَقْطَعَ بِوُجُودِهِ فِيهِ وَلَا عَدَمِهَا فَهُوَ الشَّبَهُ، فَلَا بُدَّ فِي الْعِلَّةِ مِنْ اعْتِبَارِ وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ صَلَاحِيَّتِهَا لِذَلِكَ. وَيَلْزَمُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. إلَّا أَنَّ التَّقْسِيمَ إذَا كَانَ دَائِرًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَأُبْطِلَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مَثَلًا تَعَيَّنَ الْمَطْلُوبُ فِي الثَّانِي قَطْعًا، كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ، مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِكَذَا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا، فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ بُرْهَانٌ قَطْعِيٌّ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّ ب " الشَّرْطِيِّ الْمُتَّصِلِ ". وَقَالَ فِي " أُصُولِهِ ": أَكْثَرُ النُّظَّارِ عَدُّوا هَذَا الْمَسْلَكَ دَلِيلًا عَلَى التَّعْلِيلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَنْفِيه السَّبْرُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرَ الْمُنَاسَبَةِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، أَوْ صَالِحًا لَهَا، وَهُوَ الشَّبَهُ، فَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ عَلَى التَّعْلِيلِ هُنَا هُوَ الْمُنَاسَبَةُ، غَيْرَ أَنَّ السَّبْرَ عَيْنُ دَلِيلِ الْوَصْفِ، فَالسَّبْرُ إذَنْ شَرْطٌ، لَا دَلِيلٌ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَسَالِكِ النَّظَرِيَّةِ، فَلَيْسَ مَسْلَكًا بِنَفْسِهِ، بَلْ هُوَ شَرْطُ الْمَسَالِكِ النَّظَرِيَّةِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ فِي الدَّوَرَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلْعِلَّةِ لَا تَثْبُتُ مَعَ دَلِيلٍ عَلَيْهَا، وَهُوَ يَتَمَشَّى مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّبْرِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى.

وَقَدْ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى بِأَنَّهُ إذَا اسْتَقَامَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مُنَاسَبَةٍ، وَنَازَعَهُ شَارِحُهُ الْعَبْدَرِيّ أَيْضًا، لِاعْتِقَادِهِ بِأَنَّ السَّبْرَ لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَادِمٌ لِلْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، أَيْ بِهِ يَتَقَيَّدُ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ الْمُخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ: السَّبْرُ يَرْجِعُ إلَى اخْتِبَارٍ فِي أَوْصَافِ الْمَحَلِّ وَضَبْطِهَا، وَالتَّقْسِيمُ يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ مَا يَظْهَرُ إبْطَالُهُ فِيهَا، فَإِذَنْ لَا يَكُونُ مِنْ الْأَدِلَّةِ بِحَالٍ. وَإِنَّمَا تَسَامَحَ الْأُصُولِيُّونَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّلِيلِ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي جُمْلَةِ الْأَوْصَافِ، وَالدَّلِيلُ الثَّانِي دَلَّ عَلَى التَّعْيِينِ. وَإِلَّا فَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ لَيْسَ هُوَ دَلِيلًا قَالَ: وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إحْدَاهَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ الْمَطْلُوبُ فِي الْجُمْلَةِ: وَثَانِيهَا: سَبْرٌ خَاصٌّ. وَثَالِثُهَا: إبْطَالُ مَا عَدَا الْمُخْتَارِ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ مَعْلُومَةً حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْمَطْلُوبِ وَإِلَّا فَلَا، بَلْ تَحْصُلُ غَلَبَةُ الظَّنِّ. ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مِمَّا يُكْتَفَى فِيهِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ اُكْتُفِيَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا قَالَ: وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلَافٌ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي شَرْحِهِ: زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ السَّبْرَ إذَا دَارَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَهُوَ التَّقْسِيمُ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَإِلَّا فَهُوَ السَّبْرُ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، بَلْ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ مُتَغَايِرَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي الدَّلَالَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَفِي الْفِقْهِيَّاتِ سَوَاءٌ دَارَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَمْ لَا. فَالسَّبْرُ إذَنْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ: اخْتِبَارُ الْمُقَدَّرَاتِ لِيَنْظُرَ أَيُّهَا الْحَقُّ. وَالتَّقْسِيمُ أَنْ يَقْسِمَ الصِّحَّةَ وَالْبُطْلَانَ بَيْنَهُمَا فَيَعْتَبِرَ مَا هُوَ الْعِلَّةُ، وَيُلْغِي مَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ. وَقَدْ بَانَ لَك بِهَذَا أَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ نَفْسَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ إضَافَةَ الْعِلِّيَّةِ إلَى الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْأَوْصَافِ عِلَّةٌ مَعَ دَلِيلِ إلْغَاءِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ إلَّا الْمُبْقَى فَيَتَعَيَّنُ، وَتَقْرِيرُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ

الْأَوْصَافِ عِلَّةُ الِاسْتِقْرَاءِ مِنْ سِبْرِ الْأَوَّلِينَ فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا الْأَحْكَامَ بِجُمْلَتِهَا، أَوْ عَلَّلُوا أَكْثَرَهَا، وَالْأَكْثَرِيَّةُ مُلْحَقَةٌ بِالْعُمُومِ، وَحَكَمُوا بِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَعْدُو أَوْصَافَ الْمَحَلِّ، فَيَجِبُ إلْحَاقُ كُلِّ صُورَةٍ بِالْعَامِّ أَوْ بِالْأَغْلَبِ. وَتَقْرِيرُ إبْطَالِ مَا عَدَا الْمُبْقَى يَكُونُ بِأَدِلَّةِ الْإِبْطَالِ، كَبَيَانِ أَنَّ الْأَوْصَافَ طَرْدِيَّةٌ، أَوْ لَا مُنَاسَبَةَ فِيهَا، أَوْ يَقُولُ: بَحَثْت فَلَمْ تَظْهَرْ لِي مُنَاسَبَةٌ قَالَ: وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِالثَّانِي إشْكَالٌ، فَإِنَّ الْمُبْقَى لَمْ تَظْهَرْ مُنَاسَبَتُهُ أَيْضًا، وَإِلَّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ السَّبْرِ وَخُصُوصِيَّتُهُ. وَكَبَيَانِ الْإِلْغَاءِ فِي الْأَوْصَافِ لِوُجُودِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ بِالْمُبْقَى مُنْفَرِدًا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ، فَيَنْدَفِعُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْقَى جُزْءَ عِلَّةٍ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَوْصَافِ. (قَالَ) : وَمِنْ الْأَسْئِلَةِ الْعَاصِمَةِ لِمَسْلَكِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنَّ الْمُبْقَى لَا يَخْلُو فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا، أَوْ شَبَهًا، أَوْ طَرْدًا خَالِيًا، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ أَوْ لَا، فَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْضَبِطَةً لِلْفَهْمِ، أَوْ كُلِّيَّةً لَا تَنْضَبِطُ. فَالْأَوَّلُ: الْمُنَاسِبُ. وَالثَّانِي: الشَّبَهُ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَصْلَحَةٍ أَصْلًا فَهُوَ الطَّرْدُ الْمَرْدُودُ. فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مُنَاسَبَةٌ أَوْ شَبَهٌ لَغَا السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ. فَإِنْ كَانَ عُرْيًا عَنْ الْمُنَاسَبَةِ قَطْعًا لَمْ يَنْفَعْ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ أَيْضًا. فَإِنْ قُلْت: يَنْفَعُ فِي حَمْلِ النَّظَرِ فِي الْمُنَاسَبَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ. قُلْت: لَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَنْهُ، لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ عِنْدَنَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مَكْشُوفٌ، حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ ذَوْقِيٌّ أَوْ ضَرُورِيٌّ كَالْمَحْسُوسِ، فَالْمُجْتَهِدُ إذًا يَعْلَمُهُ إذَا لَمْ يَذُقْ فِيهِ مَصْلَحَةً مُنْضَبِطَةً وَلَا غَيْرَهَا أَنَّهُ لَا مُنَاسِبَ وَلَا شَبَهَ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ طَرْدٌ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي أَنَّ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ مِنْ أَقْوَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَلُ، وَاسْتَشْكَلَهُ، وَوَجَّهَهُ الْإِبْيَارِيُّ بِأَنَّ مُثْبِتَ الْعِلَّةِ بِالْمُنَاسَبَةِ أَوْ الشَّبَهِ

يُكْتَفَى مِنْهُ فِي النَّظَرِ بِذَلِكَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُبْدِيَ الْخَصْمُ مُعَارِضًا رَاجِحًا. وَأَمَّا إذَا أَسْنَدَ إلَى السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَقَدْ وَفَّى الْوَظِيفَةَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَبْقَ مُتَوَقِّعًا ظُهُورَ مَا يَقْدَحُ أَوْ يَضُرُّ، وَنَازَعَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَقَالَ: نَحْنُ نَدْفَعُ أَصْلَ كَوْنِهِ مَسْلَكًا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُتَمَيِّزًا. وَقَوْلُهُ سَلَفٌ إبْطَالُ الْمُعَارَضَاتِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّهُ وَضَعَ النَّظَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي التَّصْحِيحِ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَبَّ الْمُعَارِضَاتِ عَنْهُ. وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِالْمُنَاسَبَاتِ فَإِنَّهُ وَجْهُ الدَّلِيلِ، وَهِيَ الْمُعَارَضَاتُ بِالْأَصْلِ، فَإِنَّا مَا نُلْحِقُ بِهِ مَنْ اشْتَغَلَ بِدَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ وَقَنَعَ بِذَلِكَ دَلِيلًا. التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ: إنْ أَبْدَى الْمُعْتَرِضَ وَصْفًا زَائِدًا لَمْ يُكَلَّفْ بِبَيَانِ صَلَاحِيَّتِهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَلَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى يَعْجَزَ عَنْ إبْطَالِهِ، بَلْ لَهُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ بِطُرُقٍ: أَحَدُهَا: بَيَانُ بَقَاءِ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، كَقَوْلِنَا: يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، كَالْحُرِّ. فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: الْعِلَّةُ ثَمَّ وَصْفٌ زَائِدٌ، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ، مَفْقُودٌ فِي الْعَبْدِ. فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: وَصْفُ الْحُرِّيَّةِ مُلْغًى فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ، فَإِنَّ أَمَانَهُ يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ عَدَمِ الْحُرِّيَّةِ فَصَارَ وَصْفًا لَاغِيًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ. ثَانِيهَا: أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَهُ وَصْفًا طَرْدِيًّا وَلَوْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ كَقَوْلِنَا: سَرَى الْعِتْقُ فِي الْأَمَةِ، كَالْعَبْدِ، بِجَامِعِ الرِّقِّ، إذْ لَا عِلَّةَ غَيْرَهُ، فَإِنْ قَالَ: فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ زَائِدٌ، وَهُوَ الذُّكُورَةُ الْمُحَصِّلَةُ لِلْكَسْبِ، فَنَقُولُ: هُوَ وَصْفٌ لَمْ يَعْتَبِرْهُ

الشَّرْعُ فِي بَابِ الْعِتْقِ. وَقَدْ يَتَّفِقَانِ عَلَى إبْطَالِ مَا عَدَا وَصْفَيْنِ فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلُّ التَّرْدِيدُ بَيْنَهُمَا. ثَالِثُهُمَا: أَنْ لَا تَظْهَرَ مُنَاسَبَةُ الْمَحْذُوفِ. وَقَدْ سَبَقَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ الْمُنَاظِرِ: بَحَثْت فَلَمْ أَجِدْ مُنَاسَبَةً، عَلَى أَحَدِ الرَّأْيَيْنِ. فَإِنْ ادَّعَى الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُسْتَبْقَى كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَدِلِّ بَيَانُ مُنَاسَبَتِهِ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ، وَلَكِنْ يُرَجَّحُ سَبْرُهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِتَعَدِّيَةِ الْحُكْمِ عَلَى سِبْرِ الْمُعْتَرِضِ لِعَدَمِهَا، فَإِنَّ التَّعَدِّيَ أَوْلَى. التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ: قَسَّمَ إلْكِيَا السَّبْرَ إلَى مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَهُوَ الْمُفْضِي إلَى الْيَقِينِ بِأَنْ يَكُونَ حَاصِرًا يَقِينًا، بِالدَّوْرِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. (قَالَ) : وَهُوَ الْمُلَقَّبُ ب " بُرْهَانِ الْخَلْفِ " وَكَانَ الْعَقْلُ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا بَانَ بُطْلَانُ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ الثَّانِي لِلصِّحَّةِ، فَقَدْ قَامَ دَلِيلُ الثَّانِي عَلَى الْخُصُوصِ بِبُطْلَانِ ضِدِّهِ، وَإِلَى مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الظَّنِّيَّاتِ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتُ حُكْمِهِ أَوْ دَلِيلِهِ. وَالْأَوَّلُ يَكْفِي فِيهِ انْتِهَاءُ السَّبْرِ إلَى حَدِّ الظَّنِّ، سَوَاءٌ كَانَ فِي شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ، لِأَنَّ الظَّنَّ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، بَلْ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ، كَقَوْلِنَا: الْإِيلَاءُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجِبَ التَّوَقُّفَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ الْبَيْنُونَةَ، فَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ لَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ، إذْ لَا حُكْمَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ طَرِيقُ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا بَيِّنٌ. وَمَسْأَلَةُ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ تَقْتَضِي أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَإِذَا بَطَلَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ. وَالثَّانِي مَا عُلِمَ أَنَّ بُطْلَانَ دَلِيلِ الْحُكْمِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَلِ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ عَلَى كَوْنِهِ مُعَلَّلًا ثُمَّ يَسْبُرُ مَا عَدَا الْعِلَّةِ الَّتِي يَذْهَبُ إلَيْهَا وَيُبْطِلُهُ فَتَصِحُّ

عِلَّتُهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، بَلْ يَكْفِي ذِكْرُ مُجَرَّدِ الْوَصْفِ. وَقِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ إلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ فَعَسَاهَا تُبْطِلُ هَذَا فَيَنْظُرُ فِي غَيْرِهَا. وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ السَّبْرَ لَا يُفِيدُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَمَقْصُودُنَا أَنَّ الظَّنَّ يَحْصُلُ عِنْدَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ السَّبْرِ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا يَعْسُرُ وُجُودُهُ وَلَا بُعْدَ عِنْدَنَا فِي تَقْدِيرِهِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى تَعْلِيلِ الرِّبَا، وَإِذَا ثَبَتَ سُبُرًا غَيْرَ الطُّعْمِ وَالْكَيْلِ ثَبَتَ مَا بَقِيَ. التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ: السَّبْرُ بِالْبَحْثِ وَعَدَمِ الْعُثُورِ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْمَسَالِكِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَلَا خُصُوصَ لَهُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ عِلَلٌ فَفَسَدَتْ جَمِيعُهَا إلَّا وَاحِدَةً، هَلْ يَكُونُ فَسَادُهَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ؟ فَقِيلَ: لَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهَا. وَقِيلَ: نَعَمْ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَلِ صَحِيحَةً، فَإِذَا بَطَلَ مَا عَدَاهَا وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ صَحِيحَةٌ، وَنَصَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ. مَسْأَلَةٌ يَلْتَحِقُ بِالسَّبْرِ قَوْلُهُمْ: حُكْمٌ حَادِثٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ، وَلَا حَادِثَ إلَّا هَذَا فَيَتَعَيَّنُ إسْنَادُهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا: الْأَصْلُ فِي كُلِّ حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ إلَّا أَنَّ فِيمَا سَبَقَ سَبْرًا فِي جَمِيعِ أَوْصَافِ الْمَحَلِّ، وَهَذَا فِي الْأَوْصَافِ الْحَادِثَةِ خَاصَّةً. وَقَدْ قِيلَ: عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ حَادِثًا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ حَادِثًا، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ حَادِثًا

المسلك السابع الشبه

وَسَبَبُهُ مُتَقَدِّمًا، كَإِبَاحَةِ الْوَطْءِ فِي الزَّوْجَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ وَانْقِطَاعِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى عَقْدِ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ. وَكَذَا تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ مُسْتَنِدٌ إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ. وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ، فَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يَنْتَفِي لِانْتِقَاءِ الْمُقْتَضَى بِكَمَالِهِ، أَوْ لِانْتِفَاءِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَتَارَةً يَنْتَفِي لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، فَإِذَا كَانَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضَى بِحَالِهِ فَحُدُوثُ الْحُكْمِ لَا يَكُونُ إلَّا لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ، وَإِذَا كَانَ الِانْتِفَاءُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَحُدُوثُ الْحُكْمِ لَا يَكُونُ لِحُدُوثِ سَبَبِهِ، بَلْ يَكُونُ لِحُدُوثِ جُزْءِ السَّبَبِ، أَوْ لِحُدُوثِ الشَّرْطِ، أَوْ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا حُدُوثَ الْحُكْمِ مَعَ تَقَدُّمِ سَبَبِهِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُقَدَّرَ أَنَّ ثُبُوتَ السَّبَبِ يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ، وَلِهَذَا صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ السَّبَبِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ. [الْمَسْلَكُ السَّابِعُ الشَّبَهُ] ُ وَيُسَمِّيه بَعْضُ الْفُقَهَاءِ " الِاسْتِدْلَال بِالشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ " وَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ، إذْ الشَّبَهُ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ كُلَّ قِيَاسٍ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ كَوْنِ الْفَرْعِ شَبِيهًا بِالْأَصْلِ، بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا. إلَّا أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اصْطَلَحُوا عَلَى تَخْصِيصِ هَذَا الِاسْمِ بِنَوْعٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرْدِ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لَسْت أَرَى فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مَسْأَلَةً أَغْمَضَ مِنْ هَذِهِ. وَفِيهِ مَقَامَانِ: [الْمَقَامُ] الْأَوَّلُ: فِي تَعْرِيفِهِ وَقَدْ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ. وَالصَّحِيحُ إمْكَانُهُ.

وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ: هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ: طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ؟ قَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي. قَالَ: فَفِي الْقِيَاسِ الْمَعْنَوِيِّ تَعْيِينُ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ الْمُنَاسِبِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَفِي قِيَاسِ الشَّبَهِ لَا تَعْيِينَ، بَلْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَصْفٍ يُوهِمُ الْمُنَاسِبَ. وَأَمَّا الطَّرْدُ فَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ الطَّرْدِ، وَهُوَ السَّلَامَةُ عَنْ النَّقْضِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ فِي الْمُسْتَصْفَى: الشَّبَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الطَّرْدِ بِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ يُنَاسِبْ الْحُكْمَ بِأَنْ يُقَرِّرَ بِأَنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ حُكْمٍ سِرًّا، وَهُوَ مَصْلَحَةٌ مُنَاسِبَةٌ لِلْحُكْمِ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى عَيْنِ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ نَطَّلِعُ عَلَى وَصْفٍ يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ عَلَى تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا بِقِيَاسِ الشَّبَهِ هَذَا فَلَا أَدْرِي مَا أَرَادُوا بِهِ وَبِمَاذَا فَصَلُوهُ مِنْ الطَّرْدِ الْمَحْضِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّبَهَيَّ وَالطَّرْدِيَّ يَجْتَمِعَانِ فِي عَدَمِ الظُّهُورِ الْمُنَاسِبِ، وَيَتَخَالَفَانِ فِي أَنَّ الطَّرْدِيَّ عُهِدَ مِنْ الشَّارِعِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ، وَسُمِّيَ شَبَهًا لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ يَجْزِمُ الْمُجْتَهِدُ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ، وَمِنْ حَيْثُ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ فِي بَعْضُ الصُّوَرِ يُشْبِهُ الْمُنَاسِبَ، فَهُوَ بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ.

وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَتَعَذَّرُ حَدُّ الشَّبَهِ بِأَنْ يَقُولَ هُوَ يُقَرِّبُ الْأَصْلَ مِنْ الْفَرْعِ وَيَمْتَازُ عَنْ الطَّرْدِ أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحِكْمَةِ، وَالطَّرْدُ لَا يَغْلِبُهُ عَلَى الظَّنِّ، وَمِنْ خَوَاصِّ الطَّرْدِ أَنَّهُ يُعَلِّقُ نَقِيضَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَيُقَالُ: طَهَارَةٌ مَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَقِيسٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ، وَقَوْلُهُ: طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ لَيْسَ بِجَامِعٍ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ أَصْلُهُ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ فَسَّرَ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ الْمُورَدِ عَلَى بَعْضِ تَعْرِيفَاتِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِمَا لَا يُنَاسِبُ، وَلَكِنْ يَسْتَلْزِمُ الْمُنَاسِبَ، فَيُقَالُ: إنَّهُ الْوَصْفُ الْمُقَارِنُ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ لَهُ بِالتَّبَعِ وَبِالِالْتِزَامِ دُونَ الذَّاتِ، كَالطَّهَارَةِ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، فَإِنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا تُنَاسِبُ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ، لَكِنْ تُنَاسِبُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ مُنَاسَبَةٌ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، أَمَّا مَا يُنَاسِبُ بِالذَّاتِ فَهُوَ الْمُنَاسِبُ، أَوْ لَا يُنَاسِبُ مُطْلَقًا فَهُوَ الطَّرْدِيُّ، فَالشَّبَهُ حِينَئِذٍ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالطَّرْدِيِّ، فَلِهَذَا سُمِّيَ " شَبَهًا ". هَكَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ. وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ مَا يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ عَلَى وَصْفٍ مُخَيِّلٍ. ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يُنَازِعُ فِي إيهَامِ الِاشْتِمَالِ عَلَى مُخَيِّلٍ إمَّا حَقًّا، أَوْ عِنَادًا، وَلَا يُمْكِنُ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ مَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ هُوَ خُلَاصَةُ كَلَامِ الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ: هُوَ الَّذِي يُوهِمُ الِاشْتِرَاكَ فِي مَحَلٍّ. قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي الشِّفَاءِ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ فِيهِ. وَاَلَّذِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ هُوَ إلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ لِكَثْرَةِ إشْبَاهِهِ بِالْأَصْلِ فِي الْأَوْصَافِ مِنْ غَيْرِ أَنْ

يَعْتَقِدَ أَنَّ الْأَوْصَافَ الَّتِي شَابَهَ الْفَرْعُ بِهَا الْأَصْلَ عِلَّةُ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَقِيلَ: الشَّبَهُ هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، وَلَكِنْ عُرِفَ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لَهُ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ لِتَأْثِيرِ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ. وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ فِي الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ، كَإِيجَابِ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ وُجُوبَهُ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْوَطْءِ، إلَّا أَنَّ جِنْسَ هَذَا الْوَصْفِ، وَهُوَ كَوْنُ الْخَلْوَةِ مَظِنَّةُ الْوَطْءِ، يُعْتَبَرُ فِي جِنْسِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا تَثْبُتُ مُنَاسَبَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَجَعَلَهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مُفَرَّعًا عَلَى أَنَّ الشَّبَهَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِالْعِلِّيَّةِ، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى مَسْلَكٍ آخَرَ، وَأَحْسَنَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: قِيَاسُ الْمَعْنَى تَحْقِيقٌ، وَالشَّبَهُ تَقْرِيبٌ، وَالطَّرْدُ تَحَكُّمٌ (ثُمَّ قَالَ) : قِيَاسُ الْمَعْنَى: مَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَيَسْتَدْعِيه وَيُؤَثِّرُ فِيهِ، وَالطَّرْدُ عَكْسُهُ، وَالشَّبَهُ أَنْ يَكُونَ فَرْعٌ يُحَاذِيهِ أَصْلَانِ فَيَلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا بِنَوْعٍ شَبَهٌ مُقَرَّبٍ، أَيْ يَقْرُبُ الْفَرْعُ مِنْ الْأَصْلِ فِي الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَيَانِ الْمَعْنَى (انْتَهَى) . وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُلَائِمُ الْأَوْصَافَ الَّتِي عُهِدَ مِنْ الشَّارِعِ إنَاطَةُ الْحُكْمِ بِهَا. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّ النَّاظِرَ إذَا فَقَدَ الْمَعْنَى نَظَرَ فِي الْأَشْبَاهِ، وَهُوَ أَوْسَعُ الْأَبْوَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّبَهَ يَنْقَدِحُ عِنْدَ إمْكَانِ الْمَعْنَى وَعِنْدَ عَدَمِ فَهْمِهِ، وَلَا يَتَحَتَّمُ الْأَشْبَاهُ فِي التَّعَبُّدَاتِ الْجَامِدَةِ. وَفَرَّقَ بَيْنَ الشَّبَهِ وَالطَّرْدِ بِأَنَّ الطَّرْدَ نِسْبَةُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَنَفْيِهِ عَلَى السَّوَاءِ. وَالشَّبَهُ نِسْبَةُ الثُّبُوتِ مُتَرَجِّحَةٌ عَلَى النَّفْيِ فَافْتَرَقَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: اضْطَرَبَ رَأْيُ الْإِمَامِ فِي حَدِّهِ فَقَالَ مَرَّةً: هُوَ الْمُشِيرُ إلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ لَا يَتَحَرَّرُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ. وَقَالَ مَرَّةً: هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ تَشَابُهَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي أَيِّ حُكْمٍ كَانَ، لَا فِي حُكْمٍ مُعَيَّنٍ، حَتَّى لَوْ نَسَبْنَا وُجُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ إلَيْهِ لَكَانَ عَلَى حَدِّ نِسْبَةِ عَدَمِهِ إلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ رَحَّالٍ: فَسَّرَهُ

أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ بِمَا لَا تَثْبُتُ نِسْبَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ: وَقِيلَ: مَا يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ فِي مُخَيَّلٍ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَلْيَقُ بِالْمَظِنَّةِ لَا بِالشَّبَهِ، لِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي أُصُولِهِ: قَدْ تَسَامَحَ عُلَمَاؤُنَا فِي جَعْلِ الشَّبَهِ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ الْبَحْثَ فِيهِ نَظَرٌ فِي تَيَقُّنِ الْعِلَّةِ لَا فِي ذَاتِهَا. وَكَذَلِكَ نَفْيُ الْفَارِقِ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِيهِ. وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إلَى عِبَارَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ الْفَرْعُ فِيهِ دَائِرًا بَيْنَ أَصْلَيْنِ فَأَكْثَرَ لِتَعَارُضِ الْأَشْيَاءِ فِيهِ، فَيَلْحَقُ بِأَوْلَاهَا، كَالْعَبْدِ الْمُتْلَفِ فَإِنَّهُ آدَمِيٌّ وَمَالٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، لَكِنْ هَلْ تُؤْخَذُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَلَوْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمَالِيَّةِ، أَوْ لَا تُؤْخَذُ قِيمَةٌ زِيَادَةٌ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْآدَمِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَسَمَّى الشَّافِعِيُّ هَذَا قِيَاسَ غَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِاسْمِ الشَّبَهِ، لِأَنَّهُ قِيَاسُ عِلَّةِ مُنَاسِبٍ غَيْرِ أَنَّهُ تَعَارَضَ فِيهِ الْعِلَلُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَعْدُ، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاسْمِ بَعْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ الْوَصْفُ الَّذِي يَظُنُّ بِهِ صَلَاحِيَّتَهُ لِلْمُنَاسَبَةِ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْمُنَاسِبُ بِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْمُنَاسَبَةِ، وَالطَّرْدِيُّ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ نَفْيِهَا. وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا " مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ " عَنْ الْمَظِنَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تُنَاسِبُ بِذَاتِهَا، بَلْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْوُضُوءِ: طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقَانِ؟ يَعْنِي: فِي نَفْيِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، لَكِنَّا إذَا تَأَمَّلْنَا وَجَدْنَا لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ طَهَارَةً حُكْمِيَّةً مِنْ دُونِ الْعِلَلِ مَا لَا نَجِدُ مِنْ قَوْلِ الْحَنَفِيِّ: طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ. وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ " حُكْمِيَّةٌ " يَصْلُحُ لِلْمُنَاسَبَةِ، وَلَمْ يَنْكَشِفْ لَنَا، وَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى الْقَطْعِ بِكَوْنِهِ عَرِيًّا عَنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ طَهَارَةٌ مَا، فَإِنَّهُ لَا مُنَاسِبٌ وَلَا صَالِحٌ. وَمِثْلُهُ أَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ: طَهَارَةٌ مُوجِبُهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ

حكم قياس الشبه

مُوجِبِهَا، فَشَرَطَ فِيهَا النِّيَّةَ كَالتَّيَمُّمِ. وَهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي الشَّبَهِ. انْتَهَى. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَعْرِيفِهِ. [حُكْم قِيَاس الشَّبَه] الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي حُكْمِهِ وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيهِ إذَا تَعَذَّرَتْ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ حُجَّةً، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِهِمْ. وَقَالَ شَارِحُ الْعُنْوَانِ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ فِي الْقَوَاطِعِ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ أَشَارَ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ فِي إيجَابِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ كَالتَّيَمُّمِ: طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقَانِ. وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَاخِرِ الْأُمِّ فِي بَابِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ وَالْقِيَاسُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، فَذَاكَ الَّذِي لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ خِلَافًا. وَالثَّانِي أَنْ يُشْبِهَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ مِنْ أَصْلٍ، وَيُشْبِهَ مِنْ أَصْلٍ غَيْرِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمَوْضِعُ الصَّوَابِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ: فَأَيُّهُمَا كَانَ أَوْلَى بِشَبَهِهِ صِيرَ إلَيْهِ، فَإِنْ اشْتَبَهَ أَحَدُهُمَا فِي خَصْلَتَيْنِ، وَالْآخَرُ فِي خَصْلَةٍ أَلْحَقَهُ بِاَلَّذِي أَشْبَهَ فِي خَصْلَتَيْنِ. انْتَهَى.

حَكَى هَذَا النَّصَّ الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ قَوْلَهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهَا عِلَّةً لِحُكْمٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا حُكِمَ بِتَرْجِيحِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ فِي الْفَرْعِ بِكَثْرَةِ الشَّبَهِ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " فَمَوْضِعُ الصَّوَابِ. . . " إلَى آخِرِهِ، يُرِيدُ إذَا كَانَتْ كُلُّ خَصْلَةٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا مُسْتَغْنِيَةً عَنْ صَاحِبَتِهَا مِثْلَ الْأَخِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ كَالْأَبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ كَابْنِ الْعَمِّ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْأَبَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مَحْرَمٌ لَهُ بِالْقَرَابَةِ، وَيُشْبِهُ ابْنَ الْعَمِّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَسُقُوطِ النَّفَقَةِ، وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ مَعَهُمَا، وَجَرَيَانِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِلْحَاقُهُ بِابْنِ الْعَمِّ حَتَّى لَا يُعْتَقَ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ أَوْلَى. وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ الْقَوْلَ بِالشَّبَهِ بِطَرِيقِ تَمَسُّكِهِمْ بِهِ. قَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى: وَلَعَلَّ أَكْثَرَ أَقْيِسَةِ الْفُقَهَاءِ قِيَاسُ الشَّبَهِ. قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ؟ فَإِنَّهُ يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ فِي مُنَاسِبٍ، وَهُوَ مَأْخَذُ الشَّبَهِ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ الْمُنَاسِبِ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: مَسْحُ الرَّأْسِ لَا يَتَكَرَّرُ وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ لَا يَتَكَرَّرُ، قِيَاسًا عَلَى الْخُفِّ. وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي: قِيَاسُ الشَّبَهِ عِنْدَنَا حُجَّةٌ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْمَعْنَوِيَّ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً لِأَنَّهُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَالشَّبَهُ يُفِيدُهَا أَيْضًا. وَمَنْ أَنْكَرَهَا فِي الشَّبَهِ كَانَ مُنْكَرُهَا فِي قِيَاسِ الْمَعْنَى. انْتَهَى. وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ نِسْبَةَ الْقَوْلِ بِالشَّبَهِ إلَى الشَّافِعِيِّ، مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَا يَكَادُ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالشَّبَهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ مَعَ عُلُوِّ رُتْبَتِهِ فِي الْأُصُولِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ مُتَأَوَّلٌ

مَحْمُولٌ عَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ، فَإِنَّهُ يُرَجِّحُ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ وَيَجُوزُ تَرْجِيحُ الْعِلَلِ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ. قُلْت: وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرِّسَالَةِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَرَّمَ الشَّيْءَ مَنْصُوصًا، أَوْ أَحَلَّ لِمَعْنًى، فَإِذَا وَجَدْنَا ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيمَا لَمْ يَنُصَّ فِيهِ بِعَيْنِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ أَحْلَلْنَاهُ أَوْ حَرَّمْنَاهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. أَوْ تَجِدُ الشَّيْءَ يُشْبِهُ مِنْهُ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا نَجِدُ شَيْئًا أَقْرَبَ مِنْهُ شَبَهًا مِنْ أَحَدِهِمَا فَنُلْحِقُهُ بِأَوْلَى الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الصَّيْدِ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْقِيَاسُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ وَلَا يَخْتَلِفُ الْقِيَاسُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ لَهُ الْأُصُولُ أَشْبَاهًا بِذَلِكَ، فَيُلْتَحَقُ بِأَوْلَاهَا بِهِ وَأَكْثَرِهَا شَبَهًا بِهِ. وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْقَائِسُونَ فِي هَذَا. انْتَهَى. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ ادَّعَى التَّحْقِيقَ مِنْهُمْ، وَصَارَ إلَيْهِ أَبُو زَيْدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَذَهَبَ إلَيْهِ أَيْضًا أَبُو بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ انْتَهَى. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالشِّيرَازِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، كَمَا نُقِلَ فِي الْبَحْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ، لَكِنْ هُوَ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ صَالِحٌ لَأَنْ يُرَجَّحَ بِهِ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي بَابِ " تَرْجِيحِ الْعِلَلِ " مِنْ كِتَابِ التَّقْرِيبِ. وَقَالَ إلْكِيَا: وَرُبَّمَا تَرَدَّدَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي تَصَانِيفِهِ فِي إبْطَالِ الشَّبَهِ فَقَالَ: إنْ لَمْ يُبَيِّنْ مُسْتَنَدَ ظَنِّهِ كَانَ مُتَحَكِّمًا، وَإِنْ بَيَّنَ كَانَ مُخَيِّلًا. وَرُبَّمَا قَالَ: الْإِشْبَاهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ إلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ. قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَّا تَصَوُّرَهَا لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّتِهِ فِي أَنَّهُ بِمَاذَا يُعْتَبَرُ، عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: اعْتِبَارُهُ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: بِشَرْطِ ذَهَابِ الصُّورَةِ إلَى الْحُكْمِ فِي وَاقِعَةٍ لَا يُوجَدُ مِنْهَا إلَّا الْوَصْفُ الشَّبَهِيُّ. وَالثَّالِثُ: بِشَرْطِ أَنْ يَجْتَذِبَ الْفَرْعَ أَصْلَانِ، وَلَيْسَ أَصْلٌ سِوَاهُمَا، فَيُلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ. حَكَاهُ الْقَاضِي، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ السَّابِقِ. وَالرَّابِعُ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلْحُكْمِ عِلَّةٌ بِعَيْنِهِ، وَإِلَّا كَانَ الرُّجُوعُ إلَيْهَا أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ إلَى أَشْبَاهٍ وَصِفَاتٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهَا عِلَّةً لِلْحُكْمِ. حَكَاهُ الْقَاضِي وَقَالَ: إنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الَّذِي قَبْلَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْأَشْبَاهِ الَّتِي يَغْلِبُ بِهَا، عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: الْمُعْتَبَرُ الْمُشَابَهَةُ فِي الْحُكْمِ فَقَطْ دُونَ الصُّورَةِ، وَحَكَاهُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَلِهَذَا أَلْحَقَ الْعَبْدَ الْمَقْتُولَ بِسَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ فِي لُزُومِ قِيمَتِهِ عَلَى الْقَاتِلِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى. وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ مَرْدُودٌ إلَى النِّكَاحِ فِي شَرْطِ الْحَدِّ، وَوُجُوبِ الْمَهْرِ بِشُبْهَةٍ، بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ فِي الْأَحْكَامِ. وَالثَّانِي: اعْتِبَارُ الْمُشَابَهَةِ فِي الصُّورَةِ، كَقِيَاسِ الْخَيْلِ عَلَى الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَسُقُوطِ الزَّكَاةِ بِصُورَةِ شَبَهٍ، أَوْ كَقِيَاسِ الْخَيْلِ عَلَى الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فِي حُرْمَةِ اللَّحْمِ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: ذُو حَافِرٍ أَهْلِيٍّ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ مُعْتَلًّا بِوُجُودِ الشَّبَهِ قَالَ: وَإِذَا جَازَ تَعْلِيلُ الْأَصْلِ بِصِفَةٍ مِنْ ذَاتِهِ جَازَ تَعْلِيلُهُ بِصِفَةٍ

مِنْ صِفَاتِهِ، وَلِأَنَّ الْعِلَلَ أَمَارَاتٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّبَهُ فِي الصُّورَةِ أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّبَهُ فِي الْمَعْنَى أَوْ فِي الْحُكْمِ أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إنَّمَا الصَّحِيحُ أَنَّ مُجَرَّدَ الشَّبَهِ فِي الصُّورَةِ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ مَا كَانَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُفِيدُ قُوَّةً فِي الظَّنِّ حَتَّى يُوجِبَ حُكْمًا. انْتَهَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ إلَى اعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ فِي الصُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ، وَلِهَذَا زَعَمَ أَنَّ تَرْكَ الْجِلْسَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَضُرُّ، كَالْجِلْسَةِ الْأُولَى. وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ. وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا فِي إلْحَاقِهِ الْجُلُوسَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي فِي الْوُجُوبِ. وَاخْتَارَ إلْكِيَا اعْتِبَارَ الشَّبَهِ فِي الصُّورَةِ إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ، كَالْمُعْتَبَرِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ قَالَ: وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَنْوَاعِ إذْ لَا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ. قَالَ: وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ دَلَالَةُ الْحُكْمِ عَلَى الْحُكْمِ فَقَطْ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: الْعَبْدُ أَشْبَهُ بِالْحُرِّ فِي الْقِصَاصِ وَالْكَفَّارَةِ لِلْحُرْمَةِ، وَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ مِثْلُهُ. فَإِنْ أَوْجَبَ لِاحْتِرَامِ الْمَحَلِّ وَالشَّبَهِ فِي الْمَقْصُودِ، كَاعْتِبَارِ خِيَارِ الشَّرْطِ بِخِيَارِ الْعَيْبِ إذَا ثَبَتَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْمَقْصُودِ، وَهُوَ دَفْعُ الْغَبَنِ فَمُعْتَبَرَانِ. وَاعْلَمْ أَنْ الشَّافِعِيَّ اعْتَبَرَ الشَّبَهَ فِي مَوَاضِعَ: (مِنْهَا) إلْحَاقُ الْهِرَّةِ الْوَحْشِيَّةِ بِالْإِنْسِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، دُونَ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ، لِاخْتِلَافِ أَلْوَانِ الْوَحْشِيَّةِ كَالْأَهْلِيَّةِ، بِخِلَافِ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ فَإِنَّهَا أَلْوَانُهَا مُتَّحِدَةٌ دُونَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّ أَلْوَانَهَا مُخْتَلِفَةٌ. وَ (مِنْهَا) حَيَوَانَاتُ الْبَحْرِ: الصَّحِيحُ حِلُّ أَكْلِهَا مُطْلَقًا. وَقِيلَ: مَا أُكِلَ شَبَهَهُ مِنْ الْبَرِّ أُكِلَ شَبَهَهُ مِنْ الْبَحْرِ، فَصَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ اعْتَبَرَ الشَّبَهَ

الصُّورِيَّ. وَعَلَى هَذَا فَقَالَ الْبَغَوِيّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا: حِمَارُ الْبَحْرِ لَا يُؤْكَلُ، فَأَلْحَقُوهُ بِشَبَهِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ دُونَ الْوَحْشِيِّ. وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي حَيَوَانِ الْبَحْرِ الْحِلُّ (وَمِنْهَا) جَزَاءُ الصَّيْدِ كَإِيجَابِ الْبَقَرَةِ الْإِنْسِيَّةِ فِي الْوَحْشِيَّةِ. وَ (مِنْهَا) إقْرَاضُ الْحَيَوَانِ، فَفِي رَدِّ بَدَلِهِ وَجْهَانِ أَشْبَهَهُمَا بِالْحَدِيثِ الْمِثْلُ، وَالْقِيَاسُ الْقِيمَةُ. وَ (مِنْهَا) السُّلْتُ، وَهُوَ يُشَابِهُ الْحِنْطَةَ فِي صُورَتِهِ الشَّعِيرَ بِطَبْعِهِ، فَهَلْ يُلْحَقُ بِالْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ أَوْ هُوَ جِنْسٌ مُسْتَقِلٌّ؟ أَوْجُهٌ. وَ (مِنْهَا) إذَا كَانَ الرِّبَوِيُّ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ، فَيُعْتَبَرُ بِأَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهِ عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ، وَقِسْ عَلَى هَذَا نَظَائِرُهُ. وَالثَّالِثُ: اعْتِبَارُهُ فِي الْحُكْمِ ثُمَّ الْأَشْبَاهِ الرَّاجِعَةِ إلَى الصُّورَةِ وَالرَّابِعُ: اعْتِبَارُهُ فِيهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٌ. حَكَاهُ الْقَاضِي. وَالْخَامِسُ: اعْتِبَارُ حُصُولِ الْمُشَابَهَةِ فِيمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ، بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ، أَوْ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ. فَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْقِيَاسُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْمُشَابَهَةُ فِي الصُّورَةِ أَوْ الْمَعْنَى. وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ (قَالَ) : وَكَانَ يُنْكِرُ الْقِيَاسَ عَلَى شَبَهٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ، إمَّا تَعَيُّنًا لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَلَا يَسُوغُ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ، أَوْ تَعَيُّنًا ظَاهِرًا وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ غَيْرَهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبْطَلَ الْقِيَاسَ عَلَى غَيْرِ عِلَّةٍ، وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْقَفَّالَ قَالَ بِالْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْأَشْبَاهَ تُنَظِّمُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَوْصَافَ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا عِلَّةُ حُكْمِ الْفَرْعِ، لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ، وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَى الْمَائِعِ الطَّاهِرِ أَوْ النَّجَسِ، فَجَعَلَ مَا اخْتَلَطَ وَغَلَبَ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ يُحْكَمُ فِي الْفَرْعِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لِمُشَارَكَتِهِ فِيمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلْحُكْمِ

فِي الْأَصْلِ. وَهُوَ عَجِيبٌ، إذْ كَيْفَ يَجِبُ رَدُّ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا لَيْسَ عِلَّةً فِيهِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ أَشْبَهَ بِهِ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: إنْ تَمَسَّك بِهِ النَّاظِرُ، أَيْ الْمُجْتَهِدُ، كَانَ حُجَّةً فِي حَقِّهِ إنْ حَصَلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَإِلَّا فَلَا. أَمَّا الْمَنَاظِرُ فَيُقْبَلُ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَاخْتَارَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى. وَقَدْ نَصَّ فِي الْقَوَاطِعِ الْقَوْلُ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ وَقَالَ: لَا يُنْكِرُهُ إلَّا مُعَانِدٌ. (ثُمَّ قَالَ) : وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّأْثِيرَ لَا بُدَّ مِنْهُ، إلَّا أَنَّ التَّأْثِيرَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنًى، وَقَدْ يَكُونُ بِحُكْمٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَلَبَةِ شَبَهٍ، فَإِنَّهُ رُبَّ شَبَهٍ أَقْوَى مِنْ شَبَهٍ آخَرَ، وَأَوْلَى بِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ، لِقُوَّةِ أَمَارَتِهِ، وَالشَّبَهُ يُعَارِضُهُ شَبَهٌ آخَرُ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ فَضْلُ قُوَّةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَرُبَّمَا يَخْفَى. وَيَجُوزُ رُجُوعُ الشَّبَهَيْنِ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَيَجُوزُ إلَى أَصْلَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قُوَّةِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي أُصُولِهِ: إنَّا لَا نَعْنِي بِقِيَاسِ الشَّبَهِ أَنْ يُشَبَّهَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ إلَّا وَهُوَ يُشْبِهُ شَيْئًا آخَرَ مِنْ وَجْهٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَجْهٍ، لَكِنْ يُعْتَبَرُ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ أَشْبَهَ بِهِ مِنْهُ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ الْوُضُوءِ بِالتَّيَمُّمِ، وَكَذَا الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، أَوْ عَلَى الْعَكْسِ. وَهَذَا لِأَنَّ إلْحَاقَ الشَّيْءِ بِنَظَائِرِهِ وَإِدْخَالَهُ فِي سِلْكِهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَشْبَهَ مِنْهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إلْحَاقِهِ بِهِ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ، تَقْرِيبٌ حَسَنٌ وَهُوَ عَائِدٌ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ: وَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ أَوَّلًا بِالْمَعَانِي، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ وَأَعْوَزَتْ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي الرُّجُوعُ إلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ السَّابِقَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَحَلُّ

وِفَاقٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ فِي أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَقَالَ إلْكِيَا: شَرَطُوا لِقِيَاسِ الشَّبَهِ شُرُوطًا: مِنْهَا: أَنْ يَلُوحَ فِي الْأَصْلِ الْمَرْدُودِ إلَيْهِ مَعْنًى، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يَقْطَعُ نِظَامَ الشَّبَهِ، وَغَايَةُ مَنْ يَدَّعِي الشَّبَهَ إيهَامُ اجْتِمَاعِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي مَقْصُودِ الشَّارِعِ، فَإِذَا لَاحَ فِي الْأَصْلِ مَعْنًى انْقَطَعَ نِظَامُ الْجَمْعِ. قَالَ: هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا لَاحَ فِي أَحَدِهِمَا مَعْنًى جُزْئِيٌّ وَفُقِدَ فِي الثَّانِي، أَمَّا إذَا كَانَ اسْتِنَادُ الْأَصْلِ إلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ لَا يُتَصَوَّرُ اطِّرَادُهُ فِي آحَادِ الصُّوَرِ وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ سَبَقَ لِإِبَانَةِ الْمَحَلِّ، فَتَعْلِيلُ الْأَصْلِ لَا يَضُرُّ فِي مِثْلِهِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ ضَرَبَ الشَّافِعِيُّ لَهُ مِثَالًا فَقَالَ: بَدَأَ عَلَيْهِ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي فِي الْقَسَامَةِ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ، فَكَانَ فِيهِ خَيَالُ اللَّوْثِ، فَاخْتَصَّهَا بِتِلْكَ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الدَّعْوَيَيْنِ حَالَةَ اللَّوْثِ وَحَالَةَ عَدَمِهَا ظَاهِرَةً، وَلَكِنْ أَمْكَنَ فَهْمُ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ، أَمَّا عِنْدَ اللَّوْثِ فَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ غَيْرُ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّبَهَ إذَا لَاحَ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مُبْطِلًا مَعَانِي الْخَصْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ خَاصًّا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا يَكُونُ لِلْخَصْمِ فِي مُقَابَلَتِهِ إلَّا مَعْنًى عَامٌّ بِنَهْيٍ مِنْ الْأَصْلِ نَقْضًا لَهُ. وَلَهُ نَظَائِرُ: (مِنْهَا) أَنَّ التَّيَمُّمَ إذَا صَارَ أَصْلًا فَالْمَعْنَى الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْقُوضٌ بِالتَّيَمُّمِ، وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ مَقْصُودًا فَلَمْ يَكُنْ عِبَادَةً. (انْتَهَى) .

وَقَدْ أَكْثَرَ أَصْحَابُنَا فِي الِاحْتِجَاجِ لِقِيَاسِ الشَّبَهِ. وَأَصَحُّ مَا ذَكَرُوهُ مَسَالِكُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: «لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ» وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَ حَالَ هَذَا السَّائِلَ فِي نَزْعِ الْعِرْقِ مِنْ أُصُولِهِ بِنَزْعِ الْعِرْقِ مِنْ أُصُولِ الْفَحْلِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قِيَاسَ الْمَعْنَى إنَّمَا صِيرَ إلَيْهِ لِإِفَادَتِهِ الظَّنَّ، وَهَذَا يُفِيدُهُ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ. وَاعْتَرَضَ الْإِبْيَارِيُّ: أَوَّلًا: بِأَنَّهُ قِيَاسُ الْمَعْنَى فِي الْأُصُولِ فَلَا يُسْمَعُ. وَثَانِيًا: بِمَنْعِ إفَادَةِ الظَّنِّ. وَثَالِثًا: أَنَّهُ لَمْ تَخْلُ وَاقِعَةٌ مِنْ حُكْمٍ، قَالُوا: وَمَنْ مَارَسَ مَسَائِلَ الْفِقْهِ وَتَرَقَّى عَنْ رُتْبَةِ الْبَادِئِ فِيهَا عَلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُخَيَّلَ لَا يَعُمُّ الْمَسَائِلَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ تَخْلُو مِنْ الْمَعَانِي خُصُوصًا فِي الْعِبَادَاتِ وَهَيْئَاتِهَا وَالسِّيَاسَاتِ وَمَقَادِيرِهَا، وَشَرَائِطِ الْمُنَاكَحَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ إلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَلَا يَلْزَمُنَا الطَّرْدُ لِأَنَّا فِي غَنِيَّةٍ عَنْهُ إذْ هُوَ مُنْسَحِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْحَوَادِثِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ دَاعٍ إلَيْهِ، فَوَضَحَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالشَّبَهِ عَنْ مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَلَوْلَا الضَّرُورَاتِ لَمَا شُرِعَ أَصْلُ الْقِيَاسِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: بَنَى الْقَاضِي الْخِلَافَ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَوْ كُلَّ

مُجْتَهِدٍ؟ فَإِنْ قُلْت: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ فَالْأَوْلَى بِك إبْطَالُ قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَإِنْ قُلْت بِتَصْوِيبِهِمْ، فَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ حُكْمٌ مِنْ قَضِيَّةِ اعْتِبَارِ الشَّبَهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ قَطْعًا، وَوَافَقَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عَلَى تَقْرِيرِ ثُبُوتِ كَوْنِهَا ظَنِّيَّةً، لَكِنْ خَالَفَ فِي أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ وَقَالَ: الْأَلْيَقُ بِمَا مَهَّدَهُ مِنْ الْأُصُولِ أَنْ يُقَالَ؛ كُلُّ مَا آلَ إلَى إثْبَاتِ دَلِيلٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ فَيُطْلَبُ فِيهِ الْقَطْعُ، وَرُبَّمَا يَقُولُ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُتَمَسِّكَ بِضَرْبٍ مِنْ الْقِيَاسِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ وَفِي الْحَادِثَةِ نَصٌّ لَمْ يَبْلُغْهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ قَطْعًا بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ فِي مُخَالِفِهِ مَرْدُودًا. الثَّانِي: قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: اعْلَمْ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَشْبَاهِ إنَّمَا تُقَوِّي أَحَدَ جَانِبَيْ الْقِيَاسِ إذَا أَمْكَنَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْصَافِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقُمْ الْحُكْمُ إلَّا لِمَجْمُوعِ أَوْصَافٍ حَتَّى يَرُدَّ بِهَا إلَى أَصْلٍ، فَيُرَدَّ إلَى أَصْلٍ آخَرَ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَوْصَافِ فَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْوَاحِدِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا آخَرَ سِوَى الْأَوْصَافِ الْمَجْمُوعَةِ فِيمَا سِوَاهُ، مِثْلُ عِلَّةِ الطُّعْمِ فِي الرِّبَا أَوْلَى مِنْ عِلَّةِ الْقُوتِ لِأَنَّهُ مَا مِنْ قُوتٍ إلَّا وَهُوَ طَعَامٌ، فَكَانَ مَنْ عَلَّلَ بِهِ عَلَّلَ الطَّعَامَ وَزِيَادَةً وَعِلَّةُ " الطَّعَامِ وَالْكَيْلِ " مُسْتَوِيَتَانِ، فَتَقَدُّمُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالتَّرْجِيحِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ الْآخَرِ إذَا كَانَ الْأَصْلُ الْمَرْدُودُ إلَيْهِ وَاحِدًا غَيْرَ أَنَّ أَحَدَ الْقِيَاسِيِّينَ يُرَدُّ الْفَرْعُ إلَيْهِ بِوَصْفٍ، وَالْآخَرُ يَرُدُّهُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ، فَضَمُّهَا إلَيْهِ بِالْوَصْفِ الْوَاحِدِ أَوْلَى. الثَّالِثُ: هَلْ يُسْتَعْمَلُ " الشَّبَهُ " مُرْسَلًا كَمَا اُسْتُعْمِلَ الْمُنَاسِبُ مُرْسَلًا؟ قَالَ

المسلك الثامن الدوران

الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ: هَذَا شَيْءٌ غَامِضٌ وَلَمْ أَقِفْ فِيهِ عَلَى نَصٍّ، وَلَوْ قِيلَ بِهِ لَمْ يَبْعُدْ. انْتَهَى. وَقَدْ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ، وَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيْهِ فِي الشَّبَهِ وَهُوَ أَنْ يُنَاسِبَ تَشَابُهَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُطْلَقًا فِي حُكْمٍ مُعَيَّنٍ، فَعَلَى هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ الشَّبَهُ إلَّا بِأَصْلٍ. وَإِنْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِهِ: مَا يُوهِمُ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ الْخَاصِّ أَوْ مُلَاءَمَةً لِأَوْصَافٍ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا وَلَمْ تَظْهَرْ مُنَاسَبَتُهَا. أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّفَاسِيرِ السَّابِقَةِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ مُرْسَلًا. [الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ الدَّوَرَانُ] ُ وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الْأَقْدَمُونَ بِ " الْجَرَيَانِ " وَبِ " الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ " وَهُوَ: أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ وَصْفٍ وَيَرْتَفِعُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالتَّحْرِيمِ مَعَ السُّكْرِ فِي الْعَصِيرِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا، فَلَمَّا حَدَثَ السُّكْرُ فِيهِ وُجِدَتْ الْحُرْمَةُ ثُمَّ لَمَّا زَالَ السُّكْرُ بِصَيْرُورَتِهِ خَلًّا زَالَ التَّحْرِيمُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ " السُّكْرُ ". وَأَمَّا فِي صُورَتَيْنِ، كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ مَعَ مِلْكِ نِصَابٍ قَامَ فِي صُورَةِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ، وَعَدَمِهِ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْهَا، كَمَا فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ حَيْثُ لَا تَجِبُ فِيهَا

الزَّكَاةُ لِفَقْدِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَالَ: مَا بَالُنَا نَسْتَعْمِلُ أَقْوَامًا فَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي، أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إنْ كَانَ صَادِقًا» وَهَذَا إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالدَّوَرَانِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْوَصْفِ وَانْتِفَاؤُهُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ. وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي إفَادَةِ الدَّوَرَانِ الْعِلِّيَّةَ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْعِلِّيَّةِ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَرُبَّمَا قِيلَ: لَا دَلِيلَ فَوْقَهُ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تُوجِبُ الْحُكْمَ بِذَاتِهَا وَإِنَّمَا هِيَ عَلَامَةٌ مَنْصُوبَةٌ، فَإِذَا دَارَ الْوَصْفُ مَعَ الْحُكْمِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهُ مُعَرِّفًا لَهُ وَيَنْزِلُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَإِنْ خَلَا عَنْ الْمُنَاسَبَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمْ (إمَامُ الْحَرَمَيْنِ) ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْقَاضِي. وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ إلْكِيَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَلِأَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ شَغَفٌ بِهِ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ كُلُّ مَنْ يُعْزَى إلَى الْجَدَلِ إلَى أَنَّهُ

أَقْوَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَلُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ مِنْ أَقْوَى الْمَسَالِكِ وَكَادَ يَدَّعِي إفْضَاءَهُ إلَى الْقَطْعِ. وَإِنَّمَا سَمَّيْت هَذَا الشَّيْخَ لِغَشَيَانِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي مُدَّةً وَإِعْلَاقِهِ طَرَفًا مِنْ كَلَامِهِ، وَمَنْ عَدَاهُ حِيَالَهُ. قُلْت: وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " لِلْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ مَا لَفْظُهُ: وَأَمَّا الطَّرْدُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى صِحَّتِهَا، وَلَا يَجُوزُ إذَا اطَّرَدَ مَعْنًى أَنْ يُحْكَمَ بِصِحَّتِهِ حَتَّى يَدُلَّ التَّأْثِيرُ أَوْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ عَلَيْهِ. وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ ": الطَّرْدُ وَالْجَرَيَانُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ بِدَلِيلِ صِحَّتِهَا. وَقِيلَ: دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَبِهِ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ، وَقَالَ: إذَا لَمْ يَرِدْ بِهَا نَصٌّ وَلَا أَصْلٌ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: هُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: الطَّرْدُ عِنْدَنَا شَرْطُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الِاطِّرَادُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا. وَأَمَّا الِانْعِكَاسُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الِانْعِكَاسَ شَرْطٌ، فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَمْ يَرْتَفِعْ بِارْتِفَاعِهَا بَطَلَتْ الْعِلَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ تَعَلُّقًا بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ انْعِكَاسُهَا، فَكَذَلِكَ السَّمْعِيَّةُ. وَلَنَا أَنَّ الْعِلَّةَ مَنْصُوبَةٌ لِلْإِثْبَاتِ فَلَا تَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ " الْحُدُودِ " إنَّهُ قَوْلُ الْمُحَصِّلِينَ. قَالَ إلْكِيَا: وَهُوَ الَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ الْقَاضِي، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْهُ أَيْضًا. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مَعَ عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْلُولَ دَائِرٌ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا، مَعَ أَنَّ الْمَعْلُولَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِعِلَّتِهِ

قَطْعًا، وَالْجَوْهَرُ وَالْعَرَضُ مُتَلَازِمَانِ مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْآخَرِ اتِّفَاقًا، وَالْمُتَضَايِفَانِ - كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ - مُتَلَازِمَانِ وُجُودًا وَعَدَمًا، مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْآخَرِ لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ وَوُجُوبِ مُصَاحَبَةِ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَإِلَّا لَمَا كَانَا مُتَضَايِفَيْنِ. وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ، أَعْنِي تَجْوِيزَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا وَرَاءَ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ صَحَّ لَجَرَى فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ، كَالْإِيمَاءِ وَنَحْوِهِ. وَمِنْ الْعَجِيبِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ اعْتَرَفُوا بِصِحَّةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ مُنَاسَبَةٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِلطَّرْدِ، فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمُقَارِنَةَ لِلْحُكْمِ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خُرُوجِ بَعْضِهَا عَنْ صَلَاحِيَةَ التَّعْلِيلِ، فَعُلِمَ صِحَّةُ التَّعْلِيلِ بِالْبَاقِي، وَلَا تَجِدُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ سِوَى مُقَارَنَتِهِ الْحُكْمَ فِي الْوُجُودِ مَعَ انْتِقَاءِ الظَّفَرِ بِدَلِيلِ انْتِفَاءِ صَلَاحِيَتِهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَذَلِكَ مُجَرَّدُ طَرْدٍ لَا عَكْسَ فِيهِ، وَاذَا كَانَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى اقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ وُجُودًا عُلِمَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِهِ وَأَنْكَرَ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ كَمَنْ أَخَذَ بِالْمُقَدِّمَةِ الْوَاحِدَةِ وَأَنْكَرَ دَلَالَةَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَكَمَنْ أَخَذَ بِالْكَثْرَةِ فِي الْأَلْفِ وَأَنْكَرَهَا فِي الْأَلْفَيْنِ. التَّفْرِيعُ: إنْ اعْتَبَرْنَاهُ فَشَرَطَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي صِحَّتِهِ أَنْ يَصِحَّ اقْتِضَاؤُهُ مِنْ الْأَصْلِ، كَالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ فِي الْخَمْرِ. قَالَ: وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ كَانَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَكُنْ دَالًّا عَلَى صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ، لِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ دَالًّا عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ يَقُولُ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَرَيَانِ هَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ عِلَّةً حَتَّى لَا تَدْفَعَهُ الْأُصُولُ، فَإِنْ دَفَعَتْهُ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عِلَّةٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ. قَالَ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي.

وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ عِلِّيَّةِ الْمَدَارِ لِلدَّائِرِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدَارُ مَقْطُوعًا بِعَدَمِ عِلِّيَّتِهِ، كَالرَّائِحَةِ الْفَائِحَةِ لِلْخَمْرِ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِلَّةً لِلْحُرْمَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَدَارُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الدَّائِرِ، بِحَيْثُ أَنْ يُقَالَ: وُجِدَ الدَّائِرُ فَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ دَوَرَانُ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَلَا دَوَرَانُ الْوَصْفِ مَعَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَضَايِفَيْنِ لَيْسَ مُقَدَّمًا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا الْحُكْمَ عَلَى الْوَصْفِ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُقْطَعَ بِوُجُودِ مُزَاحِمٍ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَدَارِ عِلَّةً إلْغَاؤُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَرُدُّ أَجْزَاءَ الْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُولُ كَمَا دَارَ مَعَ الْعِلَّةِ دَارَ مَعَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا لَكِنَّ الْحُكْمَ بِأَيِّ جُزْءٍ كَانَ يُوجِبُ إلْغَاءَ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ، أَوْ إلْغَاءَ الْمَجْمُوعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيُوجَدُ لِكُلِّ جُزْءٍ مُزَاحِمٌ يَمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِعِلِّيَّتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجْمُوعِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً لَيْسَ بِمُوجِبٍ إلْغَاءَ الْجُزْءِ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ اعْتِبَارِ الثَّانِي، بَلْ لِكُلِّ جُزْءٍ مَدْخَلٌ فِي التَّأْثِيرِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ فَشَرَطُوا شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ غَيْرَ مُنَاسِبٍ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ مُنَاسِبًا كَانَتْ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً مِنْ جِهَةِ الْمُنَاسَبَةِ، صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي " شِفَاءِ الْعَلِيلِ " وَإِلْكِيَا وَابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُمْ. قُلْت: وَأَمَّا مَنْ يَدَّعِي الْقَطْعَ فِيهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ ظُهُورَ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَا يَكْتَفِي بِالدَّوَرَانِ بِمُجَرَّدِهِ، فَإِذَا انْضَمَّ الْمُنَاسَبَةُ ارْتَقَى إلَى الْقَطْعِ. ثُمَّ قَالَ إلْكِيَا: وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَمَارَةَ لَا تَطَّرِدُ وَلَا تَنْعَكِسُ إلَّا إذَا كَانَتْ اجْتِمَاعَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي مَقْصُودٍ خَاصٍّ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ إذَا تَبَاعَدَ مَا حَدُّهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَارَةُ الْوَاحِدَةُ جَارِيَةً فِيهَا عَلَى نَسَقِ الْإِطْرَادِ وَالِانْعِكَاسِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ فِي الطَّهَارَةِ: إنَّهَا وَظِيفَةٌ تُشَطَّرُ فِي وَقْتٍ فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ، كَالصَّلَاةِ، فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ انْعِكَاسُهُ، وَقَدْ تَطَّرِدُ وَتَنْعَكِسُ بَعْضُ الْأَمَارَاتِ فَإِنَّهَا مَجْرَى الْحُدُودِ الْعَقْلِيَّةِ.

المسلك التاسع الطرد

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاطِّرَادَ وَالِانْعِكَاسَ مِنْ بَابِ الْأَشْبَاهِ الظَّاهِرَةِ وَمِنْ قَبِيلِ تَنْبِيهِ الشَّرْعِ عَلَى نَصْبِهِ ضَابِطًا لِخَاصَّةٍ فَعُلِّقَتْ بِهِ. وَمِمَّا يُتَنَبَّهُ لَهُ أَنَّ مَا يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَيَنْعَدِمُ بِعَدَمِهَا، كَالْإِحْصَانِ، فَلَيْسَ بِتَعْلِيلٍ اتِّفَاقًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ إنَّمَا كَانَ تَعْلِيلًا لِلْإِشْعَارِ بِاجْتِمَاعِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي مَعْنًى مُؤَثِّرٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ، فَكَانَ الِاطِّرَادُ مِنْ الشَّارِعِ تَنْبِيهًا عَلَى وُجُودِ مَعْنًى جُمَلِيٍّ اقْتَضَى الِاجْتِمَاعَ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْإِيهَامَ لَا مِيزَانَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُصَرَّحِ بِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَتَجَرَّدَ الْوَصْفُ، فَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ سَبْرٌ وَتَقْسِيمُ قَالَ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": يَكُونُ حِينَئِذٍ حُجَّةً، كَمَا لَوْ قَالَ: هَذَا الْحُكْمُ لَا بُدَّ [لَهُ] مِنْ عِلَّةٍ، لِأَنَّهُ حَدَثَ بِحُدُوثِ حَادِثٍ، وَلَا حَادِثَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّلَ بِهِ إلَّا كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَطَلَ الْكُلُّ إلَّا هَذَا فَهُوَ الْعِلَّةُ. وَمِثْلُ هَذَا السَّبْرِ حُجَّةٌ فِي الطَّرْدِ الْمَحْضِ، وَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْعَكْسُ. فَائِدَةٌ: الدَّوْرُ يَسْتَلْزِمُ الْمَدَارَ وَالدَّائِرَ، فَالْمَدَارُ هُوَ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ، كَالْقَتْلِ الْمَوْصُوفِ، وَالدَّائِرُ هُوَ الْمُدَّعَى مَعْلُولِيَّتُهُ كَوُجُوبِ الْقِصَاصِ. [الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ الطَّرْدُ] ُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ كَوْنَ الْعِلَّةِ لَا تَنْتَقِضُ فَذَاكَ مَقَالُ الْعَكْسِ، بَلْ الْمُرَادُ أَنْ لَا تَكُونَ عِلَّتُهُ مُنَاسِبَةً وَلَا مُؤَثِّرَةً. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّوَرَانِ أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُقَارَنَةِ وُجُوبًا وَعَدَمًا. وَهَذَا مُقَارِنٌ فِي الْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ - فِيمَا حَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَنْهُ فِي تَعْلِيقِهِ: الطَّرْدُ شَيْءٌ أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَهُوَ حَمْلُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ بِغَيْرِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ

يَكُونَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ تَأْثِيرٌ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ، كَقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي نِيَّةِ الْوُضُوءِ: عِبَادَةٌ يُبْطِلُهَا الْحَدَثُ وَتُشَطَّرُ بِعُذْرِ السَّفَرِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلشَّطْرِ بِعُذْرِ السَّفَرِ فِي إثْبَاتِ النِّيَّةِ. وَكَقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَسِّ الذَّكَرِ: مُعَلَّقٌ مَنْكُوسٌ، فَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّهِ دَلِيلُهُ الدَّبُّوسُ. أَوْ قَالُوا: طَوِيلٌ مَشْقُوقٌ، فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَسِّهِ كَالْقَلَمِ وَالْبُوقِ. قَالَ: وَهَذَا سُخْفٌ يَتَحَاشَى الطِّفْلُ عَنْ ذِكْرِهِ، فَضْلًا عَنْ الْفَقِيهِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هُوَ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَلَا يُشْعِرُ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ: هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا وَلَا مُسْتَلْزِمًا لِلْمُنَاسِبِ وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ إلَى الطَّرْدِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ حَاصِلًا مَعَهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِ حُصُولِهِ غَيْرَ صُورَةِ النِّزَاعِ، فَإِنْ حَصَلَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ كَانَ دَوَرَانًا. قَالَ الْهِنْدِيُّ: هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي فِي عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُقَارِنًا لَهُ وَلَوْ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الطَّرْدَ [وَ] الْعَكْسَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَفِي كَوْنِ الطَّرْدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّةِ ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي حُجِّيَّةِ الطَّرْدِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ وَقَالَ بِحُجِّيَّتِهِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَالْمُعْتَبَرُونَ مِنْ النُّظَّارِ عَلَى أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْهَذَيَانِ.

قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَتَنَاهَى الْقَاضِي فِي تَغْلِيطِ مَنْ يَعْتَقِدُ رَبْطَ حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّهُ يَجِبُ تَصْحِيحُ الْعِلَّةِ فِي نَفْسِهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ ثَمَرَةُ الْعِلَّةِ، فَالِاسْتِثْمَارُ بَعْدَ التَّصْحِيحِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مَا حَقُّهُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ عَلَمًا عَلَى ثُبُوتِ الْأَصْلِ. قَالَ: وَقَدْ رَأَيْنَا فِي الطَّرْدِ صُوَرًا لَا يَتَخَيَّلُ عَاقِلٌ صِحَّتَهَا، كَتَشْبِيهِ الصَّلَاةِ بِالطَّوَافِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " عَنْ الْمُحَصِّلِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ - فِيمَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ فِي " تَعْلِيقِهِ " عَنْهُ: - لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَانَ اللَّهُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": الطَّرْدُ جَرَيَانُ الْعِلَّةِ فِي مَعْلُولَاتِهَا وَسَلَامَتِهَا مِنْ أَصْلٍ يَرُدُّهَا وَيَنْفِيهَا. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا. وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَمَالَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَجَزَمَ بِهِ الْبَيْضَاوِيُّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيُّ: وَحَكَاهُ الشَّيْخُ فِي التَّبْصِرَةِ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ ذَاكَ فِي الِاطِّرَادِ الَّذِي هُوَ الدَّوَرَانُ. وَقَالَ الْكَرْخِيّ: هُوَ مَقْبُولٌ جَدَلًا، وَلَا يَسُوغُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ عَمَلًا، وَلَا الْفَتْوَى بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: ذَهَبَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ، وَاقْتَدَى بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْعِرَاقِ، فَصَارُوا يَطْرُدُونَ الْأَوْصَافَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ وَيَقُولُونَ. إنَّهَا قَدْ صَحَّتْ، كَقَوْلِهِمْ فِي مَسِّ الذَّكَرِ: مَسُّ آلَةِ الْحَرْثِ فَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ، كَمَا إذَا مَسَّ الْفَدَّانَ. وَإِنَّهُ طَوِيلٌ مَشْقُوقٌ فَأَشْبَهَ الْبُوقَ. وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: إنَّهُ سَعْيٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَلَا يَكُونُ رُكْنًا فِي الْحَجِّ. كَالسَّعْيِ بَيْنَ جَبَلَيْنِ بِنَيْسَابُورَ. وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ هَذَا سُخْفٌ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَسَمَّى أَبُو زَيْدٍ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الطَّرْدَ

حُجَّةً، وَالِاطِّرَادَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ " حَشْوِيَّةَ أَهْلِ الْقِيَاسِ " قَالَ: وَلَا يُعَدُّ هَؤُلَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَيَجُوزُ لِلشَّارِعِ نَصْبُ الطَّرْدِ عَلَمًا عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ عِلَّةً بَلْ تَقْرِيبٌ لِلْحُكْمِ وَتَحْدِيدٌ لَهُ. قَالَ: وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّ الِاطِّرَادَ زِيَادَةُ دَعْوَى عَلَى دَعْوَى، وَالدَّعْوَى لَا تَثْبُتُ بِزِيَادَةِ دَعْوَى، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ قَدْ يَطَّرِدُ، وَلَوْ كَانَ الِاطِّرَادُ دَلِيلَ صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ لَمْ يَقُمْ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ الْمُطَّرِدَةِ، مِثْلُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ: مَائِعٌ لَا تُبْنَى عَلَيْهِ الْقَنَاطِرُ، وَلَا يُصَادُ مِنْهُ السَّمَكُ، فَأَشْبَهَ الدُّهْنَ وَالْمَرَقَةَ. وَفِي الْمَضْمَضَةِ: اصْطِكَاكُ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْقُضَ الطَّهَارَةَ، كَالرَّعْدِ وَلَا يَلْزَمُ الضُّرَاطُ لِأَنَّهُ اصْطِكَاكُ الْأَجْرَامِ السُّفْلِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَعَ سُخْفِهِ يَنْتَقِضُ بِمَا لَوْ صَفَعَ امْرَأَتَهُ وَصَفَعَتْهُ. وَالِاشْتِغَالُ بِهَذَا هُزْأَةٌ وَلَعِبٌ فِي الدِّينِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْكَرْخِيّ: هُوَ مَقْبُولٌ جَدَلًا، وَلَا يَسُوغُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ عَمَلًا. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ. وَقَالَ: إنَّهُ رَأْيُ الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَالَ: هُوَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُنَاظِرِ فِي حَقِّ مَنْ أَثْبَتَ الشَّبَهَ وَرَآهُ مُعْتَمَدًا، بَلْ لَا طَرِيقَ سِوَاهُ، فَإِمَّا أَنْ يُصَارَ إلَى إبْطَالِ الشَّبَهِ رَأْسًا، وَقَصْرِ الْجَامِعِ عَلَى الْمُخَيَّلِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ مِنْ الْمُنَاظِرِ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَهَاهُنَا أُمُورٌ ذَكَرَهَا إلْكِيَا: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي غَيْرِ الْمَحْسُوسَاتِ. أَمَّا الْمَحْسُوسَاتُ فَقَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً مِثْلُ مَا نَعْلَمُهُ أَنَّ الْبَرْقَ يَسْتَعْقِبُ صَوْتَ الرَّعْدِ فَلِهَذَا اطَّرَدَ وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بِهِ الثَّانِي: أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُنْكِرُهُ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ، وَأَحَدًا لَا يَتَّبِعُ كُلَّ وَصَفٍّ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، وَإِنْ أَحَالُوا اطِّرَادًا لَا يَنْفَكُّ عَنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ. الثَّالِثُ: إذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَهَلْ يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ لِدَفْعِ النَّقْضِ

أَمْ لَا؟ قَالَ إلْكِيَا: فِيهِ تَفْصِيلٌ: فَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ مَا قُيِّدَ الْكَلَامُ بِهِ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِحُكْمِهَا فَالْكَلَامُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ التَّقْيِيدُ كَمَا قُيِّدَ بِهِ تَقْيِيدًا بِمَا يَظْهَرُ تَقَيَّدَ مِنْ الشَّرْعِ الْحُكْمُ بِهِ. وَصُورَةُ النَّقْضِ آيِلَةٌ إلَى اسْتِثْنَاءِ الشَّرْعِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّخْصِيصِ كَمَا إذَا عُلِّلَ إيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ فَنُقِضَ بِالْأَبِ فَلَا يُمْنَعَ مِنْ هَذَا التَّخْصِيصِ، وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ إلَّا اللُّغَةَ وَذَلِكَ الْمَعْنَى صَالِحٌ لَأَنْ يُجْعَلَ وَصْفًا وَمَنَاطًا لِلْحُكْمِ، فَيَجُوزُ دَفْعُ النَّقْضِ بِهِ، كَقَوْلِنَا: مَا لَا يَتَجَزَّأُ فِي الطَّلَاقِ فَذِكْرُ بَعْضِهِ كَذِكْرِ كُلِّهِ، فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهَا النِّكَاحُ، فَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ يُنْبِئُ فِي الشَّرْعِ عَنْ خَصَائِصَ وَمَزَايَا فِي الْقُوَّةِ لَا يُلْغَى فِي غَيْرِهِ فَيَنْدَفِعُ النَّقْضُ.

فَصْلٌ سَاقَ الْغَزَالِيُّ فِي " شِفَاءِ الْعَلِيلِ " مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ هُنَا أَمْرًا حَسَنًا يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ الْإِحَاطَةُ بِهِ فَقَالَ: قِيَاسُ الطَّرْدِ صَحِيحٌ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ، وَقَالَ بِهِ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَمَنْ شَنَّعَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ الْقَرِيبِ كَأَبِي زَيْدٍ وَأُسْتَاذِي إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، فَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ، إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ يُعَبِّرُ عَنْ الطَّرْدِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ بِ (الشَّبَهِ) وَيَقُولُ: الطَّرْدُ بَاطِلٌ وَالشَّبَهُ صَحِيحٌ، وَأَبُو زَيْدٍ يُعَبِّرُ عَنْ الطَّرْدِ بِ (الْمُخَيَّلِ) ، وَعَنْ الشَّبَهِ بِ (الْمُؤَثِّرِ) ، وَيَقُولُ: الْمُخَيَّلُ بَاطِلٌ وَالْمُؤَثِّرُ صَحِيحٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا بِأَصْلِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُؤَثِّرِ مَا أَرَدْنَاهُ بِالْمُخَيَّلِ، وَسَنُبَيِّنُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالشَّبَهِ الْمُنْكِرِينَ لِلطَّرْدِ مُرَادُهُمْ بِالشَّبَهِ مَا أَرَدْنَاهُ بِالطَّرْدِ، وَأَنَّ الْوَصْفَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: مُنَاسِبٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ حُجَّةٌ وِفَاقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلَقِّبُهُ بِالْمُؤَثِّرِ وَيُنْكِرُ الْمُخَيَّلَ. وَغَيْرُ الْمُنَاسِبِ أَيْضًا حُجَّةٌ إذَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلَقِّبُهُ بِالشَّبَهِ، حَتَّى يُخَيَّلَ أَنَّهُ غَيْرُ الطَّرْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. (قَالَ) : وَلَقَدْ عَزَّ عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ مَنْ يُحَقِّقُ الشَّبَهَ. ثُمَّ قَالَ: فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، وَالشَّبَهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ الْقَوْلُ بِهِمَا جَمِيعًا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِالشَّبَهِ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ الْقَوْلِ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ. (قَالَ) : وَقَدْ عَلَّلَ [بِهِ] الْفُقَهَاءُ كَافَّةً سُقُوطَ التَّكْرَارِ فِي مَسْحِ الْخُفِّ، وَشَرْعِيَّتِهِ فِي غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْحِ الرَّأْسِ: إنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يَكُونُ كَمَسْحِ الْخُفِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَصْلٌ فِي الطَّهَارَةِ فَكُرِّرَ كَالْغَسْلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا طَرْدٌ مَحْضٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ؟

(قَالَ) : وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَذْهَبْ فِي التَّعْلِيلِ مَسْلَكَ الْإِخَالَةِ فَصْلٌ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ " الرِّسَالَةِ "، وَقَدْ نَقَلْنَاهُ بِلَفْظِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] الْآيَةَ «وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِنْدًا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا» ، فَكَانَ الْوَلَدُ مِنْ الْوَالِدِ، فَأُجْبِرَ عَلَى صَلَاحِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يُغْنِي فِيهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَكَانَ الْأَبُ إذَا بَلَغَ أَنْ لَا يُغْنِيَ عَنْ نَفْسِهِ بِكَسْبٍ وَلَا مَالٍ فَعَلَى وَلَدِهِ صَلَاحُهُ فِي نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ، قِيَاسًا عَلَى الْوَالِدِ، وَلَمْ يَضَعْ شَيْئًا هُوَ مِنْهُ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَالِدِ ذَلِكَ، وَالْوَالِدُ وَإِنْ بَعُدَ، وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَقُلْنَا: يُنْفِقُ عَلَى كُلِّ مُحْتَاجٍ مِنْهُمْ غَيْرِ مُحْتَرِفٍ، وَلَهُ النَّفَقَةُ عَلَى الْغَنِيِّ الْمُحْتَرِفِ. وَذَكَرَ «حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الْغَلَّةَ بِالضَّمَانِ» فَقَالَ: وَكَأَنَّ الْغَلَّةَ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهَا صَفْقَةُ الْبَيْعِ فَيَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ فِي الثَّمَنِ، فَكَانَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَوْ فَاتَ فِيهِ الْعَقْدُ فَاتَ فِي مَالِهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَهَا لَهُ لِأَنَّهُ حَادِثَةٌ فِي مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ، فَقُلْنَا كَذَلِكَ فِي ثَمَرِ النَّخِيلِ وَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ وَصُوفِهَا وَأَوْلَادِهَا وَوَلَدِ الْجَارِيَةِ وَكُلِّ مَا حَدَثَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَضَمَانِهِ. وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْأَمَةِ الثَّيِّبِ وَخِدْمَتِهَا.

«وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ بِالْوَرِقِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ» ، فَلَمَّا حَرَّمَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذِهِ الْأَصْنَافَ الْمَأْكُولَةَ الَّتِي يَشِحُّ النَّاسُ عَلَيْهَا حِينَ بَاعُوهَا كَيْلًا لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُبَاعَ مِنْهَا شَيْءٌ بِمِثْلِهِ دَيْنًا، وَالْآخَرُ: زِيَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ نَقْدًا، كَانَ كَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، فَحَرَّمْنَا قِيَاسًا عَلَيْهِمَا، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أُكِلَ مِمَّا اُبْتِيعَ مَوْزُونًا، وَالْوَزْنُ وَالْكَيْلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ كَالْعَسَلِ وَالزَّبِيبِ وَالسَّمْنِ وَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ وَيُبَاعُ مَوْزُونًا، وَلَمْ يُقَسْ الْمَوْزُونُ عَلَى الْمَوْزُونِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، لَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ نَقْدًا عَسَلًا وَسَمْنًا إلَى أَجَلٍ، وَلَوْ قِيسَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا يَدًا بِيَدٍ، كَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ. وَيُقَاسُ بِهِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ يُعْتَادُ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: هَذَا كُلُّهُ نَقَلْنَاهُ مِنْ لَفْظِ الشَّافِعِيِّ فَلْيَتَأَمَّلْ الْمُنْصِفُ لِيَعْرِفَ كَيْفَ عَلَّلَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ [مَا] لَا يُنَاسِبُ، ذَاهِبًا إلَى أَنَّ الْمُشَارِكَ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي مَعْنَاهُ غَيْرَ مُعَرِّجٍ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ وَالْإِيمَاءِ. وَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ مِنْ لَفْظِ ابْنِ سُرَيْجٍ، فِي سِيَاقِ كَلَامٍ لَهُ فِي تَصْحِيحِ التَّعْلِيلِ بِالِاطِّرَادِ وَالسَّلَامَةِ عَنْ النَّوَاقِضِ فَصْلًا وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْت: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الْعِلَلَ تُسْتَخْرَجُ وَتَصِحُّ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَالِاطِّرَادِ فِي مَعْلُولَاتِهَا، فَإِنْ عَارَضَهَا أَصْلٌ يَدْفَعُهَا عُلِمَ فَسَادُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَارِضْهَا أَصْلٌ صَحَّتْ فَأَخْبِرُونِي: إذَا انْتَزَعْتُمْ عِلَّةً مِنْ أَصْلٍ، فَانْتَزَعَ مُخَالِفُوكُمْ عِلَّةً أُخْرَى

فَخَبِّرُونَا: مَا جَعَلَ عِلَّتَكُمْ أَوْلَى؟ فَإِنْ أَحَلْتُمْ ذَلِكَ أَرَيْنَاكُمْ زَعَمَ الْعِرَاقِيُّ عِلَّةَ الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنْكَرُ، وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا الْأَكْلُ دُونَ الْكَيْلِ، فَنَقُولُ: إنَّا تَرَكْنَا جَعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عِلَّةً لِأَنَّهُ يُخْرِجُنَا مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِي احْتَجْنَا إلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَكْلِ، وَالْعِرَاقِيَّ عَلَى الْكَيْلِ، فَرَجَّحْنَا هَذِهِ عَلَى تِلْكَ، فَإِنَّا وَجَدْنَا الْكَيْلَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْوَزْنِ، وَوَجَدْنَا مَا حُرِّمَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَوْزُونَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّهَبَ لَا يَجُوزُ بِالْوَرِقِ نَسِيئَةً، وَيَجُوزُ الذَّهَبُ بِالْمَوْزُونَاتِ نَسِيئَةً، وَقَرَّرَ هَذَا الْكَلَامَ ثُمَّ قَالَ: دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ حَرَامٌ لِمَعْنًى فِيهِ، كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَأَنَّهَا أَصْلُ النَّقْدَيْنِ وَقِيَمُ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَمِنْهُمَا فَرْضُ الزَّكَوَاتِ، فَلَمْ يَحْرُمَا لِأَنَّ هَاهُنَا أَمْرًا يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُهُمَا وَهُوَ الْوَزْنُ، بَلْ لِمَا فِيهِمَا مِنْ مَنَافِعِ النَّاسِ الَّتِي يُعَدُّ لَهُمَا [فِيهَا شَيْءٌ] سِوَاهُمَا مِنْ التَّقَلُّبِ وَالنَّقْدِ الَّذِي إلَيْهِ تَرْجِعُ الْمُعَامَلَةُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ إنَّمَا حُرِّمَا لِأَنَّهُمَا الْأَقْوَاتُ وَالْمَعَاشُ وَالْغِذَاءُ وَالطَّعَامُ. ثُمَّ جُرِّدَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الْأَكْلُ كَانَ أَعَمَّ الْأُمُورِ. وَقَدْ ضُمَّ إلَيْهَا فِي قَوْلٍ لِأَصْحَابِنَا أَجْزَاءُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ " الْبُيُوعِ الْقَدِيمِ ": وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا رِبًا إلَّا فِي ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ وَمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي هَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَهَذَا جُمْلَةُ مَا أَرَدْنَا نَقْلَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ لِنُبَيِّنَ أَنَّ أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ بِأَجْمَعِهِمْ ذَهَبُوا إلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى إيمَاءٍ وَنَصٍّ وَمُنَاسَبَةٍ: (قَالَ) : وَالْفَرْضُ الْآنَ أَنْ نُبَيِّنَ نَقْلًا عَنْ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْقَوْلَ بِالْوَصْفِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ، وَتَسْمِيَتَهُمْ ذَلِكَ عِلَّةً. وَكَذَلِكَ تَعْلِيلُ النَّقْدَيْنِ بِالنَّقْدِيَّةِ الْقَاصِرَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى التَّشْبِيهِ، إذْ التَّشْبِيهُ إنَّمَا يَقُومُ مِنْ فَرْعٍ وَأَصْلٍ، وَلَا فَرْعَ لِهَذَا الْأَصْلِ.

المسلك العاشر تنقيح المناط

[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ] وَالتَّنْقِيحُ: هُوَ التَّهْذِيبُ وَالتَّمْيِيزُ، وَكَلَامٌ مُنَقَّحٌ، أَيْ: لَا حَشْوَ فِيهِ. وَالْمَنَاطُ: هُوَ الْعِلَّةُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَتَعْبِيرُهُمْ بِالْمَنَاطِ عَنْ الْعِلَّةِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا عُلِّقَ بِهَا كَانَ كَالشَّيْءِ الْمَحْسُوسِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَصَارَ ذَلِكَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُهُ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا وَلَكِنَّهَا تَخْتَلِطُ بِغَيْرِهَا مُحْتَاجَةً إلَى مَا يُمَيِّزُهَا لَقَّبُوهُ بِهَذَا اللَّقَبِ. وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ ظَاهِرٌ عَلَى التَّعْلِيلِ بِوَصْفٍ مَذْكُورٍ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ لِكَوْنِهِ طَرْدِيًّا أَوْ مُلْغًى، فَيُنَقَّحُ حَتَّى يُمَيَّزَ الْمُعْتَبَرَ، وَيَجْتَهِدُ فِي تَعْيِينِ السَّبَبِ الَّذِي أَنَاطَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِهِ وَأَضَافَهُ إلَيْهِ بِحَذْفِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ. وَحَاصِلُهُ: إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ بِإِلْغَاءِ الْفَرْقِ، بِأَنْ يُقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إلَّا كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُوجِبِ لَهُ، كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ، فَإِنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إلَّا الذُّكُورَةُ، وَهُوَ مُلْغًى بِالْإِجْمَاعِ، إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلِّيَّةِ. وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ (الِاسْتِدْلَالَ) وَأَجْرَوْهُ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ بِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا أُلْحِقَ فِيهِ بِذِكْرِ (الْجَامِعِ) الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ.

وَ (الِاسْتِدْلَال) مَا يَكُونُ الْإِلْحَاقُ فِيهِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ الَّذِي يُفِيدُ الْقَطْعَ، حَتَّى أَجْرَوْهُ مَجْرَى الْقَطْعِيَّاتِ فِي النَّسْخِ وَجَوَّزُوا الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ وَلَمْ يُجَوِّزُوا نَسْخَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ قِيَاسٌ خَاصٌّ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مُطْلَقِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا - وَهُوَ الْأَكْثَرُ - وَقَطْعِيًّا. لَكِنَّ حُصُولَ الْقَطْعِ فِيمَا فِيهِ الْإِلْحَاقُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَكْثَرُ مِنْ الَّذِي الْإِلْحَاقُ فِيهِ بِذِكْرِ الْجَامِعِ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ فَرْقًا فِي الْمَعْنَى بَلْ فِي الْوُقُوعِ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، وَلَا نَعْرِفُ بَيْنَ الْأُمَّةِ خِلَافًا فِي جَوَازِهِ. وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيّ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ ثَابِتٌ بَيْنَ مَنْ يُثْبِتُ الْقِيَاسَ وَيُنْكِرُهُ، لِرُجُوعِهِ إلَى الْقِيَاسِ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ، وَكَأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَأْوِيلِ الظَّوَاهِرِ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَقَالَ: إنَّ الْكَفَّارَةَ خَرَجَتْ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَالَ ابْنُ رَحَّالٍ: إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالتَّنْقِيحِ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ شَخْصٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُجَامِعِ، فَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَلَا يَكُونُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِّ الْأَشْخَاصِ بَلْ تَكُونُ التَّعْدِيَةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» . وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَعْلِيلًا فِي وَاقِعَةٍ فَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» وَالْفَرْقُ

أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَعَدَّى مِنْ وَاقِعَةٍ إلَى وَاقِعَةٍ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ، وَيَتَعَدَّى مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ. [تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ] أَمَّا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ عَلَى عِلِّيَّةِ وَصْفٍ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، فَيَجْتَهِدُ فِي وُجُودِهَا فِي صُورَةِ النِّزَاعِ، كَتَحْقِيقِ أَنَّ النَّبَّاشَ سَارِقٌ. وَكَأَنْ يَعْلَمَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَلَكِنْ لَا يُدْرِكُ جِهَتَهَا إلَّا بِنَوْعِ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ. سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمَنَاطَ، وَهُوَ الْوَصْفُ، عُلِمَ أَنَّهُ مَنَاطٌ وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي تَحْقِيقِ وُجُودِهِ فِي الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ. وَالْقِيَاسُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَكَيْفَ يَكُونُ قِيَاسًا؟ ، وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيُّ بِمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ. [تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ] وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ فَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَيَانِ عِلَّتِهِ أَصْلًا. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِخْرَاجِ، فَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَنَاطِ

بِحَالٍ، فَكَأَنَّهُ مَسْتُورٌ أُخْرِجَ بِالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ، كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الرِّبَا بِالطُّعْمِ، فَكَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ أَخْرَجَ الْعِلَّةَ، وَلِهَذَا سُمِّيَ تَخْرِيجًا. بِخِلَافِ (التَّنْقِيحِ) فَإِنَّهُ لَمْ يُسْتَخْرَجْ، لِكَوْنِهِ مَذْكُورًا فِي النَّصِّ، بَلْ نَقَّحَ الْمَنْصُوصَ وَأَخَذَ مِنْهُ مَا يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ وَتَرَكَ مَا لَا يَصْلُحُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا الِاجْتِهَادُ، الْقِيَاسُ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ. وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ: هُوَ الْأَغْلَبُ فِي مُنَاظَرَاتِهِمْ، لِأَنَّهُ بِهِ يَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ، وَتُوَجَّهُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَسْئِلَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيَانَ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ " تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ " وَإِثْبَاتُهُ فِي الْفَرْعِ " تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ ". أَيْ إذَا ظَنَنَّا أَوْ عَلِمْنَا الْعِلَّةَ ثُمَّ نَظَرْنَا وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ وَظَنَنَّا تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ فَهُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ. [أُمُورٌ تَتَّصِلُ بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ] وَهَاهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ لَيْسَ دَالًّا عَلَى الْعِلِّيَّةِ بِعَيْنِهِ، بَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى اشْتِرَاكِ الصُّورَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ، بِخِلَافِ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَعْيِينِ الْعِلَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى عِلِّيَّتِهَا. فَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ مِنْ طُرُقِ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا أَصْلًا، بَلْ هُوَ مِنْ طُرُقِ إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ. قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ". الثَّانِي: ذَكَرَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ لَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُؤَثِّرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَسْتَقِرُّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً، بَلْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ دَلِيلُ الْحَذْفِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُؤَثِّرِ. وَاخْتَارَهُ الشَّرِيفُ فِي جَدَلِهِ، لِأَنَّ دَلِيلَ الْحَذْفِ إنَّمَا أَفَادَنَا كَوْنَ الْحَذْفِ غَيْرَ مُرَادٍ، فَأَمَّا كَوْنُ الْبَاقِي مُرَادًا فَإِنَّمَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ الظَّاهِرِ فَكَانَ مُؤَثِّرًا إلَّا أَنَّهُ دُونَ الْمُؤَثِّرِ فِي الرُّتْبَةِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ هُوَ مَسْلَكُ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، فَلَا يَحْسُنُ عَدُّهُ نَوْعًا آخَرَ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَصْرَ فِي دَلَالَةِ السَّبْرِ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ إمَّا اسْتِقْلَالًا أَوْ اعْتِبَارًا. وَفِي نَفْيِ الْفَارِقِ لِتَعْيِينِ الْفَارِقِ وَإِبْطَالِهِ، لَا لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ، بَلْ هُوَ نَقِيضُ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُنَاكَ عَيَّنَ جَامِعًا بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، وَعَيَّنَ هُنَا الْفَارِقَ بَيْنَهُمَا تَنْبِيهٌ: عَدَّ صَاحِبُ " الْمُقْتَرَحِ " مِنْ الْمَسَالِكِ (نَفْيَ الْفَارِقِ) بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْفَرْعَ لَمْ يُفَارِقْ الْأَصْلَ إلَّا فِيمَا لَا يُؤَثِّرُ، فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْمُؤَثِّرِ، كَالسِّرَايَةِ فِي الْأَمَةِ، قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ. وَهُوَ عَجِيبٌ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ عِلَّةٌ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَلِهَذَا لَمْ يُعِدَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ مِنْ مَسَالِكِ التَّعْلِيلِ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ (السَّبْرِ) ، إلَّا أَنَّهُ فِي السَّبْرِ يَبْطُلُ الْجَمْعُ إلَّا وَاحِدًا. وَفِي نَفْيِ الْفَارِقِ يَبْطُلُ وَاحِدٌ فَتَتَعَيَّنُ الْعِلَّةُ بَيْنَ الْبَاقِي، وَالْبَاقِي مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ، فَيَلْزَمُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْعِلَّةِ ثُمَّ عَلَى أَصْلِهِ. وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَفْصِيلٍ: فَإِنْ كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهُ قَطْعِيَّةً فَهُوَ صَحِيحٌ، أَوْ ظَنِّيَّةً لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْقَطْعَ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي الْفَرْعِ لَمْ يَحْصُلْ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُ وَعَدَّ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ طُرُقِ الْعِلَّةِ أَنْ لَا يَجِدَ الدَّلِيلَ عَلَى عَدَمِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الْقَائِسِ إذَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِمَّا قَدَّمْنَاهُ إلَّا أَنْ يَعْرِضَ الْعِلَّةَ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا عَلَى مُبْطِلَاتِ التَّعْلِيلِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَادِحًا، وَعَرَضَهَا عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا مَا يُنَافِي عِلَّتَهُ، فَيَحْكُمُ بِسَلَامَةِ الْعِلَّةِ حِينَئِذٍ. وَأَطْنَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي تَغْلِيطِهِ، وَقَالَ: هَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ

لَهُ، وَقُصَارَاهُ الِاكْتِفَاءُ بِدَعْوَى مُجَرَّدَةٍ، وَالِاكْتِفَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِهَا، فَلِمَ يُنْكِرُ عَلَى الْقَائِلِ أَنَّهَا تَفْسُدُ بِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا. فَإِنْ قَالَ: عَدَمُ دَلَالَةِ الْفَسَادِ دَلَالَةُ صِحَّتِهَا، قِيلَ: عَدَمُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا دَلَالَةٌ عَلَى فَسَادِهَا. فَتَقَابَلَ الْقَوْلَانِ وَتَجَدَّدَ دَعْوَى الْخَصْمِ. وَقَدْ عَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْ طُرُقِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْوَصْفُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ عِلِّيَّتِهِ لَا يَأْتِي مَعَهُ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِيُمْكِنَ الْإِتْيَانُ مَعَهُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ دَوْرٌ، لِأَنَّ تَأَتِّي الْقِيَاسِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الْعِلَّةِ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْعِلَّةَ بِهِ لَتَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ عَلَيْهِ وَلَزِمَ الدَّوْرُ.

الاعتراضات

[الِاعْتِرَاضَاتُ] ُ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يُورِدُهُ الْمُعْتَرِضُ عَلَى كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ يُسَمَّى (اعْتِرَاضًا) لِأَنَّهُ اعْتَرَضَ لِكَلَامِهِ وَمَنَعَهُ مِنْ الْجَرَيَانِ. قَالَ صَاحِبُ " خُلَاصَةِ الْمَآخِذِ ": الِاعْتِرَاضُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى لَازِمُهُ، [هَدْمُ] قَاعِدَةِ الْمُسْتَدِلِّ، وَهُوَ جَامِعٌ مَانِعٌ. ثُمَّ حَصَرَهُ فِي عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ: وَقَالَ: مَا عَدَاهُ دَاخِلٌ فِيهِ: فَسَادُ الْوَضْعِ، فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، عَدَمُ التَّأْثِيرِ، الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ، النَّقْضُ، الْقَلْبُ، الْمَنْعُ، التَّقْسِيمُ، الْمُطَالَبَةُ، الْمُعَارَضَةُ. قَالَ: وَالْكُلُّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ إلَّا الْمَنْعَ وَالْمُطَالَبَةَ، مَعَ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا شَاذًّا، وَخَالَفَ فِي الْمَنْعِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْعَنْبَرِيُّ، عَلَى حَسَبِ مَا سَمِعْته مِنْ الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَحْمَدَ الْخَطَّابِيِّ. انْتَهَى. وَتَنْقَسِمُ فِي الْأَصْلِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُطَالَبَاتٌ، وَقَوَادِحُ، وَمُعَارَضَةٌ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ تَسْلِيمَ مُقَدَّمَاتِ الدَّلِيلِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ: الْمُعَارَضَةُ، وَالثَّانِي: إمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ ذَلِكَ الدَّلِيلَ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ الْمُطَالَبَةُ، وَالثَّانِي الْقَادِحُ. وَقَدْ أَطْنَبَ الْجَدَلِيُّونَ فِيهَا، لِاعْتِمَادِهِمْ إيَّاهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْهَاهَا إلَى الثَّلَاثِينَ، وَغَالِبُهَا يَتَدَاخَلُ. وَأَعْرَضَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ذِكْرِهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَزَعَمَ أَنَّهَا كَالْعِلَاوَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَوْضِعَ ذِكْرِهَا عِلْمُ الْجَدَلِ. وَذَكَرَهَا جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ لِأَنَّهَا مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمُكَمِّلُ الشَّيْءِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلِهَذِهِ الشُّبْهَةِ أَكْثَرَ قَوْمٌ مِنْ ذِكْرِ الْمَنْطِقِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْكَلَامِيَّةِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَوَادِّهِ وَمُكَمِّلَاتِهِ.

الأول من الاعتراضات النقض

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ وُرُودِهَا عَلَى الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَرِدُ عَلَى كُلِّ قِيَاسٍ، لِأَنَّ مِنْ الْأَقْيِسَةِ مَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، كَالْقِيَاسِ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، لَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ إلَّا مِنْ ظَاهِرِيٍّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْقِيَاسَ، وَاللَّفْظُ الْبَيِّنُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الِاسْتِفْسَارُ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَسْئِلَةِ عَلَى الْبَدَلِ عَنْ بَعْضِ الْأَقْيِسَةِ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْوَارِدَةَ عَلَى الْقِيَاسِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الطُّرُقِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ التَّصْرِيفِ: إنَّ حُرُوفَ الزِّيَادَةِ هِيَ سَأَلْتُمُونِيهَا، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحُرُوفَ الزَّائِدَةَ عَلَى أُصُولِ مَوَادِّ الْكَلِمَةِ لَا تَزِيدُ عَلَى هَذِهِ، لَا أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ حَيْثُ وَقَعَتْ كَانَتْ زَائِدَةً، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا وَقَعَ أُصُولًا، فَاعْرِفْهُ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ انْقِسَامِهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، ذَكَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ: تَرْجِعُ إلَى اثْنَيْنِ: الْمَنْعِ، وَالْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ تَمَّ الدَّلِيلُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُعْتَرِضِ مَجَالٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِرُجُوعِهَا إلَى الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ مِنْ جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضَاتِ، فَيُؤَدِّي إلَى انْقِسَامِ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ، وَإِلَى أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ نَفْسِهِ ضَرُورَةَ لُزُومِ انْدِرَاجِ الْمُعَارَضَةِ تَحْتَ الْمُعَارَضَةِ. قُلْنَا: إذَا كَانَ الْمُنْقَسِمُ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ هُوَ مُطْلَقُ الْمُعَارَضَةِ وَمُطْلَقُ الْمَنْعِ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ. [الْأَوَّلُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ النَّقْضُ] الْأَوَّلُ النَّقْضُ وَقَدَّمْنَاهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ آخِرِ الْأَسْئِلَةِ لِكَثْرَةِ جَرَيَانِهِ فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَبِالْجَوَابِ عَنْهُ يَبِينُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ وَيَنْدَفِعُ تَعَارُضُهَا وَهُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَوْ فِي صُورَةٍ. فَإِنْ كَانَ فِي الْمُنَاظَرَةِ اُشْتُرِطَ فِي صِحَّتِهِ

اعْتِرَافُ الْمُسْتَدِلِّ بِذَلِكَ. وَتَسْمِيَتُهُ نَقْضًا صَحِيحٌ عِنْدَ مَنْ رَآهُ قَادِحًا. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَهُ قَدْحًا فَلَا يُسَمِّيهِ نَقْضًا بَلْ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَقَدْ بَالَغَ أَبُو زَيْدٍ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُسَمِّيه نَقْضًا، كَقَوْلِنَا فِيمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ النِّيَّةَ: صَوْمٌ تَعَرَّى أَوَّلُهُ عَنْ النِّيَّةِ فَلَا يَصِحُّ، فَيُقَالُ: فَيَنْتَقِضُ بِصَوْمِ التَّطَوُّعِ. وَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا مَنْصُوصَةٌ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا أَوْ مُسْتَنْبَطَةٌ وَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا إمَّا لِمَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ دُونَهُمَا. فَصَارَتْ الصُّوَرُ تِسْعًا، مِنْ ضَرْبِ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا: طَرَفَانِ، وَالْبَاقِي أَوْسَاطٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ لِمَانِعٍ أَوْ لَا لِمَانِعٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ كَمَا حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَنَسَبُوهُ إلَى الشَّافِعِيِّ، وَرَجَّحُوا أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ عِلَلَهُ سَلِيمَةٌ عَنْ الِانْتِقَاضِ جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهَا، وَأَنَّ النَّقْضَ يُشْبِهُ تَجْرِيحَ الْبَيِّنَةِ الْمُعَدَّلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِيَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ. وَالثَّانِي: لَا يَقْدَحُ مُطْلَقًا فِي كَوْنِهَا عِلَّةً فِيمَا وَرَاءَ مَحَلِّ النَّقْضِ، وَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مَانِعٍ أَوْ تَخَلُّفُ شَرْطٍ. وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: حَكَاهُ الْقَاضِي وَالشَّافِعِيَّةُ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا أَقَرَّ بِهِ وَلَا نَصَرَهُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَحَالِّهَا وَمَوَارِدِهَا كَالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَوْضُوعَاتِهَا، فَكَمَا جَازَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَإِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ فَكَذَلِكَ فِي الْعِلَّةِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِّ بِأَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَعْلُولِ، إذْ هُوَ مَعْنَاهَا، فَإِذَا انْتَفَى الِاسْتِلْزَامُ فَقَدْ انْتَفَى لَازِمُ الْعِلَّةِ فَتَنْتَفِي الْعِلِّيَّةُ. وَهَذَا مُفَارِقٌ الْعَامَّ، لِأَنَّ الْعَامَّ إمَّا أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ إلَى الدَّلَالَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَتِلْكَ لَا تَنْتَفِي بِالتَّخْصِيصِ، وَإِمَّا أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ إلَى الْإِرَادَةِ لِلْبَاقِي. وَالثَّالِثُ: لَا يَقْدَحَ فِي الْمَنْصُوصَةِ، وَيَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْمُعْظَمِ فَقَالَ: ذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّ النَّقْضَ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ. ثُمَّ قَالَ: مَسْأَلَةُ: عِلَّةِ الشَّارِعِ هَلْ يَرِدُ عَلَيْهَا مَا يُخَالِفُ طَرْدَهَا؟ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ فِي التَّخْصِيصِ بِخِلَافِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، فَإِنَّ مُسْتَنَدَهُ ظَنِّيٌّ. وَإِذَا تَبَاعَدَ مَا اسْتَنْبَطَهُ عَنْ الْجَرَيَانِ ضَعُفَتْ مَسَالِكُ ظَنِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": زَعَمَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ إذَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ لَمْ يَقْدَحْ التَّخْصِيصُ فِي عِلِّيَّتِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَنْصُوصَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً بِالصَّرِيحِ أَوْ بِالْإِيمَاءِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ " التَّنْقِيحِ " وَحَكَى بَعْضُ الْمُنَاظِرِينَ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ وَيَقْدَحُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. وَالرَّابِعُ: يُبْطِلُ الْمَنْصُوصَةَ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ، عَكْسُ مَا قَبْلَهُ. حَكَاهُ ابْنُ رَحَّالٍ فِي " شَرْحِ الْمُقْتَرَحِ ". وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى الْمَنْصُوصَةِ بِغَيْرِ قَطْعِيٍّ. وَالْخَامِسُ: لَا يَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ إذَا كَانَ لِمَانِعٍ أَوْ شَرْطٍ، وَيَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَدْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ وَقَالُوا: لَعَلَّهُ فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيَّ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ يَنْدَفِعُ مِنْ كَلَامِهِ وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ رَحَّالٍ أَيْضًا فِي " شَرْحِ الْمُقْتَرَحِ ".

وَالسَّادِسُ: لَا يَقْدَحُ حَيْثُ وُجِدَ مَانِعٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ قَدَحَ. وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْهِنْدِيُّ. وَفَقْدُ الشَّرْطِ مُلْحَقٌ بِالْمَانِعِ. وَالسَّابِعُ: يَجُوزُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ فِي صُورَتَيْنِ وَلَا يَقْدَحُ فِيهِمَا، وَهُمَا مَا إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ لِمَانِعٍ أَوْ انْتِفَاءِ شَرْطٍ، وَلَا يَجُوزُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَقْدَحُ فِيهَا، وَهِيَ مَا إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ دُونَهُمَا. وَأَمَّا الْمَنْصُوصَةُ فَإِنْ كَانَ النَّصُّ ظَنِّيًّا وَقُدِّرَ مَانِعٌ أَوْ فَوَاتُ شَرْطٍ جَازَ. وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا لَمْ يَجُزْ، أَيْ لَمْ يُمْكِنْ وُقُوعُهُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَوْ تَخَلَّفَ لَتَخَلَّفَ الدَّلِيلُ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا، لِاسْتِحَالَةِ تَعَارُضِ الْقَطْعِيَّيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لَا ظَنِّيًّا، لِأَنَّ الظَّنِّيَّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ تَفْصِيلِ الْآمِدِيَّ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ إلَّا بِظَاهِرٍ عَامٍّ، وَلَا فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ إلَّا لِمَانِعٍ أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ، وَالْمَنْعُ ظَاهِرٌ فِي النَّصِّ الْقَطْعِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ وَلَا فَوَاتُ شَرْطٍ، فَإِنْ كَانَ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَانِعُ أَوْ الشَّرْطُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلنَّصِّ الْقَطْعِيِّ إلَّا أَنْ يُقَدِّرُوا أَنَّ دَلَالَةَ النَّصِّ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ التَّخَلُّفُ. وَالثَّامِنُ: حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عِلَّةِ الْحِلِّ وَالْوُجُوبِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَكُونُ حَظْرًا (قَالَ) : وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ عَنْ قَبِيحٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى قَبِيحٍ، وَيَصِحُّ الْإِقْدَامُ عَلَى عِبَادَةٍ مَعَ تَرْكِ أُخْرَى. وَالتَّاسِعُ: إنْ انْتَقَضَتْ عَلَى أَصْلٍ مَنْ نَصَبَ عِلِّيَّتَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَا الْحُكْمُ، وَإِنْ اطَّرَدَتْ عَلَى أَصْلِ مَنْ أَوْرَدَهَا أُلْزِمَ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ (قَالَ) : وَهُوَ حَشْوٌ مِنْ الْكَلَامِ لَوْلَا أَنَّهُ أَوْدَعَ كِتَابًا مُسْتَعْمَلًا لَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى.

وَالْعَاشِرُ: أَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُسْتَدِلَّ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَنْقُوضِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا وَيَنْقُضُهُ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ انْتِقَاضُهُ عَلَى أَصْلِهِ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ دَلِيلِهِ فِي نَفْسِهِ. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. وَالْحَادِيَ عَشَرَ: إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُؤَثِّرَةً لَمْ يَرِدْ النَّقْضُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ. وَمِثْلُهُ لَا يُنْقَضُ، وَإِنَّمَا تَجِيءُ الْمُنَاقَضَةُ عَلَى الطَّرْدِ. حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ النَّقْضَ يُثِيرُ فَقْدَ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ. وَالثَّانِي عَشَرَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنْ اتَّجَهَ فَرْقٌ بَيْنَ مَحَلِّ التَّعْلِيلِ وَبَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ بَطَلَتْ عِلِّيَّتُهُ، لِكَوْنِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ وَلَيْسَتْ عِلَّةً تَامَّةً. وَإِنْ لَمْ يَتَّجِهْ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ ثَابِتًا بِمَسْلَكٍ قَاطِعٍ سَمْعِيٍّ بَطَلَتْ عِلِّيَّتُهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ مُنَاقَضٌ بِهَا وَتَارِكٌ لِلْوَفَاءِ بِحُكْمِ الْعِلَّةِ. وَإِنْ طَرَدَ مَسْأَلَةً إجْمَاعِيَّةً لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَحَلِّ الْعِلَّةِ فَهُوَ مَوْضِعُ التَّوَقُّفِ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيهَا عَلَى مُنَاقَضَةِ عِلِّيَّةِ الْعِلَلِ تَعَلُّلًا بِعِلَّةٍ مَعْنَوِيَّةٍ جَارِيَةٍ فَوُرُودُهَا يَنْقُضُ الْعِلَّةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَنَعَتْ الْعِلَّةَ مِنْ الْجَرَيَانِ وَعَارَضَهَا تَقْصِيرٌ، وَهِيَ آكِدٌ فِي الْإِبْطَالِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْمُعَارَضَةِ لَا تَعْرِضُ لِعِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ وَهَذِهِ مُتَعَرِّضَةٌ لَهَا. هَذَا رَأْيُهُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّقْضَ قَادِحٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَقْدَحْ فَرْقٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ فِي الصُّورَةِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِقَطْعِيٍّ، أَوْ كَانَ ثَابِتًا بِإِجْمَاعٍ وَفِي مَحَلِّ النَّقْضِ يَعْنِي تَعَارُضَ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ وَمَنَعَهَا مِنْ الْجَرَيَانِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالتَّوَقُّفُ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ فِي " مُخْتَصَرِ الْبُرْهَانِ ": الصَّوَابُ فِي هَذَا أَنْ يَنْظُرَ: فَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ الْمُعَارِضَةُ لِعِلَّةِ الْمُعَلِّلِ فِي الصُّورَةِ الْمُنَاقِضَةِ أَقْوَى فِي الْمُنَاسَبَةِ لَمْ تَبْطُلْ عِلَّتُهُ، لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ لِعَارِضٍ رَاجِحٌ. وَإِنْ كَانَتْ أَدْنَى بَطَلَتْ، وَإِنْ تَسَاوَتَا فَالْوَقْفُ (انْتَهَى) .

وَأَمَّا الْمَنْصُوصَةُ فَإِنْ كَانَتْ بِنَصٍّ ظَاهِرٍ فَيَظْهَرُ بِمَا أَوْرَدَهُ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُرِدْ التَّعْلِيلَ بِأَنْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ، فَتَخْصِيصُ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ بِنَصٍّ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ فَإِنْ عَمَّ بِصِيغَةٍ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا تَخْصِيصٌ فَلَا مَطْمَعَ فِي تَخْصِيصِهَا، لِقِيَامِ الْقَطْعِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ وَجَرَيَانِهَا عَلَى اطِّرَادٍ، وَنَصُّ الشَّارِعِ لَا يُصَادِمُ، وَإِنْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى شَيْءٍ وَعَلَى تَخْصِيصِهِ فِي كَوْنِهِ عِلَّةً لِمَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ إلْكِيَا: مَيْلُ الْإِمَامِ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَتَّجِهُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مَعْنًى أَمْكَنَ تَقْدِيرُ مُشَابَهَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ إيَّاهَا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا يُعَدُّ نَقْضًا، فَإِنَّ مَنْشَأَ النَّقْضِ عِنْدَهُ أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ نَازِعًا إلَى أَصْلَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ مُتَأَيِّدَةً بِالْمَعْنَى فَلَا شَهَادَةَ بِصُورَةِ النَّقْضِ مِنْ حَيْثُ لَا مُشَابَهَةَ فَاعْتِبَارُ وَجْهِ الشَّهَادَةِ أَوْلَى. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا حَسَنٌ بَيِّنٌ، فَلَوْ كَانَ يَتَّجِهُ مَعَهُ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ نَقْضًا. وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّقْضَ لَا يُبْطِلُ أَصْلَ الدَّلَالَةِ وَلَكِنْ يَقْدَحُ فِي ثُبُوتِهَا فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ انْعِدَامُهُ. قَالَ إلْكِيَا: وَاَلَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ مَا لَا يُبَيَّنُ بِهِ مُعَيَّنٌ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ وَجْهُ تَشْبِيهٍ فَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ظُهُورِ اسْتِثْنَاءٍ فِي مَقْصُودِ الشَّرْعِ. هَذَا فِي الْعِلَلِ الْمُخَيَّلَةِ، أَمَّا الْأَشْبَاهُ فَسَتَأْتِي مَرَاتِبُهَا. ثُمَّ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ شَهَادَةَ الْعِلَّةِ إنْ تَرَجَّحَتْ قَطْعًا عَلَى شَهَادَةِ صُورَةِ النَّقْضِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ فَلَا نَقْضَ بِهِ. فَعَلَى هَذَا النَّقْضُ لَيْسَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ، وَفِيهَا مَزِيدُ قُوَّةٍ لِمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّالِثَ عَشَرَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ فَقَالَ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ لَهُ ثَلَاثُ صُوَرٍ: إحْدَاهَا: أَنْ يَعْرِضَ فِي جَرَيَانِ الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ اطِّرَادِهَا، وَهُوَ

يَنْقَسِمُ إلَى: مَا يَظْهَرُ أَنَّهُ وَرَدَ مُسْتَثْنًى عَنْ الْقِيَاسِ مَعَ اسْتِيفَاءِ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ، فَلَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ بَلْ يُخَصِّصُهَا بِمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَيَكُونُ عِلَّةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَلَى عِلَّةٍ مَقْطُوعَةٍ، كَإِيجَابِ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ فِي الْمُصَرَّاةِ وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، أَوْ مَظْنُونَةٍ، كَالْعَرَايَا، فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بِالطُّعْمِ إذْ فُهِمَ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ لِرُخْصَةِ الْحَاجَةِ وَلَمْ يَرِدْ وُرُودَ النَّسْخِ لِلرِّبَا. وَدَلِيلُ كَوْنِهِ يُسْتَثْنَى أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى كُلِّ عِلَّةٍ، كَالْكَيْلِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً قَدَحَ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بَعْدَ النَّقْضِ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا فِيهِ بَعْضُ الْعِلَّةِ وَجُزْؤُهَا، فَإِنْ قَيَّدَهُ فِي الْعِلَّةِ تَمَّتْ، كَقَوْلِنَا: خَارِجٌ فَتَنْتَقِضُ الطَّهَارَةُ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: (الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ) ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ عَنْ الْحِجَامَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْعِلَّةَ بِتَمَامِهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ وَأَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا هِيَ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَكَانَ مُطْلَقُ الْخُرُوجِ بَعْضَ الْعِلَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُ التَّعْلِيلِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ فَتَكُونُ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ عِلَّةٌ فِي حَقِّهِمْ خَاصَّةً لِأَنَّهُ يُعَدُّ تَهَافُتًا فِي الْكَلَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ بِذَلِكَ لَيْسَ هُوَ التَّخْرِيبُ الْمَذْكُورُ، بَلْ هُوَ لَازِمُهُ أَوْ جُزْؤُهُ الْأَعَمُّ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَذَابًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِخَرَابِ الْبَيْتِ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً فَإِنْ انْقَدَحَ جَوَابٌ عَنْ مَحَلِّ النَّقْضِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ تَمَامَ الْعِلَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَنْقَدِحْ جَوَابٌ مُنَاسِبٌ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ

النَّقْضُ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ وَأَنْ يَكُونَ مُعَرِّفًا لِتَخْصِيصِهَا، فَهَذَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بَيْنَهُمْ فِي الْجَدَلِ لِلْمُنَاظِرِ. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الْمُنَاظِرُ فَيُحْتَمَلُ إلْحَاقُهُ بِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ فَسَادِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتَقِدَ اسْتِنَادَهُ رُخْصَةً. الثَّانِيَةُ: أَنْ تَنْتَفِيَ الْعِلَّةُ، لَا لِخَلَلٍ فِي نَفْسِهَا، لَكِنْ يَنْدَفِعُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى، فَهَذَا لَا يَرِدُ نَقْضًا لِأَنَّ الْحُكْمَ حَاصِلٌ فِيهِ تَقْدِيرًا. كَقَوْلِنَا: إنَّ عِلَّةَ رِقِّ الْوَلَدِ مِلْكُ الْأُمِّ ثُمَّ وَجَدْنَا الْمَغْرُورَ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ يَنْعَقِدُ وَلَدُهُ حُرًّا، فَقَدْ وُجِدَ رِقُّ الْأُمِّ وَانْتَفَى رِقُّ الْوَلَدِ. لَكِنْ عَارَضَتْهُ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ وُجُوبُ الْغُرْمِ عَلَى الْمَغْرُورِ، وَلَوْلَا أَنَّ الرِّقَّ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ الْمُنْدَفِعِ لَمْ تَجِبْ قِيمَةُ الْوَلَدِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمِيلَ النَّقْضُ عَنْ صَوْبِ جَرَيَانِ الْعِلَّةِ وَيَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ لَا لِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ لَكِنْ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحَلَّهَا وَشَرْطَهَا وَأَهْلَهَا. كَقَوْلِنَا: السَّرِقَةُ عِلَّةُ الْقَطْعِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي حَقِّ النَّبَّاشِ، فَيَنْتَقِضُ بِسَرِقَةِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ، أَوْ دُونَ النِّصَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ. فَهَذَا لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ، لِأَنَّ نَظَرَهُ فِي تَحْقِيقِ الْعِلَّةِ دُونَ شَرْطِهَا وَمَحَلِّهَا، فَهُوَ مَائِلٌ عَنْ صَوْبِ نَظَرِهِ. أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ أَمْ يُقْبَلُ مِنْهُ الْعُذْرُ بِأَنَّ هَذَا مُنْحَرِفٌ عَنْ مَقْصِدِ النَّظَرِ، وَلَيْسَ الْبَحْثُ عَنْ الْمَحَلِّ وَالشَّرْطِ. وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْجَدَلِيُّونَ، وَالْخَطْبُ فِيهِ سَهْلٌ، وَتَكْلِيفُ الِاحْتِرَازِ جَمْعٌ لِنَشْرِ الْكَلَامِ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ. وَقَسَّمَ ابْنُ الْقَطَّانِ النَّقْضَ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُنْتَقَضَةً عَلَى أَصْلِ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا، لِأَنَّهُمَا قَدْ اتَّفَقَا عَلَى إبْطَالِهَا. ثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً عَلَى أَصْلِهِمَا جَمِيعًا، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَسْئُولَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا، إلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْإِبْطَالِ. كَقَوْلِ الْعِرَاقِيِّ

يَسْأَلُ الشَّافِعِيُّ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ فِي الصَّلَاةِ سَاهِيًا فَقَالَ: لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي حَجِّهِ نَاسِيًا. لِأَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى بُطْلَانِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ بَطَلَ. فَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أَصْلِيَ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِيَ أَنَّ مَنْ وَطِئَ فِي صَوْمِهِ وَأَكَلَ نَاسِيًا لَمْ يَبْطُلْ. وَلَوْ وَطِئَ عَامِدًا يَبْطُلْ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ غَيْرَ هَذِهِ الْعِلَّةِ. فَإِنْ قَالَ السَّائِلُ: إنِّي أَلْزَمْتُك هَذَا لِتَقُولَ بِهِ فِي كُلِّ فُرُوعِك، فَلِلْمَسْئُولِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُنِي - لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ السَّائِلِ أَنْ يُسَلِّمَ لِلْمَسْئُولِ أُصُولَهُ كُلَّهَا مَا خَلَا الْمَسْأَلَةَ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ جَارِيَةً عَلَى أَصْلِ الْمَسْئُولِ مُنْتَقَضَةً عَلَى أَصْلِ السَّائِلِ، كَالْعِرَاقِيِّ يَسْأَلُ الشَّافِعِيَّ عَنْ الْحَائِضِ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا هَلْ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: لِمَ قُلْت بِالْجَوَازِ؟ وَيَكُونُ دَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنْ يَجُوزَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبَهَا، وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ جَوَازَ الصَّوْمِ لَهَا، وَكُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ جَازَ لَهُ الْقُرْبَانُ. فَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى أَصْلِي فَهِيَ بَاطِلَةٌ عَلَى أَصْلِك فَلَا يَجُوزُ لَك إلْزَامُهَا. وَذَلِكَ أَنَّ دَمَهَا لَوْ انْقَطَعَ دُونَ الْعَشْرِ عِنْدَك لَجَازَ لَهَا أَنْ تَصُومَ وَلَمْ يَجُزْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْمَسْئُولِ أَنْ يَنْقُضَ عِلَّةَ السَّائِلِ بِأَصْلِ نَفْسِهِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَ الْجُرْجَانِيُّ مِنْهُمْ يَسْتَعْمِلُهُ. وَذَكَرَهُ فِي تَصْنِيفِهِ الْمُسَمَّى بِ " التَّهْذِيبِ ". قَالَ الْقَاضِي: وَسَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْأَشْعَرِيَّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَهُ وَجْهٌ فِي الِاحْتِمَالِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: مَهْرُ الْمِثْلِ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، لِأَنَّهُ يَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَهُ أَصْلُهُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، فَيَقُولُ الْمَسْئُولُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: هَذَا يَنْتَقِضُ عَلَى أَصْلِيَ بِالْمُسَمَّى بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ بِالْوَطْءِ وَلَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَهُ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ جَمِيعُهُ كَمَا يَسْقُطُ جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ. أَوْ يَقُولُ الْمُخَالِفُ: لَا يَجِبُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا السُّكْنَى، لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، قِيَاسًا عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ الْحَائِلِ، فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَيَجِبُ السُّكْنَى.

تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: كَمَا يَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَكَذَلِكَ يَجْرِي فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَنَّهُ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا مَعْلُولُهَا، فَأَجَازَهُ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنَعَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ. حَكَاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. لَكِنَّ الْأُسْتَاذَ حَكَى إجْمَاعَ الْجَدَلِيِّينَ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ لَا يُخَصَّصُ، وَعَلَى أَنَّ تَخْصِيصَهُ نَقْضٌ لَهُ، وَعَلَى أَنَّ نَقْضَهُ يَمْنَعُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: الْعِلَلُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِلَا خِلَافٍ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ فُرُوعِ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا تَخْصِيصَهَا لَمْ يَتَّجِهْ الْقَدْحُ بِالنَّقْضِ، وَإِلَّا اتَّجَهَ. الثَّالِثُ: ادَّعَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ لَا مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيِّ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ. وَأَنَّهُ يُلْتَفَتُ إلَى تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ بِمَاذَا؟ إنْ فُسِّرَتْ بِالْمُوجِبَةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ عِلِّيَّتُهَا مَعَ الِانْتِقَاضِ، أَوْ الْمُعَرِّفَةِ فَتُصُوِّرَتْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْخِلَافُ بِلَفْظِيٍّ. وَلَهُ فَوَائِدُ: (إحْدَاهَا) جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ أَمْ لَا (الثَّانِيَةُ) أَنَّ مَنْ مَنَعَ التَّخْصِيصَ لَا يُجَوِّزُ أَصْلًا تَطَرُّقُهُ إلَى نَصِّ الشَّارِعِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِهِ. وَإِنْ أُومِئَ إلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إيمَاءً إلَى التَّعْلِيلِ لِوُرُودِ التَّخْصِيصِ. وَالْمُجَوِّزُ لِلتَّخْصِيصِ يَقُولُ: يَبْقَى ذَلِكَ عِلَّةً فِي مَحَلِّهِ. ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ". (الثَّالِثَةُ) : انْقِطَاعُ الْمُسْتَدِلِّ، إنْ قُلْنَا: يُقْدَحُ، وَعَدَمُ انْقِطَاعِهِ إنْ مَنَعْنَاهُ. الرَّابِعُ: هَلْ يُسْمَعُ مِنْ الْجَدَلِيِّ قَوْلُنَا: أَرَدْت بِالْعُمُومِ الْخُصُوصَ أَوْ لَا؟ فَالْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ يَسْمَعُونَهُ، وَالْمَانِعُونَ لَا يَسْمَعُونَهُ. وَقَدْ نَقَلَ

إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " تَدْرِيسِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ " عَلَّقَهُ عَنْهُ بَعْضُ تَلَامِذَتِهِ، أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ: إطْلَاقُ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَعْضُ سَائِغٌ. وَأَمَّا الْمُعَلِّلُ بِلَفْظٍ عَامٍّ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إذَا نُقِضَ عَلَيْهِ كَلَامُهُ وَقَالَ: إنَّمَا أَرَدْت كَذَا، إذْ لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمَا تُصُوِّرَ إبْطَالُ عِلَّةٍ أَصْلًا. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إنَّمَا يُخَاطِبُ لِيُفْهِمَ صَاحِبَهُ وَيَفْهَمَ عَنْهُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ وَيُؤَخِّرَ الْبَيَانَ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَيُخَاطِبَ بِمُحْتَمَلٍ، وَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يُعَلِّلَ الْعِلَّةَ مُجْمَلَةً وَيُفَسِّرَهَا. (قَالَ) : وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ (قَالَ) : وَمُجَوِّزُهُ لَا يُمَيِّزُ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ الْأُسْتَاذِ قَدْ يَسْتَشْكِلُ بِمَا حَكَاهُ فِي " الْبُرْهَانِ " عَنْ الْأُسْتَاذِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي عِلَّةِ الشَّارِعِ: يَجِبُ اطِّرَادُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهَا مَا يُخَالِفُ طَرْدَهَا. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ وُرُودَهَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مَحَلَّ النَّقْضِ وَأَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَهَا عِلَّةً فِيمَا وَرَاءَهُ، وَذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ قَوْلُهُ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ: إنَّمَا أَرَدْت أَنَّهَا عِلَّةٌ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْمُخْرَجِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ لِأَنَّهُ كَالدَّعْوَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ ": قَوْلُهُمْ: إنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ مَرْدُودٌ، لِأَنَّهُ إذَا فَسَّرْنَا الْعِلَّةَ بِالدَّاعِي أَوْ بِالْمُوجِبِ لَمْ نَجْعَلْ الْعَدَمَ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ، بَلْ كَاشِفًا عَنْ حُدُوثِ الْعِلَّةِ، وَمَنْ يُجَوِّزُ التَّخْصِيصَ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ. وَإِنْ فَسَّرْنَا بِالْأَمَارَةِ ظَهَرَ الْخِلَافُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْعِلَّةَ بِالْمُنَاسَبَةِ بَحَثَ عَنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ الْعَدَمِيِّ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مُنَاسَبَةً صَحَّحَ الْعِلَّةَ وَإِلَّا أَبْطَلَهَا. وَمَنْ يُجَوِّزُ التَّخْصِيصَ لَا يَطْلُبُ الْمُنَاسَبَةَ أَلْبَتَّةَ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ. وَمَا ذَكَرُوا مِنْ تَكَرُّرِ وُجُودِ الْغَيْمِ وَلَا مَطَرَ مَعَ أَنَّ كَوْنَهَا أَمَارَةً لَمْ يَزُلْ، قَدْ رَدَّهُ

ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: الْأَمَارَةُ وَإِنْ لَمْ تَزُلْ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَضْعُفَ، وَلَا بُدَّ فِي الْأَمَارَةِ مِنْ تَوَفُّرِ الْقُوَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ يُثِيرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَلَا بُدَّ مِنْ بُلُوغِهِ نِهَايَةَ الْقُوَّةِ، وَأَنْ لَا يُتَوَهَّمَ قُوَّةٌ مِنْ الظَّنِّ وَرَاءَ قُوَّتِهِ حَتَّى يُعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الِاطِّرَادِ حَتَّى لَا تَتَخَلَّفَ هَذِهِ الْأَمَارَةُ فِي مَوْضِعٍ مَا، فَإِذَا تَخَلَّفَتْ لَمْ تَتَوَفَّرْ الْقُوَّةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (قَالَ) : وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ اعْتَمَدْتُهُ، وَهُوَ مَحَلُّ الِاعْتِمَادِ. الْخَامِسُ: إذَا ذَكَرَ عِلَّةً فَنُقِضَ عَلَيْهِ بِمَا خَصَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَلْ يَلْزَمُ ذَلِكَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ فِي حُكْمِ الْمَنْسُوخِ فَلَا تُنْقَضُ الْعِلَّةُ بِهِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّ نَقْضَ الْعِلَّةِ بِحُكْمٍ فِي الشَّرْعِ، فَأَشْبَهَ النَّقْضَ بِمَا لَا يُخَصُّ بِهِ.

فَصْلٌ إذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ التَّخَلُّفَ لَا يَقْدَحُ فِي الْعِلِّيَّةِ فَوَاضِحٌ، وَطَرِيقُهُ فِي الدَّفْعِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ صُورَةَ النَّقْضِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالنَّصِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ يُظْهِرُ الْمُعَلِّلُ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، كَمَا لَوْ قَالَ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمُثْقَلِ قِيَاسًا عَلَى الْمُحَدَّدِ، فَإِنْ نُقِضَ بِقَتْلِ الْوَالِدِ فَإِنَّ الْوَصْفَ فِيهِ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ، قُلْنَا: تَخَلَّفَ لِمَانِعٍ، وَهُوَ أَنَّ الْوَالِدَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْوَلَدِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِانْعِدَامِهِ. وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّهُ يَقْدَحُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَنْعِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ: أَحَدُهَا: - مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ بِتَمَامِهَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ، لَا عِنَادًا، بَلْ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ قَيْدٍ مُنَاسِبٍ أَوْ مُؤَثِّرٍ فِي الْعِلَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، كَقَوْلِنَا: طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَشَرْطٌ فِيهَا النِّيَّةُ، كَالتَّيَمُّمِ. فَإِنْ نُقِضَ بِالطَّهَارَةِ عَنْ النَّجَاسَةِ، قُلْنَا: لَيْسَ الْحَدَثُ كَالنَّجَاسَةِ. وَقَوْلُنَا فِيمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ لَيْلًا: تَعَرَّى أَوَّلَ صَوْمِهِ عَنْ النِّيَّةِ فَلَا يَصِحُّ. فَإِنْ نُقِضَ بِالتَّطَوُّعِ قُلْنَا: الْعِلَّةُ عَدَا أَوَّلُ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ لَا مُطْلَقُ الصَّوْمِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: سَأَلْت بَعْضَ شُيُوخِ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَرْجِعُ إلَى شَطْرِهَا لِعُذْرٍ فَكَانَ التَّرْتِيبُ مِنْ شَرْطِهَا. أَصْلُهُ الصَّلَاةُ. فَيَنْقُضُهُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: إنَّمَا عَلَّلْتُ لِإِلْحَاقِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالْآخَرِ، وَهُوَ نَوْعُ طَهَارَةِ الْحَدَثِ بِنَوْعِ الصَّلَاةِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي طَهَارَةٍ فِيهَا تَرْتِيبٌ وَاجِبٌ. فَأَمَّا تَعْيِينُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ فَلَمْ أَقْصِدْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَا ذَكَرْت مِنْ الْعِلَّةِ مَنْقُوضٌ بِكَذَا فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ، وَيُطَالِبَهُ بِالدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِهَا فِي مَحَلِّ النَّقْضِ. وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ مَمْنُوعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ ظَاهِرًا أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ كَقَوْلِهِمْ: طَهَارَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ،

فَإِنَّ تَحَقُّقَ الطَّهَارَةِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَعْلُومٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ التَّخَلُّفِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَقَوْلِهِ: الطُّعْمُ عِلَّةُ الرِّبَا، فَيَقُولُ: هُوَ مَنْقُوضٌ بِالطِّينِ أَوْ الْمَاءِ، فَيَمْنَعُ الْمُعَلِّلُ وُجُودَ الطُّعْمِ فِي الْمَاءِ فَهَلْ لِلْمُعْتَرِضِ الِاسْتِدْلَال عَلَى وُجُودِهَا؟ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ مَسْأَلَةٍ قَبْلَ تَمَامِهَا إلَى أُخْرَى، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ دَعْوَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ إلَى دَعْوَى وُجُودِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ فِيهِ قَلْبَ الْقَاعِدَةِ، إذْ يَصِيرُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا وَالْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِضًا. وَقِيلَ: يُمْكِنُ مِنْهُ تَحْقِيقًا لِلنَّقْضِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: إنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْمُعْتَرِضِ فِي هَدْمِ كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ وَجَبَ قَبُولُهُ مِنْهُ، تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ الْمُنَاظَرَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقَدَحُ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَلَا يُمَكَّنُ الْمُعْتَرِضُ مَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا. كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ فِي سِوَاهُ. وَتَبِعَهُ الشَّارِحُونَ، وَهُوَ عَجَبٌ، فَلَمْ يَذْكُرْ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَرَوِيِّ تِلْمِيذُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى فِي كِتَابِهِ " الْمُقْتَرَحِ " غَيْرَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الشَّرْعِيِّ وَغَيْرِهِ بِنَشْرِ الْكَلَامِ فِيهِ جِدًّا بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ قَرِيبٌ. وَجَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ بِالْمَنْعِ ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ إذَا أَرَادَ كَشْفَهُ عَنْ أَصْلِ الْعِلَلِ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ لِلْمُعَلِّلِ مَنْعَهُ. وَ [أَوْرَدَ] الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِانْتِقَالٍ (قَالَ) : وَيَعُودُ مَنَاطُ الْخِلَافِ إلَى أَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الدَّلِيلِ أَمْ لَا؟ وَيُلْزَمُ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ إثْبَاتَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ بِالدَّلِيلِ أَنْ لَا يَسْمَعَ مِنْ الْمُعَلِّلِ إثْبَاتَ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ بِالدَّلِيلِ، فَإِنْ قَالَ: أَقُولُهُ وَلَا أَسْمَعُ مِثْلَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْجَدَلِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا لَا يُسْمَعُ اقْتِرَاحًا لَا يَقُولُهُ اسْتِدْلَالًا، فَلَوْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَا ذَكَرْت مِنْ

الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ دَالٌّ بِعَيْنِهِ عَلَى وُجُودِهَا فِي مَحَلِّ النَّقْضِ فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ نَقْضٍ لِلْعِلَّةِ إلَى نَقْضِ دَلِيلِهَا فَلَا يُسْمَعُ، وَبِهِ جَزَمَ الْآمِدِيُّ. وَقِيلَ: يُسْمَعُ، لِأَنَّ نَقْضَ دَلِيلِ الْعِلَّةِ نَقْضُ الْعِلَّةِ نَعَمْ لَوْ قَالَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً وَقَالَ يَلْزَمُك إمَّا نَقْضُ الْعِلَّةِ أَوْ نَقْضُ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ كَانَ مَسْمُوعًا يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَيْدِ الدَّافِعِ لِلنَّقْضِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا، بَلْ غَيْرُ الْمُنَاسِبِ مَقْبُولٌ مَسْمُوعٌ اتِّفَاقًا، وَالْمَانِعُونَ مِنْ التَّعْلِيلِ بِالشَّبَهِ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": هَلْ يَجُوزُ دَفْعُ النَّقْضِ بِقَيْدٍ طَرْدِيٍّ؟ أَمَّا الطَّارِدُونَ فَقَدْ جَوَّزُوهُ، وَأَمَّا مُنْكِرُو الطَّرْدِ فَمِنْهُمْ مِنْ جَوَّزَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ أَحَدَ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعُ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرًا، وَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " ثُمَّ اخْتَارَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ الطَّرْدِيُّ يُشِيرُ إلَى مَسْأَلَةٍ تُفَارِقُ مَسْأَلَةَ النِّزَاعِ بِفِقْهٍ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَلَا يُفِيدُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ (قَالَ) : وَلَوْ فُرِضَ التَّقْيِيدُ بِاسْمٍ غَيْرِ مُشْعِرٍ بِفِقْهٍ وَلَكِنَّ مُبَايَنَةَ الْمُسَمَّى بِهِ لِمَا عَدَاهُ مَشْهُورٌ بَيْنَ النُّظَّارِ، فَهَلْ يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِمِثْلِهِ تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ الْجَدَلِيُّونَ، وَالْأَقْرَبُ تَصْحِيحُهُ لِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ. [الطَّرِيقُ] الثَّانِي: مَنْعُ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ وَيَدَّعِي ثُبُوتَهُ فِيهَا. وَهُوَ إمَّا تَحْقِيقِيٌّ مِثْلُ: السَّلَمِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْجِيلُ، كَالْبَيْعِ، فَإِنْ نُقِضَ بِالْإِجَارَةِ قُلْنَا: الْأَجَلُ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا جَاءَ فِيهَا لِتَقْرِيرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْعَيْنِ. أَوْ

تَقْدِيرِيٌّ، وَهُوَ دَافِعٌ لِلنَّقْضِ عَلَى الْأَظْهَرِ، تَنْزِيلًا لِلْمُقَدَّرِ مَنْزِلَةَ الْمُحَقَّقِ، كَقَوْلِنَا: رِقُّ الْأُمِّ عِلَّةٌ لِرِقِّ الْوَلَدِ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَلَدُ رَقِيقًا. فَإِنْ نُقِضَ بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ حَيْثُ كَانَ رِقُّ الْأُمِّ مَوْجُودًا مَعَ انْعِقَادِ الْوَلَدِ حُرًّا، قُلْنَا: رِقُّ الْأُمِّ مَوْجُودٌ، وَتَقْدِيرُ وُجُودِهِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ رَقِيقًا ثُمَّ يَعْتِقُ عَلَى الْمَغْرُورِ، إذْ لَا قِيمَةَ لِلْحُرِّ. قَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": وَالتَّحْقِيقِيُّ دَافِعٌ لِلنَّقْضِ إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْتَدِلِّ وَخَصْمِهِ، أَوْ كَانَ مَذْهَبًا لِلْمُسْتَدِلِّ فَقَطْ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَفِ بِطَرْدِ عِلَّتِهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا لِخَصْمِهِ فَقَطْ لَمْ يَتَوَجَّهْ لِأَنَّ خِلَافَهُ كَخِلَافِهِ فِي الصُّورَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا. وَلَوْ مُنِعَ الْمُسْتَدِلُّ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فَفِي تَمْكِينِ الْمُعْتَرِضِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي مَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ. وَهُنَا فَرْعٌ حَسَنٌ: لَوْ نَقَضَ الْمُعْتَرِضُ فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ الْمُنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ إمَامٍ: لَا أَعْرِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصًّا، وَلَا يَلْزَمُنِي النَّقْضُ، فَهَلْ يُدْفَعُ بِذَلِكَ النَّقْضِ؟ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " الْمُلَخَّصِ فِي الْجَدَلِ ". وَمَثَّلَهُ بِاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ عَلَى الْقَارِنِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَ صَيْدًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ، لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْضَ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَزِمَهُ جَزَاءَانِ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَقَتَلَ صَيْدًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَقَتَلَ صَيْدًا. فَقَالَ لَهُ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْعُمْرَةِ فَجَرَحَ صَيْدًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَجَرَحَهُ ثُمَّ مَاتَ، فَإِنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْضَ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ. فَيَقُولُ الْمُخَالِفُ: لَا أَعْرِفُ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا: إذَا جَوَّزْتَ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُكَ عَلَى مَا أَلْزَمْتُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يُحْتَجَّ بِهَذَا الْقِيَاسِ، قَالَ: وَعِنْدِي

أَنَّهُ يَلْزَمُهُ النَّقْضُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ احْتَمَلَ مَا قَالَهُ إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ فَيُعْمَلُ بِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ، كَالْعُمُومِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَصِّصِ. انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَهُ أَنْ يُلْزَمَ بِصُورَةِ النَّقْضِ عِنْدَ الشَّيْخِ، وَعِنْدَ الْقَاضِي لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مَذْهَبَ إمَامِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي مِنْهُ بِأَنْ يَقُولَ: لَا أَعْرِفُ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ جَوَابَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ النَّقْضِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ لِيَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مَا ظَنَّهُ الْمُعْتَرِضُ فَأَوْرَدَ نَقْضًا. الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ: عُضْوٌ سَقَطَ فِي التَّيَمُّمِ فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَى حَائِلٍ كَالْقَدَمِ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ فِيهَا مَعَ أَنَّهُ يَسْقُطُ فِي التَّيَمُّمِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: إنَّمَا تَعَذَّرَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وَقَدْ اتَّفَقَا فِي حُكْمِ الْجَنَابَةِ. قُلْت: وَيَنْبَغِي الْبُدَاءَةُ بِمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي تَرْتِيبِ الْأَجْوِبَةِ. وَيُزَادُ جَوَابٌ (خَامِسٌ) : وَهُوَ أَنْ نُسَلِّمَ وُرُودَ النَّقْضِ وَنَتَعَذَّرُ عَنْهُ بِإِبْدَاءِ أَمْرٍ فِي صُورَةِ النَّقْضِ يَصْلُحُ اسْتِنَادُ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ إلَيْهِ، لِيَبْقَى دَلِيلُ ثُبُوتِ الْعِلَّةِ سَلِيمًا عَنْ مُعَارِضٍ. مَسْأَلَةٌ إذَا أُلْزِمَ النَّقْضَ فَزَادَ فِي الْعِلَّةِ وَصْفًا، فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: نَعَمْ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.

وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ، وَعَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَالْبَاجِيُّ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ النَّقْضِ بِمَا شَاءَ. وَالثَّالِثُ: وَحَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي جَدَلِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا - إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مَعْهُودَةً بَيْنَ الْمُنَاظِرِينَ كَالْجِنْسِ الْمَضْمُومِ إلَى الْوَصْفِ الْآخَرِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمَعْرُوفَةِ قُبِلَ مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْهُودَةً فَلَا. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَعْهُودَةَ كَالْمَذْكُورَةِ، فَيُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا بِالْعَهْدِ فِيهَا. وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَالْبَاجِيُّ أَيْضًا ثُمَّ ضَعَّفَاهُ بِأَنَّهُ لَا عَهْدَ، وَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي التَّعْمِيمِ. وَقَالَ فِي " الْمَنْخُولِ " إذَا أَرَادَ الْمُعَلِّلُ وَصْفًا يَسْتَقِلُّ الْحُكْمُ بِدُونِهِ وَلَكِنَّهُ رَامَ بِهِ دَرْءَ النَّقْضِ فَقَدْ يُطْرَحُ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ كَوْنَهُ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ. مَسْأَلَةٌ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ النَّقْضِ لَا يُقْبَلُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذَا يَقُولُهُ الْمُتَفَقِّهَةُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ هُوَ مَقْبُولٌ، وَإِنَّمَا شَرْطُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِفَرْقٍ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، كَقَوْلِهِ فِي الْإِجَارَةِ: لَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ مَعَ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ فَرْقٌ بَيْنَ مَسْأَلَةِ النَّقْضِ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَهُوَ صَحِيحٌ. فَأَمَّا إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ بَانَ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، بَلْ بِعِلَّةٍ أُخْرَى. مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ ابْتِدَاءً

التَّعَرُّضُ لِنَفْيِ الْمَانِعِ، بِأَنْ يَذْكُرَ قَيْدًا يُخْرِجُ بِهِ مَحَلَّ النَّقْضِ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا، لِئَلَّا تُنْقَضَ الْعِلَّةُ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ فِي " النِّهَايَةِ " عَنْ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ: إنَّهُ الْحَقُّ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَعَارِضِ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ سَبَبًا، وَهُوَ مَا يَرِدُ عَلَى كُلِّ عِلَّةٍ، كَالْعَرَايَا، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَإِلَّا كَالتَّطَوُّعِ فِي مَسْأَلَةِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ لَزِمَهُ، إذْ لَا يَبْقَى إلَّا الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ فِي خُرُوجِهِ عَنْ الْقَاعِدَةِ. وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " شِفَاءِ الْعَلِيلِ " وَلَمْ يَقِفْ ابْنُ دَقِيقٍ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فَقَالَ: لَوْ قِيلَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجْهٌ. الرَّابِعُ: إنْ كَانَ مُنَاظِرًا وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ نَاظِرًا مُجْتَهِدًا فَكَذَلِكَ، إلَّا فِيمَا اشْتَهَرَ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ فَصَارَ كَالْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ فِي " شِفَاءِ الْعَلِيلِ ": أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَثْنِ وَجَبَ عَلَى النَّاظِرِ. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَهَلْ يَنْقَطِعُ ظَنُّهُ عَنْ الْعِلَّةِ الَّتِي ظَنَّهَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى الظَّنُّ مَعَ وُرُودِ النَّقْضِ؟ تَرَدَّدَ الْقَاضِي فِي هَذَا، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِبُطْلَانِ الْعِلَّةِ بِمِثْلِ هَذَا النَّقْضِ، هَلْ هُوَ مَعْلُومٌ أَوْ مَظْنُونٌ؟ قَالَ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي: إنْ قَدَحَ الِاعْتِذَارُ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّقْضِ بِفَرْقٍ فِقْهِيٍّ، فَلَا شَكَّ فِي انْقِطَاعِ الظَّنِّ، وَإِنْ لَمْ يَقْدَحْ عُذْرٌ فَفِي انْقِطَاعِ الظَّنِّ نَظَرٌ. تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْهُ ذِكْرُهُ إمَّا فِي أَوَّلِ الدَّلِيلِ، أَوْ بَعْدَ تَوَجُّهِ النَّقْضِ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا. هَذَا اصْطِلَاحُ مُتَأَخِّرِي الْجَدَلِيِّينَ. وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْهُمْ فَاعْتَبَرُوهُ أَوَّلَ الدَّلِيلِ، وَقَالُوا: إنْ أُخِذَ الْقَيْدُ لِلنَّقْضِ فِي الدَّلِيلِ أَوَّلًا قُبِلَ

مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ أَوَّلًا وَأَوْرَدَهُ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ قَيْدًا لَمْ يُقْبَلْ، وَيُعَدُّ مُنْقَطِعًا، وَعَلَيْهِ جَرَى فِي " الْمُسْتَصْفَى " وَبِهِ تَصِيرُ الْمَذَاهِبُ خَمْسَةً، وَصَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " حَكَى الْخِلَافَ فِي الِاحْتِرَازِ عَنْهُ فِي الدَّلِيلِ قَوْلَيْنِ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا، ثُمَّ حَكَاهُ أَيْضًا فِي الْوَارِدِ اسْتِثْنَاءً فَقَالَ: وَهَلْ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي اللَّفْظِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْأَوْلَى الِاحْتِرَازُ. انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمُقْتَرَحِ ": يَضُرُّهُ الِاحْتِرَازُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ اعْتِرَافًا مِنْهُ بِأَنَّ النَّقْضَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَعَرَّضَ لِمَا يَلْزَمُ، وَنَبَّهَ الْمُعْتَرِضَ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِ. فَرْعٌ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ بُطْلَانَ الْعِلَّةِ بِالنَّقْضِ مِنْ الْقَطْعِيَّاتِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدِي، بَلْ هِيَ مِنْ الْمُجْتَهَدَاتِ. وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ. وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَعْضَهُ قَطْعِيًّا وَبَعْضَهُ ظَنِّيًّا بِنَاءً عَلَى تَفْصِيلِهِ السَّابِقِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَتَبِعَهُ فِي " الْمَحْصُولِ ": اعْلَمْ أَنَّ نَقْضَ الْعِلَّةِ أَنْ يُوجَدَ فِي مَوْضِعٍ دُونَ حُكْمِهَا، وَحُكْمُهَا ضَرْبَانِ: مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ، وَالْمُجْمَلُ ضَرْبَانِ: إثْبَاتٌ وَنَفْيٌ، فَالْإِثْبَاتُ الْمُجْمَلُ لَا يَنْتَقِضُ بِنَفْيِ مُفَصَّلٍ، وَالنَّفْيُ الْمُجْمَلُ يَنْتَقِضُ بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ.

الثاني من الاعتراضات الكسر

مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنَّ تَعْلِيلَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِأَنَّهُمَا حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ مَحْقُونَا الدَّمِ فَيَتَقَاصَّانِ كَالْمُسْلِمِينَ، فَيُنْتَقَضُ بِمَا إذَا قَتَلَهُ خَطَأً، وَذَلِكَ أَنَّ نَفْيَ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فِي قَتْلِ الْخَطَأِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِدْقِ الْقَوْلِ أَنَّ بَيْنَهُمَا قِصَاصًا. وَإِذَا صَدَقَ الْفَرْقُ بِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ لَمْ يَرْتَفِعْ، فَلَمْ يَنْتَفِ حُكْمُ الْعِلَّةِ. وَمِثَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهُمَا مُكَلَّفَانِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ، فَإِذَا نُقِضَ بِالْمُسْلِمِينَ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ انْتَقَضَتْ الْعِلَّةُ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُفِيدُ مَعَهُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الْمُفَصَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا، فَالْإِثْبَاتُ يَنْتَقِضُ بِالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ، مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ: مُوجِبَانِ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا جَمِيعًا قِصَاصٌ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، وَذَلِكَ يَنْتَقِضُ بِالْحُرِّ، لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ لَمْ يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْقِصَاصِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَزُولُ ثُبُوتُهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. وَأَمَّا النَّفْيُ الْمُفَصَّلُ فَلَا يَنْتَقِضُ بِالْإِثْبَاتِ الْمُجْمَلِ، كَمَا نَقُولُ: فَلَمْ يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِثُبُوتِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْتِفَائِهِ عَنْهُمَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. [الثَّانِي مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْكَسْرُ] الثَّانِي الْكَسْرُ وَهُوَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ عِبَارَةٌ عَنْ إسْقَاطِ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْ الِاعْتِبَارِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ فِي حَدِّ الْعِلَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِعِلَّةٍ عَلَى حُكْمٍ يُوجَدُ مَعْنَى تِلْكَ الْعِلَّةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَا يُوجَدُ مَعَهَا ذَلِكَ الْحُكْمُ.

مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَهُ وَلَدٌ، فَيَهَبُ لِوَلَدِهِ شَيْئًا وَيَقُولُ: وَهَبْتُ لَهُ لِأَنَّهُ وَلَدِي، فَيُقَالُ لَهُ: فَيَنْكَسِرُ عَلَيْك بِوَلَدِ وَلَدِك، لِأَنَّ مَعْنَى الْوَلَدِ مَوْجُودٌ فِيهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِهِ صَحِيحٌ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُعِيَ إلَى دَارٍ فَأَجَابَ، وَدُعِيَ إلَى دَارٍ أُخْرَى فَلَمْ يُجِبْ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّ فِي دَارِ فُلَانٍ كَلْبًا فَقِيلَ: وَفِي هَذِهِ الدَّارِ سِنَّوْرٌ، فَقَالَ: السِّنَّوْرُ سَبُعٌ» . وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْهِرَّةَ تَكْسِرُ الْمَعْنَى، وَهُوَ الِاحْتِيَاجُ إلَيْهِ فِي الْبَيْتِ كَالْكَلْبِ، فَأَقَرَّهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى اعْتِرَاضِهِمْ وَأَجَابَ بِالْفَرْقِ وَهُوَ أَنَّ الْهِرَّةَ سُبُعٌ، أَيْ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسٌ. وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُبَدِّلَ ذَلِكَ الْوَصْفَ الْخَاصَّ بِوَصْفٍ عَامٍّ ثُمَّ يَنْقُضَهُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِنَا فِي إثْبَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ: صَلَاةٌ يَجِبُ قَضَاؤُهَا فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا كَصَلَاةِ الْأَمْنِ. فَيَعْتَرِضُ أَنَّ كَوْنَهَا صَلَاةً لَا أَثَرَ لَهَا، لِأَنَّ الْحَجَّ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْوَصْفُ الْعَامُّ وَهُوَ كَوْنُهُ عِبَادَةً، فَيَنْكَسِرُ بِصَوْمِ الْحَائِضِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ، بَلْ يُعْرِضُ عَنْ ذَلِكَ الَّذِي أَسْقَطَهُ بِالْكُلِّيَّةِ،

وَيَذْكُرُ صُورَةَ النَّقْضِ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ فِي الْمِثَالِ قَوْلَنَا: فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ يَجِبُ قَضَاؤُهُ بِدَلِيلِ الْحَائِضِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا الْقِسْمُ أَكْثَرُ وُقُوعِهِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالنَّقْضِ، كَقَوْلِنَا فِي بَيْعِ الْغَائِبِ مَثَلًا: بَيْعٌ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ عَبْدًا. فَيَقُولُ عَلَى الصُّورَةِ الْأُولَى: خُصُوصُ كَوْنِهِ بَيْعًا لَا أَثَرَ لَهُ، لِأَنَّ الْمَرْهُونَ كَذَلِكَ، فَبَقِيَ كَوْنُهُ عَقْدًا الَّذِي هُوَ وَصْفٌ يَعُمُّهُمَا، وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِالنِّكَاحِ. وَعَلَى الثَّانِيَةِ: لَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ بَيْعًا بِدَلِيلِ الْمَرْهُونِ، فَسَقَطَ هَذَا الْجُزْءُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَجْهُولَةُ الصِّفَةِ. . . آخِرُهُ. وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِالنِّكَاحِ. وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فَعَرَّفَا الْكَسْرَ بِوُجُودِ الْحِكْمَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهُ، فَالنَّقْضُ حِينَئِذٍ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ، وَالْكَسْرُ تَخَلُّفُهُ عَنْ حِكْمَتِهَا، فَهُوَ نَقْضٌ عَلَى مَعْنَى الْعِلَّةِ دُونَ لَفْظِهَا، أَيْ الْحِكْمَةِ دُونَ الْمَظِنَّةِ، بِخِلَافِ النَّقْضِ. كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي الْعَاصِي بِسَفَرِهِ: مُسَافِرٌ فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَخَّصَ، كَالطَّائِعِ فِي سَفَرِهِ. وَيَتَبَيَّنُ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ السَّفَرِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ فَيُقَالُ: مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ الْحِكْمَةِ، وَهِيَ الْمَشَقَّةُ، مُنْتَقِضَةٌ بِمَشَقَّةِ الْحَمَّالِينَ وَأَرْبَابِ الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ فِي الْحَضَرِ، وَلَا رُخْصَةَ لَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَا بَعْدَ ذَلِكَ النَّقْضَ الْمَكْسُورَ وَهُوَ النَّقْضُ عَلَى بَعْضِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ. ثُمَّ قَالُوا: وَاخْتَلَفُوا فِي إبْطَالِهِمَا لِلْعِلِّيَّةِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إنَّهُ الْمُخْتَارُ. وَأَمَّا صَاحِبُ " الْمِنْهَاجِ " فَذَكَرَ الْكَسْرَ فَقَطْ وَعَرَّفَهُ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ أَحَدَيْ الْمُرَكَّبِ الَّذِي ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ عِلِّيَّتَهُ وَنَقَضَ الْآخَرُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي " الْمَحْصُولِ "، وَعَدُّوهُ مِنْ قَوَادِحِ الْعِلِّيَّةِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْخَصْمُ إلْغَاءَ الْقَيْدِ، وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِالْكَسْرِ إلَّا إذَا بُيِّنَ، أَمَّا إذَا لَمْ يُبَيَّنْ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَرْدُودٌ، وَأَمَّا إذَا بُيِّنَ مَوْضِعُ النِّزَاعِ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ قَادِحٌ. وَقَوْلُ الْآمِدِيَّ: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى

أَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ مَرْدُودٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّلْخِيصِ ": اعْلَمْ أَنَّ الْكَسْرَ سُؤَالٌ مَلِيحٌ، وَالِاشْتِغَالَ بِهِ يَنْتَهِي إلَى بَيَانِ الْفِقْهِ وَتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ. وَقَدْ اتَّفَقَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِفْسَادِ الْعِلَّةِ بِهِ، وَيُسَمُّونَهُ: النَّقْضَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَالْإِلْزَامَ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ. وَأَنْكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ. قُلْت: وَابْنُ الصَّبَّاغِ - وَقَالُوا: لَا يُبْطِلُ الْعِلِّيَّةَ: لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ إلَّا بِأَنْ يُغَيِّرَ الْعِلَّةَ أَوْ يُبَدِّلَ لَفْظَهَا بِغَيْرِهِ، أَوْ يُسْقِطَ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهَا. وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، لِجَوَازِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا غَيَّرَهُ السَّائِلُ وَبَدَّلَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْعِلَّةَ شَرْعِيَّةٌ، وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَعْنًى عَلَى صِفَةِ عِلَّةٍ فِي حُكْمٍ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْكَسْرَ نَقْضٌ، وَلَا يُجْعَلُ عِلَّةً عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى، فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. قَالَ الشَّيْخُ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْكَسْرَ نَقْضٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّقْضِ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا أَوْجَدَهُ مِنْ الْمَعْنَى مِثْلُ الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّلَ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُوجِدُ دَلَّ عَلَى عَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي سُؤَالِ الْكَسْرِ مِنْ حَذْفِ وَصْفٍ مِنْ الْأَصْلِ، أَوْ إبْدَالِهِ بِغَيْرِهِ. كَمَا فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْغَائِبِ، فَإِنَّهُ حَذْفُ خُصُوصِ كَوْنِهِ بَيْعًا وَإِبْدَالُهُ فِي النِّكَاحِ، وَالنَّظَرُ فِي خُصُوصِ الْأَوْصَافِ وَحَذْفُ مَا حُذِفَ مِنْهَا وَإِبْدَالُهُ مَوْضِعُهُ الْفِقْهُ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ حَذْفُهُ. وَإِذَا كَانَ الْحَذْفُ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فَالْمَجْمُوعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ. وَإِذَا حَذَفَ وَصْفًا اعْتَقَدَهُ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ لَمْ يَرِدْ النَّقْضُ إلَّا عَلَى الْبَاقِي. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: الْكَسْرُ سُؤَالٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ. وَقَالَ

الْخُرَاسَانِيُّونَ: بَاطِلٌ وَقَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": قَالَ الْجَدَلِيُّونَ: الْكَسْرُ يُفَارِقُ النَّقْضَ فَإِنَّهُ يَرِدُ عَلَى إخَالَةٍ لَا عَلَى عِبَارَتِهِ، وَالنَّقْضُ يَرِدُ عَلَى الْعِبَارَةِ (قَالَ) : وَعِنْدَنَا لَا مَعْنَى لِلْكَسْرِ، فَإِنَّ كُلَّ عِبَارَةٍ لَا إخَالَةَ فِيهَا فَهِيَ طَرْدٌ مَحْذُوفٌ، وَالْوَارِدُ عَلَى الْإِخَالَةِ نَقْضٌ. وَلَوْ أَوْرَدَ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مَعَ كَوْنِهِمَا مُخَيَّلَيْنِ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا يُقْبَلُ. نَعَمْ، تَرَدَّدَ الْقَاضِي فِي أَنَّ الْمُعَلِّلَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ عَنْ الْقِيَاسِ بِطَرْدٍ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَقْضٍ، وَلَوْ فَعَلَهُ اسْتَبَانَ بِهِ فَكَانَ أَحْسَنَ. وَمَذْهَبُنَا أَنَّ الْعِلَّةَ مُنْتَقِضَةٌ بِهِ، فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِرَازِ بِالطَّرْدِ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي " الْمُهَذَّبِ " فِيمَا لَوْ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ كُلُّهَا وَالْفُرُوعُ زَكَّى بِحَوْلِ الْأُمَّهَاتِ. وَقَالَ الْأَنْمَاطِيُّ: يُشْتَرَطُ بَقَاءُ نِصَابٍ مِنْ الْأُمَّهَاتِ، فَلَوْ نَقَصَ عَنْ النِّصَابِ انْقَطَعَتْ التَّبَعِيَّةُ (قَالَ) : وَمَا قَالَهُ يَنْكَسِرُ عَلَيْهِ بِوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ، أَيْ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ، لِثُبُوتِهِ لِلْأُمِّ، ثُمَّ يَسْقُطُ حَقُّ الْأُمِّ بِمَوْتِهَا، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْوَلَدِ، بَلْ يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ كَمَا كَانَتْ الْأُمُّ تَعْتِقُ بِمَوْتِهِ. وَقَالَ الْأَصْحَابُ فِي بَابِ الْقِرَاضِ: إذَا مَاتَ الْمَالِكُ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ، فَلَوْ أَرَادَ الْوَارِثُ تَقْرِيرَ الْعَقْدِ وَالْبَاقِي نَاضٌّ جَازَ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ عُرُوضًا قَالَ

أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ الْقِرَاضُ فِي الْعُرُوضِ ابْتِدَاءً، وَهَذَا لَيْسَ بِابْتِدَاءٍ، بَلْ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْقِرَاضَ الْأَوَّلَ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، وَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ يَنْكَسِرُ بِمَا لَوْ دَفَعَ مَالًا قِرَاضًا يَعْمَلُ فِيهِ عَامِلٌ، وَحَصَّلَ الْمَالَ عُرُوضًا ثُمَّ تَفَاسَخَا الْقِرَاضَ ثُمَّ أَرَادَا أَنْ يَعْقِدَا الْقِرَاضَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مَا سَبَقَ. الثَّانِي: قِيلَ: الْخِلَافُ فِي سُؤَالِ الْكَسْرِ يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ، فَمَنْ جَوَّزَهُ قَبِلَ سُؤَالَ الْكَسْرِ، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ لَمْ يَسْمَعْ الْكَسْرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا قَالَ: وَصْفُ السَّرِقَةِ كَانَ مُنَاسِبًا لِمَعْنَى كَذَا وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّبْشِ، فَيَكُونُ سَبَبًا، فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي خَاصَّةٍ بَيْنَ النَّبْشِ وَالسَّرِقَةِ يُفَارِقُهَا غَيْرُهَا فِيهَا صَحَّ الْجَمِيعُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ خَاصَّةً فَقَالَ: يَبْطُلُ بِالزِّنَى وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي وُجِدَ فِي السَّرِقَةِ وُجِدَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ، وَلَمْ يَنْتَهِضْ سَبَبًا لِمِثْلِ حُكْمِ السَّرِقَةِ، فَيَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ أَنْ يَذْكُرَ بَيْنَ النَّبْشِ وَالسَّرِقَةِ خَاصَّةً تَجْمَعُهُمَا، فَكَأَنَّ صِحَّةَ الْكَسْرِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ، فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُصَحِّحَ الْكَسْرَ وَلَا طَرِيقَ لِتَصْحِيحِ الْكَسْرِ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَا، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَبْنِ صِحَّةَ الْكَسْرِ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ.

الثالث من الاعتراضات عدم العكس

فَصْلٌ جَوَابُ الْكَسْرِ نَحْوَ مَا سَبَقَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ فِي النَّقْضِ، لِأَنَّهُ نَقْضٌ فِي الْمَعْنَى. قِيلَ إلَّا أَنَّ مَنْعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ هُنَا أَظْهَرُ مِنْهُ فِي النَّقْضِ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ قَدْ تَتَفَاوَتُ، فَقَدْ لَا يَحْصُلُ مَا هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَمَنَعَ انْتِقَالَ الْحُكْمِ هَاهُنَا، فَانْدَفَعَ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمٌ هُوَ أَوْلَى بِالْحِكْمَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْكَسْرِ الْفَرْقُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ، وَلَا يَكْفِي رَدُّهُ بِأَنَّ فِي الْأَصْلِ مَا يُوَافِقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهِ فَلَا يَلْزَمُنِي، كَمَا فِي النَّقْضِ، وَلَا يَكْفِي الْفَرْقُ بَعْدَ لُزُومِ الْكَسْرِ بِمَا لَا يُدْفَعُ عَنْ الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْفَرْقُ مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّلَ بِهِ، كَمَا لَوْ فَرَّقَ بَعْدَ النَّقْضِ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ. [الثَّالِثُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ الْعَكْسِ] الثَّالِثُ - عَدَمُ الْعَكْسِ وَهُوَ وُجُودُ الْحُكْمِ بِدُونِ الْوَصْفِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى بِعِلَّةٍ أُخْرَى ، كَاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ عَلَى مَنْعِ تَقْدِيمِ أَذَانِ الصُّبْحِ بِقَوْلِهِ: صَلَاةٌ لَا تُقْصَرُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ أَذَانِهَا عَلَى وَقْتِهَا، كَالْمَغْرِبِ، فَنَقُولُ: هَذَا الْوَصْفُ لَا يَنْعَكِسُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ مَنْعُ تَقْدِيمِ الْأَذَانِ عَلَى الْوَقْتِ مَوْجُودٌ فِيمَا قَصُرَ مِنْ الصَّلَوَاتِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى. وَعَدُّ هَذَا مِنْ الْقَوَادِحِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ:

الرابع من الاعتراضات عدم التأثير

إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْعَكْسَ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْعِلَّةِ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ. وَالثَّانِيَةُ: امْتِنَاعُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ بِعِلَّتَيْنِ، لِأَنَّ النَّوْعَ بَاقٍ فِيهِ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ - لَمْ يَقْدَحْ، فَإِنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إذَا قُلْنَا: إنَّ اجْتِمَاعَ الْعِلَلِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ غَيْرُ وَاقِعٍ " أَيْ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُهُ " فَالْعَكْسُ لَازِمٌ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ بِتَوْقِيفٍ. لَكِنْ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ بَيَانُهُ. بِخِلَافِ مَا أَلْزَمْنَاهُ مِثْلَهُ فِي النَّقْضِ، لِأَنَّ ذَاكَ دَاعٍ إلَى الِانْتِشَارِ. وَسَبَبُهُ أَنَّ إشْعَارَ النَّفْيِ بِالنَّفْيِ مُنْحَطٌّ عَنْ إشْعَارِ الثُّبُوتِ بِالثُّبُوتِ، وَلِهَذَا لَوْ فَرَضْنَا عِلَلًا لَكَانَ إشْعَارُ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِنَفْيِ الْحُكْمِ كَإِشْعَارِ جُزْءِ الْعِلَّةِ بِالْحُكْمِ، لَا كَإِشْعَارِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِهِ، وَزَوَالُهَا لِزَوَالِ التَّرْجِيحِ. وَاَلَّذِي أَبْطَلَ الْعِلَّةَ إذَا امْتَنَعَ الطَّرْدُ بِتَوْقِيفٍ لَا يُبْطِلُهَا إذَا امْتَنَعَ الْعَكْسُ بِتَوْقِيفٍ، فَلْيَتَلَمَّحْ الطَّالِبُ تَفَاوُتَ الْمَرَاتِبِ، وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا يَرِدُ سُؤَالُ الْعَكْسِ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ الْمُنَاظِرَانِ عَلَى اتِّحَادِ الْعِلَّةِ. [الرَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ التَّأْثِيرِ] الرَّابِعُ - عَدَمُ التَّأْثِيرِ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَهُوَ مِنْ أَصَحِّ مَا يَعْتَرِضُ بِهِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَهُوَ عَدَمُ إفَادَةِ الْوَصْفِ أَثَرَهُ، بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُنَاسِبٍ، فَيَبْقَى الْحُكْمُ بِدُونِهِ. وَمِنْ

ثَمَّ اخْتَصَّ بِقِيَاسِ الْمَعْنَى، وَبِالْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. وَلَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِ عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا، وَلِهَذَا الْتَزَمُوا الطَّرْدَ وَالْعَكْسُ فِي بَابِ الرِّبَا، بِأَنَّ حُكْمَ الرِّبَا لَا يَثْبُتُ اتِّفَاقًا دُونَ عِلَّةِ الرِّبَا وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُبَاحَثَةٍ لَهُ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، كَمَا سَيَأْتِي قَالَ إلْكِيَا: وَعَلَى هَذَا فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ: إنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَمَنْ أَثْبَتَ عَلَامَةً عَلَى حُكْمٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْصِبَ ضِدَّهَا، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ وَثَبَتَ بِهَا فَذَلِكَ الْحُكْمُ الَّذِي صَارَ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ لَا يَبْقَى دُونَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ النَّتِيجَةَ لَا تَبْقَى دُونَ النَّاتِجِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا سُؤَالَ عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَلَسْت أَرَى لَهُ وَجْهًا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُعَلِّلُ التَّأْثِيرَ لِعِلَّتِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ مَا أُقِيمَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا بِالتَّأْثِيرِ. وَقَدْ ذَكَرَ مَشَايِخُ أَصْحَابِنَا فِي سُؤَالِ عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَتَصْحِيحِهِ كَلَامًا طَوِيلًا وَعَدُّوهُ سُؤَالًا قَوِيًّا، وَقَالُوا: إذَا أَوْرَدَ السَّائِلُ هَذَا السُّؤَالَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ الْمُعَلِّلُ، فَإِنْ وَجَدَ لَهُ تَأْثِيرًا فِي طَرْدِ الْعِلَّةِ وَالْمَأْخُوذِ عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، وَعَلَّلَ الشَّارِعُ شَرْطَهَا الِاطِّرَادَ دُونَ الِانْعِكَاسِ، بَلْ إذَا كَانَتْ مُطَّرِدَةً مُنْعَكِسَةً تَرَجَّحَ صِحَّةُ الْعِلَّةِ. وَقَدْ قَسَّمَ أَهْلُ النَّظَرِ عَدَمَ التَّأْثِيرِ إلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ طَرْدِيًّا، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ الْعَكْسِ السَّابِقِ، كَقَوْلِنَا: صَلَاةُ الصُّبْحِ لَا تُقْصَرُ فَلَا تُقَدَّمُ عَلَى وَقْتِهَا،

كَالْمَغْرِبِ. فَقَوْلُهُ: " لَا تُقْصَرُ " وَصْفٌ طَرْدِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَصْفِ التَّقْدِيمِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى طَلَبِ الْمُنَاسَبَةِ. وَقَدْ تَنَاظَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ فِي عِدَّةِ نِكَاحِ أُخْتِهَا الْبَائِنَةِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: النِّكَاحُ كَانَ مُحَرَّمًا وَقَدْ زَالَ النِّكَاحُ وَلَمْ يَبْقَ تَحْرِيمٌ، فَسَلَّمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الَّذِي بَقِيَ مِنْ الْعِلَّةِ غَيْرُ النِّكَاحِ وَلَمْ يَرَ الْعِدَّةَ عُلْقَةً مِنْ عَلَائِقِ النِّكَاحِ، لَكِنَّهُ قَالَ: يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ تَوَقُّعُ جَمْعِ الْمَاءِ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِذَا خَلَّاهَا وَطَلَّقَهَا وَشَرَعَتْ فِي الْعِدَّةِ فَهَلَّا جَازَ نِكَاحُ أُخْتِهَا، إذْ لَا جَمْعَ فِي الْمَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْعَكْسِ الْمَرْدُودِ، فَلَا يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ فِي غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ: مُعَلَّلَةٌ بِعِلَّةٍ أُخْرَى، إذْ التَّحْرِيمُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ أَوْ الْجَمْعِ، وَلَا ثَالِثَ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَهَا إلَّا صُورَةُ الْعِدَّةِ، وَلَا نَظَرَ إلَيْهَا. الثَّانِي: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ بِكَوْنِهِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ فِي الْأَصْلِ، لِوُجُودِ مَعْنًى آخَرَ مُسْتَقِلٍّ بِالْغَرَضِ. كَقَوْلِنَا فِي بَيْعِ الْغَائِبِ: مَبِيعٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ فَلَا يَصِحُّ، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ. فَنَقُولُ: لَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَرْئِيٍّ، فَإِنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ كَافٍ، لِأَنَّ بَيْعَ الطَّيْرِ لَا يَصِحُّ إنْ كَانَ مَرْئِيًّا. وَحَاصِلُهُ مُعَارَضَةٌ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُلْغِي مِنْ الْعِلَّةِ وَصْفًا ثُمَّ يُعَارِضُ الْمُسْتَدِلَّ بِمَا بَقِيَ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فَسَادُ الْعِلَّةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقِيلَ: بَلْ يَصِحُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَيْدَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، كَالشَّاهِدِ الثَّالِثِ بَعْدَ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ. وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَيْدَ لَيْسَ مَحَلَّهُ وَلَا وَصْفًا لَهُ فَذِكْرُهُ لَغْوٌ، بِخِلَافِ الشَّاهِدِ الثَّالِثِ، فَإِنَّهُ يَتَهَيَّأُ لَأَنْ يَصِيرَ عِنْدَ ذَلِكَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ رُكْنًا. (قَالَ) : وَأَمَّا الْوَصْفُ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ

إمَّا أَنْ يُذْكَرَ لِدَفْعِ نَقْضِ مَا لَوْلَاهُ لَوَرَدَ أَوَّلًا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِدَفْعِ النَّقْضِ فَهُوَ هَدَرٌ، وَإِلَّا فَالطَّارِدُونَ جَوَّزُوا ذِكْرَهُ لِدَفْعِ النَّقْضِ. وَغَيْرُهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إذَا كَانَ النَّقْضُ مِنْ مَسَائِلِ الِاسْتِثْنَاءِ فَذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ فِي الدَّلِيلِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَحَلِّ الِاسْتِثْنَاءِ لَا تَأْثِيرَ فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَجَعَلَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ " كَوْنَ عَدَمِ التَّأْثِيرِ مِنْ الْقَوَادِحِ مَبْنِيًّا عَلَى مَنْعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ بِعِلَّتَيْنِ. فَإِنْ جَوَّزْنَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لَمْ يَقْدَحْ. وَسَبَقَهُ إلَى الْبِنَاءِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: كُلُّ مَا فُرِضَ جَعْلُهُ وَصْفًا فِي الْعِلَّةِ مِنْ طَرْدِيٍّ إنْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِفًا بِهِ، فَقِيلَ: مَرْدُودٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَكُونُ غَيْرَ مَرْدُودٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ لِدَفْعِ النَّقْضِ الصَّحِيحِ إلَى النَّقْضِ الْمَكْسُورِ، وَهَذَا صَعْبٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ. الثَّالِثُ: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَمِيعًا، بِأَنْ تَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي الْحُكْمِ، إمَّا ضَرُورِيَّةٌ كَقَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ: عِبَادَةً مُتَعَلِّقَةً بِالْأَحْجَارِ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا مَعْصِيَةٌ فَاشْتَرَطَ فِيهَا الْعَدَدَ كَالْجِمَارِ. وَإِمَّا غَيْرَ ضَرُورِيَّةٍ. فَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الضَّرُورِيَّةَ لَمْ يَعْتَبِرْهَا مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى. وَإِلَّا فَتُرَدُّ. مِثَالُهُ قَوْلُنَا: الْجُمُعَةُ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ، كَالظُّهْرِ، فَإِنَّ قَوْلَنَا: " مَفْرُوضَةٌ " حَشْوٌ، إذْ لَوْ حُذِفَ لَمْ يُنْتَقَضْ بِشَيْءٍ، لَكِنْ ذُكِرَ لِتَقْرِيبِ الْفَرْعِ مِنْ الْأَصْلِ بِتَقْوِيَةِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، إذْ الْفَرْضُ بِالْفَرْضِ أَشْبَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ فَقَطْ قَادِحٌ كَانَ هَذَا قَادِحًا بِطَرِيقٍ أَوْلَى. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " الْمُلَخَّصِ ": هَذَا الْقِسْمُ أَصْعَبُ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْفَرْعِ، كَقَوْلِهِمْ، زَوَّجَتْ نَفْسَهَا فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، فَنَقُولُ: " غَيْرِ كُفْءٍ " لَا أَثَرَ لَهُ، فَإِنَّ النِّزَاعَ

فِي الْكُفْءِ وَنَحْوِهِ سَوَاءٌ. وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى الثَّانِي، وَيَرْجِعُ أَيْضًا إلَى الْمُنَاقَشَةِ فِي الْفَرْضِ وَهُوَ تَخْصِيصُ بَعْضِ صُوَرِ النِّزَاعِ بِالْحِجَاجِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ: الْجَوَازُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَالْمَنْعُ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنْ كَانَ مُبَيِّنًا لِمَحَلِّ السُّؤَالِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا إذَا سُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ضَمَانِ الضَّيْفِ الْمَغْرُورِ فَقَالَ: يَبْرَأُ، وَفُرِضَ فِي الْمُكْرَهِ. فَهَذَا لَا يَجُوزُ، إذْ بَرَاءَةُ الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ آلَةٌ، وَبَرَاءَةُ الضَّيْفِ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ، فَفِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عِلَّةٌ مُبَايِنَةٌ فَتَقَاطَعَتَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، بِأَنْ وَقَعَ فِي طَرِيقٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ سُؤَالُ السَّائِلِ جَازَ، كَمَا لَوْ سُئِلَ عَنْ عِتْقِ الرَّاهِنِ فَأَبْطَلَهُ، وَفُرِضَ فِي الْمُعْسِرِ. وَالْخَامِسُ: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْحُكْمِ: وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ فِي الدَّلِيلِ وَصْفًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلِّلِ بِهِ، كَقَوْلِنَا فِي الْمُرْتَدِّينَ يُتْلِفُونَ الْأَمْوَالَ: مُشْرِكُونَ أَتْلَفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا ضَمَانَ، كَالْحَرْبِيِّ. فَإِنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحِكْمَةِ، فَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهَا، إذْ مَنْ أَوْجَبَ الضَّمَانَ أَوْجَبَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَكَذَا مَنْ نَفَاهُ نَفَاهُ مُطْلَقًا وَيَرْجِعُ إلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ يُطَالَبُ بِأَمْرِ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَ (الثَّالِثِ) أَنَّ هَذَا أَعَمُّ وَذَاكَ أَخَصُّ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ (الثَّالِثَ) . وَقَالَ الْآمِدِيُّ: حَاصِلُ هَذَا الْقِسْمِ يَرْجِعُ إلَى عَدَمِ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ وَفِي الْأَصْلِ. قُلْت: وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى إيرَادِهَا فِي " الْمِنْهَاجِ " وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِهِ. تَنْبِيهٌ: عَدَمُ الْعَكْسِ وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ بَانَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ عَدَمَ

التَّأْثِيرِ أَعَمُّ مِنْ عَدَمِ الْعَكْسِ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا عَدَمَ التَّأْثِيرِ إلَى مَا يَقَعُ فِي وَصْفِ الْعِلَّةِ، وَإِلَى مَا يَقَعُ فِي أَصْلِهَا. وَجَعَلُوا الْوَاقِعَ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِعِلَلٍ، فَالْعِلَّةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَتَضَمَّنُ انْتِفَاؤُهَا انْتِفَاءَ الْحُكْمِ. وَهَذَا مَنْشَؤُهُ مِنْ تَعَدُّدِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ جَرّ ذَلِكَ إلَى الِانْعِكَاسِ، وَهُوَ يُوَضِّحُ أَنَّ تَقْسِيمَهُ إلَى الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ لَا حَاصِلَ لَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ " الْحُدُودِ: " إنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ التَّأْثِيرَ وَالْعَكْسَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَكْسَ: عَدَمُ الْعِلَّةِ لِعَدَمِ الْحِكْمَةِ، وَالتَّأْثِيرُ: زَوَالُ الْحُكْمِ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ فِي مَوْضِعٍ مَا. قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجِبُ زَوَالُ الْحُكْمِ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ أَصْلِ الْعِلَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَزُولَ الْحُكْمُ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ أَصْلِ الْعِلَّةِ. أَوْ مِنْ سَائِرِ الْأُصُولِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْقَاضِي. فَعَلَى هَذَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَكْسِ وَالتَّأْثِيرِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْعَكْسَ هُوَ زَوَالٌ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، أَوْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ. وَالتَّأْثِيرُ: زَوَالُهُ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ فِي مَوْضِعٍ. انْتَهَى. فَرْعٌ: ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَيْسَ لِلْمُسْتَدِلِّ إلْزَامُ الْمُعْتَرِضِ نَفْيَ الْحُكْمِ عِنْدَ نَفْيِ عِلَّتِهِ بِمُجَرَّدِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى عِلَّتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوهُ إلَى إلْزَامِ الْعَكْسِ فَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَضُمَّ إلَى تَصْحِيحِ عِلَّتِهِ إبْطَالَ عِلَّةِ خَصْمِهِ، فَإِذَا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ دَعَاهُ إلَى الْعَكْسِ، فَإِنْ بَيَّنَ الْخَصْمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ حِينَئِذٍ مَعَ نَفْيِ الْعِلَّةِ فَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ حِينَئِذٍ أَنْ يُبَيِّنَ التَّوْقِيفَ الَّذِي مَنَعَ الْعَكْسَ. ثُمَّ طَرَدَ الْإِمَامُ هَذَا فِي الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ إذَا عَارَضَهَا الْخَصْمُ بِمُتَعَدِّيَةٍ، فَعَلَى الْمُعَلِّلِ بِالْقَاصِرَةِ إبْطَالُ الْمُتَعَدِّيَةِ، فَإِذَا تَمَّ لَهُ إبْطَالُهَا أَلْزَمَ خَصْمَهُ حِينَئِذٍ نَفْيَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ التَّعَدِّي لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ عَنْهُ.

الخامس من الاعتراضات القلب

تَنْبِيهٌ قَدْ يَبْقَى الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ عِلَّتِهِ فِي صُوَرٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَلَمْسِ الْمَحَارِمِ، وَتَحْرِيمِ الِادِّخَارِ فِي زَمَانِنَا لِأَجْلِ مَنْ دُفَّ، وَمَنْعِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْجَلْبِ إنْ لَمْ يَغْبِنْ، وَلِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ إلَّا بَعْدَ زَوَالِهِ، وَلِمَنْ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ وَلَمْ تَعْلَمَ عِتْقَهَا حَتَّى عَتَقَ، وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ لِمَنْ بَاعَ حِصَّتَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا. وَالْمُرَجَّحُ فِيهَا زَوَالُ الْحُكْمِ عِنْدَ زَوَالِ الْعِلَّةِ. وَشَذَّ عَنْ هَذَا وَطْءُ الرَّاهِنِ الْمَرْهُونَةَ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحْبَلُ. وَمُدْرَكُهُ أَنَّ الْمَظِنَّةَ تُقَامُ مَقَامَ الْمَظْنُونِ [الْخَامِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْقَلْبُ] [حَقِيقَتِهِ الْقَلْبُ] الْخَامِسُ - الْقَلْبُ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ - فِي حَقِيقَتِهِ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِهِ. فَقَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ أَنْ يُبَيِّنَ الْقَالِبُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَا لَهُ. أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَهُ. (قَالَ) : وَالْأَوَّلُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ فِي الْأَقْيِسَةِ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَنْصُوصِ بِاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ فِي تَوْرِيثِ الْخَالِ بِقَوْلِهِ

اعتباره القلب

«- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» فَأَثْبَتَ إرْثَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ. فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَيْك لَا لَك، لِأَنَّ مَعْنَاهُ نَفْيُ تَوْرِيثِ الْخَالِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ: الْخَالُ لَا يَرِثُ. كَمَا يُقَالُ: الْجُوعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ، وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ. أَيْ لَيْسَ الْجُوعُ [زَادًا] ، وَلَا الصَّبْرُ حِيلَةً. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ، وَلَهُ: مَحَلُّ التَّقْسِيمِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: هُوَ إنْ تَعَلَّقَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِيَاسٍ يَقْتَضِي الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِيهِ وَيُرَدُّ إلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ. وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا اتِّحَادَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَوْ رُدَّ إلَى أَصْلٍ آخَرَ لَكَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْآخَرِ إمَّا حَاصِلًا فِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ فَمَرَدُّهُ إلَيْهِ، أَوْ غَيْرَ حَاصِلٍ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ نُقِضَ عَلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ لِخُرُوجِ مَا يَكُونُ مِنْ الْقَلْبِ فِي غَيْرِ الْقِيَاسِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ دَعْوَى لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ عَلَيْهِ لَا لَهُ، فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ. [اعْتِبَارِهِ الْقَلْب] الثَّانِي -[فِي اعْتِبَارِهِ] : وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحُكْمَيْنِ، أَعْنِي مَا يُثْبِتُهُ الْمُسْتَدِلُّ وَمَا يُثْبِتُهُ الْقَالِبُ، إنْ لَمْ يَتَنَافَيَا فَلَا قَلْبَ، إذْ لَا مَنْعَ مِنْ اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لِحُكْمَيْنِ غَيْرِ مُتَنَافِيَيْنِ، فَلَا يَفْسُدُ بِهِ. وَإِنْ اسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يُمْكِنْ الرَّدُّ إلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَكُونُ قَلْبًا، إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الرَّدِّ إلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ.

هل القلب قادح أم لا

وَالْجُمْهُورُ عَلَى إمْكَانِهِ. وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْحُكْمَيْنِ غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ لِذَاتِهِمَا، فَلَا جَرَمَ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا أَثْبَتَ الْقَالِبُ الْحُكْمَ الْآخَرَ فِي الْفَرْعِ بِالرَّدِّ إلَى الْأَصْلِ وَشَهَادَةِ اعْتِبَارِهِ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِيهِ. وَأَحَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إشْعَارَ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ بِحُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ، فَمَنَعَ الشَّارِحُ الْإِبْيَارِيُّ التَّنَاقُضَ بَيْنَ حُكْمَيْ الْعِلَّةِ وَقَلْبِهَا فِي الثَّانِي، وَاسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّنَاقُضِ بِاجْتِمَاعِ الْحُكْمَيْنِ فِي الْأَصْلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَالصَّوَابُ مَنْعُ الْإِمَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَوَاضِعِ الْمُسْتَدِلِّ وَالْقَالِبِ، لِأَنَّهُمَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْفَرْعِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ عَنْهُ، فَهِيَ مُنَاقَضَةٌ بِالْمُوَاضَعَةِ، لَا بِالْحَقِيقَةِ. لَكِنْ لَا أُصَوِّبُ قَوْلَهُ: إنَّ الْوَصْفَ الْوَاحِدَ لَا يُشْعِرُ بِمُتَنَاقِضَيْنِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُشْعِرُ بِهِمَا، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْحُكْمَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ، فَتَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا بِالتَّرْجِيحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] فَنَبَّهَ عَلَى رُجْحَانِ الْمَفْسَدَةِ. [هَلْ الْقَلْب قَادِحٌ أَمْ لَا] الثَّالِثُ - فِي أَنَّهُ قَادِحٌ أَمْ لَا: وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقِيلَ: هُوَ إفْسَادُ الْعِلَّةِ مُطْلَقًا، فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَنَقَلَ تَسْلِيمَ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْجَامِعَ دَلِيلٌ، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ دَلِيلٌ لِلْمُسْتَدِلِّ أَوْ عَلَيْهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ مَنْ يُسَمِّيهِ (مُعَارَضَةً) ، فَإِنَّ الْمُعَارَضَةَ لَا تُفْسِدُ الْعِلَّةَ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ التَّعَلُّقِ بِهَا حَتَّى يَثْبُتَ رُجْحَانُهَا مِنْ خَارِجٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: إنَّهُ تَسْلِيمٌ لِلصِّحَّةِ، عَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ.

وَظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَازِمٌ جَدَلًا لَا دَيْنًا، وَلِهَذَا قَالَ: تَلْتَبِسُ فِيهِ الْحُظُوظُ الْمَعْنَوِيَّةُ بِالْمَرَاسِمِ الْجَدَلِيَّةِ، بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهَا مُنَاقَضَةٌ دَيْنًا وَجَدَلًا. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَادِحَةٌ فِي الْعِلَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مِنْ أَلْطَفِ مَا يَسْتَعْمِلُهُ النَّاظِرُ. وَسَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الْقَلْبَ إنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا حَيْثُ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فِي مَسْأَلَةِ السَّاحَةِ، قَالَ: فِي هَدْمِ الْبِنَاءِ ضَرَرٌ بِالْغَاصِبِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُنَا: وَفِي مَنْعِ صَاحِبِ السَّاحَةِ مِنْ سَاحَتِهِ، إضْرَارٌ. فَقَالَ: يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ مِثْلَ هَذَا فِي الْقِيَاسِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ سُؤَالُ الْقَلْبِ. قَالَ: وَهُوَ شَاهِدُ زُورٍ، يَشْهَدُ لَكَ وَيَشْهَدُ عَلَيْك، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا فَرْضُ مَسْأَلَةٍ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ، وَلَيْسَ لِلسَّائِلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْقَالِبَ عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِمَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَلِيلِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَارَضَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَقِيلَ: هُوَ بَاطِلٌ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: الْقَلْبُ سُؤَالٌ صَحِيحٌ يُوقِفُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْعِلَّةِ وَيُفْسِدُهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَشَيْخُنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ يَقُولَانِ: هُوَ مُعَارَضَةٌ وَأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ. قَالَ: وَعِنْدِي فِيهِ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: قَلْبٌ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ. فَهَذَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ الْمَقُولَ بِهَا، لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلَّةِ تَعَلُّقٌ بِالْحُكْمِ الَّذِي تَعَلَّقَ عَلَيْهَا وَاخْتِصَاصٌ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الضِّدِّ بِهَا، فَإِذَا بَيَّنَ السَّائِلُ صِحَّةَ أَنْ يُعَلِّقَ عَلَيْهَا ضِدَّهُ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً، كَقَوْلِنَا فِي أَنَّ الْخِيَارَ فِي الْمَبِيعِ يُورَثُ، فَإِنَّ الْمَوْتَ مَعْنًى يُزِيلُ التَّكْلِيفَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَ الْخِيَارَ،

كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ. فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: أَقْلِبُ هَذِهِ الْعِلَّةَ فَأَقُولُ: إنَّ الْمَوْتَ مَعْنًى يُبْطِلُ التَّكْلِيفَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْقُلَ الْخِيَارَ إلَى الْوَارِثِ، كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ. ثَانِيهِمَا: الْقَلْبُ بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ: فَهَذَا هُوَ مُعَارَضَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا لِأَنَّ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا جَعَلْتُ الْعِلَّةَ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ، فَإِذَا قَلَبَ بِبَعْضِهَا فَلَمْ تَفْسُدْ الْعِلَّةُ إنَّمَا جِئْتُ بِأُخْرَى. كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ فِي ضَمِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ: مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرِ بِكُلِّ حَالٍ، فَيُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ، كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: أَقْلِبُ الْعِلَّةَ وَأَقُولُ: مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرُ بِكُلِّ حَالٍ فَلَمْ يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْقِيمَةِ، كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ. وَنُقِلَ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ مَرْدُودٌ وَلَيْسَ مُعَارَضَةً، فَإِنَّ شَرْطَهُمَا التَّعَارُضُ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَوْعُ مُعَارَضَةٍ، إذْ مُحَالٌ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ مِنْ جِهَتَيْنِ، لِاشْتِرَاكِ الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَلِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ هِيَ أَبَدًا مَعْنًى فِي الْأَصْلِ أَوْ الْفَرْعِ، أَوْ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ يَقْتَضِي خِلَافَ مَا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ. وَهَذَا الْوَصْفُ كَذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَمْنَعَ حُكْمَ الْقَالِبِ فِي الْأَصْلِ، وَأَنْ يَقْدَحَ فِي الْعِلَّةِ بِالنَّقْضِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ إذَا أَمْكَنَهُ. وَفِي جَوَازِ قَلْبِ قَلْبِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ، فَإِذَا قَلَبَهُ عَلَى الْقَالِبِ صَارَ شَاهِدًا لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَلِلْقَالِبِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَرَجَّحَهُ الْبَاجِيُّ، لِأَنَّهُ نَقْضٌ، وَالنَّقْضُ لَا يَصِحُّ أَنْ

يُنْقَضَ، وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يُقْلَبُ. وَرَجَّحَ فِي " الْمَحْصُولِ " الْجَوَازَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مُنَاقِضًا لِلْحُكْمِ، لِأَنَّ قَلْبَ الْقَالِبِ إذَا فَسَدَ بِالْقَلْبِ سَلِمَ أَصْلُ الْقِيَاسِ مِنْ الْقَلْبِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ بَلْ هُوَ إفْسَادُ الْعِلَّةِ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى قَلْبِهِ بِكُلِّ مَا لِلْقَالِبِ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، لِمَا تَقَدَّمَ فِي النَّقْضِ. نَعَمْ، يَفْتَرِقُ الْقَلْبُ وَالْمُعَارَضَةُ فِي صُوَرٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَلْبَ مُعَارَضَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى إجْمَاعِ الْخَصْمَيْنِ، سَوَاءٌ انْضَمَّ إلَيْهِمَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَمْ لَا. وَالْمُنَاقَضَةُ فِي الْمُعَارَضَةِ حَقِيقِيَّةٌ، وَفِي الْقَلْبِ وَضْعِيَّةٌ. أَيْ تَوَاضُعُ الْخَصْمَانِ أَوْ الْمُجْمِعُونَ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ. ثَانِيهَا: أَنَّ عِلَّةَ الْمُعَارَضَةِ وَأَصْلَهَا قَدْ يَكُونُ مُغَايِرًا لِعِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ وَأَصْلِهِ، بِخِلَافِ الْقَلْبِ فَإِنَّ عِلَّتَهُ وَأَصْلَهُ هُمَا عِلَّتَا الْمُسْتَدِلِّ وَأَصْلُهُ، ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَصْلٍ وَلَا إثْبَاتِ الْوَصْفِ. وَكُلُّ قَلْبٍ مُعَارَضَةٌ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ. رَابِعُهَا: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ فِي الْعِلَّةِ وَفِي سَائِرِ الْمُعَارَضَاتِ يُمْكِنُ. خَامِسُهَا: أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ وُجُودُ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْقَالِبِ وَفَرْعَهُ هُوَ أَصْلُ الْمُعَلَّلِ وَفَرْعُهُ. وَيُمْكِنُ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْمُعَارَضَاتِ. ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ "، وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْقَلْبِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ

أَنَّ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ عَلَيْهِ، لَا لَهُ، هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَاضَاتِ، وَلَا يُتَّجَهُ فِي قَبُولِهِ خِلَافٌ. وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، كَمِثَالِ الِاعْتِكَافِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَبَيْعِ الْغَائِبِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، هَلْ هُوَ اعْتِرَاضٌ أَوْ مُعَارَضَةٌ؟ فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ، لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُعَارِضُ دَلَالَةَ الْمُسْتَدِلِّ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى. (قَالَ) : وَلِهَذَا الْخِلَافِ فَوَائِدُ: مِنْهَا: أَنَّهُ إنْ قِيلَ: إنَّهُ مُعَارَضَةٌ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ، فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، كَالنِّكَاحِ، وَإِنْ قِيلَ: هُوَ اعْتِرَاضٌ لَمْ تَجُزْ فِيهِ الزِّيَادَةُ. انْتَهَى. وَهَذَا يُخَالِفُ مَا سَبَقَ عَنْ " الْمَحْصُولِ ". وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُعَارَضَةَ كَدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ فَلَا يَتَعَذَّرُ بِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، بِخِلَافِ الِاعْتِرَاضِ فَإِنَّهُ مَنْعٌ لِلدَّلِيلِ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَيَكُونُ كَالْكَذِبِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ حَيْثُ يَقُولُ مَا لَمْ يَقُلْ. وَمِنْهَا: إنْ قُلْنَا: إنَّهُ مُعَارَضَةٌ جَازَ قَلْبُهُ مِنْ الْمُسْتَدِلِّ كَمَا يُعَارِضُ الْعِلَّةَ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى الشِّرَاءِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: أَنَا أَقْلِبُ هَذَا الدَّلِيلَ وَأَقُولُ: تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ، فَلَا يَقَعُ لِمَنْ أَضَافَهُ إلَيْهِ، كَالشِّرَاءِ، فَإِنَّ الشِّرَاءَ يَصْلُحُ لِمَنْ أُضِيفَ إلَيْهِ وَهُوَ الْمُشْتَرِي لَهُ، بَلْ صَحَّ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْفُضُولِيُّ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ اعْتِرَاضٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَنْعٌ، وَالْمَنْعُ لَا يَمْنَعُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إنْ قُلْنَا: إنَّهُ مُعَارَضَةٌ جَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّهُ كَالْجُزْءِ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَ اعْتِرَاضًا لَمْ يَجُزْ وَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمَنْعَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُعَارَضَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ مُعَارَضَةً قَبِلَ فِيهِ التَّرْجِيحَ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ اعْتِرَاضٌ

أقسام القلب

مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ، كَالدَّلِيلِ الْمُبْتَدَأِ، وَالْمَنْعُ لَا يَقْبَلُ التَّرْجِيحَ. [أَقْسَام الْقَلْبُ] الرَّابِعُ - فِي أَقْسَامِهِ: أَحَدُهَا: قَلْبُ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ: وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَصْحِيحِ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، مَعَ إبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ. إمَّا صَرِيحًا كَقَوْلِنَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ: عَقْدٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ فَلَا يَصِحُّ، كَمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. فَيَقُولُ: الْخَصْمُ: عَقْدٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ فَيَصِحُّ، كَمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ: بِالْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ الْعَاقِدِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا عَلَى أَقْسَامِ الْقَلْبِ. وَإِمَّا ضِمْنًا كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي الِاعْتِكَافِ: لُبْثٌ فَلَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ قُرْبَةً، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَغَرَضُهُ اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ وَإِنَّمَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ أَصْلًا يُلْحِقُهُ بِهِ فَيَقُولُ: لُبْثٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّوْمُ، كَالْوُقُوفِ. وَجَوَابُهُ إمَّا بِمَنْعِ صِحَّةِ الْقَلْبِ إنْ كَانَ لَا يَقْبَلُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ بِكُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ عَلَى الْعِلَلِ الْمُبْتَدَأَةِ مِنْ الْمَنْعِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالنَّقْضِ عَلَى مَا سَبَقَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ. وَكَذَا الْقَلْبُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَيَقُولُ: هَذِهِ الْأَوْصَافُ الَّتِي ذَكَرْت فِيهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي حُكْمِ الْقَلْبِ، وَهِيَ مُؤَثِّرَةٌ فِي حُكْمِ عِلَّتِي، أَوْ يَقُولُ: هَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تَصْلُحُ لِلْحُكْمِ الَّذِي عُلِّقَتْ عَلَيْهَا وَتَصْلُحُ لِلْحُكْمِ الَّذِي عُلِّقَتْ عَلَيْهَا فَيَقُولُ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ: هَذِهِ الْأَوْصَافُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي حُكْمِ عِلَّتِك، لِأَنَّك لَوْ اقْتَصَرْت عَلَى قَوْلِك: عَقْدٌ عَقَدَهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ

فَيَصِحُّ، لَمْ يُنْقَضْ، أَوْ يَقُولُ: هَذِهِ الْأَوْصَافُ الَّتِي ذَكَرْتَهَا تَقْتَضِي إفْسَادَ الْبَيْعِ وَقَدْ عَلَّقْت عَلَيْهَا صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ لَمْ يَصِحَّ. الثَّانِي: مَا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ: - - إمَّا صَرِيحًا، كَقَوْلِهِمْ: مَسْحُ الرَّأْسِ رُكْنٌ فَلَا يَكْفِي أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، كَالْوَجْهِ. فَيُقَالُ: فَلَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبُعِ، كَالْوَجْهِ. - وَإِمَّا بِالِالْتِزَامِ، كَقَوْلِهِمْ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ: صَحِيحٌ، كَنِكَاحِ الْغَائِبِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَنَقُولُ: فَلَا تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ، قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ، بِالْجَامِعِ الْمَذْكُورِ. وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ: قَلْبُ التَّسْوِيَةِ، لِتَضَمُّنِهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ حُكْمَانِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُنْتَفٍ فِي الْفَرْعِ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَالْآخَرُ مُنَازَعٌ فِيهِ، فَإِذَا أَرَادَ إثْبَاتَهُ فِي الْفَرْعِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ اُعْتُرِضَ بِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ. فَيَلْزَمُ عَدَمُ ثُبُوتِهِ فِيهِ، كَقَوْلِهِمْ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ: مُكَلَّفٌ مَالِكٌ لِلطَّلَاقِ فَيَقَعُ طَلَاقُهُ، كَالْمُخْتَارِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقُهُ ضِمْنًا، وَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ إقْرَارِهِ وَإِيقَاعِهِ، وَإِقْرَارُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَيَكُونُ إيقَاعُهُ أَيْضًا غَيْرَ مُعْتَبَرٍ. كَقَوْلِهِمْ فِي الْوُضُوءِ: طَهَارَةٌ بِالْمَائِعِ، فَلَا تَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ، كَالنَّجَاسَةِ. فَنَقُولُ: فَيَسْتَوِي جَامِدُهَا وَمَائِعُهَا كَالنَّجَاسَةِ فِي النِّيَّةِ. وَفِي قَبُولِ هَذَا النَّوْعِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ. وَاخْتَارَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ. لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالتَّسْوِيَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْقَالِبَ يُرِيدُ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مَا يُرِيدُ فِي الْفَرْعِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ الشَّيْءِ مِنْ ضِدِّهِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَطَائِفَةٌ

مِمَّنْ قَبِلَ أَصْلَ الْقَلْبِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّصْرِيحُ فِيهِ بِحُكْمِ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ الْحَاصِلَ فِي الْأَصْلِ نَفْيٌ، وَفِي الْفَرْعِ إثْبَاتٌ. وَالثَّانِي: وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّ الشَّارِعَ لَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: أَقْصِدُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِيقَاعِ كَانَ صَحِيحًا. وَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَسْتَنْبِطَ وَيُعَلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ. وَجَوَابُهُ: إمَّا بِإِمْكَانِ صِحَّةِ الْقَلْبِ أَوْ بِالْكَلَامِ عَلَيْهِ بِمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى الْعِلَلِ الْمُبْتَدَأَةِ فَنَقُولُ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ لَا تَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَك الْمَائِعَ فِي الْوُضُوءِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا. وَقِيلَ: مِنْ أَجْوِبَتِهِ: أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْته مُصَرَّحٌ بِهِ، وَاَلَّذِي عَارَضْتَنِي بِهِ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ، وَالْمُصَرَّحُ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ. الثَّالِثُ: الْقَلْبُ الْمَكْسُورُ وَهُوَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْمُسْتَدِلِّ، كَاسْتِدْلَالِ الْمَالِكِيِّ عَلَى صِحَّةِ ضَمِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُمَا مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرِ بِكُلِّ حَالٍ فَضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ، كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ. فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: أَقْلِبُ هَذِهِ الْعِلَّةَ فَأَقُولُ: مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرِ، وَهُمَا مِنْ وَصْفٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْقِيمَةِ، كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ الرَّابِعُ الْقَلْبُ الْمُبْهَمُ وَهُوَ أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ تَسْوِيَةً، كَقَوْلِهِمْ فِي الْكُسُوفِ: صَلَاةٌ مَسْنُونَةٌ فَلَا يُثَنَّى فِيهَا الرُّكُوعُ، كَالْعِيدَيْنِ. فَيَقْلِبُهُ وَيَقُولُ: صَلَاةٌ مَسْنُونَةٌ تَخْتَصُّ بِزِيَادَةٍ، كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ. مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِخُصُوصِ الزِّيَادَةِ هَلْ هِيَ رُكُوعٌ أَوْ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ تَعَرَّضَ لِخُصُوصِهَا فِي الرُّكُوعِ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ.

السادس من الاعتراضات القول بالموجب

وَمِنْ أَنْوَاعِ الْقَلْبِ: جَعْلُ الْمَعْلُولِ عِلَّةً وَالْعِلَّةِ مَعْلُولًا. وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنْ لَا عِلَّةَ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ، وَالْمَعْلُولُ هُوَ الْحُكْمُ الْوَاجِبُ بِهِ، كَالْفَرْعِ مَعَ الْأَصْلِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عِلَّةً وَالْعِلَّةُ حُكْمًا. فَلَمَّا احْتَمَلَ الِانْقِلَابَ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ التَّعْلِيلِ، كَقَوْلِنَا فِي ظِهَارِ الذِّمِّيِّ: إنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، كَالْمُسْلِمِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: الْمُسْلِمُ لَمْ يَصِحَّ ظِهَارُهُ لِأَنَّهُ صَحَّ طَلَاقُهُ، وَإِنَّمَا صَحَّ طَلَاقُهُ لِأَنَّهُ صَحَّ ظِهَارُهُ. وَمَنْ جَعَلَ الظِّهَارَ عِلَّةً لِلطَّلَاقِ لَمْ يُثْبِتْ ظِهَارَ الذِّمِّيِّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا النَّوْعُ اُخْتُلِفَ فِيهِ: فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إنَّهُ صَحِيحٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّلِيلِ، لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى ثُبُوتِ الْآخَرِ، فَلَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. لِلدَّوْرِ. وَقِيلَ: لَا يَمْنَعُ، لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ بِجَعْلِ الشَّارِعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ كُلٌّ مِنْ الْحُكْمَيْنِ أَمَارَةً لِلْآخَرِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الشَّيْخُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ذَهَبَ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ إلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ صَحِيحٌ يُوقِفُ الْعِلَّةَ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَعْتَرِضُ عَلَى الْعِلَّةِ وَلَا يُوجِبُ وَقْفَهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا أَبِي الطَّيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَنَصَرَهُ فِي كِتَابِ " التَّبْصِرَةِ ". وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي " الْعُدَّةِ ": قِيلَ: لَا يُعَارِضُ الْعِلَّةَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ. وَجَوَابُ هَذَا: التَّرْجِيحُ، إنْ قُلْنَا بِهِ. [السَّادِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ] السَّادِسُ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ (بِفَتْحِ الْجِيمِ) ، أَيْ: الْقَوْلُ بِمَا أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ. أَيْ الْمُوجِبِ

بِكَسْرِهَا) فَهُوَ الدَّلِيلُ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ مُقْتَضَى مَا نَصَبَهُ الْمُسْتَدِلُّ مُوجِبًا لِعِلَّتِهِ، مَعَ بَقَاءِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا فِيهِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَظُنَّ الْمُعَلِّلُ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَطْلُوبِهِ مِنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَلْزِمٍ، فَلَا يَنْقَطِعُ النِّزَاعُ بِتَسْلِيمِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَعْرِيفِ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ لَهُ بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ، أَيْ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُهُ لَا يُشْعِرُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا. وَهَذَا فِيهِ إشْكَالٌ، لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قَدْ يَتَخَيَّلُ مِنْ الْخَصْمِ مَانِعًا لِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ بِحَيْثُ لَوْ بَطَلَ ذَلِكَ الْمَانِعُ تَقَرَّرَ أَنَّ الْخَصْمَ يُسَلِّمُ لَهُ الْحُكْمَ، فَيَجْعَلُ الْمُسْتَدِلَّ عُمْدَتَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِإِبْطَالِ مَا تَخَيَّلَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ إذَا بَطَلَ كَوْنُهُ مَانِعًا سَلِمَ الْحُكْمُ، فَكَأَنَّهُ قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى غَيْرِ الْحُكْمِ الْمَسْئُولِ، أَوْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الْحُكْمِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعًا لَزِمَ الْحُكْمُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: حَدُّوهُ بِتَسْلِيمِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ فِيهِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ بَيَانُ غَلَطِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى إيجَابِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ بِقَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَقُولُ بِمُوجَبِ هَذَا الدَّلِيلِ، لَكِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ فَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَيْسَ

قَوْلًا بِالْمُوجَبِ، لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَظْهَرَ عُذْرٌ لِلْمُسْتَدِلِّ فِي الْغَلَطِ، فَتَمَامُ الْحَدِّ أَنْ يُقَالَ: هُوَ تَسْلِيمُ نَقِيضِ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ حَيْثُ يَكُونُ لِلْمُسْتَدِلِّ عُذْرٌ مُعْتَبَرٌ. انْتَهَى. وَكَانَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ الْقَرَمِيسِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ وَالْجَدَلِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ تَقْرِيرُ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ بِتَسْلِيمٍ حَقِيقَةً. وَحَقِيقَتُهُ بَيَانُ انْحِرَافِ الدَّلِيلِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الِانْقِطَاعُ، بَلْ إنْ ثَبَتَ انْحِرَافُ الدَّلِيلِ فَقَدْ انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْحَرِفٍ لَمْ يَنْقَطِعْ الْمُعْتَرِضُ، بَلْ يَنْزِلُ عَلَى أَنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ وَيُورِدُ عَلَيْهِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فَرْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ تَأْخِيرُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَسْئِلَةِ؟ (الثَّانِي) : أَنَّهُ حَيْثُ لَزِمَ فَهَلْ هُوَ انْقِطَاعٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَإِذَا سَلَّمَ الْمُعْتَرِضُ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَقَدْ سَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ وَكَانَ مُنْقَطِعًا. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي: إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ انْحِرَافِ الدَّلِيلِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ بِأَنْ سَلَّمَ مَدْلُولَ الدَّلِيلِ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ، فَعَلَى هَذَا إنْ لَزِمَ ذَلِكَ فَقَدْ انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ لَمْ يُحْكَمْ بِانْقِطَاعِ الْمُعْتَرِضِ. بَلْ لَهُ أَنْ يُورِدَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ مِنْ الْأَسْئِلَةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَخْتَارُهُ الْقَرَمِيسِيُّ وَمِنْ أَعْذَارِهِ: أَنْ يَبْنِي الْمُسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ الْخَصْمَ يُوَافِقُ عَلَى الْمُقْتَضِي، وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ

الْعَمَلِ ثُمَّ تَخَيَّلَ مَا لَيْسَ بِمَانِعٍ مَانِعًا، فَيَعْمِدُ الْمُسْتَدِلُّ إلَى ذَلِكَ الْمَانِعِ فَيُبْطِلُهُ لِيَسْلَمَ الْمُقْتَضِي فَيَلْزَمُ الْخَصْمَ الْمُوَافَقَةُ. هَذَا ظَنُّ الْمُسْتَدِلِّ، وَيَكُونُ الْمُعْتَرِضُ مَثَلًا لَا يُوَافِقُهُ عَلَى الْمُقْتَضِي، أَوْ يُوَافِقُهُ وَلَكِنَّ الْمَانِعَ عِنْدَهُ أَجْنَبِيٌّ عَمَّا يُخَيِّلُ الْمُسْتَدِلُّ، أَنَّهُ الْمَانِعُ عِنْدَهُ، أَوْ غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ وَلَكِنَّهُ جُزْءُ الْمَانِعِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ سَلْبِ الْمَاهِيَّةِ عَنْ الْجُزْءِ سَلْبُ الْمَاهِيَّةِ عَنْ الْكُلِّ، أَوْ مَانِعٌ مُسْتَقِلٌّ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ آخَرُ. وَإِذَا جَازَ تَعَدُّدُ الْعِلَلِ جَازَ تَعَدُّدُ الْمَوَانِعِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَذْكُرَ الْمُسْتَدِلُّ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَيَسْكُتَ عَنْ الْأُخْرَى ظَنًّا أَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ بِمُوجَبِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَبْقَى عَلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّهُ يُتَّجَهُ عَلَى مَنْعِ السُّكُوتِ عَنْهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ تَلَازُمًا بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَبَيْنَ مَحَلٍّ آخَرَ، فَيَنْصِبَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَزِمَ أَنْ يَثْبُتَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ بِالْمُوجَبِ وَيَمْنَعُ الْمُلَازَمَةَ. انْتَهَى. وَالْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ مِنْ أَحْسَنِ مَا يَجِيءُ بِهِ الْمُنَاظِرُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] . . . فِي جَوَابِ {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] فَإِنَّهُمْ كَنَّوْا بِالْأَعَزِّ عَنْ فَرِيقِهِمْ وَبِالْأَذَلِّ عَنْ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَثْبَتُوا لِلْأَعَزِّ الْإِخْرَاجَ، فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ صِنْفَ الْعِزَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: فَإِذَا كَانَ الْأَعَزُّ يُخْرِجُ الْأَذَلَّ فَأُنْتَمَ الْمُخْرَجُونَ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ وُجُوهِ الِاعْتِرَاضَاتِ، وَأَكْثَرُ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى النُّصُوصِ تَرْجِعُ إلَيْهِ، لِأَنَّ النَّصَّ إذَا ثَبَتَ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ سُؤَالٌ إلَّا وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى تَسْلِيمِ النَّصِّ وَمَنْعِ لُزُومُ الْحُكْمِ مِنْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَارَضَةِ أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إلَى حَيْدِ الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَالْمُعَارَضَةُ فِيهَا اعْتِرَافٌ بِمِسَاسِ الدَّلِيلِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ. قَالَ

إلْكِيَا: وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ إذَا لَمْ يَأْتِ الْمُعَلِّلُ بِمَا يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، بَلْ يَعْتَرِضُ لِإِبْطَالِ مَا ظَنَّهُ مُوجَبًا وَمُؤَثِّرًا عِنْدَ الْخَصْمِ وَالْمُؤَثِّرُ غَيْرُهُ، وَلَوْ صَرَّحَ بِنَفْسِ الْحُكْمِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، تَبَعًا لِلْإِمَامِ: هُوَ سُؤَالٌ صَحِيحٌ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُمَانَعَةِ، وَلَا بُدَّ فِي تَوَجُّهِهِ مِنْ شَرْطٍ، وَهُوَ أَنْ يَسْنُدَ الْحُكْمَ الَّذِي تُنْصَبُ لَهُ الْعِلَّةُ إلَى شَيْءٍ، مِثْلَ قَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي مَاءِ الزَّعْفَرَانِ: مَاءٌ خَالَطَهُ طَاهِرٌ، وَالْمُخَالَطَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوُضُوءِ، فَيَقُولُ السَّائِلُ: الْمُخَالِطُ لَا يَمْنَعُ الْمَاءَ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ. وَشَرَطَ فِي " الْمَنْخُولِ " لِصِحَّتِهِ أَنْ يَبْقَى الْخِلَافُ مَعَهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، (قَالَ) : وَلَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَ النِّزَاعَ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ. وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إذَا أَجْمَلَ الْحُكْمَ، وَقَالَ: إنْ كَانَ كَذَا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كَذَا، فَيَقُولُ بِمُوجَبِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، أَوْ يَتَعَرَّضَ لِنَفْيِ عِلَّةِ الْخَصْمِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَعْلِهِ مِنْ قَوَادِحِ الْعِلَّةِ صَرَّحَ بِهِ إلْكِيَا وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ بِمُوجَبِهَا كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا تَكُونُ مُتَنَاوِلَةً لِمَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَسْلِيمُ مُوجَبِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ عَلِمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِدَلِيلِ الْحُكْمِ الَّذِي قَصَدَ إثْبَاتَهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ، الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوَادِحِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِمُوجَبِ الدَّلِيلِ تَسْلِيمٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْسِدًا؟ وَحَكَى فِي " الْمَنْخُولِ " أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ لَا يُسَمَّى اعْتِرَاضًا؛ لِأَنَّهُ مُطَابَقَةٌ لِلْعِلَّةِ، وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ.

وَقَدْ عَدَّهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ الْأُصُولِيُّونَ تَارَةً يَقُولُونَ: الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ لَيْسَ اعْتِرَاضًا، وَهُوَ لَعَمْرِي كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْعِلَّةَ، لِأَنَّهُ إذَا جَرَتْ الْعِلَّةُ وَحُكْمُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَأَنْ تَجْرِيَ وَحُكْمُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَوْلَى قَالَ الْمُقْتَرِحُ فِي تَعْلِيلِهِ: إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: لَا يُبْطِلُ الْعِلَّةَ مُطْلَقًا فَمُسَلَّمٌ، فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ فِي جَمِيعِ مَجَارِيهَا، وَإِنْ أَرَادُوا لَا تَبْطُلُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ إبْطَالُ الْعِلَّةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَصَدَّى الْمُعْتَرِضُ لَهُ، وَهُوَ إبْطَالُ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْمَحَلِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَيْسَ مُبْطِلًا لِلْعِلَّةِ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَةِ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُهَا فِي جَمِيعِ مَجَارِيهَا. وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي " النِّهَايَةِ ": إذَا تَوَجَّهَ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ انْقَطَعَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ: إنْ بَقِيَ النِّزَاعُ انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ النِّزَاعُ انْقَطَعَ السَّائِلُ (انْتَهَى) وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ إبْدَاءُ سَنَدِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: يَجِبُ لِقُرْبِهِ إلَى ضَبْطِ الْكَلَامِ وَصَوْنِهِ عَنْ الْخَبْطِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَقُولُ بِالْمُوجَبِ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ، لِأَنَّهُ وَفَّى بِمَا عَلَيْهِ، وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ الْجَوَابُ وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَأْخَذِ مَذْهَبِهِ، فَيَصْدُقُ فِيمَا يَقُولُهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ. ثُمَّ هُوَ إمَّا أَنْ يَرِدَ مِنْ الْمُعْتَرِضِ دَفْعًا عَنْ مَذْهَبِهِ، أَوْ إبْطَالًا لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ بِاسْتِيفَاءِ الْخِلَافِ مَعَ تَسْلِيمِ نَقِيضِ دَلِيلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ إبْطَالُ مَدْرَكِ الْخَصْمِ إثْبَاتَ مَذْهَبِهِ هُوَ أَوْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ يَكُونُ مِنْ الْمُعْتَرِضِ دَفْعًا عَنْ مَأْخَذِهِ لِئَلَّا يَفْسُدَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ إبْطَالًا لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، لِأَنَّهُمَا كَالْمُتَحَارَبِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَقْصِدُ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ وَتَعْطِيلَ صَاحِبِهِ.

السابع من الاعتراضات الفرق ويسمى سؤال المعارضة

فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِمْ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ: يُسَابَقُ عَلَيْهَا فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، كَالْإِبِلِ. فَيَقُولُ: مُسَلَّمٌ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي زَكَاةِ الْعَيْنِ. وَدَلِيلُكُمْ إنَّمَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْجُمْلَةِ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِنَا فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي الْمُثَقَّلِ: الْمُتَفَاوِتُ فِي الْوَسِيلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، كَالتَّفَاوُتِ فِي الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ وَهُوَ الْقَتْلُ، فَإِنَّهُ لَوْ ذَبَحَهُ أَوْ ضَرَبَ عُنُقَهُ أَوْ طَعَنَهُ لَمْ يَمْنَعْ الْقِصَاصَ. وَهَذَا فِيهِ إبْطَالُ مَذْهَبِ الْخَصْمِ، إذْ الْحَنَفِيُّ يَرَى أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْآلَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: تَسْلِيمُ التَّفَاوُتِ فِي الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ الْمَنْعِ لِلْقِصَاصِ ثُبُوتُهُ، بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ ثُبُوتُهُ مِنْ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ وَهُوَ السَّبَبُ الصَّالِحُ لِإِثْبَاتِهِ، وَالنِّزَاعِ فِيهِ. وَجَوَابُهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ لُزُومَ الْحُكْمِ مَحَلَّ النِّزَاعِ بِوُجُودِ نَقِيضِهِ بِمَا ذُكِرَ فِي دَلِيلِهِ إنْ أَمْكَنَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ التَّفَاوُتِ فِي الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ وُجُودُ مُقْتَضَى الْقِصَاصِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَانِعِ وَعَدَمَهُ قِيَامُ الْمُقْتَضِي، إذْ لَا يَكُونُ الْوَصْفُ تَابِعًا بِالْفِعْلِ إلَّا لِمُعَارَضَةِ الْمُقْتَضِي، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي وُجُودَهُ. أَوْ يُبَيِّنُ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ اعْتِرَاضٍ مِنْ الْمُعْتَرِضِ بِدَلِيلٍ. مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ، لَا فِي ثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ. [السَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْفَرْقُ وَيُسَمَّى سُؤَالَ الْمُعَارَضَةِ] السَّابِعُ: الْفَرْقُ وَيُسَمَّى (سُؤَالَ الْمُعَارَضَةِ) وَ (سُؤَالَ الْمُزَاحَمَةِ) ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَلْقَابٍ. وَهُوَ: إبْدَاءُ وَصْفٍ فِي الْأَصْلِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِلْحُكْمِ أَوْ جُزْءَ عِلَّةٍ، وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْفَرْعِ، سَوَاءٌ كَانَ مُنَاسِبًا أَوْ شَبَهًا إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ شَبِيهَةً

بِأَنْ يَجْمَعَ الْمُسْتَدِلُّ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، فَيُبْدِي الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا فَارِقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْعِ. وَقَدْ اشْتَرَطُوا فِيهِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَرْقٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ هُوَ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْأَصْلُ مِنْ الْأَوْصَافِ يَكُونُ مُؤَثِّرًا مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُلْغًى بِالِاعْتِبَارِ بِغَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْفَارِقُ قَادِحًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا لِلْجَمْعِ، بِأَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْ الْجَمْعِ لِيُقَدَّمَ عَلَيْهِ، أَوْ مِثْلَهُ لِيُعَارِضَهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِي حَدِّهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ: إنَّ حَقِيقَةَ الْفَرْقِ قَطْعُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إذْ اللَّفْظُ أَشْعَرَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ: حَقِيقَتُهُ الْمَنْعُ مِنْ الْإِلْحَاقِ بِذِكْرِ وَصْفٍ فِي الْفَرْعِ أَوْ فِي الْأَصْلِ. وَيَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْخِلَافِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْفَارِقَ إذَا ذَكَرَ فَرْقًا فِي الْأَصْلِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْكِسَهُ فِي الْفَرْعِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمَا عَلَيْهِ الْحُذَّاقُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ الْجَمْعُ إذَا عَكَسَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْفَرْقُ، وَالِافْتِرَاقُ لَهُ رُكْنَانِ: (أَحَدُهُمَا) وُجُودُ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ، وَ (الثَّانِي) انْتِفَاؤُهُ فِي الْفَرْعِ، لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَقُولُ:

وُجُودُ مَعْنًى آخَرَ لَا يَضُرُّنِي، لِأَنَّهُ يُؤَكِّدُ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَعْلِيلِي، وَصَارَ غَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ عَكْسُهُ لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ وَصْفُ كَذَا، فَإِذَا أَبْدَى الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا آخَرَ امْتَنَعَ التَّعْلِيلُ فِي الْأَصْلِ بِهِ، وَإِذَا امْتَنَعَ التَّعْلِيلُ امْتَنَعَتْ التَّعْدِيَةُ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِهِ وَقَدْحِهِ فِي الْعِلَّةِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: - أَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْبُولٍ، لِأَنَّ الْجَامِعَ لَمْ يَلْتَزِمْ بِجَمْعِهِ مُسَاوَاةَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي جَمِيعِ الْقَضَايَا، وَإِنَّمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي وَجْهٍ، وَلَا يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ بَيْنَ أَسْئِلَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ ذَكَرَ مَعْنًى فِي جَانِبِ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَعْلِيلَ الْمُعَلِّلِ بِجَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، وَحَكَاهُ فِي " الْبُرْهَانِ " عَنْ طَوَائِفَ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ (قَالَ) : وَإِنَّمَا يَسْتَمِرُّ هَذَا مَعَ الْقَوْلِ بِرَدِّ الْمُعَارَضَةِ فِي جَانِبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَمِيعًا (قَالَ) : وَهُوَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ. وَأَمَّا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ أَضْعَفُ سُؤَالٍ يُذْكَرُ، وَلَيْسَ مِمَّا يَمَسُّ الْعِلَّةَ الَّتِي نَصَبَهَا الْمُعَلِّلُ بِوَجْهٍ مَا، لَكِنَّ نِهَايَةَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْفَارِقَ يَدَّعِي مَعْنًى فِي الْأَصْلِ مَعْدُومًا فِي الْفَرْعِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَعْنَى الَّذِي نَصَبَهُ الْمُعَلِّلُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مَعْلُولًا بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ وَوُجِدَتْ إحْدَاهُمَا فِي الْفَرْعِ وَعُدِمَتْ الْأُخْرَى، وَإِحْدَاهُمَا كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْحُكْمِ، وَانْتِفَاءُ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ لَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ حُكْمِهَا إذَا خَلَفَتْهَا عِلَّةٌ أُخْرَى. وَالثَّانِي: - قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ الْفَرْقَ لَيْسَ سُؤَالًا عَلَى حِيَالِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْنَى مُعَارَضَةِ الْأَصْلِ بِمَعْنًى، وَمُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ الَّتِي نَصَبَهَا الْمُسْتَدِلُّ فِي الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُعَارَضَةُ.

وَالثَّالِثُ: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَارْتَضَاهُ كُلُّ مَنْ يَنْتَمِي إلَى التَّحْقِيقِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ: " إنَّهُ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ، وَهُوَ إنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى مُعَارَضَةِ الْأَصْلِ وَعَلَى مُعَارَضَةِ عِلَّةِ الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُعَارَضَةَ، بَلْ مُنَاقَضَةُ الْجَمْعِ وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ أَقْوَى الِاعْتِرَاضَاتِ وَأَجْدَرُهَا بِالِاعْتِنَاءِ بِهِ. هَكَذَا حَكَاهُ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " الْمُلَخَّصِ ": إنَّهُ أَفْقَهُ شَيْءٍ يَجْرِي فِي النَّظَرِ، وَبِهِ يُعْرَفُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ خُلُوُّهَا عَنْ الْمُعَارَضَةِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَا يَسْتَقِرُّ مَا لَمْ يُبْطِلْ بِمَسْلَكِ السَّبْرِ كُلُّ مَا عَدَا عِلَّتِهِ مِمَّا يُقَدَّرُ التَّعْلِيلُ بِهِ، فَإِذَا عَلَّلَ وَلَمْ يَسْبُرْ فَعُورِضَ بِمَعْنًى فِي الْأَصْلِ، فَكَأَنَّهُ طُولِبَ بِالْوَفَاءِ بِالسَّبْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ اسْتَدَلَّ عَلَى قَبُولِهِ بِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَجْمَعُونَ وَيُفَرِّقُونَ، وَيَتَعَلَّقُونَ بِالْفَرْقِ كَمَا يَتَعَلَّقُونَ بِالْجَمْعِ، كَمَا فِي قَضِيَّةِ الْجَارِيَةِ الْمُرْسِيَةِ الَّتِي أَجْهَضَتْ الْجَنِينَ وَقَدْ أَرْسَلَ إلَيْهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُهَدِّدُهَا، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ، وَلَا أَرَى عَلَيْك شَيْئًا. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ لَمْ يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّك، وَإِنْ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ، أَرَى عَلَيْك الْغُرَّةَ. وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ حَاوَلَ تَشْبِيهَ تَأْدِيبِهِ بِالْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا تُعَقَّبَ

ضَمَانًا، وَجَعَلَ الْجَامِعَ أَنَّهُ فَعَلَ مَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَاعْتَرَضَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْفَرْقِ، وَأَبَانَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ الْمَضْبُوطَةِ النِّهَايَاتِ لَيْسَتْ كَالتَّعْزِيرَاتِ الَّتِي يَجِبُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا دُونَ مَا يُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ قَالَ: وَلَوْ تَتَبَّعْنَا مُعْظَمَ مَا يَخُوضُ فِيهِ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ. وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْإِمَامِ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَقَالَ: قَوْلُهُ: شَرْطُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ خُلُوُّهَا عَنْ الْمُعَارَضَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ إنَّمَا تَقْدَحُ فِي حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، أَمَّا إذَا ذُكِرَتْ عِلَّتَانِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ فَلَا يَقْدَحُ، وَلَا يُسَمَّى مُعَارَضَةً. وَقَوْلُهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْمُعَلِّلِ مَا لَمْ يَبْطُلْ كَلَامُهُ مَا عَدَا عِلَّتِهِ يُقَالُ: مَنْ قَالَ هَذَا؟ وَلِأَيِّ مَعْنًى يَجِبُ؟ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ مَخِيلَةً فِي الْحُكْمِ مُنَاسِبَةً لَهُ إذَا وُجِدَ فِيهَا أَلْحَقَهُ بِالْأَصْلِ الَّذِي اسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْعِلَّةَ. وَأَمَّا السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ وَإِبْطَالُ مَا عَدَا الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ (قَالَ) : وَقَدْ نُسِبَ هَذَا إلَى الْبَاقِلَّانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَالَ) : وَكُلُّ مَنْ كَلَّفَ الْمُعَلِّلَ هَذَا أَوْ رَامَ تَصْحِيحَ الْعِلَّةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَقَدْ أَعْلَمَنَا مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ الْفِقْهَ لَيْسَ مِنْ بَابِهِ وَلَا مِنْ شَأْنِهِ، وَأَنَّهُ دَخِيلٌ فِيهِ مُدَّعٍ لَهُ. (قَالَ) : وَقَدْ بَانَ بُطْلَانُ طَرِيقِ السَّبْرِ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ الْتِزَامٌ كَذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ فِي تَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ الْتِزَامُ إبْطَالِ كُلِّ عِلَّةٍ سِوَى عِلَّتِهِ، فَهَذِهِ مِنْ التُّرَّهَاتِ وَالْخُرَافَاتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ تَعْلِيلَ الْأَصْلِ بِعِلَّتَيْنِ لَا يَجُوزُ. قُلْت: وَلَمْ يَتَوَارَدْ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، لِأَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ مَنَعَ اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ يُجَوِّزُهُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَأَمَّا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ فَقَدْ حَاوَلَ شَيْئًا بَعِيدًا، لِأَنَّ الْفَرْقَ وَالْجَمْعَ عَلَى الَّذِي يَخُوضُ فِيهِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَّبِعُونَ التَّأْثِيرَاتِ. وَاَلَّذِي نُقِلَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَعْنًى صَحِيحٌ، وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَعْنَى الضَّمَانِ أَلْطَفُ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُبَاحُ لَهُ التَّأْدِيبُ وَلَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالسَّلَامَةِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَيْسَ بِحَتْمٍ

بَلْ يَجُوزُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، فَيُطْلَقُ فِعْلُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ. (قَالَ) : وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَلَا يُدْرَى كَيْفَ وَقَعَ هَذَا الْخَبْطُ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ. وَإِنْ وَقَعَ الْفَرْقُ فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْفَرْقَ بِالْمَعَانِي الْمُؤَثِّرَةِ وَتَرْجِيحِ الْمَعْنَى عَلَى الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي شَيْءٍ وَرَاءَ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَمَّا ذَكَرَ عِلَّةً قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا، فَفَرَّقَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِمَعْنًى، فَإِنْ كَانَ فَرْقًا لَا يَقْدَحُ فِي التَّأْثِيرِ الَّذِي لِوَصْفِ الْمُعَلِّلِ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فَرْقٌ صُورَةً، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَإِنْ فَرَّقَ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ فَغَايَتُهُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّتَيْنِ. وَإِنْ بَيَّنَ الْفَارِقُ مَعْنًى مُؤَثِّرًا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَالْقَادِحُ بَيَانُ مَعْنًى يُؤَثِّرُ فِي الْفَرْعِ يُفِيدُ خِلَافَ الْحُكْمِ الَّذِي أَفَادَهُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، فَلَا بُدَّ لِهَذَا مِنْ إسْنَادِهِ إلَى أَصْلٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَارَضَةً، وَلَا يَكُونُ الْفَرْقُ الَّذِي يُقْصَدُ بِالسُّؤَالِ، وَنَحْنُ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعَارَضَةَ قَادِحَةٌ. (انْتَهَى) وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ فِي الْفَرْعِ لَا تُسَمَّى فَرْقًا، وَيَصِيرُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ. وَنَقَلَ إلْكِيَا مَا حَكَاهُ الْإِمَامُ فِي اسْتِدْلَالِ الْقَاضِي عَنْ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّ الْفَرْقَ إنَّمَا يَقْدَحُ إذَا كَانَ أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الْعِلَلِ، فَإِذْ ذَاكَ يَتَبَيَّنُ بِهِ فَسَادُ الْجَمْعِ، إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ ابْتِدَاءً تَعْلِيلٌ فِي الْأَصْلِ، وَعَكْسُهُ فِي الْفَرْقِ. وَرُبَّ فَرْقٍ يَظْهَرُ فَتَخْرُجُ عِلَّةُ الْمُعَلِّلِ عَنْ اعْتِبَارِهَا شَرْعًا، وَحِينَئِذٍ فَيَلْحَقُ تَعْلِيلُ الْمُعَلِّلِ بِالطَّرْدِ، فَإِنَّهُ أَخَصُّ مِنْ الْجَمْعِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ مَثَلًا لِلْفَرْقِ أَوْ أَخَصَّ فَلَا نُبَالِي بِهِ، كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ فِي الْهِبَةِ: عَقْدُ تَمْلِيكٍ تَرَتَّبَ عَلَى صِحَّةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِيهَا الْمِلْكُ بِالْمُعَاوَضَةِ، فَيَقُولُ الْفَارِقُ: الْمُعَاوَضَةُ يَتَضَمَّنُهَا النُّزُولُ عَنْ الْعِوَضِ وَالرِّضَا بِالْمُعَوَّضِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَالْهِبَةُ قَدْ عَارَتْ بِهَا. فَالْمُعَلِّلُ يَقُولُ: تِلْكَ الصِّيغَةُ مُطْرَحَةٌ فَيَضْطَرِبُ النَّظَرُ فِيهَا.

قَالَ) وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ نُكْتَةَ الْفَرْقِ كَوْنُهُ أَخَصَّ مِنْ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ أَعَمُّ، فَإِذًا فِي الْفَرْقِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا أَنَّ الْفَرْقَ يَرْجِعُ إلَى قَطْعِ الْجَمْعِ مِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِيَّةُ. وَ (الثَّانِي) إبْطَالُ الْفَرْقِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُعَارَضَةً فِي جَانِبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَالْمُعَارَضَةُ بَاطِلَةٌ. وَ (الثَّالِثُ) أَنَّهُ مَقْبُولٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ قَدْحًا فِي غَرَضِ الْجَمْعِ. وَهَذَا مُلَخَّصٌ مِنْ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْفَرْقَ إمَّا أَنْ يَلْحَقَ الْجَامِعَ بِوَصْفٍ طَرْدِيٍّ، أَوْ لَا. وَ (الْأَوَّلُ) مَقْبُولٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنْ يُقَيِّدَ الْفَارِقُ جَمْعَ الْجَامِعِ وَيَزِيدَ فِيهِ مَا يُوَضِّحُ بُطْلَانَ أَثَرِهِ، كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ: مُعَاوَضَةٌ عَنْ تَرَاضٍ فَتُفِيدُ الْمِلْكَ، كَالصَّحِيحِ. فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ جَرَتْ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ فَنَقَلَتْ الْمِلْكَ بِالشَّرْعِ، بِخِلَافِ الْمُعَاوَضَةِ الْفَاسِدَةِ. وَ (الثَّانِي) هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ فِي الْهِبَةِ، يَحْصُلُ فِيهَا الْمِلْكُ فِيهِ بِالصِّيغَةِ بِلَا قَبْضٍ، لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمَلُّكٍ، فَيَحْصُلُ الْمِلْكُ فِيهِ بِالصِّيغَةِ كَالْبَيْعِ، فَيَقُولُ الْفَارِقُ: الْمُعَاوَضَةُ تَتَضَمَّنُ النُّزُولَ عَنْ الشَّيْءِ بِعِوَضٍ، فَتَضَمَّنَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ نُزُولٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَافْتَقَرَ إلَى الْقَبْضِ لِيَدُلَّ عَلَى الرِّضَا. فَهَذَا النَّوْعُ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. فَمَنْ رَدَّ الْمُعَاوَضَةَ فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ أَوْ أَحَدِهِمَا رَدَّهُ. وَقِيلَ بِقَبُولِهِ عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ، وَالْمُخْتَارُ قَبُولُهُ لِحَاجَةٍ. وَهِيَ مُنَاقَضَةٌ فِقْهِيَّةٌ لِلْجَمْعِ. ثُمَّ أَتَى الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلَامٍ جَامِعٍ فَقَالَ: الْفَرْعُ وَالْجَمْعُ إنْ ازْدَحَمَا عَلَى أَصْلٍ وَفَرْعٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَالْمُخْتَارُ فِيهِ عِنْدَنَا اتِّبَاعُ الْإِحَالَةِ. فَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ أَصْلًا عَلَّلَ الْجَمْعَ وَعَكْسَهُ، وَإِنْ اسْتَوَيَا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ هُنَا بِالْعِلَّتَيْنِ الْمُتَنَاقِضَتَيْنِ وَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى صِيغَةِ التَّسَاوِي أَمْكَنَ أَنْ يُقَدَّمَ الْجَمْعَ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ

الْفَرْقِ بَعْدَهُ غَيْرَ مُنَاقِضٍ لَهُ (قَالَ) : وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْفَرْقُ لَا يُحِيطُ فِيهِ الْجَمْعُ بِالْكُلِّيَّةِ. فَإِنْ أَبْطَلَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مِنْ الْجَمْعِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَيَكُونُ مَقْبُولًا قَطْعًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ أَبَانَ الْفَرْقُ أَنَّ الْجَامِعَ طَرْدِيٌّ فَلَا خِلَافَ فِي قَبُولِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ خِلَافٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِرَدِّ الطَّرْدِيِّ. وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فَفِيهِ مَذْهَبَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ مَرْدُودٌ مُطْلَقًا. وَ (ثَانِيهُمَا) أَنَّهُ مَقْبُولٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ: فَقِيلَ: لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ فَرْقًا، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُعَارَضَةً، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ الْمُعَارَضَةَ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ أَضْعَفُ سُؤَالٍ يُذْكَرُ، وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْئِلَةِ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ سُؤَالَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سُرَيْجٍ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مُعَارَضَةِ عِلَّتِهِ لِلْأَصْلِ بِعِلَّةٍ، ثُمَّ مُعَارَضَةُ عِلَّتِهِ لِلْفَرْعِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي جَانِبِ الْفَرْعِ. وَالْمُخْتَارُ - كَمَا قَالَهُ فِي " الْمَنْخُولِ " - أَنَّهُ سُؤَالٌ وَاحِدٌ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْفَرْقُ وَإِنْ تَضَمَّنَ الْإِشْعَارَ بِمَنْعِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ وَدَعْوَى عِلَّةٍ أُخْرَى فِيهِ وَمُعَارَضَةٍ فِي الْفَرْعِ بِعَكْسِ الْمُدَّعِي فِي الْأَصْلِ. إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْفَارِقُ وَصْفًا آخَرَ فِي جَانِبِ الْفَرْعِ عِنْدَ عَكْسِهِ فَيَكُونُ مُعَارِضًا وَتَتَعَدَّدُ. وَالْمُخْتَارُ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ، قَبُولُ فُرُوقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، إذْ قَدْ لَا يُسَاعِدُ الْفَارِقَ فِي الْفَرْقِ الْإِتْيَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مُتَنَاوِلٍ لِجَمِيعِ الْأُصُولِ. وَقَدْ ذَكَرَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي قَبُولِ الْفَرْقِ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَنْبَطَتَيْنِ. فَمَنْ جَوَّزَهُ قَالَ: لَا يَقْدَحُ الْفَرْقُ فِي الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَفْسُدُ قِيَاسُهُ وَلَا جَمْعُهُ بِعِلِّيَّةِ الْفَرْقِ لِجَوَازِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى. وَمَنْ مَنَعَهُ فَهُوَ قَائِلٌ بِالْعَكْسِ فَيَقْدَحُ الْفَرْقُ حِينَئِذٍ وَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْقَائِلُ بِأَنَّ الْحُكْمَ يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجْعَلَ جَوَابًا عَنْ الْفَرْقِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ عَدَمَ إشْعَارِهِ بِإِثَارَةِ الْفَرْقِ وَيُرَجِّحَ مَسْلَكَ الْجَامِعِ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ.

مَسْأَلَةٌ إذَا فَرَّقَ الْمُفَرِّقُ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعْكِسَ ذَلِكَ فِي الْفَرْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَبِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ يَجُوزُ ثُبُوتُهُ بِعِلَّتَيْنِ، قَالَ أَبُو الْخَيْرِ بْنُ جَمَاعَةَ الْمَقْدِسِيُّ فِي " الْفُرُوقِ " وَمَثَّلَهُ بِقِيَاسِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، حَتَّى قَالُوا: ذِكْرٌ لَا يُجْهَرُ بِهِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ فَلَمْ يَجِبْ، كَتَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: التَّسْبِيحُ يُشْرَعُ فِي رُكْنٍ هُوَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ، فَلِهَذَا كَانَ وَاجِبًا. مَسْأَلَةٌ وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ فِي أَنَّ " الْفَرْقَ مُعَارَضَةٌ أَوْ مَقْبُولٌ لِنَفْسِهِ " أَنَّهُ إذَا أَبْدَى الْفَارِقُ مَعْنًى فِي الْأَصْلِ مُغَايِرًا لِمَعْنَى الْمُعَلِّلِ وَعَكْسِهِ فِي الْفَرْعِ، وَرَبَطَ بِهِ الْحُكْمَ مُنَاقِضًا لِحُكْمِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ. فَفِي اشْتِرَاطِ رَدِّ مَعْنَى الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَرُدَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ إلَى الْأَصْلِ، وَعِلَّةَ الْفَرْعِ إلَى أَصْلٍ. وَذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ. وَنُقِلَ عَنْ الْأُسْتَاذِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ فَيَنْبَغِي اشْتِمَالُهَا عَلَى عِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَعَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ مَرْدُودٌ. فَقَالَ الْقَاضِي: مَذْهَبِي قَبُولُ الِاسْتِدْلَالِ، وَلَوْ كُنْت مِنْ الْقَائِلِينَ بِإِبْطَالِ الِاسْتِدْلَالِ لَقَبِلْته عَلَى أَنَّهُ فَرْقٌ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ يُقْبَلُ لِخَاصِّيَّتِهِ وَهُوَ الْمُنَاقَضَةُ، وَهَذَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ إلَى أَصْلٍ. وَمَا أَظْهَرَهُ الْفَارِقُ لَا أَصْلَ لَهُ.

وَالثَّانِي: لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، لَا فِي الْأَصْلِ وَلَا فِي الْفَرْعِ، وَنُسِبَ لِلْجُمْهُورِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ، وَبَنَاهُ الْإِمَامُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ الْجَمْعِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، وَبَنَاهُ الْغَزَالِيُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ مَقْبُولٌ، وَنَقَلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ فِي تَفَاصِيلَ ذَكَرَهَا فِي " الْمَنْخُولِ ". وَالثَّالِثُ: يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي عِلَّةِ الْفَرْعِ دُونَ الْأَصْلِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، أَيْ إنْ كَانَ الْفَرْقُ بِذِكْرِ وَصْفٍ فِي الْفَرْعِ انْقَطَعَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَصْلٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ إذَا عَكَسَهُ فِي الْفَرْعِ انْقَطَعَ الْجَمْعُ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ الظَّنُّ. وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ الْفَرْقُ عَلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَصْلٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قِيَاسِ الْمَعْنَى احْتَاجَ إلَيْهِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْفَرْقَ فِي الْفَرْعِ إنْ كَانَ يُخِلُّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَصْلٍ، وَإِنْ لَمْ يُخِلَّ افْتَقَرَ إلَى أَصْلٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إثْبَاتِ الْحُكْمِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَرُدَّ كُلًّا مِنْهَا إلَى أَصْلٍ كَانَ مُدَّعِيًا فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عِلَّتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ، وَمُسَلِّمًا لِعِلَّةِ الْمَسْئُولِ، وَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ، وَالْمُتَعَدِّيَةُ أَوْلَى مِنْ الْوَاقِفَةِ، فَكَأَنَّهُ عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِدُونِ دَلِيلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكْفِي فِي الْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَوْ رَجَحَ دَلِيلُهُ عَلَى مُعَارَضَةِ السَّائِلِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ التَّرْجِيحِ لَحُكِمَ لَهُ بِالسَّبْقِ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذِهِ الْمَذَاهِبَ الْبَاجِيُّ وَأَبُو الْخَيْرِ بْنُ جَمَاعَةَ فِي كِتَابِهِ " الْوَسَائِلِ ". فَرْعٌ: فَإِنْ شَرَطْنَا رَدَّ مَعْنَى الْفَرْعِ فِي الْفَرْقِ إلَى أَصْلٍ، فَلَوْ أَبْدَاهُ فِي الْأَصْلِ فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إلَى أَصْلٍ آخَرَ، فَيَحْتَاجُ الْفَرْعُ وَالْأَصْلُ إلَى أَصْلَيْنِ، لِأَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ، بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مُضَادَّةُ الْجَامِعِ فِيهِمَا كَالْمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَلَوْ قُلْنَا بِالِاحْتِيَاجِ إلَى أَصْلٍ لَقَبِلْنَا

الْمُعَارَضَةَ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ بِأَصْلٍ آخَرَ وَيَسْتَمِرُّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَهُوَ بَاطِلٌ. هَذَا إذَا أَبْدَى مَعْنًى فِي الْأَصْلِ وَعَكْسَهُ فِي الْفَرْعِ. فَلَوْ عَكَسَ الْفَارِقُ فِي الْفَرْعِ مَعْنَى الْأَصْلِ فَلَمْ يُنَاقِضْ فِقْهُ الْعَكْسِ فِقْهَ الْجَمْعِ، أَوْ نَاقَضَهُ عَلَى بُعْدٍ، فَاحْتَاجَ إلَى مَزِيدٍ فِي الْفَرْعِ، فَاخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِيهِ: فَمَنْ اعْتَقَدَ الْفَرْقَ مُعَارَضَةً لَمْ يَمْنَعْ الزِّيَادَةَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّمَا هُوَ مَعْنًى يُضَادُّ الْجَامِعَ اكْتَفَى بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ وَنَفْيِهِ فِي الْفَرْعِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي الْفَرْعِ لَيْسَ لَهَا فِي جَانِبِ الْأَصْلِ ثُبُوتٌ، فَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا. مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مِنْ الْقَوَادِحِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ مِنْ تَمَامِهِ وَلَوَازِمِهِ نَفْيُهُ عَنْ الْفَرْعِ أَمْ لَا؟ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْفَارِقِ، لِأَنَّ قَصْدَهُ افْتِرَاقُ الصُّورَتَيْنِ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ: وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ: إنْ صَرَّحَ فِي إيرَادِ الْفَرْقِ بِالِافْتِرَاقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِهِ عَنْهُ، وَإِلَّا فَإِنْ قَصَدَ أَنَّ دَلِيلَهُ غَيْرُ قَائِمٍ فَلَا يَجِبُ. هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ وَاحِدًا. وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا فَقِيلَ: يُمْنَعُ ذَلِكَ لِإِفْضَائِهِ إلَى انْتِشَارِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلتَّقْوِيَةِ. ثُمَّ الْمُجَوِّزُونَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ إذَا فَرَّقَ الْمُعْتَرِضُ بَيْنَ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَبَيْنَ الْفَرْعِ هَلْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ أَمْ لَا بَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؟ فَقِيلَ: يَكْفِيهِ ذَلِكَ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ إلْحَاقَ الْفَرْعِ بِتِلْكَ الْأُصُولِ بِأَسْرِهَا غَرَضُ الْمُسْتَدِلِّ، وَإِلَّا لَمْ يُعَدِّدْهُ، وَهُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ ضَرُورَةً أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُلْحَقًا بِالْأَصْلِ الَّذِي فَرَّقَ الْمُعْتَرِضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْعِ. وَقِيلَ: لَا يَكْفِيهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ. وَالْقَائِلُونَ بِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَرْقُ وَاحِدًا لِئَلَّا يَنْتَشِرَ الْكَلَامُ أَمْ يَجُوزُ تَعَدُّدُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: أُولَاهُمَا الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ فِي الْأَكْثَرِ فَيَلْزَمُ سَدُّ بَابِ

مسألة شروط الفرق

الْقَدْحِ عَلَى الْمُعْتَرِضِ. ثُمَّ إذَا ذَكَرَ الْمُعْتَرِضُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأُصُولِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ مُتَعَدِّدًا، فَهَلْ يَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْأُصُولِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ شُرُوط الْفَرْقِ] مَسْأَلَةٌ لِلْفَرْقِ شُرُوطٌ أَحَدُهَا: أَنْ يُرَدَّ إلَى أَصْلٍ، عَلَى مَا سَيَأْتِي مِنْ الْخِلَافِ. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ أَخَصَّ مِنْ الْجَمْعِ. فَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ أَعَمَّ مِنْهُ فَالْجَمْعُ الْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفَرْقِ الْعَامِّ. فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ يُوجِبُ الِافْتِرَاقَ إلَّا إذَا تَرَجَّحَ الْجَمْعُ عَلَى الْفَرْقِ. وَمِثَالُ الْفَرْقِ الْعَامِّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِفَاسِقَيْنِ: إذَا قِسْنَا عَلَى حُضُورِ الصَّبِيِّ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: بَعْدَ الْبُلُوغِ لَوْ أَعَادَ شَهَادَتَهُ الْمَرْدُودَةَ دُونَ الصَّبِيِّ قُبِلَتْ، بِخِلَافِ الْفَاسِقِ. فَهَذَا فَرْقٌ لَا يُشْعِرُ بِمَا هُوَ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يُعَارِضُ الدَّلِيلَ الْمُشْعِرَ بِحُكْمِهَا. ثَالِثُهَا: أَنْ لَا يَحْتَاجَ الْفَارِقُ إلَى زِيَادَةِ أَمْرٍ فِي جَانِبِ الْفَرْعِ إذَا عَكَسَهُ، فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَ زِيَادَةً كَانَ جَمْعًا بَيْنَ مُعَارَضَةٍ فِي الْأَصْلِ وَمُعَارَضَةٍ فِي الْفَرْعِ، كَقَوْلِنَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ: حَقٌّ مَالِيٌّ لَازِمٌ يَجْرِي الْإِرْثُ فِيهِ، كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: خِيَارُ الْعَيْبِ مُعْتَاضٌ عَنْهُ وَلَيْسَ بِوَثِيقَةٍ، احْتِرَازًا عَنْ الرَّهْنِ. فَهَذَا بَاطِلٌ. رَابِعُهَا: أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا اعْتَبَرَ الْفَرْعَ بِأُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ، هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ مُتَّحِدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأُصُولِ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَنْبَنِي عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَإِذَا جَازَ فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَرْقِ -

مَعَ اتِّحَادِهِ - مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الْأُصُولِ؟ فِيهِ خِلَافٌ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْفَرْقُ فِي مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ مُتَّحِدٌ، فَالْفَرْقُ يَكُونُ مُتَّحِدًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بِفُرُوقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يُسَاعِدُ فِي الْغَالِبِ مَعْنًى وَاحِدٌ عَلَى الْفَرْقِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ. وَإِذَا قُلْنَا بِتَعْدِيدِ الْأُصُولِ، هَلْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفَرْقِ وَالْقَطْعِ عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِ؟ فِيهِ خِلَافٌ: مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، لِأَنَّ مَا بَقِيَ يَكْفِي لِبِنَاءِ الْفَرْعِ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمَّا ذَكَرَ الْأُصُولَ وَتَقَلَّدَ بِتَقْرِيرِهَا وَالذَّبَّ عَنْهَا فَطَرِيقُ الْفَارِقِ الْقَطْعُ عَنْ جَمِيعِهَا. مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْفَارِقِ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، كَقَوْلِهِ: مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ كَالْمُسْلِمِ. فَإِذَا وَقَعَ الْفَرْقُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَالْعِلَّةِ قُبِلَ وَوَقَعَ الْكَلَامُ فِي التَّرْجِيحِ وَتَقْرِيبِ الْأَشْبَاهِ إنْ كَانَ الْقِيَاسُ مَعْنَوِيًّا وَإِنْ جَرَى الْفَارِقُ عَلَى صِفَةِ إلْحَاقِ حُكْمٍ بِحُكْمٍ. فَهَذَا مِنْ الْفَارِقِ مُحَاوَلَةُ مُعَارَضَةِ الْمَعْنَى بِالشَّبَهِ، فَلَا يُقْبَلُ، لِأَنَّ أَدْنَى مَعَانِي الْمُنَاسَبَةِ يُقَدَّمُ عَلَى أَجْلَى الْأَشْبَاهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَلْ يَجُوزُ الْفَرْقُ بِالنَّصِّ؟ قَوْلَانِ؛ كَقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ» . قِيلَ: وَالْخِلَافُ يَتَنَزَّلُ عَلَى حَالَيْنِ: فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْفَرْقَ الْقِيَاسِيَّ الْمُتَضَمِّنَ الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ بِالنَّصِّ، لِجَوَازِ كَوْنِهِ بَعِيدًا، كَقَوْلِنَا: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ السَّبُعِ وَالْكَلْبِ وَالشَّاةِ حَتَّى كَانَ نَجِسًا مُحَرَّمَ الْبَيْعِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ جَائِزَةُ الْبَيْعِ؟ فَيُقَالُ: الشَّرْعُ مَنَعَ بَيْعَ الْكَلْبِ وَأَجَازَ بَيْعَ الشَّاةِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنْ لَا تَنَاسُبَ.

وَلَوْ عَكَسَ لَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَأَرَادَ بِهِ مُطْلَقَ الْفَرْقِ وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ حُكْمِ الصُّورَتَيْنِ بِدَلِيلٍ حَصَلَ لِحُصُولِ ذَلِكَ مِنْهُ وَلِجَمْعِهَا. وَأَعْنِي الْفَرْقَ النَّصِّيَّ وَالْقِيَاسِيَّ، وَيَكُونُ النَّصِّيُّ تَابِعًا لِلْقِيَاسِيِّ، كَحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَإِنَّ فِيهِ النَّظَرَ الْمَذْكُورَ وَالْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ وَهُوَ حُصُولُ الْمَشَقَّةِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ قُلْت: وَقَدْ قَالَ الْخَصْمُ لِلشَّافِعِيِّ فِي فَرْقِهِ بَيْنَ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ وَفَوْقَهُ فِي تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ فِي الْحَيْضِ: هَلْ تَجِدُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا سِوَى الْخَبَرِ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَيُّ فَرْقٍ أَحْسَنُ مِنْ الْخَبَرِ؟ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بِالنَّصِّ عِنْدَهُ مَقْبُولٌ فِي مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. مَسْأَلَةٌ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ "، فِي بَابِ الْعَيْبِ فِي الْمَنْكُوحَةِ: الْفَرْقُ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) يَقَعُ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ. وَ (الثَّانِي) يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَمَأْخَذَيْنِ. فَمَا ثَبَتَ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ يَثْبُتُ وَيَنْتَفِي وَيَنْعَكِسُ، وَمَا يَقَعُ بَيْنَ مَأْخَذَيْنِ يُبَيَّنُ مَأْخَذُ كُلِّ جِهَةٍ. ثُمَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الِانْفِصَالَ بِنَفْيَيْنِ وَإِثْبَاتَيْنِ (انْتَهَى) . وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى إيضَاحٍ، وَمَعْنَاهُ - كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْفَرْعَ الْوَاقِعَ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْقَائِسَ جَمَعَ بَيْنَ أَصْلٍ وَفَرْعٍ بِعِلَّةٍ، وَالْفَارِقُ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ بِعِلَّةٍ أُخْرَى يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ بِثُبُوتِهَا، وَيَنْتَفِي فِي الْفَرْعِ بِانْتِفَائِهَا. وَهَذَا مَعْنَى الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ، وَاقْتَصَرُوا فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ، لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي جَوَابِ الْقِيَاسِ، وَكُلٌّ مِنْ الْعِلَّةِ وَاقْتِضَائِهَا الْحُكْمَ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي وُجُودِهَا فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَعَدَمِهَا، هُوَ تَصْدِيقٌ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرٍ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي هُوَ الْوَاقِعُ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ لِيُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا وَيُبَيِّنَ اللُّبْسَ عَمَّنْ يَتَوَهَّمُ

أَنَّهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ بَيْنَ انْتِفَائِهَا لِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِيَتَمَيَّزَ ذَلِكَ وَيَنْتَفِيَ اللُّبْسُ عَمَّنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ مَأْخَذَ الْحُكْمَيْنِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ انْتِفَاءَ الْحَقِيقَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ يُوجِبُ الِانْفِصَالَ بِنَفْيَيْنِ وَإِثْبَاتَيْنِ، وَإِنَّهُ حَيْثُ انْتَفَى يَنْتَفِي الْحُكْمُ وَحَيْثُ. ثَبَتَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ، هُوَ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ كَالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، وَهُوَ أَكْثَرُ وَأَنْفَعُ مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ بِهِ تَتَمَيَّزُ الْحَقَائِقُ وَالْمَآخِذُ وَيُفْهَمُ تَرْتِيبُ الْفِقْهِ عَلَيْهَا. وَمِنْ هَذَا: الْفَرْقُ بَيْنَ حَقِيقَةِ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ فِي الرِّدَّةِ وَفَسْخِهِ بِالْعُيُوبِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُمَا حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنْ طَارِئٍ غَيْرِ مُسْتَنِدٍ إلَى أَمْرٍ مُقَارِنٍ، وَالثَّانِي مُسْتَنِدٌ إلَى مُقَارِنٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ رِدَّةِ الزَّوْجِ وَرِدَّةِ الزَّوْجَةِ، حَيْثُ كَانَتْ رِدَّةً مُنْتَظَرَةً بَيْنَهُمَا بِطَلَاقِهِ، وَرِدَّتُهَا حَيْثُ كَانَتْ هِيَ الْقَاطِعَةَ كَالرَّضَاعِ فَاخْتَلَفَ الْمَأْخَذُ. وَهَذَا كَثِيرٌ، وَفِيهِ صَنَّفَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ كِتَابَ " الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ ". وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. وَمَعْنَاهُ: الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ كَانَ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ فَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ مَحَلَّيْنِ فَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي. وَالْأَوَّلُ أَنْفَعُ وَأَفْقَهُ. وَيُمْكِنُ رَدُّ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي وَإِدْرَاجُهُ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْفَرْقُ أَبَدًا مَعْنًى فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ مَفْقُودٌ فِي الْأُخْرَى، لِأَنَّ النِّزَاعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ صُورَتَيْنِ، أَعْنِي فِي الْقِيَاسِ. فَالْفَارِقُ إنْ نَازَعَ فِي حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ أَوْ فِي اقْتِضَائِهَا فَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا تَمَّ لَهُ مَا ادَّعَاهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، لِافْتِرَاقِهِمَا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَإِنْ سَلَّمَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ وَاقْتِضَاءَهَا وَنَازَعَ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَالْفَرْعِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي. وَالْمَقْصُودُ بِالْفَرْقِ يَحْصُلُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. مَسْأَلَةٌ كُلُّ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ يُؤَثِّرُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْجَامِعَ أَظْهَرُ.

قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ ": فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَذِنَ بِهِ السَّيِّدُ: إنَّهُ لَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَكْتَفِيَ بِالْخَيَالَاتِ فِي الْفُرُوقِ، كَدَأْبِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْأَحْكَامِ مَجَالُ الظُّنُونِ عِلْمًا بِهَا، فَإِذَا كَانَ اجْتِمَاعُ مَسْأَلَتَيْنِ أَظْهَرَ فِي الظَّنِّ مِنْ افْتِرَاقِهِمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِاجْتِمَاعِهِمَا، وَإِنْ انْقَدَحَ فُرِّقَ عَلَى بُعْدٍ. قَالَ الْإِمَامُ: فَافْهَمُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ. وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بَعْدَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا - فَرْقًا مُؤَثِّرًا فَهَلْ يَكْفِي الْفَارِقُ فِي إثْبَاتِ مُخَالِفِ كُلِّ وَاحِدَةٍ الْأُخْرَى فِي الْحُكْمِ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ: هَلْ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَنْبَطَتَيْنِ؟ مِثَالٌ: إذَا قِيسَ الشِّطْرَنْجُ عَلَى النَّرْدِ فِي التَّحْرِيمِ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّرْدَ فِعْلُهُ مِنْ النَّقْصِ، وَالشِّطْرَنْجَ مِنْ الْفِكْرِ مَثَلًا، فَهَلْ يَكُونُ الْفَارِقُ دَلِيلًا عَلَى مُخَالَفَةِ الشِّطْرَنْجِ لِلنَّرْدِ فِي التَّحْرِيمِ لِيَكُونَ الشِّطْرَنْجُ حَلَالًا أَمْ لَا؟ إذَا عَرَفَ ذَلِكَ فَهَلْ يَسْمَعُ الْجَامِعَ بَعْدَ الْفَرْقِ؟ فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى أَنَّهُ: هَلْ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ؟ مِثَالُهُ: لَوْ خُيِّرَ الْجَامِعُ - بَعْدَ أَنْ فَرَّقَ الْفَارِقُ فِي الشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ بِمَا ذَكَرْنَا " بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اشْتَرَكَ فِي الْمَنْعِ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِاَللَّهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِ.

ذَكَرَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَفْرَدَهُ فِي " الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ ": إذَا تَمَّتْ الْمُنَاسَبَةُ بِشُرُوطِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا الْفُرُوقُ الْفَاسِدَةُ فَكَثِيرَةٌ: الْأَوَّلُ: الْفَرْقُ بِالْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ: كَمَا لَوْ قِيلَ: صَحَّ بَيْعُ الْحَبَشِيِّ فَيَصِحُّ بَيْعُ التُّرْكِيِّ، فَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هَذَا أَسْوَدُ وَذَلِكَ أَبْيَضُ لَكَانَ بَاطِلًا، فَإِنَّهُ لَوْ فَتَحَ بَابَ الْفَرْقِ بِذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ قِيَاسٌ أَصْلًا، لِأَنَّ مَا مِنْ صُورَتَيْنِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ. الثَّانِي: الْفَرْقُ بِنَوْعٍ اصْطَلَحُوا عَلَى رَدِّهِ: كَمَا لَوْ قِيلَ فِي الزَّانِي الْمُحْصَنِ يَجِبُ رَجْمُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَاعِزٍ. فَلَوْ قِيلَ: إنَّمَا وَجَبَ الرَّجْمُ هُنَاكَ تَطْهِيرًا لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي غَيْرِهِ لَكَانَ بَاطِلًا. الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بِكَوْنِ الْأَصْلِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَالْفَرْعِ مُخْتَلَفًا فِيهِ: كَمَا لَوْ قِيلَ: الْحَاجَةُ إلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الْبَالِغِ أَكْثَرُ مِنْهُ عَلَى الصَّبِيِّ، لِأَنَّهَا فِي الْبَالِغِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي الصَّبِيِّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَوْ اسْتَوَتْ الصُّورَتَانِ فِي الْمَصْلَحَةِ لَاسْتَوَتَا فِي الِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْفَرْقُ بِكَوْنِ الْأَصْلِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَالْفَرْعِ مُخْتَلَفًا فِيهِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْفَرْقُ بِذَلِكَ بَطَلَتْ الْأَقْيِسَةُ كُلُّهَا. مَسْأَلَةٌ مِمَّا ذُكِرَ عَلَى صُورَةِ الْفَرْقِ وَلَيْسَ فَرْقًا وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا لِلْعِلَّةِ - كَمَا قَالَ فِي " الْبُرْهَانِ " قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي اشْتِرَاطِ تَعَيُّنِ النِّيَّةِ: مَا تَعَيَّنَ أَصْلُهُ بِنَفْسِهِ

لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ، كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ. فَنَقُولُ: أَصْلُ النِّيَّةِ لَيْسَ شَرْعِيًّا فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهَذَا لَيْسَ فَرْقًا، بَلْ الْجَامِعُ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْصِيلِ النِّيَّةِ فَرْعُ تَسْلِيمِ أَصْلِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُرَاعِي التَّعْيِينَ مَعَ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِأَنَّ أَصْلَهَا عِنْدَهُ كَافٍ مُغْنٍ عَنْ التَّفْصِيلِ، فَكَيْفَ يَتَمَسَّكُ بِمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَصْلُ النِّيَّةِ

فصل في جواب الفرق

[فَصْلٌ فِي جَوَابِ الْفَرْقِ] قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَعْتَرِضُ عَلَى الْفَارِقِ مَعَ قَبُولِهِ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَا يَعْتَرِضُ بِهِ عَلَى الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَنَا، لَكِنَّهُ فِي صُورَةِ الْمُعَارَضَةِ وَتِلْكَ الصُّورَةُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ خَاصَّتِهِ. وَإِذَا بَطَلَ مُسْتَنِدُ الْفَرْقِ بَطَلَ الْفَرْقُ. فَأَمَّا مَنْ يُجَوِّزُ اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ فَلَا يُتَّجَهُ قَوْلُ الْفَارِقِ: أَقُولُ بِالْمَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّ الْفَرْقَ مُعَارَضَتَانِ، وَغَايَتُهُ أَنْ دَرَأَ أَحَدَهُمَا، وَقَدْ نَشَأَتْ عَنْهُمَا خَاصَّةُ الْمُنَاقَضَةِ وَهِيَ قَائِمَةٌ فَلْيَسْتَأْنِفْ الْجَوَابَ بِعَدَمِ إثَارَةِ الْفَرْقِ وَتَرْجِيحِ مَسْلَكِ الْجَامِعِ. مَسْأَلَةٌ إذَا اخْتَلَفَ الْمَوْضُوعُ فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مَبْنِيًّا عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْآخَرُ عَلَى التَّغْلِيظِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةٍ تُوجِبُ حُكْمًا آخَرَ، فَفِي إفْسَادِهِ الْعِلَّةَ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْبُيُوعِ: (أَحَدُهُمَا) : نَعَمْ، لِأَنَّ الْجَمْعَ يُوجِبُ التَّسَاوِيَ فِي الْحُكْمِ وَاخْتِلَافَ الْمَوْضُوعِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ. وَ (الثَّانِي) : لَا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مُسَاوِيًا لِأَصْلِهِ فِي حُكْمِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي عَمَلِهِ، لِأَنَّ تَسَاوِيَ الْأَحْكَامِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذِّرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ هِيَ الْوَارِدَةُ عَلَى الْعِلَّةِ، فَلِهَذِهِ بُدِئَ بِذِكْرِهَا. ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ بَقِيَّةَ الِاعْتِرَاضَاتِ فَنَقُولُ:

الثامن من الاعتراضات الاستفسار

[الثَّامِنُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الِاسْتِفْسَارُ] الثَّامِنُ: الِاسْتِفْسَارُ وَهُوَ مُقَدَّمُ الِاعْتِرَاضَاتِ، وَبِهِ بَدَأَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي جَمْعٍ. وَمَعْنَاهُ: طَلَبُ شَرْحِ مَعْنَى اللَّفْظِ إذَا كَانَ غَرِيبًا أَوْ مُجْمَلًا. وَيَقَعُ بِ (هَلْ) ، وَبِالْهَمْزَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُسْأَلُ بِهِ عَنْ التَّصَوُّرِ. فَيُسْتَفْسَرُ عَنْ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ. وَمَعْنَى الْمُقَدَّمَاتِ حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى مَوْضِعِ الْعِلَّةِ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ الِاسْتِفْسَارَ وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا فَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ، وَرُبَّمَا يَسْلَمُ الْمُعَانِدُ وَيَرْجِعُ إلَى الْمُوَافَقَةِ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْمُدَّعِي. وَالْأَصَحُّ أَنَّ بَيَانَ اشْتِمَالِ اللَّفْظِ عَلَى الْإِجْمَالِ وَالْقَرَابَةَ عَلَى الْمُعْتَرِضِ. وَقِيلَ: بَلْ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ، لِأَنَّ شَرْطَ ظُهُورِ الدَّلِيلِ انْتِفَاؤُهَا عَنْهُ. . . وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ تَفَاوُتِهِمَا، فَيُبَيِّنُ الْمُسْتَدِلُّ عَدَمَهَا أَوْ يُفَسِّرُ بِمُحْتَمَلٍ. وَفِي دَعْوَاهُ الظُّهُورَ فِي مَقْصُودِهِ دَفْعًا لِلْإِجْمَالِ لِعَدَمِ الظُّهُورِ فِي الْآخَرِ خِلَافٌ. فَإِنْ اشْتَهَرَ بِالْإِجْمَالِ، كَالْعَيْنِ وَالْقُرْءِ، فَلَا يَصِحُّ فِيهِ دَعْوَى الظُّهُورِ قَطْعًا. قَالَهُ الشَّرِيفُ. وَذَكَرَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي " النِّهَايَةِ " أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ احْتِمَالٌ أَصْلًا وَعَنِيَ بِهِ شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، فَقِيلَ: لَا يَسْمَعُ الْعِنَايَةَ لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِكَلَامِهِ؟ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَسْمَعُ، لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ نَاطِقٌ بِلُغَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ وَلَكِنْ بَعْدَمَا عَرَفَ الْمُرَادَ وَعَرَفَ اللُّغَةَ فَلَا يُلْجَأُ إلَى النَّاظِرِ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَرَجَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الْأَوَّلَ. وَقَالَ الْعَمِيدِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ التَّفْسِيرُ.

التاسع من الاعتراضات فساد الاعتبار

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي عَدِّ هَذَا مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ نَظَرًا، لِأَنَّهُ طَلِيعَةُ جَيْشِهَا وَلَيْسَ مِنْ أَقْسَامِهَا، إذْ الِاعْتِرَاضُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُخْدَشُ بِهِ كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ، وَالِاسْتِفْسَارُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، بَلْ هُوَ يَعْرِفُ الْمُرَادَ وَيُبَيِّنُ لَهُ لِيَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، فَإِذَا هُوَ طَلِيعَةُ السُّؤَالِ، فَلَيْسَ بِسُؤَالٍ. بَلْ حَكَى الْهِنْدِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْجَدَلِيِّينَ أَنْكَرَ كَوْنَهُ اعْتِرَاضًا، لِأَنَّ التَّصْدِيقَ فَرْعُ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمُنَازَعِ. تَنْبِيهٌ: أَطْلَقُوا أَنَّ عِلَّتَهُ الْبَيَانُ. وَهَذَا حَيْثُ لَا يَكُونُ الْمُعْتَرِضُ مُتَعَنِّتًا يَقْصِدُ تَغْلِيطَ خَصْمِهِ، فَإِنْ كَانَ اكْتَفَى مِنْهُ بِالْجَوَابِ الْمُجْمَلِ. وَهَذَا كَمَا حُكِيَ عَنْ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ الرُّوحِ، وَهُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقُرْآنِ، وَجِبْرِيلَ، وَعِيسَى، وَمَلَكٌ يُقَالُ لَهُ (الرُّوحُ) ، وَرُوحُ الْإِنْسَانِ. وَأَضْمَرُوا أَنَّهُ إنْ قَالَ لَهُمْ: الرُّوحُ مَلَكٌ قَالُوا: بَلْ هُوَ رُوحُ الْإِنْسَانِ. وَإِنْ قَالَ: رُوحُ الْإِنْسَانِ قَالُوا: بَلْ هُوَ مَلَكٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مُسَمَّيَاتِ الرُّوحِ، فَعَلِمَ اللَّهُ مَكْرَهُمْ فَأَجَابَهُمْ مُجْمِلًا كَسُؤَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّيَاتِ الْخَمْسَةِ وَغَيْرَهَا. هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْإِيضَاحِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ " وَقَالَ: هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي الْإِجْمَالِ، لَا أَنَّ حَقِيقَتَهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ، إذْ قَدْ دَلَّتْ قَوَاطِعُ الشَّرْعِ عَلَى تَعْيِينِهَا، فَقَدْ يُجْمِلُ الْمُسْتَدِلُّ لَفْظًا احْتِيَاطًا لِنَفْسِهِ فِي مَيْدَانِ النَّظَرِ، بِحَيْثُ إنْ تَوَجَّهَ سُؤَالُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْ اللَّفْظِ تَخَلَّصَ مِنْهُ بِتَعْيِينِ كَلَامِهِ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ. [التَّاسِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ] التَّاسِعُ: فَسَادُ الِاعْتِبَارِ وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ، لَا لِفَسَادٍ فِيهِ، بَلْ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ أَوْ الْإِجْمَاعَ، أَوْ كَانَ إحْدَى مُقَدِّمَاتِهِ كَذَلِكَ، أَوْ كَانَ الْحُكْمُ

العاشر من الاعتراضات فساد الوضع

مِمَّا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ، كَإِلْحَاقِ الْمُصَرَّاةِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْعُيُوبِ فِي حُكْمِ الرَّدِّ وَعَدَمِهِ وَوُجُوبِ بَدَلِ لَبَنِهَا الْمَوْجُودِ فِي الضَّرْعِ، أَوْ كَانَ تَرْكِيبُهُ مُشْعِرًا بِنَقِيضِ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ، وَإِنَّمَا يَنْقَدِحُ جَعْلُهُ اعْتِرَاضًا إذَا قُلْنَا بِتَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيمُ الْقِيَاسِ، وَعَنْ الْقَاضِي وُقُوفُ الِاسْتِدْلَالِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْقِيَاسُ فَاسِدَ الْوَضْعِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَجَوَابُهُ: لِلطَّعْنِ فِي مُسْتَنِدِهِ أَوْ مَنْعِ ظُهُورِهِ أَوْ التَّأْوِيلِ أَوْ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ أَوْ الْمُعَارَضَةِ بِنَصٍّ آخَرَ لِيَسْلَمَ الْقِيَاسُ أَوْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مِمَّا يَجِبُ تَرْجِيحُهُ عَلَى النَّصِّ بِوُجُوهِ التَّرْجِيحِ. [الْعَاشِرُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الْوَضْعِ] الْعَاشِرُ: فَسَادُ الْوَضْعِ بِأَنْ لَا يَكُونَ الدَّلِيلُ عَلَى الْهَيْئَةِ الصَّالِحَةِ لِاعْتِبَارِهِ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ، كَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ مِنْ وَضْعٍ يَقْتَضِي ضِدَّهُ، كَالضِّيقِ مِنْ التَّوَسُّعِ، وَالتَّخْفِيفِ مِنْ التَّغْلِيظِ، وَالْإِثْبَاتِ مِنْ النَّفْيِ، كَقَوْلِهِمْ فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ: لَفْظٌ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ كَلَفْظِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ أَنْ يَنْعَقِدَ هُوَ بِهِ، لَا عَدَمُ الِانْعِقَادِ وَكُلُّ فَاسِدِ الْوَضْعِ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، وَلَا يَنْعَكِسُ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُمَا

وَاحِدًا، وَهِيَ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: هُمَا سِيَّانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا وَقَالُوا: فَسَادُ الْوَضْعِ هُوَ أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى الْعِلَّةِ ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ. وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ هُوَ أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى الْعِلَّةِ خِلَافَ مَا يَقْتَضِيهِ. (انْتَهَى) . وَقِيلَ: فَسَادُ الْوَضْعِ هُوَ إظْهَارُ كَوْنِ الْوَصْفِ مُلَائِمًا لِنَقِيضِ الْحُكْمِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ. وَمِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ تَعَدُّدِ الْجِهَاتِ لِتَنَزُّلِهَا مَنْزِلَةَ تَعَدُّدِ الْأَوْصَافِ، وَعَنْ تَرْكِ حُكْمِ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ مُلَاءَمَةِ الْوَصْفِ لِلنَّقِيضِ دُونَ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ، إذْ هُوَ عِنْدَ فَرْضِ اتِّحَادِ الْجِهَةِ خُرُوجٌ عَنْ فَسَادِ الْوَضْعِ إلَى الْقَدْحِ فِي الْمُنَاسَبَةِ. وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ الْقَاضِي بِتَعْلِيقِ ضِدِّ الْمُقْتَضِي. وَقَالَ إلْكِيَا: هُوَ تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ عَلَى مَا يَجِبُ تَأَخُّرُهَا عَنْهُ، كَالْجَمْعِ فِي مَحَلٍّ فَرَّقَ الشَّرْعُ، أَوْ عَلَى الْعَكْسِ. كَمَا يُقَالُ لِلْحَنَفِيَّةِ: جَمَعْتُمْ فِي مَحَلٍّ فَرَّقَ الشَّرْعُ، إذْ قِسْتُمْ النَّفَقَةَ عَلَى السُّكْنَى فِي وُجُوبِهَا لِلْمَبْتُوتَةِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] مُطْلَقًا، وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَفَرَّقَ وَجَمَعْتُمْ. وَقَدْ عَدَّ الْقَاضِي هَذَا الِاعْتِرَاضَ مِنْ الْقَطْعِيَّاتِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: هُوَ يَجْرِي مِنْ الشَّهَادَةِ مَجْرَى فَسَادِ الْأَدَاءِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَيُمْكِنُ إيرَادُهُ عَلَى الطُّرُودِ، وَيَضْطَرُّ بِهِ الْمُعَلِّلُ إلَى إظْهَارِ التَّأْثِيرِ وَإِذَا ظَهَرَ التَّأْثِيرُ بَطَلَ السُّؤَالُ وَهَذَا طَرِيقٌ سَلَكَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَوْرَدَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ. وَيَرِدُ عِنْدَهُ اخْتِلَافُ مَوْضُوعِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مَبْنِيًّا عَلَى التَّخْفِيفِ، كَالتَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، وَيَكُونُ الْفَرْعُ مَبْنِيًّا عَلَى التَّغْلِيظِ، كَوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَيَرُومُ الْقَائِسُ أَنْ يُثْبِتَ

فِي الْفَرْعِ حُكْمًا مُخَفَّفًا، وَقَدْ بَانَ مِنْ اخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَهُوَ مِثْلُ النَّقْضِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ بِهِ طَرْدَهُ بَعْدَ صِحَّةِ عِلَّتِهِ، كَالشَّهَادَةِ إنَّمَا يَشْتَغِلُ بِتَعْدِيلِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ صِحَّةِ الْأَدَاءِ. وَهُوَ أَقْوَى مِنْ النَّقْضِ، لِأَنَّ الْوَضْعَ إذَا فَسَدَ لَمْ يَبْقَ إلَّا الِانْتِقَالُ. وَالنَّقْضُ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى الطَّرْدِ، وَالطَّرْدُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ الَّتِي ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فَلَا يَرِدُ هَذَا السُّؤَالُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: نَعَمْ، وَإِنْ كَانَ الطَّرْدُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِظْهَارُ التَّأْثِيرِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ السُّؤَالَ يَبْقَى، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مِثْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ، أَوْ يَقُولَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ تَأْثِيرٌ، فَلَا بُدَّ فِي الْجَوَابِ مِنْ نَقْلِ الْكَلَامِ إلَى ذَلِكَ وَبِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْعِلَّةِ. فَبِهَذَا الْوَجْهِ صَحَّحْنَا السُّؤَالَ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": فَسَادُ الْوَضْعِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الدَّلِيلِ دَالًّا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَمَنَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، إذْ لَا تَوَجُّهَ لَهُ، لِكَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَغَايُرِ فَسَادِ الْوَضْعِ وَفَسَادِ الِاعْتِبَارِ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ بَيَانُ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ عَلَى مُنَاقَضَةِ النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَعَمُّ وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُمَا لَيْسَ بِاعْتِرَاضَيْنِ زَائِدَيْنِ، فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ لِلنَّقِيضِ إنْ كَانَ الْمُعْتَرِضُ رَدَّ الِاسْتِشْهَادَ إلَى أَصْلِ

الْمُسْتَدِلِّ فَهُوَ (قَلْبٌ) ، وَإِنْ رَدَّهُ لِأَصْلٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَتْ جِهَتَا الْمُنَاسَبَةِ لِلنَّقِيضِ مُخْتَلِفَيْنِ فَهُوَ (مُعَارَضَةٌ) ، وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْجِهَةُ فَهُوَ (قَدْحٌ فِي الْمُنَاسَبَةِ) . وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْمُعْتَرِضَ إلَى أَصْلٍ وَالْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ فَهُوَ (مُعَارَضَةٌ لِمَعَانِي الْأُصُولِ بِالْمُرْسَلَاتِ) فَلَا تُسْمَعُ. وَأَمَّا فَسَادُ الِاعْتِبَارِ فَحَاصِلُهُ (مُعَارَضَةٌ) . فَإِنْ كَانَ التَّوْقِيفُ أَقْوَى أَوْ تَسَاوَيَا تَمَّتْ الْمُعَارَضَةُ، أَوْ أَضْعَفَ قُدِّمَ، عَلَى طَرِيقَةِ الْإِمَامِ. الثَّانِي: نَقْلُ خِلَافٍ فِي اسْتِعْمَالِ السُّؤَالِ عَلَى مُوَافَقَةِ النَّصِّ، هَلْ يَكُونُ فَسَادَ وَضْعٍ أَمْ لَا؟ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فَلَا حَاصِلَ عِنْدِي لِهَذَا الْخِلَافِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ إلَّا عَلَى تَفْسِيرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ أَحَدَهُمَا، أَمَّا إذَا سَبَقَ إلَى الْفِكْرِ الظَّنُّ بِأَحَدِهِمَا اسْتَحَالَ أَنْ تَظُنَّ بِالْآخَرِ ظَنًّا آخَرَ مُجَامِعًا لِلْأُولَى. انْتَهَى. وَهَذَا خِلَافُ طَرِيقَةِ النَّاسِ الْمَشْهُورَةِ وَأُوِّلَ إطْلَاقُ الْعُلَمَاءِ بِاجْتِمَاعِ الْعِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ إذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ كَفَى فِي حُصُولِ الْغَرَضِ. الثَّالِثُ: قَدْ يُورَدُ هَذَا السُّؤَالُ عَلَى قَوَاعِدِ أَصْحَابِنَا فِي قِيَاسِ الْعَامِدِ عَلَى النَّاسِي فِي تَرْكِ التَّسْمِيَةِ، وَفِي جَبْرِ الصَّلَاةِ بِالسُّجُودِ، وَفِي قَضَائِهَا عِنْدَ التَّرْكِ، وَفِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَيُقَالُ: كَيْفَ يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ مَعَ أَنَّ الشَّرْعَ عَذَرَ النَّاسِيَ وَرَفَعَ التَّكْلِيفَ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْذِرْ الْعَامِدَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إعْذَارِ النَّاسِي إعْذَارُ الْعَامِدِ. وَقَدْ كَثُرَ التَّشْنِيعُ عَلَيْنَا فِي هَذَا، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْعَمْدَ يُفَارِقُ النِّسْيَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِثْمِ وَعَدَمِهِ. فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، أَوْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَالْإِيجَابِ وَعَدَمِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الطَّهَارَةَ عَمْدًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَكَذَلِكَ نَاسِيًا. وَكَذَلِكَ تَرْكُ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَأْمُورَاتِ. وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا فِي الْمَنْهِيَّاتِ. وَقَدْ يُورِدُ أَيْضًا قِيَاسَ الْمُخْطِئِ عَلَى الْعَامِدِ فِي إيجَابِ كَفَّارَةِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِهَا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

الحادي عشر من الاعتراضات المنع

{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25] الْآيَةَ فَذَكَرَ الْجَلْدَ فِي إحْصَانِهِنَّ الَّذِي هُوَ أَعْلَى لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ الْجَلْدُ. وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْعَمْدِ لِيُنَبِّهَ عَلَى قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَالتَّنْصِيصَ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَلَى الْخَطَأِ لِيُنَبِّهَ عَلَى خَطَأِ الْعَمْدِ. وَ (الثَّانِي) أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الْعَمْدَ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي الْعَوْدِ فَقَالَ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] وَلَا يُمْكِنُ الْعُقُوبَةُ إلَّا فِي حَقِّ الْعَامِدِ. [الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْمَنْعُ] الْحَادِيَ عَشَرَ: الْمَنْعُ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْمُمَانَعَةُ أَرْفَعُ سُؤَالٍ عَلَى الْعِلَلِ. وَقِيلَ: إنَّهَا أَسَاسُ الْمُنَاظَرَةِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ الْعُوَارُ (انْتَهَى) . وَيَتَوَجَّهُ عَلَى الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ: أَمَّا الْأَصْلُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا - مَنْعُ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا: بِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَنْقَسِمُ بِالِاتِّفَاقِ إلَى مَا يُعَلَّلُ وَإِلَى مَا لَا يُعَلَّلُ، فَمَنْ ادَّعَى تَعْلِيلَ شَيْءٍ كُلِّفَ بَيَانَهُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا فَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّمَا يَتَّجِهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَذْكُرْ تَحْرِيرًا، فَإِنَّ الْفَرْعَ فِي الْعِلَّةِ الْمُجَرَّدَةِ يَرْتَبِطُ بِالْأَصْلِ بِمَعْنَى الْأَصْلِ. قَالَ إلْكِيَا: هَذَا الِاعْتِرَاضُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ إذَا أَتَى بِالْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا السُّؤَالِ مَعْنًى، وَقَبْلَ الْعِلَّةِ لَا يَكُونُ آتِيًا بِالدَّلِيلِ إلَّا أَنْ يَبْقَى (تَقْسِيمًا وَسَبْرًا) .

وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَنْعَ كَوْنُ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا لَا يَرِدُ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُحَرِّرَ الْمُسْتَدِلُّ الْعِبَارَةَ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يُحَرِّرْهَا لَمْ يُرِدْ عَلَيْهِ الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى مَذْكُورٍ، وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا، بَلْ قَوْلُهُ: أَجْمَعْنَا عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلْيُحَرَّمْ النَّبِيذُ، فَهَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ، فَلَا يَتَّجِهُ مَنْعُ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلِّلًا، بَلْ لَا يُخَاطِبُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالْجَامِعِ. وَإِنْ حَرَّرَ فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يُسَلَّمَ لَهُ كَوْنُ مَا ادَّعَاهُ عِلَّةً أَوْ لَا. فَإِنْ سَلَّمَ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْأَصْلِ مُعَلِّلًا، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَنْعُ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لَا مَنْعُ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي مَنْعِ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا: هَلْ يُقْبَلُ أَمْ لَا؟ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا، وَهِيَ أَنَّا: هَلْ نَحْتَاجُ فِي كُلِّ صُورَةٍ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مُعَلَّلٌ؟ أَوْ يُكْتَفَى بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ مُعَلَّلَةٌ. وَالْحَقُّ هُوَ الثَّانِي، لِاسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ التَّعْلِيلُ، فَالْمُطَالَبَةُ بِكَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَالْمُطَالَبَةِ بِكَوْنِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ حُجَّةً، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ هِيَ الْمُسْقِطَةُ لِهَذَا الِاعْتِرَاضِ. لَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَنَّ الْمُسْقِطَةَ لَهُ الْكِفَايَةُ عَنْهُ بِتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الْمُعَيِّنَةِ، فَمَتَى صَحَّتْ لَزِمَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا ضَرُورَةَ لُزُومِ الْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُصَحِّحُ لِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً مَثَلًا، الْمُنَاسَبَةُ وَالْجَرَيَانُ، لَا بِالذَّاتِ، وَلَكِنْ بِالشَّرْعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ وَالْجَرَيَانِ كَوْنُ الْمُنَاسَبَةِ عِلَّةً، فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا لَوْلَا قِيَامُ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ بِالْأَوْصَافِ الْمُقَارِنَةِ لَهَا بِشَرْطِهَا. الثَّانِي - مَنْعُ مَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ أَنَّهُ عِلَّةُ كَوْنِهِ عِلَّةً، بَعْدَ تَسْلِيمِ التَّعْلِيلِ، وَيُسَمَّى الْمُطَالَبَةُ أَيْ بِتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ. وَإِذَا أُطْلِقَتْ الْمُطَالَبَةُ فِي عُرْفِ الْجَدَلِيِّينَ فَمُرَادُهُمْ هَذَا، وَحَيْثُ أُرِيدَ غَيْرُهَا ذُكِرَتْ مُقَيَّدَةً، فَيُقَالُ: الْمُطَالَبَةُ بِوُجُودِ الْوَصْفِ أَوْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَنَحْوُهُ. وَوَجْهُ الِاعْتِرَاضِ بِهِ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِمَا لَا يَصْلُحُ كَوْنُهُ عِلَّةً، فَيَجْعَلُهُ كَالتَّمَسُّكِ بِالطَّرْدِ

أَوْ بِالنَّفْيِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهِيَ عَائِدَةٌ إلَى مَحْضِ الْفِقْهِ، وَبِهَا يَتَبَيَّنُ الْمُحَقِّقُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ، لِعُمُومِ وُرُودِهِ عَلَى كُلِّ وَصْفٍ، وَاتِّسَاعِ طُرُقِ إثْبَاتِهِ وَتَشَعُّبِهَا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَالْمُخْتَارُ قَبُولُهُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَامِعٍ هُوَ عِلَّةٌ. وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَ لَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِمَا يُمْكِنُ مَنْعُ الْمُنَاسَبَةِ فِيهِ، وَيَتَسَلْسَلُ وَبِأَنَّا لَوْ لَمْ نَجِدْ إلَّا هَذِهِ الْعِلَّةَ فَعَلَى الْمُعْتَرِضِ الْقَدْحُ فِيهَا وَبِأَنَّ الِاقْتِرَانَ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ. وَأُجِيبَ عَنْ (الْأَوَّلِ) بِأَنَّهُ إذَا ذُكِرَ مَا يُفِيدُ ظَنَّ التَّعْلِيلِ وَجَبَ التَّسْلِيمُ وَلَا يَتَسَلْسَلُ. وَعَنْ (الثَّانِي) الطَّعْنُ بِالِاسْتِقْرَاءِ. وَعَنْ (الثَّالِثِ) مَنْعُ الِاكْتِفَاءِ بِالِاقْتِرَانِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: أَطْلَقَ الْجَدَلِيُّونَ هَذَا الْمَنْعَ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ - بِمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَإِنْ كَانَتْ وَجَوَّزْنَا بِهَا، فَمَنَعَ الْمُعْتَرِضُ وُجُودَ الْحُكْمِ الْمَنْصُوبِ عِلَّةً اتَّجَهَ فِي قَبُولِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ الْخِلَافُ الْآتِي فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ إذَا مَنَعَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَرِضَ لَا يُمَكَّنُ مِنْ تَقْرِيرِ الْعِلَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى نَقِيضِ مَا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْمَنْعِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ صِيغَةَ الْمُطَالَبَةِ بِتَصْحِيحِ الْوَصْفِ لَا تَتَضَمَّنُ إنْكَارًا وَلَا تَسْلِيمًا، بِخِلَافِ الْمَنْعِ فَإِنَّ الْمَانِعَ جَازِمٌ يَنْفِي مَا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ، فَكَانَ لِتَقْرِيرِهِ وَجْهٌ، نَعَمْ، لَوْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ بِصِيغَةِ الْمَنْعِ كَقَوْلِهِ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ عِلَّةٌ، جَاءَ الْخِلَافُ، فَيُمْكِنُ مِنْ التَّقْرِيرِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِقْهٌ وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْمَنْعَ وَالْمُطَالَبَةَ مُتَسَاوِيَانِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لِكُلِّ مِنْهُمَا الْتِمَاسٌ، فَمَا جَرَى فِي أَحَدِهِمَا جَرَى فِي الْآخَرِ.

فَصْلٌ قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَجْمُوعُ مَا رَأَيْت أَهْلَ الزَّمَانِ يَقُولُونَ عَلَيْهِ عَلَى دَفْعِ هَذَا السُّؤَالِ سَبْعَةُ مَسَالِكَ: الْأَوَّلُ - قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْقِيَاسُ رَدُّ فَرْعٍ مُنَازَعٍ فِيهِ إلَى أَصْلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بِجَامِعٍ، وَقَدْ حَصَلَ. قُلْنَا: لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَغْلِبَ الْجَامِعُ ظَنَّ صِحَّتِهِ، إمَّا بِإِخَالَةٍ أَوْ شِبْهٍ مُعْتَبَرٍ، وَلَمْ يُوجَدْ. الثَّانِي - قَوْلُهُمْ: عَجْزُ الْمُعْتَرِضِ عَنْ إبْطَالِ الْعِلَّةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهَا، وَهُوَ بَاطِلٌ لِلُزُومِهِ صِحَّةَ كُلِّ دَلِيلٍ وُجِدَ فِيهِ عَجْزُ الْمُعْتَرِضِ. الثَّالِثُ - قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنِّي بَحَثْتُ وَسَبَرْتُ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ هَذَا الْوَصْفِ عِلَّةً. قُلْنَا: ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا بِالْعِلِّيَّةِ. الرَّابِعُ - قَوْلُ بَعْضِهِمْ: لَوْ قُبِلَ سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ لَتَسَلْسَلَ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ دَلِيلٍ يَذْكُرُهُ الْمُسْتَدِلُّ إلَّا وَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ. قُلْنَا: إذَا بَيَّنَ أَنَّ أَصْلَ قِيَاسِهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ عِلَّتَهُ ثَابِتَةٌ بِطَرِيقٍ مُعْتَبَرٍ انْقَطَعَتْ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ، أَمَّا مَا دَامَ مُتَحَكِّمًا بِالدَّعْوَى فَلَا. الْخَامِسُ - قَوْلُ بَعْضِهِمْ: حَاصِلُ هَذَا السُّؤَالِ يَرْجِعُ إلَى مُنَازَعَةٍ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ، وَعِلَّةُ الْأَصْلِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُتَنَازَعًا فِيهَا، حَتَّى يُتَصَوَّرَ الْخِلَافُ فِي الْفَرْعِ. قُلْنَا: لَسْنَا نُطَالِبُك بِعِلَّةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، بَلْ بِأَنْ تَنْصِبَ دَلِيلًا عَلَى مُدَّعَاك وَلَا تَقْتَصِرَ عَلَى التَّحَكُّمِ. السَّادِسُ - قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الَّذِي ذَكَرْته شَبَهٌ، وَالشَّبَهُ حُجَّةٌ. قُلْنَا: فَعَلَيْك بَيَانُ الشَّبَهِ.

السَّابِعُ - قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الدَّلِيلُ عَلَى عِلِّيَّةِ الْجَامِعِ اطِّرَادُهَا وَسَلَامَتُهَا عَنْ النَّقْضِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّرْدَ حُجَّةٌ (انْتَهَى) . وَإِنَّمَا الطَّرِيقُ فِي جَوَابِهِ الِاسْتِدْلَال عَلَى تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِهَا. الثَّالِثُ - مَنْعُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ: كَقَوْلِنَا فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ: مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَا يُزِيلُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ، كَالدُّهْنِ. فَيَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدُّهْنَ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بَلْ يُزِيلُهَا عِنْدِي. وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ انْقِطَاعٌ لِلْمُسْتَدِلِّ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا - أَنَّهُ انْقِطَاعٌ: لِأَنَّهُ إنْ شُرِعَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ كَانَ انْتِقَالًا لِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُشْرَعْ لَمْ يَتِمَّ دَلِيلُهُ. وَالثَّانِي - أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ إذَا دَلَّ عَلَى مَحَلِّ الْمَنْعِ: جَزَمَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وَالْبَرَوِيُّ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ النُّظَّارِ. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، لِأَنَّ دَلَالَتَهُ تَتْمِيمٌ لِمَقْصُودِهِ لَا رُجُوعَ عَنْهُ، بَلْ هُوَ تَثْبِيتُ رُكْنِ قِيَاسِهِ، فَهُوَ حُكْمُ الْأَصْلِ، كَمَا يَبْحَثُ فِي تَحْقِيقِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْعِ سَائِرِ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ. وَالثَّالِثُ - إنْ كَانَ الْمَنْعُ جَلِيًّا فَهُوَ انْقِطَاعٌ، أَوْ خَفِيًّا، أَيْ يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ فَلَا، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَنَقَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْهُ فِي الْمَنْعِ: الظَّاهِرُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْهُ فِي صَدْرِ الِاسْتِدْلَالِ هَذِهِ الشَّرِيطَةُ بِأَنْ يَقُولَ: إنْ سَلَّمْت وَإِلَّا نَقَلْت الْكَلَامَ إلَيْهِ فَلَا يَنْقَطِعُ. وَالرَّابِعُ - يَتَّبِعُ عُرْفَ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمُنَاظَرَةُ: فَإِنَّ الْجَدَلَ مَرَاسِيمُ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُ الْعُرْفِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ.

وَالْخَامِسُ - إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُدْرَكٌ غَيْرُهُ جَازَ الْقِيَاسُ، وَإِلَّا إنْ كَانَ الْمَنْعُ خَفِيًّا لَمْ يَنْقَطِعْ، وَإِلَّا انْقَطَعَ. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ فِي غَايَةِ الْأَمَلِ ". ثُمَّ إذَا قُلْنَا: لَا يَنْقَطِعُ، فَهَلْ يَلْزَمُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ؟ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّمَا قِسْتُ عَلَى أَصْلِي وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ إنْ قَصَدَ إثْبَاتَهُ لِنَفْسِهِ فَلَا وَجْهَ لِلْمُنَاظَرَةِ، وَإِنْ قَصَدَ إثْبَاتَهُ عَلَى خَصْمِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ مَنْعُ مَنْعِهِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ. وَوَهَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ فَحَكَى عَنْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى دَلَالَةٍ عَلَى مَحَلِّ الْمَنْعِ. وَالْمَوْجُودُ فِي الْمُلَخَّصِ " وَغَيْرِهِ لِلشَّيْخِ سَمَاعُ الْمَنْعِ. ثُمَّ إذَا قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ، فَإِنْ اسْتَدَلَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَذَاكَ، أَوْ بِقِيَاسٍ فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْجَامِعِ الْأَوَّلِ، فَقِيلَ: لَا يَصِيرُ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّهُ طُولٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ إظْهَارَ فِقْهِ الْمَسَائِلِ وَالتَّدْرِيبَ فِيهَا وَتَكْثِيرَ الْأُصُولِ الدَّالَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَصْفِ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ فَقَالَ الْبَرَوِيُّ: يَصِيرُ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّهُ إنْ حَقَّقَهُ فِي الْفَرْعِ فَقَدْ انْتَقَلَ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُحَقِّقْهُ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَذَهَبَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ قَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ عِلَّتَانِ، وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ. نَعَمْ، يَلْزَمُهُ إثْبَاتُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ: فَإِنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ تَمَّ لَهُ مَقْصُودُهُ، وَإِنْ عَجَزَ انْقَطَعَ حِينَئِذٍ. ثُمَّ إذَا قُلْنَا: لَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ الدَّلِيلَ، فَإِذَا أَقَامَهُ فَاخْتَلَفُوا فِي انْقِطَاعِ الْمُعْتَرِضِ، فَقِيلَ: يَنْقَطِعُ حَتَّى يُسَوِّغَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْكَلَامَ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ فَسَادَ الْمَنْعِ، وَحَسْمًا لِبَابِ التَّطْوِيلِ. وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ مَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ: إنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ، فَإِنَّ قَبُولَ الْمَنْعِ إنَّمَا كَانَ يَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ الدَّلِيلَ عَلَى مَحَلِّ الْمَنْعِ، فَكَيْفَ يَقْنَعُ مِنْهُ بِمَا يَدَّعِيهِ دَلِيلًا فَيَجِبُ تَمْكِينُ الْخَصْمِ مِنْ

الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَجَزَ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْقَطِعُ (قَالَ) : فَأَمَّا إذَا أَقَامَ الْمُسْتَدِلُّ الدَّلِيلَ عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمَمْنُوعِ فِي الْأَصْلِ فَعَدَلَ الْمُعْتَرِضُ عَنْهُ وَأَخَذَ يَعْتَرِضُ ثَانِيًا عَلَى الدَّلِيلِ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ، فَهَاهُنَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُعَدُّ مُنْقَطِعًا. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: هَذَا الْمَنْعُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إذَا قَاسَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَوْ قَاسَ عَلَى مَسْأَلَةٍ إجْمَاعِيَّةٍ لَمْ يُمْكِنْ الْمُعْتَرِضَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ ثُمَّ لَيْسَ كُلُّ خِلَافِيَّةٍ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا هَذَا السُّؤَالُ، بَلْ يَخْتَصُّ بِكُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَرِضُ بِالْمَنْعِ فِيهِ عَنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ، لِأَنَّ طَرِيقَةَ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَنَاظِرِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَمِيَ إلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ حَذَرًا مِنْ الِانْتِشَارِ. وَفِي " الْمَحْصُولِ ": إنْ كَانَ انْتِفَاؤُهُ مَذْهَبًا لِلْمُعَلِّلِ وَالْمُعْتَرِضِ كَانَ مُتَوَجِّهًا، وَكَذَا إنْ كَانَ مَذْهَبَ الْمُعَلِّلِ وَحْدَهُ. وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا لِلْمُعْتَرِضِ وَحْدَهُ لَمْ يُقْبَلْ. وَقَسَّمَ ابْنُ بَرْهَانٍ الْمَنْعَ الصَّحِيحَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ - يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ صَاحِبِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. وَلَهُ فِي الْجَوَابِ طُرُقٌ: أَحَدُهَا - أَنْ يُفَسِّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَكُونُ مُسَلَّمًا عِنْدَ الْخَصْمِ، كَاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ فِي الْإِجَارَةِ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ: وَأَصْلُهُ عَقْدُ النِّكَاحِ - فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ عِنْدِي النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ بَلْ يَنْتَهِي. وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَنْتَهِي يَبْطُلُ، بِدَلِيلِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّتُهُ يَنْتَهِي وَلَا يَبْطُلُ، فَإِنْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: عَنَيْتُ بِقَوْلِي: فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ، أَيْ يَرْتَفِعَ وَلَا يَبْقَى قَبْلُ.

الثَّانِي - أَنْ يُبَيِّنَ مَوْضِعًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، كَاسْتِدْلَالِنَا فِي فَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ: عِبَادَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَفْعَالٍ مُتَغَايِرَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ فِيهَا التَّرْتِيبُ، كَالصَّلَاةِ. فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدِي فِي الصَّلَاةِ لَا يَجِبُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ يَأْتِي بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً بِلَا تَرْتِيبٍ. فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ: أُبَيِّنُ مَوْضِعًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَاةِ يَجِبُ فِيهِ التَّرْتِيبُ فَأَقِيسُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ: أَجْمَعْنَا أَنَّهُ لَوْ قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ لَمْ يَجُزْ فَأَقِيسُ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ - أَنْ يَنْقُلَ الْكَلَامَ إلَيْهِ، كَاسْتِدْلَالِنَا فِي التَّعْفِيرِ مِنْ وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ بِأَنَّ هَذَا حَيَوَانٌ نَجِسُ الْعَيْنِ، فَيَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ، قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ. فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ عِنْدِي لَا يَجِبُ التَّسْبِيعُ فِي غُسْلِ الْكَلْبِ وَجَوَابُهُ أَنْ يَنْتَقِلَ الْكَلَامُ إلَيْهِ وَيُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي - أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَذْهَبَهُ مُخَالِفٌ: كَاسْتِدْلَالِنَا فِي الصَّرُورَةِ إذَا حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ، كَمَا إذَا أَطْلَقَ الْإِحْرَامَ. فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةً أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ - أَنْ لَا يَعْرِفَ الْمُعْتَرِضُ مَذْهَبَ صَاحِبِ الْمَقَالَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ: كَاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُشْرِكِ يُسْلِمُ عَلَى خَمْسٍ: أَنَّ هَذَا جَمْعٌ مُحَرَّمٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَخَيَّرَ، قِيَاسًا عَلَى مَا إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ تَحْتَ رَجُلَيْنِ. فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: أَمْنَعُ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَا نَصَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي إسْلَامِهَا عَنْ زَوْجَيْنِ (قَالَ) وَمِنْ الْمَنْعِ الْفَاسِدِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُعْتَرِضُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهٍ بَعِيدٍ لِلْأَصْحَابِ كَاسْتِدْلَالِنَا فِي جِلْدِ الْكَلْبِ لَا يُدْبَغُ، لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ.

التَّنْبِيهُ الثَّانِي قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: حَقُّ السَّائِلِ أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا غَيْرَ مُدَّعٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدُلَّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُنْكِرِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ شَرْعًا، وَعَلَى مِثْلِهِ بُنِيَتْ الْمُنَاظَرَةُ صَوْنًا لِلْمَقَامِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ (قَالَ) : وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَدِلِّ الِانْتِقَالُ مِنْ حُكْمٍ إلَى آخَرَ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى، فَإِنَّ الْعِلَّةَ كَافِيَةٌ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ. نَعَمْ، الِانْتِقَالُ مِنْ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى فَسْخٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ النَّظَرِ. (قَالَ) : وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَسْئُولِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى النَّقْضِ، فَإِنَّ بِهِ يَنْتَقِلُ إلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى خَارِجَةٍ عَنْ مَقْصُودِ السُّؤَالِ. وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ النَّقْضُ ثَبَتَ مَطْلُوبُهُ، فَالِاخْتِيَارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَصْلَحَةِ الْمُنَاظَرَةِ. وَأَمَّا الْمَنْعُ فِي الْفَرْعِ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إلَّا سُؤَالٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَنْعُ وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ، وَيُسَمَّى (مَنْعَ الْوَصْفِ) ، فَإِنَّ التَّعْلِيلَ قَدْ يَقَعُ بِوَصْفٍ مُخْتَلِفٍ فِيهِ، كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيدَاعِ مِنْ الصَّبِيِّ: إنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ، فَيُمْنَعُ، وَقَالَ: لَيْسَ بِمُسَلَّطٍ، إذْ الْإِيدَاعُ لَيْسَ بِتَسْلِيطٍ. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا غَيْرُ مَعْنَى الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ مَعْنَى الِاعْتِبَارِ مُطَالَبَةٌ تَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ لَا إلَى الْفَرْعِ (قَالَ) : وَتَبْطُلُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْإِخَالَةِ وَإِيضَاحُ وَجْهِ الدَّلَالَةِ، وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَنْعِ. وَقِيلَ: إنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ وُجُودِ التَّعْلِيلِ، وَمَا يُفْرَضُ قَبْلَهُ التَّعْلِيلُ فَلَيْسَ بِاعْتِرَاضٍ عَلَيْهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَمِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الصَّحِيحَةِ: طَلَبُ الْإِخَالَةِ، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأَسْئِلَةِ وَأَوْقَعِهَا فِي الْأَقْيِسَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَمَنْ ادَّعَى مَعْنًى فَعَلَيْهِ تَبْيِينُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْحُكْمِ وَاقْتِضَائِهِ لَهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ انْقَطَعَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ هَذَا مِنْ الْأَسْئِلَةِ، بَلْ حَقٌّ عَلَى الْمَسْئُولِ أَنْ يَبْدَأَ بِإِظْهَارِ الْإِخَالَةِ

قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِصُورَةِ الْقِيَاسِ، وَسُكُوتُهُ عَنْهُ اقْتِصَارٌ عَلَى بَعْضِ الْعِلَّةِ. نَعَمْ، لَوْ ضَمَّ إلَى تَعْلِيلِهِ لَفْظًا يُشْعِرُ بِالْإِخَالَةِ كَفَاهُ ذَلِكَ، فَإِنْ وَجَّهَ السَّائِلُ طَلَبًا كَانَ قَاصِرًا عَنْ دَرْكِ لَفْظِ التَّعْلِيلِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْخِلَافُ فِي عَدِّ هَذَا مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ: هَلْ يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ بَيَانُ الْإِخَالَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهَا؟ فَالْقَاضِي أَلْزَمَهُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ، وَغَيْرُ الْقَاضِي قَنَعَ مِنْهُ بِذِكْرِ الْمَعْنَى الْمُخْتَلِّ، فَإِنْ لَمْ يُقَرِّرْهَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ. وَالْحَقُّ مَعَ الْقَاضِي، بَلْ لَوْ شَرَعَ الْخَصْمُ فِي سُؤَالِهَا قَبْلَ بَيَانِهَا كَانَ جَاهِلًا بِحَقِّهِ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ طَرَدَ قَوْلَهُ فَأَلْزَمَ الْمُسْتَدِلَّ دَفْعَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُتَوَقَّعَةِ، وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَلْزَمُ الْمُدَّعِي فِي الْخُصُومَةِ إذَا عَدَّلَ بَيِّنَتَهُ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِنَفْيِ الْقَوَادِحِ الْمُتَوَقَّعَةِ إلَّا إذَا أَتَى الْخَصْمُ بِقَادِحٍ كَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَدْفَعَهُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. (انْتَهَى) . وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً تَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ وَمُنَاسَبَتِهِ، وَمَقْصُودُهُ اسْتِنْطَاقُ الْمَسْئُولِ فِي تَصْحِيحِ شَهَادَةِ الِاعْتِبَارِ بِمَا يَعْتَمِدُهُ مِنْ الْمَسَالِكِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي إثْبَاتِ الْعِلَّةِ، لِيَعْتَرِضَ عَلَى كُلِّ مَسْلَكٍ مِنْهَا بِمَا يَلِيقُ بِهِ. وَقَدْ مَنَعَ قَوْمٌ صِحَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُمَانَعَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ مَنْعِ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُمَانَعَةِ ضِمْنًا. وَفِيهِ بُعْدٌ، إذْ الْمُعْتَرِضُ مُطَالَبٌ هَادِمٌ غَيْرُ مُعْتَرِضٍ لِلْحُكْمِ بِإِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ. وَلِلسَّائِلِ أَنْ يَجْمَعَ الْمُنُوعَ فَيَمْنَعُ حُكْمَ الْأَصْلِ وَيَمْنَعُ الْوَصْفَ فِي الْفَرْعِ وَفِي الْأَصْلِ. وَيَمْنَعُ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً أَوْ يَعْكِسُهُ فَيَقُولُ: لَا أُسَلِّمُ الْوَصْفَ فِي الْفَرْعِ وَلَا فِي الْأَصْلِ وَلَا الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ. وَلِلْمَسْئُولِ دَفْعُهَا بِإِبْدَاءِ مَوْضِعٍ مُسَلَّمٍ فِي الْأَصْلِ أَوْ بِإِظْهَارِ الْمُنَاسَبَةِ عَلَى شَرْطِهَا، وَلَهُ النَّقْلُ إلَى الْأَصْلِ إذَا مَنَعَ، أَوْ افْتِتَاحُ الْكَلَامِ فِيهِ ابْتِدَاءً إذَا تَوَقَّعَ الْمَنْعَ.

الثاني عشر من الاعتراضات التقسيم

[الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات التَّقْسِيمُ] الثَّانِيَ عَشَرَ: التَّقْسِيمُ وَهُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ، وَالْآخَرُ مُسَلَّمٌ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي أَحَدِهِمَا، مِثْلُ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَهُوَ تَثْبِيتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، فَيَثْبُتُ لَهُ. فَيَقُولُ الْمُقْسِمُ: السَّبَبُ هُوَ مُطْلَقُ الْبَيْعِ، أَوْ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا شَرْطَ فِيهِ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ قُلْت بِوُجُودِهِ؟ قَالَ الْآمِدِيُّ: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعًا وَالْآخَرُ مُسَلَّمًا، بَلْ يَكُونَانِ مُسَلَّمَيْنِ لَكِنَّ الَّذِي يَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ مَا يَرِدُ عَلَى الْآخَرِ، إذْ لَوْ اتَّحَدَ مَا يَرِدُ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُمَا مَمْنُوعَيْنِ، لِأَنَّ التَّقْسِيمَ لَا يُفِيدُ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ أَرَادَ الْمُعْتَرِضُ تَصْحِيحَ تَقْسِيمِهِ اكْتَفَى بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ احْتِمَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ بَيَانِ التَّسَاوِي فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا. وَجَوَابُهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لَهُ وَلَوْ عُرْفًا، أَوْ ظَاهِرًا وَلَوْ بِقَرِينَةٍ فِي الْمُرَادِ أَوْ بَيْنَ احْتِمَالًا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُعْتَرِضُ. [الثَّالِث عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات اخْتِلَافُ الضَّابِطِ] الثَّالِثَ عَشَرَ: اخْتِلَافُ الضَّابِطِ [اخْتِلَاف الضَّابِط] بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِالْجَامِعِ،

الرابع عشر من الاعتراضات اختلاف حكمي الأصل والفرع

كَقَوْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ. تَسَبَّبُوا لِلْقَتْلِ عَمْدًا فَلَزِمَهُمْ الْقِصَاصُ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ السَّبَبِ، كَالْمُكْرَهِ. فَالْمُشْتَرِكُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إنَّمَا هِيَ الْحِكْمَةُ وَهِيَ الزَّجْرُ. وَالضَّابِطُ فِي الْفَرْعِ الشَّهَادَةُ، وَفِي الْأَصْلِ الْإِكْرَاهُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ بِالْحِكْمَةِ وَحْدَهَا. وَضَابِطُ الْفَرْعِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِضَابِطِ الْأَصْلِ فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْمَقْصُودِ وَأَنْ لَا يَكُونَ. وَجَوَابُهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا مِنْ السَّبَبِ الْمَضْبُوطِ عُرْفًا، أَوْ يُبَيِّنَ الْمُسَاوَاةَ فِي الضَّابِطِ، أَوْ إفْضَاءَ الضَّابِطِ فِي الْفَرْعِ أَكْثَرُ. [الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ] الرَّابِعَ عَشَرَ: اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قِيلَ: إنَّهُ قَادِحٌ، لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ مُمَاثَلَةُ الْفَرْعِ الْأَصْلَ فِي عِلَّتِهِ وَحُكْمِهِ. فَإِذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُسَاوَاةُ. وَقِيلَ: لَا، لِأَنَّ الْحُكْمَيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي الْخُصُوصِ فَقَدْ يَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ عَامٍّ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ ذَلِكَ الْعَامِّ وَالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَتَكُونُ الْعِلَّةُ تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ، وَهُوَ كَإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ فِي نِكَاحِهَا، قِيَاسًا عَلَى الْوِلَايَةِ فِي مَالِهَا. [الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُعَارَضَةِ] [وُجُوهٍ الْمُعَارَضَةِ] الْخَامِسَ عَشَرَ: الْمُعَارَضَةُ وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الِاعْتِرَاضَاتِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَقِيلَ: هِيَ إلْزَامُ الْجَمْعِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا. وَقِيلَ: إلْزَامُ الْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا قَالَ بِنَظِيرِهِ

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنَاقَضَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا نَقْضُ مُعَارَضَةٍ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ. وَأَيْضًا فَالنَّقْضُ لَا يَكُونُ بِالدَّلِيلِ، وَالْمُعَارَضَةُ بِالدَّلِيلِ عَلَى الدَّلِيلِ صَحِيحَةٌ (قَالَ) : وَهِيَ تَرْجِعُ إلَى الِاسْتِفْهَامِ (قَالَ) وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا: فَأَثْبَتَهَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّظَرِ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُؤَالٍ صَحِيحٍ. وَاخْتَلَفَ مَثْبُوتُهَا فِي الثَّابِتِ مِنْهَا، فَقِيلَ: إنَّهَا تَصِحُّ مُعَارَضَةُ الدَّلَالَةِ بِالدَّلَالَةِ وَالْعِلَّةِ، وَلَا تَجُوزُ مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ الْجُبَّائِيُّ، وَحَكَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْ الْجُبَّائِيُّ، وَوَجَدْنَا فِي كِتَابِهِ خِلَافَهُ. وَذَكَرَ الْكَعْبِيُّ فِي جَدَلِهِ " جَوَازَ مُعَارَضَةِ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: الْمُعَارَضَةُ إظْهَارُ عِلَّةٍ مُعَارِضَةٍ لِعِلَّةٍ، أَوْ لِعِلَلٍ، فِي نَقِيضِ مُقْتَضَاهَا. هَذَا أَصْلُ الْبَابِ، وَلَا يَجْرِي إلَّا فِي الظَّنِّيَّاتِ ثُمَّ يُرَجَّحُ أَحَدُ الظَّنَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ. وَكَذَلِكَ الْمُعَارَضَةُ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ كُلِّ اعْتِرَاضٍ قَدَّمْنَاهُ، فَإِنَّ فَسَادَ الْوَضْعِ وَالْمَنْعِ لَا يَصْلُحُ عَلَى حِيَالِهِ اقْتِضَاءُ الْحُكْمِ حَتَّى يُعَارَضَ بِهِ. وَإِنَّمَا الْمُعَارَضَةُ حَيْثُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ لَاسْتَقَلَّتْ الْعِلَّةُ فِي نَفْسِهَا أَوْ جِنْسِهَا بِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ لِوُجُودِ أَصْلِ الظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ، وَلَكِنَّ الْمُعَارِضَ مَنَعَ اعْتِبَارَهَا دُونَ تَرْجِيحٍ. فَالْحَرْفُ: الْمُعَارَضَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى أَصْلِ الظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ فِي هَذَا الْمَجَالِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ عَلَى عِلَّةِ صِحَّةِ الْحِجَاجِ بِالْمُعَارَضَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَهَا عَلَى الْكُفَّارِ فَقَالَ: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} [الإسراء: 42] يَعْنِي أَنَّ بُطْلَانَ الْوُصُولِ إلَى ذِي الْعَرْشِ عِلَّةُ عَجْزِهِمْ، وَمَنْ صَحَّ عَجْزُهُ ثَبَتَ نَقْصُهُ وَاسْتَحَالَ وَصْفُهُ بِمَا وَصَفْتُمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إمَّا فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ أَوْ فِي الْوَصْفِ: أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ فَإِنْ ذَكَرَ عِلَّةً أُخْرَى فِي الْأَصْلِ سِوَى عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ وَتَكُونُ تِلْكَ الْعِلَّةُ مَعْدُومَةً فِي الْفَرْعِ، وَنَقُولُ: إنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ نَشَأَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتَهَا لَا بِالْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيُّ فِي تَبْيِيتِ النِّيَّةِ: صَوْمُ عَيْنٍ فَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، كَالنَّفْلِ. فَيُقَالُ: لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرْت، بَلْ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّفَلَ مِنْ عَمَلِ السُّهُولَةِ وَالْخِفَّةِ، فَجَازَ أَدَاؤُهُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ الشُّرُوعِ، بِخِلَافِ الْفَرْضِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ سُؤَالُ الْفَرْقِ، فَسَيَأْتِي فِيهِ مَا سَبَقَ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ يُبْدِيهَا الْمُعْتَرِضُ مُسْتَقِلَّةً بِالْحُكْمِ كَمُعَارَضَةِ الْكَيْلِ بِالطُّعْمِ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ عَلَى أَنَّهَا جُزْءُ الْعِلَّةِ، كَزِيَادَةِ الْجَارِحِ إلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِي قَبُولِهِ، فَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ، بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَةً وَلَا جَوَابًا، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْعَمِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ الْغَرَرِ فِي الْأُصُولِ " قَالَ: لِأَنَّ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، بَلْ أَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا. قَالَ: وَلَيْسَتْ مُنَاقَضَةً لِأَنَّهَا سَدُّ مَجْرَى الْعِلَّةِ وَلَمْ يَسُدَّ عَلَيْهِ الْمُجِيبُ مُنَاقَضَةً مِنْ الْعِلَّةِ. وَقِيلَ: يُقْبَلُ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْجَدَلِيِّينَ (قَالُوا) لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ فِي الْأَصْلِ وَصْفَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلِاسْتِقْلَالِ فَإِنَّهُ يَتَعَارَضُ عِنْدَ النَّظَرِ ثَلَاثَةُ احْتِمَالَاتٍ: أَحَدُهَا - أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ خَاصَّةً. وَالثَّانِي - أَنْ تَكُونَ وَصْفَ الْمُعْتَرِضِ خَاصَّةً. وَالثَّالِثُ - أَنْ تَكُونَ مَجْمُوعَ الْوَصْفَيْنِ. وَإِذَا تَعَارَضَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فَالْقَوْلُ بِتَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ تَحَكُّمٌ

مَحْضٌ، وَهَلْ يَقْتَضِي إبْطَالَ الدَّلِيلِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ - حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ يَتِمُّ دَلِيلُ الْمَسْئُولِ بِالْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا فَمَا يُعَارِضُهُ بِهِ خَصْمُهُ يَسْتَحِيلُ دَلِيلًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرَى الْمُسْتَدِلُّ فَسَادَهُ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بَانَ عَجْزُهُ. وَالثَّانِي - أَنَّهُ مَا لَمْ يُفْسِدْ الْمَسْئُولُ تِلْكَ الْمُعَارَضَةَ لَا يَتِمُّ دَلِيلُهُ - لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمُعَارَضَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ وَدَلِيلُ الْمَسْئُولِ يُشْبِهُهُ، غَيْرَ أَنَّ السَّائِلَ عَجَزَ عَنْ إيرَادِ مَا يُفْسِدُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ الْخِلَافِ فِي قَبُولِ هَذَا السُّؤَالِ وَرَدِّهِ عَلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ. فَإِنْ جَوَّزْنَا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَ: ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَنَازَعَهُ شَارِحُهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: نَحْنُ وَإِنْ فَرَضْنَا جَوَازَ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ فَإِنَّهُ يَتَّجِهُ ذَلِكَ إذَا شَهِدَتْ الْأُصُولُ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالتَّعْدَادِ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا شَهِدَ لِكُلِّ عِلَّةٍ أَصْلٌ انْفَرَدَتْ فِيهِ ثُمَّ اجْتَمَعَتْ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، كَاجْتِمَاعِ الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ، فَإِنَّ اسْتِقْلَالَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ عِلَّتِهِ حَيْثُ يَنْفَرِدُ ثُمَّ يَقَعُ الْآخَرُ حَيْثُ يَجْتَمِعُ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ، وَآخَرُ يَقُولُ: لِكُلِّ حُكْمٍ عِلَّةٌ فَاجْتَمَعَ عِلَّتَانِ وَحُكْمَانِ. أَمَّا إذَا فَرَضْنَا إبْدَاءَ السُّؤَالِ عِلَّةً، فَعَارَضَهُ السَّائِلُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَفَرْضُهُمَا عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ يَسْتَدْعِي انْفِرَادَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي أَصْلٍ سِوَى مَحَلِّ الِاجْتِمَاعِ، فَإِذَا لَمْ يَظْفَرْ الِانْفِرَادُ فَالْمُعَارَضَةُ وَارِدَةٌ، بِنَاءً عَلَى خَلَلِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْمَسْئُولَ إنْ قَالَ: الْبَاعِثُ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَبْدَيْتُهُ قَالَ السَّائِلُ: الْبَاعِثُ مَعْنَاهُ، أَوْ الْأَمْرَانِ مَعًا، بِحَيْثُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءَ عِلَّةٍ. فَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ

مُتَسَاوِيَةٌ، وَالْمُسْتَدِلُّ فِي تَعْيِينِ مَقْصُودِهِ بِالدَّعْوَى مُتَحَكِّمٌ. وَلِهَذَا لَوْ لَمْ نَعْتَبِرْ شَهَادَةَ الْأُصُولِ وَأَجَزْنَا الْمُرْسَلَاتِ لَمْ يَرِدْ هَذَا السُّؤَالُ. وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ بَيَانُ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الَّذِي عَارَضَ بِهِ الْأَصْلَ عَنْ الْفَرْعِ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ: (أَحَدُهَا) وَهُوَ الْمُخْتَارُ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْفَرْعِ افْتَقَرَ الْمُسْتَدِلُّ إلَى بَيَانِهِ فِيهِ لِيَصِحَّ الْإِلْحَاقُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بَطَلَ الْجَمْعُ. وَ (الثَّانِي) يَجِبُ نَفْيُهُ، لِأَنَّ الْفَرْقَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ. وَ (الثَّالِثُ) وَبِهِ أَجَابَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، إنْ قَصَدَ الْفَرْقَ فَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِهِ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ يَقُولُ: إنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيهِ فَهُوَ فَرْقٌ، وَإِلَّا فَالْمُسْتَدِلُّ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا بَعْضَ الْعِلَّةِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إشْكَالٍ. هَذَا إذَا كَانَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ أَصْلًا وَاحِدًا، فَإِنْ كَانَ أُصُولًا فَقِيلَ: لَا يَرِدُ، لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِأَصْلٍ آخَرَ عَنْ هَذَا حَاصِلٌ. وَقِيلَ: يَرِدُ، لِأَنَّهُ أَقْوَى فِي إفَادَةِ الظَّنِّ. وَالْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ اخْتَلَفُوا فِي الِاقْتِصَارِ فِي الْمُعَارَضَةِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، فَقِيلَ: يَكْفِي لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قَصَدَ جَمْعَ الْأُصُولِ، فَإِذَا ذَهَبَ وَاحِدٌ ذَهَبَ غَرَضُهُ وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُسْتَقِلَّ يَكْتَفِي بِأَصْلٍ وَاحِدٍ. وَالْقَائِلُونَ بِالتَّعْمِيمِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ اتِّحَادَ الْمُعَارِضِ فِي الْكُلِّ، دَفْعًا لِانْتِشَارِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ، لِجَوَازِ أَنْ لَا يُسَاعِدَهُ فِي الْكُلِّ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَقِيلَ: يَقْتَصِرُ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ بِهِ يَتِمُّ مَقْصُودُهُ. وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ الْكُلِّ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْقِيَاسَ عَلَى الْكُلِّ.

وَجَوَابُ الْمُعَارَضَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهُمَا - مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ. (الثَّانِي) - مَنْعُ الْمُنَاسَبَةِ، أَوْ مَنْعُ الشَّبَهِ إنْ أَثْبَتَهُ بِهِمَا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُعَارِضِ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلتَّعْلِيلِ، وَلَا يَصْلُحُ إلَّا إذَا كَانَ مُنَاسِبًا أَوْ شِبْهًا، إذْ لَوْ كَانَ طَرْدًا لَمْ يَكُنْ صَالِحًا. وَإِنَّمَا لَمْ يُكْتَفَ مِنْ الْمُعْتَرِضِ بِالْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ فِي قِيَاسِ الْإِخَالَةِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ أَدْنَى مِنْ الْمُنَاسِبِ، فَلَا يُعَارِضُهُ. فَإِنْ كَانَ أَثْبَتَهُ بِطَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُعْتَرِضَ بِالتَّأْثِيرِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالَاتِ كَافٍ، فَمَنْ دَفَعَ السَّبْرَ فَعَلَيْهِ دَفْعُهُ لِيَتِمَّ لَهُ طَرِيقُ السَّبْرِ. الثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ - أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْوَصْفِ خَفِيٌّ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ أَمْرٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ أَوْ غَيْرُ ظَاهِرٍ أَوْ غَيْرُ وُجُودِيٍّ وَنَحْوُهُ مِنْ قَوَادِحِ الْعِلَّةِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْجَدَلِيُّونَ. قَالَ ابْنُ رَحَّالٍ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الظُّهُورَ وَالِانْضِبَاطَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ نَصْبِهِ أَمَارَةً، أَمَّا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِأَجْلِهِ فَلَا، لِأَنَّ الْحُكْمَ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ لِلْخَفِيِّ وَالْمُضْطَرِبِ، وَلَكِنْ إذَا أُرِيدَ نَصْبُهُ أَمَارَةً تَعَيَّنَ النَّظَرُ إلَى مَظِنَّتِهِ. وَالْمُعَارِضُ هَاهُنَا لَيْسَ مَقْصُودُهُ نَصْبَ الْأَمَارَةِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ، فَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهِ إثْبَاتَ الظُّهُورِ وَالِانْضِبَاطِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَعَلْتُمْ مِنْ الْأَسْئِلَةِ النِّزَاعَ فِي ظُهُورِ الْوَصْفِ وَانْضِبَاطِهِ، وَإِذَا صَحَّتْ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَدِلِّ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّعْلِيلِ صَحَّتْ مُطَالَبَةُ الْمُعْتَرِضِ بِهِ، قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ جَمَعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ ادَّعَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ أَمَارَةً، فَظُهُورُهُ وَانْضِبَاطُهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ نَصْبِهِ أَمَارَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُعْتَرِضُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْأَمَارَةَ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ طَرِيقُ الْإِجْمَالِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ مِمَّا ثَبَتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ، وَالظُّهُورُ وَالِانْضِبَاطُ لَيْسَ شَرْطًا فِي ذَلِكَ، فَافْتَرَقَا.

الْخَامِسُ - بَيَانُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ وَصْفٍ مَوْجُودٍ فِي الْفَرْعِ، لَا إلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ فِي الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكْفِي إذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِالْعَدَمِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ لَمْ يَكْفِ هَذَا فِي الْجَوَابِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْدَحَ فِيهِ لِوَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ كَوْنِهِ عَدَمًا. هَذَا كُلُّهُ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ الْوَصْفَ عَدَمٌ فِي الْأَصْلِ ثُبُوتٌ فِي الْفَرْعِ. السَّادِسُ - إلْغَاءُ الْوَصْفِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْمُعَارَضَةُ وَقَدْ اسْتَشْكَلَ هَذَا بِأَنَّ الْإِلْغَاءَ ضَرْبَانِ: (أَحَدُهُمَا) إلْغَاءٌ بِإِيمَاءِ النَّصِّ. وَ (الثَّانِي) إلْغَاءٌ بِتَبْدِيلِ الْأَصْلِ. فَالْأَوَّلُ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ مَسْلَكٍ اجْتِهَادِيٍّ إلَى مَسْلَكٍ نَقْلِيٍّ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ أَقْبَحِ الِانْقِطَاعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ بِإِيمَاءِ النَّصِّ أَوَّلًا لَأَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنْ الْمَسَالِكِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا التَّطْوِيلِ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ اسْتِدْلَالُهُ أَوَّلًا. كَمَا قَالُوا فِيمَا إذَا اسْتَدَلَّ بِقِيَاسٍ عَلَى وَجْهٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّرْجِيحِ بِالنَّصِّ. وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ، مَعَ بَقَاءِ مَسْلَكِ الْمُنَاسَبَةِ وَالِاقْتِرَانِ، مَعَ أَنَّ فِي [ذَلِكَ] تَطْوِيلَ الطَّرِيقِ بِلَا فَائِدَةٍ. إذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَالْإِلْغَاءُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: بِإِيمَاءِ النَّصِّ، وَهُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ، لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ، بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا وَصْفًا وَاحِدًا، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ مِنْ الْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ إنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ، فَالْتَحَقَ بِالْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ. فَعَارَضَ الْحَنَفِيُّ فِي الْأَصْلِ بِالْكَيْلِ. فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: وَصْفُ الْكَيْلِ مُلْغًى بِإِيمَاءِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ

بِالطَّعَامِ، إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً. فَإِنْ قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ: تَرَكْتَ النَّصَّ أَوَّلًا: فَلَمْ تَسْتَدِلَّ بِهِ، وَاسْتَدْلَلْتَ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا بُدَّ لَك مَعَهُ مِنْ النَّصِّ، وَهَذَا تَطْوِيلٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِالنَّصِّ لَاحْتَاجَ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى فَكَانَ الْأَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِغَيْرِ النَّصِّ وَيَدَّخِرَ النَّصَّ لِمَقْصُودِهِ الْإِلْغَاءَ، وَهَذَا مَقْصُودٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعُذْرُ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْإِلْغَاءِ كَانَ السُّؤَالُ السَّابِقُ مُنْدَفَعًا. وَثَانِيهِمَا مَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُرْتَدَّةِ: يَجِبُ قَتْلُهَا، لِأَنَّهُ شَخْصٌ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانِهِ، كَالرَّجُلِ. فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: أُعَارِضُ فِي الْأَصْلِ: الْوَصْفُ فِي الرُّجُولِيَّةِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ النَّاجِزِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي الْمَرْأَةِ. فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: وَصْفُ الرُّجُولِيَّةِ مُلْغًى بِإِيمَاءِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ جَمِيعِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ جِهَةِ تَعْلِيقِهِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ بِوَصْفِ (التَّبْدِيلِ) . الثَّانِي: إلْغَاءٌ بِتَبْدِيلِ الْأَصْلِ: وَصُورَتُهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ صُورَةً ثَالِثَةً يُثْبِتُ فِيهَا الْحُكْمَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وَفْقِ عِلَّتِهِ بِدُونِ مَا عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبِرًا فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْدُومًا. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ: فَهِيَ أَنْ يُعَارِضَ حُكْمَ الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَهُ أَوْ ضِدَّهُ، بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، أَوْ بِوُجُودِ مَانِعٍ، أَوْ بِفَوَاتِ شَرْطٍ. فَيَقُولُ: مَا ذَكَرْت مِنْ الْوَصْفِ وَإِنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ، فَتَوَقَّفَ دَلِيلُك. مِثَالُ النَّقِيضِ: إذَا بَاعَ الْجَارِيَةَ إلَّا

حَمْلَهَا صَحَّ فِي وَجْهٍ، كَمَا لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصِّيعَانَ إلَّا صَاعًا. فَنَقُولُ: لَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ إلَّا يَدَهَا. وَمِثَالُ الضِّدِّ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ، قِيَاسًا عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ، بِجَامِعِ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَنَقُولُ: فَيُسْتَحَبُّ قِيَاسًا عَلَى الْفَجْرِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفْعَلُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِفَرْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْوِتْرَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرَ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ، وَلَمْ يُعْهَدْ مِنْ الشَّرْعِ وَضْعُ صَلَاتَيْ فَرْضٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ وَنَفْيِ حُكْمِهِ، فَيُعَارِضُهُ خَصْمُهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ عِلَّةُ الْمُعَلِّلِ، فَتَعَارَضَ الْعِلَّتَانِ فَتَمْنَعَانِ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا بِتَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ: فَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ لَا سِيَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ قَدْ تَمَّتْ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ إلَّا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمُعَارَضَةُ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ فَإِنَّا نُبَيِّنُ عَدَمَ تَمَامِ دَلَالَتِهِ إذْ ذَاكَ، وَإِذَا تَمَّتْ دَلَالَتُهُ فَقَدْ وَفَى بِمَا الْتَزَمَ فِي الِاسْتِدْلَالِ، فَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مُخَيَّرٌ: إنْ شَاءَ سَمِعَ الْمُعَارَضَةَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَسْمَعْ - كَاسْتِدْلَالِ مُسْتَأْنِفٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ حَقَّ الْمُعْتَرِضِ أَنْ يَكُونَ هَادِمًا لَا بَانِيًا، وَالْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ بِنَاءٌ لَا هَدْمٌ، بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْوَصْفِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِهَا ثُمَّ قَبُولِهَا هُنَا. وَقَبِلَهُ الْأَكْثَرُونَ، لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ مَعَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ عُطْلٌ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ عِنْدَ وُرُودِهَا مُتَحَكِّمٌ، وَالتَّحَكُّمُ بَاطِلٌ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ لِلْهَدْمِ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا لِلْهَدْمِ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ لَبَطَلَ مَقْصُودُ الْمُنَاظَرَةِ وَالْبَحْثِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ غَصْبًا لِمَنْصِبِ التَّعْلِيلِ أَنْ لَوْ ذَكَرَهَا

الْمُعْتَرِضُ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ. وَهُوَ لَا يَذْكُرُهَا لِذَلِكَ، لِاتِّفَاقِ دَلِيلِ خَصْمِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " وَقَدْ رَأَيْتَ ابْنَ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " نَقَلَ عَنْهُ إبْطَالَ الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ رَأَيْت إلْكِيَا الطَّبَرِيَّ سَبَقَهُ إلَى نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ فَقَالَ فِي كِتَابِ " التَّلْوِيحِ ": صَارَ الْغَزَالِيُّ إلَى بُطْلَانِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا سَمِعْنَا الْإِمَامَ يَنْقُلُهُ عَنْهُ وَكَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ امْتِنَاعَ التَّنَاقُضِ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَإِذَا اعْتَرَفَ السَّائِلُ بِصِحَّةِ عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ وَاسْتِقْلَالِهَا بِالْحُكْمِ، وَالْمَسْئُولُ يُنْكِرُ صِحَّةَ تَعْلِيلِهِ. وَإِنْ هُوَ أَرَادَ إظْهَارَهُ فَقَدْ تَنَاقَضَ وَقَالَ بِتَعَارُضِ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ حَقَّ السَّائِلِ أَنْ يَكُونَ هَادِمًا غَيْرَ بَانٍ، وَالْمُعَارَضَةُ تَقْتَضِي الْبِنَاءَ إنْ كَانَ التَّرْجِيحُ لِتَعْلِيلِ السَّائِلِ أَوْ سَاقِطَةٌ إنْ كَانَ التَّرْجِيحُ لِعِلَّةِ الْمَسْئُولِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ طَرَفَيْ نَقِيضٍ وَوَجْهَيْ فَسَادٍ. وَنَحْنُ نَقُولُ: السَّائِلُ لَمْ يَقْصِدْ الْبِنَاءَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْهَدْمَ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ إعَانَةُ الْمَسْئُولِ عَلَى إتْمَامِ غَرَضِهِ بِإِيضَاحِ التَّرْجِيحِ، وَلَا يَنَالُ هَذِهِ إلَّا بِالْمُعَارَضَةِ. (قَالَ) : وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَوْ اسْتَدَلَّ بِظَاهِرٍ فَلِلسَّائِلِ أَنْ يُؤَوِّلَ وَيَعْتَضِدَ بِالْقِيَاسِ، وَإِذَا صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ فَالسَّائِلُ لَا يُرَجِّحُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَانِيًا، هَذَا إذَا أَمْكَنَهُ قَطْعُ التَّرْجِيحِ عَنْ الدَّلِيلِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّلِيلُ فِي وَضْعِهِ أَرْجَحَ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَبِلَ الْمُعَارَضَةَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَجِدُ غَيْرَهُ. فَإِنْ رَجَّحَ الْمَسْئُولُ مُكِّنَ السَّائِلُ مِنْ مُعَارَضَةِ التَّرْجِيحِ (انْتَهَى) . ثُمَّ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا عَارَضَ بِهِ مُسَاوٍ لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، بَلْ يَكْفِي مِنْهُ بَيَانُ مُطْلَقِ الْمُعَارِضِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَدِلِّ فَإِنَّهُ لَا يُكْتَفَى مِنْهُ فِي دَفْعِهَا إلَّا بِبَيَانِ أَنَّ دَلِيلَهُ رَاجِحٌ عَلَى مَا عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ، لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ مُدَّعٍ لِاسْتِقْلَالِ دَلِيلِهِ بِالْحُكْمِ، وَالْمُعَارِضُ مُنْكِرٌ لَهُ، وَالْمُنْكِرُ يَكْفِيهِ مُطْلَقُ الْإِنْكَارِ، بِخِلَافِ الْمُدَّعِي.

وَإِذَا تَمَّتْ الْمُعَارَضَةُ مِنْ السَّائِلِ فَهَلْ يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ أَمْ يُسْمَعُ مِنْهُ التَّرْجِيحَ؟ فَقِيلَ: يَنْقَطِعُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَرْجِيحِ دَلِيلِهِ. وَجَوَابُهُ بِالْقَدْحِ بِمَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: فِي دَفْعِهِ بِالتَّرْجِيحِ بِمُرَجِّحٍ أَقْوَى مِنْ مُرَجِّحِهِ: فَقِيلَ: يُمْنَعُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ اعْتِرَاضًا وَالْمُخْتَارُ - وَرَجَّحَهُ الْمُحَقِّقُونَ - جَوَازُهُ لِأَنَّهُ مَوْطِنُ تَعَارُضٍ، وَقَدْ لَا يَجِدُ السَّائِلُ غَيْرَهُ مُرَجِّحًا. وَقَضِيَّةُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ السَّائِلَ إذَا عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِتَرْجِيحٍ أَقْوَى، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَرْجِيحٍ مُسَاوٍ فَقَدْ تَعَدَّى. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَهُ الْمُعَارَضَةُ بِالْأَقْوَى مَعَ وُجُودِ الْمُسَاوِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْأَقْوَى مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَقْوَى، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُعَارِضًا، وَمَزِيَّةُ الْقُوَّةِ مُصَادَفَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ الْأَقْوَى، لِأَنَّهُ إذَا سَاغَ لَهُ التَّرْجِيحُ الْمُسَاوِي فَالْأَقْوَى أَوْلَى. وَفِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ يُوقَفُ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ نَوْبَةٍ أُخْرَى مِنْ التَّرْجِيحِ، لِأَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ مِثْلُهَا، فَيَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ حِينَئِذٍ إلَى تَرْجِيحَيْنِ أَوْ تَرْجِيحٍ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ الْأَقْوَى فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ نِطَاقُ الْكَلَامِ وَهُوَ غَرَضُ الْمُنَاظَرَةِ وَفِي ذِكْرِ الْأَقْوَى اخْتِصَارٌ (انْتَهَى) . وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَابَلَ تَرْجِيحَ الْمُسْتَدِلِّ لَا يُقْبَلُ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ فِي الْوَاحِدِ كِفَايَةً، وَالزِّيَادَةُ تُوجِبُ الْإِثْبَاتَ، لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَنْصِبِهِ. الثَّانِيَةُ: هَلْ يُقْبَلُ مُعَارَضَةُ الْمُعَارَضَةِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ؟ اخْتَلَفُوا عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ دَلِيلٌ كَالْأَوَّلِ، فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَ. وَعَلَى هَذَا يَتَسَاقَطَانِ وَيُسَلَّمُ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمُعَارِضِ، قَالَ الْمُقْتَرِحُ: وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ يَقْتَضِي اخْتِيَارَهُ.

وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ وَإِنْ قَبِلْنَا أَصْلَ الْمُعَارَضَةِ، لِانْتِشَارِ الْكَلَامِ وَأَدَائِهِ إلَى الِانْتِقَالِ، وَإِذَا قَبِلْنَا تَرْجِيحَ الْمُسْتَدِلِّ لِدَلِيلِهِ عَلَى مَا عَارَضَ بِهِ السَّائِلَ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَنْشَأُ التَّرْجِيحِ مَذْكُورًا فِي الدَّلِيلِ؟ قِيلَ: يَجِبُ، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ أَوَّلًا لَكَانَ ذَاكِرًا لِبَعْضِ الدَّلِيلِ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ، لِأَنَّ مَرَاتِبَ الْمُعَارَضَةِ لَا يَعْرِفُهَا الْمُسْتَدِلُّ فِي بَدْءِ اسْتِدْلَالِهِ، فَيُؤَدِّي إلَى الْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ الِاحْتِرَازِ لِدَفْعِ النَّقْضِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ النَّصَّانِ سُمِعَ التَّرْجِيحُ مِنْ الْمُسْتَدِلِّ بِالِاتِّفَاقِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي نَصِّ الْمُسْتَدِلِّ مَا يُشِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ التَّفْصِيلُ: فَإِنْ كَانَ التَّفْصِيلُ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ تَعَيَّنَ ذِكْرُهُ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِكَمَالِ الدَّلِيلِ، وَالتَّرْجِيحُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ. تَنْبِيهٌ: قَسَّمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْمُعَارَضَةَ إلَى مَا تَكُونُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَإِلَى مَا هِيَ بِعِلَّةِ الْمُعَلِّلِ بِعَيْنِهَا، فَالْمُعَارَضَةُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تَارَةً تَكُونُ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ، وَتَارَةً فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ - وَقَدْ سَبَقَا - وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِعِلَلِ الْمُعَلِّلِ فَتُسَمَّى (قَلْبًا) وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: قَسَّمَ الْجَدَلِيُّونَ الْمُعَارَضَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى وَالْخَبَرِ بِالْخَبَرِ، وَالْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ: - فَأَمَّا مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى فَلَا مَعْنَى لَهَا إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ وَقَعَ التَّشْنِيعُ. - وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْخَبَرِ بِالْخَبَرِ فَصَحِيحَةٌ، مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، فَيَقُولُ: لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ:

«مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا» الْحَدِيثَ، فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ بَعْدَهُ إلَى التَّرْجِيحِ. - وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى فَعَلَى قِسْمَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَ (الثَّانِي) مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) فِي ضِدِّ حُكْمِهِ فَيَكُونُ مُعَارَضَةً صَحِيحَةً وَ (الثَّانِي) فِي عَيْنِ حُكْمِهِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. - فَمَا كَانَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُعَارَضَاتِ. مِثَالُهُ: طَهَارَةُ الْوُضُوءِ حُكْمِيَّةٌ فَتَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، قِيَاسًا عَلَى التَّيَمُّمِ. فَيَقُولُ الْمُعَارِضُ: طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، قِيَاسًا عَلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَلَا بُدَّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ التَّرْجِيحِ. - وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ عَلَى الضِّدِّ فَضَرْبَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَجْعَلَ الْأَصْلَ الْوَاحِدَ بَيْنَهُمَا مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَ (الثَّانِي) أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَ مَا عَلَّلَ بِهِ مَعْنًى لَهُ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: لَمَّا كَانَ عَدَدُ الْأَقْرَاءِ مُعْتَبَرًا بِالْمَرْأَةِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهَا عَدَدُ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا. فَيُعَارِضُهُ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْفَاعِلِ قِيَاسًا عَلَى الْعِدَّةِ. وَفِي الثَّانِي يَقُولُ: نَفْسُ هَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْفَاعِلِ، كَالْعِدَّةِ.

السادس عشر من الاعتراضات سؤال التعدية

قَالَ: وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ فَهَلْ تَجُوزُ؟ إنْ أَمْكَنَهُ إيضَاحُ الْفَسَادِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا. وَمِثْلُهَا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: لَا يَصِيرُ مُفْرِطًا بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ، فَلَا يَلْزَمُ إخْرَاجُهَا إذَا تَلِفَ الْمَالُ أَوْ مَاتَ. فَيُقَالُ: وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِحَالٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِتَأْخِيرِهَا وَلَا تَرْكِهَا أَصْلًا (قَالَ) : وَقَدْ يُعَارَضُ الْمُحَالُ بِالْمُحَالِ: كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ: مَا أَدْرَكَهُ الْمَأْمُومُ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَهُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ. فَيُقَالُ لَهُ: لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ آخِرٌ بِلَا أَوَّلٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلٌ بِلَا آخِرٍ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَاءٌ لَا نَجِسٌ وَلَا طَاهِرٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَاءٌ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَابِلَ لِلضِّدَّيْنِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا. (قَالَ) : وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ حَقِيقَةً وَلَكِنْ قُصِدَ بِهِ امْتِحَانُ الْمَذَاهِبِ. (انْتَهَى) . وَمَسْأَلَةُ مُعَارَضَةِ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى سَبَقَتْ فِي كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ وَحِكَايَةِ الْخِلَافِ فِيهَا. وَصَرَّحَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ " بِمَنْعِهَا، لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا، إذْ لَا يُلْزَمُ أَحَدٌ بِدَعْوَى الْآخَرِ. قَالَ الْإِمَامُ: إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْرَجَ دَعْوَاهُ مَخْرَجَ الْحُجَّةِ فَيُعَارِضُ بِمِثْلِهَا. كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَسْتَظْهِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَقِيلَ لَهُ: فَمَا الْفَصْلُ بَيْنَك وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: لَا تَسْتَظْهِرُ، أَوْ تَسْتَظْهِرُ بِيَوْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا فَالْقَوْلُ سَاقِطٌ. [السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ] السَّادِسَ عَشَرَ: سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ وَأَدْرَجَهُ الْهِنْدِيُّ فِي سُؤَالِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ، وَهِيَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ

فِي الْأَصْلِ مَعْنًى غَيْرَ مَا عَيَّنَهُ، وَيُعَارِضُ بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمُسْتَدِلِّ: مَا عَلَّلْتُ بِهِ وَإِنْ تَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَكَذَا مَا عَلَّلْتَ بِهِ يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ آخَرَ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. كَقَوْلِنَا: بِكْرٌ فَجَازَ إجْبَارُهَا كَالصَّغِيرَةِ. فَيُقَالُ: وَالْبَكَارَةُ وَإِنْ تَعَدَّتْ لِلْبِكْرِ الْبَالِغِ فَالصِّغَرُ مُتَعَدٍّ إلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ. وَهَذَا أَيْضًا اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ سُؤَالِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ مَعَ زِيَادَةِ التَّسْوِيَةِ فِي التَّعْدِيَةِ. وَجَوَابُهُ إبْطَالُ مَا عَارَضَ بِهِ، وَحَذْفُهُ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، وَهَلْ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُعْتَرِضُ مِنْ التَّسْوِيَةِ فِي التَّعْدِيَةِ أَوْ لَا يَجِبُ؟ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَجِبُ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بَلْ لِلتَّسْوِيَةِ فِي التَّعْدِيَةِ أَثَرٌ فِي الْمُعَارَضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَرُّضِ لِإِبْطَالِهِ. وَلَخَّصَ الْإِبْيَارِيُّ شَارِحُ " الْبُرْهَانِ " سِرَّ التَّعْدِيَةِ فَحَمَلَ الْأَمْرَ إلَى أَنَّ سِرَّهَا التَّبَرِّي مِنْ عُهْدَةِ النِّسْبَةِ إلَى الْعِنَادِ بِإِيرَادِ وَصْفٍ لَا يُعْتَقَدُ اعْتِبَارُهُ، فَعَدَّاهُ الْمُعْتَرِضُ إلَى فُرُوعِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ وَيُفَرِّعُهُ عَلَيْهِ. (قَالَ) : وَهَذَا أَمْرٌ أَجْنَبِيٌّ عَنْ غَرَضِ الْجَدَلِ، فَإِنَّ الِاعْتِنَاءَ بِهِ دَفْعٌ لِسُوءِ الِاعْتِقَادِ الَّذِي يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ خَاصَّةٍ بِالْجَدَلِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَلَعَمْرِي إنَّهُ كَمَا قَالَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا سِرٌّ سِوَى هَذَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ سِرُّهَا عِنْدَ وَاضِعِهَا أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إذَا عَارَضَ مَعْنَى الْأَصْلِ بِمَعْنًى أَمْكَنَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْمُسْتَدِلُّ: مَعْنَايَ أَوْلَى، لِأَنِّي قَدْ حَقَّقْت تَعْدِيَتَهُ إلَى الْفَرْعِ، وَإِنَّهُ يُفِيدُ حُكْمًا لَوْلَاهُ مَا اسْتَفَدْنَاهُ. وَغَايَةُ مَا صَنَعْت أَنَّك أَبْدَيْت مَعْنًى فِي الْأَصْلِ، فَلَعَلَّهُ

قَاصِرٌ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ يَتَحَقَّقُ بِهِ كَوْنُهُ مُفِيدًا، فَيُبَيِّنُ الْمُعْتَرِضُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يُسَاوِي الْمُسْتَدِلَّ. فَإِنْ عَدَّى مَعْنَاهُ إلَى فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِهِ تَحَقَّقَ كَوْنُهُ مُفِيدًا مُتَعَدِّيًا. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ طَلَبُ تَسَاوِي الِانْعِدَامِ بَيْنَ الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُعْتَرِضِ، وَدَفْعُ احْتِمَالِ الْقُصُورِ الَّذِي هُوَ إمَّا قَادِحٌ إنْ بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ قَاصِرَةٌ مَرْدُودَةٌ، أَوْ مَرْجُوحٌ إنْ بَنَيْنَا عَلَى أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَلَكِنَّ التَّعْدِيَةَ أَوْلَى. مَسْأَلَةٌ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ وَالْمُعَارَضَةِ، وَالْقَلْبِ، وَالنَّقْضِ، وَالْمَنْعِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ، بَلْ يَتَوَجَّهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدِلَّةِ مِنْ قِيَاسٍ وَغَيْرِهِ، إلَّا الْمَنْعَ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَتْنِ الْكِتَابِ. وَفَسَادِ الْوَضْعِ، وَالْفَرْقِ، وَالْمُطَالَبَةِ بِبَيَانِ التَّأْثِيرِ، وَالتَّرْكِيبِ، وَالْكَسْرِ، وَكَوْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ مُخْتَصٌّ بِالْقِيَاسِ.

فصل ترتيب الأسئلة

[فَصْلٌ تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ] فَصْلٌ اخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: لَا يَجِبُ تَرْتِيبُهَا، وَلَا حَجْرَ عَلَى الْمُعْتَرِضِ فِيمَا يُورِدُهُ مِنْهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اتَّفَقَ. الثَّانِي: يَجِبُ التَّرْتِيبُ، إذْ لَوْ جَاوَزْنَا إيرَادَهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اتَّفَقَ لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الْمَنْعُ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ، أَوْ يُوجَدُ النَّقْضُ أَوْ الْمُطَالَبَةُ قَبْلَ الْمَنْعِ ثُمَّ يُمْنَعُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَالْإِنْكَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ عَارِفًا، وَإِلَّا فَيَفُوتُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَقْصُودِهِ فِي الِاسْتِرْشَادِ. الثَّالِثُ: إنْ اتَّحَدَ جِنْسُ السُّؤَالِ، كَالنَّقْضِ وَالْمُطَالَبَةِ وَالْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَازَ إيرَادُهَا مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ، لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ سُؤَالٍ وَاحِدٍ وَحَكَى الْآمِدِيُّ فِي هَذَا الْقِسْمِ اتِّفَاقَ الْجَدَلِيِّينَ. فَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَجْنَاسُهَا، كَالْمَنْعِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَالنَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ وَنَحْوِهِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَتْ الْأَسْئِلَةُ غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ قَالَ الْآمِدِيُّ: فَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا إلَّا أَهْلَ سَمَرْقَنْدَ، فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا الِاقْتِصَارَ عَلَى سُؤَالٍ وَاحِدٍ لِقُرْبِهِ إلَى الضَّبْطِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْخَبْطِ. وَإِنْ كَانَتْ مُرَتَّبَةً، كَالْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ، فَيُقَدَّمُ الْمَنْعُ ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ وَلَا يُعْكَسُ هَذَا التَّرْتِيبُ، وَإِلَّا لَزِمَ الْإِنْكَارُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْجَدَلِيِّينَ. وَقِيلَ: لَا يُمْنَعُ ذَلِكَ بَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُودِ الْوَصْفِ وَإِنْ سَلَّمَ عَنْ الْمَنْعِ تَقْدِيرًا فَلَا يُسَلِّمُ عَنْ الْمُطَالَبَةِ وَغَيْرِهَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ

لَا بُدَّ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ إذَا لَزِمَ مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مُنِعَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ. فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ كَانَ التَّرْتِيبُ مُسْتَحْسَنًا لَا لَازِمًا. فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: التَّرْتِيبُ الْمُسْتَحْسَنُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمُطَالَبَاتِ أَوَّلًا، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُثْبِتْ أَرْكَانَ الْقِيَاسِ لَمْ يَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ. ثُمَّ بِالْقَوَادِحِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى صُورَةِ الْأَدِلَّةِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا. ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّتِهِ وُجُوبُ الْعَمَلِ. ثُمَّ إذَا بَدَأَ بِالْمُنُوعِ فَالْأَوْلَى يَمْنَعُ وُجُودَ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ، لِأَنَّهُ دَلِيلُ الدَّعْوَى، ثُمَّ يَمْنَعُ ظُهُورَهُ وَانْضِبَاطَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ كَوْنِهِ دَلِيلًا، ثُمَّ يَمْنَعُ كَوْنَهُ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ دَلِيلُ الدَّلِيلِ. فَإِذَا نَقَضَ الْمُنُوعَ شَرَعَ فِي الْقَوَادِحِ، فَيَبْدَأُ بِالْقَوْلِ الْمُوجِبِ لِوُضُوحِ مَأْخَذِهِ، ثُمَّ بِفَسَادِ الْوَضْعِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالشَّرْعِ، ثُمَّ بِالْقَدْحِ فِي الْمُنَاسَبَةِ كَأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ فَوَاتُ شَرْطِ كَوْنِهِ عِلَّةً، ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَطْرِيقِ الْإِكْمَالِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ، ثُمَّ بِالنَّقْضِ وَالْكَسْرِ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِدَلِيلِ الِاعْتِبَارِ بِدَلِيلِ الْإِهْدَارِ، ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ شَيْءٌ لَازِمٌ سِوَى تَأْخِيرِ الْمُعَارَضَةِ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الْقُدَمَاءِ، كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ [إلَى أَنَّهُ] يَبْدَأُ بِالْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَمْنُوعًا لَمْ يَجِبْ عَلَى السَّائِلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ مَمْنُوعًا أَوْ مُسَلَّمًا، وَلَا كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ أَوْ بِغَيْرِهَا، ثُمَّ يُطَالِبُهُ بِإِثْبَاتِ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ بِأَنَّ الْأَصْلَ مُعَلَّلٌ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، ثُمَّ بِاطِّرَادِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ بِتَأْثِيرِهَا، ثُمَّ بِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً وَمَحَلُّهَا غَيْرُ فَاسِدِ الْوَضْعِ، ثُمَّ بِالْمُحَامَاةِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ، ثُمَّ بِالْقَلْبِ، ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ. (قَالَ) هَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ. وَكَذَا جَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُعَارَضَةَ آخِرَ الْأَسْئِلَةِ، لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الدَّلِيلَ خَالِيًا عَنْ الْقَوَادِحِ كُلِّهَا فَإِذْ ذَاكَ

يَرِدُ عَلَيْهِ سُؤَالُ الْمُعَارَضَةِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْجَدَلِيِّينَ - وَارْتَضَاهُ مُتَأَخِّرُو الْأُصُولِيِّينَ: أَوَّلُ مَا يُبْدَأُ بِهِ الِاسْتِفْسَارُ، ثُمَّ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ فَسَادُ الْوَضْعِ، ثُمَّ يُمْنَعُ حُكْمُ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعِلَّةِ، لِأَنَّ اسْتِنْبَاطَ الْعِلَّةِ بَعْدَهُ، ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ النَّظَرُ فِي عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ، كَالْمُطَالَبَةِ، وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ، وَالْقَدْحُ فِي الْمُنَاسَبَةِ، وَالتَّقْسِيمُ، وَعَدَمُ ظُهُورِ الْوَصْفِ وَانْضِبَاطِهِ، وَكَوْنُ الْحُكْمِ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْإِفْضَاءِ إلَى ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، ثُمَّ النَّقْضُ وَالْكَسْرُ، لِكَوْنِهِمَا مُعَارَضَةً لِلدَّلِيلِ، ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهَا مُعَارَضَةٌ لِلْعِلَّةِ فَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ تَعَارُضِ دَلِيلِ الْعِلَّةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ وَالتَّرْكِيبِ، لِأَنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ بَعْدَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْعِ لِمَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَمُخَالَفَةُ حُكْمِهِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَمُخَالَفَتُهُ لِلْأَصْلِ فِي الضَّابِطِ فِي الْحُكْمِ، وَالْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ، وَسُؤَالُ الْقَلْبِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ، لِتَضَمُّنِهِ لِتَسْلِيمِ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّلِيلِ فِي الْجُمْلَةِ، مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُعَارَضَةُ لِأَنَّهَا تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ فَإِنَّهُ نِزَاعٌ فِي دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِهِ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ إشْكَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخَلَّ بِذِكْرِ الْفَرْقِ، وَالْقَلْبِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُمَا مُنْدَرِجَانِ تَحْتَ الْمُعَارَضَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَذْكُرَ النَّقْضَ، لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِلدَّلِيلِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، فَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْمُعَارَضَةِ، وَأَنْ لَا يَذْكُرَ الْمُطَالَبَةَ، وَلَا الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ، لِأَنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى الْمَنْعِ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَخَّرَ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ عَنْ النَّقْضِ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الْمُعَارَضَةِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الدَّلِيلِ إذَا لَمْ يَسْلَمْ

مِنْ الْقَوَادِحِ، كَالنَّقْضِ وَغَيْرِهِ لَا يُقَالُ بِمُوجِبِهِ لَزِمَ أَنْ يَتَأَخَّرَ أَيْضًا الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْقَوَادِحِ، لِأَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِلدَّلِيلِ، وَمَا لَمْ يَسْلَمْ الدَّلِيلُ عَنْ الْقَوَادِحِ لَا يُقَالُ بِمُوجِبِهِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ تَقَدُّمِهِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ كَوْنَ الدَّلِيلِ لَمْ يُنْصَبْ فِي مَوْضِعِهِ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ كَذَلِكَ، فَلْيُقَدَّمْ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ عَلَى سَائِرِ الْأَسْئِلَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ فَسَادِ الْوَضْعِ لِأَنَّهُ صَارَ شَبِيهًا بِفَسَادِ الْوَضْعِ فَيَظْهَرُ أَنَّ حَقَّ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى جَمِيعِهَا أَوْ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ جَمِيعِهَا. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ السَّائِلُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمُخْتَلِفِ فِيهِ هَلْ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ، فَيَمْنَعُ مِنْ الْقِيَاسِ إنْ كَانَ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْأَصْلِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْعِلَّةِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا عِلَّةً، ثُمَّ يَذْكُرُ الْمُمَانَعَةَ فِي الْأَصْلِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسَلِّمًا، ثُمَّ يُطَالِبُ بِتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ يَقُولُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ إنْ أَمْكَنَهُ، ثُمَّ يَنْقُضُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ النَّقْضَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ ثُمَّ يَأْتِي عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْكَسْرِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ. ثُمَّ يَأْتِي بِالْقَلْبِ وَالْمُعَارَضَةِ. (قَالُوا) : وَإِنْ خَالَفَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَبَدَأَ بِغَيْرِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ الْأَحْسَنَ إلَّا فِي الْمُمَانَعَةِ وَالنَّقْضِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُضَ ثُمَّ يُمَانِعَ. لِأَنَّ النَّاقِضَ يَعْتَرِفُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَأَمَّا الْمَانِعُ فَيَمْنَعُ وُجُودَ الْعِلَّةِ، فَإِذَا مَانَعَ بَعْدَ الْمُنَاقَضَةِ فَقَدْ رَجَعَ فِيمَا سَلَّمَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي " النِّهَايَةِ ": صَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَصْرِ إلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ سُؤَالَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ، لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَ ثُمَّ سَلَّمَ يَكُونُ أَيْضًا مَنَعَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوحٍ جَدَلًا، وَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ الْمَنْعِ اعْتِرَافٌ بَعْدَ إنْكَارٍ وَهُوَ مَسْمُوحٌ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فِي أَمْرِ الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ فَلَأَنْ يُسْمَعَ ذَلِكَ هَاهُنَا أَوْلَى.

فَصْلٌ: ذَكَرُوا أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْئِلَةِ تَرْجِعُ إلَى الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ تَمَّ الدَّلِيلُ وَحَصَلَ الْغَرَضُ مِنْ إثْبَاتِ الْمُدَّعَى وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُعْتَرِضِ مَجَالٌ، فَيَكُونُ مَا سِوَاهَا مِنْ الْأَسْئِلَةِ بَاطِلًا فَلَا يُسْمَعُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ الْمُنُوعِ إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى جَمِيعِ الْمُقَدِّمَاتِ وَبَيَانِ لُزُومِ الْحُكْمِ فِيهَا وَإِلَّا لَاتَّجَهَ الْمَنْعُ. وَكَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ الْمُعَارَضَةِ إلَّا بِبَيَانِ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ عَنْ كُلِّهَا وَبَيَانِ كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهَا إلَى ذَلِكَ: أَمَّا الِاسْتِفْسَارُ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا كَانَ مُحْتَمَلًا لَا يَحْصُلُ غَرَضُ الْمُسْتَدِلِّ إلَّا بِتَفْسِيرِهِ، فَالْمُطَالَبَةُ بِتَفْسِيرِهِ تَسْتَلْزِمُ مَنْعَ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ وَمَنْعَ لُزُومِ الْحُكْمِ عَنْهُ، فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ. وَأَمَّا التَّقْسِيمُ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ أَوْ الْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ فَيَضْطَرُّهُ الْمَنْعُ إلَى اخْتِيَارِ الْقِسْمَيْنِ، وَحِينَئِذٍ يَتَّجِهُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ أَوْ الْمُعَارَضَةُ. وَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ فَهِيَ مَعَ لُزُومِ الْحُكْمِ عَنْ الْوَصْفِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي النَّقْضِ. وَأَمَّا النَّقْضُ فَمُعَارَضَةٌ، لِأَنَّهُ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ. وَأَمَّا الْفَرْقُ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَا يَكُونُ بَدَا مَعْنًى فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ. وَأَمَّا الْكَسْرُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ النَّقْضِ، وَالنَّقْضُ مُعَارَضَةٌ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْلِيمِ الدَّلِيلِ مَعَ اسْتِيفَاءِ النِّزَاعِ فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ مَنْعُ لُزُومِ الْحُكْمِ مِمَّا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ

وَأَمَّا الْقَلْبُ فَمُعَارَضَةٌ فِي الْحُكْمِ، وَقِيلَ: إنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ. وَأَمَّا عَدَمُ التَّأْثِيرِ فَمُعَارَضَةٌ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا احْتَجَّ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَرِضُ: مَا ذَكَرْته مِنْ الْمَعْنَى الْجَامِعِ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْعِلِّيَّةِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِدُونِهِ كَانَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً فِي الْمُقَدِّمَةِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ مُقَدِّمَةٌ فِي الْقِيَاسِ. وَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إلَى الْقَدْحِ فِي كَوْنِ الْجَامِعِ عِلَّةً بِبَيَانِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِدُونِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارَضَةٌ فِي الْعِلَّةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَدَّعِي كَوْنَ الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ عِلَّةً، وَالْمُعْتَرِضُ لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ يُبَيِّنُ كَوْنَ بَعْضِ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً لَا ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ كُلِّهِ، وَذَلِكَ مُعَارَضَةٌ لِلْكُلِّ بِالْبَعْضِ، وَهُوَ لَطِيفٌ غَامِضٌ. وَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَهُوَ مُعَارَضَةٌ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَيْفِيَّةُ تَوْجِيهِهِ أَنْ يُقَالَ: مُوجِبُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ رَاجِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ وَيُبَيِّنُهُ بِطَرِيقِهِ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ مُوجِبُهُ لَلَزِمَ التَّرْكُ بِالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ، وَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ. وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ شَرْطُ الْغَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لَهُ ذَاتًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُ وُجُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ، احْتِرَازًا مِنْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُسْتَدِلِّ فَهُوَ مُعَارَضَتُهُ لِمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ، كَانَ الْمُعَارَضَةُ عِبَارَةً عَنْ إقَامَةِ دَلِيلٍ يُوقَفُ بِهِ دَلِيلُ خَصْمِهِ. وَالتَّرْجِيحُ كَذَلِكَ. لِأَنَّهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الرَّاجِحِ، فَيَدْفَعُ مَا أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ لِكَوْنِهِ مَرْجُوحًا. وَأَمَّا فَسَادُ الْوَضْعِ فَهُوَ مَنْعُ لُزُومِ الْحُكْمِ عَنْ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ النَّصُّ مَوْجُودًا لَكِنَّ النَّصَّ مَوْجُودٌ. وَأَمَّا فَسَادُ الِاعْتِبَارِ فَيَرْجِعُ إلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّهُ مَعَ ثُبُوتِ الْقِيَاسِ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّصِّ وَقَدْ وُجِدَ النَّصُّ وَاعْتِبَارُ الْقِيَاسِ عَلَى وُجُودِهِ اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، فَإِذًا فَسَادُ الِاعْتِبَارِ رَاجِعٌ إلَى مَنْعِ لُزُومِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا دَعْوَى

كَوْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمُعَارَضَةِ فِي الْعِلَّةِ أَوْ فِي الْحُكْمِ. وَإِذَا عَلِمْتَ رُجُوعَ جَمِيعِ الِاعْتِرَاضَاتِ إلَى الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ رَاجِعَةٌ إلَى الْمَنْعِ. فَائِدَةٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: حَالُ الْمُتَنَاظِرَيْنِ، أَوْ النَّاظِرِ مَعَ نَفْسِهِ، فِي طَلَبِ وَجْهِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَحَالِ الْخَصْمَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ، فَالْمُسْتَدِلُّ كَالْمُدَّعِي، وَالسَّائِلُ كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ كَالْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ. وَأَصْلُ الْقِيَاسِ فِي الشَّاهِدِ. وَعِلَّةُ الْأَصْلِ كَنُطْقِ الشَّاهِدِ بِأَدَاءِ شَهَادَتِهِ. وَالشَّرْعُ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الْحَاكِمُ الَّذِي يُنَفِّذُ الْحُكْمَ أَوْ يَرُدُّ، بِالتَّصْدِيقِ أَوْ بِالتَّكْذِيبِ. وَرَدُّ السَّائِلُ الْقِيَاسَ لِوُجُودِ النَّظَرِ كَتَزْيِيفِ الشُّهُودِ وَرَدِّهِمْ بِأَمْرٍ لَازِمٍ لَا خِلَافَ فِيهِ. وَالْمُمَانَعَةُ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ وَوَصْفِهِ كَإِنْكَارِ حُضُورِ الشُّهُودِ. وَالْمُمَانَعَةُ فِي وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ كَإِنْكَارِ شَهَادَتِهِمْ، وَمِثْلُهُ إنْكَارُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، وَالْوَضْعُ الْفَاسِدُ كَتَنَافِي الشَّهَادَةِ وَتَوَافُقِهَا. وَالْمُطَالَبَةُ بِالدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ كَتَكْلِيفِ الْمُدَّعِي تَعْدِيلَ الشُّهُودِ. وَالنَّقْضُ كَإِظْهَارِ كَذِبِ الشُّهُودِ فِي مِثْلِ مَا شَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ كَتَفْسِيرِ الشَّهَادَةِ بِمَا يَحْتَمِلُهَا لِيَخْرُجَ مِنْ عُهْدَتِهَا بِالشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ. وَالْمُعَارَضَةُ كَمُقَابَلَةِ الشُّهُودِ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِخِلَافِهَا، فَتَتَهَافَتُ الشَّهَادَتَانِ، وَكُلُّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْقِيَاسِ، وَإِذَا سَلِمَ مِنْهَا كَانَ مَعْمُولًا بِهِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الْبَلْعَمِيُّ: الِانْقِطَاعُ كَاسْمِهِ، وَحُكْمُهُ مُقْتَضَبٌ مِنْ لَفْظِهِ، وَهُوَ

قُصُورُهُ عَنْ بُلُوغِ مَغْزَاهُ، وَعَجْزُهُ عَنْ إظْهَارِ مُرَادِهِ وَمُبْتَغَاهُ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: الِانْقِطَاعُ مِنْ الْمُجِيبِ مَا دَامَ السَّائِلُ مُطَالِبًا يَكُونُ إمَّا بِالْخُرُوجِ مِنْ مَسْأَلَةٍ إلَى مَسْأَلَةٍ عَنْ جَوَابِ مَا سَأَلَ عَنْهُ، أَوْ الِاعْتِرَافِ بِأَنْ لَا جَوَابَ عَنْهُ، أَوْ كَوْنِ مَا يَدْفَعُهُ عَدَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ إمَّا جَحَدَ الضَّرُورَةَ أَوْ سَمِعَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ، أَوْ السُّكُوتِ عَنْ الْجَوَابِ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ فِيهِ. وَانْقِطَاعُ السَّائِلِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ زِيَادَةٌ فِي سُؤَالِهِ، وَقَدْ يَتَهَيَّأُ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مَذْهَبٌ صَحِيحٌ وَإِلَيْهِ كُنْت أَدْعُوك اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا قَدْ ظَهَرَ مِنْ الْخِلَافِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا. وَالْخُرُوجُ مِنْ مَسْأَلَةٍ إلَى أُخْرَى لَا يَتَّصِلُ لِمُنَاقَضَةِ الْخَصْمِ أَوْ السُّكُوتِ بَعْدَ أَنْ يَقَعَ الْجَوَابُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الِانْقِطَاعُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَجْزِ عَنْ بُلُوغِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ إمَّا بِانْتِقَالِهِ مِنْ دَلِيلٍ لَمْ يُصَحِّحْهُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ بِالدَّلِيلِ، فَقِيلَ: انْقِطَاعٌ، وَالتَّحْقِيقُ: إنْ كَانَ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحُكْمِ لَمْ يَكُنْ انْقِطَاعًا وَلَا انْتِقَالًا. وَهَذَا كَمَا سَأَلَ إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ الشَّافِعِيَّ عَنْ بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ فَقَالَ: (هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ؟)

وَهَذَا إنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ.

فصل في الانتقال

[فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ] وَقَدْ مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِذَا تَنَقَّلَ فِي الْجَوَابِ مُجَادِلٌ ... دَلَّ الْعُقُولَ عَلَى انْقِطَاعٍ حَاصِرٍ وَلِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَاهُ لِمَ بَاتَ إفْحَامُ الْخَصْمِ وَلَا إظْهَارُ الْحَقِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْرَعُ فِي كَلَامٍ وَيَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ قَبْلَ تَمَامِ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ وَهُوَ إظْهَارُ الْحَقِّ وَإِفْحَامُ الْخَصْمِ. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا اسْتَفَادَ مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَنَقِّلِ عَنْهُ فَائِدَةً لَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَوَّلًا لَمْ تَحْصُلْ لَهُ تِلْكَ الْفَائِدَةُ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْإِرْشَادِ ". فَأَمَّا السَّائِلُ لَوْ انْتَقَلَ مِنْ السُّؤَالِ قَبْلَ تَمَامِهِ وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَازِمٌ فَبَانَ خِلَافَهُ فَمَكِّنُونِي مِنْ سُؤَالٍ آخَرَ فَفِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْهُ إذَا كَانَ انْحِدَارًا مِنْ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى. فَإِنْ كَانَ تَرَقِّيًا مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى، كَمَا لَوْ أَرَادَ التَّرَقِّي مِنْ الْمُعَارَضَةِ إلَى الْمَنْعِ فَقِيلَ: لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: يُمَكَّنُ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْإِرْشَادُ. وَأَمَّا الْمَسْئُولُ فَيُمَكَّنُ مِنْ الْغَرَضِ كَمَا سَيَأْتِي. وَلَوْ أَرَادَ الْعُدُولَ مِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ لَا يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ كَانَ مُنْقَطِعًا. فَإِنْ تَرَكَ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ لِعَجْزِ السَّائِلِ عَنْ فَهْمِهِ لَا يُعَدُّ انْقِطَاعًا. وَعَلَى ذَلِكَ حُمِلَتْ قَضِيَّةُ إبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ الِانْتِقَالَ مُطْلَقًا. مُحْتَجًّا بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى الْكَافِرِ

{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] بَعْدَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَهَذَا لَيْسَ بِانْتِقَالٍ، بَلْ هُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ فِي صَنْعَةِ الْجَدَلِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الِاحْتِجَاجَ عَلَى الْمُلْحِدِ بِمَا يَعْجِزُ هُوَ عَنْهُ وَيَعْتَرِفُ بِهِ. وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، أَوْرَدَ الْمُلْحِدُ شُبْهَةً خَيَالِيَّةً عَلَيْهِ فَبَدَّلَ ذَلِكَ الْمِثَالَ الْمَعْجُوزَ عَنْهُ بِمِثَالٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيرَادِ شُبْهَةٍ خَيَالِيَّةٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} [البقرة: 258] . وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمِثَالَيْنِ يَعْجِزُ عَنْهُ الْمُلْحِدُ قَطْعًا، إلَّا أَنَّ الْمِثَالَ الثَّانِيَ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ عَلَى إيرَادِ شُبْهَةٍ خَيَالِيَّةٍ عَلَيْهِ، فَإِذَنْ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَعْجِزُ مُدَّعِي الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ، وَالْمِثَالَانِ مُشْتَرَكَانِ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الْمِثَالَ الْأَوَّلَ أَمْكَنَهُ أَنْ يُبْدِيَ خَيَالًا فَاسِدًا عَلَيْهِ، وَالثَّانِي لَيْسَ كَذَلِكَ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمِثَالَيْنِ وَلَيْسَ انْتِقَالًا أَصْلًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: لَيْسَ هَذَا انْتِقَالًا، لِأَنَّ خَصْمَهُ لَمْ يَفْهَمْ دَلِيلَهُ الْأَوَّلَ، وَعَارَضَهُ عَلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى بِتَرْكِهِ قَتْلَ مَنْ يُمْكِنُهُ قَتْلُهُ. وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ بَاقِيَةٌ لِعَجْزِهِ عَنْ إحْيَاءِ مَنْ قَدْ مَاتَ، فَلَمَّا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ أَلْزَمَهُ حُجَّةً أُخْرَى هِيَ إلَى فَهْمِ خَصْمِهِ أَقْرَبُ فَقَالَ: إنْ كُنْت إلَهًا فَاقْلِبْ الشَّمْسَ فِي سَيْرِهَا إلَى طُلُوعِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا إنْ كُنْت مُجْرِيهَا، فَاعْتَرَفَ خَصْمُهُ عَنْ جَوَابِهِ فِي الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ وَكَانَ فِي التَّحْقِيقِ مُنْقَطِعًا عَنْ الْجَوَابِ فِي الْأُولَى قَبْلَ الثَّانِيَةِ لَوْ أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي الْأَرْبَعِينَ ": الدَّلِيلُ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُوَ حُدُوثُ مَا لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى إحْدَاثِهِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قَادِرٍ آخَرَ غَيْرِ الْخَلْقِ. ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى لَهُ أَمْثِلَةُ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَشْرِقِهَا. فَهَذَا كَانَ انْتِقَالًا مِنْ مِثَالٍ إلَى مِثَالٍ. أَمَّا الدَّلِيلُ فَشَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْحَالَيْنِ.

فصل في الفرض والبناء

[فَصْلٌ فِي الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ] اعْلَمْ أَنَّ لِلْمَسْئُولِ فِي الدَّلَالَةِ ثَلَاثَةَ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ فِي بَعْضِ شُعَبِهَا وَفُصُولِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا فَوَاضِحٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الْكَلَامَ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا جَازَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الْكُلِّ وَثَبَتَ الدَّلِيلُ فِي بَعْضِهَا ثَبَتَ الْبَاقِي بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ فِي غَيْرِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى غَيْرِهَا فَيَجُوزُ، لِأَنَّهُ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْمَسْأَلَةِ. وَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ، كَقَوْلِ الظَّاهِرِيِّ فِي الْغُسْلِ لَا. بِنَاءً عَلَى مَنْعِ الْقِيَاسِ، وَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فَرْعِيَّةٍ، كَالْخِلَافِ فِي الشَّعْرِ هَلْ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ؟ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هَلْ تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ أَمْ لَا؟ هَذَا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا. فَإِنْ اخْتَلَفَ لَمْ يَجُزْ بِنَاءُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. كَمَا لَوْ سُئِلَ الْحَنَفِيُّ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ فَقَالَ: أَنَا أَبْنِيهِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الْبِنَاءُ، لِأَنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ فِي عِبَارَاتِهِمْ (وَالْفَرْضُ وَالْبِنَاءُ) مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَسْأَلَ الْمُسْتَدِلُّ عَامًّا فَيُجِيبُهُ خَاصًّا، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ ذَاتَ صُوَرٍ، فَيَسْأَلُ السَّائِلُ عَنْهُ سُؤَالًا لَا يَقْتَضِي الْجَوَابَ عَلَى جَمِيعِ صُوَرِهَا، فَيُجِيبُ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ صُورَةٍ أَوْ صُورَتَيْنِ مِنْهَا، لِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الْقَطْعُ

وَالتَّقْدِيرُ، فَكَأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ اقْتَطَعَ تِلْكَ الصُّورَةَ عَنْ أَخَوَاتِهَا فَأَجَابَ عَنْهَا. وَهُوَ إمَّا فَرْضٌ فِي الْفَتْوَى، كَمَا لَوْ سُئِلَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، هَلْ يَنْعَقِدُ أَمْ لَا؟ فَيَقُولُ: لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، لِوُرُودِ النَّهْيِ، فَإِنَّ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ مِنْ صُوَرِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا عَيْنِهِ. وَإِمَّا فَرْضٌ فِي الدَّلِيلِ بِأَنْ يَبْنِيَ عَامًّا وَيَدُلَّ خَاصًّا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ، لِأَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ» . وَالضَّابِطُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَدِلُّ يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا، فَإِذَا تَمَّ لَهُ فِيهَا الدَّلِيلُ بَنَى الْبَاقِيَ مِنْ الصُّوَرِ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْفَرْضُ وَالْبِنَاءُ. وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِهِ: فَذَهَبَ ابْنُ فُورَكٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ حَقَّ الْجَوَابِ أَنْ يُطَابِقَ السُّؤَالَ. وَذَهَبَ غَيْرُهُ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ إلَى الْجَوَازِ، لِأَنَّ الْمَسْئُولَ قَدْ لَا يَجِدُ دَلِيلًا إلَّا عَلَى بَعْضِ صُوَرِ السُّؤَالِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَرِدُ عَلَى جَوَابِهِ الْعَامِّ إشْكَالٌ لَا يَنْدَفِعُ، فَيَتَخَلَّصُ مِنْهُ بِالْفَرْضِ الْخَاصِّ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْفَرْضِ شَامِلَةً لِسَائِرِ الْأَطْرَافِ. (قَالَ) : وَالْمُسْتَحْسَنُ مِنْهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي طَرَفٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ سُؤَالِ السَّائِلِ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِشْعَارِ انْتِشَارِ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ الْأَطْرَافِ وَعَدَمِ وَفَاءِ مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِاسْتِتْمَامِ الْكَلَامِ فِيهَا. وَحَاصِلُهُ: إنْ ظَهَرَ انْتِظَامُ الْعِلَّةِ الْعَامَّةِ فِي الصُّورَتَيْنِ كَانَ مُسْتَحْسَنًا وَإِلَّا كَانَ مُسْتَهْجَنًا. وَفَائِدَتُهُ كَوْنُ الْعِلَّةِ قَدْ تَخْفَى فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَفِي بَعْضِهَا أَظْهَرُ. فَالتَّفَاوُتُ بِالْأَوْلَوِيَّةِ خَاصَّةً وَالْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا بِمَثَابَةِ تَوَجُّهِ النَّهْيِ

إلَى جَمِيعِ أَذِيَّاتِ الْأَبِ إلَى التَّأْفِيفِ. وَيُشْبِهُ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّوَاطُؤِ وَالْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّ نِسْبَةَ الْآحَادِ إلَى التَّوَاطُؤِ مُتَسَاوِيَةٌ، بِخِلَافِ الْمُشْكِلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَأَعْجَبَنِي مِنْ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ كَلَامٌ أَوْرَدَهُ فِي اسْتِبْعَادِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ سَهْمٍ، فَإِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ حَمَلَ الْوَصِيَّةَ عَلَى الْأَقَلِّ: فَمَهْمَا سَلَّمَهُ الْوَرَثَةُ خَرَجُوا بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ. فَكَانَ يَسْتَبْعِدُ هَذَا وَيَفْرِضُ فِيمَا لَوْ اُحْتُضِرَ مُتَمَوِّلٌ وَاسِعُ الْمَالِ فَعَطَفَهُ الْحَاضِرُونَ عَلَى وَلَدِ وَلَدٍ تُوُفِّيَ فِي حَيَاتِهِ وَقِيلَ لَهُ: إنَّ وَلَدَ وَلَدِك لَا مِيرَاثَ لَهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَلَوْ وَصَلْتَ رَحِمَهُ وَأَغْنَيْتَ فَقْرَهُ بَعْدَك بِأَنْ تُوصِيَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِك لِيَكُونَ لَهُ مَعَ وَلَدِك مَدْخَلٌ. فَقَالَ الْمُحْتَضَرُ: قَدْ أَوْصَيْت لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِي، وَأَوْصَى عَمُّهُ بِهِ حِينَ تُوُفِّيَ هَذَا الْمُحْتَضَرُ، فَعَمَدَ وَلَدُهُ إلَى سَفَرْجَلَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ فَسَلَّمَهَا لِوَلَدِ الْوَلَدِ زَاعِمًا أَنَّ هَذَا مُرَادُ أَبِيهِ لِقَطْعِ كُلِّ عَاقِلٍ بِأَنَّ هَذَا الْوَارِثَ مُدَافِعٌ لِلْوَصِيَّةِ مُرَادٌ. وَكَانَ الشَّيْخُ يَسْتَصْوِبُ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي حَمْلِهِ (السَّهْمَ) عَلَى إلْحَاقِ الْمُوصَى لَهُ بِسُهْمَانِ الْوَرَثَةَ. لَكِنْ يَرْجِعُ إلَى أَقَلِّهِمْ سَهْمًا فَيُعْطَى مِثْلَهُ جَمْعًا بَيْنَ الْمُعَرَّفِ وَبَيْنَ الْأَصْلِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْأَقَلِّ. وَمِثْلُ هَذَا الْفَرْضِ يُسْتَحْسَنُ لَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِ الصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ الدَّلِيلِ وَإِنْ كَانَ شَامِلًا لِلْجَمِيعِ وَلَكِنْ شُمُولًا مُتَفَاوِتًا. قَالَ: ثُمَّ وَقَعَ لِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْخَ فِي فَرْضِهِ إيقَافٌ لِلْأَذْهَانِ فِي مُبَادِيهَا، وَإِذَا تُؤُمِّلَ انْدَفَعَ التَّشْنِيعُ مِنْ الْفَقِيهِ الْمُفْتِي بِأَقَلِّ شُمُولٍ لَا الْمُوصِي الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِاللَّوْمِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُوصِيَ لَوْ قَالَ فِي السِّيَاقِ الْمَذْكُورِ: ادْفَعُوا لَهُ أَقَلَّ مُتَمَوَّلٍ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قَبُولِ السَّفَرْجَلَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى سَائِرِ الْمَذَاهِبِ. وَكَذَا لَوْ صَرَّحَ بِهَا، وَلَا لَوْمَ عَلَى الْفَقِيهِ إذَا قَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى بِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا عَدَلَ الْمُوصِي عَنْ التَّعْيِينِ وَقَالَ: ادْفَعُوا لَهُ سَهْمًا أَوْ جُزْءًا. وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ (الْأَكْثَرَ) لَا يَنْضَبِطُ. وَكَذَلِكَ

الْأَوْسَطُ) لِتَعَدُّدِ حَالِ الْوَسَائِطِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْأَطْرَافِ الثَّلَاثَةِ إلَّا (الْأَقَلُّ) فَكَانَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ، فَاللَّائِمَةُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُوصِي لَا عَلَى الْمُفْتِي. وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ مَسْأَلَةٍ عَلَى أُخْرَى إنْ كَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَإِنْ ابْتَدَأَ الدَّلَالَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُرِيدُ الْبِنَاءَ فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأُصُولِ، كَاسْتِدْلَالِ الْمَالِكِيِّ عَلَى الْحَنَفِيِّ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَذَانِ. فَإِنْ سَلَّمَ الْحَنَفِيُّ تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا عَدَلَ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْئِلَةِ، وَإِلَّا قَالَ لَهُ الْمَسْئُولُ: هَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِي، وَأَنَا أَبْنِي فَرْعِي عَلَى أَصْلِي، فَإِنْ سَلَّمْت وَإِلَّا نَقَلْت الْكَلَامَ، فَإِنْ نَقَلَ جَازَ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ وَلَا أَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ فَرْعًا يُمَانِعُهُ السَّائِلُ، فَإِنْ أَرَادَ نَقْلَ الْكَلَامِ إلَى مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي، اعْتِبَارًا بِبِنَائِهَا عَلَى أَصْلٍ مِنْ الْأُصُولِ الظَّاهِرَةِ.

فصل في حيل المتناظرين

[فَصْلٌ فِي حِيَلِ الْمُتَنَاظِرِينَ] فَصْلٌ قَالَ الْبَلْعَمِيُّ فِي الْغَرَرِ ": أَلْطَفُ حِيَلِ الْمُتَنَاظِرِينَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ أَحَدُهَا: نَقْلُ السَّائِلِ عَنْ سُؤَالٍ: وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اسْتِشْهَادِهِ عَلَى الْمُجِيبِ بِمَا يَلْزَمُهُ وَيَقْطَعُهُ. فَإِذَا أَرَادَ الْمُجِيبُ نَقْلَهُ جَحَدَ بَعْضَ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا، فَإِذَا بَيَّنَهُ اخْتَلَطَ الْكَلَامَانِ، وَبِهِ يَنْقُلُهُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إلَى غَيْرِهَا، فَيَجِبُ عَلَى السَّائِلِ إمْعَانُ النَّظَرِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَالثَّانِي: تَقْسِيمُ السُّؤَالِ: وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُجِيبُ إلَى أَحْوَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِوُجُوهٍ شَتَّى قَسَّمَهُ عَلَى وُجُوهِهِ لِيُطِيلَ مُنَاظَرَةَ السَّائِلِ وَيَشْغَلَ قَلْبَهُ عَنْ قُوَّةِ الْمُنَاظَرَةِ، فَيَبْطُلُ غَرَضُ السَّائِلِ فِي الْجَدَلِ. فَالْوَاجِبُ عَلَى السَّائِلِ أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ التَّقْسِيمِ، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ غَرَضُهُ. الثَّالِثُ: ضَرْبُ الْأَمْثَالِ: وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ تَكْثِيرَ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْقُرْآنِ لِيَجْبُنَ خَصْمُهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ فِي جَوَابِ دَعْوَاهُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41] وَقَوْلُهُ: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] فَإِذَا أَرَادَ الْخَصْمُ إلْزَامَهُ فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَانْقَطَعَ دُونَهُ تَلَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]

فصل في التعلق بمناقضات الخصوم

[فَصْلٌ فِي التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ] لَخَّصْتُهُ مِنْ كَلَامِ إلْكِيَا: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْمَذَاهِبِ إلَّا بِدَلِيلٍ إجْمَاعِيٍّ أَوْ مُسْتَقِلٍّ مِنْ أَوْضَاعِ الشَّرْعِ وِفَاقًا. وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ فِي الْمُنَاظَرَةِ: - فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى جَوَازِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْجَدَلِ تَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَى الْخَصْمِ وَإِبَانَةُ اسْتِقَامَةِ أَصْلِهِ. - وَفَصَّلَ الْقَاضِي تَفْصِيلًا حَسَنًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إنْ كَانَتْ الْمُنَاقَضَةُ عَائِدَةً إلَى تَفَاصِيلِ أَصْلٍ لَا يَرْتَبِطُ فَسَادُهَا وَصِحَّتُهَا بِفَسَادِ الْأَصْلِ بِحَالٍ، بَلْ الْأَصْلُ إذَا ثَبَتَ اُسْتُصْحِبَ حُكْمُهُ عَلَى الْفَرْعِ فَلَا يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَعُودُ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَلَئِنْ قِيلَ: فِيهَا مَقْصُودٌ صَحِيحٌ وَهُوَ اضْطِرَارُ الْخَصْمِ إلَى إبَانَةِ الْحُجَّةِ الَّتِي يُعَوِّلُ الْخَصْمُ عَلَيْهَا فَبِهِ يَتِمُّ النَّظَرُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى الْمَأْخَذِ عَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ، وَلَكِنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْفَرْعَ فَاسِدٌ لِفَسَادِ نَظَرِ الْخَصْمِ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ لَا فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا يَعِزُّ وُجُودُهُ، وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ كَانَ حُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ التَّعَلُّقُ بِالْفَرْعِ مِنْ قَبْلِ امْتِحَانِ الْأَصْلِ بِسِيَاقِهِ وَعَلِمَ أَنَّ الْفَرْعَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْأَصْلِ، فَيَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ وِفَاقًا. وَسَبَبُ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيُفْتَى فِيهَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَصْبِ دَلِيلٍ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ، وَلَنْ يَتَحَقَّقَ نَصْبُ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) الْهُجُومُ عَلَى ذِكْرِ الدَّلِيلِ وَالْبَحْثُ عَنْ الْمَعْنَى، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ. وَ (الثَّانِي) أَنْ يَنْقَدِحَ بِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ إلَى إثْبَاتِ مَذْهَبِهِ

إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَذْهَبَانِ، أَوْ اعْتِرَافًا بِأَنَّ مَا عَدَا الْمَذْهَبَيْنِ بَاطِلٌ. وَإِقْرَارُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا حُجَّةٌ. مَسْأَلَةٌ قَالَ: إذَا ذَكَرَ الْمُعَلِّلُ وَصْفًا وَقَاسَ عَلَى أَصْلٍ فَهَلْ عَلَيْهِ إثْبَاتُ عِلَّةِ الْأَصْلِ بِطَرِيقٍ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ أَمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيُقَالُ لِلسَّائِلِ: إنْ أَنْتَ أَثْبَتَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بَطَلَ تَعْلِيلُهُ؟ قَالَ إلْكِيَا: فِيهِ خِلَافٌ: فَصَارَ صَائِرُونَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى السَّائِلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُعَلِّلَ ذَكَرَ وَصْفًا أَصْلًا، فَقَدْ وُجِدَ فِيهِ حَدُّ الْقِيَاسِ وَرُكْنُهُ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، وَأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ يَرْبِطُ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنَّمَا يَفْسُدُ لِاخْتِلَالِ الشَّرَائِطِ، وَهَذَا لَيْسَ بِالْعَرِيِّ عَنْ التَّحْصِيلِ. وَلَوْ فُرِضَ التَّوَاطُؤُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا. وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مَعَ هَذَا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُعَلِّلِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ مَقْصُودِهِ، لِيَخْرُجَ الْكَلَامُ عَنْ حَدِّ الدَّعْوَى بِظُهُورِ مُخَيَّلٍ. ثُمَّ الْقَوَادِحُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ. وَإِذَا عَرَفَ هَذَا فَلَوْ ذَكَرَ مَعْنًى مُنَاسِبًا كَفَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَعَانِي مُنْقَسِمَةً إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْمَعَانِي الَّتِي لَهَا أُصُولٌ، وَالْبُطْلَانُ مُعَارِضٌ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ لِلْأَصْلِ اعْتِبَارَ أَوْصَافٍ لَهَا أُصُولٌ فَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُنَاسَبَةُ فَالْأَمْرُ فِي الْوَصْفِ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ الطَّرْدِ حُجَّةً وَرَاءَ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: إنَّ الْحُكْمَ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ، وَالْأَوْصَافَ تَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فِي الطَّرْدِ، وَالْوَصْفَ عِنْدَ مُثْبِتِهِ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ عَلَى السَّوَاءِ فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَالْوَصْفُ الْمُطْلَقُ كَالْمُخَيَّلِ. وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ إبْرَازِ الْإِخَالَةِ وَالْعَرْضِ عَلَى الْأُصُولِ، تَحْقِيقًا لِشَرْطِهِ.

فصل في الاحتجاج بالمختلف فيه بين الخصمين

[فَصْلٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ] قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: يَصْلُحُ لِمُثْبِتِي الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي دَلِيلُهَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنِّي أُخَالِفُك فِي الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، قِيلَ لَهُ: إنْ أَنْتَ خَالَفْتنِي فِيهِمَا فَوَجْهُ دَلَالَتِي مِنْهُ كَذَا، فَإِنْ خَالَفْتنِي فِيهِ بَيِّنَتُهُ عَلَيْك، وَإِنْ سَلَّمْتَهُ فَحُجَّتِي بَيِّنَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَدُلَّك عَلَى الْأَوَاخِرِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ الْوَسَائِطِ. فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ أَوْ يَشُكَّ فِي الْأَصْلِ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الدَّلِيلِ بِالدَّلِيلِ، إذْ قَدْ كَانَ الدَّلِيلُ يُسَوَّغُ فِيهِ الْخِلَافُ. وَهَذَا يُفَسِّرُ قَوْلَ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ إنَّهُ إذَا سُئِلَ عَنْ الدَّلِيلِ قَالَ: الدَّلِيلُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ. وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَأَدَّى إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. فَيُقَالُ لَهُ: لَا نُسَلِّمُ صَيْرُورَتَهُ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، لِأَنَّ الْأَسْئِلَةَ مُنْحَصِرَةٌ وَشَوَاهِدُ الْعَقْلِ تَمْنَعُهُ. وَلِهَذَا لَمَّا زَعَمَ الْكُفَّارُ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْبَشَرِ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ رَدَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إلَى مَا فِي عُقُولِهِمْ، أَيْ: أَيُّهَا الْبُلَغَاءُ الْفُصَحَاءُ إنْ كَانَ كَمَا تَقُولُونَ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَإِذَا عَجَزْتُمْ مَعَ مَا اجْتَمَعَ فِيكُمْ مِنْ الصِّفَةِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ الْأُمِّيِّ الَّذِي نَشَأَ بَيْنَكُمْ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ خَصْمَهُ مَا لَا يَقُولُ بِهِ إلَّا النَّقْضَ، فَأَمَّا غَيْرُهُ، كَدَلِيلِ الْخِطَابِ أَوْ الْقِيَاسِ أَوْ الْمُرْسَلِ وَنَحْوِهِ، فَلِأَنَّهُ اسْتِشْهَادُ الْخُصُومِ عَلَى صَوَابِ مَذْهَبِهِمْ بِخَطَأِ غَيْرِهِمْ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: رَأَيْت جَمَاعَةً مِنْ الْحُذَّاقِ يُسَمُّونَ هَذَا الِاعْتِلَالَ حَدًّا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: قُلْت كَذَا وَلَمْ أَقُلْ كَذَا كَمَا قُلْت، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ الْمُخَالِفِ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى صَوَابِ قَوْلِهِ فِي تَرْكِ مَا تَرَكَهُ وَاخْتِيَارِ

مَا اخْتَارَهُ بِخَطَأِ خَصْمِهِ فِي تَرْكِ مَا يَدَّعِيهِ مَعَ اخْتِيَارِهِ لِنَظِيرِهِ. مِثَالُهُ: لَوْ سَأَلَ الشَّافِعِيُّ مَالِكِيًّا فِي الْمُصَلِّي تَطَوُّعًا إذَا قَطَعَهُ لِعُذْرٍ وَلَمْ يُعِدْ، أَوْ مُخْتَارًا أَعَادَ، وَقَدْ قُلْتُ: مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ تَطَوُّعٍ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَوَّيْت فِي الْوَاجِبِ مِنْ الْفَرْضِ بَيْنَ مَنْ اخْتَارَ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَمَنْ اُضْطُرَّ فِي الْإِعَادَةِ، فَلِمَ لَا جَعَلْتَ الْإِعَادَةَ فِيهِمَا سَوَاءً؟ فَيَقُولُ لَهُ: قُلْت فِي هَذَا كَمَا قُلْت أَنْتَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ: لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَأَنَّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الْوَاجِبِ أَعَادَ وَمَنْ أَحْدَثَ فِي التَّطَوُّعِ لَمْ يُعِدْ. فَهَذَا الِاعْتِلَالُ مِنْ الْمَالِكِيِّ خَطَأٌ. لِأَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُ الْإِعَادَةُ فِيهِمَا فَلْيَقُلْهُ، وَهُوَ لَا يَقُولُ.

فصل في السؤال والجواب

[فَصْلٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ] قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: السُّؤَالُ إمَّا اسْتِفْهَامٌ مُجَرَّدٌ وَهُوَ الِاسْتِخْبَارُ عَنْ الْمَذْهَبِ أَوْ الْعِلَّةِ، وَإِمَّا اسْتِفْهَامٌ عَنْ الدَّلَالَةِ، أَيْ الْتِمَاسُ وَجْهِ دَلَالَةِ الْبُرْهَانِ ثُمَّ الْمُطَالَبَةُ بِنُفُوذِ الدَّلِيلِ وَجَرَيَانِهِ. وَسَبِيلُ الْجَوَابِ: هَكَذَا أَخْتَارُ: مُجَرَّدٌ، ثُمَّ الِاعْتِلَالُ، ثُمَّ طَرْدُ الدَّلِيلِ. ثُمَّ السَّائِلُ فِي الِابْتِدَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَذْهَبِ مَنْ يَسْأَلُهُ أَوْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ. ثُمَّ إمَّا أَنْ لَا يَعْلَمَ صِحَّتَهُ فَسُؤَالُهُ لَا مَعْنَى لَهُ. وَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ فَسُؤَالُهُ رَاجِعٌ إلَى الدَّلِيلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْأَصْلَ الَّذِي يَسْتَشْهِدُ بِهِ الْمُجِيبُ فَسُؤَالُهُ عَنْهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الَّذِي أَحْوَجَهُ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ، فَإِذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الشَّاهِدِ فَالسُّؤَالُ عَنْهُ أَوْلَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ لَا يَسْأَلَ الْمُنَاظَرَةَ إلَّا بَعْدَ فَهْمِ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ. وَكَذَا لَا يَنْبَغِي لِلْمُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَهُ، وَبِسَبَبِ هَذَا يَقَعُ الْخَبْطُ فِي الْمُنَاظَرَاتِ. وَلَيْسَ لِلْمُجِيبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى السَّائِلِ بِالْجَوَابِ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ هُوَ أَوْ يَعْتَرِفَ بِالْعَجْزِ عَنْهُ أَوْ يُضْرِبَ عَنْهُ. فَإِنْ سَأَلَ السَّائِلُ الْجَوَابَ أَجَابَ. فَإِنْ قِيلَ لَهُ: هَذَا يَلْزَمُك فِي مَذْهَبِك كَمَا سَأَلْت، فَإِنَّ هَذَا رُبَّمَا فُعِلَ لِلْحِيلَةِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ: عَنْ حُجَّتِك لِنَفْسِك ثُمَّ إنْ شِئْت فَعُدْ بَعْدَ ذَلِكَ سَائِلًا، فَإِمَّا أَنْ تُجِيبَ أَوْ تَعْتَرِفَ بِأَنْ لَا جَوَابَ. ثُمَّ تَقْبَلُ سُؤَالَهُ إنْ شِئْت. وَإِنْ كَانَ إذَا سُئِلْت عَنْ شَيْءٍ يَرْجِعُ عَلَى خَصْمِك فَقُلْ: إنَّمَا أُجِيبُك عَنْ هَذَا بِشَرْطِ أَنْ تَصْبِرَ لِقَلْبِنَا عَلَيْك السُّؤَالَ، فَإِنَّ سُؤَالَك رَاجِعٌ عَلَيْك فَهُوَ كَمَا تَسْأَلُ عَنْ نَفْسِك. وَلَا يَتْرُكُ الْجَوَابَ عَمَّا يُسْأَلَ وَيَرْجِعُ سَائِلًا إلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا جَاهِلٌ

يَجِدُ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فَلَا يُنَاظِرُ، أَوْ يَقْدِرُ أَنْ يَحْتَالَ عَلَى خَصْمِهِ مِنْ أَنْ يُظْهِرَ الِانْقِطَاعَ أَوْ الْعَجْزَ عَنْ الْجَوَابِ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ غَبِيٌّ. وَلْيَحْذَرْ الْمُجِيبُ تَكْرَارَ اللَّفْظِ الْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، فَرُبَّمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ زِيَادَةً. (قَالَ) : وَمَا رَأَيْت أَحْسَنَ مِنْ صَبْرِ الْخَصْمِ عَلَى الْخَصْمِ حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْ هَذَيَانِهِ قَالَ لَهُ: لَمْ أَفْهَمْ مَا كُنْت فِيهِ فَأَعِدْ عَلَيَّ كَلَامَك فِي مَهْلٍ وَأَرِنِي مَوْضِعَ النُّكْتَةِ لِأَفْهَمَهَا عَنْك وَأُفْهِمَك الْجَوَابَ، فَهَذَا أَقْطَعُ مِنْ الْحَدِيدِ لِلْخُصُومِ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَصْغِرَ خَصْمًا، فَإِنْ اسْتَصْغَرْته فَالْوَجْهُ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ، فَلَرُبَّمَا هَجَمَ مِنْ اسْتِصْغَارِهِ الِانْقِطَاعُ لِقِلَّةِ التَّحَفُّظِ مِنْهُ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ، فَقَدْ رَأَيْت ذَلِكَ مُشَاهَدَةً. وَإِنْ كُنْت فِي مَحْفِلٍ فِيهِ عَامَّةٌ فَمَتَى ذَهَبْتَ تُرَاعِيهِمْ بَطَلَ مَا يَحْتَاجُ إلَى تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ، وَلَا يَغُرَّنَّكَ مَيْلُ بَعْضِ النَّاسِ إلَى الْخَصْمِ، أَوْ تَفْضِيلُ الْعَامَّةِ لِصِيَاحِ الْخَصْمِ فَالْعَمَلُ عَلَى أَهْلِ التَّمْيِيزِ. وَمَتَى سَبَقَتْ مِنْك كَلِمَةٌ لَيْسَتْ بِصَوَابٍ فَلَا تَقِفْ عَلَيْهَا وَاعْتَرِفْ بِهَا، فَإِنَّهَا سَبْقُ لِسَانٍ، فَإِنَّك إنْ أَخَذْت فِي تَصْحِيحِهَا ذَهَبَ عَنْك صَحِيحُ الْكَلَامِ. وَاعْتَرِفْ بِالْحَقِّ إذَا وَضَحَ، فَإِنْ لَمْ يُضَحْ فَالْزَمْ بِالْبُرْهَانِ، فَإِنَّهُ عَسِرٌ جِدًّا. وَامْنَعْ خَصْمَك مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَى غَيْرِك إذَا كَانَ مُنَاظِرًا وَاسْتَعْمِلْ مِثْلَهُ مَعَهُ وَلَا يَكُنْ هَمُّك إلَّا مَا قَامَ بِهِ مَذْهَبُك وَلَا تَشْتَغِلْ بِسِوَاهُ. وَلَا يَعْطِفَنَّكَ أُنَاسٌ مِنْ خَاطِرٍ، فَرُبَّمَا بَانَ وَجَاءَ وَأَنْتَ فِي حَالِ الْفِكْرِ وَهَذَا عَلَامَةُ الطَّبْعِ الْجَيِّدِ. وَلَا تَتَكَلَّمْ فِي مَوْضِعِ الْعَصَبِيَّةِ عَلَيْك، أَوْ فِي مَجْلِسٍ تَخَافُ مِنْهُ صَاحِبَهُ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْفِكْرَ.

وَلَا تُخَاطِبْ مَنْ لَا يَفْهَمُ عَنْك إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرْشِدًا وَهَذِهِ سِيَاسَةٌ فَاسْتَوْصِ بِهَا. (انْتَهَى) . وَعَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ: كُلُّ خَاطِرٍ يَجِيئُك بَعْدَ الْمُنَاظَرَةِ فَاحْبِسْ عَلَيْهِ، حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي " الرِّحْلَةِ " وَكَانَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى إذَا أَفْحَمَهُ خَصْمُهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ قَالَ: مَا أَلْزَمْت لَازِمٌ، فَأَنَا فِيهِ نَاظِرٌ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] فَائِدَةٌ: إذَا قُلْت لِلْمُسْتَدِلِّ: " قَوْلُك لَا يَصِحُّ " احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) الْحُكْمُ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ وَ (الثَّانِي) أَنَّك لَا تَحْكُمُ بِالصِّحَّةِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ عَدَمِ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْعَدَمِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ عَالِمٍ بِذَلِكَ الْعَدَمِ، وَعَدَمُ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ يَكُونُ مِنْ الشَّاكِّ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ وَالْمُتَرَدِّدِ فِيهِ. فَتَفَطَّنْ بِمَعَانِي الْعِبَارَاتِ.

كتاب الأدلة المختلف فيها

[كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا الِاسْتِدْلَال عَلَى فَسَادِ الشَّيْءِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهِ جَوَّزَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَالَ: وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَسْتَعْمِلُهُ كَثِيرًا، إذَا سُئِلَ عَنْ مَسَائِلَ فَقِيلَ: مَا أَنْكَرْت مِنْهَا؟ يَقُولُ: لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ اُشْتُهِرَتْ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، يَسْتَدِلُّونَ بِهَا فِي مَسَائِلَ لَا تُحْصَى إلَى طُرُقِ النَّفْيِ. الِاسْتِدْلَال عَلَى فَسَادِ الشَّيْءِ بِفَسَادِ نَظِيرِهِ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: كُلُّ دَلِيلٍ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ شَيْءٌ بِالْإِثْبَاتِ أَوْ النَّفْيِ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى فَسَادِ ضِدِّهِ إذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الضِّدِّ، لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ. وَلِأَصْحَابِنَا فِي مِثْلِ هَذَا مُغَالَطَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ لِلْأُمَّةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ، فَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ اثْنَيْنِ مِنْهَا، ثُمَّ يَقُولُ: إذَا فَسَدَتْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ صَحَّ الْآخَرُ، وَالْوَجْهُ فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ لِلْخَصْمِ: عَرَفْت صِحَّةَ الصَّحِيحِ مِنْهَا، وَفَسَادَ غَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا، فَإِنَّ الَّذِي أَفْسَدَ تِلْكَ غَيْرُ صِحَّةِ هَذَا.

الاستدلال على عدم الحكم بعدم الدليل

[الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ] ِ حَقٌّ عِنْدَ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، لَلَزِمَ مِنْهُ تَكْلِيفُ الْمُحَالِ. [الِاسْتِقْرَاءُ] ُ وَهُوَ تَصَفُّحُ أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ لِيَحْكُمَ بِحُكْمِهَا عَلَى أَمْرٍ يَشْمَلُ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ. وَيَنْقَسِمُ إلَى: تَامٍّ، وَنَاقِصٍ. فَالتَّامُّ: إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي جُزْئِيٍّ لِثُبُوتِهِ فِي الْكُلِّيِّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمَنْطِقِيُّ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ. وَهُوَ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَمِثَالُهُ: كُلُّ صَلَاةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَفْرُوضَةً أَوْ نَافِلَةً، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعَ الطَّهَارَةِ. فَكُلُّ صَلَاةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعَ طَهَارَةٍ. وَهُوَ يُفِيدُ الْقَطْعَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ شَيْءٍ عَلَى التَّفْصِيلِ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ ثَابِتٌ لِكُلِّ أَفْرَادِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ. وَالنَّاقِصُ: إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي كُلِّيٍّ لِثُبُوتِهِ فِي أَكْثَرِ جُزْئِيَّاتِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى جَامِعٍ. وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ بِ (الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ) . وَهَذَا النَّوْعُ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ الْغَالِبَ، وَلَا يُفِيدُ الْقَطْعَ.

لِاحْتِمَالِ تَخَلُّفِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ الْحُكْمِ، كَمَا يُقَالُ: التِّمْسَاحُ يُحَرِّكُ الْفَكَّ الْأَعْلَى عِنْدَ الْمَضْغِ. فَإِنَّهُ يُخَالِفُ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ فِي تَحْرِيكِهَا الْأَسْفَلَ. وَاخْتَارَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ صَاحِبُ الْحَاصِلِ " وَالْمِنْهَاجِ " وَالْهِنْدِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ مِمَّا يُعْسَرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، فَلَا يُوثَقُ بِهِ إلَّا إذَا تَأَيَّدَ الِاسْتِقْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ. وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ فَقَالَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الظَّنَّ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ الْحُصُولِ يَكُونُ حُجَّةً. وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الظَّنَّ أَمْ لَا؟ لَا فِي أَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْهُ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً أَمْ لَا؟ . وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلِهَذَا لَمَّا عَلِمْنَا اتِّصَافَ أَغْلَبِ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ وَصْفَهُمْ بِالْكُفْرِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا أَنَّ جَمِيعَ مَنْ نُشَاهِدُهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ، حَتَّى جَازَ لَنَا اسْتِرْقَاقُ الْكُلِّ وَرَمْيُ السِّهَامِ إلَى جَمِيعِ مَنْ فِي صَفِّهِمْ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ مَا ذَكَرْنَا لَمَا جَازَ ذَلِكَ. وَقَدْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالِاسْتِقْرَاءِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَعَادَةِ الْحَيْضِ بِتِسْعِ سِنِينَ، وَفِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَقَالُوا: فَلَوْ وَجَدْنَا الْمَرْأَةَ تَحِيضُ أَوْ تَطْهُرُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَهَلْ يُتْبَعُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: نَعَمْ، وَبِهِ أَجَابَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَقَدْ تَخْتَلِفُ الْعَادَاتُ بِاخْتِلَافِ الْأَهْوِيَةِ وَالْأَعْصَارِ. وَأَصَحُّهَا: لَا عِبْرَةَ بِهِ، لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ أَعْطَوْا الْبَحْثَ حَقَّهُ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى خِلَافِهِ. وَالثَّالِثُ: إنْ وَافَقَ ذَلِكَ مَذْهَبَ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ صِرْنَا إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا.

وَقَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى ": التَّامُّ يَصْلُحُ لِلْقَطْعِيَّاتِ وَغَيْرُ التَّامِّ لَا يُصْلَحُ إلَّا لِلْفِقْهِيَّاتِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا وُجِدَ الْأَكْثَرُ عَلَى نَمَطٍ، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْآخَرَ كَذَلِكَ. . الْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ. وَهَذَا عِنْدَنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ فِيمَا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ. أَعْنِي أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ ذَلِكَ فِيهِمَا إلَّا مَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى خِلَافِهِمَا. أَمَّا قَبْلَهُ، فَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ: " لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ الشَّرْعِ "، وَلَمْ يَحْكُمُوا هُنَا قَوْلًا بِالْوَقْفِ كَمَا هُنَاكَ، لِأَنَّ الشَّرْعَ نَاقِلٌ. وَقَدْ خَلَطَ بَعْضُهُمْ الصُّورَتَيْنِ وَأَجْرَى الْخِلَافَ هُنَا أَيْضًا. وَكَأَنَّهُ اسْتَصْحَبَ مَا قَبْلَ السَّمْعِ إلَى مَا بَعْدَهُ وَرَأَى أَنَّ مَا لَمْ يُشْكِلُ أَمْرُهُ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ خَاصٌّ يُشْبِهُ الْحَادِثَةَ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَسَبَقَ هُنَاكَ مَا فِيهِ. ثُمَّ رَأَيْت الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ حَقَّقَ الْمَسْأَلَةَ تَحْقِيقًا فَقَالَ، بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الْأَفْعَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ: " مَسْأَلَةٌ: زَعَمَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَّرَ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي حُكْمِ شَيْءٍ فِي الشَّرْعِ " هَلْ هُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوْ الْمَنْعِ؟ " حَكَمَ بِأَنَّهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ، فَصَارَ كَالْعَقْلِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ. وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا، وَأَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ.

قَالَ: وَالْبَاقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حُكْمَ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا بِقِيَامِ دَلِيلٍ يَخْتَصُّهُ أَوْ يَخْتَصُّ نَوْعَهُ. وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] وَقَوْلُهُ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] فَجَعَلَ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةَ. وَالتَّحْرِيمَ مُسْتَثْنَى. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَيْسَ إلَيْنَا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] وَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ الْقَوْلِ بِأَنَّ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ فِي السَّمْعِ الْإِبَاحَةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَدِلَّتِهِمْ، فَهِيَ فِيمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ. وَالْكَلَامُ فِي إبَاحَةِ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ: {قُلْ لا أَجِدُ} [الأنعام: 145] . . . يَصْلُحُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَأْكُولَاتِ الْإِبَاحَةُ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ الْإِبَاحَةُ الْمُطْلَقَةُ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَا سَكَتَ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ» يُرِيدُ: مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ الَّذِي كَانَ الْخِطَابُ مُتَعَلِّقًا بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» فَشَرَّك بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَجْعَلْ الْأَصْلَ أَحَدَهُمَا. وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ لِلْقَائِلَيْنِ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]

ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ. وَأَوْرَدَ أَنَّهَا تَأْتِي لِغَيْرِ الِانْتِفَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ بِالظُّهُورِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] ، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ فَيَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ تَحْرِيمِ مُطْلَقِ الزِّينَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ امْتِنَاعِ تَحْرِيمِ مُسَمَّى الزِّينَةِ أَنْ لَا يَحْرُمَ شَيْءٌ مِنْ آحَادِهَا، فَإِذَا انْتَفَتْ الْحُرْمَةُ بَقِيَتْ الْإِبَاحَةُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} [الجاثية: 12] إلَى قَوْلِهِ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ [لَمْ] يَحْرُمْ عَلَى السَّائِلِ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ عَارِضٌ. وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَلَا يَخْفَى أَجْوِبَةُ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ عَنْ الْقَاضِي. عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ فِيهِ، بَلْ عُفِيَ، وَلَا يُوصَفُ بِإِذْنٍ وَلَا مَنْعٍ. وَلَيْسَ فِي الْآيَاتِ الْمُسْتَدَلِّ بِهَا إلَّا أَنَّهَا خُلِقَتْ لَنَا وَسُخِّرَتْ لَنَا، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا أُبِيحَتْ لَنَا، إذْ يَجُوزُ أَنْ يُخْلَقَ لَنَا وَلَا يُبَاحُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى إذْنٍ مِنْ جِهَتِهِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي كَلَامٍ لَهُ، قَالَ: فَصَارَ هَذَا بِمَثَابَةِ قَوْلِ السُّلْطَانِ لِجُنْدِهِ: هَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي أَجْمَعُهَا لَكُمْ. فَلَا.

يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَهَا لَهُمْ وَأَذِنَ لَهُمْ فِي التَّنَاوُلِ، بَلْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا لَهُمْ وَإِنَّمَا بِإِذْنٍ فِي الْأَخْذِ بَعْدَ زَمَانٍ آخَرَ، فَلَا بُدَّ إذْنٌ مِنْ إذْنٍ جَدِيدٍ، وَزَيْفٌ قَوْلُ أَبِي زَيْدٍ إنَّ الْأَفْعَالَ لَا حُكْمَ لَهَا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَبَعْدَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ تَبَيَّنَّا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً. قَالَ: ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] وَأَمَّا احْتِجَاجُ الرَّازِيَّ بِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ لَا يَضُرُّ بِالْمَالِكِ قَطْعًا، فَلَيْسَ عَلَى أَصْلِنَا، لِابْتِنَائِهِ عَلَى التَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَضَارِّ، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَهُوَ عَامٌّ. وَضَعَّفَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الِاسْتِدْلَالَ [بِهِ] ، لِأَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ، النَّهْيُ عَنْ الْإِضْرَارِ، وَلَا إضْرَارَ بِالنَّفْسِ، فَقَدْ يُؤْخَذُ عَلَى عُمُومِهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِضْرَارُ بِالنَّفْسِ، فَيَتِمُّ الدَّلِيلُ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ الْمَنَافِعِ الْأَمْوَالُ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهَا التَّحْرِيمُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ. . .» الْحَدِيثُ. وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَيُقْضَى عَلَيْهَا. قُلْت: قَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: أَصْلُ مَالِ كُلِّ امْرِئٍ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا بِمَا أَحَلَّ بِهِ وَذَكَرَ قَبْلَهُ أَنَّ النِّكَاحَ كَذَلِكَ، وَالنِّسَاءُ مُحَرَّمَاتُ الْفُرُوجِ إلَّا بِعَقْدٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ. فَجَعَلَ الْأَصْلَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ، ثُمَّ قَالَ آخِرُهُ: وَهَذَا يَدْخُلُ فِي عَامَّةِ الْعِلْمِ. قَالَ

الصَّيْرَفِيُّ: وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ لَا يَنْكَسِرُ أَبَدًا، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْأَصْلِ إلَى الشَّيْءِ الْمَحْظُورِ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَرْجٍ أَوْ عَرْضٍ، فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى الْإِبَاحَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى نَقْلِهِ. انْتَهَى. وَيُنَازِعُ فِيهِ تَخْرِيجُ الْمَاوَرْدِيِّ مَسْأَلَةَ النَّهْرِ الْمَشْكُوكِ فِي أَنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ مَمْلُوكٌ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. ثُمَّ إنْ سَلَّمَ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي أَصْلِ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَمْ تَطْرَأْ عَلَيْهَا يَدُ مِلْكٍ وَلَا اخْتِصَاصٍ. الثَّانِي: مِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْقَوْلُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَاسْتِصْحَابُ حُكْمِ النَّفْيِ فِي كُلِّ دَلِيلٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ، كَمَا فِي تَعْمِيمِ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ. وَكَلَامُ الْقَرَافِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ غَيْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَجَعَلَ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ هِيَ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْعَقْلِ فِي عَدَمِ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ الْبَرَاءَةَ تَكُونُ فِي الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَالِاسْتِصْحَابَ يَكُونُ فِي الطَّارِئِ: ثُبُوتًا كَانَ أَوْ عَدَمًا. الثَّالِثُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَنَافِعِ هُنَا مُقَابِلَ الْأَعْيَانِ بَلْ كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ: الْأَصْلُ فِي الْأَعْيَانِ الْحِلُّ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالنَّفْعِ الْمُكْنَةُ أَوْ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا، وَبِالْمَضَرَّةِ الْأَلَمُ أَوْ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهِ. . التَّعَلُّقُ بِالْأُولَى قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا بَابٌ تَنَازَعُوا فِي تَعْيِينِهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا جَمَعَ مَعْنَى الشَّيْءِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِأَمْثَالِهِ. قَالَ تَعَالَى لِمَنْ اعْتَلَّ عَنْ التَّخَلُّفِ بِشِدَّةِ الْحَرِّ: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81] يَعْنِي: فَلْيَتَخَلَّفُوا عَنْهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] لِأَنَّ حَقَّهُمْ

استصحاب الحال

أَوْجَبُ وَنِعْمَتَهُمْ أَعْظَمُ. وَقَالَ: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] وَقَالَ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إذَا حُرِّمَ التَّأْفِيفُ فَالضَّرْبُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلًا فَهُوَ حَالًّا أَجْوَزُ، وَإِذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى، وَإِذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ فِي أَسْوَأِ حَالَيْهِ - أَعْنِي قَبْلَ التَّوْبَةِ - فَبَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْلَى. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: وَطِئَ الزَّوْجُ الثَّانِي إذَا كَانَ يَرْفَعُ الثَّلَاثَ فَلَأَنْ يَرْفَعَ [مَا] دُونَهَا أَوْلَى. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ أَنَّ التَّعَلُّقَ بَعْدَ إيضَاحِ الْإِجْمَاعِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ التَّرْجِيحَ زِيَادَةٌ فِي عَيْنِ الدَّلِيلِ أَوْ فِي مَأْخَذِهِ، وَلَيْسَ الْأَوْلَى عَيْنَ الدَّلِيلِ وَلَا رُكْنًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بَانَ الْمَعْنَى الْحَاضِرُ غَيْرُهُ بَطَلَ التَّعَلُّقُ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَدَمَ الثَّلَاثَ فَلَأَنْ يَهْدِمَ مَا دُونَهُ أَوْلَى، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنْ لَا هَدْمَ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقَوْلُ بِالْهَدْمِ فَلَا جَمْعَ قَالَ: وَلَسْنَا نَرَى فِي التَّعَلُّقِ كَثِيرَ فَائِدَةٍ مِنْ حَيْثُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ، نَعَمْ نَبَّهَ عَلَى مَعْنَى الْأَصْلِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَهُوَ يَرْجِعُ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ شَيْئًا زَائِدًا. . [اسْتِصْحَابُ الْحَالِ] ِ لِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ أَوْ عَدَمِيٍّ، عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يُوجَدَ الْمُزِيلُ، فَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، كَمَا فِي الْحِسِّيَّاتِ أَنَّ الْجَوْهَرَ إذَا شَغَلَ الْمَكَانَ يَبْقَى شَاغِلًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ، وَهُوَ مُلَازَمَةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مَا لَمْ يُوجَدْ مُغَيِّرٌ، فَيُقَالُ: الْحُكْمُ الْفُلَانِيُّ قَدْ كَانَ فَلَمْ نَظْنُنْ عَدَمَهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَظْنُونُ.

الْبَقَاءِ. قَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي ": وَهُوَ آخِرُ مَدَارِ الْفَتْوَى، فَإِنَّ الْمُفْتِيَ إذَا سُئِلَ عَنْ حَادِثَةٍ يَطْلُبُ حُكْمَهَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ فِي السُّنَّةِ، ثُمَّ فِي الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَيَأْخُذُ حُكْمَهَا مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِنْ كَانَ التَّرَدُّدُ فِي زَوَالِهِ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي ثُبُوتِهِ فَالْأَصْلُ عَدَمُ ثُبُوتِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ حُجَّةٌ يَفْزَعُ إلَيْهَا الْمُجْتَهِدُ إذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْحَادِثَةِ حُجَّةً خَاصَّةً. وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي النَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ. وَالنَّفْيُ لَهُ حَالَتَانِ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْإِثْبَاتِ إلَّا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ النَّفْيُ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُثْبِتُ حُكْمًا وُجُودِيًّا عِنْدَنَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَنُقِلَ عَنْ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي الزَّمَانِ يَفْتَقِرُ إلَى الدَّلِيلِ فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ، وَيُخَالِفُ الْحِسِّيَّاتِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ فِيهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَلَا تَلْحَقُ بِهَا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ تَخْصِيصَ النَّفْيِ بِالْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ الْخِلَافَ مُطْلَقًا. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ يَقْتَضِي الْخِلَافَ فِي الْوُجُودِيِّ وَالْعَدَمِيِّ جَمِيعًا لَكِنَّهُ بَعِيدٌ، إذْ تَفَارِيعُهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حُجَّةٌ.

قُلْت: وَالْمَنْقُولُ فِي كُتُبِ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ، وَلَكِنْ يَصْلُحُ لِلْعُذْرِ وَالدَّفْعِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ وَلَا لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي نَفْسِهِ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ، حَتَّى لَا يُورَثَ مَالُهُ، وَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ، كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ لَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ بَقَاءَهَا صَلُحَتْ حُجَّةً لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ حَتَّى لَا يَرِثَ مِنْ الْأَقَارِبِ، وَالثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَغَيْرُ الثَّابِتِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ قَالَ: وَلَكِنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا: إنَّ هَذَا الْقِسْمَ يُصْبِحُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ فِي مَوْضِعِ النَّظَرِ، وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْقِيَاسِ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ثَبَتَ شَرْعًا فَالظَّاهِرُ دَوَامُهُ وَلَا يَزُولُ إلَّا بِدَلِيلٍ يُرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَوْجَبَ فِي الْأَوَّلِ شُبْهَةً، وَلِهَذَا قَالُوا: لَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ احْتِمَالِهِ النَّسْخَ إذْ ذَاكَ، وَهَذَا كَمَنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ بَعْدَ الْوُضُوءِ فَإِنْ يَبْنِي عَلَى الطَّهَارَةِ مَعَ احْتِمَالِ الْحَدَثِ، وَكَمَنْ شَكَّ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَعِتْقِ أَمَتِهِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا مَعَ الِاحْتِمَالِ، لِأَنَّ الثَّابِتَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ انْتَهَى.

وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِلرَّفْعِ يُشْبِهُ قَوْلَ أَصْحَابِنَا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ عَمِلُوا فِيهَا بِالْأَصْلَيْنِ، كَوُجُوبِ الْفِطْرَةِ عَنْ الْعَبْدِ الْمُنْقَطِعِ الْخَبَرِ، وَعَدَمِ جَوَازِ عِتْقِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَكَمَا إذَا ظَهَرَ لِبِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ لَبَنٌ فَارْتَضَعَ مِنْهُ صَغِيرٌ حَرَّمَ وَلَا يَحْكُمُ بِبُلُوغِهَا، لِأَنَّ احْتِمَالَ الْبُلُوغِ قَائِمٌ وَالرَّضَاعُ كَالنَّسَبِ يَكْفِي فِيهِ الِاحْتِمَالُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ إلَّا أَقْصَى الدَّاخِلِ فِي مَقْدُورِهِ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَجِدْ دَلِيلًا آخَرَ يَبْقَى الْوُجُوبُ وَلَا يَسْمَعُ فِيهِ إذَا انْتَصَبَ مَسْئُولًا فِي مَجْلِسِ الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا تَنَاظَرُوا وَتَذَكَّرُوا طُرُقَ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يُغْنِي الْمُجِيبَ قَوْلُهُ: لَمْ أَجِدْ دَلِيلًا عَلَى الْوُجُوبِ، وَهَلْ هُوَ إلَّا مُدَّعٍ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ عُهْدَةُ الطَّلَبِ بِالدَّلَالَةِ. الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِلرَّفْعِ. وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا سَبَقَ. قَالَ إلْكِيَا: وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ صَالِحٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، إحَالَةً عَلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ، لَا لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ. وَبَنَوْا عَلَى هَذَا مَسَائِلَ: (مِنْهَا) مَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لِلْأَبِ الْمُدَّعَى، وَالْأَبُ مَيِّتٌ، فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَالْبَقَاءُ بَعْدَ الثُّبُوتِ إنَّمَا يَكُونُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَيَثْبُت دَفْعًا عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ بِحَقِّ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ، فَأَمَّا لِإِيجَابِ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ فَلَا، وَمِلْكُ الْوَارِثِ لَمْ يَكُنْ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: الْمَفْقُودُ لَا يَرِثُ أَبَاهُ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ ذَلِكَ الْمِلْكَ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ الْأَوَّلِ قَالَ: وَنَحْنُ نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّ دَلَالَةَ الثُّبُوتِ غَيْرُ دَلَالَةِ الْبَقَاءِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَصٌّ وَالْآخَرَ ظَاهِرٌ، وَلَكِنْ لَا نَقُولُ: الْبَقَاءُ لِعَدَمِ الْمُزِيلِ، بَلْ لِبَقَاءِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ. انْتَهَى. الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِهِ لَا غَيْرَ. نَقَلَهُ

الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ: إنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عَنْهُ لَا أَنَّهُ يَحْتَجُّ بِهِ، قُلْت: وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَالنِّسَاءُ مُحَرَّمَاتُ الْفُرُوجِ، فَلَا يَحْلُلْنَ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: نِكَاحٌ، أَوْ مِلْكُ يَمِينٍ، وَالنِّكَاحُ بِبَيَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَقِيلَ: إنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ وَهُوَ مِنْ أَقْوَاهَا، قَالَ: وَأَجْمَعُ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ صَالِحٌ لِلتَّرْجِيحِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِصْلَاحِهِ لِلدَّلِيلِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّرْجِيحَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ. هَذَا كَلَامُ الرُّويَانِيِّ، وَسَيَأْتِي أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنْ النَّوْعِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ وِفَاقٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: اسْتَقْرَأْت الِاسْتِصْحَابَ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ الْأَصْحَابُ فَوَجَدْت صُوَرًا كَثِيرَةً وَإِنَّمَا يُسْتَصْحَبُ فِيهَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، كَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ وَعَكْسِهِ. وَأَمَّا اسْتِصْحَابُ عَدَمِ الْحُكْمِ فِيهِ فَلَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ لَا عِلْمَ فِيهَا. وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِخِلَافِهَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. الْمَذْهَبُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمُسْتَصْحَبَ لِلْحَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ سِوَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ صَحَّ اسْتِصْحَابُهُ، كَمَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى إبْطَالِ بَيْعِ الْغَائِبِ، وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ، وَالشِّغَارِ، بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا عَقْدَ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلَالَةِ. وَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ إثْبَاتَ خِلَافِ قَوْلِ خَصْمِهِ مِنْ وَجْهٍ يُمْكِنُ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ فِي نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ فَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِدْلَال بِهِ كَمَنْ يَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرَامِ: إنَّهُ يَمِينٌ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ خُصُومِهِ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا طَلَاقَ وَلَا ظِهَارَ وَلَا لِعَانَ، فَيَتَعَارَضُ بِالْأَصْلِ أَنْ لَا يَمِينَ وَلَا كَفَّارَةَ، فَيَتَعَارَضُ الِاسْتِصْحَابَانِ وَيَسْقُطَانِ. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. إذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْقِيحِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُطْلِقُهُ وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُ النِّزَاعِ بِغَيْرِهِ فَنَقُولُ: لِلِاسْتِصْحَابِ صُوَرٌ:

إحْدَاهَا: اسْتِصْحَابٌ دَلَّ الْعَقْلُ أَوْ الشَّرْعُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَدَوَامِهِ: كَالْمِلْكِ عِنْدَ جَرَيَان الْقَوْلِ الْمُقْتَضِي لَهُ، وَشَغْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ جَرَيَانِ إتْلَافٍ أَوْ الْتِزَامٍ، وَدَوَامِ الْحِلِّ فِي الْمَنْكُوحَةِ بَعْدَ تَقْرِيرِ النِّكَاحِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، إلَى أَنْ يَثْبُتَ مُعَارِضٌ لَهُ. وَمِنْ صُوَرِهِ تَكَرُّرُ الْحُكْمِ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ. . الثَّانِيَةُ: اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ الْمَعْلُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ التَّكَالِيفِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى تَغْيِيرِهِ، كَنَفْيِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ. قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَهَذَا حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَيْ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ الشَّرْعِ. وَمِنْ هَذَا يَسْتَشْكِلُ الْقَوْلُ بِهَذَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هُنَاكَ حُكْمًا. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: إنَّهُ صَحِيحٌ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ حُجَّةَ الْعَقْلِ دَلِيلٌ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ سَمْعًا عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْمِلُنَا، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِنَا مَا فِي الْعَقْلِ فَصِرْنَا إلَيْهِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الشَّرْعُ لَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَدُلُّ إذًا إلَّا عَلَى نَفْيِ الْأَحْكَامِ. وَقَوْلنَا لِمَنْ يُوجِبُ الْوِتْرَ: الْأَصْلُ عَدَمُ الْوُجُوبِ إلَّا أَنْ يَرِدَ السَّمْعُ، فَأَتَمَسَّكُ بِهَذَا الْأَصْلِ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لِلْوُجُوبِ، وَلَمْ يَثْبُتْ. .

الثَّالِثَةُ: اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ: عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ حَكَمٌ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ إلَى أَنْ يَرِدَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ. وَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. . الرَّابِعَةُ: اسْتِصْحَابُ الدَّلِيلِ مَعَ احْتِمَالِ الْمُعَارِضِ: إمَّا تَخْصِيصًا إنْ كَانَ الدَّلِيلُ ظَاهِرًا، أَوْ نَسْخًا إنْ كَانَ الدَّلِيلُ نَصًّا، فَهَذَا أَمْرُهُ مَعْمُولٌ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا النَّوْعِ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَأَثْبَتَهُ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ وَمَنَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ، مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " وَإِلْكِيَا فِي تَعْلِيقِهِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ اللَّفْظِ لَا مِنْ نَاحِيَةِ الِاسْتِصْحَابِ. ثُمَّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهَا مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ، وَلَوْ سَمَّاهُ اسْتِصْحَابًا لَمْ يُنَاقَشْ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: هَذَا قَدْ يُعَدُّ مِنْ الِاسْتِصْحَابِ لِأَنَّ دَلِيلَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدِي غَيْرُ دَلِيلِ بَقَائِهِ فَإِنَّ النَّصَّ مَثَلًا أَثْبَتَ أَصْلَهُ، ثُمَّ بَقَاؤُهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ عَدَمُ الْمُزِيلِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَلِيلُ الْبَقَاءِ دَلِيلَ الثُّبُوتِ لَمَا جَازَ النَّسْخُ، فَإِنَّ النَّسْخَ يَرْفَعُ الْبَقَاءَ وَالدَّوَامَ. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ إمَّا أَنْ لَا يَقْتَضِيَ الدَّوَامَ، كَالْمُقَيَّدِ بِالْمَرَّةِ أَوْ الْمُطْلَقِ، وَقُلْنَا: لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا النَّسْخُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ بِفِعْلِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى التَّقْرِيرِ وَالْبَقَاءِ نَصًّا، كَقَوْلِهِ: افْعَلُوهُ دَائِمًا أَبَدًا، وَهُوَ فِي الِاسْتِمْرَارِ ظَاهِرٌ. فَهُمَا دَلِيلَانِ: نَصٌّ فِي الثُّبُوتِ وَظَاهِرٌ فِي الِاسْتِمْرَارِ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ النَّسْخُ، وَأَبُو زَيْدٍ أَطْلَقَ، وَأَصَابَ فِي قَوْلِهِ: دَلِيلُ الثُّبُوتِ غَيْرُ دَلِيلِ الْبَقَاءِ، وَأَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ: دَلِيلُ الْبَقَاءِ عَدَمُ الْمُزِيلِ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الِاسْتِصْحَابِ فِي شَيْءٍ. (انْتَهَى) . .

الْخَامِسَةُ: اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ: وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى حُكْمِ الشَّرْعِ، بِأَنْ يُتَّفَقَ عَلَى حُكْمٍ فِي حَالَةٍ ثُمَّ تَتَغَيَّرُ صِفَةُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَيَخْتَلِفُ الْمُجْمِعُونَ فِيهِ، فَيَسْتَدِلُّ مَنْ لَمْ يُغَيِّرْ الْحُكْمَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ. مِثَالٌ: إذَا اسْتَدَلَّ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّتِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَاسْتَصْحَبَ إلَى أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ مُبْطِلَةٌ. وَكَقَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ: يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، كَمَا قَالَهُ فِي الْقَوَاطِعِ " وَكَذَا فَرَضَ أَئِمَّتُنَا الْأُصُولِيُّونَ الْخِلَافَ فِيهَا: فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ - مِنْهُمْ الْقَاضِي، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ - إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ الطَّوَائِفِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ": إنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ، بَلْ إنْ اقْتَضَى الْقِيَاسُ أَوْ غَيْرُهُ إلْحَاقَهُ بِمَا قَبْلَ الصِّفَةِ أُلْحِقَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْمُزَنِيّ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالصَّيْرَفِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْقُطْنِيُّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْقَطَّانِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": " كَانَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ شَدِيدَ الْقَوْلِ بِهِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ مَا كَانَ يَخْرُجُ إلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ. قَالَ: وَإِنَّمَا أَخَذَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ وَغَيْرُهُمْ أَيْضًا شَدِيدُو الْقَوْلِ بِهِ. انْتَهَى. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " إنَّهُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ شُيُوخُ أَصْحَابِنَا، فَيُسْتَصْحَبُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ حَتَّى يَدُلَّ

الدَّلِيلُ عَلَى ارْتِفَاعِهِ. وَحُكِيَ الْأَوَّلُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَمُتَكَلِّمِي الْأَشْعَرِيَّةِ. وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ إنَّمَا هُوَ الثَّانِي. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، كَانَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ يَقُولُ: دَاوُد لَا يَقُولُ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَهُنَا يَقُولُ بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ، لِأَنَّهُ حَمَلَ حَالَةَ الْخِلَافِ عَلَى حَالَةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ جَامِعَةٍ. وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْوِفَاقِ غَيْرُ مَحَلِّ الْخِلَافِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا يُوجَبُ اسْتِصْحَابُ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ صِفَةُ تَغَيُّرِهِ، وَلِأَنَّ الدَّلِيلَ إنْ كَانَ هُوَ الْإِجْمَاعُ فَهُوَ مُحَالٌ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلَا مُسْتَنَدَ إلَى الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يُسْتَصْحَبُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْقَوْلُ بِاسْتِصْحَابِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ يُؤَدِّي إلَى التَّكَافُؤِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَسْتَصْحِبُ حَالَ الْإِجْمَاعِ فِي شَيْءٍ إلَّا وَلِخَصْمِهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَهُ فِي مُقَابِلِهِ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: أَجْمَعْنَا عَلَى بُطْلَانِ التَّيَمُّمِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَنَسْتَصْحِبُهُ بِرُؤْيَتِهِ فِيهَا، وَتَغَيُّرُ الْأَحْوَالِ لَا عِبْرَةَ بِهِ. وَنَقَلَ إلْكِيَا عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ، فَمَنْ ادَّعَى مَا يُبِيحُ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ (قَالَ) : وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: الْأَصْلُ التَّحْرِيمُ قَبْلَ وُجُودِ أَصْلِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَهُ؟ .

إنْ قُلْت: قَبْلَهُ، فَمُسَلَّمٌ، أَوْ بَعْدَهُ، فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً لِكَلَامِهِ. قُلْت: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": وَاتَّفَقَ أَنْ حَضَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ الْهَرَوِيُّ يَعْنِي الزُّبَيْرِيَّ، وَقَالَ أَنَا أُقَرِّرُ الِاسْتِصْحَابَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ، فَقُلْت: هَاتِ فَقَالَ: إذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي إبْطَالِ الْوَقْفِ: أَنَّ مَا وُقِفَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالِاتِّفَاقِ مِلْكُ الْمَالِكِ عَلَيْهِ فَلَا يُزَالُ إلَّا بِدَلِيلٍ. فَقُلْت: الْعَكْسُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: مَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَنَافِعِ بَعْدَ الْوَقْفِ قَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ، لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً، فَلَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَاقِفِ إلَّا بِدَلِيلٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ لَا مِلْكَ لِلْوَاقِفِ عَلَى الْكِرَاءِ الَّذِي يَأْخُذُ بَدَلًا عَنْ الْمَنَافِعِ، فَلَا يَمْلِكُ إلَّا بِدَلِيلٍ. الثَّالِثُ: مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَعْدَ الْوَقْفِ مِنْ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ، الْأَصْلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ: إذَا كَانَتْ مَسَائِلُ الِاسْتِصْحَابِ هَكَذَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْأَحْكَامِ قَالَ: وَمَا ادَّعَوْهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ بِالِاسْتِصْحَابِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ احْتِجَاجًا عَلَى طَرِيقِ الِابْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّرْجِيحِ بَعْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ. انْتَهَى. وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْقَوْلَ بِالِاسْتِصْحَابِ جُمْلَةً، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا. أَمَّا فِي اسْتِصْحَابِ الْعَامِّ وَالنَّصُّ قَبْلَ الْخَاصِّ وَالنَّاسِخِ فَلَيْسَ ذَلِكَ اسْتِصْحَابًا، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَائِمٌ وَهُوَ الْعَامُّ وَالنَّصُّ. وَأَمَّا اسْتِصْحَابُ دَلِيلِ الْعَقْلِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَإِنَّمَا وَجَبَ اسْتِصْحَابُ بَرَاءَةِ الذِّمَمِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ قَائِمٌ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ أَيْضًا، كَمَا فِي الْعَامِّ وَالنَّصِّ، فَوَجَبَ

الْحُكْمُ بِهِ. وَأَمَّا فِي اسْتِصْحَابِ الْإِجْمَاعِ فَالْإِجْمَاعُ الَّذِي كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ قَدْ زَالَ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَوَجَبَ طَلَبُ دَلِيلٍ آخَرَ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ حَسَنَةٌ، وَقَدْ سَبَقَهُ إلَيْهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا عَدَا اسْتِصْحَابَ الْإِجْمَاعِ لَفْظِيٌّ، وَبِهِ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّا لَا نُثْبِتُ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَلَا نَحْكُمُ لِشَيْءٍ لِأَجْلِ الِاسْتِصْحَابِ، لَكِنْ نَطْلُبُ مِنْ الْمُدَّعِي حُجَّةً يُقِيمُهَا، فَإِذَا لَمْ يُقِمْ بَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْكُمَ بِثُبُوتِ شَيْءٍ. وَالْخِلَافُ وَاقِعٌ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَهَذَا لَا نَقُولُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ مَا. انْتَهَى. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى تَغَايُرُ الْأُولَى، قَدْ ذَكَرَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ، وَحَاصِلُهَا التَّفْصِيلُ بَيْنَ الدَّوَامِ وَالِابْتِدَاءِ، وَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الدَّوَامِ إثْبَاتٌ، وَإِنَّمَا هُنَاكَ اسْتِمْرَارُ مَا كَانَ لِعَدَمِ طَرَيَان مَا يَرْفَعُهُ. وَهِيَ تَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْكَلَامِيِّ فِي أَنَّ الْبَاقِيَ فِي مَحَلِّ الْبَقَاءِ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ: فَإِنَّ قُلْنَا: لَا يَحْتَاجُ وَصَحَّتْ وَإِلَّا لَمْ يَنْتَهِضْ، لِأَنَّك فِي الدَّوَامِ تُرِيدُ دَلِيلًا وَأَنْتَ مُثْبِتٌ بِهِ فَكَيْفَ نَقُولُ: لَمْ نَحْكُمْ لِشَيْءٍ؟ وَهَذَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْبَاقِيَ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافٍ آخَرَ فِي أَنَّ عِلَّةَ الْحَاجَةِ إلَى الْمُؤَثِّرِ، هَلْ هِيَ الْإِمْكَانُ أَوْ الْحُدُوثُ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، أَوْ الْإِمْكَانُ بِشَرْطِ الْحُدُوثِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْعِلَّةَ الْإِمْكَانُ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَنْتَهِضُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ. وَمِمَّنْ زَعَمَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ ابْنُ بَرْهَانٍ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ: إذَا حُقِّقَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ لَمْ يَبْقَ خِلَافٌ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الْأَصْلُ يَقْتَضِي كَذَا، فَإِنَّمَا يَتَمَسَّكُ بِهِ إلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْأَصْلِ أَصْلَ الشَّرْعِ، أَوْ أَصْلَ الْعَقْلِ، فَإِنْ أَرَادَ الْعَقْلَ فَالْخَصْمُ لَا يَعْتَرِفُ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي حُكْمًا، وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَقْلِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، فَلَا يُسْتَصْحَبُ الْحَالُ فِيهَا. وَإِنْ أَرَادَ أَصْلَ الشَّرْعِ فَبَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا.

تَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى. وَقَدْ يُقَالُ بِالْتِزَامِ الثَّانِي بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُسْتَقْرَأٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ فِي الْعَمَلِ بِهِ. وَبَقِيَ مِنْ الْأَنْوَاعِ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ رَوْضَةِ الْحُكَّامِ " أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلشَّيْءِ أَصْلٌ مَعْلُومٌ مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ الْحِلِّ أَوْ الْحَظْرِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَيْهِ، وَلَا يُتْرَكُ بِالشَّكِّ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ. فَلَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي لَحْمٍ، فَأَتَاهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِلَحْمٍ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ هُوَ لَحْمُ مَيْتَةٍ، أَوْ ذَكَاةُ مَجُوسِيٍّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ إنْ كَانَ مُحَرَّمًا يَبْقَى التَّحْرِيمُ مَا لَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ. وَلَوْ اشْتَرَى صَاعًا مِنْ مَاءِ بِئْرٍ فِيهِ قُلَّتَانِ، ثُمَّ قَالَ: أَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ فَإِنْ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِيهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمَاءِ. انْتَهَى. وَجَعَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ الْقَوْلَ بِالِاسْتِصْحَابِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى كُنَّا عَلَى حَالٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا فَنَحْنُ عَلَيْهَا، فَمَنْ ادَّعَى الِانْفِصَالَ عَنْهَا احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِصْحَابِ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ تَنْبَنِي عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَالشَّرِيعَةُ، فَإِنَّا إنْ لَمْ نَقُلْ بِاسْتِمْرَارِ حَالِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ. انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ هَذَا مَحَلُّ وِفَاقٍ. وَأَمَّا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فَجَعَلَ الْخِلَافَ مَعْنَوِيًّا مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي حُكْمِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ اسْتَصْحَبَ الْحَالَ فِي كُلِّ مَا رَآهُ مُبَاحًا فَلَا يَحْظُرُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ لَمْ يَسْتَصْحِبْ شَيْئًا. السَّادِسَةُ: وَتَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ قَسِيمًا لِمَا سَبَقَ: اسْتِصْحَابُ الْحَاضِرِ فِي الْمَاضِي: وَهُوَ الْمَقْلُوبُ فَإِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ ثُبُوتُ أَمْرٍ فِي الثَّانِي لِثُبُوتِهِ فِي الْأَوَّلِ، لِفُقْدَانِ مَا يَصْلُحُ لِلتَّعْيِينِ. وَهَذَا الْقِسْمُ فِي ثُبُوتِهِ فِي الْأَوَّلِ لِثُبُوتِهِ

فِي الثَّانِي، كَمَا إذَا وَقَعَ النَّظَرُ فِي أَنَّ زَيْدًا هَلْ كَانَ مَوْجُودًا أَمْسِ فِي مَكَانِ كَذَا. وَوَجَدْنَاهُ مَوْجُودًا فِيهِ الْيَوْمَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، إذْ الْأَصْلُ مُوَافَقَةُ الْمَاضِي لِلْحَالِ. وَهَذَا الْقِسْمُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَنَقُولُ: إذَا ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي هَذَا الْمُدَّعِي فَنَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَضْعُ غَيْرَهُ فِيمَا سَبَقَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ إلَى هَذَا الْوَضْعِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَغَيُّرِهِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا كَلَامٌ ظَرِيفٌ وَتَصَرُّفٌ غَرِيبٌ قَدْ يُتَبَادَرُ إلَى إنْكَارِهِ، وَيُقَالُ: الْأَصْلُ اسْتِقْرَارُ الْوَاقِعِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي إلَى هَذَا الزَّمَنِ، أَمَّا أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ انْعِطَافُ الْوَاقِعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي فَلَا. وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْوَضْعُ ثَابِتٌ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْوَاقِعُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ طَرِيقًا، كَمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّهُ طَرِيقُ جَدَلٍ لَا جَلَدٍ، وَالْجَدَلُ طَرِيقٌ فِي التَّحْقِيقِ سَالِكٌ عَلَى مَحَجٍّ مُضَيِّقٍ، وَإِنَّمَا تَضْعُفُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ إذَا ظَهَرَ لَنَا تَغَيُّرُ الْوَضْعِ، فَأَمَّا إذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَلَا بَأْسَ. قُلْت: وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ مُنَافَاةُ هَذَا الْقِسْمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَقُلْ بِهِ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ [مَا] إذَا اشْتَرَى شَيْئًا وَادَّعَاهُ مُدَّعٍ وَأَخَذَهُ مِنْهُ بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ. قَالُوا: فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ وَلَكِنَّهَا تُظْهِرُهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ سَابِقًا عَلَى إقَامَتِهَا وَيُقَدِّرُ لَهُ لَحْظَةً لَطِيفَةً. وَمِنْ الْمُحْتَمَلِ انْتِقَالُ الْمِلْكِ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى الْمُدَّعِي وَلَكِنَّهُمْ اسْتَصْحَبُوا مَقْلُوبًا، وَهُوَ عَدَمُ الِانْتِقَالِ فِيهِ فِيمَا مَضَى، اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: إذَا وَجَدْنَا رِكَازًا وَلَمْ نَدْرِ هَلْ هُوَ إسْلَامِيٌّ أَمْ جَاهِلِيٌّ؟ يَحْكُمُ بِأَنَّهُ جَاهِلِيٌّ عَلَى وَجْهٍ، لِأَنَّا اسْتَدْلَلْنَا بِوُجُودِهِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى.

الأخذ بأقل ما قيل

أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ. قُلْت: وَمِثْلُهُ: إذَا أَشْكَلَ حَالُ الْقَرْيَةِ الَّتِي فِيهَا الْكَنِيسَةُ هَلْ أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الرُّويَانِيُّ: تُقَرُّ، اسْتِصْحَابًا لِظَاهِرِ الْحَالِ. وَلَمْ يَحْكِ الرَّافِعِيُّ غَيْرَهُ. وَيُقَارِبُهَا صُوَرٌ (مِنْهَا) : لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَشَكَّ هَلْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَشْهُرِهِ أَوْ بَعْدَهَا؟ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ قَالُوا: لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ هَذَا الزَّمَنُ وَفِي شَكٍّ مِمَّا تَقَدَّمَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ أَيْضًا، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ. (وَمِنْهَا) : إذَا اخْتَلَفَ الْغَاصِبُ وَالْمَالِكُ فَالصَّحِيحُ تَصْدِيقُ الْمَالِكِ. فَقَدْ اسْتَصْحَبُوا مَقْلُوبًا، وَهُوَ الْحُدُوثُ فِيمَا مَضَى اسْتِصْحَابًا لِلْحَاضِرِ. وَيُمْكِنُ خِلَافُهُ، وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ الِانْعِطَافِ فِي اسْتِصْحَابِ حُكْمِ الصَّوْمِ عَلَى مَنْ نَوَى فِي النَّفْلِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَالثَّوَابُ عَلَى الْوُضُوءِ جَمِيعِهِ إذَا نَوَى عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ عَلَى وَجْهٍ، وَتَعْلِيقُ الْعِتْقِ عَلَى قُدُومِ زَيْدٍ، ثُمَّ يَبِيعُهُ، فَقَدِمَ زَيْدٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَنَظَائِرُهُ. . [الْأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ] َ أَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَحَكَى بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إجْمَاعَ أَهْلِ النَّظَرِ عَلَيْهِ. وَحَقِيقَتُهُ - كَمَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ -: أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي مُقَدَّرٍ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى أَقَاوِيلَ، فَيُؤْخَذُ بِأَقَلِّهَا عِنْدَ إعْوَازِ الْحُكْمِ، أَيْ إذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الزِّيَادَةِ دَلِيلٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: هُوَ أَنْ يَرِدَ الْفِعْلُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا لِمُجْمَلٍ وَيَحْتَاجُ إلَى تَحْدِيدِهِ، فَيُصَارُ إلَى أَقَلِّ مَا يُؤْخَذُ، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَقَلِّ الْجِزْيَةِ بِأَنَّهُ دِينَارٌ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَامَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتٍ، فَصَارَ إلَى أَقَلِّ مَا حَكَى

عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْجِزْيَةِ. (قَالَ) : وَهَذَا أَصْلٌ فِي التَّوْقِيتِ قَدْ صَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، كَتَحْدِيدِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ بِمَرْحَلَتَيْنِ، وَمَا لَا يُنَجَّسُ مِنْ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ بِقُلَّتَيْنِ، وَأَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: هُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ الصَّحَابَةُ فِي تَقْدِيرٍ، فَيَذْهَبُ بَعْضُهُمْ إلَى مِائَةٍ مَثَلًا، وَبَعْضُهُمْ إلَى خَمْسِينَ. فَإِنْ كَانَتْ دَلَالَةً تُعَضِّدُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ صِيرَ إلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَلَالَةً فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَأْخُذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ مِنْ حَيْثُ كَانَ أَقَلَّ، وَيَقُولُ: إنْ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ قَالَ: إنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ الثُّلُثُ، وَحَكَى اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِالنِّصْفِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالثُّلُثِ، فَكَانَ هَذَا أَقَلَّهَا. وَمِثْلُهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فِي الدِّيَةِ أَنَّهَا أَخْمَاسٌ، وَرُوِيَ أَنَّهَا أَرْبَاعٌ، فَكَانَتْ رِوَايَةُ الْأَخْمَاسِ أَوْلَى، لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا رُوِيَ، فَنَصِيرُ إلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا لَوْ سَرَقَ رَجُلٌ مَتَاعًا لِرَجُلٍ، فَشَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَلَالَةٌ فَلَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ إلَّا وَلِلْآخَرِ أَنْ يَقُولَ بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلِينَ أَجْمَعُوا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُ فَأَخَذَ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَتَرَكَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. يَلْزَمُهُ أَنْ يَقِفَ فِي الزِّيَادَةِ وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ. وَأَمَّا مَا قَالُوهُ فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَلَكَ فِيهِ غَيْرَ هَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ دَلَّ عَلَى أَنْ لَا مُسَاوَاةَ بِقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] فَإِذَا بَطَلَتْ الْمُسَاوَاةُ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ إلَّا قَوْلَانِ، فَإِذَا بَطَلَ

أَحَدُهُمَا صَحَّ الْآخَرُ. وَأَمَّا جَعْلُهُ الدِّيَةَ أَخْمَاسًا فَبِدَلِيلٍ، [لَا] لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا قِيلَ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّهَادَةِ فَإِنَّمَا حَكَمَ فِيهَا بِالْأَقَلِّ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ ذَلِكَ بِشَاهِدَيْنِ، وَانْفِرَادُ الْآخَرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. (قَالَ) : وَقَدْ مَنَعَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَقَالُوا: إنَّ أَصْلَكُمْ هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْجُمُعَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا هَلْ تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعِينَ أَوْ بِاثْنَيْنِ أَوْ بِثَلَاثَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ. فَإِنْ قُلْتُمْ: الْأَصْلُ هُوَ الظُّهْرُ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، قِيلَ لَكُمْ: وَكَذَلِكَ الْأَصْلُ شَغْلُ ذِمَّتِهِ بِالْجِنَايَةِ فَلَا تَبْرَأُ إلَّا بِدَلِيلٍ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ يَجِبُ أَنْ نَأْخُذَ بِأَقَلَّ مَا قِيلَ. ثُمَّ أَجَابَ ابْنُ الْقَطَّانِ: بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ فِي الْحَادِثَةِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَانَ هُنَا فِي الْحَادِثَةِ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ أُصُولِ مُجْتَهِدٍ فِيهَا بِحَادِثَةٍ، فَنَصِيرُ إلَى أَقَلِّ مَا قِيلَ، وَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الْمَخْرَجُ عَلَى وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْجُمُعَةِ فَدَلِيلُنَا الْخَبَرُ. وَلَوْ صَحَّ السُّؤَالُ عَلَيْنَا لَانْقَلَبَ لِأَبِي ثَوْرٍ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ يُجِيزُهَا بِوَاحِدٍ. وَأَمَّا وُلُوغُ الْكَلْبِ فَقَدْ صِرْنَا إلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَادِثَةٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ قَبْلَنَا وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عَلَيْهَا وَاخْتَلَفُوا فِيهَا، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَالْمَدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ. انْتَهَى. وَأَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْجُمُعَةِ بِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا قِيلَ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ جَمَعَ فِيهِمْ فِي زَمَنِهِ ذَلِكَ. وَقَسَّمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْمَسْأَلَةَ إلَى قِسْمَيْنِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الْجَوَابُ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا أَصْلُهُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ وَسُقُوطِهِ كَانَ سُقُوطُهُ أَوْلَى، لِمُوَافَقَةِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَإِنْ [كَانَ] الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهِ، كَدِيَةِ الذِّمَّةِ إذَا وَجَبَتْ عَلَى قَاتِلِهِ، فَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِأَقَلِّهِ دَلِيلًا؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، كَالْجُمُعَةِ الثَّابِتِ فَرْضُهَا، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عَدَدِ انْعِقَادِهَا، فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ دَلِيلًا لِارْتِهَانِ الذِّمَّةِ بِهَا فَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِالشَّكِّ، وَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ دَلِيلًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ دَلِيلًا وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، لِأَنَّ الذِّمَّةَ تَبْرَأُ بِالْأَكْثَرِ إجْمَاعًا، وَبِالْأَقَلِّ خِلَافًا، فَلِذَلِكَ جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعِينَ، لِأَنَّ هَذَا الْعَدَدَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ. الثَّانِي: لَا يَكُونُ دَلِيلًا، لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مِنْ الْخِلَافِ دَلِيلٌ فِي حُكْمٍ، وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا اعْتَبَرَ الْأَرْبَعِينَ بِدَلِيلٍ آخَرَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ مَعْنًى، انْتَهَى. وَإِنَّمَا يَتِمُّ الْأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ قَالَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الشَّيْءِ. وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الثُّلُثُ دِيَةَ الذِّمِّيِّ - مَثَلًا - أَقَلُّ الْوَاجِبِ. بَلْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ شَيْءٌ هُوَ الْأَقَلُّ. ثَانِيهَا: أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ قَالَ بِوُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: إنَّهُ يَجِبُ هَاهُنَا فَرَسٌ، فَإِنَّ هَذَا الْقَائِلَ لَا يَكُونُ مُوَافِقًا عَلَى وُجُوبِ الثُّلُثِ وَإِنْ نَقَصَ ذَلِكَ عَنْ قِيمَةِ الْفَرَسِ، وَالْقَائِلُ بِالثُّلُثِ لَا يَقُولُ بِالْفَرَسِ وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا عَنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ شَيْءٌ هُوَ أَقَلُّ. ثَالِثُهَا: أَنْ لَا يُوجَدَ دَلِيلٌ أَخَذَ غَيْرَ الْأَقَلِّ، وَإِلَّا كَانَ ثُبُوتُهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ، لَا بِهَذَا الطَّرِيقِ. رَابِعُهَا: أَنْ لَا يُوجَدَ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى مَا هُوَ زَائِدٌ وَإِلَّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَكَانَ مُبْطِلًا لِحُكْمِ هَذَا الْأَصْلِ. وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ الشَّافِعِيُّ بِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِثَلَاثَةِ، وَلَا بِالْغُسْلِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلُّ مَا قِيلَ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى اشْتِرَاطِ مَا صَارَ إلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الْأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَخْذِ بِالْمُحَقَّقِ وَطَرْحِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ فِيمَا أَصْلُهُ الْبَرَاءَةُ، وَالْأَخْذُ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ.

فِيمَا أَصْلُهُ اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْأَخْذَ بِأَكْثَرَ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي - وَهُوَ مَا أَصْلُهُ اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالْأَقَلِّ فِي الْأَوَّلِ. وَقَدْ وَهَمَ بَعْضُهُمْ فَأَوْرَدَ عَدَدَ الْجُمُعَةِ سُؤَالًا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْأَخْذَ فِيهِ بِالْأَكْثَرِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالْأَقَلِّ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مُرْتَبِطًا بِبَعْضٍ فَلَا يَعْتَدُّ بِهِ إلَّا مَعَ صَاحِبِهِ، كَصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ لَا يَرْتَبِطُ، كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ لِزَيْدٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا يُؤَدِّيهَا كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا. وَنَظِيرُ الثَّانِي: دِيَةُ الْيَهُودِيِّ، فَإِنَّ أَبْعَاضَ [الدِّيَةِ] مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا تَعَلُّقَ لِبَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ وَجَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ لَهُ بِصَاحِبِهَا، فَإِذَا خَرَجَ ثُلُثُهَا بَرِئَ قَطْعًا، وَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَلَمْ يُوجَدْ. وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ: الْجُمُعَةُ فَإِنَّ أَبْعَاضَ عَدَدِهَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضٍ، فَمَنْ صَلَّاهَا فِي ثَلَاثَةٍ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُسْقِطَ عَنْهُ شَيْئًا، فَأَخَذْنَا بِالْأَصْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَحَاصِلُهُ إيجَابُ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا أَصْلُهُ الْوُجُوبُ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْفُرُوعُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَا تَخْفَى. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَخْذَ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَمِنْ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَا يُتَّجَهُ مِنْ الْقَائِلِ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. قَالَ الْقَاضِي: وَنَقَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ خَطَأٌ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ النَّاقِلَ زَلَّ فِي كَلَامِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ سُوءُ ظَنٍّ بِهِ، فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ وُجُوبُ هَذَا الْقَدْرِ، وَلَا مُخَالَفَةَ فِيهِ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ سُقُوطُ الزِّيَادَةِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ. نَعَمْ الْمُشْكِلُ جَعْلُهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا مَعَ تَرْكِيبِهِ مِنْ دَلِيلَيْنِ، فَكَيْفَ يُتَّجَهُ مِمَّنْ يُوَافِقُ عَلَى الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مُخَالَفَةُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ. وَأَمَّا ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ " فَأَنْكَرَ الْأَخْذَ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ، وَقَالَ: إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أَمْكَنَ ضَبْطُ أَقْوَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَحَكَى

قَوْلًا أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَكْثَرِ مَا قِيلَ لِيَخْرُجَ عَنْ عَهْدِ التَّكْلِيفِ بِيَقِينٍ. قَالَ: وَلَيْسَ الثُّلُثُ فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ، فَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولُوا بِهِ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا قِيلَ. وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ لَا دِيَةَ لِلْكِتَابِيِّ أَصْلًا، فَلَيْسَ ثُلُثُ الدِّيَةِ أَقَلَّ مَا قِيلَ. قَالَ: وَلَنَا فِيهِ تَفْصِيلٌ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْوَاجِبَ الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَوْضَحُ مِثَالٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ، بِأَنْ يَجْنِيَ عَلَى سِلْعَةٍ يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فِي تَقْوِيمِهَا، فَيُقَوِّمُهَا. بَعْضُهُمْ بِمِائَةٍ، وَبَعْضُهُمْ بِمِائَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَهُ جِرَاحَةً لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ. . مَسْأَلَةٌ فِي الْقَوْلِ بِالْأَخَفِّ هَذَا، قَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ أَمَارَاتُهَا. وَقَدْ صَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» وَهَذَا يُخَالِفُ الْأَخْذَ بِالْأَقَلِّ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَشْتَرِطُ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَلَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ هَاهُنَا. وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ، إذْ الْأَخَفُّ مِنْهُمَا هُوَ ذَلِكَ.

وَقِيلَ: يَجِبُ الْأَخْذُ بِالْأَشَقِّ، كَمَا قِيلَ هُنَاكَ: يَجِبُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ. مَسْأَلَةٌ النَّافِي لِلْحُكْمِ هَلْ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ الْمُثْبِتُ لِلْحُكْمِ يَحْتَاجُ لِلدَّلِيلِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا النَّافِي فَهَلْ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ عَلَى دَعْوَاهُ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: نَعَمْ، وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ وَالصَّيْرَفِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ الْحُكْمِ إلَّا بِدَلِيلٍ، كَمَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ،

لِأَنَّهُ مُدَّعٍ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] فَذَمَّهُمْ عَلَى نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مُبَيَّنًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] فِي جَوَابِ: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 111] . الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ دَاوُد وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ النَّفْيُ وَالْعَدَمُ، فَمَنْ نَفَى الْحُكْمَ فَلَهُ أَنْ يَكْتَفِي بِالِاسْتِصْحَابِ، لَكِنَّ ابْنَ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ " صَحَّحَ الْأَوَّلَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَلْزَمَهُ فِي النَّفْيِ الْعَقْلِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ فُورَكٍ. الرَّابِعُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ: إنَّهُ الْمُخْتَارُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالنَّفْيُ فِيهِ كَالْإِثْبَاتِ، بِخِلَافِ الضَّرُورِيِّ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ انْفِرَادَ الْغَزَالِيِّ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَفِي الْكَافِي " لِلْخُوَارِزْمِيِّ حِكَايَةُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ النَّافِي شَاكًّا فِي نَفْيِهِ أَوْ نَافِيًا لَهُ عَنْ مَعْرِفَةٍ، فَإِنْ كَانَ شَاكًّا فَلَا عِلْمَ مَعَ الشَّكِّ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي نَفْيَهُ عَنْ مَعْرِفَةٍ فَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً أَوْ اسْتِدْلَالِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ ضَرُورِيَّةً فَلَا مُنَازِعَ فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَإِنْ كَانَتْ اسْتِدْلَالِيَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ إبْرَازِ الدَّلِيلِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ": الْخِلَافُ فِيمَا لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ وَانْتِفَاؤُهُ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ، وَيُمْكِنُ إقَامَتُهُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ حِسًّا وَاضْطِرَارًا فَلَا سَبِيلَ إلَى إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى ثُبُوتِهِ وَنَفْيِهِ، كَعِلْمِ الْإِنْسَانِ بِوُجُودِ نَفْسِهِ وَمَا يَجِدُهَا عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ وَلَا عَلَى جَنَاحِ طَائِرٍ وَنَحْوَهُ. الْخَامِسُ: إنَّ نَفْيَ عِلْمِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ، فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ، وَإِنْ كَانَ يَنْفِي الْحُكْمَ فَيَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ، لِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ، كَمَا أَنَّ الْإِثْبَاتَ

حُكْمٌ ، وَمَنْ نَفَى حُكْمًا أَوْ أَثْبَتَهُ احْتَاجَ إلَى الدَّلِيلِ، قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْحَقُّ. وَالسَّادِسُ: ذَكَرَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ: إنْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ عِلْمًا بِالنَّفْيِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ نَفَى عِلْمَهُ فَهُوَ مُخْبِرٌ عَنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، لَكِنَّ الْجَاهِلَ يَجِبُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَلَا يَحْكُمُ فِيهَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَاخْتَارَهُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْعُنْوَانِ " وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْإِنْسَانَ إنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ لِإِمْكَانِ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. وَالسَّابِعُ: قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ: النَّافِي لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ إذَا قَالَ: " لَمْ أَجِدْ فِيهِ دَلِيلًا وَقَدْ تَصَفَّحْت الدَّلَائِلَ " وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، كَانَ لَهُ دَعْوَى ذَلِكَ. وَيَرْجِعُ إلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعُقُولُ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. قَالَ: وَهَذَا النَّوْعُ قَرِيبٌ مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، فَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْإِبَاحَةِ أَوْ الْحَظْرِ أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا عَلَى طَرِيقِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ الشَّرْعِيِّ. وَالثَّامِنُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُوجِبَةٌ، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ ". وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْقَائِلَ: بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَكْفِيهِ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ بِأَنَّ الْأَصْلَ يُوجِبُ ظَنَّ دَوَامِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَحُصُولُ الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِلَا سَبَبٍ فَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ النَّفْيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: فِي هَذِهِ خِلَافٌ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالنَّافِي مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ أَوْ الظَّنَّ بِالنَّفْيِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، كَمَا فِي الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ نَفْيُهُ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ مَنْ يَدَّعِي عَدَمَ عِلْمِهِ أَوْ ظَنِّهِ فَهَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَدَّعِي جَهْلَهُ بِالشَّيْءِ، وَالْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِالدَّلِيلِ عَلَى جَهْلِهِ، كَمَا لَا يُطَالِبُ بِهِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ لَا يَجِدُ أَلَمًا وَلَا جُوعًا وَلَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا.

مُنَاظَرَةٌ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذَكَرْت حُكْمًا بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ أَبِي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ، فَطُولِبْت بِالدَّلِيلِ فَقُلْت: لَا دَلِيلَ عَلَيَّ، لِأَنِّي نَافٍ، وَالنَّافِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لِي: مَا دَلِيلُك عَلَى أَنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ؟ قُلْت: هَذَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِك، أَنَا نَافٍ أَيْضًا فِي قَوْلِي " لَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي " فَكَيْفَ تُطَالِبُنِي بِالدَّلِيلِ؟ فَأَجَابَ: يَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ بِأَنْ يُقَالُ: النَّافِي مُفْتٍ، كَمَا أَنَّ الْمُثْبِتَ مُفْتٍ، وَالْفَتْوَى لَا تَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَاسْتَشْهَدَ بِمَسْأَلَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَانَ بِالْكَرْخِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَشَهِدَتْ أُخْرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، بَلْ بِالْمَوْصِلِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ يُطَالَبُ بِالدَّلِيلِ، وَلَيْسَتْ الْوَحْدَانِيَّةُ إلَّا نَفْيَ الثَّانِي. فَأَجَبْت بِأَنَّ هَذَا دَلِيلٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّك تَرُومُ بِهِ إثْبَاتَ مُحَالٍ، وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى النَّافِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُقْتَضِيَةَ مَعَ تَشَعُّبِ طُرُقِهَا وَتَقَارُبِ أَطْرَافِهَا فَمَا مِنْ سَبَبٍ يَتَعَرَّضُ لِإِبْطَالِهِ إلَّا وَيَجُوزُ فَرْضُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ، وَهَذَا لَا طَرِيقَ إلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ يَفُوتُ بِهَذَا مَقْصُودُ النَّظَرِ مِنْ الْعُثُورِ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَبَدَائِعِ الْأَحْكَامِ، قُلْت: وَمَا هَذَا إلَّا كَالْمُدَّعِي وَالْمُنْكِرِ، فَإِنَّ الْمُدَّعِي مُثْبِتٌ وَالْمُنْكِرُ يَنْفِي وَلَا يُطَالَبُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى نَفْيِهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّهَادَةِ فَلَا تَلْزَمُ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَأَمَّا الْوَحْدَانِيَّةُ فَالتَّعَارُضُ لِإِثْبَاتِ إلَهٍ عَلَى صِفَةٍ، فَإِثْبَاتُ صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فِيهَا نَفْيُ الشَّرِكَةِ. مَسْأَلَةٌ وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالِاسْتِصْحَابِ نَقَلَ الدَّبُوسِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ حُجَّةٌ فِي إبْقَاءِ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ، لَا لِمَا لَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهُ، قَالَ: وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَلَمْ يَجُزْ شَغْلُ الذِّمَّةِ بِالدَّيْنِ فَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ، قَالَ: وَعِنْدَنَا هُوَ جَائِزٌ

وَيَقُولُ: قَوْلُ الْمُنْكِرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُدَّعِي، كَقَوْلِ الْمُدَّعِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُنْكِرِ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ يَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ بِوَجْهٍ. انْتَهَى. وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ ذَلِكَ وَقَالَ: عَدَمُ الدَّلِيلِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي مَوْضِعٍ. وَاَلَّذِي ادَّعَاهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ مَذْهَبِهِ لَا نَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ لَهُ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْأَصْحَابِ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ فَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ فَسَادِهِ فِي الْخِلَافِيَّاتِ ". وَذَكَرَ أَيْضًا مَسْأَلَةَ الشُّفْعَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهِيَ أَنَّ مِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ شِقْصٌ وَبَاعَ شَرِيكُهُ نَصِيبَهُ وَأَرَادَ الشَّرِيكُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ كَانَ جَارًا عَلَى أُصُولِهِمْ فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّقْصَ مِلْكًا، قَالَ: عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْتَفِتُ إلَى إنْكَارِهِ وَيَثْبُتُ لَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِظَاهِرِ مِلْكِهِ بِيَدِهِ. وَعِنْدَنَا: لَيْسَ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الشِّقْصَ مِلْكُهُ. قُلْت: وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " (فِي بَابِ التَّيَمُّمِ) : ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ السُّكُوتَ وَعَدَمَ النَّقْلِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ: هَلْ يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؟ إنْ صَحَّ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُلْت بِهِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، فَإِنْ صَحَّ قَطَعْت الْقَوْلَ بِهِ قَالَ: فَجَعَلَ سُكُوتَهُ عَنْ الْإِعَادَةِ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا. قُلْت: بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ أَمْ لَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَقْدِيرِ أَنَّ خَبَرَ مَاعِزٍ حَيْثُ رُجِمَ وَلَمْ يُجْلَدْ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَعَلَّهُ جَلَدَهُ وَرَجَمَهُ. قِيلَ: كَانَتْ قِصَّتُهُ مِنْ مَشَاهِيرِ الْقِصَصِ، وَلَوْ جُلِدَ لَنُقِلَ. فَإِنْ قِيلَ: رُبَّ تَفْصِيلٍ فِي الْقَصَصِ لَا يَتَّفِقُ نَقْلُهُ وَدَوَاعِي النُّفُوسِ إنَّمَا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِ كُلِّيَّاتِ الْقَصَصِ. فَإِنْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ التَّصْرِيحُ بِالْجِلْدِ فَلَا يُعَارِضُهُ التَّعَلُّقُ بِعَدَمِ نَقْلٍ فِي حَدِيثٍ مَعَ اتِّجَاهِ وَجْهٍ بِتَرْكِ النَّقْلِ فِيهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ مُجِيبًا: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعُ، وَلَوْلَا أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ رَوَى عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ» . تَعَارَضَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ بِقِصَّةِ مَاعِزٍ. انْتَهَى. أَمَّا إذَا لَمْ يُعْلَمْ عَلَى الْحُكْمِ سِوَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ وَعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَهَلْ يَكُونُ عَدَمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ؟ يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ فَيُقَالُ: إنْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَقْلِيًّا فَإِنَّ الْعَكْسَ فِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ أَوْ عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ نَفْيُ الْحُكْمِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ دَلِيلٌ آخَرُ أَوْ عِلَّةٌ أُخْرَى وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمَا، وَعَدَمُ عِلْمِنَا بِالشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، فَلَمْ يَحْصُلْ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ بِعَدَمِ ذَلِكَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ أَوْ تِلْكَ الْعِلَّةِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ شَرْعِيًّا فَإِنَّ الْعَكْسَ فِيهِ لَازِمٌ، لِأَنَّا مُكَلَّفُونَ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَنَحْنُ إذَا لَمْ نَعْلَمْ عَلَى الْحُكْمِ سِوَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ أَوْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ الْحُكْمِ مِنْ عَدَمِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ أَوْ عَدَمِ تِلْكَ الْعِلَّةِ، وَالظَّنُّ مُتَعَبَّدٌ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّاتِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَظْنُونٍ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ. . مَسْأَلَةٌ إذَا قَالَ الْفَقِيهُ: بَحَثْت وَفَحَصْت فَلَمْ أَظْفَرْ بِالدَّلِيلِ، هَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الدَّلِيلِ؟ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: نَعَمْ، لِأَنَّهُ يَغْلِبُ ظَنُّ عَدَمِهِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": إنْ صَدَرَ هَذَا عَنْ الْمُجْتَهِدِ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى قُبِلَ مِنْهُ، أَوْ فِي مَحَلِّ الْمُنَاظَرَةِ لَا يُقْبَلْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: " بَحَثَتْ فَلَمْ أَظْفَرْ " يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا انْتِهَاضُهُ فِي حَقِّ

خَصْمِهِ فَلَا، لِأَنَّهُ يَدْعُو نَفْسَهُ إلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ. وَقَوْلُهُ " لَمْ أَظْفَرْ بِهِ " إظْهَارُ عَجْزٍ وَلَا يَحْسُنُ قَبُولُهُ فَيَجِبُ عَلَى خَصْمِهِ إظْهَارُ الدَّلِيلِ إنْ كَانَ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ حَاصِلٌ مَا ذَكَرَهُ إلْكِيَا، عَلَى طُولٍ فِيهِ، بَعْدَ أَنْ قَيَّدَ الْجَوَازَ عَدَمُ التَّعَلُّقِ بِالدَّلِيلِ بِشَرْطِ الْإِحَاطَةِ بِمَآخِذِ الْأَدِلَّةِ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِبَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} [الأنعام: 145] فَجَعَلَ عَدَمَ الْوَحْيِ فِي الْأَمْرِ دَلِيلًا، إذْ هُوَ عَالِمٌ بِالْعَدَمِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ اشْتَهَرَتْ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، يَسْتَدِلُّونَ بِهَا فِي مَسَائِلَ لَا تُحْصَى فِي طُرُقِ النَّفْيِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْحُكْمُ غَيْرُ ثَابِتٍ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ لِأَنَّهُ إمَّا نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ أَوْ قِيَاسٌ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَنْ نَصٍّ لَنُقِلَ وَلَمْ يُنْقَلْ وَلَوْ نُقِلَ لَعَرَفْنَاهُ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالْفَحْصِ التَّامِّ وَالْإِجْمَاعُ مُنْتَفٍ لِوُجُودِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا، وَالْقِيَاسُ مُنْتَفٍ لِقِيَامِ الْفَارِقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ عِلَّةِ الْخَصْمِ. وَنَازَعَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ الْقُدْسِيُّ صَاحِبُ الرُّكْنِ الطَّاوُسِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفُصُولِ " بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ النُّصُوصِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ وُجُوهِ الدَّلَالَات. وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُسْتَطَاعُ لِلْبَشَرِ. وَأَسْرَارُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ، وَمَظَانُّهَا دَقِيقَةٌ، وَعُقُولُ النَّاسِ فِي فَهْمِهَا مُخْتَلِفَةٌ، حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ أَوْ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةً فِي فَوَائِدِهَا وَدَلَالَتِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْتَهِي. وَلِذَلِكَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرْآنِ: هُوَ الَّذِي لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ» فَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ عِلْمَ عَدَمِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ إلَّا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ، وَلَوْ فُرِضَ عِلْمُهُ بِهِ لَغَفَلَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا رَوَوْا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْكَرَ الْمُغَالَاةَ فِي الْمَهْرِ حَتَّى قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: كَيْفَ مُنِعْنَاهُ وَقَدْ أَعْطَانَا اللَّهُ ثُمَّ قَرَأْت: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ حَافِظًا لِلْآيَةِ عَالِمًا بِهَا، وَلَكِنْ ذَهَبَتْ عَنْهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ عَسِرٌ جِدًّا، فَكَيْفَ يَصِيرُ قَوْلُهُ: " بَحَثْتُ فَلَمْ أَجِدْ " دَلِيلًا؟ ، وَقَدْ يَكُونُ عِلْمُهُ قَلِيلًا وَفَهْمُهُ نَاقِصًا وَقَوْلُهُ غَيْرُ

شرع من قبلنا

مَقْبُولٍ، فَلَعَلَّهُ وَجَدَ وَكَتَمَ، خَوْفًا أَوْ غَيْرَهُ. وَفِي تَجْوِيزِ ذَلِكَ فَسَادٌ عَظِيمٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَقَالَ الْحَوَارِيُّ فِي النِّهَايَةِ ": بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَتَكَايَسُ وَيَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا نَصَّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَعَثَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ مَعَ مُبَالَغَتِهِ فِي الْبَحْثِ وَعِلْمِهِ بِمَوَارِدِ النُّصُوصِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا عَثَرَ عَلَى النَّصِّ لَا يُخَالِفُهُ. وَهَذَا قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي نَفْيَ الْحُكْمِ قَطْعًا بَلْ ظَنًّا، فَيَكْفِيهِ نَفْيُ الدَّلِيلِ ظَاهِرًا إنْ تَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ النَّافِي لِلْحُكْمِ. [شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا] وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا: فِيمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[مُتَعَبِّدًا بِهِ] قَبْلَ الْبَعْثَةِ: وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ قَطْعًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقِيلَ: كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّهُ أَوَّلُ الشَّرَائِعِ. وَقِيلَ: نُوحٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] قِيلَ: إبْرَاهِيمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 68] ، وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ فِي " كِتَابِ السِّيَرِ " عَنْ صَاحِبِ الْبَيَانِ " وَأَقَرَّهُ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي الْمُرْشِدِ " وَعُزِّيَ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ:

وَبِهِ نَقُولُ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ. وَقِيلَ: عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى. وَقِيلَ: عِيسَى، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَنْبِيَاءِ إلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ النَّاسِخُ الْمُتَأَخِّرُ. وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِيمَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي الْمُرْشِدِ ": مَيْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ إلَى أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى شَرْعٍ مِنْ الشَّرَائِعِ وَلَا يُقَالُ كَانَ مِنْ أُمَّةِ ذَاكَ النَّبِيِّ كَمَا يُقَالُ كَانَ عَلَى شَرْعِهِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ كُلِّ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ إلَّا مَا نُسِخَ وَانْدَرَسَ، حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُلَخَّصِ ". وَقِيلَ: يَتَعَبَّدُ لَا مُلْتَزِمًا دِينًا وَاحِدًا مِنْ الْمَذْكُورِينَ، حَكَاهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ ". وَقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ وَلَكِنَّا لَا نَدْرِي بِشَرْعِ مَنْ تَعَبَّدَ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مُتَعَبِّدًا بِشَيْءٍ مِنْهَا قَطْعًا، وَحَكَاهُ فِي الْمَنْخُولِ " عَنْ إجْمَاعِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: هُوَ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِإِحَالَةِ ذَلِكَ عَقْلًا، إذْ لَوْ تَعَبَّدَ بِاتِّبَاعِ أَحَدٍ لَكَانَ عَصَى مِنْ

مَبْعَثِهِ، بَلْ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ الْعَقْلِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذَا بَاطِلٌ إذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ شَرِيعَةٌ. وَذَهَبَتْ عُصْبَةُ أَهْلِ الْحَقِّ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا نَرْتَضِيهِ وَنَنْصُرُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى دَيْنٍ لَنُقِلَ، وَلَذَكَرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ الْكِتْمَانُ. وَعَارَضَ ذَلِكَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ أَصْلًا لَنُقِلَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنْ الْمُعْتَادِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقَاضِي قَالَ: فَقَدْ تَعَارَضَ الْأَمْرَانِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: كَانَتْ الْعَادَةُ انْخَرَقَتْ فِي أُمُورِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، مِنْهَا انْصِرَافُ هَمِّ النَّاسِ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ وَالْبَحْثِ عَنْهُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: التَّوَقُّفُ، وَبِهِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَإِلْكِيَا وَالْآمِدِيُّ وَالشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي الذَّرِيعَةِ " وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ " إذْ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةُ عَقْلٍ، وَلَا ثَبَتَ فِيهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي الْمُرْشِدِ ": كُلُّ هَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ، وَالْعَقْلُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، لَكِنْ أَيْنَ السَّمْعُ فِيهِ. ثُمَّ الْوَاقِفِيَّةُ انْقَسَمُوا: فَقِيلَ: نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبَّدًا وَنَتَوَقَّفُ فِي عَيْنِ مَا كَانَ مُتَعَبِّدًا بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الْأَصْلِ، فَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ وَأَلَّا يَكُونَ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: الْخِلَافُ فِي الْفُرُوعِ. أَمَّا فِي الْأُصُولِ فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ كُلُّهُمْ وَاحِدٌ، عَلَى التَّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. الثَّانِي: قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْقِيحِ ": الْمُخْتَارُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: مُتَعَبِّدٌ (بِكَسْرِ الْبَاءِ) عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ، أَيْ إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ كَمَا قِيلَ فِي سِيرَتِهِ: يَنْظُرُ إلَى مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فَيَجِدُهُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ لَا تَلِيقُ بِصَانِعِ الْعَالَمِ، فَكَانَ يَخْرُجُ إلَى غَارِ حِرَاءَ يَتَعَبَّدُ، حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ. أَمَّا (بِفَتْحِهَا)

فَيَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَهُ بِشَرِيعَةٍ سَابِقَةٍ، وَذَلِكَ يَأْبَاهُ حِكَايَتُهُمْ الْخِلَافَ، هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ مُوسَى أَوْ عِيسَى؟ فَإِنَّ شَرَائِعَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمْ تَتَعَدَّ إلَى بَنِي إسْمَاعِيلَ، بَلْ كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ فَلَا تَتَعَدَّى رِسَالَتُهُ قَوْمَهُ. حَتَّى نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُبْعَثْ إلَى أَهْلِ مِصْرَ بَلْ لِبَنِي إسْرَائِيلَ وَلِيَأْخُذَهُمْ مِنْ الْقِبْطِ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ، وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاوَزَ الْبَحْرَ لَمْ يَرْجِعْ إلَى مِصْرَ لِتَعُمَّ فِيهَا شَرِيعَتُهُ، بَلْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ إعْرَاضًا كُلِّيًّا. وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى تَعَبَّدَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرِيعَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ، فَبَطَلَ قَوْلُنَا أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا (بِفَتْحِ الْبَاءِ) ، بَلْ (بِكَسْرِهَا) . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ نُبُوَّتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَهُ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى الْخِلَافِ، بِنُصُوصٍ خَاصَّةٍ، فَيَسْتَقِيمُ الْفَتْحُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ دُونَ مَا قَبْلَهَا. وَكَلَامُ الْآمِدِيَّ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مَصْلَحَةَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فِي تَكْلِيفِهِ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي (فَتْحَ الْبَاءِ) . وَلَمْ نَرَ لِغَيْرِهِ تَعَرُّضًا لِذَلِكَ. قُلْت: قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي عِبَارَةِ غَيْرِهِ، كَمَا سَبَقَ. الثَّالِثُ: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَظْهَرُ لَهَا فَائِدَةٌ، بَلْ تَجْرِي مَجْرَى التَّوَارِيخِ الْمَنْقُولَةِ. وَوَافَقَهُ الْمَازِرِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ فِي إطْلَاقِ النَّسْخِ عَلَى مَا تَعَبَّدَ بِهِ بِوُرُودِ شَرِيعَتِهِ الْمُؤَيِّدَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَنَّهُ هَلْ تَعَبَّدَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا؟ وَالْبَحْثُ هُنَا مَعَ الْقَائِلِينَ بِالتَّعَبُّدِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا مَنْ نَفَاهُ ثَمَّ [فَقَدْ] نَفَاهُ هَاهُنَا بِالْأَوْلَى. عَلَى مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا، بَلْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ آخَرُ

قَوْلَيْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَهُ فِي اللُّمَعِ " وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي آخَرِ عُمْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا قَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي " لِأَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ لَمْ يُرْشِدْهُ، بَلْ ذَكَرَ لَهُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاجْتِهَادَ. وَنَصَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي الدَّلَائِلِ " قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ: كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِيَارِ لَا الْوُجُوبِ. انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ، فَمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يُحَرِّفُوهُ وَلَا بَدَّلُوهُ فَأَحَبَّ مُوَافَقَتَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ثُمَّ قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَبِّدٍ بِهَا وَلَا مَنْهِيٍّ عَنْهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي زَوَائِدِهِ ": الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا، لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ النَّصِّ خِلَافَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إنَّهُ الصَّحِيحُ قَالَ وَلَقَدْ قَبَّحَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: إنَّ رَجْمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودِيَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ تَعَبُّدٌ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ قَالَ: وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْكُفْرِ. وَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْإِعْرَابِ ": لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِاتِّبَاعِهَا، إلَّا مَا نُسِخَ مِنْهَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَعَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: هُوَ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ الْفُقَهَاءُ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَوَّلًا فِي التَّبْصِرَةِ " وَاخْتَارَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَقَالَ: إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ صَالِحٍ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَوْمِهِ فِي شُرْبِ النَّاقَةِ عَلَى إجَازَةِ الْمُهَايَأَةِ. وَقَالَ الْخَفَّافُ فِي شَرْحِ الْخِصَالِ ": شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا إلَّا فِي خَصْلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ شَرْعُنَا نَاسِخًا لَهَا، أَوْ يَكُونُ فِي شَرَعْنَا ذِكْرٌ لَهَا، فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُ مَا كَانَ مِنْ شَرْعِنَا وَإِنْ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ مُقَدَّمًا. انْتَهَى. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ إذَا وَجَدْنَا حُكْمًا فِي

شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَلَمْ يَرِدْ فِي شَرَعْنَا نَاسِخٌ لَهُ لَزِمَهُ التَّعَلُّقُ بِهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. قُلْت: وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ " إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ " فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ وَأَنَّهُ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَاوِي ". انْتَهَى. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لِلشَّافِعِيِّ مَيْلٌ إلَى هَذَا، وَبَنَى عَلَيْهِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِهِ فِي " كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ "، وَتَابَعَهُ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ ": وَقَدْ اسْتَأْنَسَ الشَّافِعِيُّ لِصِحَّةِ الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] فَكَانَ الْحَمْلُ فِي مَعْنَى الْجِعَالَةِ لِمَنْ يُنَادِي فِي الْعِيرِ بِالصُّوَاعِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهِ، وَقَالَ أَيْضًا فِي " كِتَابِ الضَّمَانِ " فِيمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَضَرَبَهُ بِالْعُثْكُولِ: إنَّهُ يَبْرَأُ، لِقِصَّةِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْمُولٌ بِهَا فِي مِلَّتِنَا، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْمِلَلَ لَا تَخْتَلِفُ فِي مُوجِبِ الْأَلْفَاظِ وَفِيمَا يَقَعُ بِرًّا وَحِنْثًا. وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَجَدَ فِي " سُورَةِ ص " وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] فَاسْتَنْبَطَ التَّشْرِيعَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ. وَكَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَهَبَ إلَيْهِ مُعْظَمُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَبَسِ ": نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ فِي " كِتَابِ الدِّيَاتِ " مِنْ الْمُوَطَّإِ ". وَلَا خِلَافَ عِنْدَهُ فِيهِ. وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا فَقِيلَ: شَرْعُ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَحْدَهُ، وَقِيلَ: شَرْعُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَرْعُنَا إلَّا مَا نُسِخَ بِشَرِيعَةِ عِيسَى. وَقِيلَ: شَرِيعَةُ عِيسَى وَحْدَهُ. حَكَاهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُمَا: وَنَقَلَا الْخِلَافَ بِعَيْنِهِ فِي الْمِلَّتَيْنِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي ": مَا تَضَمَّنَتْهُ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا، فِيمَا لَمْ يَقُصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ، لَا يَلْزَمُنَا

حُكْمُهُ، لِانْتِقَاءِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ. وَأَمَّا مَا قَصَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ لَزِمَنَا فِيهِ شَرَائِعُ إبْرَاهِيمَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] . وَفِي لُزُومِ مَا شَرَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : يَلْزَمُهُ، لِكَوْنِهِ حَقًّا مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهِ. و (الثَّانِي) : لَا يَلْزَمُ، لِكَوْنِ أَصْلِهِ مَنْسُوخًا. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْوِفَاقِ عَلَى إبْرَاهِيمَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ التَّجْرِيدِ " فَقَالَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا، هَلْ تَلْزَمُنَا؟ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ شَرِيعَةَ إبْرَاهِيمَ لَازِمَةٌ لَنَا. وَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْأُصُولِ ": إذَا ثَبَتَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى شَيْءٌ، هَلْ يَجُوزُ بَعْدَ بَعْثِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّمَسُّكُ بِهِ؟ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : يَجِبُ عَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِشَرَائِعِهِمْ إلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ شَرْعُنَا. (وَالثَّانِي) : لَا اقْتِدَاءَ إلَّا بِشَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ: مَا حَكَى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْهُمْ فَهُوَ حَقٌّ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي شَرِيعَتِنَا إلَّا أَنْ يُغَيَّرَ عَنْهُ. وَقَدْ كَانَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ: مَا حُكِيَ لَنَا عَنْهُمْ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ مِنْ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ. انْتَهَى. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يَتَعَبَّدْ فِيهَا بِأَمْرِ وَلَا نَهْيٍ. حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: الْوَقْفُ. حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " عَنْ أَبِي زَيْدٍ، أَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْأَنْبَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، كَقِسْمَةِ الْمُهَايَأَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] وَقَوْلُهُ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَقَوْلُهُ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . . . قَالَ: فَهَذَا يَكُونُ شَرْعُنَا، لِأَنَّهُ مَصُونٌ عَنْ التَّحْرِيفِ. وَهَذَا لَا يَصْلُحُ جَعْلُهُ مَذْهَبًا بِالتَّفْصِيلِ، لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ شَرْعٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ احْتَمَلَ التَّبْدِيلَ، وَهُوَ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلُ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ عَمَّا فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً كَمَا هُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمَاوَرْدِيِّ السَّابِقَةِ، فَيَجِيءُ

حِينَئِذٍ التَّفْصِيلُ، إلَّا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ. وَلِهَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيمَا إذَا بَلَغْنَا شَرْعُ مَنْ تَقَدَّمَنَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، أَوْ لِسَانِ مَنْ أَسْلَمَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَنْسُوخًا وَلَا مَخْصُوصًا بِأَحَدٍ. انْتَهَى. قُلْت: وَيَلْحَقُ بِهِمْ النَّجَاشِيُّ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ " عَنْ عَامِرِ بْنِ شَهْرٍ قَالَ: كَلِمَتَانِ سَمِعَتْهُمَا، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إحْدَاهُمَا مِنْ النَّجَاشِيِّ، وَالْأُخْرَى مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَّا الَّتِي سَمِعْتُهَا مِنْ النَّجَاشِيِّ فَإِنَّا كُنَّا عِنْدَهُ إذْ جَاءَهُ ابْنٌ لَهُ مِنْ الْكِتَابِ يَعْرِضُ لَوْحَهُ قَالَ: وَكُنْت أَفْهَمُ بَعْضَ كَلَامِهِمْ، فَمَرَّ بِأَيَّةٍ فَضَحِكْت. فَقَالَ: مَا الَّذِي أَضْحَكَك؟ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُنْزِلَتْ مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ: إنَّ اللَّعْنَةَ تَكُونُ فِي الْأَرْضِ إذَا كَانَتْ إمَارَةُ الصَّبِيَّانِ. وَاَلَّذِي سَمِعْتُهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «اسْمَعُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَدَعُوا فِعْلَهُمْ» . قُلْت: وَقَدْ فَرَّقَهُ أَبُو دَاوُد، فَرَوَى أَوَّلَهُ فِي " كِتَابِ الْجِرَاحِ " وَبَاقِيَهُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ ". وَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: " رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ " قَالَ: أَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ ذَاتَ يَوْمٍ وَرَاءَ أَصْحَابِهِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَقَدْ جَلَسَ عَلَى التُّرَابِ وَلَبِسَ الْخُلْقَانَ، فَبَشَّرَهُمْ بِنُصْرَةٍ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَدْرٍ، فَسَأَلُوهُ عَنْ جُلُوسِهِ عَلَى

هَذِهِ الْحَالَةِ، فَقَالَ: إنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ حَقًّا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يُحْدِثُوا لِلَّهِ تَوَاضُعًا عِنْدَ كُلِّ مَا أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ نِعْمَةٍ. فَلَمَّا أَحْدَثَ اللَّهُ نَصْرَ نَبِيِّهِ أَحْدَثْت لِلَّهِ هَذَا التَّوَاضُعَ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ " عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ تَطُولَ حَيَاتُهُ، وَيَزْدَادُ فِي رِزْقِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ. وَالْقَوْلُ بِجَرَيَانِ هَذَا فِي أَخْبَارِ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ بَعِيدٌ. وَقَالَ إلْكِيَا مَا حَاصِلُهُ: الْمُرَادُ بِشَرْعِ مَا قَبْلَنَا مَا حَكَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُمْ أَمَّا الْمَوْجُودُ بِأَيْدِيهِمْ فَمَمْنُوعٌ اتِّبَاعُهُ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ: وَعِلَّةُ الْمَنْعِ إمَّا لِتُهْمَةِ التَّحْرِيفِ، وَإِمَّا لِتَحَقُّقِ النَّسْخِ. قَالَ وَوَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مِنْ شَرْعِهِمْ. فَإِنْ قُلْنَا: التُّهْمَةُ التَّحْرِيفُ فَلَا يُتَّجَهُ. وَإِنْ قُلْنَا لِتَحَقُّقِ النَّسْخِ اطَّرَدَ ذَلِكَ فِي الْمَحْكِيِّ وَغَيْرِهِ. قُلْت: وَلِهَذَا فَصَّلَ أَبُو زَيْدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ مَا سَبَقَ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قَالَ الْمُقْتَرِحُ: هَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَرِيعَةٍ لَمَّا وَرَدَتْ، كَانَتْ خَاصَّةً أَوْ كَانَتْ عَامَّةً، فَاَلَّذِي فَصَّلَ يُقَدِّرُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً، وَهَلْ انْدَرَسَتْ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي يَدَّعِي أَنَّهَا شَرْعٌ لَنَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ أَنَّهَا حَيْثُ وَرَدَتْ دَامَتْ وَلَمْ تَنْدَرِسْ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ نَاسِخَةً وَمُغَيِّرَةً. وَعِنْدَهُمْ: تَصْلُحُ لِذَلِكَ.

الثَّانِي قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ: فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَظْهَرُ فِي حَادِثَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَلَهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَعْلُومٌ فِي شَرْعٍ قَبْلَ هَذَا الشَّرْعِ، هَلْ يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ أَمْ لَا؟ . وَمِنْ فُرُوعِهِ: مَا إذَا تَعَذَّرَ الِاطِّلَاعُ عَلَى حُكْمِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَيَحْرُمُ، وَثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِشَرْعٍ سَابِقٍ بِنَصٍّ أَوْ شَهَادَةٍ فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا نَسْتَصْحِبُهُ حَتَّى يَظْهَرَ نَاسِخٌ وَنَاقِلٌ. وَ (أَصَحُّهُمَا) : لَا، بَلْ يُعْمَلُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ مِنْ الْحِلِّ. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَوْ اخْتَلَفَ فِيهِ، فَفِي الْحَاوِي " لِلْمَاوَرْدِيِّ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهُ فِي أَقْرَبِ الشَّرَائِعِ بِالزَّمَنِ لِلْإِسْلَامِ. وَإِنْ اخْتَلَفُوا فَوَجْهُهَا تَعَارُضُ الْأَشْبَاهِ. الثَّالِثُ قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": لَيْسَ تَحْقِيقُ الْخِلَافِ أَنْ يَقُولَ الْمُخَالِفُ: إنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِمِثْلِ شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُنْكِرُ هَذَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا قَوْلَ الْمُخَالِفِينَ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ مُبْتَدَأٌ مُوَافِقٌ لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، فَقَدْ وَافَقُوا عَلَى الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْمَبْعَثِ الْعَمَلُ بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى وَجْهِ الِاتِّبَاعِ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ وَفَرْضِ لُزُومِ دَعْوَتِهِ؟ قَالَ الْقَاضِي: فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي نُنْكِرُهُ. . الرَّابِعُ إذَا قُلْنَا بِاسْتِصْحَابِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَلَهُ ثَلَاثُ شُرُوطٍ: (أَحَدُهَا) : أَنْ يَصِحَّ النَّقْلُ بِطَرِيقَةِ أَنَّهُ شَرْعُهُمْ. وَذَلِكَ بِأَرْبَعِ طُرُقٍ:

إمَّا بِالْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، أَوْ تَصْحِيحُ السُّنَّةِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْغَارِ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَشِرَائِهِ، أَوْ ثَبَتَ نَقْلٌ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْغَلَطُ فِيهِ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِيمَانُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي " بَابِ الْخَبَرِ ". هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ، وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي " كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ ": لَا يُعْتَمَدُ قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِمَّا بِأَنْ يَشْهَدَ بِهِ اثْنَانِ أَسْلَمَا مِنْهُمْ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْمُبْدَلَ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَخْتَلِفَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَتَحْلِيلِهِ شَرِيعَتَانِ، فَإِنْ اخْتَلَفَتَا كَأَنْ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ، وَحَلَالًا فِي شَرِيعَةِ غَيْرِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْمُتَأَخِّرِ، وَيُحْتَمَلُ التَّخْيِيرُ، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِأَنَّ الثَّانِيَ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، فَإِنْ ثَبَتَ كَوْنُ الثَّانِي نَاسِخًا وَجُهِلَ كَوْنُهُ حَرَامًا فِي الدِّينِ السَّابِقِ أَوْ اللَّاحِقِ تُوَقِّفَ وَيُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ إلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ ثَابِتًا قَبْلَ تَحْرِيفِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ، فَإِنْ اسْتَحَلُّوا وَحَرَّمُوا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّحْرِيفِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ أَلْبَتَّةَ. الْخَامِسُ هَذَا كُلُّهُ فِي فُرُوعِ الدِّينِ، فَأَمَّا الْعَقَائِدُ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ. قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إبْرَاهِيمَ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وَلَمْ يَرُدَّ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا بِأَنَّهُ شَرْعٌ سَابِقٌ. وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِالْإِيمَانِ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ وَالْكُفْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا وَنَحْوِهِمَا، وَقَالَ: اتَّفَقَتْ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا: هَلْ حُرِّمَتْ فِي شَرْعِنَا

بِخِطَابٍ مُسْتَأْنَفٍ أَمْ بِالْخِطَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى غَيْرِهِ وَتُعُبِّدَ بِاسْتِدَامَتِهِ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْخِطَابُ إلَّا بِمَا يُخَالِفُ شَرْعَهُمْ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَالْغَزَالِيُّ: كَانَ ذَلِكَ بِخِطَابٍ مُسْتَأْنَفٌ وَطَرَدُوا قَوْلَهُمْ: لَمْ يَتَعَبَّدْ بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ. السَّادِسُ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِهِ مَسَائِلُ الْخِلَافِ فِي الْأُصُولِ خِلَافًا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيًّا تَكُونُ شَرِيعَتُهُ مِثْلَ الَّذِي قَبْلَهُ، أَمْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَهُ شَرِيعَةٌ مُفْرَدَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَا بُدَّ أَنْ يَخْتَصَّ بِشَرِيعَةٍ [غَيْرِ شَرِيعَةِ] مَنْ قَبْلَهُ. انْتَهَى. وَلَعَلَّ هَذَا الْخِلَافَ هُوَ أَصْلُ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَتِنَا. ثُمَّ رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الذَّرِيعَةِ " لِلشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى. قَالَ: وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ نَبِيًّا بِمِثْلِ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ الْأَوَّلِ بِشَرْطَيْنِ: أَنْ تَنْدَرِسَ الْأُولَى فَيُجَدِّدُهَا الثَّانِي، أَوْ بِأَنْ يَزِيدَ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا. فَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ عَبَثٌ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ وَلَا عَبَثَ إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِالثَّانِي مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَوَّلِ، لِتَكُونَ النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى سَبِيلِ تَرَادُفِ الْأَدِلَّةِ. فَائِدَةٌ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: بَدْءُ الشَّرَائِعِ كَانَ فِي التَّخْفِيفِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي شَرْعِ نُوحٍ وَصَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ ثَقِيلٌ، ثُمَّ جَاءَ مُوسَى بِالتَّشْدِيدِ وَالْأَثْقَالِ، وَجَاءَ عِيسَى بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَتْ شَرِيعَةٌ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنْسَخُ تَشْدِيدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا تُطْلِقُ بِتَسْهِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، فَهِيَ عَلَى غَايَةِ الِاعْتِدَالِ. .

مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِنَبِيٍّ أَوْ مُجْتَهِدٍ: اُحْكُمْ بِمَا شِئْت مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَهُوَ صَوَابٌ، أَيْ فَهُوَ حُكْمِي فِي عِبَادِي، إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا الصَّوَابَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ إذْ ذَاكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيُسَمَّى (التَّفْوِيضُ) ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إلْكِيَا وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَقَالَ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ: لَا يَجُوزُ، بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِمْ أَنَّ الشَّرْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَصَالِحِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي اخْتِيَارِهِ مَصْلَحَةٌ. وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي الذَّرِيعَةِ ": الصَّحِيحُ السَّمَاعُ، وَلَا بُدَّ فِي كُلِّ حُكْمٍ مِنْ دَلِيلٍ لَا يَرْجِعُ إلَى اخْتِيَارِ الْفَاعِلِ. وَقَالَ: خَالَفَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى الْحُكْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا مَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ، فَيُفَوِّضُ ذَلِكَ إلَى اخْتِيَارِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَالثَّالِثُ: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَجُوزُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ دُونَ الْعَالِمِ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: ثُمَّ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.

قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ ": ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الصَّوَابَ يَتَّفِقُ مِنْ نَبِيِّهِ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْطَعْ عَلَيْهِ بَلْ جَوَّزَهُ وَجَوَّزَ خِلَافَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ": ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِالْوَحْيِ، أَوْ بِأَنْ يَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ. وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى خَاطِرٍ يُلْقَى إلَيْهِ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ، أَوْ بِأَنْ يُوَفَّقَ فِي الْحُكْمِ. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ بِعَيْنِهِ. وَقَدْ رَدُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الشَّرْعِيَّاتِ مِنْ دَلَالَةٍ مُمَيِّزَةٍ لِلصَّلَاحِ مِنْ الْفَسَادِ، وَاخْتِيَارُ الْمُكَلَّفِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ ": حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ ": إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الصَّوَابَ يَتَّفِقُ مِنْ نَبِيِّهِ جَعَلَ ذَلِكَ إلَيْهِ. وَلَمْ يَقْطَعْ بِذَلِكَ قَالَ: وَهَذَا لَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ نُصِبَتْ عَلَيْهِ أَمَارَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الصَّوَابَ يَتَّفِقُ مَعَهُ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ. انْتَهَى. وَزَعَمَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ أَنَّ تَرَدُّدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَوَازِ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: بَلْ فِي الْوُقُوعِ مَعَ الْجَزْمِ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ نَقْلًا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ إنْ لَمْ يَقَعْ نَقْلًا. وَصَرَّحَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " بِالْجَوَازِ وَتَرَدَّدَ فِي الْوُقُوعِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مُسْتَنَدَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِلَّا كَانَ اجْتِهَادًا جَائِزًا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَوْلٍ. وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْآتِيَةُ فِي الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ أَوْرَدَهَا مُتَكَلِّمُو الْأُصُولِيِّينَ فَلَيْسَتْ بِمَعْرُوفَةٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ فَائِدَةٍ، لِأَنَّ هَذَا فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُوجَدْ، وَلَا يُتَوَهَّمُ وُجُودُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ وُجِدَ، وَسَبَقَ فِي كَلَامٍ آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، عِنْدَ الْكَلَامِ فِي أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ عِلَّةٍ.

إطباق الناس من غير نكير

[إطْبَاقُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ] ٍ هَذَا الدَّلِيلُ يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاضِعَ، كَاسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى طَهَارَةِ الْإِنْفَحَةِ بِإِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَى أَكْلِ الْجُبْنِ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى جَوَازِ قَرْضِ الْخُبْزِ. وَاسْتِدْلَالُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِصْنَاعِ لِمُشَاهَدَةِ السَّلَفِ لَهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ مَعَ ظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ، وَدُخُولُ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ أُجْرَةٍ وَلَا تَقْدِيرِ انْتِفَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهُوَ يَقْرُبُ مِنْ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ مِنْ غَيْرِ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْفِعْلِ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالتَّجْوِيزِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَازِمٌ لَلْأُمَّةِ، بَلْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى وُجُوبِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ: وَقَدْ يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ عَلَى وُجُوبِ الشَّيْءِ بِإِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَى الْعَمَلِ، وَمَا كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ فَالْعَادَةُ لَا تَقْتَضِي تَرَدُّدَ النَّاسُ فِيهِ. انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: هَذَا لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا اتَّفَقَ فِي عَصْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَزَايُدُ الْحَالِ إلَى هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي كَمْ فِيهِ مِنْ بِدْعَةٍ، وَقَدْ تَوَاطَئُوا عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ لَهَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْإِطْبَاقَ عَلَى الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ النَّكِيرِ دَلِيلًا عَلَى الْإِبَاحَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ يُكْثِرُ الْجُلُوسَ عَلَى رَبِيعَةَ، فَتَذَاكَرَا يَوْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَرَأَيْت إنْ كَثُرَ الْجُهَّالِ حَتَّى يَكُونُوا هُمْ الْحُطَامُ فَهُمْ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ. قَالَ رَبِيعَةُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ ": وَالْأَعْلَامُ الْمُعْتَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ ضَرْبَانِ:

دلالة السياق

أَحَدُهُمَا) : مَا يَعْتَادُونَهُ فِي أَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ وَنَحْوِهِ، فَلَا كَلَامَ فِيهِ، لِأَنَّ هَذَا تَابِعٌ لِلْمَقَاصِدِ لَا حَجْرَ فِيهِ. (وَالثَّانِي) : مَا اعْتَادُوهُ فِي دِيَانَاتِهِمْ. وَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَادَةً لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ إلَّا بِدَلِيلٍ، كَقَوْمٍ أَلِفُوا مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي بَلْدَةٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَادَةً لِجَمِيعِ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ مُسْتَفِيضًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيضُ بَيْنَهُمْ فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ إلَّا وَهُوَ مُبَاحٌ أَوْ مُوجَبٌ، عَلَى حَسَبِ مَا يُلْزِمُونَهُ أَنْفُسَهُمْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْأَغْلَبِ فَلَيْسَ حُجَّةً. قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَحْكَامَ وَقَعَتْ عَلَى الْعَادَاتِ فَغَلَطٌ، بَلْ هِيَ مُبْتَدَأَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. . [دَلَالَةُ السِّيَاقِ] ِ أَنْكَرَهَا بَعْضُهُمْ، وَمَنْ جَهِلَ شَيْئًا أَنْكَرَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فِي مَجَارِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ احْتَجَّ بِهَا أَحْمَدُ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْوَاهِبَ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ مِنْ حَدِيثِ «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» حَيْثُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ. إذْ قَيْءُ الْكَلْبِ لَيْسَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ فِيهِ: لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السُّوءِ، «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ» الْحَدِيثُ. وهَذَا مَثَلُ سَوْءٍ

قول الصحابي

فَلَا يَكُونُ لَنَا، وَاحْتَجَّ بِهَا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهُ اسْتِيعَابُهُمْ وَاجِبٌ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا رَأَى بَعْضَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ يُحَاوِلُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا، وَيَسْخَطُ إذَا لَمْ يُعْطَ يُقْطَعُ طَمَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَهَا غَيْرُهُ، وَهُمْ الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي كِتَابِ الْإِمَامِ ": السِّيَاقُ يُرْشِدُ إلَى تَبْيِينِ الْمُجْمَلَاتِ، وَتَرْجِيحِ الْمُحْتَمَلَاتِ، وَتَقْرِيرِ الْوَاضِحَاتِ. وَكُلُّ ذَلِكَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ. فَكُلُّ صِفَةٍ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ كَانَتْ مَدْحًا، وَإِنْ كَانَتْ ذَمًّا بِالْوَضْعِ. وَكُلُّ صِفَةٍ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ كَانَتْ ذَمًّا وَإِنْ كَانَتْ مَدْحًا بِالْوَضْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] . [قَوْلُ الصَّحَابِيِّ] ِّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ مُجْتَهِدٍ، إمَامًا أَوْ حَاكِمًا أَوْ مُفْتِيًا. نَقَلَهُ الْقَاضِي، وَتَبِعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، مِنْهُمْ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: يَقْدَحُ فِيهِ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ: إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فَالتَّمَسُّكُ بِقَوْلِ الْخُلَفَاءِ أَوْلَى. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ الِاحْتِجَاجُ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَجْلِ الِاخْتِلَافِ.

قُلْنَا: مُرَادُهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْنَا، لَا عَلَى مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ. نَعَمْ، هُنَا مَسْأَلَتَانِ: (إحْدَاهُمَا) : بِالنِّسْبَةِ إلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ، و (الثَّانِيَةُ) : بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِهِ، وَالْقَاضِي إنَّمَا حَكَى الِاتِّفَاقَ فِي الْأُولَى، وَحَكَى الْخِلَافَ فِي الثَّانِيَةِ فَقَالَ: وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الصَّحَابِيِّ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَبِذَلِكَ لَا يَجِبُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَهُمْ، لِتَسَاوِي أَحْوَالِهِمْ. قَالَ: وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ تَقْلِيدَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بَعْضًا، وَاحْتَجُّوا بِإِجَابَةِ عُثْمَانَ إلَى تَقْلِيدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْ وُجُوبَ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَدْ يَدَّعِي أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ. ويَلْزَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ الْوُجُوبُ، وَكَلَامُ الشَّيْخِ فِي اللُّمَعِ " يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أَجْمَعُوا بَيْنَ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ بَنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ حُجَّةٌ أَمْ لَا. فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بَلْ يَرْجِعُ إلَى الدَّلِيلِ. وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ حُجَّةٌ فَهَاهُنَا دَلِيلَانِ تَعَارَضَا فَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ يَكُونُ فِيهِ إمَامٌ. انْتَهَى. ثُمَّ هَذَا الِاتِّفَاقُ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَنِهِمْ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدِهِمْ إذَا اخْتَلَفُوا فَقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ حُجِّيَّةَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ تَزُولُ إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ اتِّبَاعُ قَوْلِ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَتَعَلَّقُوا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدِهِمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ؟ وَفِيهِ أَقْوَالٌ.

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ. ويُومِئُ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَزَعَمَ عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ وَاتِّبَاعِ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ صَحِيحُ النَّظَرِ فَقَالَ: وَلَيْسَ فِي اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ سَعَةٌ، إنَّمَا هُوَ خَطَأٌ أَوْ صَوَابٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ. وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ صَاحِبُ " التَّقْوِيمِ ": قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ: تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَاجِبٌ، يُتْرَكُ بِقَوْلِهِ الْقِيَاسُ، وَعَلَيْهِ أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنْ شَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ. وَاحْتَجَّ بِأَثَرِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَالْقِيَاسِ، وَقَالَ: وَلَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مَذْهَبٌ ثَابِتٌ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: " إذَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ سَلَّمْنَا لَهُمْ، وَإِذَا جَاءَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ بِدُونِ إجْمَاعٍ. انْتَهَى. وَمِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، لَمَّا ذَكَرَ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -: وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اُسْتُدْرِكَ فِيهِ عِلْمٌ أَوْ اُسْتُنْبِطَ، وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَجْمَلُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ آرَائِنَا عِنْدَنَا لِأَنْفُسِنَا. وَمَنْ أَدْرَكْنَا مِمَّنْ يَرْضَى أَوْ حَكَى لَنَا عَنْهُ بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سُنَّةٌ إلَى قَوْلِهِمْ إنْ أَجْمَعُوا، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ إنْ تَفَرَّقُوا. فَهَكَذَا نَقُولُ: إذَا اجْتَمَعُوا أَخَذْنَا بِاجْتِمَاعِهِمْ، وَإِنْ قَالَ وَاحِدُهُمْ وَلَمْ يُخَالِفُهُ غَيْرُهُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا أَخَذْنَا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَلَمْ نَخْرُجُ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ كُلِّهِمْ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى قَوْلِ أَحَدِهِمْ دَلَالَةٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ كَانَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أَقُولَ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنْ أُخَالِفَهُمْ، مِنْ قَبْلُ أَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَحِكَايَةٍ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَفْتُونَ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ - يَعْنِي مِنْ الصَّحَابَةِ - وَلَا دَلِيلَ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، نَظَرْنَا إلَى الْأَكْثَرِ، فَإِنْ تَكَافَئُوا نَظَرْنَا إلَى أَحْسَنِ أَقَاوِيلِهِمْ مَخْرَجًا عِنْدَنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ اُشْتُهِرَ نَقْلُهُ عَنْ الْقَدِيمِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ أَيْضًا، وَقَدْ نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كِتَابِ الْأُمِّ "، فِي بَابِ خِلَافِهِ مَعَ مَالِكٍ، وَهُوَ مِنْ الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ فَلْنَذْكُرْهُ بِلَفْظِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ صِرْنَا إلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ أَوْ وَاحِدِهِمْ، وَكَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَحَبَّ إلَيْنَا إذَا صِرْنَا إلَى التَّقْلِيدِ، وَلَكِنْ إذَا لَمْ نَجِدْ دَلَالَةً فِي الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ عَلَى أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَتَّبِعُ الْقَوْلَ الَّذِي مَعَهُ الدَّلَالَةُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ مَشْهُورٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ النَّاسَ وَمِنْ لَزِمَ قَوْلُهُ النَّاسَ كَانَ أَظْهَرُ مِمَّنْ يُفْتِي الرَّجُلَ وَالنَّفَرَ، وَقَدْ يَأْخُذُ بِفُتْيَاهُ وَقَدْ

يَدَعُهَا، وَأَكْثَرُ الْمُفْتِينَ يُفْتُونَ الْخَاصَّةَ فِي بُيُوتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ، وَلَا يَعْنِي الْخَاصَّةَ بِمَا قَالُوا: عِنَايَتُهُمْ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ. ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ، وَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا مِنْ اتِّبَاعِ مَنْ بَعْدِهِمْ. وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ: الْأُولَى: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ إذَا ثَبَتَتْ السُّنَّةُ. وَالثَّانِيَةُ: الْإِجْمَاعُ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا فِيهِمْ. وَالرَّابِعَةُ: اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الرَّسُولِ. وَالْخَامِسَةُ: الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ. وَلَا يُصَارُ إلَى شَيْءٍ غَيْرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَعْلَى. هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ عَنْ الْأَصَمِّ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْهُ. وَهَذَا صَرِيحٌ مِنْهُ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَيَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ فِي الْجَدِيدِ، وَأَحَدُهُمَا مُوَافِقٌ لِلْقَدِيمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ غَفَلَ عَنْ نَقْلِهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلَفُوا كَانَ الْحُجَّةُ فِي قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ إذَا وَجَدَ عَنْهُمْ، لِلْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ اشْتِهَارُ قَوْلِهِمْ وَرُجُوعُ النَّاسِ إلَيْهِمْ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي الْأُمِّ " فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ (مِنْهَا) قَالَ فِي كِتَابِ الْحُكْمِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مَا نَصُّهُ: وَكُلُّ مِنْ يَحْبِسُ نَفْسَهُ بِالتَّرَهُّبِ تَرَكْنَا قَتْلَهُ، اتِّبَاعًا لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا اتِّبَاعًا لَا قِيَاسًا، وَقَالَ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى " فِي بَابِ الْغَصْبِ: أَنَّ عُثْمَانَ قَضَى فِيمَا إذَا شَرَطَ الْبَرَاءَةَ فِي الْعُيُوبِ فِي الْحَيَوَانِ. قَالَ: وَهَذَا يَذْهَبُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إلَى هَذَا تَقْلِيدًا. وَإِنَّمَا كَانَ

الْقِيَاسُ عَدَمُ الْبَرَاءَةِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إنَّمَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ عُثْمَانَ فِي الْجَدِيدِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ إذَا لَمْ يَنْتَشِرْ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ كَانَ حُجَّةً. انْتَهَى. وَقَالَ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا تَقْلِيدًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ قِيَاسٌ، فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى قِيَاسٍ لَيْسَ مَعَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ " فَقَالَ: وَأَقْوَالُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا تَفَرَّقُوا نَصِيرُ مِنْهَا إلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ، أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ. وَإِذَا قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْقَوْلُ لَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لَهُ مُوَافَقَةٌ وَلَا خِلَافًا صِرْتُ إلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ. وَإِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إجْمَاعًا وَلَا شَيْئًا يَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِهِ، أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ. هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ. وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ ": حَكَى الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرَى فِي الْجَدِيدِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ إذَا عَضَّدَهُ الْقِيَاسُ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: نَقُولُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: قَالَ فِي الْجَدِيدِ: إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا اعْتَضَدَ بِضَرْبٍ مِنْ الْقِيَاسِ يَقْوَى بِمُوَافَقَتِهِ إيَّاهُ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " فِي بَابِ الْقَوْلِ فِي مَنْعِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلْعَالَمِ: إنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُهُ، وَحَكَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيّ فَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: أَقُولُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي بَابِ الرِّبَا: عِنْدَنَا أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا كَانَ لَهُ قَوْلٌ وَكَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَالْمُضِيُّ إلَى قَوْلِهِ أَوْلَى، خُصُوصًا إذَا كَانَ إمَامًا، وَلِهَذَا مَنَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ بِجِنْسِهِ وَغَيْرِهِ، لِأَثَرِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

قُلْت: وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ثُمَّ قَالَ: وَفِي مَذْهَبِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى ثُمَّ الْأَخِيرَةَ ثُمَّ الْوُسْطَى أَعَادَ الْوُسْطَى وَلَمْ يُعِدْ الْأُولَى، وَهُوَ دَلِيلٌ فِي قَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّ تَقْطِيعَ الْوُضُوءِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُجْزِئَ عَنْهُ، كَمَا فِي الْجَمْرَةِ. انْتَهَى. فَاسْتَدَلَّ بِفِعْلِ الصَّحَابِيِّ الْمُعْتَضَدِ لِلْقِيَاسِ، وَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ، وَعَلَى الْغُسْلِ أَيْضًا، كَمَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ. . نَعَمْ، الْمُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ نَفْسَهُ حُجَّةٌ، فَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِاعْتِبَارِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِيهِ، وَيُؤَوَّلُ حِينَئِذٍ هَذَا إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى انْفِرَادِهِ. وَلِهَذَا حَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْقِيَاسِ، أَوْ فِي قَوْلِهِ، بَعْدَ أَنْ قَطَعَ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا وَافَقَ الْقِيَاسَ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِجَوَابَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسَانِ، فَيَكُونُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ مَعَ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ الْمُجَرَّدِ. قَالَ: وَهَذَا كَالْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ، فَإِنَّهُ اجْتَذَبَهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا يُشْبِهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا عَلِمَهُ، فَأَمَّا الْبَرَاءَةُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ فَمُمْتَنِعَةٌ. وَهَذَا الَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ الْحَيَوَانِ أَنْ يُوجِبَ قِيَاسًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْحَيَوَانَ مَخْصُوصٌ بِمَا سِوَاهُ مِنْ حَيْثُ يُغْتَذَى بِالصِّحَّةِ وَالسُّقُمِ وَيُخْفِي عُيُوبَهُ، صَارَ إلَى تَقْلِيدِ عُثْمَانَ مَعَ هَذَا الْقِيَاسِ. وَالثَّانِي: كَانَ الشَّافِعِيُّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ: إنَّهُ لَا يَقُولُ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ فَاسْتَحْسَنَ الْعِبَارَةَ فَقَالَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ مَعَهُ الْقِيَاسُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا كَانَ مَعَهُ

قِيَاسٌ، وَالْقِيَاسُ فِي نَفْسِهِ حُجَّةٌ وَحْدَهُ؟ قِيلَ: اجْتَذَبَ الْمَسْأَلَةَ وَجْهَانِ مِنْ الْقِيَاسِ قَوِيٌّ وَضَعِيفٌ، فَقَوِيَ الْقِيَاسُ الضَّعِيفُ بِقَوْلِ عُثْمَانَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَرَكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ الْقِيَاسَانِ عَنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ كَانَ إمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فَيَسْقُطَا، أَوْ يَصِحُّ أَحَدُهُمَا فَيَبْطُلُ الْآخَرُ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مَعَ الصَّحِيحِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي ظَهَرَ خِلَافُهُ كَمَا نَقُولُ: إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إذَا انْتَشَرَ قَوْلُهُ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ مَنْ لَمْ يُنْشَرْ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ فَكَانَ أَدْوَنُ هَذِهِ الْمَنَازِلِ إذَا عَضَّدَهُ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ مُلْحَقَةً بِمَنْزِلَةِ الشَّبَهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّبَهُ لَوْ انْفَرَدَ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً. فَأَمَّا أَوْلَى الْقِيَاسَيْنِ فَلَا يَسْلَمُ مِنْ مُعَارَضَةِ مَا تَبْطُلُ مَعَهُ دَلَالَتُهُ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ الَّذِي لَا مُخَالِفَ لَهُ مُقْتَرِنًا بِالشَّبَهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي الدَّلَائِلِ ": مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَّةٍ، أَنَّهُ إذَا تَجَاذَبَ الْمَسْأَلَةُ أَصْلَانِ مُحْتَمَلَانِ يُوَافِقُ أَحَدُهُمَا قَوْلَ الصَّحَابِيِّ، فَيَكُونُ الدَّلِيلُ الَّذِي مَعَهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى فِي هَذَا عَلَى التَّقْوِيَةِ وَأَنَّهُ أَقْوَى الْمَذْهَبَيْنِ فَلَا يُغْلَطُ عَلَى الشَّافِعِيِّ. هَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ تَقْلِيدَهُ لَا يَلْزَمُ إلَّا أَنْ يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ مَا يُخَالِفُهُ وَيُعَضِّدُهُ ضَرْبٌ مِنْ الْقِيَاسِ. وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مُقَوٍّ لِلْقِيَاسِ وَمُغَلِّبٌ لَهُ كَمَا يُغَلَّبُ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ. وَظَاهِرُ نَصِّ الرِّسَالَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقْتَضِي تَسَاوِي الْقِيَاسَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قِيَاسٍ وَقِيَاسٍ. نَعَمْ، قَوْلُهُ: وَلَا شَيْئًا فِي مَعْنَاهُ يَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِهِ ظَاهِرٌ فِي تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَهُوَ مُسْتَنَدُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ: الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ. وَلَمَّا حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْقَوْلَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قِيَاسٌ أَصْلًا، فَإِنْ كَانَ مَعَ قَوْلِهِ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ فَقَوْلُهُ مَعَهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَجَمَاعَةٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدِي، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الضَّعِيفُ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ.

ضَعِيفَانِ غَلَبَا الْقَوِيَّ؟ انْتَهَى. وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْقَفَّالِ حَكَاهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " عَنْ الصَّيْرَفِيِّ، ثُمَّ خَطَّأَهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " عَنْ حِكَايَةِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ قَوْلًا وَاحِدًا، ثُمَّ ضَعَّفَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ. وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ مِنْ الْحَاوِي " عَنْ الْقَدِيمِ. لَكِنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ مَعَ الْجَلِيِّ، وَأَنَّ الْخَفِيَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْجَلِيِّ إذَا كَانَ مَعَ الْأَوَّلِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ: الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ أَوْلَى. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا فِي الْحَاوِي " فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْجُورِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ ". قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِهِ فِي الرِّسَالَةِ ". وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ: إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ قَوْلًا وَعَارَضَهُ الْقِيَاسُ الْقَوِيُّ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ مَعَ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ كَانَ الْمَصِيرُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى، لِقَضِيَّةِ عُثْمَانَ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ فَقَطْ وَقَدْ عَارَضَهُ الْقِيَاسُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: إنَّ قَوْلَهُ يُقَدَّمُ، لِعِلْمِهِ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: أَوْلَى، وَلِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى الْكِتَابِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ يَجُوزُ عَلَيْهِ السَّهْوُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ. لِأَنَّهُ لَا مَحْمَلَ لَهُ إلَّا التَّوَقُّفُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالتَّحَكُّمَ فِي دِينِ اللَّهِ بَاطِلٌ فَيُعْلَمْ أَنَّهُ مَا قَالَهُ إلَّا تَوْقِيفًا. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ ": وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ. قَالَ: وَمَسَائِلُ الْإِمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تَدُلُّ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ غَلَّظَ الدِّيَةَ بِالْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ بِأَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ، وَقَدَّرَ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَأَبَا حَنِيفَةَ قَدَّرَ الْجُعْلَ فِي رَدِّ الْآبِقِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا لِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِهِ " هُوَ أَشْبَهُ الْمَذَاهِبِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: هَذَا الْمَذْهَبُ لَا يَخْتَصُّ الصَّحَابِيَّ، فَكُلُّ عَالِمٍ عَدْلٍ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ ظُنَّ بِهِ الْمُخَالَفَةُ لِلتَّوْقِيفِ. وَالظَّاهِرُ إصَابَتُهُ فِي شُرُوطِهِ. قُلْت: وَقَدْ طَرَدَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ هُوَ لَا يَخْتَصُّ غَيْرَ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ الْمُخَالِفُ صَحَابِيًّا، فَيَجِبُ إذًا عَلَى الصَّحَابِيِّ الِاقْتِدَاءُ بِالصَّحَابِيِّ الْمُخَالِفِ لِلْقِيَاسِ. وَالْحَاصِلُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِهِ مَعَ مَالِكٍ، وَهُوَ مِنْ الْجَدِيدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَّةٍ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ الْجَدِيدُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ قِيَاسٌ، فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى قِيَاسٍ لَيْسَ مَعَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الرِّسَالَةِ ". ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ. وَتَقَدَّمَ فِي نَقْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عَنْهُ فِي قَوْلِ تَخْصِيصِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ ب " الْقِيَاسُ يُعْتَضَدُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ " الْقِيَاسَ الْخَفِيِّ، وَيَكُونُ فِيمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ قَوْلٌ رَابِعٌ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَصْلِهَا. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ: إذَا اعْتَضَدَ بِقِيَاسِ التَّقْرِيبِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ. وَعَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ: إذَا اعْتَضَدَ بِقِيَاسٍ ضَعِيفٍ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ، فَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ إنْ جَعَلْنَا الْقِيَاسَ الضَّعِيفَ أَعَمَّ مِنْ قِيَاسِ التَّقْرِيبِ وَغَيْرِهِ، وَإِلَّا فَقَوْلٌ خَامِسٌ. وَخَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِمَا إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِقِيَاسٍ جَلِيٍّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ قَدَّمَ

الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ قَطْعًا وَخَصَّ الْقَدِيمَ بِمَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ، فَإِنْ ظَهَرَ خِلَافُهُ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْقَدِيمِ. وَفِي كِتَابِ الرَّضَاعِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَدَدِ، حِكَايَةٌ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ تَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ بِخُصُوصِهِمَا حُجَّةٌ، فَإِنَّهُ حَكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ أَجَبْتُهُ مِنْ الْقُرْآنِ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا. فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَذَكَرَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» وَقَدْ سُئِلَ عُمَرُ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ الشَّافِعِيِّ لَزِمَ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ كُلٍّ مِنْ الشَّيْخَيْنِ عِنْدَهُ حُجَّةٌ. وَمَذْهَبُهُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. انْتَهَى. وَقَالَ السِّنْجِيُّ فِي أَوَّلِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ ": قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ إذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عَلَيْهِ كَانَ عِنْدَنَا حُجَّةٌ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهَا. وَهَلْ يُسَمَّى إجْمَاعًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَقِيلَ: لَا، لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ. وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مَقْطُوعٌ عَلَى اللَّهِ بِصِحَّتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ كَافَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلَّا الْجُعَلُ وَمَنْ تَابَعَهُ فَقَالُوا: لَا يَكُون حُجَّةً. قَالَ: فَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْتَشِرْ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَالْجَدِيدُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى مِنْهُ

وَقَالَ فِي الْقَوَاطِعِ ": إذَا لَمْ يَنْتَشِرْ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ فَهُوَ حُجَّةٌ. إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا: هَلْ الْحُجَّةُ فِي الْقِيَاسِ أَوْ فِي قَوْلِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَأَمَّا إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ أَوْ كَانَ مَعَ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ، وَالْجَلِيُّ مُخَالِفٌ مِثْلَهُ، فَهَذَا مَوْضِعُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فَفِي الْقَدِيمِ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ، وَفِي الْجَدِيدِ: الْقِيَاسُ أَوْلَى. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ ": إنْ انْتَشَرَ وَرَضُوا بِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا، وَهَلْ يُسَمَّى إجْمَاعًا؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ انْتَشَرَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِهِ فَوَجْهَانِ. وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى طَرِيقَيْنِ: (إحْدَاهُمَا) : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْجَدِيدُ - أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَ (الثَّانِيَةُ) : أَنَّهُ إنْ لَنْ يَنْتَشِرَ فِي الْبَاقِينَ فَهُوَ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا عَارَضَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ فَحِينَئِذٍ قَوْلٌ خَفِيٌّ. انْتَهَى. وَقَالَ إلْكِيَا: إنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. فَإِذَا اخْتَلَفُوا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ. وَقِيلَ: يَحْتَجُّ بِأَقْوَالِهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عَلَى تَقْدِيرِ اتِّبَاعِ قَوْلِ الْأَعْلَمِ مِنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ "، لِأَنَّهُ جَوَّزَ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ وَقَالَ: إنْ اخْتَلَفُوا أَخَذَ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ أَوْ بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ بِذَلِكَ، وَرَجَّحَهُ عَلَى الْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لَهُ. قَالَ إلْكِيَا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَفْصِلَ بَيْنَ أَنْ يَخْتَلِفُوا أَوْ لَا، لِأَنَّ فَقْدَ مَعْرِفَةِ الْخِلَافِ لَا يَنْتَهِضُ إجْمَاعًا. . وَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، خِلَافٌ، رَأَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ جَوَازَهُ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ وُجُوبُ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَدِيمًا وَجَدِيدًا اتِّبَاعُ قَضَاءِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَقْدِيرِ دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَتَغْلِيظِ الدِّيَةِ بِالْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ

اتِّبَاعًا لِآثَارِ الصَّحَابَةِ وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي سَبَبِ ذَلِكَ، فَقِيلَ: لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ اشْتَهَرَتْ وَسَكَتُوا وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَرَى الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ مِنْ حَيْثُ لَا مَحْمَلَ لَهُ سِوَى التَّوْقِيفِ. قَالَ: وَيَظْهَرُ هَذَا فِي التَّابِعِيِّ إذَا عَلِمَ مَسَالِكَ الْأَحْكَامِ وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْوَرَعِ لَا يَمِيلُ إلَى الْأَهْوَاءِ، إلَّا أَنْ يَلُوحَ لَنَا فِي مَجَارِي نَظَرِهِ فَسَادٌ فِي أَصْلٍ لَهُ عَلَيْهِ بَنَى مَا بَنَى. وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا بِالْقِيَاسِ دُونَ مَا لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَجَالٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ. وَبِهِ تُجْمَعُ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " وَالْغَزَالِيُّ اسْتِنْبَاطًا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ صَلَّى فِي لَيْلَةٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ، كُلَّ رَكْعَةٍ بِسِتِّ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ قُلْت بِهِ، فَإِنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَهُ تَوْقِيفًا. هَذَا لَفْظُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا قَالَ قَوْلًا لَيْسَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَدْخَلٌ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُهُ إلَّا سَمْعًا وَتَوْقِيفًا وَأَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ خَبَرٍ. انْتَهَى. لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ جَعَلَهُ مِنْ تَفَارِيعِ الْقَدِيمِ. وَهُوَ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ اخْتِلَافُ الْحَدِيثِ مِنْ الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ قَطْعًا، رَوَاهُ عَنْهُ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِمِصْرَ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ الْكَامِلِ فِي الْخِلَافِ " وَقَالَ إلْكِيَا فِي التَّلْوِيحِ " إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا صَاحِبُ الْمَحْصُولِ " فِي بَابِ الْأَخْبَارِ. وَعَلَى هَذَا يَنْزِلُ كُلُّ مَا وَقَعَ فِي الْجَدِيدِ مِنْ التَّصْرِيحِ فِيهِ بِالتَّقْلِيدِ، كَاتِّبَاعِهِ الصِّدِّيقَ فِي عَدَمِ قَتْلِ الرَّاهِبِ، وَتَقْلِيدِهِ عُثْمَانَ فِي الْبَرَاءَةِ، وَعُمَرَ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. قَالَ فِي الْأُمِّ ": إذَا أَصَابَ الرَّجُلُ بِمَكَّةَ حَمَامًا مِنْ حَمَامِهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ، اتِّبَاعًا لِعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ": أَخَذْت بِقَوْلِ عُمَرَ فِي الْيَرْبُوعِ وَالضَّبُعِ حَمَلٌ. وَحَكَى فِي الْقَدِيمِ هَذَا الْقَوْلَ

عَنْ الْكَرْخِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْبَزْدَوِيُّ وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ: إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ. نَعَمْ، تَصَرُّفَاتُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ تَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ بِشَرْطَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنْ لَا يَكُونَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالٌ. (الثَّانِي) : أَنْ يَرِدَ فِي مُوَافَقَةِ قَوْلِهِ نَصٌّ، وَإِنْ كَانَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالٌ كَمَا فَعَلَ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ مُقَلِّدًا زَيْدًا فِيهَا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ» قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ ": اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَتْبَعَ مَذْهَبَ زَيْدٍ وَلَمْ يَضَعْ لِذَلِكَ كِتَابًا فِي الْفَرَائِضِ لِعِلْمِهِ بِعِلْمِ النَّاسِ بِمَذْهَبِ زَيْدٍ، وَإِنَّمَا نَصَّ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ فِي الْكِتَابِ فَجَمَعَهَا الْمُزَنِيّ وَضَمَّ إلَيْهَا مَذْهَبَ زَيْدٍ فِي الْمَسَائِلِ، وَلَمْ يَقُلْ: " تَحَرَّيْت مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ " كَقَوْلِهِ فِي أَوَاخِرِ كُتُبٍ مَضَتْ، فَإِنَّ التَّحَرِّيَ اجْتِهَادٌ، وَلَا اجْتِهَادَ فِي النَّقْلِ. وَقَدْ تَحَقَّقَ اتِّبَاعُ الشَّافِعِيِّ زَيْدًا، وَتَرَدَّدَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ تَرَدَّدَ قَوْلُ زَيْدٍ، وَقَرَّبَ مَذْهَبَ زَيْدٍ إلَى الْقِيَاسِ أَنَّ جَعْلَ الْأُمَّ دُونَ الْأَبِ فِي النَّصِيبِ، قِيَاسَ مِيرَاثِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَكَذَا قَوْلُهُ: أَوْلَادُ الْأَبَوَيْنِ يُشَارِكُونَ وَلَدَ الْأُمِّ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ، وَجَعَلَ الْأَبَوَيْنِ مَانِعَيْنِ الْأُخُوَّةَ فِي رَدِّ الْأُمِّ إلَى السُّدُسِ قِيَاسًا عَلَى جَعْلِ الْبَنِينَ فِي مَعْنَى الْبَنَاتِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ خَالَفَ الْقِيَاسَ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَالْمُعَادَةِ، وَإِعْطَاءِ الْأُمِّ ثُلُثَ.

مَا يَبْقَى، وَلَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا قِيَاسٌ، لِأَنَّا سَوَّيْنَا بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الِابْنِ وَمُشَارَكَةُ أَوْلَادِ الْأُمِّ خَارِجَةٌ عَنْ الْقِيَاسِ، لِأَنَّا نُعْطِي الْعَشَرَةَ مِنْ إخْوَةِ الْأَبَوَيْنِ نِصْفَ السُّدُسِ مَثَلًا، وَنُعْطِي الْأُخْتَ الْوَاحِدَةَ لِلْأُمِّ السُّدُسَ، فَأَيُّ مُرَاعَاةٍ لِاِتِّخَاذِ الْقَرَابَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ دَلِيلُ التَّقْلِيدِ الْحَدِيثَ السَّابِقَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبَعَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَضَائِهِ وَمُعَاذًا فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لِقَوْلِهِ: «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذٌ» ، وَالْجَوَابُ - كَمَا قَالَ - إنَّ الْقَضَاءَ يَتَّسِعُ، وَيَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يُسَوِّغُ التَّقْلِيدَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ. قَالَ: وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمَذْهَبَ لَا يَسْتَقِلُّ بِتَقْلِيدِ زَيْدٍ: وَمَا انْتَحَلَ مَذْهَبُهُ إلَّا عَنْ أَصْلٍ يَجُوزُ فِيهِ الرَّأْيُ، وَلِهَذَا خَالَفَ الصَّحَابَةُ. وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَخْلُ بِمَسْأَلَةٍ عَنْ احْتِجَاجٍ، وَإِنَّمَا اعْتَصَمَ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْجِيحًا وَبِهَذَا تَبَيَّنَ. انْتَهَى. وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الرَّافِعِيُّ. وَأَمَّا ابْنُ الرِّفْعَةِ فَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ اخْتِيَارَ الشَّافِعِيِّ لِمَذْهَبِ زَيْدٍ اخْتِيَارُ تَقْلِيدٍ، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْأُمِّ " إذْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقُلْنَا إذَا وَرِثَ الْجَدُّ مَعَ الْإِخْوَةِ قَاسَمَهُمْ مَا كَانَتْ الْمُقَاسَمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ خَيْرًا لَهُ مِنْهَا أُعْطِيَهُ. وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَنْهُ قَبْلَنَا أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ وَهِيَ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ. وَجَعَلَ الرَّافِعِيُّ مَوْضِعَ الْقَوْلَيْنِ مَا إذَا لَمْ يَنْتَشِرْ فِيهِمْ، قَالَ: ثُمَّ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ وَالْقَفَّالِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قِيَاسٌ أَصْلًا، فَإِنْ كَانَ مَعَ قَوْلِهِ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ احْتَجَّ بِهِ وَتَرَجَّحَ عَلَى الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ. قَالَ: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ. قَالَ: وَإِنْ انْتَشَرَ فَإِمَّا أَنْ يُخَالِفَهُ غَيْرُهُ أَوْ يُوَافِقُهُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ أَوْ يَسْكُتُوا. فَإِنْ خَالَفَهُ فَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ هُوَ كَاخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَعَلَى.

الْقَدِيمِ هُمَا حُجَّتَانِ تَعَارَضَتَا، فَتَرَجَّحَ مِنْ خَارِجٍ، وَإِنْ وَافَقَهُ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ فَهُوَ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ. . التَّفْرِيعُ [عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ] إنْ قُلْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ فَلَا يَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَتُهُ، وَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ كَمَا يَحْتَجُّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ، لَكِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهَا فِي الرُّتْبَةِ. فَلَا يَتَمَسَّكُ بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَّا عِنْدَ عَدَمِهَا، وَفِي تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي " شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا " لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ أَدِلَّةِ شَرْعِنَا. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ عُمُومَ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ. فَلَوْ اخْتَلَفُوا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ كَانَ قَوْلُ الْمُخَالِفِينَ قَبْلَهُمْ بِحُجَّتَيْنِ تَعَارَضَتَا، وَبِهِ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ. قَالَ الشَّيْخُ فَيُرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا قُدِّمَ بِالْأَئِمَّةِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا الْأَكْثَرُ، وَفِي الْآخَرِ الْأَقَلُّ، لَكِنَّ مَعَ الْأَقَلِّ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ تَسَاوَيَا، فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْعَدَدِ وَالْأَئِمَّةِ، وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. و (الثَّانِي) : تَرْجِيحُ الْقَوْلِ الَّذِي مَعَهُ أَحَدُ الْعُمَرَيْنِ، لِحَدِيثِ: «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مَنْ بَعْدِي» . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ اخْتِلَافِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَاخْتِلَافِ الْحَدِيثِ فِي أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ بِتَنْزِيلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ، وَتَأْوِيلِ مَا يَحْتَمِلُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ.

عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ جَمِيعَ الْأَخْبَارِ صَادِرٌ عَنْ وَاحِدٍ وَهُوَ مَعْصُومٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا الِاخْتِلَافُ وَالتَّضَادُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا مَهْمَا أَمْكَنَ، حَتَّى لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ كَانَ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ. وَأَمَّا أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، لِاخْتِلَافِ مَقَاصِدِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ صَادِرًا عَنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِتَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ قَالَ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي أَوَّلِ الْبَحْرِ ": إذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إمَامٌ نُظِرَ: فَإِنْ كَانُوا فِي الْعَدَدِ سَوَاءٌ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَدَدُ فَهَلْ يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: لَا يُرَجَّحُ، وَيَقُولُ مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ، وَعَلَى الْقَدِيمِ: يُرَجَّحُ كَمَا فِي الْأَخْبَارِ. وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ إمَامٌ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْعَدَدِ سَوَاءٌ فَاَلَّتِي فِيهَا الْإِمَامُ هَلْ هِيَ أَوْلَى؟ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ: نَعَمْ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَدَدُ وَالْإِمَامُ مَعَ الْأَقَلِّ فَهُمَا سَوَاءٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ وَلَوْ اتَّفَقَا فِي الْعَدَدِ، وَفِي أَحَدِهِمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَعَلَى الْقَدِيمِ فِيهِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : يُرَجَّحُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى غَيْرِهِمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيَنْبَغِي جَرَيَانُ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ تَعَارَضَ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ حَتَّى يَسْتَوِيَا عَلَى وَجْهٍ، وَيُرَجَّحُ طَرَفُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا اخْتَلَفُوا أَخَذْنَا بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَخَذْنَا بِقَوْلِ مَنْ مَعَهُ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجَعْنَا إلَى التَّرْجِيحِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ: إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَكَانَ يَقُولُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْجَدِيدِ: أَنَّهُ يَصِيرُ إلَى قَوْلِ

أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهِمْ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ» فَدَلَّ عَلَى مَزِيَّةِ قَوْلِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْفَتْوَى. ثُمَّ مَثَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ فَقَالَ: قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَوْلَى، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ بَاعَ عَبْدًا بِالْبَرَاءَةِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: كَانَ فِيهِ عَيْبٌ عَلِمْتُهُ وَلَمْ تُسَمِّهِ لِي، فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ إذَا وَقَفَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إنْ لَمْ تَحْلِفْ بِاَللَّهِ عَلَى هَذَا لَزِمَك. وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَقَدْ صَارَ إلَى قَوْلِ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا صَارَ إلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ. وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ أَخَذْنَا بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى فِي زَلْزَلَةِ رَكْعَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سِتُّ سَجَدَاتٍ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَإِنَّمَا سَلَكَ فِي هَذَيْنِ كَسُلُوكِهِ فِي الْأَخْبَارِ بِالتَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ، وَلِهَذَا خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الرَّوْضَةِ ": إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ الْأَخْذُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ مَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَى الْقَائِلِ قَوْلَهُ، لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ وَالْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ إلَى مُعَاذٍ فِي تَرْكِ رَجْمِ الْمَرْأَةِ قَالَ: وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَا يَزِيدُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ لَمْ يَجُزْ الْأَخْذُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُونِ التَّرْجِيحِ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ صَوَابٌ وَالْآخَرَ خَطَأٌ،

وَلَا نَعْلَمُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَإِنَّمَا يَدُلُّ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي كِلَا الْقَوْلَيْنِ، أَمَّا عَلَى الْأَخْذِ بِدُونِ مُرَجِّحٍ فَكَلَّا. وَأَمَّا رُجُوعُهُمْ إلَى قَوْلِ مُعَاذٍ فَلِأَنَّهُ بَانَ لَهُ الْحَقُّ بِدَلِيلِهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ. انْتَهَى. تَنْبِيهٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقُولُ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَسَكَتَ عَنْ عَلِيٍّ، فَرَدَّ عَلَيْهِ دَاوُد وَقَالَ: مَا بَالُهُ تَرَكَ عَلِيًّا، وَلَيْسَ بِدُونِ مَنْ رَضِيَهُ فِي هَذَا، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَلَا نَظُنُّ بِالشَّافِعِيِّ الْإِعْرَاضَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، وَلَهُ فِي هَذَا مَقَاصِدُ: مِنْهَا: أَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَهُ اكْتِفَاءً، لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ بِبَعْضِهِمْ، فَنَبَّهَ عَلَى الْبَعْضِ: وَلِهَذَا قَالَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى مَالِكٍ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ أَقُولُ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ. . . إلَى آخِرِهِ، لِأَنَّ كَلَامَهُ عَلَى مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ": أَقُولُ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. فَدَلَّ عَلَى مَا سَبَقَ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَرَادَ الثَّلَاثَةَ فِي صُورَةٍ، وَهِيَ مَا إذَا انْفَرَدُوا وَكَانَ عَلِيٌّ حَاضِرًا وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ، وَسَكَتُوا عَمَّا حَكَمُوا بِهِ وَأَفْتَوْا صَارَ إجْمَاعًا. وَحِينَئِذٍ فَيُصَارُ إلَى قَوْلِهِمْ، لِأَنَّ عَلِيًّا مُوَافِقٌ فِي الْمَعْنَى. وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَمْرُ عَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ، إنَّمَا كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ فِي سُكُوتِهِمْ لَهُ حُجَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَالْأَشْبَهُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ ذَلِكَ اكْتِفَاءً. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ فِي التَّلْخِيصِ ". وَقَالَ

السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِهِ ": إنَّهُ الْأَصَحُّ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُعْظَمَ وَأَرَادَ الْكُلَّ قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ [قَالَ] لَا يُرَجَّحُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ كَمَا لَا يُرَجَّحُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الْخُلَفَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِذِكْرِ مَا سَبَقَ، إذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ صَادِرًا عَنْ رَأْيِ الْكَافَّةِ، بِخِلَافِ مَنْ قَبْلَهُ. تَنْبِيهٌ آخَرُ حَاصِلُ الْخِلَافِ فِي اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالٍ: - سُقُوطُ الْحُجَّةِ وَأَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ قَوْلٌ مِنْهَا. - التَّخْيِيرُ فَيَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَعْدِلُ إلَى التَّرْجِيحِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فَقَالَ: نَصِيرُ مِنْهَا إلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ، أَوْ كَانَ أَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَخْطِئَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَرُجُوعِ بَعْضِهِمْ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عِنْدَهُمْ خَطَأٌ وَصَوَابٌ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ ": وَإِذَا كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافٌ فِي الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ الْخُرُوجُ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَخْرُجَ الْحَقُّ عَنْ جَمِيعِهِمْ، أَوْ يَشْمَلُ الْخَطَأُ كُلَّهُمْ. وَقِيلَ: يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْ أَقْوَالِهِمْ. وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. انْتَهَى. وَلَعَلَّهُ فَرَّعَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا حَكَى الْقَوْلَ فِي حَادِثَةٍ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَتَظَاهَرَ وَاشْتَهَرَ وَلَمْ يُخَالِفْ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ، لِعَدَمِ النَّكِيرِ مِنْهُمْ. وَإِذَا

نَقَلَ الثِّقَاتُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ مُنْتَشِرٍ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وِفَاقُهُ لَا خِلَافُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ. وَالْوَاجِبُ عِنْدَنَا الْمَصِيرُ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْعَصْرَ قَدْ انْخَرَمَ وَالْحَقُّ مَعْدُومٌ، وَهَذَا مَعَ اخْتِصَاصِ الصَّحَابَةِ بِمُشَاهَدَةِ الرَّسُولِ وَمَعْرِفَةِ الْخِطَابِ مِنْهُ، إذْ الشَّاهِدُ يَعْرِفُ بِالْحَالِ مَا يَخْفَى عَلَى مَنْ بَعْدَهُ. انْتَهَى. فَائِدَةٌ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي فَتَاوِيهِ الْمَوْصِلِيَّةِ: إذَا صَحَّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَذْهَبٌ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْضَحَ مِنْ دَلِيلِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَدِلَّةِ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ وَلَمْ يُوجِبْ تَقْلِيدَ الْعُلَمَاءِ إلَّا عَلَى الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ أَدِلَّةَ الْأَحْكَامِ. فَائِدَةٌ أُخْرَى: ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَاءَ اخْتِلَافٌ عَنْ الصَّحَابَةِ نَظَرَ أَتْبَعَهُمْ لِلْقِيَاسِ إذَا لَمْ يُوجَدْ أَصْلٌ يُخَالِفُهُ. فَقَدْ خَالَفَ عَلِيٌّ عُمَرَ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ الْقِيَاسُ فِيهَا مَعَ عَلِيٍّ، وَبِقَوْلِهِ أَخَذَ. - مِنْهَا: الْمَفْقُودُ، قَالَ عُمَرُ: يُضْرَبُ لَهُ أَجَلُ أَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ، ثُمَّ تُنْكَحُ. وَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تُنْكَحُ أَبَدًا. وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ حَتَّى يَصِحَّ مَوْتٌ أَوْ فِرَاقٌ. - وَقَالَ عُمَرُ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فِي سَفَرِهِ ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا فَيَبْلُغُهَا الطَّلَاقُ، وَلَا تَبْلُغُهَا الرَّجْعَةُ حَتَّى تَحِلَّ وَتُنْكَحَ: أَنَّ زَوْجَهَا الْآخَرَ أَوْلَى إذَا دَخَلَ بِهَا

الصحابة الذين تكلموا في جميع أبواب الفقه

وَقَالَ عَلِيٌّ: هِيَ لِلْأَوَّلِ أَبَدًا، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. - وَقَالَ عُمَرُ فِي الَّذِي يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ فِي الْعِدَّةِ وَيَدْخُلُ بِهَا: أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا. وَقَالَ عَلِيٌّ: يَنْكِحُهَا بَعْدَهُ. [الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ] مَسْأَلَةٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ ": أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمُوا فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَهُمْ: عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مَتَى أَجْمَعُوا عَلَى مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلٍ فَالْأُمَّةُ فِيهَا مُجْمِعَةٌ عَلَى قَوْلِهِمْ غَيْرُ مُبْتَدَعٍ لَا يَعْتَدُّ بِخِلَافِهِ. وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ انْفَرَدَ فِيهَا عَلِيٌّ بِقَوْلٍ عَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ تَبِعَهُ فِيهَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّعْبِيُّ وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ انْفَرَدَ فِيهَا زَيْدٌ بِقَوْلٍ تَبِعَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي

أَكْثَرِهِ. وَتَبِعَهُ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ لَا مَحَالَةَ. وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ انْفَرَدَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ تَبِعَهُ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَأَبُو أَيُّوبَ. .

فصل التفريع على أن قول الصحابي ليس بحجة

[فَصْلٌ التَّفْرِيعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ] ٍ] وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ تَقْلِيدُ الْآخَرِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ، لَكِنَّ الَّذِي صَرَفَ النَّاسَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ أَنَّهُمْ اشْتَغَلُوا بِالْجِهَادِ وَفَتْحِ الْبِلَادِ وَنَشْرِ الدَّيْنِ وَإِعْلَامِهِ فَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِتَفْرِيعِ الْفُرُوعِ وَتَدْوِينِهَا، وَلَا انْتَشَرَ لَهُمْ مَذَاهِبُ يُعْرَفُ آحَادُهُمْ بِهَا، كَمَا جَرَى ذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ. . وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لَهُمْ فَفِيهِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالِ لِلشَّافِعِيِّ، ثَالِثُهَا: يَجُوزُ إنْ انْتَشَرَ قَوْلُهُ وَلَمْ يُخَالَفْ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَدْ أَفْرَدَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْكَلَامِ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى ": إنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا لَمْ يَجِبْ تَقْلِيدُهُمْ، هَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْعَامِّيُّ فَيُقَلِّدُهُمْ. وَأَمَّا الْعَالِمُ فَإِنْ جَازَ لَهُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ جَازَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ، وَإِنْ حَرَّمْنَا تَقْلِيدَ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ إذَا قَالَ قَوْلًا وَانْتَشَرَ قَوْلُهُ وَلَمْ يُخَالَفْ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُقَلِّدُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ. وَقَالَ: وَرَجَعَ فِي الْجَدِيدِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ الْعَالِمُ صَحَابِيًّا كَمَا لَا يُقَلِّدُ الْعَالِمُ عَالِمًا آخَرَ. نَقَلَ الْمُزَنِيّ عَنْهُ ذَلِكَ وَأَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي فِيهَا يَجُوزُ لِلصَّحَابِيِّ الْفَتْوَى، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا. انْتَهَى. وَقَدْ تَبِعَهُ عَلَى إفْرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجَعَلَهَا فَرْعًا لِمَا قَبْلَهَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالرَّازِيُّ وَأَتْبَاعُهُ وَالْآمِدِيُّ. وَيُوَافِقُهُ حِكَايَةُ ابْنِ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ قَوْلَيْنِ فِي الصَّحَابِيِّ إذَا قَالَ قَوْلًا وَلَمْ يَنْتَشِرْ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ تَقْلِيدَهُ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَتُهُ. و (الثَّانِي) : أَنَّ لَهُ مُخَالَفَتَهُ وَالنَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ. وَأَعْرَضَ ابْنُ الْحَاجِبِ

عَنْ إفْرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهَا عَيْنُ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَيْثُ صَرَّحَ بِتَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّقْلِيدَ الْمَشْهُورَ، وَهُوَ قَبُولُ قَوْلِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْحُجَّةِ فَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ "، فِي بَابِ الْقَضَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُشَاوِرِ: وَلَا يُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ كَعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ، فَأَمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ الرَّسُولِ. هَذَا نَصُّهُ. فَأَطْلَقَ اسْمَ التَّقْلِيدِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ قَوْلِهِ الْمُتَكَرِّرِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّقْلِيدِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ وَالْجَوْرِيِّ: إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ بِمُفْرَدِهِ إذَا اشْتَهَرَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الصَّحَابِيُّ إمَامًا، وَأَغْرَبَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فَحَكَى ذَلِكَ عَنْ الْجَدِيدِ وَقَدْ سَبَقَ. ثُمَّ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ مُعَارِضٌ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ " فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ. وَقَوْلُهُ: " قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ " نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَالرَّبِيعُ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ " فَإِنْ كَانَ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِالتَّقْلِيدِ لِلصَّحَابِيِّ فِي الْقَدِيمِ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفَ فَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا أَيْضًا فِي الْجَدِيدِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَأَطْلَقَ اسْمَ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ مَجَازًا كَمَا أَطْلَقَهُ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " بَعْدَمَا سَبَقَ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَرَكَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ الْقِيَاسَ فِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِ عُثْمَانَ. وَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ فِي شَرْطِ الْبَرَاءَةِ لِقَوْلِ عُثْمَانَ. قُلْنَا لَهُ: فِي مَسْأَلَةِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ أَقْوَالٌ، فَلَعَلَّ هَذَا مَرْجُوعٌ عَنْهُ. انْتَهَى. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِأَنَّا

قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ وَقَالَ: إنَّهُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنُ خَيْرَانَ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَجْعَلَا لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا فِي الْمَسْأَلَةِ غَيْرَهُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فَقَدْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِيهَا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَضَى فِي امْرَأَةٍ قُتِلَتْ بِالدِّيَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ، وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ اعْتَمَدَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ، أَوْ لِأَنَّهُ قَضَى بِهِ عُثْمَانُ، وَهُوَ قَدْ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ أَحَدِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ يَشْتَهِرُ غَالِبًا بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفْتَى. وَقَدْ حَكَى الْغَزَالِيُّ أَيْضًا فِي الْمَوْضِعِ الْمُشَارِ إلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْإِفْتَاءُ وَالْحُكْمُ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ مَرَّةً: الْحُكْمُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعِنَايَةَ بِهِ أَشَدُّ وَالْمَشُورَةَ فِيهِ أَبْلَغُ. وَقَالَ مَرَّةً: الْفَتْوَى أَوْلَى، لِأَنَّ سُكُوتَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ يُحْمَلُ عَلَى الطَّاعَةِ لِأُولِي الْأَمْرِ. وَعَزَا هَذَا الِاخْتِلَافُ لِلْقَدِيمِ وَجَعَلَهُ مَرْجُوعًا عَنْهُ. وَفِيهِ مِنْ النَّظَرِ مَا سَلَفَ نَصُّهُ فِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ. تَنْبِيهٌ ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنْ ذَكَرَ الْمِنْهَاجُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّالِثَ فِي أَصْلِ مَسْأَلَةِ الْحُجِّيَّةِ لَيْسَ بِغَلَطٍ، كَمَا زَعَمَ شُرَّاحُهُ، بَلْ هُوَ الصَّوَابُ. .

فصل إذا انضم إلى قول الصحابي القياس

[فَصْلٌ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْقِيَاسُ] فَصْلٌ أَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْقِيَاسُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا: إذَا تَعَارَضَ قَوْلُ صَحَابِيَّيْنِ وَاعْتَضَدَ أَحَدُهُمَا بِالْقِيَاسِ. وَقَدْ سُبِقَتْ عَنْ النَّصِّ. . الثَّانِيَةُ: إذَا تَعَارَضَ قِيَاسَانِ وَاعْتَضَدَ أَحَدُهُمَا بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، فَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ تَمِيلُ نَفْسُ الْمُجْتَهِدِ إلَى مَا يُوَافِقُ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ وَيُرَجَّحُ عِنْدَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ بِالْجَزْمِ بِالْمُوَافِقِ انْتَهَى. وَأَنَا أَقُولُ: مَنْ يَرَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ بِمُفْرَدِهِ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ يَكُونُ احْتِجَاجُهُ هُنَا بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَمَنْ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسَانِ صَحِيحَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَا كَذَلِكَ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِمُرَجِّحٍ فِي الْأَصْلِ أَوْ حُكْمِهِ، أَوْ فِي الْعِلَّةِ، أَوْ دَلِيلِهَا، أَوْ فِي الْفَرْعِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمُعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ مُقَدَّمٌ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ التَّرْجِيحَاتِ بِالْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ، كَمَا تَرَجَّحَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ الْمُعَارِضَيْنِ بِعَمَلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ دُونَ الْآخَرِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ مُرَجَّحًا عَلَى الْآخَرِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَمَعَ الْمَرْجُوحِ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهَذَا مَحَلُّ النَّظَرِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَالِاحْتِمَالُ مُنْقَدِحٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَةُ ابْنِ الصَّبَّاغِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِيَاسَ الضَّعِيفَ إذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ، وَذَاكَ هُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَتَقَدَّمَ نَقْلُ الْمَاوَرْدِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ رَأْيَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ كَانَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ، وَمَثَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ

الْعُيُوبِ أَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُهُ مَا سِوَاهُ، لِأَنَّهُ يُغْتَذَى بِالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَتَحَوُّلِ طَبَائِعِهِ، وَقَلَّمَا يَخْلُو مِنْ عَيْبٍ وَإِنْ خَفِيَ فَلَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْ عُيُوبِهِ الْخَفِيَّةِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَالْوُقُوفُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرَ الْحَيَوَانِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَخْلُو مِنْ الْعُيُوبِ وَيُمْكِنُ الْإِخْبَارُ فِيهَا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا لِظُهُورِهَا، فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، مَعَ مَا رُوِيَ مَعَهُ مِنْ قِصَّةِ عُثْمَانَ. وَحَاصِلُهُ - عَلَى مَا نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ الْجَدِيدِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَرْجُوحَ إذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ الرَّاجِحِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْرِيعًا مِنْهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي " الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ " وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ الَّذِي اشْتَهَرَ عِنْدَ الْأَصْحَابِ عَنْ الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَحَكَى خِلَافَ الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ هَلْ يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ بِذَلِكَ الْقِيَاسِ الضَّعِيفِ عَلَى الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ، أَوْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ؟ ثُمَّ رَجَّحَ هَذَا الثَّانِي. مَسْأَلَةٌ فَإِنْ قَالَ التَّابِعِيُّ قَوْلًا لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ لَمْ يَلْتَحِقْ بِالصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلسَّمْعَانِيِّ كَمَا سَبَقَ. قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: " مَنْ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ فَغَمَسَ يَدَهُ فِي إنَاءٍ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ [إلَى] زَوَالِ طَهُورِيَّتِهِ، وَهُوَ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ. وَالتَّابِعِيُّ إذَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ كَانَ حُجَّةً، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَالَ تَوْقِيفًا عَنْ الصَّحَابَةِ، أَوْ عَنْ نَصٍّ ثَبَتَ عِنْدَهُ. قَالَ صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ ": وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِذَلِكَ، بَلْ يُجْعَلُ كَمُجْتَهَدَاتِهِ. .

المصالح المرسلة

[الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ] ُ قَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي الْقِيَاسِ، فِي الْمُنَاسِبِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ أَوْ أَلْغَاهُ، وَالْكَلَامُ فِيمَا جَهِلَ، أَيْ سَكَتَ الشَّرْعُ عَنْ اعْتِبَارِهِ وَإِهْدَارِهِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ ب " الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ ". وَيُلَقَّبُ ب " الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ ". وَلِهَذَا سُمِّيَتْ " مُرْسَلَةً " أَيْ لَمْ تُعْتَبَرْ وَلَمْ تُلْغَ. وَأَطْلَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَيْهِ اسْمَ " الِاسْتِدْلَالِ "، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْخُوَارِزْمِيَّ فِي " الْكَافِي " ب " الِاسْتِصْلَاحِ ". قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَلَى الْخَلْقِ. وَفَسَّرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ بِأَنْ يُوجَدَ مَعْنَى يُشْعِرُ بِالْحُكْمِ مُنَاسِبٌ لَهُ عَقْلًا، وَلَا يُوجَدُ أَصْلٌ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، وَالتَّعْلِيلُ الْمُصَوَّرُ جَارٍ فِيهِ. وَفَسَّرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " بِأَنْ لَا يَسْتَنِدَ إلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ وَلَا جُزْئِيٍّ. وَفِيهِ مَذَاهِبُ. أَحَدُهَا: مَنْعُ التَّمَسُّكِ بِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمْ الْقَاضِي وَأَتْبَاعُهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْإِمَامُ: وَبِهِ قَالَ طَوَائِفُ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْأَصْحَابِ. الثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَالَ الْإِمَامُ

فِي الْبُرْهَانِ ": وَأَفْرَطَ فِي الْقَوْلِ بِهِ حَتَّى جَرَّهُ إلَى اسْتِحْلَالِ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ لِمَصَالِحَ تَقْتَضِيهَا فِي غَالِبِ الظَّنِّ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهَا مُسْتَنِدًا، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ قَوْلًا قَدِيمًا عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحُ فِي حَوَاشِيهِ عَلَى الْبُرْهَانِ ": إنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَصِحَّ نَقْلُهُ عَنْ مَالِكٍ، هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُهُ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ شَاسٍ أَيْضًا فِي التَّحْرِيرِ " عَلَى الْإِمَامِ وَقَالَ: أَقْوَالُهُ تُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِهِ وَكُتُبِ أَصْحَابِهِ، لَا مِنْ نَقْلِ النَّاقِلِينَ. وَكَذَلِكَ اسْتَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. قَالَ: وَقَدْ اجْتَرَأَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجَازَفَ فِيمَا نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ مِنْ الْإِفْرَاطِ فِي هَذَا الْأَصْلِ. وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ مَالِكٍ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِهِ. وَهَذَا تَحَامُلٌ مِنْ الْقُرْطُبِيِّ، فَإِنَّ الْإِمَامَ قَدْ حَمَلَ كَلَامَ مَالِكٍ عَلَى مَا يَصِحُّ. وَسَيَأْتِي. وَقَدْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نَعَمْ، الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ لِمَالِكٍ تَرْجِيحًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَلَا يَكَادُ يَخْلُو غَيْرُهُمَا عَنْ اعْتِبَارِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ لِهَذَيْنِ تَرْجِيحٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى غَيْرِهِمَا. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّهُمْ يَعْقِدُونَ وَيَقُومُونَ بِالْمُنَاسَبَةِ، وَلَا يَطْلُبُونَ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا يَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إلَّا ذَلِكَ. قَالَ: وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَدْ عَمِلَ فِي كِتَابِهِ الْغِيَاثِيِّ " أُمُورًا وَحَرَّرَهَا وَأَفْتَى بِهَا، وَالْمَالِكِيَّةُ بَعِيدُونَ عَنْهَا، وَحَثَّ عَلَيْهَا وَقَالَهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ " مَعَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ شَدِيدَا الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا فِي الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ. قُلْت: وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الرَّجُلَيْنِ. وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّ فِي جَنَّةِ النَّاظِرِ ": لَا تَظْهَرُ مُخَالَفَةُ الشَّافِعِيِّ لِمَالِكٍ فِي الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ مَالِكًا يَقُولُ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اسْتَقْرَأَ مَوَارِدَ الشَّرْعِ وَمَصَادِرَهُ أَفْضَى نَظَرُهُ إلَى الْعِلْمِ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ فِي جُزْئِيَّاتِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا وَأَنْ لَا مَصْلَحَةَ.

إلَّا وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي جِنْسِهَا، لَكِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كُلَّ مَصْلَحَةٍ صَادَمَهَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ قَالَ: وَمَا حَكَاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ لَا يَعْدُو هَذِهِ الْمَقَالَةَ إذْ لَا أَخُصُّ مِنْهَا إلَّا الْأَخْذَ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِأَصْلٍ مُعَيَّنٍ، وَذَلِكَ مُغَايِرٌ لِلِاسْتِرْسَالِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ مَذْهَبًا، فَبَانَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِالْمَصْلَحَةِ غَيْرِ الْمُعْتَبَرَةِ فَقَدْ أَخَذَ بِالْمُرْسَلَةِ الَّتِي قَالَ بِهَا مَالِكٌ، إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ مُلَائِمَةً لِأَصْلٍ كُلِّيٍّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، أَوْ لِأَصْلٍ جُزْئِيٍّ جَازَ بِنَاءُ الْأَحْكَامِ. وَإِلَّا فَلَا. وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ: إنَّهُ الْحَقُّ الْمُخْتَارُ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ: إنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا، لِأَنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْوَطْءُ سَبَبُ الشَّغْلِ، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ فِي الْعِدَّةِ لَاجْتَمَعَ الضِّدَّانِ. فَلَيْسَ لِهَذَا الْأَصْلِ جُزْئِيٌّ، وَإِنَّمَا أَصْلُهُ كُلِّيٌّ مُهْدَرٌ، وَهُوَ أَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى اعْتِمَادِ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، بِشَرْطِ مُلَائِمَتِهِ لِلْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْأُصُولِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ نَقْلِ ابْنِ بَرْهَانٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْخُوَارِزْمِيِّ فِي " الْكَافِي ": إنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا وَتَعْلِيقَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِهَا. لَكِنْ إذَا قَيَّدْنَاهُ بِهَذَا انْسَلَخَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ التَّقْرِيبَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُمَهَّدَةِ، وَفَسَّرَهُ بِالْمُلَاءَمَةِ كَانَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ، فَيَكُونُ مِنْ قِسْمِ الْمُعْتَبَرِ، وَبِهِ يَخْرُجُ عَنْ الْإِرْسَالِ، وَيَعُودُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": لَا يَظُنُّ بِمَالِكٍ - عَلَى جَلَالَتِهِ - أَنْ يُرْسِلَ النَّفْسَ عَلَى سَجِيَّتِهَا وَطَبِيعَتِهَا، فَيَتْبَعُ الْمَصَالِحَ الْجَامِدَةَ الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إلَى أُصُولِ الشَّرْعِ بِحَالٍ، لَا عَلَى كُلِّيٍّ وَلَا عَلَى جُزْئِيٍّ. إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ سَمِعُوا أَنَّهُ بَنَى الْأَحْكَامَ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُطْلَقَةِ فَأَطْلَقُوا النَّقْلَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، فِي بَابِ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ: وَلَا نَرَى التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ، وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ: وَمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ بِمَالِكٍ فَقَدْ أَخْطَأَ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْخِلَافِ: مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَأَى أَنَّ وُرُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ عَلَى الْوَفْقِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ الْمُلَائِمَةُ نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ تَزْكِيَةِ الْبَيِّنَةِ بِالشُّهُودِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ التُّهْمَةِ، فَهَذَا يَرُدُّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَا أَقَامَ عَلَى صِحَّتِهِ بَيِّنَةً غَيْرَ دَعْوَاهُ، فَلَا يَتَوَقَّعُ لِلتَّزْكِيَةِ، وَلَا بَيِّنَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَّلَ الْمُلَائِمَةَ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِدْقِ الدَّعْوَى فِي صِدْقِ الْوَصْفِ، وَجَعَلَ وُرُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ عَلَى الْوَفْقِ كَالِاسْتِظْهَارِ، فَلَمْ يَضُرَّهُ فَوَاتُهُ فِي أَصْلِ الِاعْتِبَارِ. وَالرَّابِعُ: اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرُهُمَا تَخْصِيصَ الِاعْتِبَارِ بِمَا إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً، فَإِنْ فَاتَ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَعْتَبِرْ. وَالْمُرَادُ ب " الضَّرُورِيَّةِ " مَا يَكُونُ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ الَّتِي يَجْزِمُ بِحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا وَ " الْكُلِّيَّةِ " لِفَائِدَةٍ تَعُمُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ احْتِرَازًا عَنْ الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ لِبَعْضِ النَّاسِ، أَوْ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، كَمَنْ أَجَازَ لِلْمُسَافِرِ إذَا أَعْجَلَهُ السَّفَرُ أَنْ يَدْفَعَ التِّبْرَ لِدَارِ الضَّرْبِ وَيَنْظُرُ مِقْدَارَ مَا يَخْلُصُ مِنْهُ فَيَأْخُذُ بِقَدْرِهِ بَعْدَ طَرْحِ الْمَئُونَةِ، فَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ لِضَرُورَةِ الِانْقِطَاعِ مِنْ الرُّفْقَةِ لَكِنَّهَا جُزْئِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَحَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَمَثَّلَ الْغَزَالِيُّ لِاسْتِجْمَاعِهِ الشَّرَائِطَ بِمَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ، وَهِيَ مَا إذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ رَمَيْنَا التُّرْسَ لَقَتَلْنَا مُسْلِمًا مِنْ دُونِ جَرِيمَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الْمُجْتَهِدُ: هَذَا الْأَسِيرُ مَقْتُولٌ بِكُلِّ حَالٍّ، لِأَنَّا لَوْ كَفَفْنَا عَنْ التُّرْسِ لَسَلَّطْنَا الْكُفَّارَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُونَهُمْ ثُمَّ يَقْتُلُونَ الْأَسَارَى أَيْضًا، فَحِفْظُ الْمُسْلِمِينَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ، لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ الشَّارِعَ يَقْصِدُ تَقْلِيلَ الْقَتْلِ كَمَا يَقْصِدُ حَسْمَهُ عِنْدَ

الْإِمْكَانِ، فَحَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَسْمِ فَقَدْ قَدَرْنَا عَلَى التَّقْلِيلِ، وَكَانَ هَذَا الْتِفَاتًا عَلَى مَصْلَحَةِ عِلْمٍ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهَا مَقْصُودَةً بِالشَّرْعِ لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْحَصْرِ، وَلَكِنَّ تَحْصِيلَ هَذَا الْمَقْصُودِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ فَيَنْقَدِحُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ كَوْنُهَا ضَرُورِيَّةً كُلِّيَّةً قَطْعِيَّةً. فَخَرَجَ بِ " الْكُلِّيَّةِ " مَا إذَا أَشْرَفَ جَمَاعَةٌ فِي سَفِينَةِ عَلَى الْغَرَقِ، وَلَوْ غَرِقَ بَعْضُهُمْ لَنَجَوْا فَلَا يَجُوزُ تَغْرِيقُ الْبَعْضِ. وَبِ " الْقَطْعِيَّةِ " مَا إذَا شَكَكْنَا فِي أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَسَلَّطُونَ عِنْدَ عَدَمِ رَمْيِ التُّرْسِ، وَبِ " الضَّرُورِيَّةِ " مَا إذَا تَتَرَّسُوا فِي قَلْعَةٍ بِمُسْلِمٍ، فَلَا يَحِلُّ رَمْيُ التُّرْسِ، إذْ لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَى أَخْذِ الْقَلْعَةِ. وَهَذَا مِنْ الْغَزَالِيِّ تَصْرِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْقَطْعِ بِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ لَكِنَّ الْأَصْحَابَ حَكَوْا فِي مَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ وَجْهَيْنِ، وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ يُؤَوَّلُ إلَى مَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ لَا يَسْتَجِيزُ التَّأَنِّي وَالْإِفْرَاطَ فِي الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا يُسَوِّغُ تَعْلِيقَ الْأَحْكَامِ لِمَصَالِحَ رَآهَا شَبِيهَةً بِالْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ وَفَاءً بِالْمَصَالِحِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى أَحْكَامٍ ثَابِتَةِ الْأُصُولِ. وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَوْ نَحْوًا مِنْهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ بِهَذِهِ الْقُيُودِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي اعْتِبَارِهَا. وَأَمَّا ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: هُوَ احْتِكَامٌ مِنْ قَائِلِهِ، ثُمَّ هُوَ تَصْوِيرٌ بِمَا لَا يُمْكِنُ عَادَةً وَلَا شَرْعًا: أَمَّا عَادَةً فَلِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، إذْ هُوَ غَيْبٌ عَنْهَا. وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ الصَّادِقَ الْمَعْصُومَ أَخْبَرَنَا بِأَنَّ الْأُمَّةُ لَا يَتَسَلَّطُ عَدُوٌّ عَلَيْهَا لِيَسْتَأْصِلَ شَأْفَتِهَا قَالَ: وَحَاصِلُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ رَدُّ الِاسْتِدْلَالِ، لِتَضْيِيقِهِ فِي قَبُولِهِ بِاشْتِرَاطِ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ. انْتَهَى. وَهَذَا

تَحَامُلٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفَقِيهَ يَفْرِضُ الْمَسَائِلَ النَّادِرَةَ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا، بَلْ الْمُسْتَحِيلَةَ لِلرِّيَاضَةِ. وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ كَافَّةُ الْخَلْقِ، وَصُورَةُ الْغَزَالِيِّ إنَّمَا هِيَ فِي أَهْلِ مَحَلَّةٍ بِخُصُوصِهِمْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ، لَا جَمِيعِ الْعَالَمِ. وَهَذَا وَاضِحٌ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَسْت أُنْكِرُ عَلَى مَنْ اعْتَبَرَ أَصْلَ الْمَصَالِحِ، لَكِنَّ الِاسْتِرْسَالَ فِيهَا. وَتَحْقِيقَهَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ شَدِيدٍ رُبَّمَا خَرَجَ عَنْ الْحَدِّ الْمُعْتَبَرِ. وَقَدْ نَقَلُوا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَطَعَ لِسَانَ الْحُطَيْئَةَ بِسَبَبِ الْهَجْوِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَزْمِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، فَحَمْلُهُ عَلَى التَّهْدِيدِ الرَّادِعِ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَطْعِ لِلْمَصْلَحَةِ وَهَذَا نَحْوُ النَّظَرِ فِيمَا يُسَمَّى مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً قَالَ: وَقَدْ شَاوَرَنِي بَعْضُ الْقُضَاةِ فِي؟ قَطْعِ أُنْمُلَةِ شَاهِدٍ، وَالْغَرَضُ مَنْعُهُ عَنْ الْكِتَابَةِ بِسَبَبِ قَطْعِهَا، وَكُلُّ هَذِهِ مُنْكَرَاتٌ عَظِيمَةُ الْوَقْعِ فِي الدِّينِ، وَاسْتِرْسَالٌ قَبِيحٌ فِي أَذَى الْمُسْلِمِينَ. تَنْبِيهٌ حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ الْمَصَالِحُ عِنْدَنَا بِالْمَعْنَى السَّابِقِ فَذَاكَ حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْهَا قِيَاسٌ، فَإِنْ عَارَضَهَا خَرَجَ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ قَوْلَانِ، مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً. وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ فِي التَّنْبِيهِ ": تُنَجِّسُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَلَمْ تُنَجِّسْهُ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ الْأَصْلَحُ لِلنَّاسِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِ الْقِرَاضِ مِنْ السِّلْسِلَةِ ": إذَا تَاجَرَ الْعَامِلُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، أَوْ اشْتَرَى بِغَيْرِ الْمَالِ وَرَبِحَ فَوَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ تِلْكَ الْعُقُودَ بَاطِلَةٌ. و (الثَّانِي) : أَنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إجَازَةِ الْعُقُودِ وَبَيْنَ فَسْخِهَا. (قَالَ) : وَالْقِيَاسُ مَعَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالْمَصْلَحَةُ مَعَ الثَّانِي.

سد الذرائع

[سَدُّ الذَّرَائِعِ] ِ قَالَ الْبَاجِيُّ: ذَهَبَ مَالِكٌ إلَى الْمَنْعِ مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِبَاحَةُ وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ بِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ، وَيَشْتَرِيهَا بِخَمْسِينَ نَقْدًا، فَهَذَا قَدْ تَوَصَّلَ إلَى خَمْسِينَ بِذِكْرِ السِّلْعَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الْمَنْعُ مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ. قُلْنَا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] وَقَوْلُهُ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:

«الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ» . انْتَهَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَسَدُّ الذَّرَائِعِ ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ تَأْصِيلًا، وَعَمِلُوا عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ فُرُوعِهِمْ تَفْصِيلًا، ثُمَّ حَرَّرَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يُفْضِي إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ إمَّا أَنْ يَلْزَمَ مِنْهُ الْوُقُوعُ قَطْعًا أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، بَلْ مِنْ بَابِ مَا لَا خَلَاصَ مِنْ الْحَرَامِ إلَّا بِاجْتِنَابِهِ فَفِعْلُهُ حَرَامٌ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَاَلَّذِي لَا يَلْزَمُ إمَّا أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْمَحْظُورِ غَالِبًا أَوْ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمُسَمَّى ب " الذَّرَائِعِ " عِنْدَنَا: فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهِ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُرَاعِيهِ، وَرُبَّمَا يُسَمِّيهِ التُّهْمَةَ الْبَعِيدَةَ وَالذَّرَائِعَ الضَّعِيفَةَ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ قَوْلُ الْقَرَافِيِّ فِي الْقَوَاعِدِ ": إنَّ مَالِكًا لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ بِهَا، وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلْمَالِكِيَّةِ بِهَا إلَّا مِنْ حَيْثُ زِيَادَتُهُ فِيهَا. قَالَ: فَإِنَّ مِنْ الذَّرَائِعِ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ إجْمَاعًا، كَالْمَنْعِ مِنْ حَفْرِ الْآبَارِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي طَعَامِهِمْ، وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمْ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ. وَ (مِنْهَا) مَا هُوَ مَلْغِيٌّ إجْمَاعًا، كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ، فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ خَشْيَةَ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً إلَى الْمُحَرَّمِ، وَ (مِنْهَا) مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، كَبُيُوعِ الْآجَالِ، فَنَحْنُ نَعْتَبِرُ الذَّرِيعَةَ فِيهَا وَخَالَفَنَا غَيْرُنَا. فَحَاصِلُ الْقَضِيَّةِ أَنَّا قُلْنَا بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِنَا، لَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ. قَالَ: وَبِهَذَا نَعْلَمُ بُطْلَانَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا} [الأنعام: 108] وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] فَقَدْ ذَمُّهُمْ بِكَوْنِهِمْ تَذَرَّعُوا لِلصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ الْمُحَرَّمِ.

عَلَيْهِمْ بِحَبْسِ الصَّيْدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ» الْحَدِيثُ. وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُفْتَرِقَيْنِ، وَتَحْرِيمِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ لِلذَّرِيعَةِ إلَيْهَا. وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَظَنِينٍ» خَشْيَةَ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ، وَمَنْعِ شَهَادَةِ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ لَا تُفِيدُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ سَدَّ الذَّرَائِعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي ذَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَنَحْوُهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ بِمَحِلِّ النِّزَاعِ. وَإِنْ قَصَدُوا الْقِيَاسَ عَلَى هَذِهِ الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُمْ الْقِيَاسَ، وَحِينَئِذٍ فَلْيَذْكُرُوا الْجَامِعَ حَتَّى يَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِرَفْعِهِ بِالْفَارِقِ. وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ دَلِيلَهُمْ الْقِيَاسُ، فَإِنَّ مِنْ أَدِلَّةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ أَمَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: إنِّي بِعْت مِنْهُ عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إلَى الْعَطَاءِ وَاشْتَرَيْتُهُ نَقْدًا بِسِتِّمِائَةٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت، وَأَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يَتُوبَ.

قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ كَانَتْ مِنْ أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَمَوْلَاهَا قَبْلَ الْعِتْقِ، فَيَتَخَرَّجُ قَوْلُ عَائِشَةَ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ، مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الذَّرَائِعِ وَلَعَلَّ زَيْدًا لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ قَالَ: وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي زَيْدٍ أَنَّهُ وَاطَأَ أُمَّ وَلَدِهِ عَلَى الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا إلَى أَجَلٍ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ: أَحْبَطَ عَمَلَهُ. مَعَ أَنَّ الْإِحْبَاطَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالشِّرْكِ، لَمْ تُرِدْ إحْبَاطَ الْإِسْقَاطِ بَلْ إحْبَاطَ الْمُوَازَنَةِ، وَهُوَ وَزْنُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِشَيْءٍ، كَقَوْلِهِ: «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» وَالْقَصْدُ ثَمَّ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْكَارِ لَا التَّحْقِيقُ، وَأَنَّ مَجْمُوعَ الثَّوَابِ الْمُتَحَصِّلِ مِنْ الْجِهَادِ لَيْسَ بَاقِيًا بَعْدَ هَذِهِ السَّيِّئَةِ، بَلْ بَعْضُهُ، فَيَكُونُ الْإِحْبَاطُ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، بِحَيْثُ لَوْ اقْتَدَى بِهِ النَّاسُ انْفَتَحَ بَابُ الرِّبَا نَسِيئَةً. . (قَالَ: وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي سَدِّ ذَرَائِعِ بُيُوعَ الْآجَالِ) . وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَى بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ بِيعُوا تَمْرَ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَاشْتَرُوا بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» . فَهَذَا بَيْعُ صَاعٍ بِصَاعَيْنِ وَإِنَّمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا عَقْدُ الدَّرَاهِمِ. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِي مَعَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَالْكَلَامَ فِيهِ. قُلْت: وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ عَائِشَةَ إنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهَا، وَاجْتِهَادُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا سَبَقَ نَقْلُهُ عَنْ الْقَاضِي. ثُمَّ قَوْلُهَا مُعَارِضٌ لِفِعْلِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. ثُمَّ إنَّمَا أَنْكَرَتْ ذَلِكَ لِفَسَادِ الْبَيْعَيْنِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ، فَإِنَّ وَقْتَ الْعَطَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَالثَّانِي بِنَاءً عَلَى الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ أَيْضًا فَاسِدًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ الرِّفْعَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَاوَلَ تَخْرِيجَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الذَّرَائِعِ مِنْ نَصِّهِ فِي بَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ الْأُمِّ إذْ قَالَ بَعْدَمَا ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ، وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ إنَّمَا كَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَمْ يَحِلَّ، وَكَذَا مَا كَانَ ذَرِيعَةً إلَى إحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مَا نَصُّهُ: وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَفِي هَذَا مَا يَثْبُتُ أَنَّ الذَّرَائِعَ إلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يُشْبِهُ مَعَانِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. انْتَهَى. وَنَازَعَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ: إنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ لَا سَدَّ الذَّرَائِعِ، وَالْوَسَائِلُ مُسْتَلْزَمَةُ الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ. وَمِنْ هَذَا بَيْعُ الْمَاءِ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزَمٌ عَادَةً لِمَنْعِ الْكَلَأِ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ. وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ الْوَسَائِلِ. قَالَ: وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي نَفْسِ الذَّرَائِعِ لَا فِي سَدِّهَا. وَالنِّزَاعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي سَدِّهَا. ثُمَّ قَالَ: الذَّرِيعَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَقْطَعُ بِتَوْصِيلِهِ إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ. وَالثَّانِي: مَا يَقْطَعُ بِأَنَّهَا لَا تُوصِلُ وَلَكِنْ اخْتَلَطَتْ بِمَا يُوصِلُ، فَكَانَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ سَدُّ الْبَابِ وَإِلْحَاقُ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ الَّتِي قَطَعَ بِأَنَّهَا لَا تُوصِلُ إلَى الْحَرَامِ بِالْغَالِبِ مِنْهَا الْمُوصِلُ إلَيْهِ. وَهَذَا غُلُوٌّ فِي الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ. وَالثَّالِثُ: مَا يَحْتَمِلُ وَيَحْتَمِلُ. وَفِيهِ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ وَيَخْتَلِفُ التَّرْجِيحُ عِنْدَهُمْ بِسَبَبِ تَفَاوُتِهَا. قَالَ: وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ فِي جَمِيعِهَا إلَّا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ، لِانْضِبَاطِهِ وَقِيَامِ الدَّلِيلِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ، بَلْ نَقُولُ بِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ كَمَا نَقُولُ: مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. أَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ فِي الثَّانِي فَكَذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَعَلَّهُ الَّذِي حَاوَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ تَخْرِيجَ قَوْلٍ مِنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ عَنْ النَّصِّ،

وَقَدْ عَرَفَ مَا فِيهِ. وَاسْتَشْهَدَ لَهُ أَيْضًا بِالْوَصِيِّ يَبِيعُ شِقْصًا عَلَى الْيَتِيمِ فَلَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ. وَبِالْمَرِيضِ يَبِيعُ الشِّقْصَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ عَلَى وَجْهٍ، سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشَّرْعِ. وَحَاوَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ بِذَلِكَ تَخْرِيجَ وَجْهٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعَيِّنَةِ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ هَذَا، فَتِلْكَ عُقُودٌ قَائِمَةٌ بِشُرُوطِهَا وَلَا خَلَلَ فِيهَا وَإِنْ مَنَعَهَا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. وَقَدْ يَقُولُ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي مَسَائِلَ: (مِنْهَا) إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى قَوْلِ الْإِبْطَالِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ، بَلْ لِأَنَّ الْمَرِيضَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ هُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. و (مِنْهَا) إذَا ادَّعَتْ الْمُجْبَرَةُ مَحْرَمِيَّةً أَوْ رَضَاعًا بَعْدَ الْعَقْدِ. قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُقْبَلُ قَوْلُهَا، لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ، وَرُبَّمَا انْفَرَدَتْ بِعِلْمِهِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَا يُقْبَلُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ النِّكَاحَ مَعْلُومٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَحْرَمِيَّةِ. وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ طَرِيقُ الْفَسَادِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ بَلْ اعْتِمَادٌ عَلَى الْأَصْلِ. قُلْت: وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي " الْبُوَيْطِيِّ " عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّجْمِيعِ بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَتْ فِيهِ تِلْكَ الصَّلَاةُ إذَا كَانَ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ قَالَ: وَإِنَّمَا كَرِهْتُهُ لِئَلَّا يَعْمِدَ قَوْمٌ لَا يَرْضَوْنَ إمَامًا فَيُصَلُّونَ بِإِمَامٍ غَيْرَهُ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْأُمِّ " فِي مَنْعِ قَرْضِ الْجَارِيَةِ الَّتِي يَحِلُّ لِلْمُسْتَقْرِضِ وَطْؤُهَا: وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَنْ يَصِيرَ ذَرِيعَةً أَنْ يَطَأَهَا وَهُوَ يَمْلِكُ رَدَّهَا. قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ بِالْقَرْضِ وَطْءَ الْجَارِيَةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا عَلَى الْمُقْرِضِ، فَيَسْتَبِيحُ الْوَطْءَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. قِيلَ: وَفِيهِ مَنْعُ الذَّرَائِعِ. .

الاستحسان

[الِاسْتِحْسَانُ] ُ وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذِكْرِهِ فِي جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ بِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الْعَقْلِيَّ لَا مَجَالَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَالِاسْتِحْسَانُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ، فَمَا وَجْهُ ذِكْرِهِ؟ وَهُوَ لُغَةً: اعْتِمَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا، سَوَاءٌ كَانَ عِلْمًا أَوْ جَهْلًا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَا يُنَبِّئُ عَنْ انْتِحَالِ مَذْهَبٍ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَمَا اقْتَضَتْهُ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ هُوَ الدِّينُ سَوَاءٌ اسْتَحْسَنَهُ نَفْسُهُ أَمْ لَا. وَنَسَبَ الْقَوْلَ بِهِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَنْكَرَ أَصْحَابُهُ مَا حَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُ، وَنَسَبَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى مَالِكٍ، وَأَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ مَعْرُوفًا مِنْ مَذْهَبِهِ. وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: " مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ ". وَهِيَ مِنْ مَحَاسِنِ كَلَامِهِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَنْصِبَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ شَرْعًا غَيْرَ شَرْعِ الْمُصْطَفَى.

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمَنْ شَرَّعَ فَقَدْ كَفَرَ. وَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ عَنْ الْمُقَدَّمَةِ الثَّانِيَةِ لِوُضُوحِهَا. قَالَ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ ": مُرَادُهُ لَوْ جَازَ الِاسْتِحْسَانُ بِالرَّأْيِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لَكَانَ هَذَا بَعْثَ شَرِيعَةٍ أُخْرَى عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَكْثَرَ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى خِلَافِ الْعَادَاتِ، وَعَلَى أَنَّ النُّفُوسَ لَا تَمِيلُ إلَيْهَا. وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانُ مَا فِي الْعَادَاتِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": الِاسْتِحْسَانُ تَلَذُّذٌ، وَلَوْ جَازَ لِأَحَدٍ الِاسْتِحْسَانُ فِي الدِّينِ جَازَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعُقُولِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَجَازَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الدِّينِ فِي كُلِّ بَابٍ، وَأَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدِ لِنَفْسِهِ شَرْعًا، وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ فِي سَفْكِ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالزِّنَى فِي الزَّوَايَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا رَجْمَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّا نَرْجُمُهُ اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ فِي آخَرِ " الرِّسَالَةِ ": " تَلَذُّذٌ " وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ عَنْهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِ بِمَا يَقَعُ فِي خَاطِرِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَدْ كَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى طَرِيقَةٍ فِي الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ مَا اسْتَحْسَنَتْهُ عُقُولُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَصْلٍ، فَقَالُوا بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِهِمْ حَتَّى قَالُوا فِي الْجَزَاءِ: إنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ فِيهِ الْقِيمَة، وَالِاسْتِحْسَانُ: شَاةٌ، وَقَالُوا فِي الشُّهُودِ بِالزَّوَايَا: الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا. قَالَ: وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَنْ بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا وَدَلَّهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ الِاسْتِحْسَانَ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَمِمَّنْ أَنْكَرُوا الِاسْتِحْسَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الطَّحْطَاوِيُّ، حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حُرِّرَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ زَالَ التَّشْنِيعُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ بَرِيءَ إلَى اللَّهِ مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ بِلَا حُجَّةٍ. قَالَ الْفَارِضُ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي النُّكَتِ ": وَقَدْ جَرَتْ لَفْظَةُ (الِاسْتِحْسَانِ) لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَلِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي كِتَابِهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي مَوَاضِعَ. انْتَهَى. وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ مَالِكٌ: تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ الِاسْتِحْسَانُ. قَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ: الِاسْتِحْسَانُ فِي الْعِلْمِ يَكُونُ أَبْلَغُ مِنْ الْقِيَاسِ. ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ " الْمُسْتَخْرَجَةِ " نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ ". وَقَالَ الْبَاجِيُّ: ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ: هُوَ الْقَوْلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، كَتَخْصِيصِ بَيْعِ الْعَرَايَا مِنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَتَخْصِيصُ الرُّعَافِ دُونَ الْقَيْءِ بِالْبِنَاءِ، لِلْحَدِيثِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَرِدْ سُنَّةٌ بِالْبِنَاءِ فِي الرُّعَافِ لَكَانَ فِي حُكْمِ الْقَيْءِ فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ، لِأَنَّ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَتَابُعَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي الرُّخْصَةِ بِتَرْكِ التَّتَابُعِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ صِرْنَا إلَيْهِ، وَأَبْقَيْنَا الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ هُوَ الدَّلِيلُ، فَإِنْ سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا فَلَا مُشَاحَّةَ فِي التَّسْمِيَةِ. انْتَهَى.

وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ، لَا عَلَى مَا سَبَقَ، بَلْ حَاصِلُهُ اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ، فَهُوَ يُقَدِّمُ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ عَلَى الْقِيَاسِ. وَمِثَالُهُ: لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِالْخِيَارِ ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ. فَقِيلَ: يُرَدُّ، وَقِيلَ: يَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ. قَالَ أَشْهَبُ: الْقِيَاسُ الْفَسْخُ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إنْ أَرَادَ الْإِمْضَاءَ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ لَمْ يَمْضِ إذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ قَبُولِ نَصِيبِ الرَّادِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قُلْت لِمَالِكٍ: لَمْ يَقْضِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ وَلَيْسَ بِمَالٍ؟ فَقَالَ: إنَّهُ لِشَيْءٍ اسْتَحْسَنَّاهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الْأَمْوَالِ. وَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ: بَحَثْت عَنْ مَوَارِدِ الِاسْتِحْسَانِ فِي مَذْهَبِنَا فَإِذَا هُوَ يَرْجِعُ إلَى تَرْكِ الدَّلِيلِ بِمُعَارَضَةِ مَا يُعَارِضُهُ بَعْضُ مُقْتَضَاهُ، كَتَرْكِ الدَّلِيلِ لِلْعُرْفِ فِي رَدِّ الْأَيْمَانِ إلَى الْعُرْفِ أَوْ الْمُصَالَحَةِ، كَمَا فِي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ، وَلِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا فِي إيجَابِ غُرْمِ الْقِيمَةِ عَلَى مَنْ قَطَّ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْحَاكِمِ، أَوْ فِي الْيَسِيرِ، كَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ كَمَا جَازَ التَّفَاضُلُ الْيَسِيرُ فِي الْمُرَاطَلَةِ، وَإِجَازَةِ بَيْعٍ وَصَرْفٍ فِي الْيَسِيرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَعْنَى لَيْسَ فِي سُلُوكِهِ إبْطَالُ الْقَوَاعِدِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهَا جَرْيًا مُخْلِصًا، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقَوْلُ بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْإِنْسَانُ وَيَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَا أَحَدَ يَقُولُ بِهِ. ثُمَّ حَكَى كَلَامُ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ اسْمٌ لِضَرْبِ دَلِيلٍ يُعَارِضُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، حَتَّى كَانَ الْقِيَاسُ غَيْرَ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ، وَكَأَنَّهُمْ سَمَّوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ لِاسْتِحْسَانِهِمْ تَرْكَ الْقِيَاسِ أَوْ الْوُقُوفَ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَوْقَهُ فِي الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ أَوْ مِثْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ إلَّا التَّمْيِيزُ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ الَّذِي يُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ قِيَاسًا، وَاَلَّذِي قَالَ اسْتِحْسَانًا وَهَذَا كَمَا مَيَّزَ أَهْلُ النَّحْوِ بَيْنَ وُجُوهِ

النَّصْبِ فَقَالُوا: هَذَا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَهَذَا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ. ثُمَّ نَبَّهَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ تَفْسِيرَ الِاسْتِحْسَانِ بِمَا يُشَنَّعُ عَلَيْهِمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ. وَاَلَّذِي يَقُولُونَ بِهِ إنَّهُ الْعُدُولُ فِي الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. فَهَذَا مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ. لَكِنْ هَذَا الِاسْمُ لَا نَعْرِفُهُ اسْمًا لِمَا يُقَالُ بِهِ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الْقَفَّالِ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ لِمَعَانِيهَا فَهُوَ حَسَنٌ، لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ وَتَحْسِينِ الدَّلَائِلِ، فَهَذَا لَا نُنْكِرُهُ وَنَقُولُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مَا يُقَبَّحُ فِي الْوَهْمِ مِنْ اسْتِقْبَاحِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ بِحُجَّةٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلٍ وَنَظِيرٍ فَهُوَ مَحْظُورٌ وَالْقَوْلُ بِهِ غَيْرُ سَائِغٍ. وَقَالَ السِّنْجِيُّ: الِاسْتِحْسَانُ كَلِمَةٌ يُطْلِقُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ، وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّمَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أَوْ الْعَقْلِيُّ عَلَى حُسْنِهِ، كَالْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَقِدَمِ الْمُحْدِثِ، وَبَعْثِهِ الرُّسُلَ وَإِثْبَاتِ صِدْقِهِمْ، وَكَوْنِ الْمُعْجِزَةِ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَمِثْلُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، لِهَذَا الضَّرْبِ يَجِبُ تَحْسِينُهُ، لِأَنَّ الْحُسْنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ، وَالْقُبْحُ مَا قَبَّحَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَحْظُورًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ إبَاحَتُهُ، وَيَكُونُ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ يُغَلِّظُهُ، وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ التَّخْفِيفُ، فَهَذَا عِنْدَنَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ وَيَجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ وَتَرْكُ الْعَادَةِ وَالرَّأْيِ. وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ إنْ كَانَ خَبَرَ وَاحِدٍ أَوْ قِيَاسًا اُسْتُحْسِنَ تَرْكُهُمَا وَالْأَخْذُ بِالْعَادَاتِ، كَقَوْلِهِ فِي خَبَرِ الْمُتَبَايِعَيْنِ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ، فَرَدَّ الْخَبَرَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَعَادَةِ النَّاسِ. وَكَقَوْلِهِ فِي شُهُودِ الزَّوَايَا. انْتَهَى.

إذَا عَلِمْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَتْ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ: وَعَلَى هَذَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، لِأَنَّا نُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْأَحْسَنُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ، كَمَا خَصَّ خُرُوجَ الْجِصِّ وَالنُّورَةِ مِنْ عِلَّةِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ " الْعُنْوَانِ ". قَالَ شَارِحُهُ: وَفِي حَصْرِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى نَظَرٌ عِنْدِي، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَالَ الْقَفَّالُ وَالْمَاوَرْدِيُّ: نَحْنُ نُخَالِفُهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ عِنْدَنَا. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّخْصِيصُ لَمَا جَازَ تَرْكُهُ إلَى الْقِيَاسِ، كَمَا لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْمُخَصِّصِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَرَكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِأَضْعَفِهِمَا إذَا كَانَ حَتْمًا، كَمَا قَالَ فِي شُهُودِ الزِّنَى: الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ، وَلَكِنْ أَحَدَّهُ اسْتِحْسَانًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَهُوَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ يُخَالِفُ فِيهِ، لِأَنَّ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ عِنْدَنَا أَحْسَنُ مِنْ أَضْعَفِهِمَا، وَلِأَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الزَّوَايَا لَا قِيَاسَ أَصْلًا وَلَا خَبَرًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْقِيَاسِ بِالسُّنَّةِ، حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا يُسْنِدُونَ لِمَا يَرَوْنَهُ إلَى خَبَرٍ، كَمَصِيرِهِمْ إلَى أَنَّ النَّاسِي بِالْأَكْلِ لَا يُفْطِرُ، لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ. الْخَامِسُ: قَالَ إلْكِيَا: وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ، مَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ أَنَّهُ قَطَعَ الْمَسَائِلَ عَنْ نَظَائِرِهَا لِدَلِيلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِيهِ إلَى الثَّانِي، سَوَاءٌ كَانَ قِيَاسًا أَوْ نَصًّا، يَعْنِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَعْدِلُ عَنْ الْحُكْمِ مِنْ مَسْأَلَةٍ بِمَا يَحْكُمُ فِي نَظَائِرِهَا إنَّ الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ، لِوَجْهٍ

يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْهُ، كَتَخْصِيصِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلَ الْقَائِلِ: مَا لِي صَدَقَةٌ عَلَى الزَّكَاةِ. فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ عَامٌّ فِي التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَالْمُرَادُ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِمْ أَمْوَالُ الزَّكَاةِ، فَعَدَلَ عَنْ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَالِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِزَكَوِيٍّ بِمَا حَكَمَ بِهِ فِي نَظَائِرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، لِدَلِيلٍ اقْتَضَى الْعُدُولَ وَهُوَ الْآيَةُ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ قَوْلُ الْمُحَصِّلِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ أَصْحَابُنَا، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي اقْتَضَى إلْحَاقَهَا بِنَظَائِرِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقِيَاسِ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ إلَّا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَذْهَبُهُ كُلُّهُ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهُ عُدُولٌ بِالْخَاصِّ عَنْ بَقِيَّةِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِدَلِيلٍ. وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِأَدَقِّ الْقِيَاسَيْنِ. وَقَالَ فِي الْمَنْخُولِ ": الصَّحِيحُ فِي ضَبْطِهِ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ. وَقَدْ قَسَّمَهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ وَتَرْكُ الْقِيَاسِ، كَمَا فَعَلُوا فِي مَسْأَلَةِ الْقَهْقَهَةِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ. الثَّانِي: اتِّبَاعُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، كَمَا قَالُوا فِي أُجْرَةِ الْعَبْدِ الْآبِقِ بِأَرْبَعِينَ، اتِّبَاعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: اتِّبَاعُ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ، كَالْمُعَاطَاةِ، فَإِنَّ اسْتِمْرَارَهَا يَشْهَدُ بِصِحَّةِ نَقْلِهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ. الرَّابِعُ: اتِّبَاعُ مَعْنَى خَفِيٍّ هُوَ أَخَصُّ بِالْمَقْصُودِ، كَمَا فِي إيجَابِ الْحَدِّ بِشُهُودِ الزَّوَايَا، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ فَعْلَةً وَاحِدَةً كَأَنْ يَزْحَفُ فِيهَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ وَجَبَ عِنْدَنَا، لَكِنَّ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ يُتَّبَعُ عِنْدَنَا. وَأَمَّا أَنَّ الْأَعْصَارَ.

لَا تَتَفَاوَتُ فَمَرْدُودٌ، لِأَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ فِي الْكَثْرَةِ حَدَثَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ. فَأَمَّا الْمَعْنَى الْخَفِيُّ إذَا كَانَ أَخَصَّ فَهُوَ مُتَّبَعٌ. وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَكْتَفِ بِمُوجِبِهِ حَتَّى أَتَى بِالْعَجَبِ فَقَالَ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى أَرْبَعُ زَوَايَا، كُلُّ وَاحِدٍ يَشْهَدُ عَلَى زَاوِيَةٍ. قَالَ: وَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَزَحَّفُ فِي زَنْيَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ فِي سَفْكِ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِهَذَا الْخَيَالِ. انْتَهَى. وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الثَّالِثِ، فَقَالَ: الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَتَّبِعُ مَا اُسْتُحْسِنَ بِالْعَادَةِ وَيَتْرُكُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ. وَمَثَّلَهُ بِشُهُودِ الزِّنَى. انْتَهَى. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْعَمِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِ الْغَرَرِ فِي الْأُصُولِ " أَنَّهُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْخَفِيِّ قَالَ: وَلَا عَيْبَ إذَنْ فِي إطْلَاقِهِ، بَلْ الْعَيْبُ عَلَى مَنْ جَهِلَ حَقِيقَتَهُ وَقَالَ بِهِ مِنْ حَيْثُ عِيبَ عَنْ قَائِلِهِ. قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِهِ قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ قُضَاةِ مَدِينَةِ السَّلَامِ مِمَّنْ كَانَ يَلِي الْقَضَاءَ فِي زَمَانِ الْمُسْتَعِينِ بِاَللَّهِ، قَالَ: سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ جَابِرٍ، وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الْعِلْمِ، صَنَّفَ فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَهُ. قُلْت لَهُ: مَا الَّذِي أَوْجَبَ عِنْدَك الْقَوْلَ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَ الْقَوْلِ بِهِ؟ قَالَ: قَرَأْت كِتَابَ إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ " لِلشَّافِعِيِّ، فَرَأَيْتُهُ صَحِيحًا فِي مَعْنَاهُ، إلَّا أَنَّ جَمِيعَ مَا احْتَجَّ بِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ، وَصَحَّ بِهِ عِنْدِي بُطْلَانُهُ. قَالَ: فَهَذِهِ حِكَايَةٌ تُنَادِي عَلَى الْخَصْمِ أَنَّهُ يَقُولُ بِمَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالنَّقْضِ. قُلْت: إنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ كَمَا نَقُولُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْقِيَاسِ، فَلَا وَجْهَ لِتَسْمِيَتِك بِهِ بِاسْمٍ آخَرَ. وَلَئِنْ قُلْت: لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ قُلْنَا: هُنَا يُوهِمُ أَنَّهُ دَلِيلٌ غَيْرُ الْقِيَاسِ، فَقُلْ: هُوَ قِيَاسٌ فِي الْمَعْنَى. وَلَهُ اسْمٌ آخَرُ فِي

اللَّفْظِ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، وَحِينَئِذٍ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَقْتَصِرُ عَنْهُ عِبَارَتُهُ، فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا هُوَ بَيِّنٌ، لِأَنَّ مَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرُ عَنْهُ لَا يَدْرِي هُوَ وَهْمٌ أَوْ تَحْقِيقٌ. وَرَدَّ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ: بِأَنَّ مَا يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ مِنْ مَجْمُوعِ قَرَائِنِ الْأَقْوَالِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ، لَا يَتَأَتَّى عَنْ دَلِيلِهِ عِبَارَةٌ مُطَابِقَةٌ لَهُ. ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ الِاخْتِلَالِ بِالْعِبَارَةِ الْإِخْلَالُ بِالْمُعَبَّرِ عَنْهُ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ الْمَعَانِي بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ لَا بِالنُّطْقِ اللَّفْظِيِّ، قَالَ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا أَشْبَهَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الِاسْتِحْسَانُ. قُلْت: وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ. أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ لِيَظْهَرَ خَطَؤُهُ مِنْ صَوَابِهِ. وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي " الْكَافِي ": يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً، إذْ لَا شَاهِدَ لَهُ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مِمَّا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَحَدِيثِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ "، قَالَ: وَأَنْكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّيْخُ الشِّيرَازِيُّ: إنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عَنْهُ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: " مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ ". وَهَذَا مَرْدُودٌ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي، وَمُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُنْكِرُونَ هَذَا التَّفْسِيرَ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ. قُلْت: وَهُوَ الصَّوَابُ فِي النَّقْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفْد صَنَّفَ الشَّافِعِيُّ كِتَابًا فِي الْأُمِّ " فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَقَالَ مِنْ جُمْلَتِهِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا رَدَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ بَيْنَ الْمُتَتَابِعَيْنِ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ، فَتَرَكَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِهَذَا التَّخْمِينِ. وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ شُهُودِ الزَّوَايَا: الْقِيَاسُ أَنَّهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ، لَكِنْ اسْتَحْسَنَ قَبُولَهَا.

وَرَجْمَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ فِي قَتْلِ مُسْلِمِينَ؟ ، وَقَالَ فِي الزَّوْجَيْنِ إذَا تَقَاذَفَا، قَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: بَلْ أَنْتَ زَانٍ، لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، لِأَنِّي أَسْتَقْبِحُ أَنْ أُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَحُدُّهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَقْبَحُ مِنْهُ تَعْلِيلُ حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. انْتَهَى. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ فَهِمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالِاسْتِحْسَانِ هَذَا، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ. وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] إلَى {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] فَجَعَلَ الْأَحْسَنَ مَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وَلَمْ يَقُلْ: إلَى الِاسْتِحْسَانِ. وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِحْسَانِ بِدَلِيلِ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ دُونَ الِاسْتِحْسَانِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ الِاسْتِحْسَانُ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَحْكَامٍ عَدَلُوا عَنْ الْأُصُولِ فِيهَا إلَى الِاسْتِحْسَانِ: (مِنْهَا) دُخُولُ الْوَاحِدِ إلَى الْحَمَّامِ لِيَسْتَعْمِلَ مَاءً غَيْرَ مُقَدَّرٍ.

وَيَشْتَرِي الْمَأْكُولَ بِالْمُسَاوَمَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ يَتَلَفَّظُ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْسَانَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحُجَّةٍ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْأَخْذَ بِالْأَحْسَنِ دُونَ الْمُسْتَحْسَنِ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا غَيْرُهُمَا. وَالْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. وَعَنْ الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالِاسْتِحْسَانِ.

فصل ما استحسنه الشافعي والمراد منه

[فَصْلٌ مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْمُرَادُ مِنْهُ] ُ] قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: لَمْ يَقُلْ الشَّافِعِيُّ بِالِاسْتِحْسَانِ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: قَالَ: وَأَسْتَحْسِنُ فِي الْمُتْعَةِ أَنْ تُقَدَّرَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَقَالَ: رَأَيْتُ بَعْضَ الْحُكَّامِ يَحْلِفُ عَلَى الْمُصْحَفِ وَذَلِكَ حَسَنٌ وَقَالَ فِي مُدَّةِ الشُّفْعَةِ: وَأَسْتَحْسِنُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَالَ الْخَفَّافُ فِي الْخِصَالِ ": قَالَ الشَّافِعِيُّ بِالِاسْتِحْسَانِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ، فَذَكَرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ وَزَادَ قَوْلَهُ فِي بَابِ الصَّدَاقِ: مَنْ أَعْطَاهَا بِالْخَلْوَةِ فَذَاكَ ضَرْبٌ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ يَعْنِي قَوْلَهُ الْقَدِيمَ وَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَاتِ: كَتَبَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ ذَلِكَ اسْتِحْسَانٌ وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ حَسَنٌ وَقَدْ أَجَابَ الْأَصْحَابُ مِنْهُمْ: الْإِصْطَخْرِيُّ، وَابْنُ الْقَاصِّ، وَالْقَفَّالُ، وَالسِّنْجِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ " الِاسْتِحْسَانُ حُجَّةٌ " أَيْ أَنَّهُ حَسَنٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ كَانَ حَسَنًا - أَمَّا الْأَوَّلُ: فَرَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ فَاسْتَحْسَنَهُ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ وَقَالَ الْقَفَّالُ؛ إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": إنَّمَا اسْتَحَبَّ الْفَضْلَ وَلَمْ يُوجِبْهُ وَإِنَّمَا يُنْكَرُ الْقَضَاءُ بِالِاسْتِحْسَانِ، فَأَمَّا أَنْ يُسْتَحَبَّ الْكَرَمُ وَالزِّيَادَةُ فَلَا يُنْكَرُ - وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ فَعَلَاهُ، وَأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ إرْهَابٌ وَزَجْرٌ عَنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، وَالتَّحْلِيفُ بِالْمُصْحَفِ تَعْظِيمٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ تَغْلِيظًا بِالْيَمِينِ كَمَا غَلُظَتْ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الشَّرِيفَيْنِ وَقَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَلْبَتَّةَ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَلِأَنَّ النَّاسَ أَجْمَعُوا عَلَى تَأْجِيلِ الشُّفْعَةِ فِي قَرِيبٍ مِنْ الزَّمَانِ، فَجَعَلَهُ هُوَ مُقَدَّرًا بِثَلَاثَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] فَهِيَ حَدُّ الْقُرْبِ، وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَفِي مَقَامِ الْمُسَافِرِ، وَفِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْمَسْحِ - وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْبَوَاقِي، فَإِنَّهُ اسْتَحْسَنَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ، لِأَنَّهُ وَجَدَهَا مُسْنَدَةً وَأَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَيْثُ قَالَ بِهِ كَانَ لِدَلِيلٍ، لَا بِاعْتِبَارِ مَيْلِ النَّفْسِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يُسْتَحْسَنَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ إلَّا مِنْ بَابِ الْمُمَاثَلَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ إلَى الْأُولَى وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ هُوَ الَّذِي يُحَدِّثُهُ الْإِنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ بِلَا مِثَالٍ، كَمَا فِي إيجَابِ الْحَدِّ بِشُهُودِ الزَّوَايَا قُلْت: لَكِنْ رَأَيْت فِي سُنَنِ الشَّافِعِيِّ " الَّتِي يَرْوِيهَا الْمُزَنِيّ عَنْهُ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: سَمِعْت الْمُزَنِيّ يَقُولُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا عَلِمَ صَاحِبُ الشُّفْعَةِ فَأَكْثَرُ مَا يَجُوزُ لَهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ فِي ثَلَاثِهِ أَيَّامٍ، فَإِذَا كَانَ فِي ثَلَاثِهِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ طَلَبُهُ هَذَا اسْتِحْسَانٌ مِنِّي وَلَيْسَ بِأَصْلٍ انْتَهَى وَالْمُشْكَلُ فِيهِ قَوْلُهُ: " وَلَيْسَ بِأَصْلٍ " وَيَنْبَغِي تَأْوِيلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ بِأَصْلٍ خَاصٍّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَا نَفْيِ الدَّلِيلِ أَلْبَتَّةَ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ " قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ كَانَ بِرَأْسِ الْمُحْرِمِ هَوَامُّ فَنَحَّاهَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ؟ ، ثُمَّ قَالَ: لَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ قُلْت مَا قُلْت قَالَ الْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ " وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ ": هَذَا مِنْ قَبِيلِ اسْتِحْسَانِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مُشْكِلٌ فَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الشَّافِعِيِّ اسْتِحْسَانٌ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ قُلْت: لَيْسَ هَذَا مِنْ الِاسْتِحْسَانِ، بَلْ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنِّي لَا أَذْكُرُ دَلِيلَ مَا قُلْتُهُ لِأَجْلِهِ، لَا أَنَّهُ قَالَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ بِهَوَى نَفْسِهِ وَقَدْ وَقَعَ الِاسْتِحْسَانُ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى: (مِنْهَا) : قَالَ: وَحَسَنٌ أَنْ يَضَعَ الْمُؤَذِّنُ إصْبَعَهُ فِي أُذُنَيْهِ، لِأَنَّ حَدِيثَ بِلَالٍ اشْتَمَلَ عَلَى ذَلِكَ

وَ (مِنْهَا) : قَالَ فِي الْوَسِيطِ ": إنَّ الشَّافِعِيَّ ذَهَبَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِمَنْعِ قَرْضِ الْجَوَارِي مِمَّنْ هِيَ حَلَالٌ لَهُ، اسْتِحْسَانًا وَ (مِنْهَا) : قَالَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى الْمُعَطِّلِ: أَسْتَحْسِنُ إذَا حَلَفَ أَنْ يُسْأَلَ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَك وَرَزَقَك وَ (مِنْهَا) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ يُتْرَكَ شَيْءٌ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ وَ (مِنْهَا) : إذَا قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَأَلْتُهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَا: هُوَ لَا نَعْلَمُ، فَذَا، وَإِنْ قَالُوا: تَيَقَّنَّاهُ قَطْعًا فَقَدْ أَخْطَئُوا، لَكِنْ لَا تُرَدُّ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُمَا وَلَكِنْ أَرُدُّهَا اسْتِحْسَانًا حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ الشَّامِلِ " وَ (مِنْهَا) : قَالَ أَبُو زَيْدٍ، بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوْجُهِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُغَنِّيَةِ: كُلُّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ الصِّحَّةُ وَ (مِنْهَا) : قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الْإِيلَاءِ فِي وَلِيِّ الْمَجْنُونَةِ: وَحَسَنٌ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ لِلزَّوْجِ وَ (مِنْهَا) : اسْتِحْسَانُ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيرَ نَفَقَةِ الْخَادِمِ وَ (مِنْهَا) : قَالَ فِي الْوَسِيطِ ": إذَا أَخْرَجَ السَّارِقُ يَدَهُ الْيُسْرَى بَدَلَ الْيُمْنَى فَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ لَا تُقْطَعَ وَقَالُوا فِي تَعَيُّنِ الرَّمْيِ فِي النِّضَالِ وَمِنْهَا: قَالَ الرُّويَانِيُّ فِيمَا إذَا قَالَ: أَمْهِلُونِي لِأَسْأَلَ الْفُقَهَاءَ - أَعْنِي الْمُدَّعِيَ فِي الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ - اسْتَحْسَنَ فِيهَا قُلُوبُنَا إمْهَالَهُ يَوْمًا وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي كِتَابِ اقْتِنَاصِ السَّوَانِحِ " ثَلَاثَ صُوَرٍ تَرْجِعُ إلَى الِاسْتِحْسَانِ أَوْ الْمَصَالِحِ قَالَ بِهَا الْأَصْحَابُ: إحْدَاهَا: الْحُصُرُ الْوَقْفُ وَنَحْوُهُ إذَا بَلِيَ قِيلَ: إنَّهُ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ وَمِثْلُهُ الْجِذْعُ الْمُنْكَسِرُ وَالدَّارُ الْمُنْهَدِمَةُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَقِيلَ: إنَّهُ يُحْفَظُ فَإِنَّهُ عَيْنُ الْوَقْفِ فَلَا يُبَاعُ، وَهَذَا الْقِيَاسُ.

دلالة الاقتران

الثَّانِيَةُ: حَقُّ التَّوْلِيَةِ عَلَى الْوَقْفِ قِيلَ: إنَّهُ لِلْوَاقِفِ وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ الْمُتَقَرِّبُ بِصَدَقَتِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ مَنْ يَقُومُ بِإِمْضَائِهَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ الثَّالِثَةُ: إذَا أَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ، فَبَنَى الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَرَسَ، ثُمَّ رَجَعَ وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ وَالْبِنَاءَ لِثَالِثٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَقِيلَ: هُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لِهَذَا عَبْدٌ وَلِهَذَا عَبْدٌ فَبَاعَاهُمَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، لِلْحَاجَةِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ أَوْ اسْتِصْلَاحٌ فَائِدَةٌ: قَيَّدَ الطَّبَرِيُّ فِي الْعُدَّةِ " مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الِاسْتِحْسَانِ بِالْمُخَالِفِ لِلْقِيَاسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَهُوَ جَائِزٌ، كَمَا اسْتَحْسَنَ الشَّافِعِيُّ الْحَلِفَ بِالْمُصْحَفِ وَنَظَائِرِهِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَا سَبَقَ. [دَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ] ِ قَالَ بِهَا الْمُزَنِيّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالصَّيْرَفِيُّ مِنَّا، وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ نَصِّ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ: وَرَأَيْت ابْنَ نَصْرٍ يَسْتَعْمِلُهَا كَثِيرًا وَقِيلَ: إنَّ مَالِكًا احْتَجَّ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْ الْخَيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] فَقَرَنَ فِي الذِّكْرِ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ لَا زَكَاةَ فِيهَا إجْمَاعًا، فَكَذَلِكَ الْخَيْلُ وَأَنْكَرَهَا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: الْقِرَانُ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَدْخُلَ حَرْفُ الْوَاوِ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ تَامَّتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَوْ فِعْلٌ وَفَاعِلٌ، بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي الْجَمِيعِ أَوْ الْمَعْمُومَ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْعِلَّةِ، وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ} [النور: 33] .

، وَكَاسْتِدْلَالِ الْمُخَالِفِ فِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» لِكَوْنِهِ مَقْرُونًا بِالنَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ، وَالْبَوْلُ فِيهِ يُفْسِدُهُ، فَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ فِيهِ وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ لِمَعْنَى غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي مُنِعَ مِنْ الْبَوْلِ فِيهِ لِأَجْلِهِ وَلَعَلَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ الِاغْتِسَالِ لَا تَرْتَفِعُ جَنَابَتُهُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحُصَرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَا بِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ، وَقِيَاسًا عَلَى الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ إذَا عُطِفَتْ عَلَى الْكَامِلَةِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي النَّاقِصَةِ لِافْتِقَارِهَا إلَى مَا تَتِمُّ بِهِ، فَإِذَا تَمَّتْ بِنَفْسِهَا لَا تَجِبُ الْمُشَارَكَةُ إلَّا فِيمَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ. وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ قَوْله تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَلَا تَجِبُ

لِلثَّانِيَةِ الشَّرِكَةُ فِي الرِّسَالَةِ وقَوْله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ دُونَ الْأَكْلِ، وَالْأَكْلُ يَجُوزُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْإِيتَاءُ لَا يَجِبْ إلَّا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ كَلَامٍ تَامٍّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْأَوَّلُ، فَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ لَا مِنْ نَفْسِ النَّظْمِ أَمَّا إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ نَاقِصًا، بِأَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْخَبَرُ فَلَا خِلَافَ فِي مُشَارَكَتِهِ لِلْأَوَّلِ، كَقَوْلِك: زَيْنَبُ طَالِقٌ وَعَمْرَةٌ، لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ فِي الْعِلَّةِ فَيَثْبُتُ التَّسَاوِي مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْقِرَانِ، احْتِجَاجُ أَصْحَابِنَا أَنَّ اللَّمْسَ حَدَثٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وَمِثْلُهُ عَطْفُ الْمُفْرَدَاتِ، وَاحْتِجَاجُ الشَّافِعِيِّ عَلَى إيجَابِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْوُجُوبُ أَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّهَا لِقَرِينَتِهَا " إنَّمَا أَرَادَ بِهَا لِقَرِينَةِ الْحَجِّ فِي الْأَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَكَانَ احْتِجَاجُهُ بِالْأَمْرِ دُونَ الِاقْتِرَانِ وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ "، فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكُ، وَأَنْ تَمَسَّ الطِّيبَ» فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ غَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِالسِّوَاكِ وَالطِّيبِ وَهُمَا غَيْرُ وَاجِبَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وَقَالَ غَيْرُهُ: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى الصُّبْحُ مِنْ حَيْثُ قِرَانُهَا بِالْقُنُوتِ فِي قَوْلِهِ: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] .

وَلَمْ يُحَرِّمْ الْأَصْحَابُ خِطْبَةَ النِّكَاحِ عَلَى الْمُحْرِمِ مَعَ أَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلنِّكَاحِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يَخْطُبُ» قَالَ صَاحِبُ الْوَافِي ": وَلِأَصْحَابِنَا فِي الْأُصُولِ وَجْهٌ أَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ الْحُكْمِ لِشَيْءٍ ثَبَتَ لِقَرِينِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ قَائِلَهُ يُحَرِّمُ الْخِطْبَةَ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ لِلْقَرِينِ إلَّا بِأَنْ يُسَاوِيَهُ فِي اللَّفْظِ أَوْ يُشَارِكَهُ فِي الْعِلَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مُفَارَقَةَ الْخِطْبَةِ لِلْعَقْدِ وَهَكَذَا إذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ ثُمَّ ثَبَتَ لِأَحَدِهِمَا حُكْمٌ بِالْإِجْمَاعِ، لَمْ يَثْبُتْ أَيْضًا لِلْآخَرِ ذَلِكَ الْحُكْمُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ، كَاسْتِدْلَالِ الْمُخَالِفِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ، بَلْ يَجُوزُ بِالْخَلِّ وَنَحْوِهِ بِقَوْلِهِ: «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ» فَقَرَنَ بَيْنَ الْحَتِّ وَالْقَرْصِ وَالْغَسْلِ بِالْمَاءِ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْحَتَّ وَالْقَرْصَ لَا يَجِبَانِ، فَكَذَلِكَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَوِّي الْقَوْلَ بِهِ إذَا وَقَعَتْ حَادِثَةٌ لَا نَصَّ فِيهَا، كَانَ رَدُّهَا إلَى مَا قُرِنَ مَعَهَا مِنْ الْأَعْيَانِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهَا إلَى غَيْرِ شَيْءٍ أَصْلًا هَذَا مَا يُمْكِنُ خُرُوجُهُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إذَا عَطَفَ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ، فَإِنْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ كَانَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ لَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ، وَقَدْ لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةً أَصْلًا وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى " وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] فَإِنْ قَوْلَهُ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَلَا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَتْ

دلالة الإلهام

الثَّانِيَةُ نَاقِصَةً شَارَكَتْ الْأُولَى فِي جَمِيعِ مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِذَا قَالَ: هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ، طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ ثَلَاثًا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: وَهَذِهِ طَالِقٌ، لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً، لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ بِتَمَامِهَا وَعَلَى هَذَا بَنَوْا بَحْثَهُمْ الْمَشْهُورَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» وَسَبَقَ فِي بَابِ الْعُمُومِ. وَقَدْ الْتَزَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ، فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ فِي " مُخْتَصَرِهِ ": أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: ضَرَبَ زَيْدًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعَمْرًا، يَتَقَيَّدُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ أَيْضًا وَهِيَ تَقْتَضِي أَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ عِنْدَهُ عَلَى الْكَامِلَةِ يَقْتَضِي مُشَارَكَتَهَا فِي أَصْلِ الْحُكْمِ وَتَفَاصِيلِهِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُصْفُورٍ مِنْ النَّحْوِيِّينَ وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَكَلَامُهُمْ مُخْتَلِفٌ، فَقَالُوا: إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ، أَنَّ الثَّانِيَةَ تَتَقَيَّدُ أَيْضًا بِالشَّرْطِ وَكَذَا لَوْ قَدَّمَ الْجَزَاءَ، وَقَالُوا فِيمَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ: إنَّهُ لَا يَكُونُ الدِّرْهَمُ مُفَسِّرًا لِلْأَلْفِ، بَلْ لَهُ تَفْسِيرُهَا بِمَا شَاءَ وَهُوَ مَذْهَبٌ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ، وَأَشَارَ إلَى أُخْرَى، فَهَلْ تَطْلُقُ أَوْ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ؟ وَجْهَانِ وَلَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَأَنْتِ يَا أُمَّ أَوْلَادِي فَقَالَ الْعَبَّادِيُّ: لَا تَطْلُقُ. فَرْعٌ: حَجَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا مِنْ الثُّلُثِ فَلَوْ قَرَنَهَا بِأَشْيَاءَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَسَقْيِ الْمَاءِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، لِأَنَّ الِاقْتِرَانَ قَرِينَةٌ تُفِيدُ أَنَّهُ قَصَدَ كَوْنَهُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ اقْتِرَانَ الشَّيْئَيْنِ فِي اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ اقْتِرَانَهُمَا فِي الْحُكْمِ. [دَلَالَة الْإِلْهَام] .

دَلَالَةُ الْإِلْهَامِ ذَكَرَهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَقَالَ: مَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ فَهُوَ إلْهَامٌ، أَوْ الشَّرِّ فَهُوَ وَسْوَاسٌ وَقَالَ بِهَا بَعْضُ الشِّيعَةِ فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ " قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَوْ ثَبَتَتْ الْعُلُومُ بِالْإِلْهَامِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّظَرِ مَعْنًى، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ دَلَالَةٌ وَلَا عِبْرَةٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] فَلَوْ كَانَتْ الْمَعَارِفُ إلْهَامًا لَمْ يَكُنْ لِإِرَادَةِ الْأَمَارَاتِ وَجْهٌ قَالَ: وَيُسْأَلُ الْقَاتِلُ بِهَذَا عَنْ دَلِيلِهِ، فَإِنْ احْتَجَّ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ فَقَدْ نَاقَضَ قَوْلَهُ، وَإِنْ احْتَجَّ بِهِ أَبْطَلَ بِمِنْ ادَّعَى إلْهَامًا فِي إبْطَالِ الْإِلْهَامِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ فِي حُجِّيَّةِ الْإِلْهَامِ خِلَافًا، وَفَرَّعَا عَلَيْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ هَلْ يَجُوزُ انْعِقَادُهُ لَا عَنْ دَلِيلٍ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَمْ يَصِحَّ جَعْلُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا جَوَّزْنَا الِانْعِقَادَ لَا عَنْ دَلِيلٍ، وَإِلَّا فَلَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْقَائِلُ بِانْعِقَادِهِ لَا عَنْ دَلِيلٍ هُوَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْإِلْهَامَ دَلِيلًا قُلْت: وَقَدْ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتِمَادَ الْإِلْهَامِ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ " فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ، وَابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ " فَقَالَ: إلْهَامُ خَاطِرٍ حَقٌّ مِنْ الْحَقِّ، قَالَ: وَمِنْ عَلَامَاتِهِ أَنْ يُشْرَحَ لَهُ الصَّدْرُ وَلَا يُعَارِضَهُ مُعَارِضٌ مِنْ خَاطِرٍ آخَرَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ ": ذَهَبَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ تَقَعُ اضْطِرَارًا لِلْعِبَادِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِشَرْطِ التَّقْوَى، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أَيْ تُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] أَيْ مَخْرَجًا عَلَى كُلِّ مَا الْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ وَجْهُ الْحُكْمِ فِيهِ،

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] فَهَذِهِ الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ تَحْصُلُ لِلْعِبَادِ إذَا زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ وَسَلِمَتْ قُلُوبُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى، بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ، إذْ خَبَرُهُ صِدْقٌ، وَوَعْدُهُ حَقٌّ، فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بَعْدَ الْقَلْبِ لِحُصُولِ الْمُعَارَضَةِ فِيهِ بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ كَإِعْدَادِهِ بِإِحْضَارِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِيهِ مَعَ التَّفَطُّنِ لِوُجُوهِ لُزُومِ النَّتِيجَةِ عَقِيبَ النَّظَرِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ اضْطِرَارًا، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ فِيهِ وَأَمَّا حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ عَلَى سَبِيلِ إلْهَامِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ يَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ، فَأَحَدُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْعَقْلِ وَيَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مَدَارَكَ الْعُلُومِ الْإِلْهَامُ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، وَهُوَ غَلَطٌ فِي الْحَصْرِ إذْ لَيْسَ هُوَ جَمِيعُ الْمَدَارِكِ، بَلْ مُدْرَكٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا بَيِّنَاهُ وَتَأَوَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُمْ، وَقَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدُوا أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَالَ الْإِمَامُ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ أَمَالِيهِ مُحْتَجًّا عَلَى الْإِلْهَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص: 7] وَقَوْلِهِ: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] فَهَذَا الْوَحْيُ مَجْرَدُ الْإِلْهَامِ، ثُمَّ إنَّ مِنْ الْإِلْهَامِ عُلُومًا تَحْدُثُ فِي النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ الْمُطْمَئِنَّةِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ مِنْ أُمَّتِي لَمُحَدَّثِينَ وَمُكَلَّمِينَ، وَإِنَّ عُمَرَ لَمِنْهُمْ» وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] .

فَأَخْبَرَ أَنَّ النُّفُوسَ مُلْهَمَةٌ، فَالنَّفْسُ الْمُلْهَمَةُ عُلُومٌ لَدُنِّيَّةٌ هِيَ الَّتِي تَبَدَّلَتْ صِفَتُهَا وَاطْمَأَنَّتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَمَّارَةً قَالَ: وَهَذَا النَّوْعُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ مِنْ عَالِمِ الْمُلْكِ وَالشَّهَادَةِ، بَلْ تَخْتَصُّ فَائِدَتُهُ بِصَاحِبِهِ دُونَ غَيْرِهِ، إذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ثَمَرَةُ السِّرَايَةِ إلَى الْغَيْرِ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِبَارِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ، قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ تَكُنْ لَهُ السِّرَايَةُ إلَى الْغَيْرِ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ عَنْ مَفَاتِيحِ الْمُلْكِ لِكَوْنِ مَحَلِّهَا النَّفْسَ، وَقُرْبِهَا مِنْ الْأَرْضِ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيُّ، بِخِلَافِ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي قَامَ [بِنَقْلِهِ] الْمَلَكُ الْمُلَقَّى، لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ الْمُجَانِسُ لِلرُّوحِ الرُّوحَانِيِّ الْعُلْوِيِّ قَالَ: وَبَيْنَهُمَا ثَالِثَةٌ وَهِيَ النَّفْثُ فِي الرَّوْعِ يَزْدَادُ بِهَا الْقَلْبُ عِلْمًا بِاَللَّهِ وَبِإِدْرَاكِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَهِيَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ تَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ فِيهَا نَصِيبٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْثًا فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَّصِلُ بِرُوحِ الْقُدْسِ، وَتَرِدُ عَلَيْهِ كَمَوْجَةٍ تَرِدُ عَلَى الْبَحْرِ، فَيَكْشِفُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلُ عَقِبَ وُرُودِهَا عَلَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَتَصِيرُ الرَّحْمَةُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ وَاصِلَةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْثٍ فِي رَوْعِهِ. انْتَهَى. وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ» قَالَ ابْنُ وُهَيْبٍ: يَعْنِي مُلْهَمُونَ وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ نِهَايَةِ الْغَرِيبِ ": جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهُ أَنَّهُمْ الْمُلْهَمُونَ، وَالْمُلْهَمُ هُوَ الَّذِي يُلْقَى فِي نَفْسِهِ الشَّيْءُ فَيُخْبِرُ بِهِ حَدْسًا وَفِرَاسَةً، وَهُوَ نَوْعٌ يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، كَأَنَّهُمْ حُدِّثُوا بِشَيْءٍ فَقَالُوهُ

وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْتَفْتِ قَلْبَك وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ» فَذَلِكَ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَتَعَارَضُ فِيهَا الشُّبَهُ وَالرِّيَبُ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَاسْتِفْتَاءُ الْقَلْبِ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ أَبَاحَ الشَّيْءَ، أَمَّا حَيْثُ حُرِّمَ فَيَجِبُ الِامْتِنَاعُ، ثُمَّ لَا يُعَوَّلُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ، فَرُبَّ مُوَسْوَسٍ يَنْفِي كُلَّ شَيْءٍ، وَرُبَّ مُسَاهِلٍ نَظَرَ إلَى كُلِّ شَيْءٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَيْنِ الْقَلْبَيْنِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِ الْعَالِمِ الْمُوَفَّقِ الْمُرَاقِبِ لِدَقَائِقِ الْأَحْوَالِ، فَهُوَ الْمِحَكُّ الَّذِي تُمْتَحَنُ بِهِ حَقَائِقُ الصُّوَرِ، وَمَا أَعَزَّ هَذَا الْقَلْبَ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ ": هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يُعْرَفُ فِي شَأْنِهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ مَا عَسَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ يُحَدِّثُ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: «وَكَيْفَ يُحَدَّثُ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ الْمَلَكُ عَلَى لِسَانِهِ» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: يَعْنِي يُلْقَى فِي رَوْعِهِ تَنْبِيهٌ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَإِلَّا فَمِنْ جُمْلَةِ طُرُقِ الْوَحْيِ الْإِلْهَامُ. الْهَاتِفُ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ مِثْلُ الَّذِي سَمِعُوهُ يَأْمُرُ بِغُسْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَمِيصِهِ كَذَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ " فِي ذَيْلِ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا قَالَ: لَكِنَّهُ مِنْ بَابِ الْفَضَائِلِ وَكَذَلِكَ مَا اسْتَخَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ، كَقَوْلِ الْعَبَّاسِ فِي حَدْوِ الصَّارِخِ: اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّك، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْعَةِ فَعَلَهُ تَكْرِيمًا لَهُ

قُلْت: وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا كِتَابًا فِي الْهَوَاتِفِ، وَصَدَّرَهُ بِحَدِيثِ «هَتَفَ جِبْرِيلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ، عَلَى وَجْهٍ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنَامَ لَا يُثْبِتُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَلَا بَيِّنَةً، وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقًّا، وَالشَّيْطَانُ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ، وَلَكِنْ النَّائِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ وَالرِّوَايَةِ لِعَدَمِ تَحَفُّظِهِ وَأَمَّا الْمَنَامُ الَّذِي رُوِيَ فِي الْأَذَانِ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَمَلِ بِهِ، فَلَيْسَ الْحُجَّةُ فِيهِ الْمَنَامَ، بَلْ الْحُجَّةُ فِيهِ أَمْرُهُ بِذَلِكَ فِي مَدَارِكِ الْعِلْمِ.

كتاب التعادل والتراجيح

[كِتَابٌ التَّعَادُلُ وَالتَّرَاجِيحُ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعَارُضِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ] ُ وَالْقَصْدُ مِنْهُ: تَصْحِيحُ الصَّحِيحِ، وَإِبْطَالُ الْبَاطِلِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنَصِّبْ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَدِلَّةً قَاطِعَةً، بَلْ جَعَلَهَا ظَنِّيَّةً قَصْدًا لِلتَّوْسِيعِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، لِئَلَّا يَنْحَصِرُوا فِي مَذْهَبٍ وَاحِدٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ، فَقَدْ تُعَارَضُ بِعَارِضٍ فِي الظَّاهِرِ بِحَسَبِ جَلَائِهَا وَخَفَائِهَا، فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَلُ بِالْأَقْوَى وَالدَّلِيلُ عَلَى تَعَيُّنِ الْأَقْوَى: أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَوْ أَمَارَتَانِ فَإِمَّا أَنْ يَعْمَلَا جَمِيعًا، أَوْ يُلْغَيَا جَمِيعًا، أَوْ يُعْمَلَ بِالْمَرْجُوحِ وَالرَّاجِحِ، وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ، وَفِيهِ فَصْلَانِ:.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعَارُضِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَشُرُوطِهِ، وَأَقْسَامِهِ، وَأَحْكَامِهِ أَمَّا حَقِيقَتُهُ: فَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنْ الْعُرْضِ (بِضَمِّ الْعَيْنِ) وَهُوَ النَّاحِيَةُ وَالْجِهَةُ وَكَأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَعَارِضَ يَقِفُ بَعْضُهُ فِي عُرْضِ بَعْضٍ، أَيْ: نَاحِيَتِهِ وَجِهَتِهِ، فَيَمْنَعُهُ مِنْ النُّفُوذِ إلَى حَيْثُ وُجِّهَ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَقَابُلُ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ. أَمَّا شُرُوطُهُ (فَمِنْهَا) : التَّسَاوِي فِي الثُّبُوتِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ (وَمِنْهَا) : التَّسَاوِي فِي الْقُوَّةِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ، بَلْ يُقَدَّمُ الْمُتَوَاتِرُ بِالِاتِّفَاقِ، كَذَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ: إذَا وَرَدَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرٌ وَالْآخَرُ آحَادٌ، أَوْ آيَةٌ وَخَبَرٌ، وَلَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُمَا، وَكَانَا يُوجِبَانِ الْعَمَلَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَتَعَارَضَانِ وَيَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي لُزُومِ الْحُجَّةِ لَوْ انْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا، فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي تَعَارُضِ الظَّاهِرِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: يُقَدَّمُ الْكِتَابُ لِخَبَرِ مُعَاذٍ.

وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ السُّنَّةُ، لِأَنَّهَا الْمُفَسِّرَةُ لِلْكِتَابِ وَالْمُبَيِّنَةُ لَهُ وَالثَّالِثُ: التَّعَارُضُ وَصَحَّحَهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ السَّابِقِ، وَزَيَّفَ الثَّانِيَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي السُّنَّةِ الْمُفَسِّرَةِ، بَلْ الْمُعَارِضَةُ، قُلْت: وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ السُّنَّةَ عَلَى الْكِتَابِ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ، كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَنَحْوِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا حَكَى مِنْ تَقْدِيمِ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ، لِأَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ بَيَانًا، فَيُرَجَّحُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، لَا بِطَرِيقِ تَرْجِيحِ النَّوْعِ عَلَى النَّوْعِ، وَسَبَقَ فِي بَابِ التَّخْصِيصِ الْخِلَافُ فِي قِيَاسِ نَصٍّ خَاصٍّ إذَا عَارَضَ عُمُومَ نَصٍّ آخَرَ مَذَاهِبُ كَثِيرَةٌ (وَمِنْهَا) : اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحُكْمِ مَعَ اتِّحَادِ الْوَقْتِ، وَالْمَحَلِّ، وَالْجِهَةِ، فَلَا امْتِنَاعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي زَمَانَيْنِ فِي مَحَلٍّ أَوْ مَحَلَّيْنِ، أَوْ مَحَلَّيْنِ فِي زَمَانٍ، أَوْ بِجِهَتَيْنِ، كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ مَعَ الْجَوَازِ. وَذَكَرَ الْمُنَاطَقَة شُرُوطَ التَّنَاقُضِ فِي الْقَضَايَا الشَّخْصِيَّةِ ثَمَانِيَةٌ: اتِّحَادُ الْمَوْضُوعِ، وَالْمَحْمُولِ، وَالْإِضَافَةِ، وَالْجُزْءِ، وَالْكُلِّ، وَفِي الْقُوَّةِ، وَالْفِعْلِ، وَفِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَزَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَاسِعًا، وَهُوَ اتِّحَادُهَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِيَخْرُجَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2] وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْإِضَافَةِ، أَيْ يَرَاهُمْ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سُكَارَى مَجَازًا، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى بِالْإِضَافَةِ إلَى الْخَمْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّ الثَّمَانِيَةَ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَهِيَ: اتِّحَادُ الْمَوْضُوعِ، وَالْمَحْمُولِ، وَالزَّمَانِ وَمِنْهُمْ مِنْ يَرُدُّهَا إلَى الْأَوَّلَيْنِ لِانْدِرَاجِ وَحِدَةِ الزَّمَانِ تَحْتَ وَحِدَةِ الْمَحْمُولِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّهَا إلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فِي النِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ لَا غَيْرَ، فَتَنْدَرِجُ الشُّرُوطُ الثَّمَانِيَةُ تَحْتَ هَذَا الشَّرْطِ الْوَاحِدِ وَنَبَّهَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ " عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا اعْتِبَارُهَا فِي تَنَاقُضِ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً مِنْ الْقَضَايَا، بَلْ الْقَضِيَّةُ إنْ كَانَتْ مَكَانِيَّةً اُعْتُبِرَ فِيهَا وَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَالْمَكَانِ، كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ جَالِسٌ،

زَيْدٌ لَيْسَ بِجَالِسٍ وَإِنْ كَانَتْ زَمَانِيَّةً اُعْتُبِرَ فِيهَا وَحْدَةُ الزَّمَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَوَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ مُعْتَبَرَةٌ فِي تَنَاقُضِ الْقَضَايَا بِأَسْرِهَا، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الشُّرُوطِ فَبِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُهَا قَضِيَّةً قَضِيَّةً فَافْهَمْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَاحِثَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَجِدُ مَا يُحَقِّقُ هَذِهِ الشُّرُوطَ فَإِذًا لَا تَنَاقُضَ فِيهَا. وَأَمَّا أَقْسَامُهُ فَبِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَشَرَةٌ، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ يَقَعُ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَاقِيهَا، فَيَقَعُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْكِتَابِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ، وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، وَبَيْنَ الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ أَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْكِتَابِ فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا قَدْ يُظَنُّ التَّعَارُضُ بَيْنَهُ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ دَفْعِهِ بِحَمْلِ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ، أَوْ مُطْلَقٍ عَلَى مُقَيَّدٍ، أَوْ مُجْمَلٍ عَلَى مُبَيَّنٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا فَالْقَوْلُ فِيهِ كَتَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا سَبَقَ وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَةُ الْإِجْمَاعِ لَمْ يُتَصَوَّرْ كَالْآيَتَيْنِ، وَإِلَّا فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ.

وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ، فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ طَبْعًا لِعِصْمَتِهِ دُونَ الْقِيَاسِ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَتَا مُتَوَاتِرَيْنِ فَكَالْكِتَابِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَإِنْ كَانَتَا آحَادًا طُلِبَ تَرْجِيحُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بِطَرِيقَةٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَالْخِلَافُ فِي التَّخْيِيرِ أَوْ التَّسَاقُطِ، وَإِنْ كَانَ إحْدَاهُمَا مُتَوَاتِرًا وَالْأُخْرَى آحَادًا فَالْمُتَوَاتِرُ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ لَمْ يَكُنْ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا كَالْآيَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ قَطْعِيًّا مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَالْإِجْمَاعُ مُقَدَّمٌ، وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَدْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ، وَالِاحْتِمَالَاتُ ثَلَاثَةٌ: (ثَالِثُهَا) : يُقَدَّمُ الْإِجْمَاعُ اللَّفْظِيُّ الْمُتَوَاتِرُ دُونَ السُّكُوتِيِّ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ فَلَا شَكَّ فِي تَقَدُّمِ قَاطِعِ السُّنَّةِ عَلَيْهِ، أَمَّا السُّنَّةُ غَيْرُ الْمَقْطُوعِ بِهَا، فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا فَفِي تَقْدِيمِهِ عَلَيْهَا وَعَكْسِهِ تَرَدُّدٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ دَلَالَةٌ لَفْظِيَّةٌ، أَوْ قِيَاسِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَلِيٍّ قُدِّمَ الْخَبَرُ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَتُهُمَا لَمْ يَتَقَدَّرْ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا كَالْآيَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِقُوَّةِ مُسْتَنَدِهِ أَوْ صِفَتِهِ، كَتَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ النَّصِّيِّ عَلَى الْقِيَاسِيِّ، وَالنُّطْقِيِّ عَلَى السُّكُوتِيِّ، وَاللَّفْظِيِّ الْحَقِيقِيِّ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَةُ الْإِجْمَاعِ قُدِّمَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَهُوَ تَقَدُّمُ الشَّبَهِيِّ وَالطَّرْدِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ أَمَّا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ مَعَ الْإِجْمَاعِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسِ فَهُمَا إمَّا جَلِيَّانِ أَوْ خَفِيَّانِ أَوْ أَحَدُهُمَا جَلِيٌّ دُونَ الْآخِرِ، فَالْجَلِيَّانِ يُسْتَعْمَلُ بَيْنَهُمَا التَّرْجِيحُ، وَغَيْرُ الْجَلِيَّيْنِ لَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا جَلِيًّا قُدِّمَ عَلَى غَيْرِ الْجَلِيِّ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ

وَأَمَّا تَقْدِيرُ أَقْسَامِ التَّعَارُضِ، مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ قَطْعًا وَمَفْهُومًا وَعُمُومًا وَخُصُوصًا وَغَيْرَ ذَلِكَ فَكَثِيرٌ، وَسَنُفَصِّلُهَا. تَنْبِيهٌ يَقَعُ التَّعَارُضُ فِي الشَّرْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا وَبَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، بِأَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ لِزَيْدٍ بِكَذَا وَلِعَمْرٍو بِهِ، وَبَيْنَ الْأَصْلِيَّيْنِ، كَمَا لَوْ قَدَّ مَلْفُوفًا وَزَعَمَ الْوَلِيُّ حَيَاتَهُ وَالْجَانِي مَوْتَهُ فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَبَيْنَ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ كَثِيَابِ الْكُفَّارِ. وَيَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَغْلِيبِ الْأَصْلِ عَلَى الْغَالِبِ فِي الدَّعَاوَى، وَعَلَى تَغْلِيبِ الْغَالِبِ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْبَيِّنَةِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا وَالْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْ النِّهَايَةِ ": تَقَابُلُ الْأَصْلَيْنِ مِمَّا يَسْتَهِينُ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ مِنْ غَوَامِضِ مَآخِذِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَيْفَ يَسْتَجِيزُ الْمُحَصِّلُ اعْتِقَادَ تَقَابُلِ أَصْلَيْنِ لَا يَرْجَحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؟ ، وَحَكَى فِيهِمَا النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ، وَهَذَا لَوْ فُرِضَ لَكَانَ مُبَاهَتَةً وَمُحَاوَرَةً لَا سَبِيلَ إلَى بَتِّ قَوْلٍ فِيهَا فِي فَتْوَى أَوْ حُكْمٍ، إذَا عَلِمَتْ ذَلِكَ فَالتَّعَادُلُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْقَطْعِيَّيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ مُمْتَنِعٌ اتِّفَاقًا سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ، أَوْ نَقْلِيَّيْنِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ لِتَقَدُّمِ الْقَطْعِيِّ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَاجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ أَوْ ارْتَفَعَا، وَهَذَا فِيهِ أَمْرَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ بِنَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْعُلُومَ غَيْرُ مُتَفَاوِتَةٍ فَإِنْ قُلْنَا بِتَفَاوُتِهِمَا اتَّجَهَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقَطْعِيَّاتِ لِأَنَّ بَعْضَهَا أَجْلَى مِنْ بَعْضٍ

(ثَانِيهَا) : أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا فِي الْأَذْهَانِ فَجَائِزٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَارَضُ عِنْدَ الْإِنْسَانِ دَلِيلَانِ قَاطِعَانِ بِحَيْثُ يَعْجِزُ عَنْ الْقَدْحِ فِي أَحَدِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرُوا هَذَا التَّفْصِيلَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَمَارَتَيْنِ فَلْيَجِئْ مِثْلُهُ فِي الْقَاطِعَيْنِ، وَأَمَّا التَّعَادُلُ بَيْنَ الْأَمَارَتَيْنِ فِي الْأَذْهَانِ فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُنَصِّبُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحُكْمِ أَمَارَتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا مُرَجِّحٌ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمَنَعَهُ الكرخي وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ أَرْجَحَ وَإِنْ جَازَ خَفَاؤُهُ عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ اعْتِدَالِهِمَا قَالَ إلْكِيَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ الْعَنْبَرِيُّ وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَنَصَرَهُ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَصَارَ صَائِرُونَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ، وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ قَالَ إلْكِيَا: وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ اخْتَارَ إلْكِيَا قَوْلَ الْكَرْخِيِّ، وَنَقَلَهُ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: إنَّهُ قَطَعَ بِهِ قَالَ: وَالِاسْتِحَالَةُ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ، وَمَا نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ بِالْقَوْلَيْنِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ فَلَا يَدُلُّ، لِأَنَّهُ تَعَادُلٌ ذِهْنِيٌّ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ فَالْمَأْخَذُ مُخْتَلِفٌ، بَلْ نَصَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي الرِّسَالَةِ "، فَقَالَ فِي بَابِ عِلَلِ الْأَحَادِيثِ: وَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَيْنِ نُسِبَا لِلِاخْتِلَافِ فَكَشَفْنَاهُ إلَّا وَجَدْنَا لَهُمَا مَخْرَجًا، وَعَلَى أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ بِمُوَافَقَةِ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ انْتَهَى وَقَرَّرَهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِهَا فَقَالَ: قَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَدًا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ مُتَضَادَّانِ يَنْفِي أَحَدُهُمَا مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِيِّ وَالتَّفْسِيرِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ. وَقَدْ حَكَى الْجُرْجَانِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ بِالْمَنْعِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ اخْتِلَافُ

قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ لَمَّا تَسَاوَى عِنْدَهُ الدَّلِيلَانِ تَوَقَّفَ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يُخَيِّرْ فِي الْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، بَلْ أَخَذَ بِالْأَحْوَطِ وَجَمَعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، فَقَالَ: يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ، نَعَمْ، حُكِيَ عَنْهُ التَّخْيِيرُ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْخَيْلِ وَعَدَمِهِ، وَهَذَا هُوَ الْخِلَافُ الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ، وَالرَّاجِحُ كَمَا قَالَهُ فِي اللُّمَعِ " - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الْأَشْبَهُ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ أُحَادِيَّةً تُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَتَعَارُضِهَا، وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ خُلُوُّ الْوَقَائِعِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَفَصَّلَ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَيَمْتَنِعُ، وَبَيْنَ الْفُرُوعِ فَيَجُوزُ، فَإِنْ أَرَادَ بِالْأُصُولِ الْقَطْعِيَّ فَلَيْسَ خِلَافُنَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا الْخِلَافُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوُقُوعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي التَّجْوِيزِ الْعَقْلِيِّ قُلْت: هُوَ جَارٍ فِيهِمَا، فَقَدْ حَكَى ابْنُ فُورَكٍ قَوْلًا بِامْتِنَاعِ وُجُودِ خَبَرَيْنِ لَا تَرْجِيحَ بَيْنَهُمَا، وَعَزَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ لِأَحْمَدَ وَالْإِمَامِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي خِلَافِ تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، وَنَقَلَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ وَقَدْ قَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ فَقَالَ: حَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَأَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، ثُمَّ قَضِيَّةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي مَوْضِعِ أَنَّ الْجَوَازَ جَارٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أَوْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَقَالَ الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ: التَّرْجِيحُ بَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُتَعَارِضَةِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الْفُرُوعِ وَاحِدٌ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا مَعْنَى لِتَرْجِيحِ ظَاهِرٍ عَلَى ظَاهِرٍ، لِأَنَّ الْكُلَّ صَوَابٌ عِنْدَهُ وَاخْتَارَ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ أَنَّ تَعَادُلَ الْأَمَارَتَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي فِعْلَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ،

كَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ فَإِنَّ وَاجِبَهُ أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتٍ لَبُونٍ وَأَمَّا تَعَارُضُهُمَا عَلَى حُكْمَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ كَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ - مَثَلًا - فَإِنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا. التَّفْرِيعُ التَّعَادُلُ الذِّهْنِيُّ حُكْمُهُ: الْوَقْفُ، أَوْ التَّسَاقُطُ، أَوْ الرُّجُوعُ إلَى غَيْرِهِمَا، وَأَمَّا التَّعَادُلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ وَتَعَادَلَا، وَعَجَزَ الْمُجْتَهِدُ عَنْ التَّرْجِيحِ وَتَحَيَّرَ وَلَمْ يَجِدْ دَلِيلًا آخَرَ، فَاخْتَلَفُوا عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدِهَا: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ، وَبِهِ قَالَ الْجُبَّائِيّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ قَالَ إلْكِيَا: وَسَوَّيَا فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ وَالْقِيَاسَيْنِ، وَنَقَلَهُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ عَنْ الْقَاضِي، وَاَلَّذِي فِي التَّقْرِيبِ " أَنَّهُ رَأْيٌ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالثَّانِي: التَّسَاقُطُ كَالْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا، وَيُطْلَبُ الْحُكْمُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَيَرْجِعُ إلَى الْعُمُومِ أَوْ إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهَذَا مَا قَطَعَ بِهِ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ، قَالَ: لِأَنَّ دَلَائِلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا تَتَعَارَضُ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِتَعَارُضِهِمَا عَلَى وَهَائِهَا جَمِيعًا، أَوْ وَهَاءِ أَحَدِهَا غَيْرَ أَنَّا لَا نَعْرِفُهُ، فَأَسْقَطْنَاهَا جَمِيعًا، وَكَلَامُهُ يُشْعِرُ بِتَفْرِيعِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِمَنْعِ التَّعَادُلِ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ

الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَدِيثَيْنِ. وَأَنْكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِعْرَابِ "، وَقَالَ: إنَّمَا هُوَ بَعْضُ شُيُوخِنَا، وَهُوَ خَطَأٌ، بَلْ الْوَاجِبُ الْأَخْذُ بِالزَّائِدِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا جَمِيعًا، فَاسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخِرِ، الثَّالِثُ: إنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ حَدِيثَيْنِ تَسَاقَطَا وَلَا يُعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ فَيَتَخَيَّرُ حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " عَنْ الْقَاضِي وَنَصَرَهُ وَالْفَرْقُ أَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَتَكَلَّمُ بِهِمَا، فَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ قَطْعًا وَلَمْ نَعْلَمْهُ، فَتَرَكْنَاهُمَا، بِخِلَافِ الْقِيَاسَيْنِ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْقَاضِيَ نُسِبَ إلَيْهِ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، الرَّابِعُ: الْوَقْفُ كَالتَّعَادُلِ الذِّهْنِيِّ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ "، وَاسْتَبْعَدَهُ الْهِنْدِيُّ، إذْ الْوَقْفُ فِيهِ إلَى غَايَةٍ وَأَمَدٍ، إذْ لَا يُرْجَى فِيهِ ظُهُورُ الرُّجْحَانِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ مَسْأَلَتَنَا، بِخِلَافِ التَّعَادُلِ الذِّهْنِيِّ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ فِيهِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْمُرَجِّحُ قُلْت: لَعَلَّ قَائِلَهُ أَرَادَ بِالتَّوَقُّفِ عَنْ الْحُكْمِ وَالْتِحَاقِهِمَا بِالْوَقَائِعِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ، لَا وَقْفُ خَبَرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ " غَيْرَهُ، قَالَ: وَهَذَا حُكْمُ الْأُصُولِيِّ، وَلَكِنْ بِمَا يَرَاهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إذَا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْمُفْتِينَ وَلَمْ يَشْعُرْ الزَّمَانُ مِنْهُمْ فَلَا يَقَعُ مِثْلُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَمِنْ هَاهُنَا حَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " عَنْ الْإِمَامِ امْتِنَاعَ وُجُودِ خَبَرَيْنِ لَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَالْخَامِسُ: يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ كَمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالسَّادِسُ: يُصَارُ إلَى التَّوْزِيعِ إنْ أَمْكَنَ تَنْزِيلُ كُلِّ أَمَارَةٍ عَلَى أَمْرٍ وَالْأُخْرَى عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي الثُّلُثَيْنِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلٍ، وَكَمَا فِي الشُّفْعَةِ تُوَزَّعُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ وَتَارَةً عَلَى عَدَدِ الْأَنْصِبَاءِ، وَالسَّابِعُ: إنْ وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَاجِبَاتِ، فَالتَّخْيِيرُ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ

التَّخْيِيرُ فِي الشَّرْعِ، كَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ وَإِنْ وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ، كَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ، فَالتَّسَاقُطُ وَالرُّجُوعُ إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَالثَّامِنُ: يُقَلِّدُ عَالِمًا أَكْبَرَ مِنْهُ، وَيَصِيرُ كَالْعَامِّيِّ لِعَجْزِهِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالتَّاسِعُ: أَنَّهُ كَالْحُكْمِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَتَجِيءُ فِيهِ الْأَقْوَالُ الْمَشْهُورَةُ، حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ غَيْرُ قَوْلِ الْوَقْفِ عَلَى مَا سَبَقَ فِيهِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ مَا فَرَضْنَاهُ مِنْ الْخِلَافِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّرْجِيحِ وَعَنْ دَلِيلٍ آخَرَ هُوَ الصَّوَابُ وَصَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ الْخِلَافَ فِي مُطْلَقِ التَّعَادُلِ وَمُرَادُهُمْ مَا ذَكَرْنَاهُ الثَّانِي سَتَأْتِي، فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ عَلَى الْعَامِّيِّ جَوَابُ مُفْتِيَيْنِ، مَذَاهِبُ أُخْرَى يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُهَا هُنَا، لَكِنْ الْمَذْهَبُ هُنَاكَ التَّخْيِيرُ، وَهُنَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي التَّرْجِيحِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَامِّيَّ يُضْطَرُّ إلَى الْمُرَجَّحِ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَهُ تَصَرُّفٌ وَرَاءَ التَّعَارُضِ الثَّالِثُ إذَا تَخَيَّرَ فَلِلْمُنَاظِرِ ثَلَاثَة أَحْوَالٍ: فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا تَخَيَّرَ فِي إلْحَاقِهِ بِمَا شَاءَ إنْ قُلْنَا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ، امْتَنَعَ التَّخْيِيرُ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ "، وَإِنْ كَانَ مُفْتِيًا، فَقَالَ الْقَاضِي: قَالَتْ

الْمُصَوِّبَةُ: لَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ الْمُسْتَفْتِي، بَلْ يَجْزِمُ بِمُقْتَضَى أَحَدِهِمَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْدَنَا، وَبِهِ أَجَابَ فِي الْمَحْصُولِ " وَاسْتَشْكَلَ الْهِنْدِيُّ الْجَزْمَ بِأَحَدِهِمَا، وَقَالَ: لَيْسَ فِي التَّخْيِيرِ الْأَخْذُ بِأَيِّ الْحُكْمَيْنِ شَاءَ، وَاخْتَارَ رَأْيًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُفْتِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَجْزِمَ لَهُ الْفُتْيَا، وَبَيْنَ أَنْ يُخَيِّرَهُ، إذْ لَيْسَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالَفَةُ دَلِيلٍ وَلَا فَسَادٌ، فَيَسُوغُ الْأَمْرَانِ وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا، فَقَالَ الْقَاضِي: أَجْمَعَ الْكُلُّ - يَعْنِي: الْمُصَوِّبَةَ، وَالْمُخَطِّئَةَ - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَخْيِيرُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ فِي الْحُكْمِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، بَلْ عَلَيْهِ بَتُّ الْحُكْمِ بِاعْتِقَادِهِ، لِأَنَّهُ نُصِبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ، وَلَوْ خَيَّرَهُمَا لَمَا انْقَطَعَتْ خُصُومَتُهُمَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْتَارُ الَّذِي هُوَ أَرْفَقُ لَهُ، بِخِلَافِ حَالِ الْمُفْتِي فَلَوْ اخْتَارَ الْقَاضِي إحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ وَحَكَمَ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْأُخْرَى فِي وَقْتٍ آخَرَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اتِّهَامِهِ بِالْحُكْمِ بِالْبَاطِلِ، حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكُلَّ مُصِيبٌ، وَحُكِيَ عَنْ الْعَنْبَرِيِّ جَوَازَهُ، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِبَعِيدٍ لِأَنَّ هَذِهِ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ فِي الْحُكْمِ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، وَحَكَمَ بِالْقَوْلِ وَضِدِّهِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُشَرَّكَةِ: ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي نَعَمْ، احْتَجَّ فِي الْمَحْصُولِ " وَالْمِنْهَاجِ " لِلْمَنْعِ «بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَحْكُمْ فِي قَضِيَّةٍ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ» وَقَدْ أُنْكِرَ

عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَسُئِلَ عَنْهُ الذَّهَبِيُّ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، قُلْت: وَهُوَ تَحْرِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَبِي بَكْرَةَ كَذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ " فِي الْأَقْضِيَةِ. مَسْأَلَةٌ، تَنَاقَشُوا فِي الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ التَّعَارُضُ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَسَمَّحَ وَأَضَافَهُ إلَى الْأَمَارَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَاقَشَ نَفْسَهُ وَأَضَافَهُ إلَى صُوَرِ الْأَمَارَاتِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْجُوحِيَّةَ لَيْسَتْ بِأَمَارَةٍ حَقِيقَةً إذْ الْحُكْمُ عِنْدَهَا مَفْقُودٌ مَظْنُونٌ الْعَدَمُ، نَعَمْ، صُورَتُهَا مَحْفُوظَةٌ، وَمَعْنَى الصُّورَةِ عِنْدَهُمْ رَاجِعٌ إلَى تَقْدِيرِ الِانْفِرَادِ، أَيْ لَوْ انْفَرَدَتْ هَذِهِ الْأَمَارَةُ عَنْ الْمُعَارِضِ لَكَانَتْ أَمَارَةً حَقِيقَةً، وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ يَقُولَ بِتَعَارُضِ الْقَاطِعَيْنِ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْأَمَارَةَ وُجِدَ فِيهَا مُقْتَضَى الصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْعَمَلُ بِهَا لِمُعَارِضٍ، فَجَازَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا التَّصْحِيحُ وَالتَّرْجِيحُ، وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فَلَا مُقْتَضَى فِيهَا لِلصِّحَّةِ أَلْبَتَّةَ وَإِذَا عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ فِيهِ مُقْتَضَى الصِّحَّةِ، وَيَخْتَلِفُ عَمَلُهُ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ لَا مُقْتَضَى لِلصِّحَّةِ فِيهِ، فَبِاعْتِبَارِ مُقْتَضَى الصِّحَّةِ أَطْلَقْنَا عَلَى الْمَرْجُوحِيَّةِ أَنَّهَا أَمَارَةٌ، بِخِلَافِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَوَاطِعِ. مَسْأَلَةٌ قَوْلُ الْعَالِمِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَا يُعْلَمُ

قَبْلَ الشَّافِعِيِّ بِهِ تَصْرِيحًا وَهُوَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ ابْتَكَرَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَذَكَرَهَا فِي كُتُبِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ مُخَالِفِيهِ وَنَسَبُوهُ إلَى الْخَطَأِ وَقَالُوا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نُقْصَانِ الْآلَةِ، وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ، فَقَالُوا: وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَذَلِكَ فِي حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَالْمُجْتَهِدُ قَدْ يَجْتَهِدُ فِي مُجْتَهَدٍ فِي وَقْتٍ فَيُؤَدِّي اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَيُؤَدِّي إلَى خِلَافِهِ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ عَنْ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَنْكَرُ اعْتِقَادُهُ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا طَعْنُ الْمُخَالِفِينَ فِي الْقَوْلَيْنِ، قَالَ: وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ تَصْنِيفًا، وَرَأَيْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ الْمُلَقَّبِ بِجُعَلٍ فِي هَذَا كِتَابًا مُفْرَدًا صَنَّفَهُ لِلْمَعْرُوفِ بِالصَّاحِبِ، وَهُوَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادٍ، أَيْ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَدْ قَسَّمَ أَصْحَابُنَا الْقَوْلَيْنِ تَقْسِيمًا بَيَّنُوا فِيهِ فَسَادَ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَأَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ هُوَ مَوْضِعَ الْإِنْكَارِ ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الْمَاوَرْدِيِّ الْآتِيَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) : مَا طُعِنَ بِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ (وَالثَّانِي) : فِي كَيْفِيَّةِ إضَافَتِهِمَا إلَيْهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ لَا عَيْبَ فِيهِ، بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ قَرِيحَتِهِ، وَتَبَحُّرِهِ فِي الشَّرِيعَةِ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمَأْخَذِ، وَمَعْرِفَةِ أُصُولِ الْحَوَادِثِ، وَتَعْلِيمِهِمْ طُرُقَ الِاسْتِنْبَاطِ، وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالُوا: إنَّمَا يَسُوغُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَمَّا

عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَلَا، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: بَلْ لِمَخْرَجِهَا طُرُقٌ فَذَكَرَهَا وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ، وَابْنُ فُورَكٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ قُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ: الْمُسْتَنْكَرُ اعْتِقَادُهُمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا يَسْتَحِيلُ كَوْنُ الشَّيْءِ عَلَى ضِدَّيْنِ مِنْ الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ، وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لِقَوْلِهِ مَخَارِجُ ثَلَاثَةٌ: (أَحَدُهَا) : اعْتِقَادُهُ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِ مَا عَدَا ذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاقِفًا فِيهِمَا، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ (ثَانِيهَا) : أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُ لِتَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ، كَقَوْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ (ثَالِثِهَا) : أَنْ يَقُولَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيرِ لِتَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ عِنْدَهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ كَمَا عَمِلَ عُمَرُ فِي الشُّورَى، جَعَلَ الْأَمْرَ بَيْنَ سِتَّةٍ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الِاعْتِذَارَ (الْأَوَّلَ) عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيّ، وَزَيَّفَهُ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقْطَعُ بِتَخْطِئَةِ مُخَالِفِهِ، وَمَنْ تَدَبَّرَ أُصُولَهُ عَرَفَ ذَلِكَ، وَحَكَى (الثَّالِثَ) عَنْ الْقَاضِي، وَقَالَ: إنَّهُ بَنَاهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، ثُمَّ لَا يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ تَحْرِيمًا وَالْآخَرُ تَحْلِيلًا، إذْ يَسْتَحِيلُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ حَرَامٍ وَمُبَاحٍ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ حَيْثُ نَصَّ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا مَذْهَبٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ لِتَرَدُّدِهِ فِيهِمَا، وَعَدَمِ اخْتِيَارِهِ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ رُتْبَةِ الرَّجُلِ، وَتَوَسُّعِهِ فِي الْعِلْمِ وَعَمَلِهِ بِطُرُقِ الْأَشْبَاهِ فَإِنْ قِيلَ: فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ: لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ إذْ لَيْسَ

لَهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَوْلٌ وَلَا قَوْلَانِ، قُلْنَا هَكَذَا نَقُولُ وَلَا نَتَحَاشَى مِنْهُ وَإِنَّمَا وَجْهُ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ هُوَ ذِكْرُهُ لَهُمَا، وَاسْتِقْصَاؤُهُ وُجُوهَ الْأَشْبَاهِ فِيهِمَا، هَذَا أَسَدُّهَا وَأَوْضَحُهَا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ مُجْتَهِدٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلَانِ مُتَنَافِيَانِ فَلَهُ حَالَتَانِ: (الْحَالَةُ الْأُولَى) : أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَقُولَ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، ثُمَّ إمَّا أَنْ يُعَقِّبَ بِمَا يُشْعِرُ بِالتَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا بِأَنْ يَقُولَ: أَحَبُّهُمَا إلَيَّ وَأَشْبَهُهُمَا بِالْحَقِّ عِنْدِي، وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ، أَوْ يَقُولُ: هَذَا قَوْلٌ مَدْخُولٌ أَوْ مُنْكَرٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ الَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الْآخَرَ لِيَبْعَثَ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ: (أَصَحِّهَا) : أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ قَوْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، بَلْ هُوَ مُتَوَقِّفٌ لِعَدَمِ تَرْجِيحِ دَلِيلِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ فِي نَظَرِهِ، وَقَوْلُهُ: " فِيهِ قَوْلَانِ " أَيْ: احْتِمَالَانِ لِوُجُودِ دَلِيلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، لَا أَنَّهُمَا مَذْهَبَانِ لِمُجْتَهِدَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَلَا نَعْرِفُ مَذْهَبَهُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَذْهَبَيْنِ وَهَذَا مَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمَحْصُولِ " وَغَيْرِهِ (وَالثَّانِي) : يَجِبُ اعْتِقَادُ نِسْبَةِ أَحَدِهِمَا إلَيْهِ، وَرُجُوعِهِ عَنْ الْآخَرِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ دُونَ نِسْبَتِهِمَا جَمِيعًا، وَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِمَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ كَالنَّصَّيْنِ إذَا عَلِمْنَا نَسْخَ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَكَالرَّاوِي إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مِنْ شَيْئَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ الْآمِدِيَّ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ عَمَلِ الْفُقَهَاءِ (وَالثَّالِثِ) : أَنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ، وَحُكْمُهُمَا التَّخْيِيرُ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ": وَهَذَا بَنَاهُ الْقَاضِي عَلَى

اعْتِقَادِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ، لَكِنْ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْقَوْلَانِ بِتَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ، وَيَسْتَحِيلُ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا وَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ دُونِ تَرْجِيحٍ قَلِيلٌ، حَتَّى نَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ إلَّا سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ ": إلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا، سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ وَوَقَعَ فِي الْمَحْصُولِ " ذَلِكَ لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَجَزَمَ بِأَنَّهَا سَبْعَةَ عَشَرَ، وَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، لَكِنْ رَأَيْتُ بِخَطِّ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا انْتَخَبَهُ مِنْ كِتَابِ شَرْحِ التَّرْتِيبِ " لِلْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ مَا لَفْظُهُ: كَانَ أَبُو حَامِدٍ يَذْكُرُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَبْلُغُ مَا لَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ أَقَاوِيلُهُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ، وَالْبَاقِيَ كُلَّهَا قَطَعَ فِيهَا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْأَقَاوِيلِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِهَا: وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْحَقِّ، وَفِي بَعْضِهَا: وَهُوَ الْأَقْيَسُ، وَفِي بَعْضِهَا: وَهُوَ أَوْلَاهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقَطْعِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَبْلُغُ عَشَرًا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ إلَّا سِتَّةَ عَشَرَ، قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ مِنْهُمَا وَمَاتَ قَبْلَ بَيَانِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَيَّنَ لَهُ وَكَانَ مُتَوَقِّفًا فِيهِمَا فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَكُونَا مَذْهَبَيْنِ فَلَيْسَ لِذِكْرِهِمَا فِي مَوْضِعٍ وَاخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا مَعْنًى، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِمَا فَلَيْسَ لِذِكْرِهِمَا فَائِدَةٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُمَا لَيُعَلِّمَ أَصْحَابَهُ طُرُقَ اسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ وَالِاجْتِهَادِ، وَبَيَانَ مَا يُصَحِّحُ الْعِلَلَ وَيُفْسِدُهَا، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُبَيِّنَ مَدَارِكَ الْأَحْكَامِ كَمَا يُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ، وَلِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ مَا عَدَاهُمَا بَاطِلٌ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهِمَا (انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي)

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إنَّمَا يَذْكُرُ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ نَظَرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّهُ فِي مُدَّةِ النَّظَرِ وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى الْوَقْفِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَذَلِكَ غَايَةُ الْوَرَعِ وَهُوَ دَأْبُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ قَالَ: وَيُتَّجَهُ فِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ: (أَحَدِهَا) : أَنَّ الْمُفْتِيَ إنَّمَا يُفْتِي بِالْحُكْمِ لَا بِالتَّرَدُّدِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ قَرِيبٌ مِنْ سِتِّينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ عَلَى مَا حَكَى بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا جَمْعُ الْقَوْلِ مُتَرَدِّدٌ فِي بِضْعِ عَشْرَةِ مَسْأَلَةٍ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ يُوجَدُ مِنْهُ حُكْمُ هَذَا التَّرَدُّدِ (الثَّانِي) : إنْ كَانَ حَاصِلُهُ التَّرَدُّدَ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهَا؟ وَجَوَابُهُ: لَهُ خَمْسُ فَوَائِدَ: (1) - وَضْعُ تَصْوِيرِ الْمَسَائِلِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ صَعْبٌ (2) - وَالتَّحْرِيكُ لِدَاعِيَةِ النَّظَرِ فِيهَا (3) - وَحَثُّهُ لِأَصْحَابِهِ لِتَخْرِيجِهَا عَلَى أَشْبَهِ أُصُولِهِ (4) - وَإِنَّهُ يَكْفِي مُؤْنَةَ النَّظَرِ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ سِوَى مَا ذَكَرَهُ (5) - وَذَكَرَ تَوْجِيهَهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ وَجْهَ كُلٍّ، فَتَحْصُلُ مَعْرِفَةُ الْأَدِلَّةِ وَمَدَارِكُ الْعُلَمَاءِ، وَيَهُونُ النَّظَرُ فِي طَلَبِ التَّرْجِيحِ فَإِنَّ طَلَبَ التَّرْجِيحِ وَحْدَهُ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ فَعَلَى كُلِّ نَاظِرٍ فِي الْمَسْأَلَةِ هَذِهِ الْوَظَائِفُ الْخَمْسُ تَصْوِيرُهَا وَطَلَبُ الِاحْتِمَالَاتِ فِيهَا، وَحَصْرُ مَا يَنْقَدِحُ مِنْ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ وَطَلَبُ أَدِلَّتِهَا وَطَلَبُ التَّرْجِيحِ وَالشَّافِعِيُّ قَامَ بِالْوَظَائِفِ الْأَرْبَعِ وَلَمْ يَتْرُكْ إلَّا الْخَامِسَةَ، فَكَيْفَ تُنْكِرُ فَائِدَةَ الْقَوْلَيْنِ؟ . ، (الثَّالِثِ) : مَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا قَوْلَ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: لَهُ قَوْلَانِ؟ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ

يُقَالَ: لِفُلَانٍ فِي الْحَادِثَةِ رَأْيَانِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا انْتَهَى وَكَذَلِكَ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ": لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ ذِكْرُهُ لَهَا وَاسْتِقْصَاؤُهُ وُجُوهَ الْأَشْبَاهِ فِيهَا. (الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعَيْنِ، بِأَنْ يَنُصَّ فِي مَوْضِعٍ عَلَى إبَاحَةِ شَيْءٍ، وَفِي آخَرَ عَلَى تَحْرِيمِهِ - فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ الْمُتَأَخِّرَ مِنْهُمَا فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَيَكُونُ الْأَوَّلُ مَرْجُوعًا عَنْهُ، وَيَجْعَلُ الْأَوَّلَ كَالْمَنْسُوخِ فَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ قَوْلًا لَهُ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنُصَّ عَلَى الرُّجُوعِ، فَلَوْ لَمْ يَنُصَّ فِي الْجَدِيدِ الرُّجُوعَ عَنْ الْقَدِيمِ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا حَكَاهُ الشَّيْخُ وَكَذَا الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ إذَا خَالَفَ الْآخِرُ الْأَوَّلَ، هَلْ يَكُونُ الْآخِرُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) : أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَنُصُّ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَهُمَا مُتَعَاقِبَيْنِ وَ (الثَّانِي) : يَكُونُ رُجُوعًا وَلَمْ يُرَجِّحْ الرَّافِعِيُّ شَيْئًا وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ الْأَوَّلُ مَذْهَبًا بِهِ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فَوَجْهَانِ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ رُجُوعٌ إلَّا فِي مَسَائِلَ مُسْتَثْنَاةٍ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، لِقِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، قَالَ سُلَيْمٌ: وَيَكُونُ إضَافَةُ الْقَدِيمِ إلَيْهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ قَالَهُ فِي وَقْتٍ، لَا عَلَى وَجْهٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْآخِرِ.

كَمَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي إضَافَةِ الرِّوَايَتَيْنِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا قُلْت: وَقَدْ صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْقَدِيمَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالرُّجُوعِ عَمَّا فِيهِ، فَلَا يَبْقَى لِلتَّفْصِيلِ السَّابِقِ وَجْهٌ نَعَمْ، هَذَا يُشْكِلُ عَلَى أَصْحَابِنَا فِي مَسَائِلَ عَمِلُوا بِهَا عَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ لَمْ يَجِدُوا فِي الْجَدِيدِ مَا يُخَالِفُهَا - وَإِمَّا أَنْ يُجْهَلَ الْحَالُ وَلَا يُعْلَمُ التَّارِيخُ، فَإِنْ بَيَّنَ اخْتِيَارَهُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ مَذْهَبُهُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ فَالْوَقْفُ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْوَقْفُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) : أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ الْوَقْفُ عَنْ الْحُكْمِ بِأَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ مَذْهَبُهُ وَ (الثَّانِي) : أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ وَاقِفٌ غَيْرُ حَاكِمٍ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا الثَّانِي إنَّمَا يَقْوَى إذَا قَالَهُمَا الْمُجْتَهِدُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ وَحِينَئِذٍ فَيُحْكَى عَنْهُ قَوْلَانِ مِنْ غَيْرِ الْحُكْمِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالتَّرْجِيحِ وَقَدْ وَقَعَ الْحَالَانِ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ: أَمَّا الْعِلْمُ فَلِأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ الْمُجْتَهِدُ عِلْمًا وَتَدْقِيقًا كَانَ نَظَرُهُ أَتَمَّ، وَاطِّلَاعُهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ أَعَمَّ. وَأَمَّا الدِّينُ، فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ إذَا ظَهَرَ لَهُ وَجْهُ الرُّجْحَانِ أَقَامَ عَلَى مَقَالَتِهِ الْأُولَى، بَلْ صَرَّحَ عَلَى بُطْلَانِهَا وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنْ تَشْنِيعَ الْخَصْمِ بَاطِلٌ وَقَدْ صَنَّفَ أَصْحَابُنَا فِي نُصْرَةِ الْقَوْلَيْنِ، مِنْهُمْ ابْنُ الْقَاصِّ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَالرُّويَانِيُّ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ وَقَدْ سَبَقَ بِذَلِكَ السَّلَفُ، فَإِنَّ عُمَرَ نَصَّ فِي الشُّورَى عَلَى سِتَّةٍ وَحَصَرَ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ، تَنْبِيهًا عَلَى حَصْرِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ أَحَدٌ عَلَيْهِ

وَاعْلَمْ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَرَجَّحَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخِرِ بِأُمُورٍ: (مِنْهَا) : أَنْ تَكُونَ أُصُولُ مَذْهَبِهِ مُوَافِقَةً دُونَ الْآخَرِ فَيَكُونُ هُوَ الْمَذْهَبُ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَ (مِنْهَا) : أَنْ يُكَرَّرَ أَحَدُهُمَا أَوْ يُفَرَّعَ عَلَيْهِ فَهَلْ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْآخَرِ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَنَسَبَ ابْنُ كَجٍّ الرُّجُوعَ فِي حَالَةِ التَّفْرِيعِ إلَى الْمُزَنِيّ قَالَ: وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَجَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهُ رُجُوعٌ فِي التَّفْرِيعِ، وَحَكَى خِلَافَ الْمُزَنِيّ فِي التَّكْرِيرِ وَقَالَ: خَالَفَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيّ فَقَالَ: هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَهُ قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيّ هُوَ الصَّحِيحُ وَكَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَ (مِنْهَا) : مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: مَا يُخَالِفُهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْجَحُ، وَعَكَسَ الْقَفَّالُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ وَالْأَصَحُّ: التَّرْجِيحُ بِالنَّظَرِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحٌ فَالْوَقْفُ وَ (مِنْهَا) : أَنْ يَنُصَّ عَلَى أَحَدِهِمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِذَلِكَ الْقَوْلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ قَبْلَ الدِّيَاتِ، وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْقَاضِي والماوردي أَنَّهُ قَسَمَ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِسْمًا: أَحَدِهَا: أَنْ يُقَيِّدَ جَوَابَهُ فِي مَوْضِعٍ وَيُطْلِقَهُ فِي آخَرَ كَقَوْلِهِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُرِيدُ مَعَ لَيْلَتِهِ فَحَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَكِنْ لَا يُقَالُ: لَهُ قَوْلَانِ وَإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ ثَانِيهَا: أَنْ تَخْتَلِفَ أَلْفَاظُهُ مَعَ اتِّفَاقِ مَعَانِيهَا مِنْ وَجْهٍ وَاخْتِلَافِهَا مِنْ وَجْهٍ فَغَلَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا حُكْمَ الِاخْتِلَافِ وَلَمْ يُغَلِّبْ حُكْمَ الِاتِّفَاقِ،

فَخَرَّجَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ فِي الْمُظَاهِرِ: أُحِبُّ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ الْقُبْلَةِ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: رَأَيْت ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ حَمْلُهُ عَلَى الْإِيجَابِ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ، فَحَمْلُهَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ أَوْلَى ثَالِثِهَا: أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُ، لِاخْتِلَافِ حَالَيْهِ كَصَدَاقِ السِّرِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ بِاعْتِبَارِهِ، وَفِي مَوْضِعٍ بِاعْتِبَارِ الْعَلَانِيَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَإِنْ اقْتَرَنَ الْعَقْدُ بِصَدَاقِ السِّرِّ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ، وَإِلَّا فَعَكْسُهُ رَابِعِهَا: لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ، كَتَرَدُّدِهِ فِي نَقْضِ الْمَلْمُوسِ لِأَجْلِ " لَمَسْتُمْ " أَوْ " لَامَسْتُمْ " وَكَاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَهُ خَامِسِهَا: لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي أَحَدِهِمَا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ثُمَّ بَلَغَتْهُ سُنَّةٌ نَقَلَتْهُ عَنْ الْأَوَّلِ، كَصِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ثُمَّ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ صِيَامِهَا فَأَوْجَبَ صِيَامَهَا بَعْدَ إحْرَامِهِ وَقِيلَ: يَوْمَ عَرَفَةَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَمِثْلُ هَذَا قَالَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى سَادِسِهَا: لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ ثُمَّ بَلَغَتْهُ سُنَّةٌ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ فَجَعَلَ مَذْهَبَهُ مِنْ بَعْدُ مَوْقُوفًا عَلَى ثُبُوتِ السُّنَّةِ، كَالصِّيَامِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالْغُسْلِ مِنْ غَسْلِهِ. سَابِعِهَا: أَنْ يَقْصِدَ بِذَكَرِهِمَا إبْطَالَ مَا عَدَاهُمَا، فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ مَقْصُودًا عَلَيْهِمَا وَلَا يَعْدُوهُمَا ثَامِنِهَا: أَنْ يَقْصِدَ بِذِكْرِهِمَا إبْطَالَ مَا يَتَوَسَّطُهُمَا، وَيَكُونُ مَذْهَبُهُ مِنْهُمَا مَا حَكَمَ بِهِ، وَفُرِّعَ عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ، وَقَدْ قَدَّرَهَا مَالِكٌ بِالثُّلُثِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ: إمَّا أَنْ يُوضَعَ جَمِيعُهَا، أَوْ لَا يُوضَعَ شَيْءٌ مِنْهَا تَاسِعِهَا: أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُتَّفِقَتَيْنِ فَخَرَّجَهُمَا أَصْحَابُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ

وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَمْ يَسَعْ التَّخْرِيجُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَمْ يَخْلُ قَوْلَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَا فِي وَقْتٍ أَوْ وَقْتَيْنِ، فَإِنْ كَانَا فِي وَقْتٍ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ فِيهَا بِقَوْلٍ آخَرَ، فَيَكُونُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ قَالَهُمَا فِي وَقْتٍ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي قَوْلِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَاشِرِهَا: لِأَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ بِهِ ثُمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى الْآخَرِ فَعَدَلَ إلَيْهِ، فَمَذْهَبُهُ الثَّانِي، وَلَا يُرْسِلُ الْقَوْلَيْنِ إلَّا بَعْدَ التَّقْيِيدِ بِالْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ. حَادِيَ عَشَرَهَا: أَنْ يَكُونَ قَالَ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلٍ فِي مَوْضِعٍ وَقَالَ فِيهَا بِقَوْلٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَيُخَرِّجُهَا أَصْحَابُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ النَّقْلُ صَحِيحًا فَهُوَ فِي إضَافَتِهِمَا إلَيْهِ عَلَى التَّسَاوِي غَلَطٌ، وَيُنْظَرُ إنْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا فَالْعَمَلُ لِلْمُتَأَخِّرِ، وَإِنْ جَهِلَ تَوَقَّفَ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِأَحَدِهِمَا مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِ مَا يُوَافِقُهُ، فَيَكُونُ هُوَ الْمَذْهَبُ فَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَالَ الْمُزَنِيّ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ: إنَّ الْمُتَكَرِّرَ وَذَا التَّفْرِيعِ مَذْهَبُهُ دُونَ الْآخَرِ ثَانِيَ عَشَرَهَا: أَنْ يَذْكُرَهُمَا حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُمَا إلَيْهِ وَمَثَّلَهُ ابْنُ كَجٍّ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْوَلَاءِ، قَالَ طَائِفَةٌ بِكَذَا، وَقَالَتْ طَائِقَةٌ بِكَذَا ثُمَّ قَطَعَ بِأَحَدِ الْأَقْوَالِ، فَإِنْ أَشَارَ إلَيْهِمَا بِالْإِنْكَارِ كَانَ الْحَقُّ عِنْدَهُ فِي غَيْرِهِمَا، أَوْ بِالْجَوَازِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عِنْدَهُ فِيهِمَا وَفِي غَيْرِهِمَا أَوْ بِالِاخْتِيَارِ فِيهِمَا ثَالِثَ عَشَرَهَا: أَنْ يَذْكُرَهُمَا مُعْتَقِدًا لِأَحَدِهِمَا وَزَاجِرًا بِالْآخَرِ، كَمَا فَعَلَ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ، وَفِي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَعَبَّرَ عَنْهُ الشَّيْخُ نَصْرٌ فَقَالَ: أَنْ يَذْكُرَ أَحَدَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ وَمَذْهَبُهُ الْأَخِيرُ رَابِعَ عَشَرَهَا: أَنْ يَقُولَهُمَا فِي مَوْضِعٍ، فَإِنْ نَبَّهَ عَلَى اخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا

فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَزَادَ الْغَزَالِيُّ أَنْ يَذْكُرَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ، وَأَنْ يَذْكُرَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا عَلَى الْبَدَلِ لَا الْجَمْعِ وَقَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَنْكَرَهُ جَمِيعُ الْأَصْحَابِ، وَلَيْسَ عِنْدِي بِمُنْكَرٍ، بَلْ مُتَّجَهٌ قُلْت: ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ كَمَا سَبَقَ مَسْأَلَةٌ إذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ بِقَوْلٍ ثُمَّ قَالَ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ كَذَا وَكَذَا كَانَ مَذْهَبًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ قَوْلًا لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ احْتِمَالٍ فِي الْمَسْأَلَةِ وَوَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُجْتَهِدِ قَوْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، لَكِنْ لَهُ قَوْلٌ فِي نَظِيرِهَا وَلَمْ يُعْلَمْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَهُوَ الْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّخْرِيجُ حَيْثُ أَمْكَنَ الْفَرْقُ، كَمَا قَالَ ابْنُ كَجٍّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَأَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي التَّبْصِرَةِ " إلَى خِلَافٍ فِيهِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ لِلشَّافِعِيِّ مَا يَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِهِ فَيُجْعَلُ قَوْلًا لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ قَوْلِهِمَا فَكَذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى صَاحِبِ الْمَذْهَبِ مَا يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ قَوْلِهِ؟ قُلْنَا: مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ فِي الشَّرْعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ، وَلَا قَوْلُ رَسُولِهِ

وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَذَا دِينُ اللَّهِ وَدِينُ رَسُولِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ دَلَّ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَرْعٌ الْأَوْجُهُ الْمَحْكِيَّةُ عَنْ الْأَصْحَابِ هَلْ تُنْسَبُ إلَى الشَّافِعِيِّ؟ لَمْ أَرَ فِيهَا كَلَامًا وَيُشْبِهُ تَخْرِيجُهَا عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَكُونُ عَلَى طَرِيقِ التَّرْتِيبِ، وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهُمْ يُخَرِّجُونَهَا عَلَى قَوَاعِدَ عَامَّةٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ إنَّمَا يَكُونُ فِي صُوَرٍ خَاصَّةٍ.

فَصْلٌ وَأَمَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ نَقْطَعُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُمَا بِالنَّصِّ عَلَيْهِمَا، بِخِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ جَاءَ مِنْ جِهَةِ النَّاقِلِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُدَوِّنْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَلْعَمِيُّ فِي الْغَرَرِ ": الِاخْتِلَافُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ وُجُوهٍ: (مِنْهَا) : الْغَلَطُ فِي السَّمَاعِ، كَأَنْ يُجِيبَ بِحَرْفِ النَّفْيِ إذَا سُئِلَ عَنْ حَادِثَةٍ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ، فَيُشْتَبَهُ عَلَى الرَّاوِي فَيَنْقُلُ مَا سَمِعَ وَ (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ لِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلٌ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ يَعْلَمُ بَعْضُ مَنْ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ رُجُوعَهُ عَنْهُ، فَيَرْوِي الْقَوْلَ الثَّانِيَ وَالْآخَرُ لَمْ يَعْلَمْهُ فَيَرْوِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَ (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الثَّانِيَ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ، فَيَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فَيَنْقُلُ كَمَا سَمِعَ وَ (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، وَمِنْ جِهَةِ الْبَرَاءَةِ لِلِاحْتِيَاطِ، فَيَذْكُرُ الْجَوَابَ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ، وَمِنْ جِهَةِ الِاحْتِيَاطِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَيَنْقُلُ كَمَا سَمِعَ قَالَ: وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَالرِّوَايَتَيْنِ، فَهُوَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الرِّوَايَةِ وَقَعَ مِنْ جِهَةِ النَّاقِلِ دُونَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ، فَأَبُو حَنِيفَةَ حَصَلَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلَيْنِ وَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا فَعَجَبٌ انْتَهَى.

الفصل الثاني في الترجيح

[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّرْجِيحِ] ِ وَهُوَ تَقْوِيَةُ إحْدَى الْإِمَارَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى بِمَا لَيْسَ ظَاهِرًا مَأْخُوذٌ مِنْ رُجْحَانِ الْمِيزَانِ وَفَائِدَةُ الْقَيْدِ الْأَخِيرِ أَنَّ الْقُوَّةَ لَوْ كَانَتْ ظَاهِرَةً لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّرْجِيحِ قَالَ إلْكِيَا: التَّرْجِيحُ إظْهَارُ الزِّيَادَةِ لِأَحَدِ الْمِثْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَصْلًا مَأْخُوذٌ مِنْ رَجَّحْت الْوَزْنَ إذَا زِدْتَ جَانِبَ الْمَوْزُونِ حَتَّى مَالَتْ كِفَّتُهُ وَلَوْ أَفْرَدْتَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَزْنِ لَمْ يَقُمْ بِهَا الْوَزْنُ فِي مُقَابِلَةِ الْكِفَّةِ الْأُخْرَى قُلْت: هَذَا حَدٌّ لِلْمُرَجِّحِ لَا لِلتَّرْجِيحِ، وَقِيلَ: بَيَانُ اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ بِمَزِيدِ قُوَّةٍ عَنْ مُقَابِلِهِ لِيَعْمَلَ بِالْأَقْوَى وَرَجَحَ عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ التَّرْجِيحَ يَجْرِي فِي الظَّوَاهِرِ وَالْأَخْبَارِ تَارَةً، وَفِي الْمَعَانِي أُخْرَى فَالتَّعْرِيفُ الْأَوَّلُ يَخْرُجُ مِنْهُ الْأَخْبَارُ وَالظَّوَاهِرُ، لِاخْتِصَاصِ اسْمِ الْأَمَارَةِ بِالْمَعَانِي، وَهَذَا مُنْدَفِعٌ بِالْغَايَةِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأُولَى أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ التَّرْجِيحُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَإِهْمَالُ الْآخَرِ، لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَخْبَارِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ التَّرْجِيحَ فِي الْأَدِلَّةِ، كَمَا يَنْبَغِي فِي الْبَيِّنَاتِ، وَقَالَ: عِنْدَ التَّعَارُضِ يَلْزَمُ التَّخْيِيرُ أَوْ الْوَقْفُ قَالَ الْإِمَامُ: وَقَدْ حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ الْبَصْرِيِّ الْمُلَقَّبِ بِ " جُعَلٍ " قَالَ: وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ مَعَ بَحْثِي عَنْهَا وَلَعَلَّ الْقَاضِيَ أَلْزَمَهُ

إنْكَارَ الرَّاجِحِ إلْزَامًا، عَلَى مَذْهَبِهِ فِي إنْكَارِ التَّرْجِيحِ فِي الْبَيِّنَاتِ وَاسْتَبْعَدَ الْإِبْيَارِيُّ وُقُوعَ الْقَاضِي فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ بِبَعِيدٍ، لِلْخِلَافِ فِي أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ؟ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي وَجَدَ لَهُ نَصًّا فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ بَلْ أَلْزَمَهُ بِجَعْلِهِ مَذْهَبًا لَهُ فَصَحِيحٌ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ وَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ التَّرْجِيحَ الثَّانِيَةُ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا كَانَ التَّرْجِيحُ مَعْلُومًا أَوْ مَظْنُونًا قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالتَّرْجِيحِ الْمَظْنُونِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ امْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَظْنُونِ، وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الظُّنُونُ الْمُسْتَقِلَّةُ بِأَنْفُسِهَا، لِانْعِقَادِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهَا، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ وَالتَّرْجِيحُ عَمَلُ نَظَرٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ دَلِيلًا، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ كَمَا انْعَقَدَ عَلَى الْمُسْتَقِلِّ. الثَّالِثَةُ أَنَّ الْمَرْجُوحَ هَلْ هُوَ كَالْعَدَمِ شَرْعًا، أَمْ نَجْعَلُ لَهُ أَثَرًا؟ يَخْرُجُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِيهِ خِلَافٌ، وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي الْأَوَّلَ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الثَّانِيَ وَادَّعَى الْإِبْيَارِيُّ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ كَالْعَدَمِ لَمَا ضَعُفَ الظَّنُّ بِالرَّاجِحِ، وَلِذَلِكَ لَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ عَلَى ظَنِّهِ فِي الرَّاجِحِ، بِمَثَابَةِ مَا لَوْ كَانَ الرَّاجِحُ مُنْفَرِدًا، بَلْ ظَنًّا بِالرَّاجِحِ إذَا لَمْ يُعَارِضْ أَقْوَى مِنْ ظَنِّنَا بِهِ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ وَخَالَفَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمَرْجُوحَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ.

شروط الترجيح

[شُرُوطٌ التَّرْجِيحِ] ثُمَّ لِلتَّرْجِيحِ شُرُوطٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بَيِّنَ الْأَدِلَّةِ، فَالدَّعَاوَى لَا يَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ وَانْبَنَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّهَا دَعَاوَى مَحْضَةٌ تَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَالتَّرْجِيحُ بَيَانُ اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ بِمَزِيدِ قُوَّةٍ فَلَيْسَ هُوَ دَلِيلًا، وَإِنَّمَا هُوَ قُوَّةٌ فِي الدَّلِيلِ وَحَكَى عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي الْعُمْدَةِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ دُخُولَ التَّرْجِيحِ مِنْهَا، وَضَعُفَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ يَنْشَأُ مِنْ مُنْتَهَى الدَّلِيلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا لَمْ يَثْبُتْ التَّرْجِيحُ وَالْحَقُّ أَنَّ التَّرْجِيحَ يَدْخُلُ الْمَذَاهِبَ بِاعْتِبَارِ أُصُولِهَا وَنَوَادِرِهَا وَبَيَانِهَا، فَإِنَّ بَعْضَهَا قَدْ يَكُونُ أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ جَرَى التَّرْجِيحُ فِي الْبَيِّنَاتِ وَأَمَّا إذَا تَعَارَضَ عِنْدَ عَامِّيٍّ قَوْلُ مُجْتَهِدَيْنِ، وَقُلْنَا: يَجِبُ تَقْلِيدُ الْأَعَمِّ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ. الثَّانِي: قَبُولُ الْأَدِلَّةِ التَّعَارُضَ فِي الظَّاهِرِ، وَيُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ: (أَحَدُهَا) : أَنَّهُ لَا مَجَالَ لَهُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ، لِأَنَّ التَّرْجِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْوِيَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَيْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِحَّتُهُ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ مَقْطُوعٌ بِهَا فَلَا يُفِيدُ التَّرْجِيحُ فِيهَا شَيْئًا وَمَا يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّمَا هُوَ تَعَارُضٌ بَيْنَ دَلِيلٍ وَشِبْهِهِ، وَهَذَا وَإِنْ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ لَكِنْ سَبَقَ أَنَّ التَّعَادُلَ بَيْنَ الْقَطْعِيَّيْنِ مُمْكِنٌ فِي الْأَذْهَانِ، فَهَلَّا قِيلَ: يَتَطَرَّقُ التَّرْجِيحُ إلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّعَارُضِ، كَمَا فِي الْأَمَارَاتِ ثُمَّ رَأَيْت أَبَا الْحُسَيْنِ صَرَّحَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْلُومَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ، وَلَا شَكَّ فِي جَرَيَانِ هَذَا النَّصِّ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، فَإِنَّ مَا مُقَدَّمَاتُهُ أَعْلَى وَأَوْضَحُ رَاجِحًا عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَرَأَيْت الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُلُومَ لَا تَتَفَاوَتُ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ سَبَقَتْ أَوَّلَ الْكِتَابِ

وَ (الثَّانِيَةُ) : قِيلَ: إنَّ الظَّنِّيَّاتِ لَا تَتَعَارَضُ، وَالْمُرَادُ بِهِ اجْتِمَاعُ ظَنَّيْنِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ بِأَمَارَتَيْنِ وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ (تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ) عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ التَّرْجِيحُ فِي الْأَقْيِسَةِ الْمَظْنُونَةِ وَتَأَوَّلْنَاهُ. (الثَّالِثَةُ) : لَا مَجَالَ لَهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، أَعْنِي التَّقْلِيدَ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ إطْلَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَحَكَاهُ فِي الْمَنْخُولِ " عَنْ الْأُسْتَاذِ وَقَالَ: هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى أَنَّهَا مَعَارِفُ، وَلَا تَرْجِيحَ فِي الْمَعَارِفِ، قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْعَقَائِدَ يُرَجَّحُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عُلُومًا وَالثِّقَةُ بِهَا مُخْتَلِفَةٌ وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَيْنَ عَقَائِدِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَيَجُوزُ فِي عَقَائِدِ الْعَامَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالِاعْتِقَادِ لَا بِالْعِلْمِ وَقَالَ الْأُرْمَوِيُّ: الْحَقُّ أَنَّا إنْ جَوَّزْنَا لِلْعَوَامِّ التَّقْلِيدَ فِيهَا لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ النَّفِيسِ فِي الْإِيضَاحِ ": يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مُخْتَصًّا بِالْبُرْهَانِيَّةِ مِنْهَا أَمَّا الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْحُجَجُ الظَّنِّيَّةُ فَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِهِ فِيهَا وَكَذَا قَالَ الْهِنْدِيُّ: الْقَطْعِيُّ مِنْهَا لَا يَقْبَلُ التَّرْجِيحَ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِهِ، بَلْ الْقَطْعِيَّاتُ الشَّرْعِيَّاتُ أَيْضًا لَا تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّرْجِيحِ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُخَالِفُونَهُمْ وَتَابَعَهُمْ فِي الْمَحْصُولِ " وَشَرَطُوا أَنْ لَا يُمْكِنَ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَمْكَنَ، وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ، امْتَنَعَ، بَلْ يُصَارُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ إلْقَاءِ أَحَدِهِمَا، وَالِاسْتِعْمَالُ أَوْلَى مِنْ التَّعْطِيلِ قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": الْعَمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَتَرْكِ الْآخَرِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ عَلَى بَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ تَابِعَةٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى كُلِّهَا، لِأَنَّ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ تَابِعَةٌ لِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ،

وَتَرْكُ التَّبَعِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ فَإِذَا عَمِلْنَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَقَدْ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِالدَّلَالَةِ التَّضْمِينِيَّةِ، وَإِنْ عَمِلْنَا بِأَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي فَقَدْ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِالدَّلَالَةِ السَّمْعِيَّةِ إذَا عَلِمْت هَذَا فَالْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدِهَا) : تَوْزِيعُ مُتَعَلَّقِ الْحُكْمِ إنْ أَمْكَنَ، كَمَا تُقْسَمُ الدَّارُ الْمُدَّعَى مِلْكُهَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ (ثَانِيهَا) : يَنْزِلُ عَلَى الْأَحْكَامِ بَعْضُ كُلِّ وَاحِدٍ عِنْدَ التَّعَدُّدِ، بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقْتَضِيًا أَحْكَامًا، فَيَعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَعْضِهَا، وَبِالْآخِرِ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، كَالنَّهْيِ عَنْ الشُّرْبِ وَالْبَوْلِ قَائِمًا ثُمَّ فَعَلَهُ، فَإِنَّ فِعْلَهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْحَرَجِ، وَنَهْيُهُ بِالْعَكْسِ فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى عَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْفِعْلُ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ وَكَنَهْيِهِ عَنْ الِاغْتِسَالِ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ فَعَلَهُ مَعَ عَائِشَةَ (ثَالِثِهَا) : التَّنْزِيلُ عَلَى بَعْضِ الْأَحْوَالِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، كَقَوْلِهِ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ خَيْرِ الشُّهُودِ؟ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَشْهِدَ» وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَشْهِدَ» فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي عَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّينَ.

وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَطْبَقَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ، أَعْنِي الْجَمْعَ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ دَلِيلٍ، وَعَزَوْا ذَلِكَ إلَى تَعَارُضِ الْقِرَاءَتَيْنِ، كَقِرَاءَةِ " أَرْجُلَكُمْ " بِالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ، فَحَمَلُوا إحْدَاهُمَا عَلَى مَسْحِ الْخُفِّ وَالْأُخْرَى عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ " يَطْهُرْنَ " وَ " يَطَّهَّرْنَ " إحْدَاهُمَا عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَالْأُخْرَى عَلَى الْعَشَرَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْأُصُولِيِّينَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " فَقَالَ: إذَا تَعَارَضَ عَامَّانِ، فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا فِي حَالَيْنِ اُسْتُعْمِلَا، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ وَكَذَا قَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ": إذَا وَرَدَ مِثْلُ " اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ "، " لَا تَقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ، فَيُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ، وَيَخُصُّ فِي الثَّانِي وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ فِيهِمَا وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ: هُوَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَهُمَا دَلِيلًا فِي تَخْصِيصِ التَّالِي، وَالثَّانِيَ فِي تَخْصِيصِ الْأَوَّلِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَهَذَا تَابَعَ فِيهِ الْقَاضِي، ثُمَّ قَالَ: وَكَأَنَّ الْفُقَهَاءَ رَأَوْا تَصَرُّفًا فِي الظَّوَاهِرِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا عَلَى تَعَارُضِهِمَا إلَّا أَنْ يَتَّجِهَ تَأْوِيلٌ وَيَنْتَصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَكَأَنَّ الْإِمَامَ ظَنَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَحَكَّمُونَ بِتَعْيِينِ صُورَةٍ مِنْ صُورَةٍ حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ ثَابِتَةً وَهَذِهِ مُخْرَجَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ صَنِيعُهُمْ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ مَعَ الْإِمْكَانِ خَيْرٌ مِنْ التَّعْطِيلِ وَالْقَائِلُ بِالتَّعَارُضِ عَطَّلَهُمَا جَمِيعًا، وَالْقَائِلُ بِتَخْصِيصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِبَعْضِ صُوَرِهِ عَمِلَ بِهِمَا جَمِيعًا حَسَبَ إمْكَانِهِ ثُمَّ لَهُمْ فِي التَّعْيِينِ طَرِيقَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صُوَرَ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ تَتَفَاوَتَ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَتَعْيِينُ الْفُقَهَاءِ أَوْلَى الصُّوَرِ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَيَّنُوا الْقِسْمَ الْآخَرَ لَزِمَ عُمُومُ الْحُكْمِ ضَرُورَةَ أَنَّ ثُبُوتَهُ فِي الْأَدْنَى يَقْتَضِي

ثُبُوتَهُ فِي الْأَعْلَى، مِثَالُهُ: إذَا قَابَلْنَا بَيْنَ حَدِيثِ «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» مَعَ قَوْلِهِ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» كَانَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُقْبَلَ الْجِزْيَةُ مِنْ أَحَدٍ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي قَبُولَهَا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، فَإِذَا حَمَلْنَا كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى بَعْضِ صُوَرِهِ نَظَرْنَا فِي صُوَرِ الْكُفَّارِ وَجَدْنَاهَا قِسْمَيْنِ: كِتَابِيًّا وَغَيْرَ كِتَابِيٍّ، فَعَيَّنَّا الْكِتَابِيَّ لِلْجِزْيَةِ، وَغَيْرَهُ لِلسَّيْفِ وَلَيْسَ هَذَا احْتِكَامًا، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّخْصِيصِ وَجَدْنَا الْكِتَابِيَّ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يُسْتَبْقَى، إذْ لَهُ عَقِيدَةٌ مَا وَلِهَذَا أَجَازَ الشَّرْعُ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ دُونَ الْوَثَنِيَّاتِ، وَلِهَذَا لَمَّا نَشِبَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَمَنَّوْنَ نُصْرَةَ الرُّومِ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَمَنَّوْنَ نُصْرَةَ فَارِسٍ، لِأَنَّهُمْ مِثْلُهُمْ بِلَا كِتَابٍ فَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُعَيِّنُ الْفُقَهَاءُ صُوَرَ الْإِثْبَاتِ مِنْ صُوَرِ الْإِخْرَاجِ، لَا بِالِاحْتِكَامِ وَبِذَلِكَ يَزُولُ عَنْهُمْ أَلْسِنَةُ الطَّاعِنِينَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْإِبْيَارِيِّ: تَخْصِيصُ الْعُمُومَيْنِ تَعْطِيلٌ لَهُمَا فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: فِي الْجَمْعِ عَمَلٌ بِهِمَا فَهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِمَا إذَا تَعَارَضَ عَامٌّ وَخَاصٌّ، فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِهِمَا قُلْت: وَالتَّحْقِيقُ إنَّهُ إذَا لَمْ نَجِدْ مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا تَصَدَّى لَنَا الْإِلْغَاءُ وَالْجَمْعُ، وَالْأَلْيَقُ بِالشَّرْعِ الْجَمْعُ وَإِنْ وَجَدْنَا مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا فَالْمُتَعَلِّقُ هُوَ الْمُتَّبَعُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَلَى عُمُومِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ، فَقَالَ: لَا يَقْضِي بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقَضَاءِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ «حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ يُعْطُوا» إلَّا وَلِلْآخَرِ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى إحْدَى خِلَالٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِذْ تَعَارَضَا رَجَعْنَا إلَى دَلَالَةِ الْكِتَابِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ عُمَرُ مِنْ أَخْذِهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ.

وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ قَوْلَيْهِ فِي إتْمَامِ وُضُوءِ الْجَنَابَةِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ رِوَايَتَيْ عَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ بَلْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَائِشَةَ لِمُوَافَقَتِهِ تَشْرِيعَ الْعِبَادَةِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ فَإِنَّهُ اخْتَلَفَ قَوْلَاهُ فِي انْتِقَاضِ وُضُوءِ الْمَلْمُوسِ لِأَجْلِ تَعَارُضِ قِرَاءَةِ (لَمَسْتُمْ) وَ (لَامَسْتُمْ) وَرَجَّحَ النَّقْضَ بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: لَمَّا كَثُرَ عَلَى عَادَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ طَرِيقَةُ الْجَمْعِ وَتَقْدِيمُهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّرْجِيحِ أَخَذَهَا الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ " مُسَلَّمَةً وَزَادَ فِيهَا قَيْدًا فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي فِيمَا إذَا كَانَ التَّأْوِيلُ فِي طَرِيقَةِ الْجَمْعِ مَقْبُولًا عِنْدَ النَّفْسِ مُطْمَئِنَّةً بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْأَشْبَهُ تَقْدِيمُ رُتْبَةِ التَّرْجِيحِ عَلَى رُتْبَةِ الْجَمْعِ، فَيُنْظَرُ إلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الرُّوَاةِ بِحَسَبِ حَالِهِمْ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّرْجِيحِ هُوَ سُكُونُ النَّفْسِ، وَسُكُونُهَا إلَى احْتِمَالِ الْغَلَطِ فِي بَعْضِهِمْ أَقْوَى مِنْ سُكُونِهَا إلَى التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَبْعَدَةِ الْمُسْتَنْكَرَةِ عِنْدَهَا، لَا سِيَّمَا مَعَ مَنْ كَانَتْ رِوَايَتُهُ خَطَأً قَالَ: فَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيِي وَنَظَرِي، وَلَا أَقُولُ هَذَا فِي كُلِّ تَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ مَرْجُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ حَيْثُ يَشْتَدُّ اسْتِكْرَاهُهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ " فِي تَقْدِيرِ مَدَى حَوْضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَلَقَدْ سَمِعْت الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ يَقُولُ قَوْلًا أَوْجَبَتْهُ شَجَاعَةُ نَفْسِهِ، لَا أَرَى ذِكْرَهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا قُلْت: وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْخَ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْهِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَسَأَلْت عَنْهُمَا فَقَالَ: هُمَا قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ بَيْنَهُمَا

مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَأَجَابَ الشَّيْخُ: الْمُرَادُ بِالنَّاحِيَتَيْنِ فِي حَدِيثِ الْحَوْضِ الْمُقَدَّرُ بِمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى، نَاحِيَتَاهُ مِنْ الْعَرْضِ قُلْت: وَهَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، كَمَا زَعَمَهُ الشَّيْخُ، لِلْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَرْضِ وَالطُّولِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ» ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ رِوَايَاتٌ: (سَوَاءٌ) ، أَيْ: عَرْضُهُ وَطُولُهُ (سَوَاءٌ) . الثَّانِي: سَبَقَ أَنَّ طَرِيقَةَ التَّنْزِيلِ عَلَى حَالَتَيْنِ لَيْسَتْ عَلَى الْحُكْمِ، فَعَلَى هَذَا إذَا تَعَارَضَ الْخَبَرَانِ وَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِهِمَا فِي غَيْرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ قَالَ: وَهَذَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» عَلَى الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ، وَحَمَلُوا «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ» فَاسْتَعْمَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي الْمَرْأَتَيْنِ، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» عَلَى الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ، وَحَمَلُوا «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» عَلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَنَحْنُ نَسْتَعْمِلُهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهِيَ الْبَالِغَةُ، لِأَنَّا اسْتَفَدْنَا كَوْنَ الصِّغَارِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِنَّ إلَّا الْوَلِيُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ النِّكَاحِ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا كَانَ حَمْلُنَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةٍ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَرَجَّحَ بِالْمَزِيَّةِ الَّتِي لَا تَسْتَقِلُّ وَهَلْ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ الْمُسْتَقِلِّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) : نَعَمْ، كَالْمَزِيَّةِ، بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ الْمُسْتَقِلَّ أَقْوَى مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ وَ (الثَّانِي) : وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَعَزَاهُ إلَى الْأَكْثَرِينَ، الْمَنْعُ، لِأَنَّ الرُّجْحَانَ وَصْفٌ لِلدَّلِيلِ، وَالْمُسْتَقِلُّ لَيْسَ وَصْفًا لَهُ، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ دُونَهُ فَهُوَ

بَاطِلٌ لَا تَرْجِيحَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ فَهُوَ مُسْتَمْسِكٌ بِهِ لَا بِطَرِيقِ التَّرْجِيحِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ رَجَعَ الْبَحْثُ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْعَدَدِ، وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ إذَا تَمَاثَلَتْ سَقَطَ الزَّائِدُ، لِأَنَّ أَثَرَهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْمِثْلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَزِيَّةِ أَنَّ الْفَضْلَةَ مُسْتَغْنًى عَنْهَا لَا اتِّصَالَ لَهَا بِالدَّلِيلِ، بِخِلَافِ الدَّلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، بِنَاءً عَلَى رُجُوعِهِ إلَى أَوْصَافٍ لَا إلَى ذَوَاتٍ، وَهُوَ كَثْرَةُ النَّظَائِرِ، وَكَثْرَتُهَا وَصْفٌ فِي الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ الْمِزْيَةَ أَيْضًا مُسْتَغْنًى عَنْهَا وَلِهَذَا لَوْ فَرَضْنَا خُلُوَّ الدَّلِيلِ مِنْهَا لَاسْتَقَلَّ وَقَوْلُ النَّافِي: يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْمِثْلَيْنِ، مَمْنُوعٌ، بَلْ التَّقْوِيَةُ تَرْجِعُ إلَى التَّرْجِيحِ بِأَوْصَافٍ لَا بِذَوَاتٍ، وَهُوَ كَثْرَةُ النَّظَائِرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ فِي الدَّلِيلِ، وَكَأَنَّا رَجَّحْنَا بِالتَّأْكِيدِ لَا بِالتَّأْسِيسِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يُبْعِدُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ. وَفَصَّلَ صَاحِبُ الْمُقْتَرَحِ " فَقَالَ: إنْ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُسْتَقِلُّ مُغْنِيًا عَنْ الْأَوَّلِ لَمْ يَصِحَّ التَّرْجِيحُ بِهِ، لِأَنَّهُ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُغْنِيًا عَنْهُ صَحَّ التَّرْجِيحُ بِهِ، لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْهُ وَمَثَّلَ الْأَوَّلَ بِمَا إذَا تَمَسَّكَ بِقِيَاسٍ فَعُورِضَ بِقِيَاسٍ، فَرَجَحَ قِيَاسُهُ بِالنَّصِّ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ النَّصَّ الَّذِي رَجَحَ بِهِ يُغْنِي عَنْ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْقِيَاسِ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ وَمَثَّلَ الثَّانِيَ بِمَا إذَا تَمَسَّكَ بِنَصٍّ وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ أُصُولِيٍّ، بَلْ إلَى أَمْرٍ جَدَلِيٍّ اصْطِلَاحِيٍّ. وَانْبَنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ: (مِنْهَا) : أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الظَّنَّيْنِ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْوَاحِدِ، فَيُعْمَلُ بِالْأَقْوَى. وَ (مِنْهَا) : تَرْجِيحُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ الْعَدَدَ إذَا كَثُرَ قَرُبَ مِنْ التَّوَاتُرِ فَالْتَحَقَ بِتَقْدِيمِ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى الْآحَادِ وَالْخِلَافُ فِي هَذَا أَضْعَفُ وَلِهَذَا وَافَقَ هُنَا مَنْ خَالَفَ وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ الْمَنْعَ، كَالشَّهَادَةِ، وَقَالَ: الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ التَّرْجِيحُ بِهِ،

لِأَنَّهُ يُورِثُ مَزِيدًا فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ وَسَيَأْتِي فِيهِ مَزِيدُ كَلَامٍ. وَ (مِنْهَا) : أَنَّهُ انْضَمَّ إلَى أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ قِيَاسٌ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ الشَّافِعِيُّ تَقْدِيمُ الْحَدِيثِ الْمُوَافِقِ لِلْقِيَاسِ وَقَالَ الْقَاضِي: لَا مُرَجِّحَ بِهِ، لِأَنَّهُ ظَنٌّ مُسْتَقِلٌّ فَتَسَاقَطَا، وَيَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ، فَالْمَسْلَكَانِ يُفْضِيَانِ إلَى حُكْمِ الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْخَبَرِ الرَّاجِحِ بِمُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ فَالْقَاضِي يَعْمَلُ بِالْقِيَاسِ وَيَسْقُطُ الْخَبَرُ فَإِنْ قُلْت: فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ قُلْت: بَلْ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِيمَا لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ يَنْقُضُ وَالصُّورَةُ أَنَّهُ غَيْرُ جَلِيٍّ وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ أَبُو الْعِزِّ فِي شَرْحِ الْمُقْتَرَحِ ": التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يَظْهَرُ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ إرَادَةَ الْمُجْمَلِ الظَّاهِرِ فَلَا يَصِحُّ عَضُدُهُ بِقِيَاسٍ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ قَصْدُهُ لِذَلِكَ فَيَصِحُّ، تَفْرِقَةً بَيْنَ تَأْيِيدِهِ ظُهُورَ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى لِظُهُورِ الْقَصْدِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَتَأَيَّدْ بِذَلِكَ وَقَالَ إلْكِيَا: إنْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا قِيَاسٌ، وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مَزِيدُ وُضُوحٍ كَزِيَادَةِ الرُّوَاةِ وَالْعَدَالَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْمَلَ بِالْقِيَاسِ، لِاسْتِقْلَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ ضَرُورَةً عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ ثَابِتَةٌ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا ضَعُفَتْ بِالتَّعَارُضِ وَالْقِيَاسُ مُسْتَقِلٌّ فَيَتَعَارَضُ النَّظَرَانِ، قَالَ: وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ الرَّاجِحِ، ثُمَّ حَكَى قَوْلًا أَنَّهُ كَالْحُكْمِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرِيعَةِ، فَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ. وَ (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَقْرَبَ إلَى الْقَوَاعِدِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ فِي هَذَا لَهُ مُخَالَفَةَ الْقِيَاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُخَالِفَ الْقِيَاسِ يُرَجَّحُ فَكُلَّمَا كَانَ أَقَلَّ مُخَالَفَةً كَانَ أَكْثَرَ قُرْبًا، فَكَانَ أَرْجَحَ، فَإِنَّا لَوْ أَرَدْنَا

أَنْ نُثْبِتَ الْقِيَاسَ عَلَى وَفْقِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ لَعَجَزْنَا وَلَا يَجِيءُ هُنَا خِلَافُ الْقَاضِي بِالتَّسَاقُطِ، إذْ لَوْ أَسْقَطْنَاهَا لَمْ نَقْدِرْ عَلَى إثْبَاتِ هَيْئَةِ الْقِيَاسِ، فَتَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا بِمُرَجِّحِ الْقُرْبِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ ابْنُ كَجٍّ: يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِوُجُوهٍ: ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ: أَحَدِهَا: بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ ثَانِيهَا: بِالنَّقْلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَالْآخَرُ نَاقِلًا، فَيُقَدَّمُ، لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةً، كَمَا لَوْ شَهِدَا بِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِزَيْدٍ خَلَفَهَا لِوَرَثَتِهِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ عَمْرٍو، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْبَيْعِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ بَنَوْا عَلَى الْحَالِ الْأَوَّلِ ثَالِثِهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا، فَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ رَابِعِهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِاسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ خَامِسِهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِاسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ سَادِسِهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ السُّنَنَ أَكْثَرُهَا لَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ إمَّا نَصًّا أَوْ اسْتِدْلَالًا سَابِعِهَا: أَنْ يَكُونَ أَشْبَهَ بِالْقِيَاسِ وَهَذَا كُلُّهُ سَيَأْتِي مُفَصَّلًا، وَلَكِنْ أَحْبَبْت مَعْرِفَتَهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَجْمُوعًا قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَإِذَا اجْتَمَعَ مُرَجَّحَاتٌ فِي خَبَرٍ، وَاثْنَانِ فِي خَبَرٍ، فَاَلَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ الثَّلَاثَةُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ.

مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ أَوْ خَاصَّيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: لِأَنَّهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا، فَحَصَلَ اثْنَا عَشَرَ، وَكُلٌّ مِنْهَا إمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُهُ أَوْ تَأَخُّرُهُ أَوْ يُجْهَلَ فَتَصِيرُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ: أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ، وَيَقَعُ عَلَى ثَلَاثِهِ أَضْرُبٍ: (الضَّرْبُ الْأَوَّلُ) : أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ وَعُلِمَ التَّارِيخُ، فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ، سَوَاءٌ كَانَا آيَتَيْنِ أَوْ خَبَرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا آيَةً وَالْآخَرُ خَبَرًا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ النَّسْخَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ. أَمَّا مَنْ يَمْنَعُهُ فَيَمْنَعُ الْفَسْخَ فِي هَذَا الْأَخِيرِ، قَالَهُ الْهِنْدِيُّ. وَقَالَ الْأُرْمَوِيُّ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِوُقُوعِ نَسْخِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْكِتَابِ، وَلَا بِالْعَكْسِ، وَلَكِنَّهُ إذَا تَعَارَضَا وَأَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمٌ تَعَيَّنَ الْمُتَأَخِّرُ، وَهَذَا إذَا كَانَ حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ قَابِلًا لِلنَّسْخِ، وَإِلَّا كَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْإِمَامُ: فَيَتَسَاقَطَانِ، وَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى دَلِيلٍ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ النقشواني، فَإِنَّ الْمَدْلُولَ إذَا لَمْ يَقْبَلْ النَّسْخَ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ، فَلَا يُعَارِضُ الْمُتَقَدِّمَ، بَلْ يَجِبُ إعْمَالُ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الْمُتَأَخِّرِ. قُلْت: وَهَذَا إذَا كَانَ نَقْلُ التَّارِيخِ مُتَوَاتِرًا أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ النَّصَّانِ مُتَوَاتِرَيْنِ وَالنَّسْخُ آحَادًا فَيُتَّجَهُ فِيهِ طَرِيقَتَانِ:

إحْدَاهُمَا) : إجْرَاءُ خِلَافٍ مَبْنِيٍّ عَلَى النَّسْخِ بِالْآحَادِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ نَسَخْنَا بِمَا دَلَّتْ الْآحَادُ عَلَى أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ، وَعَمِلْنَا بِالْمُتَأَخِّرِ. وَإِنْ مَنَعْنَاهُ حَكَمْنَا بِتَعَارُضِ الظَّنَّيْنِ وَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ أَوْ التَّخْيِيرِ. و (الثَّانِيَةُ) : الْقَطْعُ بِقَبُولِ الْآحَادِ فِي تَارِيخِ الْمُتَوَاتِرِ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ، لِأَنَّ انْسِحَابَ الْعَمَلِ بِالْمُتَوَاتِرِ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ مَظْنُونٌ، فَمَا رَفَضْنَا إلَّا مَظْنُونًا بِمَظْنُونٍ، وَأَمَّا عَكْسُ هَذِهِ الصُّورَةِ، أَنْ يُفْرَضَ التَّارِيخُ مُتَوَاتِرًا، أَوْ الْمَتْنُ آحَادًا، فَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. هَذَا كُلُّهُ إذَا عُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ، فَإِنْ عُلِمَ مُقَارَنَتُهُمَا، فَإِنْ أَمْكَنَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّخْيِيرُ، وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ تَسَاقَطَا وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى غَيْرِهِمَا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ الْمُتَأَخِّرُ فَيَكُونُ نَاسِخًا، إذْ التَّقَدُّمُ يَكُونُ مَنْسُوخًا. هَكَذَا أَطْلَقُوهُ. وَهَذَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَطَرُّقُ النَّسْخِ إلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَمْكَنَ فَالشَّافِعِيُّ يُرَجِّحُ مَا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَرَآهُ أَوْلَى مِنْ الْحُكْمِ بِتَسَاقُطِهِمَا، حَكَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ " وَذَكَرَ لَهُ مِثَالَيْنِ تَخْرُجُ مِنْهُمَا صُورَتَانِ: (إحْدَاهُمَا) : إذَا أَرَّخَ أَحَدُهُمَا وَسَكَتَ الْآخَرُ عَنْ التَّارِيخِ، كَحَدِيثِ «إذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» مَعَ جُلُوسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ قِيَامٌ. وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مُطْلَقٌ، فَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ كَانَ قَالَهُ فِي صِحَّتِهِ. وَ (الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَكُونَ إسْلَامُ رَاوِي أَحَدِهِمَا مُتَأَخِّرًا عَنْ إسْلَامِ الْآخَرِ، كَحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ فِي عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ، وَهُوَ مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ، مَعَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالنَّقْضِ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ، فَيَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إلَى حَدِيثِ قَيْسٍ. ثُمَّ حَكَى الْإِمَامُ عَنْ قَوْمٍ بَقَاءَ التَّعَارُضِ، إذْ لَا يُصَارُ إلَى الْفَسْخِ بِمُجَرَّدِ

الِاحْتِمَالِ، ثُمَّ تَوَسَّطَ فَقَالَ: إنْ عَدِمَ الْمُجْتَهِدُ مُتَعَلَّقًا سِوَاهُ فَكَقَوْلَيْ. الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ الْحُكْمِ وَتَعْرِيَةِ الْحَادِثِ عَنْ مُوجِبِ الشَّرْعِ، وَإِنْ وَجَدَ غَيْرَهَا وَوَجَدَ الْقِيَاسَ مُضْطَرِبًا عَدَلَ عَنْهُمَا وَتَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ الْخَبَرُ الَّذِي بَعْدَ ظَنِّ النَّسْخِ يُسْتَعْمَلُ مُرَجِّحًا لِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَفْرِضُ الْمَسْأَلَةَ فِي قِيَاسَيْنِ تَعَارَضَا أَوْ خَبَرَيْنِ كَذَلِكَ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَصْوِيرِهِ السَّابِقِ فِي تَعَارُضِ خَبَرَيْنِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ وُجِدَ الْقِيَاسُ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا أَوْ لَمْ يُوجَدْ أَلْبَتَّةَ. وَأَوْرَدَ الْإِبْيَارِيُّ عَلَى تَفْصِيلِهِ أَنَّهُ هَلَّا عَمِلَ بِالْخَبَرِ الرَّاجِحِ وَجَعَلَ الْقِيَاسَ الْمُوَافِقَ لَهُ مُرَجِّحًا؟ وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِي التَّوْقِيفِ مُسْتَنَدًا اسْتَأْنَفَ الظَّنَّ فِي الْأَقْيِسَةِ فَوَجَدَهَا أَيْضًا مُتَعَارِضَةً، وَلَكِنْ وَجَدَ أَحَدَ قِيَاسَيْهِ عَلَى وَفْقِ الْخَبَرِ الرَّاجِحِ، فَجَعَلَ الْقِيَاسَ مُسْتَنَدًا، لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْخَبَرَ الرَّاجِحَ مُسْتَنَدًا بَعْدَ أَنْ سَبَقَ مِنْهُ إلْغَاءُ كَوْنِهِ مُسْتَنَدًا لَكَانَ نَقْضًا لِحُكْمٍ ثَبَتَ. وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ يُقَدَّمُ الْمُؤَرَّخُ عَلَى الْمُهْمَلِ، لِأَنَّ الْمُؤَرَّخَ يَقْطَعُ بِهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، بِخِلَافِ الْمُهْمَلِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ وَقْتٍ إلَّا وَيُحْتَمَلُ فِيهِ الثُّبُوتُ وَالْعَدَمُ، فَيُقَدَّمُ الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي تَارِيخٍ مُعَيَّنٍ، لِأَنَّ الْمُبَيَّنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُجْمَلِ، فَالتَّرْجِيحُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْإِجْمَالِ، وَالتَّرْجِيحُ فِي الثَّانِيَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْإِجْمَالِ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ. وَهَذَا يَرُدُّ إيرَادَ الْإِبْيَارِيّ عَلَى الْمَنْقُولِ عَنْ الشَّافِعِيِّ احْتِمَالَ أَنَّ مُتَأَخِّرَ الْإِسْلَامِ تَحَمَّلَ فِي حَالِ الْكِبَرِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ التَّحَمُّلَ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ أَغْلَبُ، وَقَبْلَ الْإِسْلَامِ أَنْدَرُ، فَيُقَدَّمُ الْغَالِبُ عَلَى النَّادِرِ، وَلَيْسَ كُلُّ احْتِمَالٍ وَاقِعًا، فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَصْلَ، فَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ مِنْ غَايَاتِ الْآمَالِ. (الضَّرْبُ الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَا مَظْنُونَيْنِ، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ نَسَخَ الْمُتَأَخِّرُ الْمُتَقَدِّمَ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّرْجِيحُ، فَيُعْمَلُ بِالْأَقْوَى.

الضَّرْبُ الثَّالِثُ) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا، وَكَانَ هُوَ الْمَظْنُونُ، كَانَ الْمَعْلُومُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ مُتَقَدِّمًا، مَا لَمْ يَنْسَخْهُ الْمَظْنُونُ فَنَعْمَلُ بِالْمَعْلُومِ. وَإِنْ جُهِلَ عُمِلَ بِالْمَعْلُومِ، سَوَاءٌ عُلِمَتْ الْمُقَارَنَةُ أَوْ لَا. . النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا خَاصَّيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا، وَالْحُكْمُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ. قَالَ سُلَيْمٌ: إنْ تَعَارَضَ نَصَّانِ فَإِنْ كَانَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَعُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا نَسَخَهُ الْمُتَأَخِّرُ، وَإِلَّا قُدِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ. وَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ، كَالْآيَتَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ، وَعُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا نَسَخَهُ الْمُتَأَخِّرُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَوَقَّفَ فِيهِمَا وَلَمْ يُقَدَّمْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِتَرْجِيحٍ، لِأَنَّ التَّرْجِيحَ طَرِيقَةُ غَلَبَةِ الظَّنِّ فَلَا يَدْخُلُ فِي تَقْوِيَةِ مَا طَرِيقُهُ الْقَطْعُ. . النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] مَعَ قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فَفِيهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ. فَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْعَامِّ وَتَأَخُّرُ الْخَاصِّ، فَأَطْلَقَ فِي الْمَحْصُولِ " وَغَيْرِهِ أَنَّ الْخَاصَّ يَكُونُ نَاسِخًا، أَيْ: الْعَامَّ فِي ذَلِكَ الْفَرْدِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ. وَهَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ: إنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَأَخُّرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ: وَالْمَذْهَبُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: يَتَعَارَضَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: إنْ كَانَ الْخَاصُّ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَالْعَامُّ مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَمْ يَقْضِ بِهِ عَلَى الْعَامِّ. وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ قَضَى بِهِ عَلَى الْعَامِّ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: مَا قَالَ فِي الْمَحْصُولِ " مَوْضِعُهُ إذَا وَرَدَ بَعْدَ مَظْنُونٍ وَقْتَ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ، فَإِنْ وَرَدَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِهِ كَانَ الْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ

الْمُتَقَدِّمِ. وَأَمَّا مَنْ لَا يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ فَعِنْدَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ يَكُونُ الْخَاصُّ خَاصًّا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ الْمَحْصُولِ "، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ". وَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْخَاصِّ فَعِنْدَنَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَنْسَخُهُ، وَإِنْ عُلِمَ مُقَارَنَتُهُمَا فَيَكُونُ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ. وَإِنْ جُهِلَ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ يَتَوَقَّفُ فِيهِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: الْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ - أَعْنِي الْمُقَارَنَةَ وَجَهْلَ التَّارِيخِ - أَنْ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ. وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَالْكَرْخِيُّ: إنْ عُلِمَ لِلصَّحَابَةِ فِيهِ اسْتِعْمَالٌ عُمِلَ بِهِ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ. وَإِنْ كَانَا مَظْنُونَيْنِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا كَانَا مَعْلُومَيْنِ. إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا قَالَ الْإِمَامُ: فَهَاهُنَا اتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ الْمَعْلُومِ عَلَى الْمَظْنُونِ، إلَّا إذَا كَانَ الْمَعْلُومُ عَامًّا وَالْمَظْنُونُ خَاصًّا وَوَرَدَا مَعًا، وَذَلِكَ مِثْلُ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِحَالَةِ وُرُودِهِمَا مَعًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) : لَوْ تَأَخَّرَ الْخَاصُّ الْمَظْنُونُ عَنْ الْعَامِّ الْمَعْلُومِ، وَكَانَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ الْمَعْلُومِ، كَانَ أَيْضًا مُخَصِّصًا وَكَانَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ كَمَا فِي الْمُتَقَارِنَيْنِ. نَعَمْ، يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَ (ثَانِيهِمَا) : لَوْ تَقَدَّمَ الْخَاصُّ الْمَظْنُونُ عَلَى الْعَامِّ الْمَعْلُومِ فَإِنَّهُ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ الْمَظْنُونِ عَلَى الْعَامِّ الْمَعْلُومِ، مَعَ أَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا مَعًا. وَحِينَئِذٍ فَالْحُكْمُ فِي هَذَا تَقْدِيمُ الْمَعْلُومِ عَلَى الْمَظْنُونِ إلَّا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ: الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْإِمَامُ، وَالصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. . النَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ

كُلٌّ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَخُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُمُومَ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] مَعَ قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ، فَإِنَّ الْأُولَى خَاصَّةٌ فِي الْأُخْتَيْنِ عَامَّةٌ فِي الْجَمْعِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَالثَّانِيَةَ عَامَّةٌ فِي الْأُخْتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، خَاصَّةٌ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ. وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ. فَإِنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، وَالثَّانِيَ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ. فَفِيهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا. فَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ وَعُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ الْخَاصَّ الْمُتَقَدِّمَ، بَلْ هُنَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ خُصُوصُ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ فَاللَّائِقُ بِمَذْهَبِهِ أَنْ لَا يَقُولَ بِالنَّسْخِ هُنَا كَمَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ الْخُصُوصِ، وَفِي الثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِ، بَلْ يَذْهَبُ فِي التَّرْجِيحِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ عُلِمَتْ الْمُقَارَنَةُ أَوْ لَمْ تُعْلَمْ أَيْضًا فَاللَّائِقُ

بِالْمَذْهَبَيْنِ أَنْ يُصَارَ إلَى التَّرْجِيحِ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا حَظْرًا وَالْآخَرِ إبَاحَةً، أَوْ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا مُثْبَتًا وَالْآخَرِ مَنْفِيًّا، أَوْ شَرْعِيًّا وَالْآخَرِ فِعْلِيًّا. لِأَنَّ الْحُكْمَ بِذَلِكَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، وَلَيْسَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إطْرَاحُ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. . - وَأَمَّا إذَا كَانَا مَظْنُونَيْنِ فَكَمَا فِي الْمَعْلُومَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ يُرَجَّحُ فِيهَا بِقُوَّةِ الْأَشْبَاهِ. . وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْمَعْلُومِ عُمِلَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَإِنْ عُلِمَ تَأْخِيرُهُ عُمِلَ بِهِ لِكَوْنِهِ نَاسِخًا. وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ. وَأَمَّا عَلَى رَأَيْنَا فَالْعَمَلُ بِالْمَعْلُومِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لِتَعَذُّرِ النَّسْخِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ عُلِمَ التَّقَارُنُ أَوْ جُهِلَ، فَإِنَّا نَحْكُمُ بِالْمَعْلُومِ لِكَوْنِهِ. مَعْلُومًا. هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ "، وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ " وَغَيْرُهُ. وَأَطْلَقَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ " وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِدَلِيلٍ، وَفِي جَوَازِ خُلُوِّ مِثْلِ هَذَا عَنْ التَّرْجِيحِ قَوْلَانِ. وَإِذَا خَلَا سَقَطَا وَرَجَعَ الْمُجْتَهِدُ إلَى الْبَرَاءَةِ، وَنَقَلَ سُلَيْمٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَقْدِيمَ الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْوَقْتِ،

لِأَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ فِي الْوَقْتِ، فَقُدِّمَ مَا فِيهِ. وَذَكَرَ الصَّيْرَفِيُّ فِي الدَّلَائِلِ " فِي تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ تَوْقِيفٌ صِرْنَا إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْعُمُومُ فَفِيهَا وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّا نَنْظُرُ إلَى أَيِّهِمَا أَعَمَّ اللَّفْظَيْنِ بِوَجْهٍ، فَيُجْعَلُ الْآخَرُ فِي الْخَاصَّةِ. وَ (الثَّانِي) : إلَى أَيِّ اللَّفْظَتَيْنِ اُبْتُدِئَ بِهَا فَالْأُخْرَى مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا، لِأَنَّك لَوْ أَثْبَتَّ اللَّفْظَةَ الثَّانِيَةَ كَانَ فِيهَا رَفْعُ مَا اُبْتُدِئَ بِذِكْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَّا مَا لَا يُبْطِلُ الْأُولَى فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلثَّانِي عَلَى مَا قُلْنَا فِي التَّرْتِيبِ كَأَنَّا قُلْنَا: كُلُّ مِلْكِ يَمِينٍ فَهُوَ مُبَاحٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فَذَكَرَ عُمُومَ الزَّوْجَاتِ وَعُمُومَ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَكَانَ أَخَصَّ مِمَّا ذَكَرْت مِنْ الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمِلْكُ وَالنِّكَاحُ مُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تُقَابِلَ الْآيَةَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى لِمَا وَصَفْتُهُ، انْتَهَى. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْأُصُولِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْوَقْفُ إلَّا بِتَرْجِيحٍ يَقُومُ عَلَى أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ. قَالَ: وَكَأَنَّ مُرَادَهُمْ التَّرْجِيحُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَخُصُّ مَدْلُولَ الْعُمُومِ، كَالتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَدْلُولِ الْعُمُومِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَدْلُولُ الْعُمُومِ. وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " التَّفْصِيلَ السَّابِقَ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْفَاضِلُ أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، فِيمَا وَجَدْتُهُ مُعَلَّقًا عَنْهُ: الْعَامَّانِ إذَا تَعَارَضَا فَكَمَا يُخَصَّصُ هَذَا بِذَاكَ لِمُعَارِضَتِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُخَصَّصَ ذَلِكَ بِهَذَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُنْظَرُ فِيهِمَا: إنْ دَخَلَ أَحَدَهُمَا تَخْصِيصٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا بِالْعُمُومِ رَجَحَ عَلَى مَا كَانَ عُمُومُهُ اتِّفَاقًا. انْتَهَى.

قُلْت: وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِتَصَرُّفِ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَمَّا دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ضَعُفَتْ دَلَالَتُهَا تَقَدَّمَ عَلَيْهَا أَحَادِيثُ الْمَقْضِيَّةِ وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَغَيْرُهَا. وَلِذَلِكَ نَقُولُ: دَلَالَةُ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ مُطْلَقًا فِي النِّكَاحِ وَالْمِلْكُ أَوْلَى مِنْ دَلَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بِالْيَمِينِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا سِيقَتْ لِبَيَانِ حُكْمِ الْجَمْعِ. . مَسْأَلَةٌ إذَا عَارَضَ قِيَاسٌ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ نَصِّ كِتَابٍ مَا فِي حَدِيثِ آحَادٍ، فَقِيلَ: إنْ سَمَّيْنَاهُ قِيَاسًا رَجَّحْنَا عَلَيْهِ الْخَبَرَ، لِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، قَالَ فِي الْمَنْخُولِ ": وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ قِيَاسًا يَرْجِعُ لِلَّقَبِ وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ كَالْمَنْصُوصِ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ تُقَدَّمُ عَلَى قِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْقُرْآنِ. . مَسْأَلَةٌ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: كُلُّ مُتَعَارِضَيْنِ لَا يَخْرُجَانِ عَنْ وَجْهٍ مِنْ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: (أَحَدُهَا) : أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا فِي الْأَصْلِ حُكْمٌ مَعْلُومٌ، كَالْوَاقِعِ بِابْتِدَاءِ الشَّرْعِ، مِثْلُ الْإِحْدَاثِ فِي الْوُضُوءِ، فَيَتْرُكُ اعْتِقَادَ الْأَمْرِ بِأَحَدِهِمَا وَالنَّهْيَ عَنْ الْآخَرِ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَيَّهُمَا الْأَوْلَى، وَيُصَارُ إلَى مَا عَضَّدَهُ الدَّلِيلُ أَوْ رَجَّحَهُ بِقِيَاسٍ أَوْ حِفْظٍ أَوْ كَثْرَةِ عَدَدٍ. . وَ (ثَانِيهَا) : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجِبُ إبَاحَتُهُ أَوْ حَظْرُهُ فَأَيُّ الْخَبَرَيْنِ جَاءَ

سبب الاختلاف في الروايات

بِخِلَافِ مَا كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَالْخَبَرُ هُوَ الَّذِي مَعَهُ دَلِيلُ الِانْتِقَالِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا جَاءَ بِتَوْكِيدِ مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ عُلِمَ زَوَالُ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُ الثَّانِي، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» وَقَوْلِهِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» . . وَ (ثَالِثُهَا) : أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا، فَيَأْتِي بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ الْحُكْمُ، كَالْمُزَارَعَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسْتَبِيحُونَ الْمُزَارَعَةَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَنَهَى عَنْهُمَا، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِإِجَازَتِهِمَا، وَلَمْ يَفِدْ شَيْئًا أَفَادَ فِيمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَخَبَرُ النَّهْيِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ، هَذَا إذَا عَلِمَ تَقْرِيرَهُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ مُدَّةً ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرَانِ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَعْمَلَيْنِ لَهَا وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا عَلَيْهَا، فَإِذَا جَاءَ النَّهْيُ عَنْهَا ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِإِجَازَتِهَا نَظَرَ فِيهِمَا عَلَى هَذَا الْحَالِ. فَأَمَّا آيُ الْقُرْآنِ، فَكُلُّ آيَةٍ وَرَدَتْ بِإِبَاحَةِ شَيْءٍ فِي جُمْلَةِ الْخِطَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] فَأَخْبَرَ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ لَا مَحَالَةَ. وَلَوْ جَاءَ خَبَرٌ بِتَحْلِيلِ مَا جَاءَ الْخَبَرُ الْآخَرُ بِتَحْرِيمِهِ نَظَرَ فِي الْخَبَرَيْنِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُوجِبُ خُصُوصَ الْآيَةِ وَالْآخَرَ يُوجِبُ عُمُومَهَا وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ الْحَظْرِ وَلَا قَبْلَهُ وَلَا فِي الْأَخْبَارِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ، فَإِنْ كَانَ الْحَظْرُ بَيَانَ الْآيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْفَعَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ، وَيَكُونُ خَبَرُ التَّحْلِيلِ بِإِزَاءِ خَبَرِ التَّحْرِيمِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْخُصُوصِ، فَإِنْ قَوِيَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَالْحُكْمُ لَهُ، قَالَ: وَيَجِيءُ الْخَبَرَانِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَالْإِنْسَانُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا، كَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ لِلْحَاجِّ، فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ وَإِنْ كَانَ مُحَالًا أَنْ يَفْعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُمَا كَخَبَرِ مَيْمُونَةَ «نَكَحَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَ «مَا نَكَحَهَا إلَّا وَهُوَ حَلَالٌ» . فَأَحَدُهُمَا غَلَطٌ مِنْ الرَّاوِي فَيُصَارُ إلَى الدَّلِيلِ يُعَضِّدُ أَحَدَهُمَا. [سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَاتِ] .

سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَاتِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرِّسَالَةِ ": وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ الْقَوْلَ عَامًّا يُرِيدُ بِهِ الْعَامَّ، وَعَامًّا يُرِيدُ بِهِ الْخَاصَّ، وَيُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَيُجِيبُ عَلَى قَدْرِ الْمَسْأَلَةِ، وَيُؤَدِّي عَنْهُ الْمُخْبَرُ الْخَبَرَ مُبَعَّضًا، وَالْخَبَرَ مُخْتَصَرًا، وَالْخَبَرُ يَأْتِي بِبَعْضِ مَعْنَاهُ دُونَ بَعْضٍ، وَيُحَدِّثُ الرَّجُلُ عَنْهُ الْحَدِيثَ قَدْ أَدْرَكَ جَوَابَهُ وَلَمْ يُدْرِكْ الْمَسْأَلَةَ عَلَى حَقِيقَةِ الْجَوَابِ لِمَعْرِفَتِهِ السَّبَبَ الَّذِي يُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَيَسُنُّ فِي الشَّيْءِ سُنَّةً وَفِيمَا يُخَالِفُهُ أُخْرَى فَلَا يَخْلُصُ بَعْضُ السَّامِعِينَ مِنْ اخْتِلَافِ الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سُنَّ فِيهِمَا، وَيَسُنُّ سُنَّةً فِي نَصِّ مَعْنَاهُ فَيَحْفَظُهُمَا حَافِظٌ آخَرُ فِي مَعْنَى، يُخَالِفُهُ فِي مَعْنَى، وَيُجَامِعُهُ فِي مَعْنَى سُنَّةِ غَيْرِهَا لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فَيَحْفَظُ غَيْرُهُ تِلْكَ السُّنَّةَ، فَإِذَا أَدَّى كُلٌّ مَا حَفِظَ رَآهُ بَعْضُ السَّامِعِينَ اخْتِلَافًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. وَيَسُنُّ بِلَفْظٍ مَخْرَجُهُ عَامٌّ جُمْلَةً بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ أَوْ تَحْلِيلِهِ، وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ خِلَافُ الْجُمْلَةِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَا حَرَّمَ مَا أَحَلَّ، وَلَا بِمَا أَحَلَّ مَا حَرَّمَ. قَالَ: وَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ شَيْئًا مُخْتَلِفًا فَكَشَفْنَاهُ إلَّا وَجَدْنَا لَهُ وَجْهًا يَحْتَمِلُ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخْتَلِفًا، وَأَنْ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْوُجُوهِ الَّتِي وُصِفَتْ. انْتَهَى. . الْقَوْلُ فِي تَرْجِيحِ الظَّوَاهِرِ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، أَوْ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ خَلَلٍ بِسَبَبِ الرُّوَاةِ، كَمَا سَبَقَ. . وَأَمَّا التَّعَارُضُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: لَا أَعْرِفُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الرَّسُولِ حَدِيثَانِ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَلِيَأْتِ بِهِ حَتَّى أُؤَلِّفَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ ": وَلَمْ نَجِدْ حَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ إلَّا وَلَهُمَا مَخْرَجٌ، أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ إمَّا مُوَافِقَةُ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ السُّنَّةِ أَوْ بَعْضِ الدَّلَائِلِ. انْتَهَى.

وَهُوَ بِاعْتِبَارَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) أَنْ يُرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ، وَ (الثَّانِي) بِالْمَتْنِ. . أَمَّا التَّرْجِيحُ بِالْإِسْنَادِ فَلَهُ اعْتِبَارَاتٌ أَوَّلُهَا: بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ. فَيُرَجَّحُ مَا رُوَاتُهُ أَكْثَرُ عَلَى مَا رُوَاتُهُ أَقَلُّ بِخِلَافِهِ، كَاحْتِجَاجِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى عَدَمِ الرَّفْعِ فِي الرُّكُوعِ، بِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ» فَيَقُولُ: قَدْ رَوَى الرَّفْعَ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ صَحَابِيًّا، وَكَثِيرٌ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَكَرِوَايَةِ التَّغْلِيسِ بِالصُّبْحِ عَلَى رِوَايَةِ الْإِسْفَارِ. هَذَا مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " وَقَالَ: الْأَخْذُ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي الرِّبَا أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» لِأَنَّهُ رَوَاهُ مَعَ عُبَادَةَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَأَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَرِوَايَةُ خَمْسَةٍ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ وَاحِدٍ. وَقَرَّرَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الزِّيَادَةَ مِنْ الْعَدَدِ بِالنِّسْبَةِ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُوجِبًا لِلتَّذَكُّرِ فَقَالَ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] وَكَذَلِكَ جِنْسُ الرِّجَالِ كُلَّمَا كَثُرَ الْعَدَدُ قَوِيَ الْحِفْظُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ الْجَدِيدِ، قَالَ: وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ

بِأَنَّ الشُّهُودَ مَنْصُوصٌ عَلَى عَدَالَتِهِمْ فَكُفِينَا مَئُونَةَ الِاجْتِهَادِ، وَالْأَخْبَارُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالْأَوْلَى تَرْجِيحُ الْأَكْثَرِ، لِأَنَّهُمْ عَنْ الْخَطَأِ أَبْعَدُ، قَالَ: وَذَهَبَ فِي الْقَدِيمِ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَشَبَّهَ بِالشَّهَادَاتِ. قُلْتُ: وَعَكَسَ ابْنُ كَجٍّ وَابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابَيْهِمَا هَذَا النَّقْلَ فَقَالَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقَدِيمِ: يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ رُوَاةً، لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْأَخْبَارِ إنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ عِلْمِ الظَّاهِرِ، وَيُحْتَمَلُ الْغَلَطُ وَالْكَثْرَةُ تَدْفَعُ الْغَلَطَ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَعَوَّلَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ اسْتَوَيَا جَمِيعًا فِي لُزُومِ الْحُجَّةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ. فَإِذَا اجْتَمَعَا فَقَدْ اسْتَوَيَا وَيَطْلُبُ دَلَالَةً سِوَاهُمَا، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الشَّهَادَةِ، انْتَهَى. وَقَالَ سُلَيْمٌ: أَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَحَيْثُ قُلْنَا: يُرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ فَقَالَ الْقَاضِي: لَا أَرَاهُ قَطْعِيًّا، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنْ لَمْ يُمْكِنْ الرُّجُوعُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ قُطِعَ بِاتِّبَاعِ الْأَكْثَرِ فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ، وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ تَعَارَضَ لَهُمْ خَبَرَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُعَطِّلُوا الْوَاقِعَةَ، بَلْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ هَذَا. قَالَ: وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ وَخَبَرَانِ مُتَعَارِضَانِ كَثُرَتْ رُوَاةُ أَحَدِهِمَا فَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ النَّاظِرِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيٌ رَابِعٌ صَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي، وَالْغَزَالِيُّ: أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، فَرُبَّ عَدْلٍ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ عَدْلَيْنِ، لِشِدَّةِ تَيَقُّظِهِ وَضَبْطِهِ. فَلَمَّا كَثُرَ الْعَدَدُ وَلَمْ يَقْوَ الظَّنُّ بِصِدْقِهِمْ كَانَ خَبَرُهُمْ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَالرَّاجِحُ هُوَ الْأَوَّلُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: بَلْ هُوَ أَقْوَى الْمُرَجَّحَاتِ، فَإِنَّ الظَّنَّ يَتَأَكَّدُ عَنْ تَرَادُفِ الرِّوَايَاتِ. وَلِهَذَا يَقْوَى الظَّنُّ إلَى أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ بِهِ مُتَوَاتِرًا. . .

وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ لَوْ تَعَارَضَتْ الْكَثْرَةُ مِنْ جَانِبٍ وَالْعَدَالَةُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ. فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِإِلْكِيَا: (إحْدَاهُمَا) : تَرْجِيحُ الْكَثْرَةِ، لِقُرْبِهَا مِنْ الْمُسْتَفِيضِ وَالتَّوَاتُرِ. وَ (الثَّانِي) : تَرْجِيحُ الْعَدَالَةِ، فَإِنَّهُ رُبَّ رَجُلٍ يَعْدِلُ أَلْفَ رَجُلٍ فِي الثِّقَةِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُقَدِّمُونَ رِوَايَةَ الصِّدِّيقِ عَلَى رِوَايَةِ عَدَدٍ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ. قَالَ: وَهَذَا لَا نَجِدُ لَهُ مِثَالًا مِنْ النَّصِّ، فَإِنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، كَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي الْأَذَانِ لِلصُّبْحِ قَبْلَ الْوَقْتِ. وَلِلْقِيَاسِ مَجَالٌ وَرَاءَ الْخَبَرِ، وَإِنْ وَجَدْنَا مِثَالًا فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرَهَا أُسْتَاذُهُ فِي الْبُرْهَانِ " وَحَكَى فِيهَا الْخِلَافَ عَنْ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ الْعَدَدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ مَزِيَّةَ الثِّقَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمَسْأَلَةُ لَا تَبْلُغُ الْقَطْعَ، وَالْغَالِبُ تَقْدِيمُ مَزِيَّةِ الثِّقَةِ. الثَّانِي: لَا يَخْفَى أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا يَبْلُغَ عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ فِي الْكَثْرَةِ إلَى حَالَةٍ تَقْتَضِي الْعِلْمَ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَخْبَارِ. . أَمَّا الْآيَاتُ فَإِذَا جَاءَتْ آيَتَانِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَآيَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، فَهَلْ تُرَجَّحُ الْأُولَى.

قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى تَخَرُّجِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَيُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْآيِ كَمَا يُرَجَّحُ الْخَبَرُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْخَطَأَ مِنْ الرُّوَاةِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ شَيْءٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاجْتِهَادِ، بِخِلَافِ الْآيِ. وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ يُسَاوِي الْأَخْبَارَ فِي قُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا. وَالْعُمُومَانِ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ عُمُومٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَشَاهِدَيْنِ، أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْأَقْوَى، وَتِلْكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. . ثَانِيهَا - بِقِلَّةِ الْوَسَائِطِ وَعُلُوِّ الْإِسْنَادِ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ فِيمَا قَلَّتْ وَسَائِطُهُ أَقَلُّ، وَهُوَ أَحَدُ فَوَائِدِ طَلَبِ الْإِسْنَادِ الْعَالِي، كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ: الْإِقَامَةُ مَثْنَى، كَالْأَذَانِ، لِمَا رَوَى عَامِرٌ الْأَحْوَلُ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا مُحَيْرِيزٍ حَدَّثَهُ أَنَّ «أَبَا مَحْذُورَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَذَكَرَ فِيهِ الْإِقَامَةَ مَثْنَى مَثْنَى» . فَنَقُولُ: بَلْ هِيَ فُرَادَى، لِمَا رَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ» ، فَإِنَّ خَالِدًا وَعَامِرًا مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ رَوَى عَنْهُمَا شُعْبَةُ، وَحَدِيثُ عَامِرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةٌ، وَخَالِدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِهَذَا ظَاهِرٌ، إذَا كَانَ لَا يَعِزُّ وُجُودُ مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ مَرْجُوحٌ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْأَغْلَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَنْدَرِ. .

وَثَالِثُهَا - تَقَدُّمُ رِوَايَةِ الْكَبِيرِ عَلَى رِوَايَةِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ، وَمَثَّلُوهُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْإِفْرَادَ فِي الْحَجِّ، وَرِوَايَةِ أَنَسٍ الْقِرَانَ. وَمَا قِيلَ فِيهِ يَتَوَلَّجُ عَلَى النَّسَا وَسَبَبُ هَذَا التَّرْجِيحِ - وَاَلَّذِي قَبْلَهُ - زِيَادَةُ الظَّنِّ بِالضَّبْطِ. وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " بِتَقْدِيمِ أَنَسٍ فِي أَحَادِيثِ رِبَا الْفَضْلِ وَفِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَقَالَ بِتَقَدُّمِ أَنَسٍ فِي الصُّحْبَةِ. وَهَلْ تَتَقَدَّمُ رِوَايَةُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ أَمْ لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمِثْلُهُ رِوَايَةُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِ الْأَكَابِرِ. . وَرَابِعُهَا - بِفِقْهِ الرَّاوِي سَوَاءٌ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى أَوْ بِاللَّفْظِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْفَقِيهِ عَلَى مَنْ دُونَهُ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ. وَقِيلَ: هَذَا فِي خَبَرَيْنِ مَرْوِيَّيْنِ بِالْمَعْنَى، فَإِنْ رُوِيَا بِاللَّفْظِ فَلَا مُرَجِّحَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ لِلْفَقِيهِ مَزِيَّةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ.

قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَفْقَهَ مِنْ الْآخَرِ، مِثْلُ رِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ وَيَصُومُ» عَلَى رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» . قَالَ: وَسَبَبُ تَقْدِيمِهِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ أَفْقَهَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قُلْت: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ هَذَا مِثَالًا لِتَقْدِيمِ شَاهِدِ الْقِصَّةِ عَلَى مَنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِهَا، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ذَكَرَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ بِهِ، وَعَائِشَةُ كَانَتْ مُبَاشِرَةً لِلْوَاقِعَةِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا لَا يَنْبَغِي تَمْثِيلُهُ بِالصَّحَابَةِ تَأَدُّبًا. وَقَدْ مَثَّلَ بِرِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، مَعَ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّ الْأَوَّلَيْنِ فَقِيهَانِ مَشْهُورَانِ، وَالْأَخِيرَيْنِ إمَّا شَيْخَانِ أَوْ دُونَهُمَا فِي الْفِقْهِ. . خَامِسُهَا - بِعِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ الْعَالِمَ بِهَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ عَنْ مَوَاقِعِ الزَّلَلِ، فَيَكُونُ الْوُثُوقُ بِرِوَايَتِهِ أَكْثَرَ، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَرْجُوحٌ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِهَا يَعْتَمِدُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، فَلَا يُبَالِغُ فِي الْحِفْظِ، وَالْجَاهِلُ بِهَا يَكُونُ خَائِفًا فَيُبَالِغُ فِي الْحِفْظِ. . سَادِسُهَا - الْأَفْضَلِيَّةُ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. .

سَابِعُهَا - حُسْنُ الِاعْتِقَادِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ السُّنِّيِّ عَلَى الْمُبْتَدِعِ، كَرِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى مَعَ غَيْرِهِ، قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ بِدْعَتَهُ إنْ كَانَتْ بِذَهَابِهِ إلَى أَنَّ الْكَذِبَ كَبِيرَةٌ كَانَ ظَنُّ صِدْقِهِ أَكْبَرَ. . ثَامِنُهَا - كَوْنُ الرَّاوِي صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْقِصَّةِ، كَقَوْلِ «مَيْمُونَةَ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ حَلَالَانِ» فَتُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ (نَكَحَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ) وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا الْجُرْجَانِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. . تَاسِعُهَا - كَوْنُ أَحَدِهِمَا مُبَاشِرًا لِمَا رَوَاهُ كَتَرْجِيحِ خَبَرِ أَبِي رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ وَهُمَا حَلَالَانِ عَلَى خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا. وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صَوْمِ الْجُنُبِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. . .

عَاشِرُهَا - الْأَقْرَبُ إلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى غَيْرِهِ وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلتَّرْجِيحِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَالْغَالِبَ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُخَالَطَةِ تَقْتَضِي زِيَادَةً فِي الِاطِّلَاعِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عَنْ الْقُرْآنِ سِوَى الْجَنَابَةِ» عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَعْرَفَ بِحَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِهِ، كَأَزْوَاجِهِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَتُهُنَّ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِنَّ. . حَادِي عَشَرَهَا - إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْجِسْمِ كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْإِفْرَادَ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ: «لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ ذَوُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» . . ثَانِي عَشَرَهَا - كَوْنُ أَحَدِهِمَا جَلِيسَ الْمُحَدِّثِينَ أَوْ أَكْثَرَ مُجَالَسَةً مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا يَعْتَوِرُ الرِّوَايَةَ وَيُدَاخِلُهَا مِنْ الْخَلَلِ. . ثَالِثُ عَشَرَهَا - كَثْرَةُ الصُّحْبَةِ تُرَجَّحُ رِوَايَتُهُ عَلَى قَلِيلِهَا، لِمَا يَحْصُلُ مِنْ زِيَادَةِ الظَّنِّ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الصُّحْبَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِأَحْوَالِ الْمَصْحُوبِ. وَقَدْ نُقِلَ هَذَا عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ فَقَدَّمَ رِوَايَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى رِوَايَةِ وَائِلٍ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَبِسَبَبِ طُولِ الصُّحْبَةِ. . .

رَابِعُ عَشَرَهَا - بِكَوْنِهِ مُخْتَبَرًا فَيُرَجَّحُ الْعَدْلُ بِالتَّزْكِيَةِ عَلَى الْعَدْلِ بِالظَّاهِرِ. هَذَا إنْ قَبِلْنَا رِوَايَةَ الْمَسْتُورِ، وَإِلَّا فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا. . خَامِسُ عَشَرَهَا - الْعَدْلُ بِالْمُمَارَسَةِ وَالِاخْتِبَارِ عَلَى مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ بِالتَّزْكِيَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. . سَادِسَ عَشَرَهَا - بِكَوْنِهِ مُعَدَّلًا بِصَرِيحِ التَّزْكِيَةِ فَيُرَجَّحُ عَلَى الْمُعَدَّلِ بِالْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ، لِأَنَّ عَدَالَتَهُ ضِمْنِيَّةٌ. . سَابِعُ عَشَرَهَا - بِكَوْنِهِ مُعَدَّلًا بِالْحُكْمِ بِهَا عَلَى الْمُعَدَّلِ بِالْعَمَلِ عَلَى رِوَايَتِهِ، لِلْخِلَافِ فِي كَوْنِ ذَلِكَ تَعْدِيلًا وَأَطْلَقَ فِي الْمَحْصُولِ " أَنَّ عَمَلَ الْمُزَكَّى بِرِوَايَةِ مَنْ زَكَّاهُ مُرَجِّحٌ لِرِوَايَتِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا. . ثَامِنُ عَشَرَهَا - التَّزْكِيَةُ مَعَ ذِكْرِ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ أَرْجَحُ مِنْ التَّزْكِيَةِ الْمُجَرَّدَةِ، قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ ". .

تَاسِعُ عَشَرَهَا - بِكَثْرَةِ الْمُزَكِّينَ لِلرَّاوِي كَتَقْدِيمِ حَدِيثِ بُسْرَةَ عَلَى حَدِيثِ طَلْقٍ، لِكَثْرَةِ الْمُزَكِّينَ وَالرُّوَاةِ لِبُسْرَةَ، وَقِلَّةِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ طَلْقٍ. . الْعِشْرُونَ - حِفْظُ الرَّاوِي لِلَفْظِ الْحَدِيثِ وَاعْتِمَادُ الْآخَرِ عَلَى الْمَكْتُوبِ فَالْحَافِظُ أَوْلَى، لِمَا لَعَلَّهُ يَعْتَوِرُ الْخَطَّ مِنْ نَقْصٍ وَتَغَيُّرٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ، رَوَى حَدِيثَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ ثُمَّ لَمْ يُعِدْ» . قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ: نَظَرْتُ فِي كِتَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ قَالَ عَاصِمٌ: فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ " ثُمَّ لَمْ يُعِدْ ". قَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا أَصَحُّ، لِأَنَّ الْكِتَابَ أَثْبَتُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. قُلْت: وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ أَكْثَرُ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي إلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ. . .

الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ - قُوَّةُ حِفْظِهِ وَزِيَادَةُ ضَبْطِهِ وَشِدَّةُ اعْتِنَائِهِ فَيُرَجَّحُ عَلَى مَنْ كَانَ أَقَلَّ فِي ذَلِكَ. حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ إجْمَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: " بَيْنَهُمَا فَضْلُ مَا بَيْنَ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ " وَالتَّفْضِيلُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي كَاخْتِصَاصِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ. . الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ - سُرْعَةُ حِفْظِ أَحَدِهِمَا وَإِبْطَاءُ نِسْيَانِهِ مَعَ سُرْعَةِ حِفْظِ الْآخَرِ وَسُرْعَةِ نِسْيَانِهِ، لِأَنَّ نِسْيَانَ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْحِفْظِ بَطِيءٌ. وَهَذَا ذَكَرَهُ الْهِنْدِيُّ احْتِمَالًا، وَصَدَّرَ كَلَامَهُ بِأَنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ. . الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ - أَنْ لَا يَكْثُرَ تَفَرُّدُهُ بِالرِّوَايَاتِ عَنْ الْحُفَّاظِ فَإِنْ كَثُرَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ خَبَرُهُ عَلَيْهِ عَلَى خَبَرِهِ. قَالَهُ الْغَزَالِيُّ. أَيْ وَإِنْ قُلْنَا زِيَادَةَ الثِّقَةِ. . السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ - دَوَامُ عَقْلِهِ فَيُرَجَّحُ عَلَى مَنْ اخْتَلَطَ فِي عُمُرِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ رَوَى الْخَبَرَ فِي حَالَةِ سَلَامَةِ عَقْلِهِ أَوْ حَالَ اخْتِلَاطِهِ. . السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ - شُهْرَةُ الرَّاوِي بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ فَيُرَجَّحُ رِوَايَةُ الْمَشْهُورِ عَلَى الْخَامِلِ، لِأَنَّ الدِّينَ كَمَا يَمْنَعُ مِنْ الْكَذِبِ.

كَذَلِكَ الشُّهْرَةُ وَالْمَنْصِبُ. . الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ - شُهْرَةُ نَسَبِهِ فَإِنَّ احْتِرَازَ مَشْهُورِ النَّسَبِ مِمَّا يُوجِبُ نَقْصَ مَنْزِلَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ. قَالَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِي التَّرْجِيحِ. نَعَمْ، قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": رِوَايَةُ مَعْرُوفِ النَّسَبِ رَاجِحَةٌ عَلَى رِوَايَةِ مَجْهُولِهِ. . التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ - عَدَمُ الْتِبَاسِ اسْمِهِ فَيُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يَلْتَبِسْ اسْمُهُ بِاسْمِ غَيْرِهِ مِنْ الضُّعَفَاءِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ يَلْتَبِسُ فِيهِ ذَلِكَ. وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْسَرَ التَّمْيِيزُ. قَالَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَالْمَحْصُولِ ". . الثَّانِي: بِوَقْتِ الرِّوَايَةِ - فَيُرَجَّحُ الرَّاوِي فِي الْبُلُوغِ عَلَى الَّذِي رَوَى فِي الصِّبَا وَفِي الْبُلُوغِ، لِأَنَّ الْبَالِغَ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ، وَيُرَجَّحُ الْخَبَرُ الَّذِي لَمْ يَتَحَمَّلْ رِوَايَةً إلَّا فِي زَمَنِ بُلُوغِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَحَمَّلْ إلَّا فِي زَمَنِ صِبَاهُ، وَلِهَذَا قَدَّمَ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْإِفْرَادِ عَلَى رِوَايَةِ أَنَسٍ فِي الْقِرَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّشَهُّدِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مُتَأَخِّرَ الصُّحْبَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مُتَقَدِّمِهَا فِي الرِّوَايَةِ، لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ. - وَيُرَجَّحُ مَنْ لَمْ يَرْوِ إلَّا فِي حَالِ الْإِسْلَامِ، وَيُرَجَّحُ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ، فَيُرَجَّحُ مَنْ تَأَخَّرَ إسْلَامُهُ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ إسْلَامُهُ، لِأَنَّ تَأَخُّرَ الْإِسْلَامِ دَلِيلٌ

عَلَى رِوَايَتِهِ آخِرًا، كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّقْضِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ عَلَى رِوَايَةِ قَيْسٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَتَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَتَبِعَهُمْ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَجَزَمَ الْآمِدِيُّ بِعَكْسِهِ مُعْتَلًّا بِعَرَاقَةِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْإِسْلَامِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: يُقَدَّمُ خَبَرُ الْمُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامَ إنْ كَانَ فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ رِوَايَتُهُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ رِوَايَةِ الْمُتَأَخِّرِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُتَقَدِّمُ قَبْلَ إسْلَامِ الْمُتَأَخِّرِ وَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَكْثَرَ رِوَايَةً الْمُتَقَدِّمُ فَتُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ الْمُتَأَخِّرِ، فَهَاهُنَا نَحْكُمُ بِالرُّجْحَانِ، لِأَنَّ النَّادِرَ مُلْحَقٌ بِالْغَالِبِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنْ جُهِلَ تَارِيخُهُمَا فَالْغَالِبُ أَنَّ رِوَايَةَ مُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامِ نَاسِخٌ، كَمَا نَسَخْنَا رِوَايَةَ طَلْقٍ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فِي أَحَدِهِمَا وَجُهِلَ فِي الْآخَرِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْمُؤَرَّخُ مِنْهُمَا فِي آخِرِ أَيَّامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ النَّاسِخُ لِمَا لَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُ فَيُنْسَخُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا» بِصَلَاةِ أَصْحَابِهِ قِيَامًا خَلْفَهُ وَهُوَ يُصَلِّي قَاعِدًا فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ فِيهِمَا وَلَا فِي أَحَدِهِمَا وَاحْتِيجَ إلَى نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَقِيلَ: النَّاقِلُ مِنْهُمْ عَنْ الْعَادَةِ أَوْلَى مِنْ الْمُوَافِقِ لَهَا. وَقِيلَ: الْمُحَرِّمُ أَوْلَى مِنْ الْمُبِيحِ، وَكَذَا الْمُوجِبُ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوجِبًا وَالْآخَرُ مُحَرِّمًا لَمْ يُقَدَّمْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَالَ إلْكِيَا: يُرَجَّحُ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِإِمْكَانِ تَطَرُّقِ النَّسْخِ إلَى أَحَدِهِمَا إنْ لَمْ يَجِدْ مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا، كَحَدِيثِ طَلْقٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُحْتَمَلًا، فَإِنْ كَانَ فَلَا، كَحَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ: «جَاءَنَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَإِنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لَهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَبَعْدَهُ يُسَمَّى السِّخْتِيَانُ لِلْأَدِيمِ.

وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَوْلِ فِي التَّرْجِيعِ فِي الْأَذَانِ وَإِيتَارِ الْإِقَامَةِ، لِأَنَّ التَّرْجِيعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَسَعْدِ الْقَرَظِ، مُتَأَخِّرٌ عَنْ أَذَانِ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرَاجِيحَ كَثِيرَةٌ، وَمَنَاطَهَا مَا كَانَ إفَادَتُهُ لِلظَّنِّ أَكْثَرَ فَهُوَ الْأَرْجَحُ. وَقَدْ تَتَعَارَضُ هَذِهِ الْمُرَجَّحَاتُ، كَمَا فِي كَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِ، فَيَعْتَمِدُ الْمُجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ. فَائِدَةٌ قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: إنَّا لَا نُنْكِرُ تَفَاوُتًا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي جَوْدَةِ الْفَهْمِ وَقُوَّةِ الْحِفْظِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ رِوَايَةَ الذَّكَرِ تُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ الْأُنْثَى، لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْجِنْسِ، وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّوْعِ. قُلْت: قَدْ حَكَى سُلَيْمٌ فِيهِ الْخِلَافَ فَقَالَ: لَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَلَا الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ، خِلَافًا لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا فِي قُوَّةِ الْخَبَرِ، فَلَا يَدْخُلَانِ فِي التَّرْجِيحِ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ: لَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ الذَّكَرِ. وَقِيلَ: إنَّمَا يُقَدَّمُ الذَّكَرُ فَيُغَيِّرُ أَحْكَامَ النِّسَاءِ. أَمَّا أَحْكَامُهُنَّ فَيُقَدَّمْنَ عَلَى غَيْرِهِنَّ، لِأَنَّ هِمَّتَهُنَّ وَقَصْدَهُنَّ لِمَا حَفِظْنَهُ أَكْثَرُ، وَبِهِ جَزَمَ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ "، فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ. . الثَّالِثُ: بِكَيْفِيَّةِ الرِّوَايَةِ (فَمِنْهَا) : يُرَجَّحُ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى رَفْعِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي رَفْعِهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَى وَقْفِهِ، كَتَقْدِيمِ حَدِيثِ عُبَادَةَ فِي «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ «كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ» فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ فِي الْمُوَطَّإِ ".

وَ (ثَانِيهَا) : يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمُؤَدَّى بِلَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَرْوِيِّ بِمَعْنَاهُ. وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَنَّهُ إنْ كَانَ رَاوِي الْمَعْنَى عَارِفًا فَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِلَّا قُدِّمَ مَنْ رَوَى اللَّفْظَ. . وَ (ثَالِثُهَا) : يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الَّذِي اتَّفَقَتْ رُوَاتُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي اُخْتُلِفَ فِيهِ: هَلْ هُوَ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ هُوَ مُدْرَجٌ مِنْ لَفْظِ غَيْرِهِ؟ كَخَبَرِ السِّعَايَةِ وَمَا يُعَارِضُهُ فِي الْعِتْقِ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. . (رَابِعُهَا) : يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الَّذِي حَكَى الرَّاوِي سَبَبَ وُرُودِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْكِهِ، لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ مِنْ الْحَاكِي، كَمَا رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ مَيْمُونَةَ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ حَلَالٌ، عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَمَّا إذَا انْطَبَقَ أَحَدُهُمَا عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ وَالْآخَرُ مُطْلَقٌ فَيُقَدَّمُ الْمُطْلَقُ، كَمَا قَالَهُ إلْكِيَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعُمُومِ، قَالَ: وَقَدْ يُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ السَّبَبِ وَلَا يَكُونُ فِي حَقِيقَتِهِ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ فَتَجْحَدُهُ فَقَطَعَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ: لَمَّا ذَكَرَ الِاسْتِعَارَةَ وَالْجُحُودَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا جَحَدَ يُقْطَعُ. قِيلَ: هَذَا ظَاهِرُهُ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا نَقَلَ الْجُحُودَ وَالِاسْتِعَارَةَ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِمُوَافَقَةِ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، كَمَا قَالَ: «مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» ، وَلِأَنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ امْرَأَةً مَخْزُومِيَّةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ فَتَجْحَدُهُ فَسَرَقَتْ فَأَهَمَّ قُرَيْشًا شَأْنُهَا فَقَالَ: «وَاَللَّهِ لَوْ سَرَقَتْ فُلَانَةُ وَأَشَارَ إلَى امْرَأَةٍ عَظِيمَةِ الْقَدْرِ لَقَطَعْتُهَا» . فَلَمَّا ذَكَرَ السَّرِقَةَ عُلِمَ أَنَّهَا سَبَبُ الْقَطْعِ لَا الِاسْتِعَارَةُ، وَأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ كَانَتْ سَبَبَ جُرْأَتِهَا عَلَى السَّرِقَةِ. . (خَامِسُهَا) : أَنْ يَتَرَدَّدَ الْأَصْلُ فِي رِوَايَةِ الْفَرْعِ عَنْهُ، فَإِنَّهَا مَقْبُولَةٌ عَلَى الْمُخْتَارِ، إذَا لَمْ يَجْزِمْ بِالْإِنْكَارِ، وَحِينَئِذٍ فَالْخَبَرُ الَّذِي لَمْ [يَتَرَدَّدْ فِيهِ الْأَصْلُ] رَاجِحٌ عَلَى هَذِهِ. . (سَادِسُهَا) : أَنْ يَخْتَلِفَ رُوَاةُ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ وَيَتَّفِقَ رُوَاةُ الْآخَرِ قَالَ.

أَبُو مَنْصُورٍ: فَرِوَايَةُ مَنْ لَمْ تَخْتَلِفْ طُرُقُ رِوَايَاتِهِ أَوْلَى، وَذَلِكَ كَرِوَايَةِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ حَدِيثَ نُصُبِ الزَّكَاةِ، أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، لِأَنَّ الِاسْتِئْنَافَ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْ عَلِيٍّ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ بِخِلَافِهِ. وَحَكَى فِي اللُّمَعِ " فِيهِ وَجْهَيْنِ: (أَحَدَهُمَا) : تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ. وَ (الثَّانِيَ) : يَتَعَارَضَانِ عَمَّنْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ، وَيَتَسَاقَطَانِ. وَتَبْقَى رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ. قُلْت: وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ. وَجَزَمَ ابْنُ بَرْهَانٍ بِالْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ كَثْرَةِ الرُّوَاةِ، لِأَنَّهُ يُوَافِقُ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فِي شَيْءٍ، وَيُسْتَعْمَلُ بِزِيَادَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ كَكَثْرَةِ الرُّوَاةِ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لَا يُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ لَمْ تَخْتَلِفْ عَنْهُ الرِّوَايَةُ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ يَكُونُ لِحِفْظِ الرَّاوِي. قَالَ: وَمِثَالُ ذَلِكَ حَدِيثُ الِاسْتِئْنَافِ وَالِاسْتِقْرَارِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ اسْتَقَرَّتْ الْفَرِيضَةُ» وَأَبُو بَكْرٍ يَرْوِي الِاسْتِقْرَارَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: (اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ) . وَمَثَّلَهُ إلْكِيَا بِحَدِيثِ وَائِلٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ» ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ الرُّوَاةُ عَنْهُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَيْهِ، وَرَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْهُ النَّهْيُ عَنْ الْبُرُوكِ بَرْكَ الْإِبِلِ فِي الصَّلَاةِ، أَيْ وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَدِيثُ وَائِلٍ انْفَرَدَ

مِنْ الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُهُ قَدْ عَاضَدَتْهُ إحْدَى رِوَايَتَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ أَوْلَى. قَالَ: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا نِكَاحُ الْمُحْرِمِ، وَتَخْيِيرُ بَرِيرَةَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ. قَالَ: وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا مَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إذَا كَانَ مِثْلُ مَعْنَى أَحَدِهِمَا مَنْقُولًا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ وُجُوهٍ، كَرِوَايَةِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ «أَعِدْ صَلَاتَك، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» وَرَوَى الْجُمْهُورُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَقَفَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُؤْذِنُهُمْ بِتَكْبِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَحْرَمَ خَلْفَ الصَّفِّ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَدَخَلَ فِيهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةٍ. وَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى يَسَارِ الرَّسُولِ، فَأَدَارَهُ عَنْ يَمِينِهِ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَّ أَنَسًا وَعَجُوزًا مُنْفَرِدَةً خَلْفَ أَنَسٍ» ، فَتُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ وَابِصَةَ. وَهُوَ يَرْجِعُ أَيْضًا إلَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ. . (سَابِعُهَا) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَحْسَنَ اسْتِيفَاءً لِلْحَدِيثِ مِنْ الْآخَرِ، كَتَرْجِيحِ رِوَايَةِ جَابِرٍ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ فِي الْإِفْرَادِ، لِأَنَّهُ سَرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى أَنْ عَادَ إلَيْهَا. . (ثَامِنُهَا) : أَنْ يَسْمَعَ أَحَدٌ الرِّوَايَتَيْنِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَالْآخَرُ شِفَاهًا، فَإِنَّ رِوَايَةَ الْمُشَافَهَةِ تُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ الْآخَرِ، كَحَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيَّرَ بَرِيرَةَ حِينَ عَتَقَتْ» ، وَلَوْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا.

مَا خَيَّرَهَا، وَرِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا. قُلْنَا: رِوَايَتُهُ مُقَدَّمَةٌ، لِأَنَّ رَاوِيَهَا عَنْ عَائِشَةَ عُرْوَةُ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَيَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنْهَا شِفَاهًا، وَغَيْرُهُ يَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ. . (تَاسِعُهَا) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِرِوَايَةِ (حَدَّثَنَا) وَالْآخَرُ بِرِوَايَةِ (أَخْبَرَنَا) ، فَاَلَّذِي بِرِوَايَةِ (حَدَّثَنَا) أَوْلَى. قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ "، لِأَنَّ (أَخْبَرَنَا) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قُرِئَ عَلَيْهِ فَغَفَلَ أَوْ سَهَا. بِخِلَافِ (حَدَّثَنَا) . وَقِيلَ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ كَمَا يُحْتَمَلُ سَهْوُ الشَّيْخِ فِي (أَخْبَرَنَا) يُحْتَمَلُ سَهْوُ الرَّاوِي فِي (حَدَّثَنَا) . . (عَاشِرُهَا) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَرْوِيهِ عَنْ حِفْظِهِ وَكِتَابِهِ، وَالْآخَرُ يَرْوِيهِ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِبُعْدِهِ مِنْ الزَّلَلِ، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ أَيْضًا. وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَوَاهُ وَسَمِعَهُ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ، وَالْآخَرُ يَرْوِيهِ مِنْ كِتَابِهِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى. فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي كِتَابِهِ سَمَاعُهُ فَلَا تَرْجِيحَ. . (حَادِي عَشَرَهَا) : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَرْوِيهِ بِسَمَاعِهِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ وَالْآخَرُ بِقِرَاءَتِهِ عَلَى شَيْخِهِ إذَا قُلْنَا: قِرَاءَةُ الشَّيْخِ أَعْلَى، كَذَا ذَكَرُوهُ. وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا قَرَأَهُ الْعَالِمُ عَلَى الْعَالِمِ. أَمَّا إذَا قَرَأَهُ الْجَاهِلُ عَلَى الْجَاهِلِ فَهُمَا سِيَّانِ. . (ثَانِي عَشَرَهَا) : مَا يَرْوِيهِ بِالسَّمَاعِ، عَلَى مَا يَرْوِيهِ بِالْإِجَازَةِ. (ثَالِثُ عَشَرَهَا) : الْمُسْنَدُ رَاجِحٌ عَلَى الْمُرْسَلِ إنْ قُبِلَ الْمُرْسَلُ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى قَبُولِهِ، بِخِلَافِ الْمُرْسَلِ وَقَالَ قَوْمٌ - مِنْهُمْ عِيسَى بْنُ أَبَانَ -: الْمُرْسَلُ أَوْلَى. وَقَالَ قَوْمٌ - مِنْهُمْ عَبْدُ الْجَبَّارِ -: يَسْتَوِيَانِ.

قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": وَمَا قَالَهُ عِيسَى إنَّمَا يَصِحُّ حَيْثُ يَقُولُ " الرَّاوِي ": قَالَ الرَّسُولُ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ مَا يَحْتَمِلُهُ كَقَوْلِهِ: عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَرَجُّحَ فِيهِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ " رُوِيَ عَنْ الرَّسُولِ ". وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمَرْجُوحِيَّةَ أَوْ الرَّدَّ، وَضَعَّفَهُ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ مِنْ سَمَاعٍ وَلَمْ يَذْكُرْ عَمَّنْ بَلَغَهُ وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا يُنَبِّئُ عَنْ حُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ لَهُ، فَلَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ. قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ فِيهِ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُسْنَدِ، وَلِهَذَا قَبِلَهُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْمُرْسَلَ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. وَهُنَا فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا هَذَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ مَرَاسِيلَهُمْ مَقْبُولَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ فَهِيَ كَالْمُسْنَدَةِ، حَتَّى لَوْ عَارَضَهَا صَحَابِيٌّ صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ فَهُمَا سَوَاءٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَتَطَرَّقُهُ خِلَافٌ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَرَاسِيلِ التَّابِعِيِّ، لِأَنَّ ظَاهِرَ رِوَايَتِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَكُلَّمَا عُلِمَ مِنْ الْمَرَاسِيلِ قِلَّةُ الْوَسَائِطِ فَهُوَ أَرْجَحُ عَلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ فَمَرَاسِيلُ كُلِّ عَصْرٍ أَوْلَى مِنْ مَرَاسِيلِ مَا بَعْدَهُ. ثَانِيهِمَا إذَا كَانَ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ عَدْلٍ، كَابْنِ الْمُسَيِّبِ، فَهُوَ وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ.

وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا إذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا إذَا حَصَلَ لَهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِصِدْقِ الْخَبَرِ فَمُرْسَلُهُ رَاجِحٌ عَلَى مُسْنَدِهِ. . الرَّابِعُ: بِوَقْتِ وُرُودِ الْخَبَرِ؟ وَيُرَجَّحُ بِوُجُوهٍ، وَهِيَ غَيْرُ قَوِيَّةٍ فِي الرُّجْحَانِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ: (أَوَّلُهَا) الْخَبَرُ الْمَدَنِيُّ، أَيْ الَّذِي رُوَاتُهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مَهْبِطِ الْوَحْيِ، وَمَوْضِعَهُمْ مَوْضِعُ النَّاسِخِ، وَلَهُمْ الْعِنَايَةُ بِمَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّ الْمَدَنِيَّاتِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْهِجْرَةِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَلِذَلِكَ قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُمْ عَلَى رِوَايَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي تَرْجِيعِ الْأَذَانِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَكَذَلِكَ تَعَارُضُ الْآيَتَيْنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَدَنِيَّةَ نَاسِخَةٌ لِلْمَكِّيَّةِ، مَعَ إمْكَانِ نُزُولِ الْمَكِّيَّةِ بَعْدَ النَّسْخِ وَنُزُولِ الْمَدَنِيَّةِ قَبْلَهُ، إلَّا أَنَّ نَسْخَ الْمَكِّيَّاتِ بِالْمَدَنِيَّاتِ أَكْثَرُ مِنْ الْعَكْسِ. . (ثَانِيهَا) تَرْجِيحُ الْخَبَرِ الدَّالِ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ. (ثَالِثُهَا) الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّغْلِيظِ عَلَى الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّخْفِيفِ؟ ، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ يَرْأَفُ بِالنَّاسِ وَيَأْخُذُهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلَا يَتَعَبَّدُ بِالتَّغْلِيظِ، فَاحْتِمَالُ تَأْخِيرِ التَّشْدِيدِ أَظْهَرُ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، حَيْثُ قَالَ: أَوْ شَدِيدُهُ، لِتَأَخُّرِ التَّشْدِيدَاتِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَخَفُّ عَلَى الْأَثْقَلِ. وَكَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يُقَدَّمُ الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّخْفِيفِ. . (رَابِعُهَا) يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ مُطْلَقًا عَلَى الْمَرْوِيِّ بِتَارِيخٍ مُتَقَدِّمٍ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ أَشْبَهَ بِالتَّأَخُّرِ. كَذَا قَالُوا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَرْجِيحِ الْأَصْحَابِ فِي الْبَيِّنَاتِ إذَا أُطْلِقَتْ وَاحِدَةٌ وَأُرِّخَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. . .

خَامِسُهَا) الْمُؤَرَّخُ بِتَارِيخٍ مُضَيَّقٍ فِي آخِرِ عُمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُطْلَقِ، لِأَنَّهُ أَظْهَرُ تَأَخُّرًا، وَسَبَقَ مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ. وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْهُ أَخْبَارَ الدِّبَاغِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فِيهَا. . (سَادِسُهَا) إذَا حَصَلَ إسْلَامُ رَاوِيَيْنِ مَعًا، كَإِسْلَامِ خَالِدٍ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَحْمِلُ الْحَدِيثَ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَيُرَجَّحُ خَبَرُهُ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ هَلْ تَحَمَّلَهُ الْآخَرُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ؟ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ تَأَخُّرًا وَهَذَا يَسْتَقِيمُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ الَّذِي وَقَعَ التَّعَارُضُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْوَصْفِ، أَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَكْثَرَ رِوَايَاتِ أَحَدِهِمَا كَانَ بِسَمَاعِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَسْتَقِيمُ. . الْقَوْلُ فِي التَّرْجِيحِ مِنْ جِهَةِ الْمَتْنِ وَهُوَ بِاعْتِبَارَاتٍ الْأَوَّلُ - التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَيَقَعُ بِأُمُورٍ (أَوَّلُهَا) فَصَاحَةُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ، مَعَ رَكَاكَةِ الْآخَرِ وَهَذَا إنْ قَبِلْنَا كُلًّا مِنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ نَقْبَلْ الرَّكِيكَ، كَمَا صَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لَمْ يَكُنْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: يُرَجَّحُ الْأَفْصَحُ عَلَى الْفَصِيحِ، لِأَنَّ الظَّنَّ بِأَنَّهُ لَفْظُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَقْوَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ بِهِ، لِأَنَّ الْبَلِيغَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِالْأَفْصَحِ وَالْفَصِيحِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَعَ ذَوِي لُغَةٍ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى.

تِلْكَ الْفَصِيحَةِ، كَرِوَايَةِ: «لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ» . . (ثَانِيهَا) يُرَجَّحُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ. قَالَ إلْكِيَا: وَالْفِقْهُ عَلَى ذَلِكَ يَدُورُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالشِّغَارِ، وَالْمُحْرِمِ، وَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَشَاهِدٍ» . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ثُمَّ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالْحَصَاةِ، وَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَبَيْعٍ وَسَلَفٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] الْآيَةُ، ثُمَّ نَهَى عَنْ أَكْلِ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَلَئِنْ حَمَلَ حَامِلٌ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ بِدَلَالَةِ الْعُمُومِ وَجَدَ مَقَالًا، وَلَكِنْ يُقَالُ: الْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ، فَإِنَّ الْخَاصَّ أَقْرَبُ إلَى التَّعْيِينِ مِنْ الْجُمْلَةِ إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا تَمْهِيدَ الْأُصُولِ. . (ثَالِثُهَا) يُقَدَّمُ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ عَلَى الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ. نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ، وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ دُخُولَ التَّخْصِيصِ يُضْعِفُ اللَّفْظَ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَجَازًا عَلَى قَوْلٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: لِأَنَّ الَّذِي قَدْ دَخَلَهُ قَدْ أُزِيلَ عَنْ تَمَامِ مُسَمَّاهُ، وَالْحَقِيقَةُ تُقَدَّمُ عَلَى الْمَجَازِ، وَاعْتَرَضَ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّ الْمَخْصُوصَ رَاجِحٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ التَّقْدِيمَ عَنْ قَوْمٍ، وَوَجَّهَهُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى التَّعَلُّقِ بِمَا لَمْ يُخَصَّ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا خُصَّ. قَالَ: وَعِنْدَنَا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حُكْمِ سَمَاعِ الْحَادِثَةِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ كَهُوَ مِنْ اللَّفْظِ الْآخَرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَخْصُوصَ يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالنَّصِّ عَلَى تِلْكَ الْعَيْنِ، قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ إذَا اُسْتُثْنِيَ بَعْضُهُ صَحَّ التَّعَلُّقُ بِهِ.

وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنِيرِ مَذْهَبًا ثَالِثًا، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ عَلَى الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّ، لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ قَدْ قَلَّتْ أَفْرَادُهُ حَتَّى قَارَبَ النَّصَّ، إذْ كُلُّ عَامٍّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِي أَقَلِّ مُتَنَاوَلَاتِهِ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْ الْأَقَلِّ بِالتَّخْصِيصِ فَقَدْ قَرُبَ مِنْ التَّنْصِيصِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقَدُّمِ. . (رَابِعُهَا) يَتَقَدَّمُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ عَلَى الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ، إنْ قُلْنَا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ يُوهِنُهُ وَيَحُطُّهُ عَنْ رُتْبَةِ الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ، وَمَبْنَى التَّرْجِيحِ عَلَى غَلَبَةِ الظُّنُونِ، قَالَهُ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ "، وَسَبَقَ مِثْلُهُ عَنْ إلْكِيَا، وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ "، وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ " وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: لِأَنَّ الْوَارِدَ عَلَى غَيْرِ السَّبَبِ مُتَّفَقٌ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ مُخْتَلَفٌ فِي عُمُومِهِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَفْرَادِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ الْعَامَّيْنِ فَلَا، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ الْوَارِدُ عَلَى سَبَبٍ رَاجِحٍ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسَبَّبِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَفْرَادِ، وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُمْ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِحَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ، قُلْت: وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ فِي الْمُسَبَّبِ. . (خَامِسُهَا) تَرْجِيحُ الْحَقِيقَةِ عَلَى الْمَجَازِ، لِتَبَادُرِهَا إلَى الذِّهْنِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا لَمْ يُغَلَّبْ الْمَجَازُ، فَإِنْ غُلِّبَ كَانَ أَظْهَرَ دَلَالَةً مِنْهَا، فَلَا تُقَدَّمُ الْحَقِيقَةُ عَلَيْهِ. . (سَادِسُهَا) أَنْ يَكُونَ مَجَازُ أَحَدِهِمَا أَشْبَهَ بِالْحَقِيقَةِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى مَا مَجَازُهُ يُشْبِهُهَا.

سَابِعُهَا) الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ أَوْ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ. قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اللَّفْظِ الَّذِي صَارَ شَرْعِيًّا، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَاحِدًا وَالْمَعْنَى فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَفِي الْآخَرِ عَلَى اللُّغَوِيِّ. أَمَّا الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِيهِ، مِثْلَ أَنْ يَدُلَّ هَذَا اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ الشَّرْعِيِّ عَلَى حُكْمٍ وَاللَّفْظُ الثَّانِي بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ عَلَى حُكْمٍ، وَلَيْسَ لِلشَّرْعِ فِي هَذَا اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا يَسْلَمُ تَرْجِيحُ الشَّرْعِيِّ عَلَى اللُّغَوِيِّ، لِأَنَّ هَذَا اللُّغَوِيَّ إذَا لَمْ يَنْقُلْهُ الشَّرْعُ فَهُوَ لُغَوِيٌّ عُرْفِيٌّ شَرْعِيٌّ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ شَرْعِيٌّ وَلَيْسَ بِلُغَوِيٍّ وَلَا عُرْفِيٍّ، وَالنَّقْلُ خِلَافُ الْأَصْلِ. . (ثَامِنُهَا) وَالْخَبَرُ الْمُسْتَغْنَى عَنْ الْإِضْمَارِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُفْتَقِرِ إلَيْهَا. (تَاسِعُهَا) يُقَدَّمُ الْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى الدَّالِّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» فَقَضِيَّتُهُ أَنَّ مَا يُقْسَمُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» فَيُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ» لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ بِوَجْهٍ، وَحَدِيثُنَا يَدُلُّ بِوَجْهَيْنِ. . (عَاشِرُهَا) تَرْجِيحُ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ، لِزِيَادَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِقِلَّةِ الْوَاسِطَةِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ نِكَاحِهَا إذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا إلَّا بِوَاسِطَةِ الْإِجْمَاعِ، أَوْ يُقَالُ: إذَا بَطَلَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ بَطَلَ بِالْإِذْنِ، إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى

بُطْلَانِ نِكَاحِهَا إذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَالْحَدِيثُ الثَّانِي أَرْجَحُ. . (حَادِيَ عَشَرَهَا) يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ مِنْ لَفْظٍ مُومٍ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ. لِأَنَّ الِانْقِيَادَ إلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ الِانْقِيَادِ إلَى غَيْرِ الْمُعَلَّلِ، لِأَنَّ ظُهُورَ التَّعْلِيلِ مِنْ أَسْبَابِ قُوَّةِ التَّعْمِيمِ، كَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» عَلَى حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّبْدِيلَ إيمَاءٌ إلَى الْعِلَّةِ. . (ثَانِيَ عَشَرَهَا) الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ ذِكْرُ الْعِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ، وَعَكَسَ النَّقْشَوَانِيُّ. (ثَالِثَ عَشَرَهَا) الْمَذْكُورُ مَعَ مُعَارَضَةٍ أَوْلَى مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَحَدِيثِ «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» ، فَيُرَجَّحُ عَلَى الدَّالِّ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَارَةِ. (رَابِعَ عَشَرَهَا) الْمَقْرُونُ بِنَوْعٍ مِنْ التَّهْدِيدِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» . . (خَامِسَ عَشَرَهَا) الْمَقْرُونُ بِالتَّأْكِيدِ بِأَنْ يُكَرَّرَ أَحَدُهُمَا ثَلَاثًا، وَالْآخَرُ لَمْ يُؤَكَّدْ، فَيُرَجَّحُ الْمُؤَكَّدُ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يُبْعِدُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ وَالتَّأْوِيلِ، كَقَوْلِهِ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» فَإِنَّهُ رَاجِحٌ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ الْحَنَفِيَّةُ «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» ، لَوْ سَلِمَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ. . (سَادِسَ عَشَرَهَا) الْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ: «فِيمَا سَقَتْ

السَّمَاءُ الْعُشْرُ مِنْ التَّمْرِ» مَعَ قَوْلِهِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ فَيُقَالُ: مَعْنَاهُ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ. بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الْآخَرِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قُصِدَ فِيهِ بَيَانُ الْمُزَكَّى، وَالْآخَرَ بَيَانُ الزَّكَاةِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: الْكَلَامُ يُجْمَلُ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ وَيُفَصَّلُ فِي مَقْصُودِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ «فِي سَائِمِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ» مَعَ قَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَكَذَلِكَ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» مَعَ قَوْلِهِ: «فِي الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى بَيَانِ الْمُزَكَّى وَالزَّكَاةِ، لَا عَلَى مَا لَمْ يُنْقَلْ لَهُ الْخَبَرُ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْمَسْمُوعُ، ذَكَرَهُ إلْكِيَا. ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ: قَدْ يَرِدُ عَلَى صُورَةِ الْبَيَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا حَقًّا، كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ: «أَشَهِدْت عَلَى نَفْسِك أَرْبَعًا» ، وَفِي لَفْظٍ: أَنْتَ تَشْهَدُ؟ وَأَنَّهُ رَدَّدَهُ، فَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: إنَّهُ لَمَّا رَدَّدَهُ مِرَارًا ثُمَّ قَالَ: «أَشَهِدْت عَلَى نَفْسِك أَرْبَعًا» ، دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: «فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» أَيْ اعْتَرَفَتْ أَرْبَعًا. فَقُلْنَا: لَمْ يَكُنْ التَّرَدُّدُ وَالرَّدُّ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالِاعْتِرَافِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ لَمْ يُفْصِحْ أَوَّلًا بِمَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَرَأَى فِيهِ دَلَائِلَ الْخَبَلِ وَالْجُنُونِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: «لَعَلَّك لَمَسْت» ، وَسَأَلَ عَنْ النُّونِ وَالْكَافِ فَقُلْنَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ: رِوَايَةُ مَاعِزٍ مُقَدَّمَةٌ، وَقَلَبُوا الْأَمْرَ فَلَمْ يَجْعَلُوا الْبَيَانَ فِي الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ مُعْتَبَرًا، قَدَّمُوا الْعُمُومَ عَلَيْهِ، وَقَدَّمُوا الْبَيَانَ عَلَى الْعُمُومِ هَاهُنَا. وَمِنْ هَذَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ، فَكَانَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى، لِأَنَّ فِيمَا رَوَاهُ: «وَاسْجُدْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَإِنْ كَانَ أَرْبَعًا فَالسَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ وَإِنْ كَانَ خَمْسًا شَفَعْتَهَا بِالسَّجْدَتَيْنِ» فَذِكْرُ التَّرْغِيمِ، وَالشَّفْعِ لَا يَكُونُ مَعَ الْفَصْلِ وَالتَّخَلُّلِ، فَكَانَ مَا نَقَلْنَاهُ إيمَاءً إلَى بَيَانِ السَّبَبِ عَلَى مَا رَدَّدَهُ. وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ وُرُودُ الْأَمْرِ وَالْفِعْلِ، وَنَقَلُوا الْأَمْرَ فَقَطْ، وَالْأَمْرُ أَبْيَنُ مِنْ الْفِعْلِ الَّذِي يُمْكِنُ تَقْدِيرُ اخْتِصَاصِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . (سَابِعَ عَشَرَهَا) مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ: عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ أَقْوَى. وَقِيلَ تُقَدَّمُ الْمُخَالَفَةُ لِأَنَّهَا تُفِيدُ تَأْسِيسًا، وَالْمُوَافَقَةُ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى. وَقِيلَ: يَتَعَارَضُ مَفْهُومُ الْغَايَةِ وَالشَّرْطِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُمَثَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ

تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] فَإِنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ يَقْتَضِي حِلَّ الْقُرْبَانِ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَمَفْهُومَ الشَّرْطِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ قَبْلَ الْغُسْلِ. . الثَّانِي - التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ مَدْلُولِهِ وَهُوَ الْحُكْمُ، وَيَقَعُ عَلَى أُمُورٍ أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ مُفِيدًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ وَالْبَرَاءَةِ وَالثَّانِي نَاقِلًا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ النَّاقِلِ، وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ النَّاقِلَ زَائِدٌ عَلَى الْمُقَرَّرِ، وَمِنْ أَصْلِنَا قَبُولُ الزِّيَادَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالْبَرَاءَةِ أَوْ الْقَضَاءِ، فَالْإِبْرَاءُ أَوْلَى، لِأَنَّهُمَا قَدْ شَهِدَا بِمَا شَهِدَ الْأَوَّلَانِ وَزَادَ النَّقْلُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَكَمَا قُلْنَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: إذَا اجْتَمَعَا فَالْجَرْحُ أَوْلَى، انْتَهَى. وَقِيلَ: يَجِبُ تَرْجِيحُ الْمُقَرَّرِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ، كَحَدِيثَيْ مَسِّ الذَّكَرِ، فَإِنَّ النَّاقِضَ نَاقِلٌ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْآخَرَ مُقَرِّرٌ لَهُ.

تَنْبِيهٌ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: هَذَا الْخِلَافُ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ، بَلْ مِنْ بَابِ النَّسْخِ، لِأَنَّا نَعْمَلُ بِالنَّاقِلِ عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ لَوَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ بِالْخَبَرِ الْآخَرِ لَوْلَاهُ لَكِنَّا إنَّمَا نَحْكُمُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ، لَا لِأَجْلِ الْخَبَرِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ، وَلِهَذَا أَوْرَدُوهُ فِي بَابِهِ لَا فِي بَابِ النَّسْخِ، لِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِالنَّسْخِ، بَلْ نَقُولُ: الظَّاهِرُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي بَابِ الْأَوْلَى، وَهُوَ تَرْجِيحٌ. . ثَانِيهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَى الِاحْتِيَاطِ بِأَنْ يَقْتَضِيَ الْحَظْرَ، وَالْآخَرُ الْإِبَاحَةَ، فَيُقَدَّمُ مُقْتَضَى الْحَظْرِ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهَا مَا أَمْكَنَ، وَلِحَدِيثِ: «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» قَالَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ وَابْنُ بَرْهَانٍ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: يُرَجَّحُ الْمُقْتَضِي لِلْإِبَاحَةِ، لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ (نَفْيَ الْحَرَجِ) الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " وَأَشَارَ الْآمِدِيُّ إلَى الْقَوْلِ بِهِ بَحْثًا، وَحَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَجْهَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: يَتَسَاوَيَانِ، فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ صَدَقَ الرَّاوِي فِيهِمَا عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ،

وَصَحَّحَهُ الْبَاجِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي جَعْفَرٍ. وَصَوَّرَ فِي الْحَاصِلِ " الْمَسْأَلَةَ بِأَنْ يَقْتَضِيَ الْعَقْلُ حُرْمَةَ وَإِبَاحَةَ مَا أَبَاحَهُ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ، وَحَرَّمَهُ الْآخَرُ. ثُمَّ نَقَلَ فِيهِ التَّسَاوِي، ثُمَّ قَالَ: لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا الْعَازِلِ لِلْعَقْلِ عَنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ. أَمَّا عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَنَعَمْ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنْ كَانَ لِلشَّيْءِ أَصْلُ إبَاحَةٍ وَحَظْرٍ، وَأَحَدُ الْخَبَرَيْنِ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْأَصْلَ، وَالْآخَرُ بِخِلَافِهِ، كَانَ النَّاقِلُ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ أَوْلَى، كَتَقْدِيمِ الْخَبَرِ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ حَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ فَيَرِدُ خَبَرٌ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، وَآخَرُ الْحَظْرَ، فَوَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْحَظْرَ أَوْلَى لِلِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّ الْحَرَامَ يَغْلِبُ. وَ (الثَّانِي) أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُبَاحِ كَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ، فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ. وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْحَمَّامِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ مَوْلَاةِ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ، أَيْ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ كَالْمُسْتَحِلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ إلْكِيَا: إنْ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ هِيَ الْأَصْلُ فَالْحَظْرُ أَوْلَى، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْمُتَعَارِضِ، فَنُقَدِّمُ الْإِبَاحَةَ عَلَى طَرَيَان الْحَظْرِ، فَكَأَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي حُكْمِ الْمَنْسُوخِ. وَإِنْ كَانَ الْحَظْرُ هُوَ الْأَصْلُ فَالْأَخْذُ بِالْإِبَاحَةِ أَوْلَى. أَمَّا إذَا تَعَارَضَا وَلَمْ يُعْلَمْ أَصْلُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَوْضِعُ التَّوَقُّفِ:

فَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إلَى أَنَّ الْحَظْرَ يُرَجَّحُ، وَقِيلَ: إنَّهُ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ، لِأَنَّ الْحَرَامَ يَغْلِبُ. - وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: يَسْتَحِيلُ وُرُودِ الْخَبَرَيْنِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْمُسْتَحِيلِ. ثُمَّ قَالَ إلْكِيَا: وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ إذَا أَمْكَنَ مِنْ تَعَارُضِهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالرُّجُوعُ إلَى وَجْهٍ آخَرَ فِي التَّرْجِيحِ إمَّا مِنْ حَيْثُ الِاحْتِيَاطُ إذَا أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِهِ فِي التَّرْجِيحِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، أَوْ بِوَجْهٍ آخَرَ قَدَّمْنَاهُ. فَائِدَةٌ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّ الْقَاضِيَ بَكَّارًا وَالْمُزَنِيَّ اجْتَمَعَا فِي جِنَازَةٍ، وَكَانَ الْقَاضِي يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْمُزَنِيِّ، فَسَأَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْمُزَنِيَّ فَقَالَ: يَا أَبَا إبْرَاهِيمَ، جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ النَّبِيذِ، وَجَاءَ تَحْلِيلُهُ، فَلِمَ قَدَّمْتُمْ التَّحْرِيمَ عَلَى التَّحْلِيلِ؟ فَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ النَّبِيذَ كَانَ حَرَامًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ نُسِخَ، وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا. فَهَذَا يَعْضِدُ صِحَّةَ الْأَحَادِيثِ بِالتَّحْرِيمِ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ. . ثَالِثُهَا - أَنْ يَقْتَضِيَ أَحَدُهُمَا التَّحْرِيمَ وَالْآخَرُ الْإِيجَابَ وَرَجَّحَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي دَفْعَ الْمَفْسَدَةِ،

وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ، وَرَجَّحَ الْبَيْضَاوِيُّ التَّسَاوِي، وَهِيَ أَقْرَبُ، لِتَعَذُّرِ الِاحْتِيَاطِ، لِأَنَّهُ بِالْعَقْلِ بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ بِالتَّرْكِ، بِخِلَافِ الْإِيجَابِ، فَكِلَاهُمَا يُوقِعُ فِي الْعِقَابِ، وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَقَالَ: لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَمِثَالُهُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: «إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» قَالَ نَافِعٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ بَعَثَ مِنْ يَنْظُرُ، فَإِنْ رَأَى فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، وَإِلَّا أَصْبَحَ صَائِمًا. وَهَذَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ. وَيُعَارِضُهُ خَصْمُهُ بِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " فِي تَعَارُضِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِيجَابِ مَعَ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّدَبِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدَّمَ الْإِيجَابَ، قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ فِي الْوُجُوبِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى النَّدْبِ. وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. . رَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُثْبِتًا وَالْآخَرُ نَافِيًا وَهُمَا شَرْعِيَّانِ، قَالَ فَالصَّحِيحُ تَقْدِيمُ الْمُثْبِتِ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ وَلِهَذَا قَدَّمُوا خَبَرَ بِلَالٍ فِي صَلَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَاخِلَ الْبَيْتِ عَلَى خَبَرِ أُسَامَةَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ. وَقِيلَ: بَلْ يُقَدَّمُ النَّافِي.

وَقِيلَ: بَلْ هُمَا سَوَاءٌ، لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى "، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: إلَّا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ: النَّافِي إنْ نَقَلَ لَفْظًا مَعْنَاهُ النَّفْيُ، كَمَا إذَا نَقَلَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَنَقَلَ الْآخَرُ أَنَّهُ يَحِلُّ، فَهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُثْبِتٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا فِعْلًا أَوْ قَوْلًا، وَنَفَاهُ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ: " وَلَمْ يَقُلْهُ "، أَوْ " لَمْ يَفْعَلْهُ "، فَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ، لِأَنَّ الْغَفْلَةَ تَتَطَرَّقُ إلَى الْمُصْغِي وَالْمُسْتَمِعِ وَإِنْ كَانَ مُحَدِّثًا. وَحَكَى ابْنُ الْمُنِيرِ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ فَصَّلَ بَيْنَ إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَى النَّفْيِ يَقِينًا بِضَبْطِ الْمَجْلِسِ وَتَحَقُّقِ السُّكُوتِ، أَوْ لَا، فَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى النَّفْيِ يَقِينًا وَادَّعَى سَبَبًا يُوَصِّلُ لِلْيَقِينِ تَعَارَضَا وَلَا يُرَجَّحُ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ. وَقَالَ إلْكِيَا: إذَا تَعَارَضَ رِوَايَةُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَكَانَا جَمِيعًا شَرْعِيَّيْنِ اُسْتُفْسِرَ النَّافِي، فَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ سَبَبِ عِلْمِهِ بِالنَّفْيِ صَارَ هُوَ وَالْمُثْبِتُ سَوَاءً، وَلِهَذَا لَمْ يُرَجِّحْ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ نَفْيِ الصَّلَاةِ عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ عَلَى رِوَايَةِ الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ النَّفْيَ اُعْتُضِدَ بِمَزِيدِ ثِقَةٍ، وَهُوَ أَنَّ الرَّاوِيَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ، وَالْمَقْتُولَ عَمُّ أَحَدِهِمَا وَوَالِدُ الْآخَرِ، وَلَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ قَالَ النَّافِي: لَمْ أَعْلَمْ بِمَا يُزِيلُهُ، فَعَدَمُ الْعِلْمِ لَا يُعَارِضُ الْإِثْبَاتَ، كَرِوَايَةِ «عَائِشَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَهَا وَهُوَ صَائِمٌ» ، وَأَنْكَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ عِلْمِهَا فَلَا يَدْفَعُ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَكَحَدِيثِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ. وَحَاصِلُهُ: إنْ كَانَ النَّافِي قَدْ اسْتَنَدَ إلَى الْعِلْمِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُثْبِتِ، وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ نَحْوُهُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ كَالْمُثْبِتِ، وَهُوَ نَظِيرُ النَّفْيِ الْمَحْصُورِ. وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالْقَتْلِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَآخَرَانِ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَنَا وَلَمْ يَغِبْ عَنَّا، تَعَارَضَا.

وَبَحَثَ فِيهِ الرَّافِعِيُّ، وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ النَّفْيَ إنْ كَانَ مَحْصُورًا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ، قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ. وَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ صَحِيحٌ، وَالنَّفْيُ الْمَحْصُورُ وَالْإِثْبَاتُ سِيَّانِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنْ كَانَ الْمُثْبِتُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَالنَّافِي عَلَى حُكْمِ الْعَادَةِ فَالْمُثْبِتُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمَانِ شَرْعِيَّيْنِ فَقَدْ تَسَاوَيَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ بِالنَّفْيِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ، فَيَكُونُ الْمُثْبِتُ أَوْلَى، كَرِوَايَةِ عَائِشَةَ فِي تَقْبِيلِهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَأَنْكَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ عَدَمِ عِلْمِهَا، وَذَلِكَ لَا يَدْفَعُ حَدِيثَ عَائِشَةَ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ النَّافِي أَخَصَّ مِنْ الْمُثْبِتِ فَالْحُكْمُ لِلْأَخَصِّ. وَتَحَصَّلَ أَنَّ الْمُثْبِتَ يُقَدَّمُ إلَّا فِي صُوَرٍ:، (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَنْحَصِرَ النَّفْيُ، فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا تَكْرَارَ فِيهِ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَارَضَانِ. (الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَكُونَ رَاوِي النَّفْيِ لَهُ عِنَايَةٌ بِهِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، كَمَا قُدِّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، عَلَى حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَتْلَى، وَكَمَا قُدِّمَ حَدِيثُهُ فِي الْإِفْرَادِ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْقِرَانِ، لِأَنَّهُ صَرَفَ هِمَّتَهُ إلَى صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى آخِرِهِ. (الثَّالِثَةُ) : أَنْ يَسْتَنِدَ نَفْيُ النَّافِي إلَى عِلْمٍ. . خَامِسُهَا - تَرْجِيحُ الْخَبَرِ النَّافِي لِلْحَدِّ وَالْعِقَابِ عَلَى مُوجِبٍ لَهُمَا - عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، كَحَدِيثِ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» .

وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، حَكَاهُ سُلَيْمٌ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ تَرْجِيحًا وَلَيْسَ بِتَرْجِيحٍ، قَالَ: لِأَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ تَفَاوُتًا، فِي صِدْقِ الرَّاوِي فِيمَا نَقَلَهُ مِنْ لَفْظِ الْإِيجَابِ أَوْ الْإِسْقَاطِ، وَضَعَّفَ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: الرَّافِعُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَهَذَا الْخِلَافُ يَجْرِي فِي أَنَّهُ هَلْ تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلْعِتْقِ عَلَى النَّافِيَةِ لَهُ، لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ. . سَادِسُهَا - الْمُثْبِتُ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ. وَعَكَسَ قَوْمٌ لِمُوَافَقَةِ التَّأْسِيسِ. . سَابِعُهَا - إذَا كَانَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَخَفَّ وَحُكْمُ الْآخَرِ أَثْقَلَ فَقِيلَ: إنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى. وَقِيلَ بِالْعَكْسِ. . ثَامِنُهَا - أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَالْآخَرُ تَعُمُّ بِهِ. فَالْأَوَّلُ رَاجِحٌ لِلِاتِّفَاقِ فِيهِ. . تَاسِعُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوجِبًا لِحُكْمَيْنِ وَالْآخَرُ مُوجِبًا لِحُكْمٍ وَاحِدٍ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ يَنْفِيهَا الثَّانِي. وَفِي تَقْدِيمِ الثَّانِي عَلَيْهِ إبْطَالُهَا. . .

عَاشِرُهَا - الْحُكْمُ الْمُثْبِتُ لِلْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ أَوْلَى مِنْ الْحُكْمِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ، لِأَنَّ الْوَضْعِيَّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفِيُّ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْمُخَاطَبِ وَفَهْمِهِ وَتَمَكُّنِهِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمُتَوَقِّفِ أَوْلَى مِنْ الْمُتَوَقِّفِ. وَقِيلَ: التَّكْلِيفِيُّ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَثُوبَةً، وَأَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِالذَّاتِ، وَأَنَّهُ الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَكَانَ أَوْلَى. . الثَّالِثُ - التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ وَلَهُ أَسْبَابٌ أَوَّلُهَا - اعْتِضَادُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ بِقَرِينَةِ الْكِتَابِ كَتَقْدِيمِ (الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَرِيضَتَانِ) عَلَى رِوَايَةِ (الْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ) لِمُوَافَقَتِهِ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَهَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَعَارَضَهُ الْقَاضِي وَقَالَ: وَقَوْلُهُ أَتِمُّوا " دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ. وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْقَاضِي: يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِالْمُسْتَقِلِّ وَإِنْ مَنَعْنَاهُ لَكِنَّا أَخَذْنَا مِنْ الْمُسْتَقِلِّ وَصْفًا فِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ تَرَاخِي النَّظْمِ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: مَا وَافَقَ ظَاهِرَ الْكِتَابِ كَانَتْ النُّفُوسُ أَمْيَلَ إلَيْهِ، وَالْقَاضِي يَقُولُ: بَلْ الَّذِي

يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ لَا يُنْقَلُ مَا نُقِلَ إلَّا عَنْ زِيَادَةِ الثَّبْتِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَقْرَبُ إلَى قِيَاسِ الْأُصُولِ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْفَقُ لِلْعُرْفِ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: مَا ذَكَرُوهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ إتْمَامَ الْحَجِّ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلِابْتِدَاءِ، وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي وُجُوبِ إتْمَامِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا. قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُ مُتَنَمِّقًا بِإِيرَادِ كَلَامِهِ: وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْإِمَامِ: الْإِتْمَامُ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ وَعَلَى إتْمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمًا بِالْحَجِّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِإِتْمَامِهِ. وَمِنْ مُثُلِهِ التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] . وَكَتَرْجِيحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّشَهُّدِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِقَوْلِهِ: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] ، وَتَرْجِيحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، لِقَوْلِهِ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَهَذَا يَسْتَعْمِلُهُ الشَّافِعِيُّ كَثِيرًا، وَبَنَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْأُصُولَ. وَكَذَا قُدِّمَ حَدِيثُ خَوَّاتٍ فِي صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ عَلَى رِوَايَةِ

ابْنِ عُمَرَ، لِأَجْلِ الْحَذَرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَجَعَلَهُ فِي الْمَنْخُولِ " مِنْ أَصْلِهِ، فَوَافَقَ الْأُصُولَ، لِأَنَّ رِوَايَةَ خَوَّاتُ، الْأَفْعَالُ فِيهَا قَلِيلَةٌ، قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي لِلشَّافِعِيِّ: إنْ كُنْت تَتَّهِمُ ابْنَ عُمَرَ بِحَيْدِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فَمُحَالٌ، وَلَيْسَ الْقِيَاسُ مُنَاسِبًا لِمَأْخَذِ الدَّلِيلِ حَتَّى يَقْدَحَ فِيهِ. وَإِنْ قُلْت: إنَّ الْغَالِبَ عَلَى الرَّسُولِ الْجَرْيُ عَلَى قِيَاسِ الْأُصُولِ فَيُعَارِضُهُ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّاقِلَ عَنْ الْقِيَاسِ يَكُونُ أَثْبَتَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ الْمُسْتَمِرِّ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا تُقَدَّمُ شَهَادَةُ الْإِبْرَاءِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلِ الدَّيْنِ. قَالَ إلْكِيَا: وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْجَهُ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ وَلَا يَظْهَرُ لِلْمَسْأَلَةِ فَائِدَةٌ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الطَّرِيقِ، وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّصِّ، أَمَّا إذَا تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ وَاعْتُضِدَ أَحَدُهُمَا بِقِيَاسٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي لَمْ يُتَّجَهْ فِيهِ تَأْوِيلٌ مُتَأَيِّدٌ لِلْقِيَاسِ لَا يُبَالَى بِهِ. وَلَوْ تَعَارَضَ قِيَاسَانِ عَاضَدَانِ لِلتَّأْوِيلِ وَأَحَدُهُمَا أَجْلَى قُدِّمَ الْأَجْلَى، وَلَوْ تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ أَوْ نَصَّانِ وَأَحَدُهُمَا أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَالْقَاضِي يَرَى تَعَارُضَهُمَا أَخْذًا مِمَّا تَقَدَّمَ، وَالشَّافِعِيُّ يَرَى تَقْدِيمَ الْأَحْوَطِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ، كَرِوَايَةِ خَوَّاتٍ مَعَ ابْنِ عُمَرَ، وَكَإِحْدَى الْآيَتَيْنِ إذَا تَضَمَّنَتْ إحْدَاهُمَا تَحْلِيلًا وَالْأُخْرَى تَحْرِيمًا. وَقَدْ قَالَ عُثْمَانُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ. فَلَا يُتَّجَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا الْحُكْمُ بِالِاحْتِيَاطِ. . ثَانِيهَا - أَنْ يَكُونَ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُوَافِقًا لَهُ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْآخَرِ، كَحَدِيثِ التَّغْلِيسِ. .

ثَالِثُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَوْلًا وَالْآخَرُ فِعْلًا فَيُقَدَّمُ الْقَوْلُ، لِأَنَّ لَهُ صِيغَةً، وَالْفِعْلُ لَا صِيغَةَ لَهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْأَفْعَالِ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ. . رَابِعُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُصَرِّحًا بِالْحُكْمِ وَالْآخَرُ عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمِثَالِ، كَاحْتِجَاجِنَا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا بِحَدِيثِ: «صَلَّى بِي جِبْرِيلُ» الْحَدِيثُ، وَاسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ: «مَا مِثْلُكُمْ مَعَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إلَّا كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا» إلَى آخِرِهِ. فَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ آخَرُ الْوَقْتِ، ذَكَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: تُرَجَّحُ الْعِبَارَةُ عَلَى الْإِشَارَةِ، فَإِنَّ حَدِيثَ الْإِجَارَةِ سِيقَ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَكْثَرُ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ، بِأَنْ يَبْقَى وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ. كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَوْ انْتَهَى لِصَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ لَكَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ، لَكِنَّهُ مُتَعَارِضٌ بِصَلَاةِ جِبْرِيلَ وَهِيَ عِبَارَةٌ تَرَجَّحَتْ عَلَى الْإِشَارَةِ. . خَامِسُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ عَمَلُ أَكْثَرِ أَهْلِ السَّلَفِ فَيُقَدَّمُ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ مَا لَا يُوَفَّقُ لَهُ

الْأَقَلُّ، كَتَقْدِيمِنَا حَدِيثَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَأَنَّهَا سَبْعَةٌ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسٌ سِوَاهَا أَيْضًا عَلَى حَدِيثِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا فِي الْأُولَى خَمْسٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْبَعٌ، لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: لَا يُرَجَّحُ، وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيّ وَالْجُبَّائِيُّ، لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا تَعَارَضَا وَعَمِلَ بِأَحَدِهِمَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْآخَرِ، فَيُرَجَّحُ الْأَوَّلُ. قَالَ فِي الْمَنْخُولِ ": وَإِنْ كُنَّا لَا نَرَى تَقْدِيمَ عَمَلِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْحَدِيثِ، خِلَافًا لِمَالِكٍ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: اسْتَشْهَدَ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ فِي نُصُبِ النَّعَمِ وَقَدَّمَهُ عَلَى رِوَايَةِ عَلِيٍّ فِيهَا، لِأَنَّ عَمَلَ الشَّيْخَيْنِ يُوَافِقُ رِوَايَةَ أَنَسٍ، فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أُقَدِّمُ حَدِيثَ أَنَسٍ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ التَّأَنِّي فِيهِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ، إذْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا بُلُوغُهُمْ حَدِيثَ عَلِيٍّ ثُمَّ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ. وَالرَّأْيُ تَعَارُضُهُمَا وَيُقَدَّمُ حَدِيثُ أَنَسٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النُّصُبَ مَقَادِيرُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهَا، فَيُقَدَّمُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. قَالَ إلْكِيَا: وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا بُلُوغَ الْحَدِيثَيْنِ الصَّحَابَةَ وَخَالَفُوا أَحَدَهُمَا فَمُخَالَفَةُ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ قَادِحَةٌ فِيهِ، سَوَاءٌ عَارَضَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا، وَفِيهِ خِلَافٌ. وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بُلُوغُ الْحَدِيثِ إيَّاهُمْ فَالشَّافِعِيُّ يُرَجِّحُ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْآخَرَ إذَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لَهُ حَتَّى يُقَالَ: لَعَلَّهُمْ عَمِلُوا بِنَاسِخٍ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: مَا عَمِلُوا بِهِ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ وَالْأَوْضَحُ. . سَادِسُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَتَوَارَثُهُ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآخَرُ لَمْ يَتَوَارَثُوهُ، فَيُقَدَّمُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي، كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ التَّرْجِيعِ فِي الْأَذَانِ. قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ. . .

سَابِعُهَا - أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَمَلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ إذَا انْضَافَ إلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْأُخْرَى عَمَلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا الْكَثِيرُ الظَّاهِرُ، فَقِيلَ: مُوَافَقَةُ الْعَمَلِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُوجِبُ التَّقْدِيمَ وَيَرْجَحُ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إنَّهُ لَا يَكُونُ تَرْجِيحًا. . ثَامِنُهَا - أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا مُرْسَلٌ عَنْ ثِقَةٍ فَتُقَدَّمُ بِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي تُوَافِقُهُ. . تَاسِعُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَالْآخَرُ مُخَالِفًا لَهُ، كَحَدِيثِ «الضَّحِكُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ» مَعَ حَدِيثِ «يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ» قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى أَغْلَبُ شَرْعًا، فَالْإِلْحَاقُ بِالْغَالِبِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْحَاقِ بِالنَّادِرِ، وَسَبَقَ مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ. .

الكلام على تراجيح الأقيسة

عَاشِرُهَا - أَنْ يَكُونَ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا تَأْوِيلٌ وَقِيَاسُ أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ أَوْضَحُ فَهُوَ مُقَدَّمٌ. قَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا هَلْ يَكُونُ تَرْجِيحًا بِالْقِيَاسِ؟ قَالَ الْقَاضِي: جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ تَرْجِيحَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ، وَالظَّاهِرَ بِالْقِيَاسِ، وَأَنَا أُجَوِّزُ تَرْجِيحَ الظَّاهِرِ دُونَ النَّصِّ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا تَقْدِيمُ حَدِيثٍ غَيْرِ مُؤَوَّلٍ عَلَى حَدِيثٍ مُؤَوَّلٍ، وَلَكِنْ مِنْ التَّأْوِيلِ بِالْقِيَاسِ. [الْكَلَامُ عَلَى تَرَاجِيحِ الْأَقْيِسَةِ] ِ وَهِيَ إمَّا أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً فَيَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ، وَإِنْ قُلْنَا بِتَفَاوُتِ الْمَعْلُومِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ ظَنِّيَّةً فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَقْيِسَةِ الْمَظْنُونَةِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ، وَإِنَّمَا الظُّنُونُ عَلَى حَسَبِ الِاتِّفَاقِ قَالَ: وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَجَالِ الظُّنُونِ مَطْلُوبٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبٌ فَلَا طَرِيقَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا الْمَظْنُونُ عَلَى حَسَبِ الْوِفَاقِ ثُمَّ عَظَّمَ الْإِمَامُ النَّكِيرَ عَلَى الْقَاضِي وَقَالَ: هَذِهِ هَفْوَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَلْزَمَهُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لِلِاجْتِهَادِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يُرِدْ مَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْهُ، كَيْفَ وَقَدْ عَقَدَ فُصُولًا فِي التَّقْرِيبِ " فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْعِلَلِ عَلَى بَعْضٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ يَعْنِي إنْكَارَ التَّرْجِيحِ فِيهَا، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ نَوْعًا عَلَى نَوْعٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى مَا يَظُنُّهُ الْمُجْتَهِدُ رَاجِحًا، وَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ فِي آحَادِ النَّوْعِ الْقَوِيِّ شَيْءٌ يَتَأَخَّرُ عَنْ النَّوْعِ الضَّعِيفِ، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ عَنْ تَقْدِيمِ الشَّبَهِ الْجَلِيِّ عَلَى الْمَعْنَى

الْخَفِيِّ، مَعَ أَنَّ غَالِبَ الْمَعْنَى مُقَدَّمٌ عَلَى غَالِبِ الشَّبَهِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: التَّرْجِيحُ فِي الْأَقْيِسَةِ الظَّنِّيَّةِ ثَابِتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ آحَادِ كُلِّ نَوْعٍ، لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَالِبِ كُلِّ نَوْعٍ وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ: إنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فَضَعِيفٌ، وَشُبْهَةُ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: لَا حُكْمَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا مَطْلُوبَ، فَنَقُولُ: إنْ كَانَ كَمَا قُلْت اسْتَحَالَ الظَّنُّ، وَالْحُكْمُ بِأَنَّ الظُّنُونَ لَا تَقْدِيمَ فِيهَا وَلَا تَأْخِيرَ فَرْعُ وُجُودِهَا نَعَمْ، الْقَاضِي يَقُولُ: لَا حُكْمَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ قَبْلَ الظَّنِّ، وَلَكِنْ فِيهَا مَطْلُوبٌ، وَهُوَ السَّبَبُ الَّذِي يُبْنَى عَلَى ظَنِّهِ وُجُودُ الْحُكْمِ، كَصِحَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ الظَّاهِرِ أَوْ الْقِيَاسِ مَثَلًا، فَيَطْلُبُ الْمُجْتَهِدُ ظَنَّ وُجُودِ ذَلِكَ، وَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ. وَيَكُونُ بِاعْتِبَارَاتٍ الْأَوَّلُ - بِحَسَبِ الْعِلَّةِ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: تَعَارُضُ الْعِلَّتَيْنِ ضَرْبَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَتَعَارَضَا فِي حَقِّ مُجْتَهِدَيْنِ، فَلَا يُوجِبُ التَّعَارُضُ فَسَادَهُمَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَ (الثَّانِي) تَعَارُضُهُمَا فِي حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فَيُوجِبُ التَّعَارُضُ فَسَادَهُمَا، إلَّا أَنْ يُوجَدَ تَرْجِيحٌ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ثُمَّ إنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ مُوجِبَيْنِ لِلْعِلْمِ، وَلَا بَيْنَ دَلِيلٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَآخَرَ يُوجِبُ الظَّنَّ، وَإِنَّمَا يَتَعَارَضَا الْمُفِيدَانِ لِلظَّنِّ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحٍ، انْتَهَى. فَنَقُولُ: لَهُ اعْتِبَارَاتٌ: أَوَّلُهَا - يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الْمُعَلَّلُ بِالْوَصْفِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْحِكْمَةِ.

عَلَى الْقِيَاسِ الْمُعَلَّلِ بِنَفْسِ الْحِكْمَةِ، لِلْإِجْمَاعِ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ، فَيَرْجِعُ التَّعْلِيلُ بِالسَّفَرِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِنَفْسِ الْمَشَقَّةِ ثَانِيهَا - تَرْجِيحُ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ: لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ عِلَّةً إلَّا إذَا عُلِمَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْحِكْمَةِ، فَالدَّاعِي إلَى شَرْعِ الْحُكْمِ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الْحِكْمَةُ، وَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ الْحِكْمَةَ لَا ذَلِكَ الْعَدَمَ كَانَ التَّعْلِيلُ بِهَا أَوْلَى، وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ رَاجِحًا عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْوُجُودِيِّ الْحَقِيقِيِّ، لَكِنَّ التَّعْلِيلَ بِالْحَقِيقِيِّ رَاجِحٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْضَبِطًا وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحَاجَةِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ. ثَالِثُهَا - يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ حُكْمُهُ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ: عَلَى الْمُعَلَّلِ حُكْمُهُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْعَدَمِيِّ يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَكُونُ عِلَّةً إلَّا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْمُنَاسِبِ أَوْلَى مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْأَمَارَةِ هَذَا اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمِنْهَاجِ " وَالتَّحْصِيلِ " وَالْفَائِقِ " وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ احْتِمَالَيْنِ بِلَا تَرْجِيحِ أَحَدُهُمَا، هَذَا، وَالثَّانِي عَكْسُهُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ أَشْبَهُ بِالْوُجُودِ رَابِعُهَا - يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْمُعَلَّلِ بِغَيْرِهِ خَامِسُهَا - يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ عَلَى الْمُعَلَّلِ بِالْقَاصِرَةِ فِي قَوْلِ الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ وَابْنِ بَرْهَانٍ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ الْمَشْهُورُ، فَإِنَّهُ أَغْزَرُ فَائِدَةً. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْقَاصِرَةُ مُتَقَدِّمَةٌ، لِأَنَّهَا مُعْتَضِدَةٌ بِالنَّصِّ، وَمَالَ إلَيْهِ فِي الْمُسْتَصْفَى " فَقِيلَ لَهُ: الْحُكْمُ هُوَ الْمُعْتَضِدُ دُونَ الْعِلَّةِ وَقِيلَ: هُمَا

سَوَاءٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي وَاخْتَارَ فِي الْمَنْخُولِ " أَنَّهُمَا إنْ تَوَارَدَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَلَا تَرْجِيحَ، وَإِنْ تَنَافَيَا فَلَا يَلْتَقِيَانِ، نَعَمْ يَكْفِي طَرْدُ الْمُتَعَدِّيَةِ عَكْسَ الْقَاصِرَةِ، وَلَا يُقَاوِمُ الطَّرْدُ الْعَكْسَ أَصْلًا، وَإِنْ فُرِضَ ازْدِحَامٌ عَلَى حُكْمِ تَقْدِيرِ الِاتِّفَاقِ عَلَى اتِّحَادِ الْعِلَّةِ فَالْمُتَعَدِّيَةُ أَوْلَى، لِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِأَكْثَرَ مِنْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ - كَمَا اخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ - فَلَا تَعَارُضَ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ سُؤَالًا مَضْمُونُهُ وُقُوعُ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا، وَاسْتَمَدَّ مِنْهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَّحَ الْقَاصِرَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ تُخَيَّرُ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ الْعَبْدِ وَاخْتُلِفَ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ الْحُرِّ وَنَشَأَ اخْتِلَافُهُمَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا خُيِّرَتْ تَحْتَ الْعَبْدِ لِفَضْلِهَا حِينَئِذٍ عَلَيْهِ بِالْحُرِّيَّةِ، فَلَا تُخَيَّرُ تَحْتَ الْحُرِّ، فَالْعِلَّةُ حِينَئِذٍ قَاصِرَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا خُيِّرَتْ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَتُخَيَّرُ تَحْتَ الْحُرِّ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُطَّرِدَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ ثُمَّ انْفَصَلَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِإِبْطَالِ الْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا عِلَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ الْقَاضِي: لَا مَعْنًى لِتَعْلِيلِ الْخِيَارِ بِتَمَلُّكِهَا نَفْسَهَا، لِأَنَّهَا إنْ مَلَكَتْ مَوْرِدَ النِّكَاحِ انْفَسَخَ فَلَا اخْتِيَارَ، وَإِنْ مَلَكَتْ غَيْرَهُ فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَلَا تَخْتَارُ فِي غَيْرِ مَا مَلَكَتْ تَنْبِيهٌ قَدْ يُنَازَعُ فِي دُخُولِ التَّرْجِيحِ مِنْ هَذَيْنِ فِي الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْقَاصِرَةَ لَا وُجُودَ لَهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ، وَلَا يَخْفَى امْتِنَاعُ الْقِيَاسِ بِنَاءً عَلَى عِلَّةٍ يَخْتَصُّ

بِهَا مَحَلُّهَا، فَكَيْفَ صُورَةُ التَّرْجِيحِ؟ . وَالْجَوَابُ أَنَّ نَتِيجَةَ التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا إمْكَانُ الْقِيَاسِ وَعَدَمُ إمْكَانِهِ مِثَالُهُ: الثَّمَنِيَّةُ وَالْوَزْنُ فِي النَّقْدَيْنِ لِمَنْ رَجَّحَ الْوَزْنَ مُرَتِّبٌ عَلَى تَرْجِيحِهِ إمْكَانَ الْقِيَاسِ، فَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْجِيحِ الثَّمَنِيَّةِ امْتِنَاعُ الْقِيَاسِ وَهَذِهِ فَائِدَةٌ. سَادِسُهَا - إذَا فَرَّعْنَا عَلَى تَقْدِيمِ التَّعَدِّيَةِ، فَتَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ مُتَعَدِّيَتَانِ، وَفُرُوعُ إحْدَاهُمَا أَكْثَرُ مِنْ فُرُوعِ الْأُخْرَى، يُقَدَّمُ مَا مَجَالُ تَعَدِّيهِ أَكْثَرُ لِكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَزَيَّفَهُ فِي الْمَنْخُولِ " وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ نَظَرٌ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَرْجِيحَ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كَثْرَةَ الْفُرُوعِ تَقْتَضِي التَّرْجِيحَ، فَلَوْ كَثُرَتْ فُرُوعُ عِلَّةٍ وَقَلَّتْ فُرُوعُ أُخْرَى، وَلَكِنَّ الْقَلِيلَةَ الْفُرُوعُ اعْتَضَدَتْ بِنَظَائِرَ تُضَاهِي فِي عِدَّتِهَا فُرُوعَ الْعِلَّةِ الْكَثِيرَةِ كَانَتْ كَثِيرَةَ النَّظَائِرِ فِي مُقَابَلَةِ كَثِيرَةِ الْفُرُوعِ ثُمَّ مَثَّلَهَا بِعِلَّتَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي الْجِمَاعِ، فَالْعِلَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي قُبُلِهَا، وَفُرُوعُهُ قَلِيلَةٌ، وَهِيَ الْإِتْيَانُ فِي الدُّبُرِ، وَإِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ، لَكِنَّ نَظَائِرَهُ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ الْأَحْكَامَ عَلَى الْوَطْءِ، كَالْإِحْلَالِ وَالْإِحْصَانِ وَالْحَدِّ وَإِفْسَادِ الْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْعِلَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إفْسَادُ الصَّوْمِ، وَفُرُوعُهَا كَثِيرَةٌ، وَهِيَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَكُلُّ سَبَبٍ يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ، وَأَسْبَابُ فَسَادِ الصَّوْمِ وَاسِعَةٌ ثُمَّ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ بِمَا يَبْطُلُ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ فَقَالَ: النَّظَائِرُ الْمَذْكُورَةُ لَا اعْتِبَارَ بِهَا أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَتْ كَالنَّظَائِرِ الَّتِي اعْتَدَّ بِهَا فِي الْأَشْبَاهِ، كَضَرْبِ الْعَقْلِ الْقَلِيلِ اعْتِبَارًا بِضَرْبِ حِصَصِ الشُّرَكَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي غَيْر الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْمَرْتَبَةُ عَلَى الْوَطْءِ نَائِبَةٌ عَنْ إيجَابِ

الْكَفَّارَةِ لَا يَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ الْمُنَظَّرِ إلَّا اسْمُ الْحُكْمِ وَلَقَبُهُ خَاصَّةً، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ صَحِيحٌ، فَإِنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا الِاشْتِرَاكَ فِي عُمُومِ الْحُكْمِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُلَائِمًا، وَلَاسْتَحَالَ الْغَرِيبُ ثُمَّ حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ فُرُوعًا، وَالْأُخْرَى مُطَبَّقَةً عَلَى الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَالْكَثِيرَةُ الْفُرُوعِ تَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ فِي بَعْضِ مَجَارِيهَا، فَهَذَا نَقْصٌ مِنْ جَرَيَانِهَا، وَيُقْدَحُ فِي التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ فُرُوعِهَا، كَاعْتِبَارِنَا فِي الْقَرَابَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّفَقَةِ، وَالْعِتْقِ بِالتَّعْصِيبِ، وَهَذَا يَجْرِي فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى انْطِبَاقٍ وَاعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ الرَّحِمَ وَالْمَحْرَمِيَّةَ وَفُرُوعَ عِلَّتِهِ وَإِنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً أَكْثَرَ، فَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ، غَيْرَ أَنَّ الرَّحِمَ وَالْمَحْرَمِيَّةَ لَا يَجْرِيَانِ إلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ مِنْ الذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَى، وَهُوَ مِنْ رَكِيكِ الْكَلَامِ. سَابِعُهَا - تَرَجُّحُ الْعِلَلِ الْبَسِيطَةِ عَلَى الْعِلَلِ الْمُرَكَّبَةِ: كَتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ الرِّبَا بِالطُّعْمِ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ ضَمِّهِ فِي الْقَدِيمِ النَّقْدِيَّةَ إلَى الطُّعْمِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْحَدِّ بَسِيطَةٌ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَوْجُهِ عِنْدَنَا. هَذَا مَا عَلَيْهِ الْجَدَلِيُّونَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ بَرْهَانٍ، إذْ يُحْتَمَلُ فِي الْمُرَكَّبَةِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ هِيَ الْأَجْزَاءُ، لَا هِيَ جُمْلَتُهَا وَلِأَنَّ الْبَسِيطَةَ تَكْثُرُ فُرُوعُهَا وَفَوَائِدُهَا، وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِيهَا يَقِلُّ فَيَقِلُّ خَطَرُهُ، وَلِأَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ فِي جَوَازِ التَّرْكِيبِ فِي الْعِلَلِ، فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْلَى قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا الْمَسْلَكُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَقِيلَ: بَلْ تُرَجَّحُ الْمُرَكَّبَةُ وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ. قَالَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": وَلَعَلَّهُ الصَّحِيحُ

ثَامِنُهَا - تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ عَلَى الْكَثِيرَةِ الْأَوْصَافِ: كَتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ " إجْمَاعَ النُّظَّارِ وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا رَجَّحْت بِذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الزَّائِدَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ، وَصَحَّ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِهِ، وَلِأَنَّ الْكَثِيرَةَ الْأَوْصَافِ يَقِلُّ فِيهَا إلْحَاقُ الْفُرُوعِ فَكَانَ كَاجْتِمَاعِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْقَاصِرَةِ، قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ، إذْ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْأَكْثَرِ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ دَاخِلَةٍ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ أَوْصَافُ إحْدَاهُمَا غَيْرَ أَوْصَافِ الْأُخْرَى، مِثْلَ أَنْ تَجْعَلَ إحْدَاهُمَا الْعِلَّةَ الطَّعْمَ وَالْأُخْرَى الْكَيْلَ وَالْجِنْسَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ: الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ أَوْلَى، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ فُرُوعًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ. تَاسِعُهَا - الْقِيَاسُ الَّذِي يَكُونُ الْوَصْفُ فِيهِ وُجُودِيًّا: عَلَى مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَدَمِيًّا، أَوْ كَانَا عَدْمَيْنِ، وَيُرَجَّحُ تَعْلِيلُ الْعَدَمِيِّ بِالْعَدَمِيِّ عَلَى مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا وُجُودِيًّا لِلْمُشَابَهَةِ بَيْنَ التَّعْلِيلِ بِالْعَدَمِيِّ لِلْعَدَمِيِّ هَكَذَا قَالَ فِي الْمَحْصُولِ " وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إذَا كَانَتْ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مَحْسُوسَةً وَالْأُخْرَى حُكْمِيَّةً فَقِيلَ: تُقَدَّمُ الْمَحْسُوسَةُ لِقُوَّتِهَا، وَقِيلَ: الْحُكْمِيَّةُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَيُقَدَّمُ الْحُكْمِيُّ عَلَى الْحِسِّيِّ وَمِثَالُهُ: تَرْجِيحُ عِلَّتِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَنِيِّ أَنَّهُ مَبْدَأُ خِلْقَةِ الْآدَمِيِّ عَلَى عِلَّتِهِمْ أَنَّ الْمَنِيَّ لَيْسَ فِي عَيْنِهِ وَلَا فِي حُكْمِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ.

عَاشِرُهَا - أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ أَقَلَّ مُقَدَّمَاتٍ: وَالْأُخْرَى مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَكْثَرِهَا، فَالْمَوْقُوفَةُ عَلَى الْأَقَلِّ أَرْجَحُ، لِأَنَّ مَا تَوَقَّفَ عَلَى مُقَدَّمَاتٍ أَقَلُّ صِدْقِهِ أَغْلَبُ فِي الظَّنِّ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَكْثَرَ، وَالْعَمَلُ بِأَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ عَلَى الْكَثِيرَةِ الْأَوْصَافِ، وَقِيلَ: الْكَثِيرَةُ أَوْلَى، وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ. حَادِيَ عَشَرَهَا - أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مُطَّرِدَةٌ مُنْعَكِسَةٌ: وَالْأُخْرَى غَيْرُ مُنْعَكِسَةٍ، فَالْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُ قَدْ اُشْتُرِطَ الِانْعِكَاسُ فِي الْعِلَلِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهَا، وَالْأُخْرَى لَيْسَتْ كَذَلِكَ هَكَذَا حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ مُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الِانْعِكَاسَ مِنْ التَّرْجِيحَاتِ الْمُعْتَمَدَةِ، قَالَ: وَهُوَ مُتَّجَهٌ عَلَى قَوْلِنَا أَنَّ الِانْعِكَاسَ دَلِيلُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ مَعْنًى، فَأَمَّا إذَا جَعَلْنَاهُ شَرْطًا فَلَا تَعَارُضَ فَلَا تَرْجِيحَ، لِأَنَّ الَّتِي لَمْ تَنْعَكِسْ حِينَئِذٍ بَاطِلَةٌ، لِفِقْدَانِ شَرْطِهَا، فَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِقَوْلِهِ: إنَّ الْأَدِلَّةَ لَا يُرَجِّحُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الْإِخَالَةَ وَالْعَكْسَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ فَكَيْفَ نُرَجِّحُ مُسْتَقِلًّا بِمُسْتَقِلٍّ وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهَا لَا بِذَاتِهَا ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الْعَكْسَ لَا يُرَجَّحُ بِهِ، لِأَنَّ النَّفْيَ مَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ الْعِلَّةِ، بَلْ مِنْ الْأَصْلِ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهَا وَلَا مُرَجِّحًا. ثَانِيَ عَشَرَهَا - أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ، وَالْأُخْرَى حُكْمِيَّةٌ: قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: فَالْحُكْمِيَّةُ أَوْلَى وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الذَّاتِيَّةُ أَوْلَى، لِأَنَّهَا أَلْزَمُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْحُكْمِ أَشْبَهُ، فَيَكُونُ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَوْلَى. ثَالِثَ عَشَرَهَا: أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مُوجِبَةَ الْحُكْمِ: وَالْأُخْرَى لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُكْمٍ وَحُكْمٍ، فَاَلَّتِي أَوْجَبَتْ الْحُكْمَ أَوْلَى مِنْ الْعِلَّةِ الَّتِي تُوجِبُ التَّسْوِيَةَ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّسْوِيَةِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ قَالَ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ سَهْلٌ الصُّعْلُوكِيُّ فِي بَعْضِ الْمُنَاظَرَاتِ أَنَّ عِلَّةَ التَّسْوِيَةِ أَوْلَى، لِكَثْرَةِ الشَّبَهِ فِيهِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ

الِاعْتِبَارُ الثَّانِي - بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ إمَّا قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ أَمَّا الْأَوَّلُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْلُومَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا بَدِيهِيًّا أَوْ ضَرُورِيًّا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ مَا عُلِمَ وُجُودُهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ هَلْ يُرَجَّحُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ؟ كَمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُ كُلِّهِ بِالْبَدِيهَةِ وَالْحِسِّ، هَلْ يُرَجَّحُ عَلَى مَا عُلِمَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ الْمَعْلُومَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مَعْلُومَةً بِالْبَدَاهَةِ وَالْأُخْرَى بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَهُوَ قِيَاسُ مَا سَبَقَ فِي النَّصَّيْنِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّرْجِيحُ لِعَدَمِ قَبُولِهِمَا احْتِمَالَ النَّقِيضِ قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": وَكَلَامُ أَبِي الْحُسَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْلُومَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ قُلْت: وَعَلَى هَذَا فَالْبَدِيهِيَّاتُ وَالْحِسِّيَّاتُ رَاجِحَةٌ عَلَى النَّظَرِيَّاتِ وَأَمَّا أَنَّ الْبَدِيهِيَّاتِ تُرَجَّحُ عَلَى الْحِسِّيَّاتِ أَوْ الْعَكْسَ فَمَحَلُّ نَظَرٍ وَلَا شَكَّ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ الْبَدِيهِيَّاتِ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ الضَّرُورِيَّاتُ وَالنَّظَرِيَّاتُ وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ أَجْلَى وَأَظْهَرَ عِنْدَ الْعَقْلِ فَهُوَ رَاجِحٌ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ قِيلَ: كُلَّمَا كَانَتْ الْمُقَدَّمَاتُ الْمُنْتِجَةُ لَهُ أَقَلَّ فَهُوَ أَوْلَى قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عَلَى إطْلَاقِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الْمُقَدَّمَاتُ الْمُنْتِجَةُ لَهُ أَقَلَّ وَهُوَ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَكُونُ مُقَدَّمَاتُهُ أَكْثَرَ، بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمُقَدَّمَاتِ مَظْنُونًا ظَنًّا قَوِيًّا، وَالْمُقَدَّمَاتُ الْقَلِيلَةُ تَكُونُ مَظْنُونَةً ظَنًّا ضَعِيفًا، بَلْ الْأَقَلُّ إنَّمَا يُرَجَّحُ إذَا سَاوَى الْأَكْثَرَ فِي كَيْفِيَّةِ الظَّنِّ، فَحَصَلَ إنْ كَانَ مَا يُفِيدُ ظَنًّا أَرْجَحَ مِنْ الَّذِي يُفِيدُهُ الْآخَرُ فَهُوَ أَوْلَى، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِقِلَّةِ الْمُقَدَّمَاتِ وَكَثْرَتِهَا وَضَعْفِهَا وَقُوَّتِهَا.

إذَا عَلِمْت هَذَا فَالدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا: أَمَّا النَّصُّ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَيَسْتَحِيلُ تَعَارُضُهُمَا إنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا قَطْعِيًّا، وَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ فَهُمَا فِي مَحَلِّ التَّرْجِيحِ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِذَا عَارَضَ الْخَصْمُ قِيَاسَ الْمُسْتَدِلِّ بِقِيَاسٍ آخَرَ وَكَانَ وُجُودُ الْأَمْرِ الَّذِي جَعَلَ عِلَّةً الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مَعْلُومًا، وَفِي الْآخَرِ مَظْنُونًا، كَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى. الِاعْتِبَارُ الثَّالِثُ - بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ وَذَلِكَ بِأُمُورٍ: أَوَّلُهَا - يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الَّذِي تُثْبِتُ عِلِّيَّتُهُ الْوَصْفَ بِحُكْمِ أَصْلِهِ: بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ، عَلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ بِالْقَاطِعِ، لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ فِيهِ عَدَمُ الْعِلِّيَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَقَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى ": ذَكَرُوا فِي التَّرْجِيحِ أَنْ تَثْبُتَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِنَصٍّ قَاطِعٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الظَّنَّ يُمْحَى فِي مُقَابَلَةِ الْقَاطِعِ وَلَا يَبْقَى مَعَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى تَرْجِيحٍ، إذْ لَوْ بَقِيَ مَعَهُ لَتَطَرَّقَ إلَيْهِ الشَّكُّ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ لِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ، وَلَا مَظْنُونٍ عَلَى مَظْنُونٍ. ثَانِيهَا - يُرَجَّحُ مَا يُثْبِتْ عَلِيَّ ةَ الْوَصْفِ بِالظَّاهِرِ: عَلَى مَا لَمْ يُثْبِتْ بِالظَّاهِرِ مِنْ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ سِوَى النَّصِّ الْقَاطِعِ، وَالْأَلْفَاظُ الظَّاهِرَةُ فِي إفَادَةِ الْعِلِّيَّةِ ثَلَاثَةٌ: اللَّامُ، وَإِنْ، وَالْبَاءُ وَأَقْوَاهَا اللَّامُ، وَتَرَدَّدَ الْإِمَامُ فِي تَقْدِيمِ (الْبَاءِ) عَلَى (إنْ) وَاخْتَارَ الْهِنْدِيُّ تَقْدِيمَهَا. ثَالِثُهَا - يُرَجَّحُ مَا يُثْبِتُ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ فِيهِ بِالْمُنَاسَبَةِ:

عَلَى مَا عَدَاهَا مِنْ الدَّوَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ، لِقُوَّةِ دَلَالَةِ الْمُنَاسَبَةِ وَاسْتِقْلَالِهَا فِي إفَادَةِ الْعِلِّيَّةِ وَقِيلَ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّوَرَانُ أَوْلَى وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُطَّرِدَةَ الْمُنْعَكِسَةَ أَقْوَى مِمَّا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، لِشَبَهِهَا بِالْعَقْلِيَّةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الظَّنَّ بِغَلَبَةِ الْمُنَاسَبَةِ أَكْثَرُ مِنْ الدَّوَرَانِ، وَيُرَجَّحُ الثَّابِتُ عِلِّيَّتُهُ بِالْمُنَاسَبَةِ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالسَّبْرِ، خِلَافًا لِقَوْمٍ وَلَيْسَ هَذَا الْخِلَافُ فِي السَّبْرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُتَعَيَّنٌ، وَلَا يَدْخُلُهُ تَرْجِيحٌ، لِوُجُوبِ تَقْدِيمِ الْمَقْطُوعِ بِهِ عَلَى الْمَظْنُونِ، بَلْ فِي السَّبْرِ الْمَظْنُونِ الَّذِي كُلُّ مُقَدَّمَاتِهِ ظَنِّيَّةٌ فَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا قَطْعِيًّا اخْتَلَفَ حَالُهُ بِحَسَبِهَا وَإِذَا ثَبَتَ رُجْحَانُ الْمُنَاسَبَةِ عَلَى الدَّوَرَانِ وَالسَّبْرِ كَانَ رُجْحَانُهُ عَلَى الْبَاقِي أَظْهَرَ ثُمَّ الْمُنَاسَبَةُ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهَا، فَيُرَجَّحُ مِنْهَا مَا هُوَ وَاقِعٌ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا هُوَ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَهُوَ الْمَصْلَحِيُّ، أَوْ التَّتِمَّةُ، وَهُوَ التَّحْسِينِيُّ وَالضَّرُورِيَّةُ الدِّينِيَّةُ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ وَيُرَجَّحُ فِي هَذَا مَا هُوَ أَقْرَبُ اعْتِبَارًا فِي الشَّرْعِ، فَيُرَجَّحُ مَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ نَوْعِ وَصْفِهِ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُعْتَبَرِ نَوْعُ وَصْفِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَأَمَّا الْمُرَجَّحُ فِيهِمَا فَقَالَ الْإِمَامُ: هُمَا كَالْمُتَعَارَضِينَ وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: الْأَظْهَرُ تَقْدِيمُ الْمُعْتَبَرِ نَوْعُ وَصْفِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ عَلَى عَكْسِهِ. تَنْبِيهٌ لَوْ تَعَارَضَ قِيَاسَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّ بِالْمُنَاسَبَةِ لَكِنَّ مَصْلَحَةَ أَحَدِهِمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالدِّينِ، وَالْأُخْرَى بِالدُّنْيَا، فَالْأُولَى مُقَدَّمَةٌ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ الدِّينِيَّةِ هِيَ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ الَّتِي لَا يُعَادِلُهَا شَيْءٌ، كَذَا جَزَمَ بِهِ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَحَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ قَوْلًا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْآمِدِيُّ ذَلِكَ قَوْلًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ سُؤَالًا.

رَابِعُهَا - يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الَّذِي ثَبَتَ عِلِّيَّةُ وَصْفِهِ بِالدَّوَرَانِ: عَلَى الثَّابِتِ بِالسَّبْرِ وَمَا بَعْدَهُ، لِاجْتِمَاعِ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الدَّوَرَانِ دُونَ غَيْرِهِ، بَلْ قَدَّمَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ، لِأَنَّ الِاطِّرَادَ وَالِانْعِكَاسَ شَبِيهٌ بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ ثُمَّ الثَّابِتُ بِالدَّوَرَانِ الْحَاصِلُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ عَلَى الْحَاصِلِ فِي مَحَلَّيْنِ لِقِلَّةِ احْتِمَالِ الْخَطَأِ فِي الْأَوَّلِ خَامِسُهَا - يُرَجَّحُ الثَّابِتُ عِلَّتُهُ بِالسَّبْرِ عَلَى الثَّابِتِ بِالشَّبَهِ وَمَا بَعْدَهُ: لِأَنَّهُ أَقْوَى فِي إفَادَةِ الظَّنِّ وَقِيلَ: يُقَدَّمُ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ لِإِفَادَتِهِ لِظَنِّ الْغَلَبَةِ وَبَقِيَ الْمُعَارِضُ، بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ، فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمُعَارِضِ، اخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الدَّوَرَانِ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يُقَدِّمُ الدَّوَرَانِ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ، وَالْمُنَازَعَةِ فِي غَيْرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ. سَادِسُهَا - يَتَرَجَّحُ الثَّابِتُ عِلَّتُهُ عَلَى الثَّابِتِ عِلَّتُهُ بِالطَّرْدِ، لِضَعْفِ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنْهُ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَكَذَا عَلَى الثَّابِتِ عِلَّتُهُ بِالْإِيمَاءِ وَاَلَّذِي فِي الْمَحْصُولِ " اتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ عِلَّتُهُ بِالْإِيمَاءِ رَاجِحٌ عَلَى مَا ظَهَرَتْ عِلَّتُهُ بِالْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ وَالدَّوَرَانِ وَالسَّبْرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: هَذَا ظَاهِرٌ إنْ قُلْنَا: لَا تُشْتَرَطُ الْمُنَاسَبَةُ فِي الْوَصْفِ الْمُومَى إلَيْهِ وَإِنْ قُلْنَا: يُشْتَرَطُ فَالظَّاهِرُ تَرْجِيحُ بَعْضِ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَيْهَا، كَالْمُنَاسَبَةِ، لِأَنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ، بِخِلَافِ الْإِيمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ بِدُونِهَا فَكَانَتْ وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ شَارِحُ الْبُرْهَانِ ": وَقَدْ يُعْكَسُ، كَمَا فَعَلُوا فِي قَوْلِهِ

- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ إيمَاءٌ إلَى خُصُوصِ الْغَضَبِ، لَكِنْ قَدَّمُوا عَلَيْهِ الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ وَهُوَ الدَّهَشُ وَالْحِيرَةُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ: وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ بِالْإِيمَاءِ الْمُجَرَّدِ وَلَا اسْتِنْبَاطَ، فَإِنَّهُ أَدَّى بِالْغَضَبِ إلَى الدَّهَشِ الَّذِي اشْتَمَلَ الْغَضَبُ عَلَيْهِ، وَالْغَضَبُ طَرْدٌ لَا خُصُوصِيَّةَ لَهُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْغَالِبِ نَعَمْ، إنْ قَوِيَ اجْتِهَادٌ بِهِ فَلْيُوكَلْ إلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ قُوَّةً وَضَعْفًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ مَعَ قَوْلِهِ بِبُطْلَانِ قِيَاسِ الْأَشْبَاهِ قَالَ هُنَا: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ التَّمَسُّكُ بِهِ ابْتِدَاءً. الِاعْتِبَارُ الرَّابِعُ - بِحَسَبِ دَلِيلِ الْحُكْمِ فَيُرَجَّحُ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مَا دَلِيلُ حُكْمِ أَصْلِهِ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ الْآخَرِ (فَمِنْهَا) أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الثَّابِتُ حُكْمُ أَصْلِهِ بِالْإِجْمَاعِ، عَلَى الثَّابِتِ بِالنَّصِّ، فَإِنَّ الَّذِي ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي أَصْلِهِ بِالدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ وَالنَّسْخَ وَالتَّأْوِيلَ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَقْبَلُهَا هَكَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ تَقْدِيمَ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ عَلَى الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ فَرْعُ النَّصِّ، لِكَوْنِ الْمُثْبِتِ لَهُ النَّصَّ، وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِبُ الْحَاصِلِ " وَالْمِنْهَاجِ " وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ (وَمِنْهَا) قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إذَا كَانَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ مُخَرَّجًا مِنْ أَصْلٍ

مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَالْآخَرُ مُخَرَّجًا مِنْ غَيْرِ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ قُدِّمَ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي، كَقَوْلِنَا فِي جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ، وَهِيَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْمُخَالِفِ: لَا يَطْهُرُ قِيَاسًا عَلَى جِلْدِ الْكَلْبِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ (وَمِنْهَا) قَالَ فِي الْمَنْخُولِ ": إذَا عَارَضَ قِيَاسٌ عَامٌّ تَشْهَدُ لَهُ الْقَوَاعِدُ قِيَاسًا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ فِيمَا قَالَهُ الْقَاضِي مِثَالُهُ: تَوْجِيهُ قَوْلِنَا: لَا تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ قِيمَةَ الْعَبْدِ، لِأَنَّ الْجَانِيَ أَوْلَى بِجِنَايَتِهِ وَيُعَضِّدُ هَذَا سَائِرُ الْغَرَامَاتِ، يُعَارِضُهُ قِيَاسٌ أَخَصُّ وَهُوَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعَبْدِ الذِّمَّةُ، بِدَلِيلِ الْكَفَّارَةِ وَالْقِصَاصِ، وَضَرْبُ الْعَقْلِ سَبَبُهُ مَسِيسُ حَاجَةِ الْعَرَبِ إلَى مُعَاطَاةِ الْأَسْلِحَةِ، وَإِيقَافِ هَفَوَاتٍ، وَنَقْلِ الْأُرُوشِ عَنْ الْجُنَاةِ، فَإِنَّ هَذَا مِثَالٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ ضَرْبَ الْعَقْلِ مُسْتَثْنًى عَنْ الْقِيَاسِ وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ تَعْوِيلٌ عَلَيْهَا. الِاعْتِبَارُ الْخَامِسُ - بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ وَقَدْ سَبَقَ فِي تَرْجِيحِ الْأَخْبَارِ فَلْيَأْتِ مِثْلُهُ هَاهُنَا، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ نَاقِلَةً عَنْ حُكْمِ الْعَقْلِ وَالْأُخْرَى مُقَرَّرَةً عَلَى الْأَصْلِ، فَالنَّاقِلَةُ أَوْلَى عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا، لِأَنَّ النَّاقِلَةَ أَثْبَتَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَالْمُقَرَّرَةُ مَا أَثْبَتَتْ شَيْئًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُبْقِيَةُ أَوْلَى، لِاعْتِضَادِهَا بِحُكْمِ الْعَقْلِ الْمُسْتَقِلِّ بِالنَّفْيِ لَوْلَا هَذِهِ الْعِلَّةُ وَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى تَرْجِيحِ النَّاقِلَةِ عَنْ الْعَادَةِ، وَبِهِ جَزَمَ إلْكِيَا، لِأَنَّ النَّاقِلَةَ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ الشَّرْعِ، وَالْأُخْرَى تَرْجِعُ إلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ: النَّاقِلَةُ وَالْمُوَافِقَةُ لِلْعَادَةِ سِيَّانِ، لِأَنَّ النَّسْخَ بِالْعِلَلِ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ النَّسْخَ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ جَائِزٌ وَالْغَالِبُ فِي النَّسْخِ نَسْخُ

مَا يُوَافِقُ الْعَادَةَ لِمَا يُنْقِلُ عَنْهَا، فَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي الْأَخْبَارِ: إنَّ النَّاقِلَ أَوْلَى قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الطَّبَرِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعِلَلِ وَالْأَخْبَارِ، فَيَقُولُ فِي الْخَبَرِ: النَّاقِلُ أَوْلَى، وَفِي الْعِلَلِ: إنَّ الْمُبْقِيَةَ فِيهَا عَلَى الْعَادَةِ أَوْلَى مِنْ النَّاقِلَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُثْبِتَةً وَالْأُخْرَى نَافِيَةً فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: تُقَدَّمُ الْمُثْبِتَةُ، قَالَ: وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا بِتَقْدِيمِ النَّاقِلَةِ عَلَى الْمُبْقِيَةِ لِلْأَصْلِ عَلَى مَا كَانَ قَالَ: وَرُبَّمَا خَلَطَ فِي هَذَيْنِ مَنْ لَا تَحْقِيقَ لَهُ، وَهُمَا يَجْرِيَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدَّمَ قَوْمٌ الْمُثْبِتَةَ عَلَى النَّافِيَةِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ النَّفْيَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا شَرْعًا كَالْإِثْبَاتِ، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا أَصْلِيًّا رَجَعَ إلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي النَّاقِلَةِ وَالْمُقَرَّرَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الصَّحِيحُ أَنَّ التَّرْجِيحَ فِي الْعِلَّةِ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ، لِاسْتِوَاءِ الْمُثْبِتِ وَالنَّافِي فِي الِافْتِقَارِ إلَى الدَّلِيلِ قَالَ: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ وَكَأَنَّ مَنْ رَجَّحَ بِهِ لَاحَظَ إلْحَاقَهَا بِالْخَبَرِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ مَدَارَ التَّرْجِيحِ فِي الْأَخْبَارِ عَلَى أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ أَشْبَهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَمَدَارُ التَّرْجِيحِ فِي الْعِلَلِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ وَتَوَفُّرِ الشَّوَاهِدِ وَهَذَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَالْحَقُّ - كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ - إنْ قُلْنَا: إنَّ النَّفْيَ فِيهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ أَنْ يُلْتَمَسَ التَّرْجِيحُ مِنْ خَارِجٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّفْيَ لَا يَكُونُ مُقْتَضًى، لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يُقْتَضَى كَمَا لَا يَقْتَضِي وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الَّتِي تَقْتَضِي الْحَظْرَ أَوْلَى مِنْ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا تَقْتَضِي حَدًّا وَالْأُخْرَى تُسْقِطُهُ، أَوْ تُوجِبُ الْعِتْقَ وَالْأُخْرَى تُسْقِطُهُ، فَقِيلَ: الْمُوجِبَةُ لِلْعِتْقِ وَالْمُسْقِطَةُ لِلْحَدِّ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعِتْقَ

مَبْنِيٌّ عَلَى الِاتِّسَاعِ وَالتَّكْمِيلِ، وَالْحَدُّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِسْقَاطِ وَالدَّرْءِ وَقِيلَ: عَلَى السَّوَاءِ وَلَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُبْقِيَةً لِلْعُمُومِ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْأُخْرَى تُوجِبُ تَخْصِيصَهُ قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " فَقِيلَ: يَجِبُ تَرْجِيحُ الْمُبْقِيَةِ لِلْعُمُومِ، لِأَنَّهُ كَالنَّصِّ فِي وُجُوبِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَمِنْ حَقِّ الْعِلَّةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ النُّصُوصَ، فَإِذَا أَخْرَجَتْ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْعَامُّ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلْأُصُولِ الَّتِي يَجِبُ سَلَامَتُهَا عَنْهُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْمُخَصِّصَةَ لَهُ أَوْلَى، لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ. الِاعْتِبَارُ السَّادِسُ - بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ وَهُوَ بِأُمُورٍ أَوَّلُهَا - أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ فِي الْعِلَّةِ: بِأَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَصْلِهِ عَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ الْمُمَهَّدَةِ فِي الشَّرْعِ، فَيُرَجَّحُ عَلَى مُوَافَقَةِ أَصْلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ وُجُودَهَا فِي الْأُصُولِ الْكَثِيرَةِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ اعْتِبَارِهَا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ فَهِيَ أَوْلَى وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ "، كَمَا لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فِي الرِّوَايَةِ عِنْدَهُ أَمَّا إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ فُرُوعًا مِنْ الْأُخْرَى فَهَلْ الْكَثِيرَةُ أَوْلَى لِكَثْرَةِ فَائِدَتِهَا، أَوْ هُمَا سِيَّانِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ بِتَقْدِيمِ الْكَثِيرَةِ، وَزَيَّفَهُ الْغَزَالِيُّ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُتَعَدِّيَةِ عَلَى الْقَاصِرَةِ تَلَقَّيْنَاهُ مِنْ مَسْلَكِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ عِنْدَ كَثْرَةِ الْفُرُوعِ.

ثَانِيهَا - يُرَجَّحُ الْمُوَافِقُ لِلْأُصُولِ فِي الْحُكْمِ: بِأَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَصْلِهِ عَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَوَّلِ. ثَالِثُهَا - يُرَجَّحُ الَّذِي يَكُونُ مُطَّرِدًا فِي الْفُرُوعِ: بِأَنْ يَلْزَمَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ. رَابِعُهَا - انْضِمَامُ عِلَّةٍ أُخْرَى إلَيْهَا: لِأَنَّهَا تُزِيدُ قُوَّةَ الظَّنِّ وَالْحُكْمَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ بِقُوَّةِ الظَّنِّ، وَاخْتَارَهُ فِي الْقَوَاطِعِ " وَحُكِيَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ تَصْحِيحُ عَدَمِ التَّرْجِيحِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَقَوَّى إلَّا بِصِفَةٍ فِي ذَاتِهِ، أَمَّا بِانْضِمَامِ غَيْرِهِ إلَيْهِ فَلَا خَامِسُهَا - أَنْ يَكُونَ مَعَ إحْدَاهُمَا فَتْوَى صَحَابِيٍّ: فَيُرَجَّحُ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِمَّا يُثِيرُ الظَّنَّ بِاجْتِمَاعِهِمَا وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي تَفَارِيعِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، فَإِنْ جَعَلْنَا مَذْهَبَهُ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً كَانَ هَذَا مِنْ التَّرْجِيحِ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، فَهَلْ تَكُونُ لَهُ مَزِيَّةُ تَرْجِيحِ الدَّلِيلِ أَوْ لَا؟ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا - أَنَّهُ بِمَزِيَّةٍ كَغَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي وَالثَّانِي - نَعَمْ، مُطْلَقًا وَالثَّالِثُ - وَهُوَ رَأْيُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ مَشْهُورًا بِالْمَزِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ، كَزَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ، وَعَلِيٍّ فِي الْقَضَاءِ، اقْتَضَى التَّرْجِيحَ، وَإِلَّا فَلَا وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى الشَّافِعِيِّ، وَبَنَى الْإِبْيَارِيُّ الْخِلَافَ عَلَى قَوْلِ الْمُصَوِّبَةِ وَالْمُخَطِّئَةِ فَقَالَ: عَلَى قَوْلِ التَّصْوِيبِ بِعَدَمِ التَّرْجِيحِ، وَعَلَى الثَّانِي بِالتَّرْجِيحِ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَرَاتِبَ أَرْبَعًا: أَعْلَاهَا الشَّهَادَةُ لِزَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ، لِأَنَّهَا تَامَّةٌ ثُمَّ يَلِيهِ مُعَاذٌ، ثُمَّ يَلِيه عَلِيٌّ، ثُمَّ يَلِيهِ.

الشَّيْخَانِ فِي قَوْلِهِ «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي» ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قَوْلُ عَلِيٍّ فِي الْأَقْضِيَةِ كَقَوْلِ زَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ) وَقَوْلُ مُعَاذٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْفَرَائِضِ كَقَوْلِ زَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ.

مباحث الاجتهاد

[مَبَاحِثُ الِاجْتِهَادِ] ِ وَأَرْكَانُهُ ثَلَاثَةٌ - نَفْسُ الِاجْتِهَادِ - وَالْمُجْتَهِدِ - وَالْمُجْتَهَدِ فِيهِ

الْأَوَّلُ نَفْسُ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ لُغَةً: افْتِعَالٌ مِنْ الْجَهْدِ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ، وَهُوَ الطَّاقَةُ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَخْتَصَّ هَذَا الِاسْمُ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، لِتَخْرُجَ عَنْهُ الْأُمُورُ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي تُدْرَكُ ضَرُورَةً مِنْ الشَّرْعِ، إذْ لَا مَشَقَّةَ فِي تَحْصِيلِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِي الِاصْطِلَاحِ: بَذْلُ الْوُسْعِ فِي نِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِي بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، فَقَوْلُنَا: " بَذْلُ " أَيْ بِحَيْثُ يُحِسُّ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ حَتَّى لَا يَقَعَ لَوْمٌ فِي التَّقْصِيرِ وَخَرَّجَ " الشَّرْعِيُّ " اللُّغَوِيَّ وَالْعَقْلِيَّ وَالْحِسِّيَّ، فَلَا يُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مُجْتَهِدًا وَكَذَلِكَ الْبَاذِلُ وُسْعَهُ فِي نَيْلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عِلْمِيٍّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مُجْتَهِدًا وَإِنَّمَا قُلْنَا: " بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ " لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي نَيْلِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مِنْ النُّصُوصِ ظَاهِرًا أَوْ بِحِفْظِ الْمَسَائِلِ وَاسْتِعْلَامِهَا مِنْ الْمَعْنَى أَوْ بِالْكَشْفِ عَنْهَا مِنْ الْكُتُبِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ سُمِّيَ اجْتِهَادًا فَهُوَ لُغَةً لَا اصْطِلَاحًا وَسَبَقَ

فِي أَوَّلِ الْقِيَاسِ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ بِمَعْنًى " وَقِيلَ: طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ أَلْيَقُ بِكَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: اسْمُ الِاجْتِهَادِ يَقَعُ فِي الشَّرْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا - الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةَ الْحُكْمِ لِجَوَازِ وُجُودِهَا خَالِيَةً مِنْهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ الْعِلْمَ بِالْمَطْلُوبِ، فَلِذَلِكَ كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَالثَّانِي - مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، كَالِاجْتِهَادِ فِي الْمِيَاهِ وَالْوَقْتِ وَالْقِبْلَةِ وَتَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ وَالْمُتْعَةِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ - الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ مَسْأَلَةٌ قَالَ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ ": " الِاجْتِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ حَتَّى لَوْ اشْتَغَلَ بِتَحْصِيلِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْجَمِيعِ، وَإِنْ قَصَّرَ مِنْهُ أَهْلُ عَصْرٍ عَصَوْا بِتَرْكِهِ وَأَشْرَفُوا عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الِاجْتِهَادِيَّةَ إذَا كَانَتْ مُتَرَتِّبَةً عَلَى الِاجْتِهَادِ تَرْتِيبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ كَانَتْ الْأَحْكَامُ عَاطِلَةً، وَالْآرَاءُ كُلُّهَا مُتَمَاثِلَةً فَلَا بُدَّ إذًا مِنْ مُجْتَهِدٍ " قُلْت: وَسَيَأْتِي فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ خُلُوِّ الْعَصْرِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ مَا يُنَازَعُ فِي ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْحَوَادِثِ، خِلَافًا لِلنَّظَّامِ، وَخِلَافُهُ فِيهِ وَفِي الْقِيَاسِ وَاحِدٌ، كَمَا قَالَهُ الرَّازِيَّ، وَإِنْكَارُهُ مُكَابَرَةٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.

مَسْأَلَةٌ وَمَا يُوجِبُهُ الِاجْتِهَادُ هَلْ يُسَمَّى دِينُ اللَّهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْقِيَاسِ، حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ: نَعَمْ تَنْبِيهٌ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ جَعْلِ الِاجْتِهَادِ رُكْنًا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ، وَنَازَعَ فِيهِ الْعَبْدَرِيّ وَقَالَ: رُكْنُ الشَّيْءِ غَيْرُ الشَّيْءِ الثَّانِي الْمُجْتَهِدُ الْفَقِيهُ وَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ ذُو مَلَكَةٍ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى اسْتِنْتَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَأْخَذِهَا وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ أَوَّلُهَا - إشْرَافُهُ عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَإِنْ قَصَّرَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْكِتَابِ، بَلْ مَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ بِالْأَحْكَامِ

قَالَ: قَالَ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا مُقَاتِلَ بْنَ سُلَيْمَانَ أَوَّلَ مَنْ أَفْرَدَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فِي تَصْنِيفٍ وَجَعَلَهَا خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الظَّاهِرَةَ لَا الْحَصْرَ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ، فَيَخْتَصُّ بَعْضُهُمْ بِدَرْكِ ضَرُورَةٍ فِيهَا وَلِهَذَا عُدَّ مِنْ خَصَائِصِ الشَّافِعِيِّ التَّفَطُّنُ لِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ وَلَدَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ وقَوْله تَعَالَى: {امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11] عَلَى صِحَّةِ أَنْكِحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي لَمْ تُسَقْ لِلْأَحْكَامِ وَقَدْ نَازَعَهُمْ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا وَقَالَ: هُوَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي هَذَا الْعَدَدِ، بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْأَذْهَانِ وَمَا يَفْتَحُهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطِ وَلَعَلَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَحْكَامِ دَلَالَةً أَوَّلِيَّةً بِالذَّاتِ لَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ قُلْت: وَمَنْ أَرَادَ التَّحْقِيقَ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ الْإِمَامِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَا فِيهَا مِنْ الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِتِلَاوَتِهِ؟ قَالَ فِي الْقَوَاطِعِ ": ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْحَافِظَ أَضْبَطُ لِمَعَانِيهِ مِنْ النَّاظِرِ فِيهِ وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَحْفَظَ مَا فِيهِ مِنْ الْأَمْثَالِ وَالزَّوَاجِرِ وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْحِفْظُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ.

وَثَانِيهَا - مَعْرِفَةُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ السُّنَنِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقِيلَ إنَّهَا خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمَحْصُولِ ": هِيَ ثَلَاثَةُ آلَافِ سُنَّةٍ وَشَدَّدَ أَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو الضَّرِيرِ: قُلْت لَهُ: كَمْ يَكْفِي الرَّجُلَ مِنْ الْحَدِيثِ حَتَّى يُمْكِنُهُ أَنْ يُفْتِيَ؟ يَكْفِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْت: مِائَتَا أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْت ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْت: أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْت: خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: أَرْجُو وَفِي رِوَايَةٍ: قُلْت: فَثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ: قَالَ: لَعَلَّهُ وَكَأَنَّ مُرَادَهُ بِهَذَا الْعَدَدِ آثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَطُرُقُ الْمُتُونِ، وَلِهَذَا قَالَ: مَنْ لَمْ يَجْمَعْ طُرُقَ الْحَدِيثِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَدِيثِ وَلَا الْفُتْيَا بِهِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَتَّى يَحْفَظَ هَذَا الْقَدْرَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالتَّغْلِيظِ فِي الْفُتْيَا أَوْ يَكُونُ أَرَادَ وَصْفَ أَكْمَلِ الْفُقَهَاءِ فَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: الْأُصُولُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْعِلْمُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ السُّنَنِ، وَإِلَّا لَا نَسُدُّ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ اجْتَهَدَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وَلَمْ يَسْتَحْضِرُوا فِيهَا النُّصُوصَ حَتَّى رَوَيْت لَهُمْ، فَرَجَعُوا إلَيْهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُهُ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، إذْ لَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَلَوْ تُصُوِّرَ لِمَا حَضَرَ ذِهْنَهُ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِيهِ

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ: يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَصْلٌ يَجْمَعُ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ، كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ أَوْ أَصْلٌ وَقَعَتْ الْعِنَايَةُ فِيهِ بِجَمْعِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَيَكْتَفِي فِيهِ بِمَوَاقِعِ كُلِّ بَابٍ فَيُرَاجِعُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّافِعِيُّ، وَنَازَعَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أَبِي دَاوُد فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوْعِبْ الصَّحِيحَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَلَا مُعْظَمَهَا وَكَمْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثٍ حُكْمِيٍّ لَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد؟ انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أَبِي دَاوُد لَيْسَ بِجَيِّدٍ عِنْدَنَا لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ لَا يَحْوِي السُّنَنَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا وَ (الثَّانِي) : أَنَّ فِي بَعْضِهِ مَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ، انْتَهَى وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حِفْظُ السُّنَنِ بِلَا خِلَافٍ، لِعُسْرِهِ وَلَا يَجْرِي الْخِلَافُ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ هَاهُنَا وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ الْآحَادِ، لِيُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَقْطَعُ بِهِ مِنْهَا وَمَا لَا يَقْطَعُ. وَثَالِثُهَا - الْإِجْمَاعُ: فَلْيَعْرِفْ مَوَاقِعَهُ حَتَّى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ حِفْظُ جَمِيعِهِ، بَلْ كُلُّ مَسْأَلَةٍ يُفْتِي فِيهَا يَعْلَمُ أَنَّ فَتْوَاهُ لَيْسَتْ مُخَالِفَةً لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا يُوَافِقُهُ مَذْهَبُ عَالِمٍ، أَوْ تَكُونُ الْحَادِثَةُ مُوَلَّدَةً وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفَ الِاخْتِلَافَ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " وَفَائِدَتُهُ حَتَّى لَا يُحْدِثَ قَوْلًا يُخَالِفُ أَقْوَالَهُمْ فَيَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنْ الْإِجْمَاعِ

وَرَابِعُهَا - الْقِيَاسُ: فَلْيَعْرِفْهُ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ، فَإِنَّهُ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ وَأَصْلُ الرَّأْيِ وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الْفِقْهُ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَمَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِنْبَاطُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ نَعَمْ، إنْ جَوَّزْنَا تَجَزُّؤَ الِاجْتِهَادِ فَهَذِهِ الْحَاجَةُ لَا تَعُمُّ وَالْمَسَائِلُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى النَّصِّ لَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِيهَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَالَ: وَيَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ الظَّاهِرِيَّةُ النُّفَاةُ لِلْقِيَاسِ مُجْتَهِدِينَ. وَخَامِسُهَا - كَيْفِيَّةُ النَّظَرِ: فَلْيَعْرِفْ شَرَائِطَ الْبَرَاهِينِ وَالْحُدُودِ وَكَيْفِيَّةَ تَرْكِيبِ الْمُقَدَّمَاتِ وَيَسْتَفْتِحُ الْمَطْلُوبَ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَصْلُهُ اشْتِرَاطُ الْغَزَالِيُّ مَعْرِفَتَهُ بِعِلْمِ الْمَنْطِقِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَقَعُ اصْطِلَاحُ أَرْبَابِ هَذَا الْفَنِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لِعِلْمِنَا بِأَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَكُونُوا خَائِضِينَ فِيهِ وَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَصْحِيحُ الدَّلِيلِ وَمَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ. وَسَادِسُهَا - أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ: لُغَةً وَنَحْوًا وَتَصْرِيفًا، فَلْيَعْرِفْ الْقَدْرَ الَّذِي يَفْهَمُ بِهِ خِطَابَهُمْ وَعَادَتَهُمْ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَى حَدٍّ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ صَرِيحِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ، وَمُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ، وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ، وَحَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَيَكْفِيهِ مِنْ اللُّغَةِ أَنْ يَعْرِفَ غَالِبَ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبَحُّرُ، وَمِنْ النَّحْوِ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّمْيِيزُ فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ، كَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْخَافِضِ وَالرَّافِعِ وَمَا تَتَّفِقُ

عَلَيْهِ الْمَعَانِي فِي الْجَمْعِ وَالْعَطْفِ وَالْخِطَابِ وَالْكِنَايَاتِ وَالْوَصْلِ وَالْفَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ الْإِشْرَافُ عَلَى دَقَائِقِهِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ ": يَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ مَا فِي كِتَابِ الْجُمَلِ " لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ، وَيَفْصِلُ بَيْنَ مَا يَخْتَصُّ مِنْهَا بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ لِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي بِاخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَاشْتِرَاطُ الْأَصْلِ فِيهِ مُتَعَيَّنٌ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ عَرَبِيَّةٌ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ نَعَمْ، لَا يُشْتَرَطُ التَّوَسُّعُ الَّذِي أُحْدِثَ فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْكَلَامِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمَعْرِفَةُ لِسَانِهِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ مُجْتَهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا يَبْلُغُهُ جَهْدُهُ فِي أَدَاءِ فَرْضِهِ وَقَالَ فِي الْقَوَاطِعِ ": مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ فَرْضٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، إلَّا أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ عَلَى الْعُمُومِ فِي إشْرَافِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِأَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ أَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمَّةِ فَفَرْضٌ فِيمَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ: إحَاطَةُ الْمُجْتَهِدِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ تَتَعَذَّرُ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعَرَبِ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ لُغَاتِهِمْ، فَكَيْفَ نُحِيطُ نَحْنُ؟ قُلْنَا: لِسَانُ الْعَرَبِ وَإِنْ لَمْ يُحِطْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ يُحِيطُ بِهِ جَمِيعُ الْعَرَبِ، كَمَا قِيلَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَنْ يَعْرِفُ كُلَّ الْعِلْمِ؟ قَالَ: كُلُّ النَّاسِ وَاَلَّذِي يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِأَكْثَرِهِ وَيَرْجِعُ فِيمَا عَزَبَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ، كَالْقَوْلِ فِي السُّنَّةِ وَقَدْ زَلَّ كَثِيرٌ بِإِغْفَالِهِمْ الْعَرَبِيَّةَ، كَرِوَايَةِ الْإِمَامِيَّةِ: «مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً» بِالنَّصْبِ، وَالْقَدَرِيَّةُ: «فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى» بِنَصَبِ آدَمَ، وَنَظَائِرُهُ وَيَلْحَقُ بِالْعَرَبِيَّةِ التَّصْرِيفُ، لِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ أَبْنِيَةِ الْكَلِمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا، كَمَا فِي بَابِ الْمُجْمَلِ مِنْ لَفْظِ (مُخْتَارٍ) وَنَحْوِهِ فَاعِلًا وَمَفْعُولًا.

وَسَابِعُهَا - مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: مُخَالَفَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحُكْمِ بِالْمَنْسُوخِ الْمَتْرُوكُ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لِقَاضٍ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ وُجُوهِ النَّصِّ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَالْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ، وَالْمُبَيَّنِ، وَالْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ وَثَامِنُهَا - مَعْرِفَةُ حَالِ الرُّوَاةِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ: وَتَمْيِيزُ الصَّحِيحِ عَنْ الْفَاسِدِ، وَالْمَقْبُولِ عَنْ الْمَرْدُودِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ: وَيَقُولُ عَلَى قَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، كَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبِي دَاوُد، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، فَجَازَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمْ، كَمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ الْمُقَوِّمِينَ فِي الْقِيَمِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا مُضْطَرٌّ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي هِيَ فِي بَابِ الْآحَادِ، فَإِنَّهُ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إلَى مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنْ السَّقِيمِ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَمَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْعُلُومَ فَهُوَ فِي الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا، وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ فَمِقْدَارُهُ مَا أَحْسَنَ، وَلَنْ يَجُوزُ أَنْ يُحِيطَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْعُلُومِ أَحَدٌ غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مُتَفَرِّقٌ فِي جُمْلَتِهِمْ وَالْغَرَضُ اللَّازِمُ مِنْ عِلْمِ مَا وَصَفْت مَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ بِتَرْكِ فِعْلِهِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمًا ازْدَادَ مَنْزِلَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] ، قَالَ: وَالشَّرْطُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَعْرِفَةُ جُمَلِهِ لَا جَمِيعِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّ هَذَا لَمْ نَرَهُ فِي السَّادَةِ الْقُدْوَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ كَانَ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ، مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فَيَعْرِفُونَهَا مِنْ الْغَيْرِ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذِهِ الْعُلُومُ الَّتِي يُسْتَفَادُ مِنْهَا مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ، وَعِظَمُ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِهِ فُنُونٍ: الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَقَالَ الْإِمَامُ: أَهَمُّ الْعُلُومِ لِلْمُجْتَهِدِ أُصُولُ الْفِقْهِ وَشَرَطَ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَبِأَنَّنَا مُكَلَّفُونَ وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ فِيهِ الْفِطْنَةَ وَالذَّكَاءَ، لِيَصِلَ بِهِمَا إلَى مَعْرِفَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنْ أَمَارَاتِ الْمَنْطُوقِ، فَإِنْ قُلْت فِيهِ الْفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ لَمْ يَصِحَّ وَشَرَطَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَغَيْرُهُمْ الْعَدَالَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ. قَالُوا: وَأَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ عَالِمًا فَلَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ وَيَأْخُذَ بِاجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ فَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ لِقَبُولِ الْفَتْوَى، لَا لِصِحَّةِ الِاجْتِهَادِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ رُكْنٌ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنْ قَصَدَ بِالِاجْتِهَادِ الْعِلْمَ صَحَّ اجْتِهَادُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا كَانَتْ الْعَدَالَةُ شَرْطًا فِي نُفُوذِ حُكْمِهِ وَقَبُولِ فُتْيَاهُ، لِأَنَّ شَرَائِطَ الْحُكْمِ أَغْلَظُ مِنْ شَرَائِطِ الْفُتْيَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَكِنْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ ثِقَةً مَأْمُونًا، غَيْرَ مُتَسَاهِلٍ فِي أَمْرِ الدِّينِ قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ مُرَادُهُمْ بِهِ مَا وَرَاءَ هَذَا وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ تَبَحُّرِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: (أَحَدُهُمَا) الِاشْتِرَاطُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ وَ (الثَّانِي) لَا يُشْتَرَطُ بَلْ مِنْ أَشْرَفَ مِنْهُ عَلَى وَصْفِ الْمُؤْمِنِ كَفَاهُ قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُلُّ أَصْحَابِ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرُهُمْ وَأَطْلَقَ الرَّازِيَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَفَصَّلَ الْآمِدِيُّ فَشَرَطَ الضَّرُورِيَّاتِ، كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ وُجُوبُ

وُجُودِهِ لِذَاتِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ، لِيَكُونَ فِيمَا يُسْنِدُهُ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مُحِقًّا وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِدَقَائِق الْكَلَامِ وَلَا بِالْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ وَأَجْوِبَتِهَا كَالنَّحَارِيرِ مِنْ عُلَمَائِهِ. وَكَلَامُ الرَّازِيَّ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّفَارِيعِ فِي الْفِقْهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ وَكَيْفَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا وَهُوَ الَّذِي يُوَلِّدُهَا بَعْدَ حِيَازَةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ؟ ، فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا لِمَا تَقَدَّمَ وُجُودُهُ عَلَيْهَا وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو مَنْصُورٍ إلَى اشْتِرَاطِهِ وَحَمَلَ عَلَى اشْتِرَاطِ مُمَارَسَتِهِ الْفِقْهَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فَقَالَ: إنَّمَا يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ فِي زَمَانِنَا بِمُمَارَسَتِهِ فَهُوَ طَرِيقُ تَحْصِيلِ الدُّرْبَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَكَلَامُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ يُخَالِفُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ بِجُمَلٍ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ يُحِيطُ بِالْمَشْهُورِ وَبِبَعْضِ الْغَامِضِ كَفُرُوعِ الْحَيْضِ وَالرَّضَاعِ وَالدَّوْرِ وَالْوَصَايَا وَالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُتَعَلِّقِ بِالْحِسَابِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطٌ، لِأَنَّ مِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الْجَوَابِ مِنْهُ إلَّا بِالْحِسَابِ وَكَذَلِكَ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَالضَّرْبِ وَالْقِسْمَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ، مُتَمَكِّنًا مِنْ اقْتِبَاسِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا، عَارِفًا بِحَقَائِقِهَا وَرُتَبِهَا، عَالِمًا بِتَقْدِيمِ مَا يَتَقَدَّمُ مِنْهَا وَتَأْخِيرِ مَا يَتَأَخَّرُ وَقَدْ عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الشُّرُوطِ كُلِّهَا بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ جَامِعَةٍ فَقَالَ: " مَنْ عَرَفَ كِتَابَ اللَّهِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا اسْتَحَقَّ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ " وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَرِدُ عَلَيْهِ، فَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ: لَا أَدْرِي وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ: لَا أَدْرِي وَتَوَقَّفَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلَ وَقَالَ

بَعْضُهُمْ: مَنْ أَفْتَى فِي كُلِّ مَا سُئِلَ عَنْهُ فَهُوَ مَجْنُونٌ وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ. أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى قُوَّةِ قَامَةٍ فِي النَّوْعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُجْتَهِدٌ، فَمَنْ عَرَفَ طُرُقَ النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ، لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَسْأَلَةٍ قِيَاسِيَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ وَكَذَا الْعَالِمُ بِالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ هَذَا بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا سَيَأْتِي. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الْمُقَيَّدُ الَّذِي لَا يَعْدُو مَذْهَبَ إمَامٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ إمَامِهِ وَلْيُرَاعِ فِيهَا مَا يُرَاعِيهِ الْمُطْلَقُ فِي قَوَانِينِ الشَّرْعِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَنْ عَرَفَ مَأْخَذَ إمَامٍ وَاسْتَقَلَّ بِإِجْرَاءِ الْمَسَائِلِ عَلَى قَوَاعِدِهِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَوَاعِدُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا ذَلِكَ الْإِمَامُ وَبَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ مَعَهُ فَهَذَا يُمْكِنُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ الْمُقَيَّدُ - وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، كَكَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً، وَالْقِيَاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ فَتَنَبَّهْ لِهَذَا وَقَدْ اسْتَقَلَّ قَوْمٌ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ بِبِنَاءِ أَحْكَامٍ عَلَى أَحَادِيثَ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ غَيْرُ مَنْصُوصَةٍ لِإِمَامِهِمْ، وَهُمْ يَحْتَاجُونَ فِي هَذَا إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ، فَإِذَا قَصَّرُوا عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُنْسَبَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ إلَى ذَلِكَ الْإِمَامِ، انْتَهَى وَهَذَا مَوْضِعٌ نَفِيسٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي التَّعَرُّضِ لِمَسْأَلَةٍ غَيْرِ مَنْصُوصَةٍ لِلْإِمَامِ ذَكَرَهَا بَعْضُ أَتْبَاعِهِ مُحْتَجًّا فِيهَا بِقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، فَيَظُنُّ الْوَاقِفُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ ذَلِكَ الْإِمَامِ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ جُمْلَةِ مُقَلِّدِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

مَسْأَلَةٌ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ، بَلْ فِيمَا هُوَ مِنْهَا خَفِيٌّ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بَذْلُ الْوُسْعِ، فَيَطْلُبَهَا لِأَنَّهَا تُنَالُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. مَسْأَلَةٌ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَعَرُّفِ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَقَائِعِ، وَتَعَرُّفُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى التَّعْيِينِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُجْتَهِدِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ قُطْرٍ مَا تَقُومُ بِهِ الْكِفَايَاتُ وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الِاجْتِهَادَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَاَلَّذِي رَأَيْت فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَتْوَى وَإِنْ لَمْ يَتَأَدَّ بِهِ فِي آحَادِ الْعُلُومِ الَّتِي مِنْهَا الِاسْتِمْدَادُ فِي الْفَتْوَى، قَالَ بَعْضُهُمْ: الِاجْتِهَادُ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ (1) فَرْضُ عَيْنٍ، (2) وَفَرْضُ كِفَايَةٍ (3) وَنَدْبٌ: - فَالْأَوَّلُ: عَلَى حَالَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) اجْتِهَادُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ وَ (الثَّانِي) اجْتِهَادُهُ فِيمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِيهِ فَإِنْ ضَاقَ فَرْضُ الْحَادِثَةِ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ وَإِلَّا عَلَى التَّرَاخِي - وَالثَّانِي: عَلَى حَالَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) إذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْتَفْتِي حَادِثَةٌ فَاسْتَفْتَى أَحَدَ الْعُلَمَاءِ تَوَجَّهَ الْفَرْضُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَأَخَصُّهُمْ بِمَعْرِفَتِهَا مَنْ خُصَّ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا، فَإِنْ أَجَابَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ سَقَطَ الْفَرْضُ، وَإِلَّا أَثِمُوا جَمِيعًا لَكِنْ حَكَى أَصْحَابُنَا وَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ هُنَاكَ غَيْرُ الْمُفْتِي، هَلْ يَأْثَمُ بِالرَّدِّ؟ أَصَحُّهُمَا: لَا وَالثَّانِي: إنْ تَرَدَّدَ الْحُكْمُ بَيْنَ قَاضِيَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ فِي النَّظَرِ

فَيَكُونُ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا تَفَرَّدَ بِالْحُكْمِ فِيهِ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْهُمَا وَالثَّالِثُ عَلَى حَالَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) فِيمَا يَجْتَهِدُ فِيهِ الْعَالِمُ مِنْ غَيْرِ النَّوَازِلِ، لِيَسْبِقَ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ قَبْلَ نُزُولِهِ وَ (الثَّانِي) أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ قَبْلَ نُزُولِهَا. مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمَحْصُولِ " وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الْخَلْقُ كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ، أَوْ مِنْ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ ": قَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ وَنَقْلُ الِاتِّفَاقِ فِيهِ عَجِيبٌ، وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَابِلَةِ، وَسَاعَدَهُمْ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا، وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَقِيهَ الْفَطِنَ الْقَيَّاسَ كَالْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، لَا النَّاقِلِ فَقَطْ وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالزُّبَيْرِيُّ فِي الْمُسْكِتِ " فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: وَتَحْتَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: لَا يُخْلِي اللَّهُ زَمَانًا مِنْ قَائِمٍ بِالْحُجَّةِ، أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَهُمْ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَّى زَمَانًا مِنْ قَائِمٍ بِحُجَّةٍ زَالَ التَّكْلِيفُ، إذْ التَّكْلِيفُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْحُجَّةِ الظَّاهِرَةِ وَإِذَا زَالَ التَّكْلِيفُ بَطَلَتْ الشَّرِيعَةُ وَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ: لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَدَهْرٍ وَزَمَانٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ فِي كَثِيرٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَوْجُودٍ - كَمَا قَالَ الْخَصْمُ - فَلَيْسَ بِصَوَابٍ، لِأَنَّهُ لَوْ عَدِمَ الْفُقَهَاءُ لَمْ تَقُمْ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا، وَلَوْ عُطِّلَتْ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا لَحَلَّتْ النِّقْمَةُ بِذَلِكَ فِي الْخَلْقِ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ» وَنَحْنُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ نُؤَخَّرَ مَعَ الْأَشْرَارِ. انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، لَكِنْ إلَى الْحَدِّ الَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ الْقَوَاعِدُ بِسَبَبِ زَوَالِ الدُّنْيَا فِي آخَرِ الزَّمَانِ وَقَالَ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ الْإِلْمَامِ ": وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ، وَالْأُمَّةُ الشَّرِيفَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَالِكٍ إلَى الْحَقِّ عَلَى وَاضِحِ الْمُحَجَّةِ، إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى، وَيَتَتَابَعُ بَعْدَهُ مَا بَقِيَ مَعَهُ إلَى قُدُومِ الْأُخْرَى وَمُرَادُهُ بِالْأَشْرَاطِ الْكُبْرَى: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مَثَلًا، وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنَّ الْخُلُوَّ مِنْ مُجْتَهِدٍ يَلْزَمُ مِنْهُ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الْخَطَأِ، وَهُوَ تَرْكُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَالَ وَالِدُهُ الْعَلَّامَةُ مَجْدُ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ تَلْقِيحِ الْأَفْهَامِ ": عَزَّ الْمُجْتَهِدُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ حُصُولِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ لِإِعْرَاضِ النَّاسِ فِي اشْتِغَالِهِمْ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ إلَى ذَلِكَ وَتَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ فَالْمُخْتَارُ قَبُولُ فَتْوَى الرَّاوِي عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ جَدُّهُ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعِزِّ الْمُقْتَرَحِ، مُعْتَرِضًا عَلَى قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: " لَا يَجُوزُ انْحِطَاطُ الْعُلَمَاءِ ": إنْ أَرَادَ الْمُجْتَهِدِينَ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ، وَزَمَانُنَا هَذَا قَدْ يَشْغَرُ مِنْهُمْ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ النَّقَلَةَ فَهَذَا يُتَّجَهُ، فَإِنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَقْضِ بِانْحِطَاطِهِمْ وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِ الْأَحَادِيثِ وَلَفْظِ الْمَذَاهِبِ وَنَقْلِ الْقُرْآنِ نَعَمْ، إنْ فَتَرَتْ الدَّوَاعِي وَقَلَّتْ الْهِمَمُ فَيَجُوزُ شُغُورُ الزَّمَانِ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، انْتَهَى وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ: وَقَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ فَقَدْ سَبَقَهُ إلَيْهِ الْقَفَّالُ شَيْخُ الْخُرَاسَانِيِّينَ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ مُجْتَهِدٌ قَائِمٌ بِالْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَانُوا يَرْغَبُونَ عَنْهُ، وَلَا يَلِي فِي زَمَانِهِمْ غَالِبًا إلَّا مَنْ هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَعْصَارِ بِخُلُوِّهَا عَنْ مُجْتَهِدٍ وَالْقَفَّالُ نَفْسُهُ كَانَ يَقُولُ لِلسَّائِلِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ: تَسْأَلُ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ مَا عِنْدِي؟ وَقَالَ، هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ: لَسْنَا مُقَلِّدَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، بَلْ وَافَقَ رَأْيُنَا رَأْيَهُ فَمَاذَا كَلَامُ مَنْ يَدَّعِي رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ اثْنَانِ أَنَّ

ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَصْرَ خَلَا عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ، لَا عَنْ مُجْتَهِدٍ فِي مَذْهَبِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِغَيْرِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الِاجْتِهَادُ إلَّا فِيهَا. مَسْأَلَةٌ الصَّحِيحُ جَوَازُ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي بَابٍ دُونَ غَيْرِهِ وَعَزَاهُ الْهِنْدِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ النُّكَتِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ الْعِنَايَةُ بِبَابٍ مِنْ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَعْرِفَةُ بِمَأْخَذِ أَحْكَامِهِ وَإِذَا حَصَلَتْ الْمَعْرِفَةُ بِالْمَأْخَذِ أَمْكَنَ الِاجْتِهَادُ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ بِمَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ وَالنَّاظِرُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشَارَكَةِ تَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفَرَائِضِ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ مَثَلًا وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي نَوْعٍ مِنْ الْفِقْهِ رُبَّمَا كَانَ أَصْلُهَا نَوْعًا آخَرَ مِنْهُ، كَتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ تَحْلِيلَ الْخَمْرِ بِالِاسْتِعْجَالِ، فَلَا تَكْتَمِلُ شَرَائِطُ الِاجْتِهَادِ فِي جُزْءٍ حَتَّى يَسْتَقِلَّ بِالْفُنُونِ كُلِّهَا. وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ فِي هَذَا أَنَّهُ هَلْ يُعْتَبَرُ خِلَافُ الْأُصُولِيِّ فِي الْفِقْهِ؟

فَإِنْ قُلْنَا: يَتَجَزَّأُ اُعْتُبِرَ خِلَافُهُ، وَإِلَّا فَلَا قِيلَ: وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ إذَا عَرَفَ بَابًا دُونَ بَابٍ أَمَّا مَسْأَلَةً دُونَ مَسْأَلَةٍ فَلَا تَتَجَزَّأُ قَطْعًا وَالظَّاهِرُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِبْيَارِيُّ، وَتَوَسَّطَ فَقَالَ: إنْ أَجْمَعُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى ضَبْطِ مَآخِذِهَا وَكَانَ النَّاظِرُ الْمَخْصُوصُ مُحِيطًا بِالنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْمَآخِذِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهَا، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ حَتَّى تَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَفِقْدَانُ الْمُعَارِضِ مِنْ الشَّرِيعَةِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ النَّاظِرُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ يَجْزِمُ أَوْ يَظُنُّ؟ ، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ: الْحَقُّ التَّفْصِيلُ: فَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ كُلِّيًّا، كَقُوَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَمَعْرِفَةِ مَجَارِي الْكَلَامِ وَمَا يُقْبَلُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَمَا يُرَدُّ وَنَحْوُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِجْمَاعِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ دَلِيلٍ وَمَدْلُولٍ، فَلَا تَتَجَزَّأُ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ وَمَا كَانَ خَاصًّا بِمَسْأَلَةٍ أَوْ مَسَائِلَ أَوْ بَابٍ فَإِذَا اسْتَجْمَعَهُ الْإِنْسَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْبَابِ أَوْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَوْ الْمَسَائِلِ مَعَ الْأَهْلِيَّةِ كَانَ فَرْضُهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ الِاجْتِهَادَ دُونَ التَّقْلِيدِ

فصل المجتهد من القدماء ومن الذي حاز الرتبة منهم

[فَصْلٌ الْمُجْتَهِدِ مِنْ الْقُدَمَاءِ وَمَنْ الَّذِي حَازَ الرُّتْبَةَ مِنْهُمْ] فَصْلٌ فِي الْمُجْتَهِدِ مِنْ الْقُدَمَاءِ وَمَنْ الَّذِي حَازَ الرُّتْبَةَ مِنْهُمْ ذَكَرَهُ إلْكِيَا وَهُوَ فَصْلٌ عَظِيمُ النَّفْعِ، فَإِنَّ مَذَاهِبَهُمْ نُقِلَتْ إلَيْنَا، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُجْتَهِدِ مِنْهُمْ، لِيُعْلَمَ مَنْ الَّذِي تُعْتَبَرُ فَتْوَاهُ، وَمَنْ يَقْدَحُ الْإِجْمَاعُ مُخَالَفَتَهُ وَمَنْ لَا يَقْدَحُ - قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةَ لَا شَكَّ فِي حِيَازَتِهِمْ هَذِهِ الرُّتْبَةَ - وَأُلْحِقَ بِهِمْ أَهْلُ الشُّورَى الَّذِينَ جَعَلَهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: وَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدْ مَالَ الْأَكْثَرُونَ إلَى إخْرَاجِهِ عَنْ أَحْزَابِ الْمُجْتَهِدِينَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ التَّصَدِّي لِلْفَتْوَى، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَصَدَّى لِلرِّوَايَةِ - وَتُوُقِّفَ فِي ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ التَّصَدِّي لِلْفَتْوَى - وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَكَانَ فَقِيهَ الصَّحَابَةِ وَمُنْتَدَبًا لِلْفَتْوَى - وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ - وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِمَّنْ شَهِدَ الرَّسُولُ بِأَنَّهُ أَفْرَضُ الْأَئِمَّةِ، وَالْمُعْتَبَرُ تَصَدِّيهِ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، أَوْ شَهَادَةُ الرَّسُولِ، وَمُرَاجَعَةُ الْأَوَّلِينَ لَهُ وَبَعْدَ النُّزُولِ عَنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ، لِلشَّافِعِيِّ وَقْفَةٌ فِي الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَيَقُولُ فِيهِمَا: وَاعِظٌ وَمُعَبِّرٌ وَلَمْ يَرَهُمَا مُتَصَدِّيَيْنِ لِهَذَا الشَّأْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنَّهُمَا كَانَا يُفْتِيَانِ عَلَى مَا قَالَهُ السَّلَفُ وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: أَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الْمَشْهُورِينَ مِنْهُمْ

مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَأَسَامِيهِمْ مَعْلُومَةٌ فِي التَّوَارِيخِ وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِ الْعَشَرَةِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ مَنْ انْتَشَرَتْ فَتَاوِيهِ، كَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَثُرَتْ فَتَاوِيهِمْ وَنُقِلَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ لَيْسُوا فُقَهَاءَ، وَإِنَّمَا هُمْ رُوَاةُ أَحَادِيثَ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ أَفْتَى فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَتَأَهَّلَ لِلْإِمَامَةِ فَزَهِدَ فِيهَا وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَلِيَ الْقَضَاءَ، وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ أَفْتَيَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ اشْتَهَرَ الْمُجْتَهِدُونَ فِيهِمْ، كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ: وَاعِظٌ وَمُعَبِّرٌ، ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْحَسَنَ أَفْتَى فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَابْنُ سِيرِينَ كَذَلِكَ وَقَدْ شَهِدَ لَهُمَا أَهْلُ عَصْرِهِمَا بِالْجَلَالَةِ وَالْإِمَامَةِ وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ فَأَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ وَلَا مَحَالَةَ وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ الْخَمْسَةُ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُزَنِيّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سُرَيْجٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَ هَؤُلَاءِ بِرُتْبَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الدِّينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَذَاهِبِ قُلْت: وَمَا ذَكَرَهُ إلْكِيَا فِي أَبِي هُرَيْرَةَ تَابَعَ فِيهِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُفْتِيًا وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ الرُّوَاةِ وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْحَنَفِيُّ فِي التَّحْقِيقِ ": كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقِيهًا، وَلَمْ يَعْدَمْ شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ كَانَ يُفْتِي فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَمَا كَانَ يُفْتِي فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إلَّا فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ السُّبْكِيُّ جُزْءًا فِي فَتَاوَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ فِي الْمَنْخُولِ ": وَالضَّابِطُ عِنْدَنَا فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ

تَصَدَّى لِلْفَتْوَى فِي أَعْصَارِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُمْنَعْ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَنْ لَمْ يَتَصَدَّ لَهُ قَطْعًا فَلَا وَمَنْ تَرَدَّدْنَا فِي ذَلِكَ فِيهِ تَرَدَّدْنَا فِي صِفَتِهِ وَقَدْ انْقَسَمَتْ الصَّحَابَةُ إلَى مُتَنَسِّكِينَ لَا يَعْتَنُونَ بِالْعِلْمِ، وَإِلَى مُعْتَنِينَ بِهِ فَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ، وَلَا مَطْمَعَ فِي عَدِّ آحَادِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ الضَّابِطِ وَهُوَ الضَّابِطُ أَيْضًا فِي التَّابِعِينَ، وَعَدَّ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ فَبَلَغَ بِهِمْ مِائَةً وَنَيِّفًا وَهَذَا حَيْفٌ وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي طَبَقَاتِهِ " أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ الْمُلَازِمِينَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا فُقَهَاءَ، لِأَنَّ طَرِيقَ الْفِقْهِ فِيهِمْ خِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَفْعَالُهُ، وَكَانُوا عَارِفِينَ بِذَلِكَ، لِنُزُولِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ ": لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَجَعَ فِي تَفْسِيرِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا قَالَ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» غَيْرَ أَنَّ الَّذِي اشْتَهَرَ مِنْهُمْ بِالْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ جَمَاعَةٌ مَخْصُوصَةٌ.

فصل في زمان الاجتهاد

[فَصْلٌ فِي زَمَانِ الِاجْتِهَاد] فَصْلٌ فِي زَمَانِهِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ غَيْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ زَمَنِ النُّبُوَّةِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِح الدُّنْيَا وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، كَمَا قَالَ سُلَيْمٌ، وَكَذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ وَمَثَّلَهُ بِإِرَادَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُصَالِحَ غَطَفَانَ عَلَى ثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، فَهَذَا مُبَاحٌ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَهَبُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا أَحَبُّوا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي تَلْقِيحِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُلَقِّحَ نَخْلَةً وَأَنْ يَتْرُكَهَا، قَالَ: وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَرَكَ ثِمَارَهُ سِنِينَ دُونَ تَأْبِيرٍ فَاسْتَغْنَى عَنْهُ، انْتَهَى فَأَمَّا اجْتِهَادُهُمْ فِي أَمْرِ الشَّرْعِ فَاخْتَلَفُوا أَنَّهُ هَلْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ؟ عَلَى مَذَاهِبَ.

الْأَوَّلُ - لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى النَّصِّ، بِنُزُولِ الْوَحْيِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى النُّطْقِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": كُلُّ مَنْ نَفَى الْقِيَاسَ أَحَالَ تَعَبُّدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ ابْنِ حَزْمٍ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سُئِلَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ وَيَقُولُ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي هَذَا الشَّيْءِ» ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ زَكَاةِ الْحُمُرِ، وَمِيرَاثِ الْبَنِينَ مَعَ الزَّوْجِ وَالْعَمَّةِ قَالَ: وَلَنَا أَخْذُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْفِدَاءَ ثُمَّ نَزَلَ عِتَابُهُ عَلَيْهِ، فَلَا يُنْكِرُ أَنْ يُفْعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ نَهْيُ رَبِّهِ تَعَالَى فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَنْبِيهِهِ عَلَيْهِ. قُلْت: ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبَّدًا بِهِ وَتَوَقَّفَ فِيهِ كَثِيرُونَ، مِنْهُمْ الرَّازِيَّ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَسُلَيْمٌ - وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْهُمْ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْقَاضِيَانِ أَبُو يُوسُفَ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ وَالْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": أَنَّهُ يَجُوزُ لِنَبِيِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - ذَلِكَ وَأَوْمَأَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ "، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ نَبِيَّهُ كَمَا خَاطَبَ عِبَادَهُ، وَضَرَبَ لَهُ الْأَمْثَالَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَجَلُّ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَأَعْظَمُ الْمُعْتَبِرِينَ بِهَا وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] فَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. سَلَّمْنَا أَنَّ

الضَّمِيرَ لِلنُّطْقِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَا ذَكَرْتُمْ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الشَّرْعِيَّ مَأْذُونٌ فِيهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فِي الْآرَاءِ وَالْحُرُوبِ كَثِيرٌ، كَقَتْلِهِ النَّضْرَ وَنَحْوَهُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَحَرَّى فِيهَا وَاخْتَارَ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْ غَيْرِهِ، لِعِصْمَتِهِ مِنْ الْخَطَأِ، فَإِذَا جَازَ لِغَيْرِهِ الَّذِي هُوَ عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلْكَامِلِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالِاجْتِهَادِ أَشَقُّ مِنْ الْعَمَلِ بِالْيَقِينِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا وَالثَّالِثُ - الْوَقْفُ عَنْ الْقَطْعِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِجَوَازِهِ كُلِّهِ وَزَعَمَ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ " أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ حَكَى الْأَقْوَالَ وَلَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا، فَقَالَ: مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ، اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِتَوْفِيقِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ إلَّا وَلَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ جَاءَتْهُ رِسَالَةُ اللَّهِ فَأَثْبَتَ سُنَّتَهُ بِفَرْضِ اللَّهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أُلْقِيَ فِي رُوعِهِ كُلُّ مَا سَنَّ، انْتَهَى لَكِنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذَا، فِي بَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَفِي قَوْله تَعَالَى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِرَسُولِهِ أَنْ يَقُولَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِتَوْفِيقِهِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ كِتَابٌ قَالَ: قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] : يَمْحُو فَرْضَ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ فَرْضَ مَا يَشَاءُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قِيلَ انْتَهَى. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا، (ثَالِثُهَا) ، وَاخْتَارَهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مِمَّا يُشَارِكُ فِيهِ الْأُمَّةَ، كَتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَمْرِ الشَّخْصِ لِنَفْسِهِ، وَبَيَّنَ أَنْ لَا يُشَارِكَهُمْ فِيهِ، كَمَنْعِ تَوْرِيثِ الْقَاتِلِ وَحَدِّ الشَّارِبِ وَقِيلَ: يَجُوزُ لِنَبِيِّنَا دُونَ غَيْرِهِ.

وَأَمَّا وُقُوعُهُ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: - فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى وُقُوعِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ وَدَاوُد، «وَقَوْلُهُ لِعُمَرَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت» ، «وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ لَهُ: إلَّا الْإِذْخِرَ فَقَالَ: إلَّا الْإِذْخِرَ» فَلَوْ كَانَ بِالْوَحْيِ لَمَا تَأَخَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ - وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَهُ مُطْلَقًا - وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ: كَانَ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْقَوَاعِدِ، وَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْفُرُوعِ، كَقَوْلِهِ: «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت» وَاخْتَارَهُ فِي الْمَنْخُولِ " - وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي، فَقَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى ": وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ قَاطِعٌ وَالْمُنْكِرُونَ لِلْوُقُوعِ قَالُوا: السُّنَّةُ كُلُّهَا وَحْيٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُتْلَى، وَالْقُرْآنُ وَحْيٌ يُتْلَى وَفِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:

«أَلَا إنِّي أُوتِيت الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» ، وَفِي حَدِيثِ «الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الْعُمْرَةِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: اصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِك» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَهُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ تَنْزِلُ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ أَخْذُ نُزُولِ الْوَحْيِ وَأَعْظَمُهَا وَصَرَّحَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرِّسَالَةِ " بِأَنَّ السُّنَّةَ مُنْزَلَةٌ كَالْقُرْآنِ وَفِي الْحَدِيثِ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» وَالْمَسْأَلَةُ مُتَجَاذِبَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا وَطَاعَتُهَا كَالْقُرْآنِ وَمِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْوُقُوعِ قَوْلُهُ: «إلَّا الْإِذْخِرَ» عَقِيبَ مَا قِيلَ لَهُ: إلَّا الْإِذْخِرَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَيْسَ قَاطِعًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَوْحَى إلَيْهِ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ وَادَّعَى الْقَرَافِيُّ فِي أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الْفَتَاوَى، وَأَنَّ الْأَقْضِيَةَ يَجُوزُ فِيهَا بِلَا نِزَاعٍ وَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا سَيَأْتِي وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ ": إنْ أُرِيدَ بِاجْتِهَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِدْلَال بِالنُّصُوصِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ قَطْعًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِدْلَال بِالْأَمَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ: فَإِنْ كَانَ أَخْبَارُ آحَادٍ فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنْ كَانَتْ أَمَارَاتٌ مُسْتَنْبَطَةٌ وَهِيَ الَّتِي يُجْمَعُ بِهَا بَيْنَ الْأَصْلِ

وَالْفَرْعِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ بِهِ عَلَيْهِ؟ وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ فُرُوعٌ الْأَوَّلُ - إذَا جَوَّزْنَا، فَهَلْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي الْأَقْضِيَةِ، وَصَحَّحَ الْوُجُوبَ وَكَذَا حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَقْضِيَةِ ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي التَّفْصِيلُ بَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى حُقُوقِهِمْ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا يَجِبُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الثَّانِي - إذَا اجْتَهَدَ فَهَلْ يَسْتَبِيحُ الِاجْتِهَادُ بِرَأْيِهِ أَوْ يَرْجِعُ فِيهَا إلَى دَلَائِلِ الْكِتَابِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي اجْتِهَادِهِ إلَى الْكِتَابِ، لِأَنَّ سُنَنَهُ أَصْلٌ كَالْكِتَابِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْفَرْعِ الَّذِي قَاسَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَلَى كُلِّ فَرْعٍ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ، قَالَ: لِأَنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ فَلَا يُعْطَى إلَى مَآخِذِهِمْ الثَّالِثُ - إذَا جَوَّزْنَا لَهُ الِاجْتِهَادَ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ الْخَطَأُ إلَى اجْتِهَادِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِيهِ، وَهُوَ يُنَافِي كَوْنَهُ خَطَأً وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " فَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ: وَالِاجْتِهَادُ فِي الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، وَلَنْ يُؤْمَرَ النَّاسُ أَنْ يَتَّبِعُوا إلَّا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ الَّذِي عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ الْخَطَأِ وَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُ فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] فَأَمَّا مَنْ رَأْيُهُ خَطَأٌ وَصَوَابٌ فَلَنْ يُؤْمَرَ أَحَدٌ بِاتِّبَاعِهِ، انْتَهَى وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هُوَ مَعْصُومٌ فِي اجْتِهَادِهِ كَمَا هُوَ مَعْصُومٌ فِي خَبَرِهِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ عِنْدَنَا، وَمِمَّنْ

جَزَمَ بِهِ الْحَلِيمِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ " فَقَالَ فِي خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ: وَمِنْهَا الْعِصْمَةُ مِنْ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَخُصُّوا بِأَدِلَّاءٍ حَتَّى تَتَّسِعَ الضُّرُوبُ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ وَإِذَا تَفَاوَتَتْ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَجْلِهِ فِي ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ هُوَ الَّذِي أَعْلَمَ الْعُلَمَاءَ أَوْلَى بِالِارْتِقَاءِ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ عَامَّةَ سُنَنِ الرَّسُولِ تَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَإِنْ بَذَلُوا الْجَهْدَ فِيهِ فَهُوَ إذًا يَفْهَمُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهْمًا لَا يَبْلُغُهُ فَهْمُ غَيْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. انْتَهَى. وَقِيلَ: يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُقَرَّ عَلَيْهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ " وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَالْخَطَّابِيُّ فِي أَعْلَامِ الْحَدِيثِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَجَعَلَهُ عُذْرًا لِعُمَرَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَكْتُبَهُ، وَارْتِضَاءُ الرَّافِعِيِّ فِي الْعَدَدِ، فِي الْكَلَامِ عَنْ سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ الْوَفَاةِ، وَكَذَا ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِحْكَامِ " قَالَ: «كَفِعْلِهِ بِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إذْ أُنْزِلَتْ عَبَسَ» قُلْت: وَهُوَ قَوْلٌ لَا نُورَ عَلَيْهِ وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ غَيْرُ صَوَابٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِ

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَهِدُونَ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ وَنَصٍّ وَ (الثَّانِي) الْمَنْعُ، لَكِنْ لَا يُقِرُّهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ لِيَزُولَ الِارْتِيَابُ بِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مُقِرًّا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِنَصٍّ وَقَالَا: قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعْصُومٌ فِي الِاجْتِهَادِ مِنْ الْخَطَأِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَسْتَدْرِكُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قُلْت: وَهَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي الْأَقْضِيَةِ فَحَصَلَ فِي عِصْمَتِهِمْ فِي الِاجْتِهَادِ مَذَاهِبُ: (ثَالِثُهَا) : نَبِيُّنَا فَقَطْ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مُقِرِّينَ عَلَى الْخَطَأِ فِي وَقْتِ التَّنْفِيذِ، وَلَا يُمْهِلُونَ عَلَى التَّرَاخِي حَتَّى يَسْتَدْرِكَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ قُلْت: وَهُوَ قَوْلٌ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَهُوَ أَفْسَدُ الْأَقْوَالِ، وَقِيلَ: الْخِلَافُ فِي غَيْرِ أُمُورِ الدُّنْيَا، أَمَّا أُمُورُ الدُّنْيَا فَيَجُوزُ عَلَى الْكُلِّ، لِحَدِيثِ التَّلْقِيحِ. مَسْأَلَةٌ تَصَرُّفَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنْحَصِرُ فِيمَا يَكُونُ بِالْإِمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْفَتْوَى وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْثِ الْجُيُوشِ وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَهُوَ مِنْ تَصَرُّفِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِنْقَاذِهِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ الْقَضَاءُ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ الْقُضَاةُ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْعِبَادَاتِ وَالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَهُوَ الْفَتْوَى وَالْخِلَافُ فِي الْكُلِّ ثُمَّ إذَا دَارَتْ الْحَادِثَةُ بَيْنَ تَنْزِيلِهَا عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ عَلَى الْفَتْوَى فَعِنْدَنَا تَنْزِيلُهَا عَلَى الْقَضَاءِ أَوْلَى.

الاجتهاد من غير الأنبياء في زمانهم

[الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِهِمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِهِمْ كَاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ. وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَقَامَيْنِ: الْجَوَازُ، وَالْوُقُوعُ. أَمَّا الْجَوَازُ: فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَنُقِلَ عَنْ الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي هَاشِمٍ. وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى مُسْتَحِيلٍ. فَإِنْ أَرَادُوا مَنْعَ الشَّرْعِ تَوَقَّفَ عَلَى الدَّلِيلِ فَهُوَ مَفْقُودٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ فُورَكٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُمَا، وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُسْتَصْفَى، وَقَالَ فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الْمُخْتَارُ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ مُطْلَقًا. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْغَائِبِ عَنْهُ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ فَيَجُوزُ دُونَ الْحَاضِرِينَ، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ. ثُمَّ الْمُجَوِّزُونَ اخْتَلَفُوا: فَقِيلَ: يُكْتَفَى بِسُكُوتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حَكَاهُ فِي

الْمُسْتَصْفَى. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِي ذَلِكَ مَنْعٌ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَلَيْسَ بِمَرَضِيٍّ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بِزَمَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ وَرَدَ الْإِذْنُ بِذَلِكَ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ نَزَّلَ السُّكُوتَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ مَنْزِلَةَ الْإِذْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اشْتَرَطَ صَرِيحَ الْإِذْنِ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ الِاجْتِهَادُ قَبْلَ سُؤَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَمَا لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ قَبْلَ طَلَبِ النَّصِّ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلسَّالِكِ فِي بَرِّيَّةٍ مَخُوفَةٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى رَأْيِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ سُؤَالِ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ الطَّرِيقِ عَنْ عِلْمٍ. وَإِذَا سَأَلَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَجُوزُ أَنْ يَكِلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى اجْتِهَادِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: يُشْتَرَطُ تَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ مَعَ النَّصِّ ثُمَّ يَتَأَمَّلُ: فَإِنْ كَانَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ صِرْنَا إلَى النَّصِّ، كَذَلِكَ يَجْتَهِدُ بِحَضْرَتِهِ، فَإِنْ أَفْتَى عَلَيْهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَقٌّ، وَفَصَّلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْحَاضِرِ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ، كَإِيجَابِ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ. وَقَدْ أَفْتَى أَبُو السَّنَابِلِ بِاجْتِهَادِهِ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَأَخْطَأَ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَيَجُوزُ، كَاجْتِهَادِهِمْ فِيمَا يَجْعَلُونَ عَلَمًا لِلدُّعَاءِ إلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى إيجَابِ شَرِيعَةٍ تُلْزِمُ، وَإِنَّمَا كَانَ إيذَانًا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَاجْتَهَدَ قَوْمٌ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَنْ هُمْ السَّبْعُونَ أَلْفًا الَّذِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَأَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ هُمْ، وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ. قُلْت: وَإِذَا جَوَّزْنَا لِلْغَائِبِ فَمَا ضَابِطُ الْغَيْبَةِ؟ هَلْ هِيَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ أَمْ لَا؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا. لَكِنْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " أَنَّهُ مَنْ بَعُدَ عَنْهُ بِفَرْسَخٍ أَوْ فَرَاسِخَ.

وَأَمَّا الْوُقُوعُ: فَاخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ فِيهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْيَقِينِ بِأَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَقَعَ ظَنًّا لَا قَطْعًا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، فَقَالَ: وَقَعَ لِلْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " وَإِلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ: وَهُوَ اُسْتُبْشِعَ فِي الِاسْتِقَامَةِ، وَأَمْيَلُ إلَى الِاقْتِصَادِ مِنْ حَيْثُ تَعَذُّرُ الْمُرَاجَعَةِ مَعَ تَأَنِّي الدَّارِّ فِي كُلِّ وَاقِعَةٌ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّ الْأَقْوَى عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِهِمْ. وَقَالَ صَاحِبُ " اللُّبَابِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الْحَاضِرِ، وَقَطَعَ فِي الْغَائِبِ بِالْوُقُوعِ. هَذَا حَاصِلُ مَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ: اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِهِ لَهُ حَالَتَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنْ تَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ، كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ، فَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُمَا، لِأَنَّ مُعَاذًا قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي، فَاسْتَصْوَبَهُ، وَسَوَاءٌ اجْتَهَدَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ. وَيَكُونُ اجْتِهَادُهُ أَمْرًا مُسَوَّغًا مَا لَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافُهُ. ثَانِيهِمَا - أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ وِلَايَةٌ فَلَهُ حَالَانِ: (أَحَدُهُمَا) - أَنْ يَظْفَرَ بِأَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُ فِي الرُّجُوعِ إلَيْهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَدَرَ عَلَى النَّبِيِّ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ، لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ بِأَصْلٍ لَازِمٍ. و (ثَانِيهِمَا) - أَنْ يَعْدَمَ أَصْلًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخَافُ فَوَاتَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَشْرَعَ.

وَ (الثَّانِي) يَجُوزُ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ. وَعَلَى هَذَا فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيهِ، لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إذَا قَدِمَ الرَّسُولُ أَنْ يَسْأَلَهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي - أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاصِلًا فِي مَدِينَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَغَائِبًا عَنْ مَحَلَّتِهِ، فَإِنْ رَجَعَ فِي اجْتِهَادِهِ إلَى أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحَّ وَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، لِأَنَّ الْعَجْلَانِيُّ سَأَلَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ عَنْ قَذْفِ امْرَأَتِهِ بِمَا سَمَّاهُ فَقَالَ لَهُ: حَدٌّ فِي ظَهْرِك إنْ لَمْ تَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا قِيلَ لَهُ فَتَوَقَّفَ فِيهِ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ أَجَابَهُ. وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ الْمُجْتَهِدُ إلَى أَصْلٍ فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ وَجْهَانِ، قَالَ صَاحِبُ " الْحَاوِي ": وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَصِحُّ اجْتِهَادُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ تَكْلِيفٌ فَتَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَوَامِرِ بِهَا، وَالْمُعَامَلَاتُ تَخْفِيفٌ فَتُعْتَبَرُ النَّوَاهِي عَنْهَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ صَحَّ اجْتِهَادُهُ، كَمَا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَصِحَّ اجْتِهَادُهُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَيُقِرَّهُ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ بِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ صَحِيحًا، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَلَبَ الْقَتِيلِ وَقَدْ أَخَذَهُ غَيْرُ قَاتِلِهِ. قُلْت: وَفِي مَعْنَى أَمْرِهِ بِهِ الْمُشَاوَرَةُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] [وَقَدْ شَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِ الْأَسْرَى وَغَيْرِهِ] . وَكَذَلِكَ اجْتِهَادُهُمْ بِحَضْرَتِهِ لِيَعْرِضُوا عَلَيْهِ رَأْيَهُمْ، فَإِنْ صَحَّ قَبِلَهُ، وَإِلَّا رَدَّهُ. كَبَحْثِ الطَّالِبِ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ. وَقَدْ اجْتَهَدَ مُعَاذٌ فِي تَرْكِهِ قَضَاءَ الْغَائِبِ أَوَّلًا، ثُمَّ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ وَرَضِيَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: (قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ) وَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ مَحْوِ اسْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّحِيفَةِ، وَكَانَ اجْتِهَادًا عَظِيمًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ صُوَرٌ يَجُوزُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ.

وَقَدْ احْتَجَّ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى الْوُقُوعِ: (1) بِقَضِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ هَذِهِ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صَدَقَ) وَلَمْ يَقُلْهُ الصِّدِّيقُ بِغَيْرِ الِاجْتِهَادِ. (2) : وَكَذَلِكَ حَكَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ قَالَ: (لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ اللَّهِ) . (3) وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنْ يَحْكُمَا بَيْنَ خَصْمَيْنِ، وَقَالَ لَهُمَا: إنْ أَصَبْتُمَا فَلَكُمَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْتُمَا فَلَكُمَا حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ. وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ نَظَرٌ: أَمَّا (الْأَوَّلُ) فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَتَلَ عَامَ حُنَيْنٍ مُشْرِكًا ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَقُومُ أَبُو قَتَادَةَ

فَلَا يَجِدُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ. فَلَمَّا كَانَ الثَّالِثَةُ قَالَ: يَا أَبَا قَتَادَةَ مَا لَك؟ قَالَ: فَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ. . . الْحَدِيثَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَقُلْهُ بِالِاجْتِهَادِ، بَلْ هُوَ تَنْفِيذٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَأَمَّا (الثَّانِي) فَالنِّزَاعُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُخْبِرَهُ، كَغَالِبِ عَادَاتِهِمْ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهَا بِرَأْيِهِ مِمَّا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ. وَتَحْكِيمُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَوَّضَ إلَيْهِ الْحُكْمَ فِي وَاقِعَةٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَأَمَّا (الثَّالِثُ) فَقِيلَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، بَلْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْحُبَابِ حَدَّثَهُ عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ خَصْمَيْنِ جَاءَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (اقْضِ بَيْنَهُمَا) وَذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ فِي كِتَابِ الْقُضَاةِ عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهْرَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: جَاءَ خَصْمَانِ إلَى النَّبِيِّ (ص) ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (اقْضِ بَيْنَهُمَا) فَقُلْت، يَا رَسُولَ اللَّهِ: كُنْتَ أَوْلَى بِهِ،

قَالَ: وَإِنْ كَانَ، قُلْتَ: مَا أَقْضِي؟ قَالَ: (عَلَى أَنَّك إنْ أَصَبْتَ كَانَ لَك عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتَ كَانَ لَك حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ) وَمَدَارُهُ عَلَى فَرَجٍ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَشَيْخُهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُوهُ مَجْهُولَانِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي اسْمِ أَبِيهِ، وَالِاخْتِلَافُ هَلْ هُوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَوْ عَنْ أَبِيهِ. وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ فِي (الْمُسْتَدْرَكِ) الْحَدِيثَ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَادَى يَوْمَ انْصَرَفَ مِنْ الْأَحْزَابِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ. قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ النِّزَاعَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجْتَهِدُ فِيمَا لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ يُرَاجِعُ، وَهَذَا اجْتِهَادٌ فِي نَصِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا الْمُرَادُ بِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْمَقْصُودَ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ فِي الْجُمْلَةِ. و (الثَّانِي) أَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِ لَهُمْ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي. وَصَوَّبَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَحَدِيثُ بَعْثِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلِيًّا قَاضِيًا، وَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ ".

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ «حَدَّثَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ ثَلَاثَةً وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ، فَأَتَوْا عَلِيًّا يَخْتَصِمُونَ فِي الْوَلَدِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ أَرَى أَنْ نُقْرِعَ بَيْنَكُمْ، فَقَرَعَ أَحَدُهُمْ فَدَفَعَ إلَيْهِ الْوَلَدَ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَا أَعْلَمُ فِيهَا إلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ» . وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سُبِقَ الرَّجُلُ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ سَأَلَهُمْ فَأَوْمَئُوا إلَيْهِ بِاَلَّذِي سُبِقَ. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: اصْنَعُوا كَمَا صَنَعَ مُعَاذٌ» . وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْحُكْمَ تَغَيَّرَ مِنْ يَوْمئِذٍ وَأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ بِأَمْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَنُسِخَ بِهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ. بَلْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُعْجَمِهِ "، بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِهِمَا إلَّا فُلَيْحًا فَعَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُهُ: عَنْ «مُعَاذٍ قَالَ: فَجِئْت يَوْمًا وَقَدْ سُبِقْت وَأُشِيرَ إلَيَّ بِاَلَّذِي سُبِقْت بِهِ. فَقُلْتُ: لَا أَجِدُهُ عَلَى حَالٍ كُنْت عَلَيْهَا، فَكُنْت بِحَالِهِمْ الَّتِي وَجَدْتُهُمْ عَلَيْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُمْتُ. فَصَلَّيْتُ وَاسْتَقْبَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النَّاسَ وَقَالَ: مَنْ الْقَائِلُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: مُعَاذٌ، فَقَالَ قَدْ سَنَّ لَكُمْ فَاقْتَدُوا بِهِ. إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَقَدْ سُبِقَ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ فَلِيُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ بِصَلَاتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ فَلْيَقْضِ مَا سَبَقَهُ بِهِ» . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُوَافَقَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.

فَائِدَةٌ قَالَ الرَّازِيَّ فِي " الْمَحْصُولِ ": الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْفِقْهِ. وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْوَكِيلِ وَقَالَ: بَلْ فِي مَسَائِلَ الْفِقْهِ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ. مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ وَمَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ. فَفِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَجْهَانِ: (أَصَحُّهُمَا) يَجْتَهِدُ وَلَا يُكَلِّفُ الْغَيْرَ، بِدَلِيلِ طَهَارَتِهِ مِنْ الْإِنَاءِ الْمَظْنُونِ طَهَارَتُهُ وَهُوَ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ الِاجْتِهَادَ فِي زَمَنِهِ. (الثَّانِي) لَا، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَمْنَعُ الِاجْتِهَادَ. وَكَذَلِكَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، هَلْ تَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَقْتِ. وَرُجْحَانُ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ فِيهَا أَقْوَى مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا التَّرْجِيحُ وَهْمٌ، فَالْقَادِرُ عَلَى سُؤَالِ الرَّسُولِ لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْيَقِينِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةٍ وَحْيٌ، وَإِلَّا فَمَا لَمْ يَنْزِلْ الْوَحْيُ فَلَا حُكْمَ فَلَا قَطْعَ وَلَا ظَنَّ. فَغَايَةُ الْقَادِرِ سُؤَال عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُجَوِّزُ نُزُولَ الْوَحْيِ فَيَكُونُ مُجَوِّزًا لِلْيَقِينِ، وَإِنَّمَا مَأْخَذُ هَذَا الْخِلَافِ الْأُصُولِيِّ مَا فِي الِاجْتِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ التَّحَرِّي، وَمَا فِيهِ مِنْ سُلُوكِ طَرِيقٍ لَا يَأْمَنُ فِيهَا الْخَطَأُ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ طَرِيقٍ يَأْمَنُ فِيهِ الْخَطَأَ، فَمَا قَالَهُ الرَّازِيَّ أَنَّهُ لَا ثَمَرَةَ لِلْخِلَافِ صَحِيحٌ. نَعَمْ، الْخِلَافُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْيَقِينِ بِسُؤَالِ اللَّهِ، وَهَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ، بَلْ قُدْرَتُهُ عَلَى الْيَقِينِ مَقْطُوعٌ بِهَا، سَوَاءٌ وَقَعَ الْجَوَابُ فِي الْحَالِ. كَمَا كَانَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِ، أَوْ بَعْدَ انْتِظَارِ الْوَحْيِ كَمَا فِي اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ. وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْ التَّخْرِيجِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ

عُلِمَ، وَإِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادٌ فِي تَعْيِينِهِ، وَمَسْأَلَتُنَا اجْتِهَادٌ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ غَيْرِ مَعْلُومٍ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّجْوِيزِ فِي الْمُشْتَبَهِ بَعْدَ عِلْمِهِ الْجَوَازُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ. . مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُحْكُمْ بِمَا تَشَاءُ وَمَا تَرَى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَإِنَّك لَا تَحْكُمُ إلَّا بِالصَّوَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ. وَقَدْ سَبَقَتْ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْمُجْتَهَدُ، فِيهِ وَهُوَ كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِيٍّ أَوْ عِلْمِيٍّ يُقْصَدُ بِهِ الْعِلْمُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ. فَخَرَجَ بِالشَّرْعِيِّ الْعَقْلِيُّ فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ مَا هُوَ كَسْبٌ لِلْمُكَلَّفِ إقْدَامًا وَإِحْجَامًا. وَبِالْعَمَلِيِّ مَا تَضَمَّنَهُ عِلْمُ الْأُصُولِ مِنْ الْمَظْنُونَاتِ الَّتِي يَسْتَنِدُ الْعَمَلُ إلَيْهَا. وَقَوْلُنَا: لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ احْتِرَازًا عَمَّا وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ إذَا ظَفِرَ فِيهِ بِالدَّلِيلِ حَرُمَ الرُّجُوعُ إلَى الظَّنِّ. مَسْأَلَةٌ فِي الْحَادِثَةِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَحْكُمْ فِيهَا بِشَيْءٍ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ فِي نَظِيرِهَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ. وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمٌ فِي نَظِيرِهَا يَصِحُّ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْ مَعْنَى نُطْقِهِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِرُجُوعِنَا إلَى طَلَبِ الْحُكْمِ مَعَ إمْسَاكِهِ عَنْهُ. قُلْت: وَهَذَا كُلُّهُ بَحْثٌ فِي الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، أَمَّا الْوُقُوعُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لِوُجُوبِ الْبَيَانِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ. .

فَصْلٌ فِي تَحْلِيلِ الْحُجَجِ لَيْسَ يَكْفِي فِي حُصُولِ الْمَلَكَةِ عَلَى شَيْءٍ تَعَرُّفُهُ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الِارْتِيَاضِ فِي مُبَاشَرَتِهِ، فَلِذَلِكَ إنَّمَا تَصِيرُ لِلْفَقِيهِ مَلَكَةُ الِاحْتِجَاجِ وَاسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَرْتَاضَ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَمَا أَتَوْا بِهِ فِي كُتُبِهِمْ. وَرُبَّمَا أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنْ الْعَنَاءِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ مِنْ فَاسِدِهَا. وَمِمَّا يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى تَحْلِيلِ مَا فِي الْكِتَابِ وَرَدِّهِ إلَى الْحُجَجِ، فَمَا وَافَقَ مِنْهَا التَّأْلِيفُ الصَّوَابَ فَهُوَ صَوَابٌ، وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَمَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ تَوَقَّفَ فِيهِ. .

فصل في وظيفة المجتهد إذا عرضت له واقعة

[فَصْلٌ فِي وَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِ إذَا عَرَضَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ] ٌ اعْلَمْ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَطْلُبَ لِنَفْسِهِ أَقْوَى الْحُجَجِ عِنْدَ اللَّهِ مَا وَجَدَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، لِأَنَّ الْحُجَّةَ كُلَّمَا قَوِيَتْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الزَّلَلِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ ": " وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَعْلَى " وَقَالَ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": إذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ فِيهِ فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ فَعَلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ ثُمَّ الْآحَادِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ لَمْ يُخَضْ فِي الْقِيَاسِ، بَلْ يَلْتَفِتُ إلَى ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، فَإِنْ وَجَدَ ظَاهِرًا نَظَرَ فِي الْمُخَصِّصَاتِ مِنْ قِيَاسٍ وَخَبَرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُخَصِّصًا حَكَمَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْثُرْ عَلَى ظَاهِرٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ نَظَرَ إلَى الْمَذَاهِبِ، فَإِنْ وَجَدَهَا مُجْمَعًا عَلَيْهَا اتَّبَعَ الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إجْمَاعًا خَاضَ فِي الْقِيَاسِ. وَيُلَاحِظُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ أَوَّلًا، وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ، كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقِّلِ، فَيُقَدِّمُ قَاعِدَةَ الرَّدْعِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَلَمِ، فَإِنْ عَدِمَ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً نَظَرَ فِي النُّصُوصِ وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ وَجَدَهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ أَلْحَقَ بِهِ، وَإِلَّا انْحَدَرَ إلَى قِيَاسٍ مُخَيَّلٍ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ تَمَسَّكَ بِالشَّبَهِ وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى طَرْدٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: هَذَا تَدْرِيجُ النَّظَرِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَقَدْ أَخَّرَ الْإِجْمَاعَ عَنْ ذَلِكَ الْأَخْبَارُ، وَذَلِكَ تَأْخِيرُ مَرْتَبَةٍ لَا تَأْخِيرُ عَمَلٍ، إذْ الْعَمَلُ بِهِ مُقَدَّمٌ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُقَدَّمٌ فِي الْمَرْتَبَةِ، فَإِنَّهُ مُسْتَنَدُ قَبُولِ الْإِجْمَاعِ. وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ نَظَرَهُ فِي الْإِجْمَاعِ يَكُونُ أَوَّلًا، إذْ النُّصُوصُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً، وَلَا كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ النَّصَّ عَلَى الظَّاهِرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٌ مَا هُوَ.

الْأَشْرَفُ، فَأَوَّلُ مَا يَطْلُبُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ النَّصَّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالظَّاهِرَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِي مَنْطُوقِهَا وَلَا مَفْهُومِهَا رَجَعَ إلَى أَفْعَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ فِي تَقْرِيرِهِ بَعْضَ أُمَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَظَرَ فِي الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ إنْ لَمْ يَجِدْ الْإِجْمَاعَ. وَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ عَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ آخِرَ الْمَرَاتِبِ إذَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا الْحُكْمُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " ذَلِكَ كُلَّهُ. وَقَالَ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": يَجِبُ أَنْ يَرُدَّ نَظَرَهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ وَفِي النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ، ثُمَّ يَبْحَثُ عَنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، فَيَنْظُرُ فِي الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ وَجَدَهُ وَإِلَّا فَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ، وَهُمَا فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِإِفَادَةِ الْقَطْعِ، فَإِنْ وَجَدَ أَخَذَ بِهِ وَإِلَّا نَظَرَ بَعْدُ فِي عُمُومَاتِهَا وَظَوَاهِرِهَا، فَإِنْ وَجَدَ وَإِلَّا نَظَرَ فِي مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ، فَإِنْ عَارِضَ الْقِيَاسُ عُمُومًا، أَوْ خَبَرٌ وَاحِدٌ عُمُومًا وَعَدِمَ التَّرْجِيحَ تَوَقَّفَ عَلَى رَأْيٍ، وَتَخَيَّرَ عَلَى رَأْيٍ، وَإِنْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ نَظَرَ فِي النَّسْخِ وَالتَّرْجِيحِ، فَإِنْ عَدِمَهُمَا جَاءَ الْخِلَافُ فِي التَّخْيِيرِ وَالْوَقْفِ. فَإِنْ عَدِمَ، بَنَاهُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْعَقْلِ، وَهُوَ نَفْيُ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ. . مَسْأَلَةٌ يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَلِ بِالنَّصِّ الظَّاهِرِ الْبَحْثُ عَنْ الْمُعَارِضِ هَلْ لَهُ نَاسِخٌ أَوْ مُخَصِّصٌ أَوْ مُقَيِّدٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَلَهُ الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ بِمُجَرَّدِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ. وَهَذَا هُوَ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي بَابِ الْعُمُومِ، فِي التَّمَسُّكِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْمُخَصِّصِ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْبَحْثَ فَإِلَى أَيِّ وَقْتٍ يَبْحَثُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ هُنَاكَ فَاسْتَحْضِرْهُ. وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ " الْمَحْصُولِ "

أَنَّهُ قَطَعَ هُنَا بِالْبَحْثِ عَنْ الْمُعَارِضِ مَعَ قَوْلِهِ فِي بَابِ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ. وَحُكِيَ الْخِلَافُ فِيهِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَيَجْرِي هَذَا فِي كُلِّ دَلِيلٍ مَعَ مُعَارِضِهِ، كَالْقِيَاسِ مَعَ الِاسْتِصْحَابِ وَغَيْرِهَا. نَعَمْ، إذَا وَجَدَ الْمُجْتَهِدُ الْإِجْمَاعَ عَمِلَ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا طَلَبٍ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا قَالَ الْإِبْيَارِيُّ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ مُعَارِضٌ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ، وَلَا يَصِحُّ نَسْخُهُ. .

فصل الاجتهاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم

[فَصْلٌ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَصْلٌ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنْقَسِمُ طُرُقُهُ إلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا - مَا كَانَ الِاجْتِهَادُ مُسْتَخْرَجًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ: كَاسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا مِنْ الْبُرِّ، فَهَذَا صَحِيحٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ. ثَانِيهَا - مَا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ شَبَهِ النَّصِّ: كَالْعَبْدِ فِي ثُبُوتِ مِلْكِهِ، لِتَرَدُّدِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَشَبَهِهِ بِالْبَهِيمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، فَهُوَ صَحِيحٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَالْمُنْكِرِينَ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنْكَرِينَ لَهُ جَعَلُوهُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ. وَمَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ جَعَلَهُ مُلْحَقًا بِأَحَدِ الشَّبَهَيْنِ. ثَالِثُهَا - مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ: كَاَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] يَعُمُّ الْأَبَ وَالزَّوْجَ وَالْمُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا. وَهَذَا صَحِيحٌ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالتَّرْجِيحِ. رَابِعُهَا - مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ إجْمَالِ النَّصِّ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُتْعَةِ: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] فَيَصِحُّ الِاجْتِهَادُ فِي قَدْرِ الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ. خَامِسُهَا - مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ أَحْوَالِ النَّصِّ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُتَمَتِّعِ {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] فَاحْتَمَلَ صِيَامَ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ عَرَفَةَ، وَاحْتَمَلَ صِيَامَ السَّبْعَةِ إذَا رَجَعَ فِي طَرِيقِهِ، وَإِذَا رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ، فَصَحَّ الِاجْتِهَادُ فِي تَغْلِيبِ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى. سَادِسُهَا - مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ دَلَائِلِ النَّصِّ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ، فَإِنَّهُ

أَكْثَرُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى، فِي أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مَدِينٍ فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بِمُدٍّ فَإِنَّهُ أَقَلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا سَابِعُهَا - مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ أَمَارَاتِ النَّصِّ: كَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ لِمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ، مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] مَعَ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهَا مِنْ هُبُوطِ الرِّيَاحِ وَمَطَالِعِ النُّجُومِ. ثَامِنُهَا - مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا أَصْلَ قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : لَا يَصِحُّ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِأَصْلٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الشَّرْعِ إلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَلِهَذَا كَانَ يُنْكِرُ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ، لِأَنَّهُ تَغْلِيبُ ظَنٍّ بِغَيْرِ أَصْلٍ. وَ (الثَّانِي) : يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ بِهِ، لِأَنَّهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ أَصْلٍ. وَقَدْ اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى مَا دُونَ الْحَدِّ بِآرَائِهِمْ فِي أَصْلِهِ مِنْ ضَرْبٍ وَحَبْسٍ. وَفِي تَقْدِيرِهِ بِعَشْرِ جَلَدَاتٍ فِي حَالٍ، وَبِعِشْرِينَ فِي حَالٍ. وَلَيْسَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَقَادِيرِ أَصْلٌ مَشْرُوعٌ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ يُسْتَعْمَلُ مَعَ عَدَمِ الْقِيَاسِ. . مَسْأَلَةٌ قَالَ الْمُزَنِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ " فَسَادِ التَّقْلِيدِ ": إذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ وَادَّعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ بِأَنَّ قَوْلَهَا نَظَرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِالصَّحَابَةِ وَطَلَبُهُمْ الْحَقَّ بِالشُّورَى الْمَوْرُوثَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] فَيُحْضِرُ الْإِمَامُ أَهْلَ زَمَانِهِ فَيُنَاظِرُهُمْ فِيمَا

مَضَى وَحَدَثَ مِنْ الْخِلَافِ، وَيَسْأَلُ كُلَّ فِرْقَةٍ عَمَّا اخْتَارَتْ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الْغَلَبَةِ وَالْمُفَاخَرَةِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِنْصَافِ وَالْمُنَاصَحَةِ، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الْقَصْدِ بِهِ إلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] فَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ النَّظَرُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَقُمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَالسَّبِيلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، قِيلَ: عَلَى الْعَالِمِ الَّذِي وَقَفَ فِي الْفَتْوَى مَوْقِفَ الْإِمَامِ أَنْ يَطْلُبَ الْعُلَمَاءَ فَيُنَاظِرَهُمْ بِمِثْلِ مُنَاظَرَةِ الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ - أَوْ كَانُوا - بِمَوْضِعٍ لَا يَصِلُ فِيهِ إلَيْهِمْ فَأَقْرَبُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي كُتُبِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالِاحْتِجَاجُ لَهُمْ، وَعَلَيْهِمْ تَتَبُّعُ الْحَقِّ مِمَّنْ قَامَتْ حُجَّتُهُ فِيهِمْ بِمَا وُصِفَتْ، وَإِدَامَةُ الرَّغْبَةِ إلَى اللَّهِ فِي تَوْفِيقِهِ لِلْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ خَيْرًا إلَّا بِمَعْرِفَتِهِ. انْتَهَى. وَهِيَ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ. . فَائِدَةٌ عَلَى فَقِيهِ النَّفْسِ ذِي الْمَلَكَةِ الصَّحِيحَةِ تَتَبُّعُ أَلْفَاظِ الْوَحْيَيْنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِخْرَاجُ الْمَعَانِي مِنْهُمَا. وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَجَدَهَا مَمْلُوءَةً، وَوَرَدَ الْبَحْرَ الَّذِي لَا يَنْزِفُ، وَكُلَّمَا ظَفِرَ بِأَيَّةٍ طَلَبَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا، وَاسْتَمَدَّ مِنْ الْوَهَّابِ. وَمِنْ فِقْهِ الْفِقْهِ قَوْلُهُمْ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ «هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» إنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا لِلْمَالِ وَإِنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَنْ لَا يُضَيَّعَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَيَّعَ. وَالْفَقِيهُ أَعْلَى، يَأْخُذُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْجَالِسَ عَلَى الْحَاجَةِ، أَوْ الْمُسْتَرِيحَ عَلَى الْقَارِعَةِ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ إذَا بَاحَثَ نَفْسَهُ قَالَ لَهَا: هَلَّا حَصَّلْت ثَوَابًا وَعَمَلًا صَالِحًا، فَإِذَا قَالَ لَهُ الْوَسْوَاسُ: أَنْتَ عَلَى الْخَلَاءِ، وَمَا عَسَاك تُحَصِّلُ مِنْ الطَّاعَةِ وَأَنْتَ بِمَكَانٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ ذِكْرُ اللَّهِ، يَقُولُ، إنَّمَا مُنِعْنَا ذِكْرَ اللَّهِ بِالْأَلْسُنِ، فَهَلَّا اسْتَحْضَرْتَ ذِكْرَ الْمُنْعِمِ بِدَفْعِ هَذَا الْأَذَى عَنَّا، وَتَهَيُّؤِ الْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ، حَتَّى لَا يَخْلُو تَحْصِيلُ الطَّاعَةِ مِنْ الْمَحَالِّ.

الْقَذِرَةِ. كَمَا أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَغْفُلْ عَنْ فَتْحِ تَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ الْمُقَذَّرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ بِمُعَالَجَةِ الدِّبَاغِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَهُنَّ» فَيَتَعَدَّى اسْتِنْبَاطُهُ إلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مَا يُوقِعُ الْقَطِيعَةَ وَالْوَحْشَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِفْسَادَ مَا بَيْنَهُمْ حَتَّى السَّعْيَ عَلَى بَعْضِهِمْ فِي مَنَاصِبِ بَعْضٍ وَوَظِيفَتِهِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ تَغْنَمُ بِتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ وَتَثْمِيرِ الْأَعْمَالِ. . مَسْأَلَةٌ ادَّعَى الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُكْمٌ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ حَتَّى لَوْ اعْتَقَدَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ لِدَلِيلٍ كَانَ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ إلَى أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ. وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ " - وَهُوَ مِنْ كُتُبِ " الْأُمِّ " مِنْ أَوَاخِرِهَا -: فَإِذَا قَدِمَ الْمُرْتَدُّ لِيُقْتَلَ فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَقَتَلَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ فَاَلَّذِينَ لَا يَرَوْنَ أَنْ يُسْتَتَابَ الْمُرْتَدُّ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ، وَلَوْلَا الشُّبْهَةُ لَكَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فِي بَابِ الْإِحْصَارِ مِنْ تَعْلِيقِهِ " أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ الْكَبِيرِ: لَوْ كَانَ يَذْهَبُ - أَيْ الْمُحْرِمُ - إلَى أَنَّ الْمَرِيضَ يَحِلُّ إذَا بَعَثَ الْهَدْيَ بِمِنًى، فَبَعَثَ الْهَدْيَ فَنَحَرَ هُنَاكَ أَوْ ذَبَحَ لَمْ يَحِلَّ. وَكَانَ عَلَى إحْرَامِهِ، وَإِذَا رَجَعَ إلَى مَكَّةَ كَانَ حَرَامًا كَمَا كَانَ. (قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) : وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ مَذْهَبًا وَعَمِلَ بِهِ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ فِعْلِهِ عِنْدَهُ، لِأَنَّ هَذَا اعْتَقَدَ جَوَازَ التَّحَلُّلِ وَتَحَلَّلَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ حَلَالًا بِذَلِكَ وَلَمْ نُصَحِّحْهُ فِي حَقِّهِ. وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " عَنْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَأَقَرَّهُ. وَقَالَ الْأَصْحَابُ فِي بَابِ الزِّنَا فِي الشُّبْهَةِ:

كُلُّ جِهَةٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا لَا حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ. وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ دُونَ غَيْرِهِ. . مَسْأَلَةٌ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ لَا يَقُولُ فِي مَسْأَلَةٍ: " لَا أَعْلَمُ " حَتَّى يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي النَّظَرِ فِيهَا ثُمَّ يَقِفُ. كَمَا أَنَّهُ لَا يَقُولُ: " أَعْلَمُ " وَيَذْكُرُ مَا عَلِمَهُ حَتَّى يُجْهِدَ نَفْسَهُ وَيَعْلَمَ، نَقَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَالِمَ لَيْسَ كَالْعَامِّيِّ، فَقَوْلُهُ: لَا أَعْلَمُ يُهَوِّنُ أَمْرَ الْمَسْأَلَةِ وَيُطْمِعُ السَّائِلَ فِي الْإِقْدَامِ مَعَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مَنْصُوصَةَ الْحُكْمِ. وَأَيْضًا فَالْعَالِمُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِيَتَعَلَّمَ وَيَعْلَمَ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ " لَا أَعْلَمُ " مِنْ الدِّينِ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَقِفَ عِنْدَ مُقْتَضَيَاتِ الْعِلْمِ بَعْدَ سَبْرِهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُطْلِقُ " لَا أَعْلَمُ " إطْلَاقًا. أَمَّا مَنْ يُقَيِّدُ كَلَامَهُ بِمَا يَعْرِفُ فِيهِ الْمَعْنَى فَلَا يَمْنَعُ. . مَسْأَلَةٌ هَلْ عَلَى الْمُجْتَهِدِ بَيَانُ الدَّلِيلِ الَّذِي دَلَّ عِلْمُهُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ؟ يُتَّجَهُ فِيهِ تَخْرِيجُ خِلَافٍ مِنْ الْمُفْتِي: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ؟ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْفَتْوَى، أَوْ لَا يَجِبُ الشَّاهِدُ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُ مُسْتَنَدِهِ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ اسْتِفَاضَةٍ أَوْ لَا يَجِبُ؟ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَا إلَّا عَلَى اعْتِقَادِ صِحَّةِ وُقُوعِهَا. وَالْمَشْهُورُ الثَّانِي. نَعَمْ، قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ: يُبَيِّنُ الْفَرْعَ فِي الْأَدَاءِ جِهَةُ التَّحَمُّلِ مِنْ اسْتِدْعَاءٍ أَوْ أَدَاءً أَوْ بَيَانِ سَبَبٍ. قَالَ الْإِمَامُ: لِأَنَّ الْغَالِبَ الْجَهْلُ بِطَرِيقِهِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ وَوَثِقَ بِهِ الْقَاضِي جَازَ تَرْكُهُ. .

مَسْأَلَةٌ إذَا وَجَدْنَا عَنْ مُجْتَهِدٍ حُكْمًا وَظَفِرْنَا لَهُ بِدَلِيلٍ مُنَاسِبٍ، وَفَقَدْنَا غَيْرَهُ، فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا جَعْلُهُ مُعْتَمَدًا لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ؟ جَزَمَ بِهِ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ " قَالَ: وَلِهَذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّا إذَا رَأَيْنَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ حُكْمًا. وَظَفِرْنَا لَهُ بِمُنَاسَبَةٍ جَزَمْنَا بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَقْلًا، لَكِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَيْهِ. . مَسْأَلَةٌ يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقْصِدَ بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ وَإِصَابَةَ الْعَيْنِ الَّتِي يَجْتَهِدُ فِيهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَذْهَبِ الْمُزَنِيّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ نَفْسِهِ، لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالنَّصِّ. وَعَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِاجْتِهَادِهِ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَإِصَابَةِ الْعَيْنِ. فَيَجْمَعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَلْيَعْمَلْ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، فَيَجْعَلُونَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادَ وَلَا يَجْعَلُونَ عَلَيْهِ طَلَبَ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ، وَنُسِبَ إلَى أَبِي يُوسُفَ. وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَقِيلَ: فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ طَلَبُ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ، كَقَوْلِنَا، وَفِي بَعْضِهَا يَعْمَلُ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ كَأَبِي يُوسُفَ. وَقَدْ اخْتَلَطَتْ مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي هَذَا حَتَّى الْتَبَسَتْ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عَلَيْهِ طَلَبَ الِاجْتِهَادِ. لَا طَلَبَ الْحَقِّ. بِأَنَّ مَا أَخْفَاهُ اللَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى إظْهَارِهِ. وَفِي إلْزَامِهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ قَوْلَيْنِ: أَنَّهُ

هَلْ الْمُكَلَّفُ بِهِ الِاجْتِهَادُ لَا غَيْرُ، أَوْ كُلِّفَ التَّوَجُّهَ لِلْقِبْلَةِ؟ وَفَائِدَتُهُمَا فِيمَا لَوْ اجْتَهَدَ ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ، هَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا يَجِبُ، وَعَلَى الثَّانِي: يَجِبُ. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ " هُنَاكَ هَذَا الْخِلَافَ أَيْضًا وَقَالَ: إنَّهُ يَجْرِي فِي كُلِّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَفِي قَوْلٍ يُكَلَّفُ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ، وَفِي قَوْلٍ يُكَلَّفُ بَذْلَ الْمَجْهُودِ فِي الِاجْتِهَادِ. . فِي حُكْمِ الِاجْتِهَادِ: لَا يَخْلُو حَالُ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ إمَّا أَنْ تَتَّفِقَ عَلَيْهِ أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْ تَخْتَلِفَ: فَإِنْ اتَّفَقَتْ فَهُوَ إجْمَاعٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمٍ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ: الْأَوَّلُ - الْعَقْلِيُّ: فَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ مِمَّا يَمْنَعُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَسُولَهُ، كَمَا فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ، فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، هُوَ الْمُكَلَّفُ، وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ. فَمَنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ كَافِرٌ. وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَكَمَا فِي وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ اسْمَ (الْكُفْرِ) ، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ فَاسِقٌ، لِعُدُولِهِ عَنْ الْحَقِّ. هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ دِينِيَّةً. أَمَّا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا فِي وُجُوبِ تَرْكِيبِ الْأَجْسَامِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ، وَانْحِصَارِ اللَّفْظِ فِي الْمُفْرَدِ وَالْمُؤَلَّفِ، فَلَا الْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمٌ، وَلَا الْمُصِيبُ مَأْجُورٌ، إذْ يَجْرِي مِثْلُ هَذَا مَجْرَى الْخَطَأِ فِي أَنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ أَكْبَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ أَوْ أَصْغَرَ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأُصُولِ

مُصِيبٌ. وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ الْجَاحِظِ. وَيَلْزَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ الْمُخَالِفِينَ فِي الدِّينِ مُخْطِئًا. وَأَمَّا الْجَاحِظُ فَجَعَلَ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُ الْمُخْطِئَ فِي جَمِيعِهَا غَيْرَ آثِمٍ. أَمَّا رَأْيُ الْعَنْبَرِيِّ فَبَيَّنَ الِاسْتِحَالَةَ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَأَمَّا [رَأْيُ] الْجَاحِظِ فَبَاطِلٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَاتَلَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَكَانَ ابْنُ الْعَنْبَرِيِّ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَفِي نَافِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ، وَقَدْ اُسْتُبْشِعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَصْوِيبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الْكُفَّارِ فِي اجْتِهَادِهِمْ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ، كَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، فَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قُلْت: وَهَذَا أَحَدُ الْمَنْقُولَاتِ عَنْهُ. قَالَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْعَنْبَرِيِّ فَقَالَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ: إنَّمَا أُصَوِّبُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الدِّينِ تَجْمَعُهُمْ الْمِلَّةُ. وَأَمَّا الْكَفَرَةُ فَلَا يُصَوِّبُونَ. وَغَلَا بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُ فَصَوَّبَ الْكَافِرِينَ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ الرَّاكِنِينَ إلَى الْبِدْعَةِ. وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ مَعَهُمَا مُخْتَصَرًا فَنَقُولُ: أَنْتُمَا (أَوَّلًا) مَحْجُوجَانِ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَكُمَا وَبَعْدَكُمَا. و (ثَانِيًا) إذَا أَرَدْتُمَا بِذَلِكَ مُطَابَقَةَ الِاعْتِقَادِ لِلْمُعْتَقِدِ فَقَدْ

خَرَجْتُمَا عَنْ حَيِّزِ الْعُقَلَاءِ وَانْخَرَطْتُمَا فِي سِلْكِ الْأَنْعَامِ. وَإِنْ أَرَدْتُمَا الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ وَنَفْيِ الْحَرَجِ - كَمَا نُقِلَ عَنْ الْجَاحِظِ - فَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ الْحَصْرِ تَرُدُّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ التَّصْوِيبِ بِالْمُجْمِعِينَ عَلَى الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ: مِمَّا خَاضَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَعْظُمُ خَطَرُهُ. وَأَجْمَعُوا قَبْلَ الْعَنْبَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ إدْرَاكُ بُطْلَانِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": لَعَلَّهُ أَرَادَ خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَخَلْقَ الْقُرْآنِ، إذْ الْمُسْلِمُ لَا يُكَلَّفُ الْخَوْضَ فِيهِ، بِخِلَافِ قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ النُّبُوَّاتِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْإِصَابَةِ الْمُحَقَّقَةِ عَلَى هَذَا مُحَالٌ. وَقَالَ إلْكِيَا: ذَهَبَ الْعَنْبَرِيُّ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، فَالْمُخْطِئُ فِيهِ غَيْرُ مَعْذُورٌ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ وَإِثْبَاتِ الْجِهَةِ وَنَفْيِهَا فَالْمُخْطِئُ فِيهِ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَلَوْ كَانَ مُبْطِلًا فِي اعْتِقَادِهِ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَالْتِزَامِ الْمِلَّةِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ مَا كُلِّفُوا إلَّا اعْتِقَادَ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَبْحَثْ الصَّحَابَةُ عَنْ مَعْنَى الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ، عِلْمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ اعْتِقَادَهَا لَا يَجُرُّ حَرَجًا. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلَكِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمُصِيبِ. وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْهُمَا الْجَوَازُ فِي الْأُصُولِ مُطْلَقًا بِمَعْنَى حَطِّ الْإِثْمِ، لَا بِمَعْنَى الْمُطَابَقَةِ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إذْ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَمَا ذَكَرَاهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ عَقْلًا، لَكِنَّهُ مُحَالٌ شَرْعًا، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَخْلِيدِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ آثِمِينَ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ. وَأَمَّا ابْنُ فُورَكٍ فَنُقِلَ عَنْهُ ذَلِكَ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّأْوِيلُ، نَحْوُ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الشِّفَاءِ ": ذَهَبَ الْعَنْبَرِيُّ إلَى تَصْوِيبِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِيمَا كَانَ عُرْضَةً لِلتَّأْوِيلِ وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ مِثْلَهُ عَنْ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَحَكَى قَوْمٌ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ فِيمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْجَاحِظُ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ. وَتَمَامُهُ فِي أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ وَالْبُلْهِ مُقَلِّدَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طِبَاعٌ يُمْكِنُ مَعَهَا الِاسْتِدْلَال، وَقَدْ نَحَا الْغَزَالِيُّ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْمَنْحَى فِي كِتَابِ " التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ " وَقَائِلُ هَذَا كُلِّهِ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَكُلُّ مَنْ فَارَقَ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَوَقَفَ فِي تَكْفِيرِهِمْ أَوْ شَكَّ، لِقِيَامِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِهِمْ. فَمَنْ وَقَفَ فِيهِ فَقَدْ كَذَّبَ النَّصَّ. انْتَهَى. وَمَا نَسَبَهُ لِلْغَزَالِيِّ غَلَطٌ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَرَّحَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ، كَمَا سَبَقَ عَنْهُ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ فِي كِتَابِ " التَّفْرِقَةِ " هُوَ قَوْلُهُ: إنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ مِنْ نَصَارَى الرُّومِ أَوْ التُّرْكِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْوِيبُهُمْ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَعَانَدَ. وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَى هَذَا لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ الْوَاقِفُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَا نُقِلَ عَنْ الْعَنْبَرِيِّ وَالْجَاحِظِ إنْ أَرَادَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَيَّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُتَفَاضِلَانِ لَا يَكُونَانِ حَقَّيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَنْ بَذَلَ الْوُسْعَ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي الْأُصُولِيَّاتِ أَنَّهُ يَكُونُ مَعْذُورًا غَيْرَ مُعَاقَبٍ فَهَذَا أَقْرَبُ وَجْهًا، لِكَوْنِهِ نَظَرِيًّا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُعْقَدُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ عُوقِبَ وَكُلِّفَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِهِ غَايَةَ الْجَهْدِ لَزِمَ تَكْلِيفُهُ لِمَا لَا يُطَاقَ.

وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": يُمْكِنُ أَنْ يُجِيبَ الْعَنْبَرِيُّ عَمَّا رُدَّ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ تَبْيِيتِ الْمُشْتَرَكِينَ وَاغْتِرَارِهِمْ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَانِدِ وَغَيْرِهِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: الْمُكَلَّفُ مِنْهُ مَعَ إمْكَانِ النَّظَرِ بَيْنَ مُعَانِدٍ وَمُقَصِّرٍ، وَأَنَا أَقُولُ بِهَلَاكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. هَذَا إنْ كَانَ مَا قَالَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا الَّذِي حُكِيَ عَنْهُ مِنْ الْإِصَابَةِ فِي الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ فَبَاطِلٌ قَطْعًا، وَلَعَلَّهُ لَا يَقُولُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُخْطِئُ فِي الْأُصُولِ وَالْمُجَسِّمَةِ: فَلَا شَكَّ فِي تَأْثِيمِهِ وَتَفْسِيقِهِ وَتَضْلِيلِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَكْفِيرِهِ. وَلِلْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمَا: وَأَظْهَرُ مَذْهَبَيْهِ تَرْكُ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ " إكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ ": وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ عِنْد مَوْتِهِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفَاتِ. وَقَالَ: اخْطَفْنَا فِي عِبَارَةٍ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ. وَالْخِلَافُ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ: لَا يُكَفِّرُ، قِيلَ لَهُ: أَلَا تُكَفِّرُ مَنْ يُكَفِّرُك؟ فَعَادَ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهُمْ يُكَفِّرُونَ خُصُومَهُمْ وَيُكَفِّرُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ الْآخَرَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمُعْظَمُ الْأَصْحَابِ عَلَى تَرْكِ التَّكْفِيرِ. وَقَالُوا: إنَّمَا نُكَفِّرُ مَنْ جَهِلَ وُجُودَ الرَّبِّ، أَوْ عَلِمَ وُجُودَهُ وَلَكِنْ فَعَلَ فِعْلًا، أَوْ قَالَ قَوْلًا، أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ كَافِرٍ. وَمَنْ قَالَ بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَصْحَابَهُ فِي نَفْيِ الْبَقَاءِ أَيْضًا، كَمَا يُكَفَّرُ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. قُلْت: وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَكْفِيرَ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، لَكِنَّ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ تَأَوَّلُوهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ. . الثَّانِي - مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ: كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَكَوْنِ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً، وَكَالْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فِي الْإِجْمَاعِ، وَفِي الْحَاصِلِ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَمِنْهُ اعْتِقَادُ كَوْنِ الْمُصِيبِ وَاحِدًا فِي الظَّنِّيَّاتِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ:

الأحكام الشرعية هل الحق فيها واحد أو متعدد

فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَأَدِلَّتُهَا قَطْعِيَّةٌ، وَالْمُخَالِفُ فِيهَا آثِمٌ مُخْطِئٌ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " شَرْحِ الْعُمَدِ ": لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَا يَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٌ مُصِيبًا، بَلْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ الْفِقْهِ فِي الْأَمْرَيْنِ، قَالَ: وَالْمُخْطِئُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يَلْحَقُ بِأُصُولِ الدِّينِ. كَذَا قَالَ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَقَدْ خَالَفَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي مَسَائِلَ ضَعِيفَةِ الْمَدَارِكِ، كَالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى الْحُرُوبِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَنْبَغِي تَأْثِيمُهُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً، كَمَا أَنَّا فِي أُصُولِ الدِّينِ لَا نُؤَثِّمُ مَنْ يَقُولُ: الْعَرْضُ يَبْقَى زَمَانَيْنِ أَوْ بِنَفْيِ الْخَلَا وَإِثْبَاتِ الْمَلَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. . [الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّد] الثَّالِثُ - مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ: فَقَالَ الْأَصَمُّ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ: إنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ وَأَنَّ أَدِلَّتَهَا قَاطِعَةٌ، فَلِذَلِكَ مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ فِيهَا فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ، فَكَيْفَ بِمَسَائِلِ الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْمَذْهَبُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ حُجَّةً، وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْعُمُومَاتُ كُلُّهَا، فَالْحُجَجُ الْمُثْبِتَةُ لِكَوْنِ هَذِهِ حُجَّةً يَلْزَمُهَا بُطْلَانُ هَذَا الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأُمَّةِ فَقَدْ قَالُوا: إنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْهَا مَا لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَاَلَّتِي لَا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ وَهِيَ الَّتِي أَدِلَّتُهَا قَاطِعَةٌ فِيهَا، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا مِنْ دِينِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالْخَمْرِ، وَالْمُخْطِئُ فِي هَذَا كَافِرٌ لِتَكْذِيبِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ. وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَجَوَازِ بَيْعِ الْحَصَا، وَتَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمُخْطِئُ فِي هَذِهِ آثِمٌ غَيْرُ كَافِرٍ.

وَأَمَّا الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فَهِيَ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا، كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَنَفْيِ وُجُوبِ الْوِتْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا عُدِمَتْ فِيهَا النُّصُوصُ فِي الْفُرُوعِ، وَغَمُضَتْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ وَيُرْجَعُ فِيهَا إلَى الِاجْتِهَادِ، فَلَيْسَ بِآثِمٍ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ عِوَضِهَا امْتِحَانًا مِنْ اللَّهِ لِعِبَادِهِ، لِيَتَفَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي دَرَجَاتِ الْعِلْمِ وَمَرَاتِبِ الْكَرَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] . وَعَلَى هَذَا يَتَأَوَّلُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» فَعَلَى هَذَا النَّوْعِ يُحْمَلُ هَذَا لِلَّفْظِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا وَالْمُرَادُ خَاصًّا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ، هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ؟ وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ فِي ذَلِكَ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِمْ فَنَقُولُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِهَا، وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّ جَوَازَ الْجَمِيعِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْجَمِيعِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ بِخُرَاسَانَ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ مَنْ أَدَّى اجْتِهَادَهُ إلَى حُكْمٍ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ مُخَالَفَتُهُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَنَا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَعَيَّنٌ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ حَلَالًا حَرَامًا، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ تَنَاظَرُوا فِي الْمَسَائِلِ وَاحْتَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِهِ، وَخَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطْلُبُ إصَابَةَ الْحَقِّ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ مُخْطِئٌ إلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ، فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَخْطَأَهُ. وَنَسَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى الشَّافِعِيِّ، تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ: " وَأَدَّى مَا كُلِّفَ ". فَظَنَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ " أَصَابَ "، وَغَلَّطُوهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: الْحَقُّ مِنْ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ، وَالْآخَرُ بَاطِلٌ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَأَكْثَرَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي " الشَّرْحِ " فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ: هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ، لَا أَعْلَمُ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَإِنَّمَا نَسَبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِمَذْهَبِهِ إلَيْهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَادُّعُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ فِي الْمُجْتَهِدِ: " أَدَّى مَا كُلِّفَ " فَقَالُوا: الْمُؤَدِّي مَا كُلِّفَ مُصِيبٌ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ رَفْعَ الْإِثْمِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ خِلَافَ الْحَقِّ لَأَثِمَ، وَإِذَا خَالَفَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَكُنْ آثِمًا، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَدِّي مَا كُلِّفَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَدَّى مَا كُلِّفَ عِنْدَ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ وَضْعَ الدَّلِيلِ فِي حَقِّهِ، وَسَلَكَ مَا وَجَبَ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ رَأَيْت فِيهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فَاقْرَأْ الْبَابَ فَإِنَّك تَجِدُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَأَنَّ مَا عَدَاهُ خَطَأٌ. ثُمَّ غَلَّطَ أَبُو إِسْحَاقَ الْقَوْلَ عَلَى مَنْ نَسَبَ إلَى الشَّافِعِيِّ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ: إذَا اجْتَهَدَ اثْنَانِ فِي الْقِبْلَةِ فَأَدَّى اجْتِهَادُهُمَا إلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَتَوَجَّهَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جِهَتِهِ، وَلَوْ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخْطِئٌ عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَى خَلَفَ مَنْ لَا يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَلَهُ نَظَائِرُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ قَوْلَيْنِ فِيمَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ بِيَقِينٍ، هَلْ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ أَمْ لَا؟ وَالْأَصَحُّ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَمَنْ يَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يَقُولُ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ: لَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ فَبَانَ غَنِيًّا، تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؟ قَوْلَانِ: قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ صَاحِبُ " الْإِيضَاحِ " فِي " أُصُولِهِ " إنَّ اللَّهَ نَصَّبَ عَلَى الْحَقِّ عَلَمًا، وَجَعَلَ لَهُمْ إلَيْهِ طَرِيقًا فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ عُذِرَ بِخَطَئِهِ وَأُجِرَ عَلَى قَصْدِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْلَةُ أَصْحَابِهِ. وَقَدْ اسْتَقْصَى الْمُزَنِيّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " التَّرْغِيبِ فِي الْعِلْمِ " وَقَطَعَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ وَدَلَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَهُوَ مَذْهَبُ كُلِّ مَنْ صَنَّفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ. وَابْنُ فَوْرَك وَأَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَقَالَ: نُقِضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْبَصْرِيِّ الْمَعْرُوفِ بِجُعَلٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ أَبَانَ.

الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ "، وَلَكِنَّهُ مَالَ إلَى اخْتِيَارِ: " كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ " وَهَذَا مَذْهَبُ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَهُمْ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَقَالُوا هَذَا لِجَهْلِهِمْ بِمَعَانِي الْفِقْهِ وَطُرُقِهِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، الْفَاصِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَدَاهُ مِنْ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، وَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا طَرِيقٌ أَوْلَى مِنْ طَرِيقٍ، وَلَا أَمَارَةَ أَقْوَى مِنْ أُخْرَى، وَالْجَمِيعُ مُتَكَافِئُونَ. وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ حَكَمَ بِهِ، فَيَحْكُمُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَهُ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَبَسَطُوا لِذَلِكَ أَلْسِنَةَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ فِي طَلَبٍ يُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ أَوْ إلَى الظَّنِّ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عِلْمًا وظَنًّا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْنَا إصَابَتَهُ، وَإِنَّمَا كَلَّفَ الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِهِ، وَكُلُّ مَنْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي أُصُولِهِ ": قَدْ أَضَافَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِنَا هَذَا إلَى الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: " لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ ": قَالَ: وَهُوَ خَطَأٌ عَلَى أَصْلِهِ، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا مُخْطِئٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَنُقِلَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، كَقَوْلِنَا. وَفِي بَعْضِهَا كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَلَنَا أَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ فِي وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ الْمُصِيبُ إلَّا وَاحِدًا. وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا مَا أَخْطَأَ مُجْتَهِدٌ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: صَارَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَالْمُخْطِئُ لَهُ مَعْذُورٌ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو حَامِدٍ. إلَّا أَنَّهُ كُلِّفَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. ثُمَّ نَصَّ ابْنُ كَجٍّ عَلَى هَذَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَصْوِيبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى خَطَأٍ. ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ مَعْذُورٌ.

وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ: لِلنَّاسِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا - أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ، فَمَنْ وَضَعَ النَّظَرَ مَوْضِعَهُ أَصَابَ الْحَقَّ، وَمَنْ قَصَرَ عَنْهُ وَفَقَدَ الصَّوَابَ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَلَا إثْمَ، وَلَا نَقُولُ؛ إنَّهُ مَعْذُورٌ، لِأَنَّ الْمَعْذُورَ مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ لَا عُذْرَ فِي تَرْكِهِ، كَالْعَاجِزِ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ. وَهُوَ عِنْدَنَا قَدْ كُلِّفَ إصَابَةَ الْعَيْنِ لَكِنَّهُ خَفَّفَ أَمْرَ خَطَئِهِ وَأُجِرَ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ، وَحُكْمُهُ نَافِذٌ عَلَى الظَّاهِرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي كِتَابِ " الرِّسَالَةِ " وَ " أَدَبِ الْقَاضِي ". وَقَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدَيْنِ اخْتَلَفَا فَالْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ قَوْلَيْهِمَا. وَالثَّانِي - أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَيْنِ لَمْ يُكَلَّفُوا إصَابَتَهُ، وَكُلُّهُمْ مُصِيبُونَ لِمَا كُلِّفُوا مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُخْطِئًا. وَالثَّالِثُ - أَنَّهُمَا كُلِّفُوا الرَّدَّ إلَى الْأَشْبَهِ عَلَى طَرِيقِ الظَّنِّ. انْتَهَى. فَحَصَلَ وَجْهَانِ فِي أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ مَعْذُورٌ أَمْ لَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَقِيلَ: الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ، وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ، إلَّا أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عَنْ الْمُخْطِئِ، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ هَذَا أَحَدُهُمَا. وَالثَّانِي: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِأَخَرَةٍ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مَقْطُوعٍ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّ مُخْطِئَهُ مَأْثُومٌ، وَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ مَنْقُوضٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ فِي أَنَّهُ هَلْ الْكُلُّ

مُصِيبٌ فِي اجْتِهَادِهِ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: الْمُخْطِئُ فِي الْحُكْمِ مُخْطِئٌ فِي الِاجْتِهَادِ. وَقِيلَ: الْكُلُّ مُصِيبٌ فِي الِاجْتِهَادِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْحُكْمِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إنَّ عِنْدَ اللَّهِ شَبَهًا رُبَّمَا أَصَابَهُ الْمُجْتَهِدُ وَرُبَّمَا أَخْطَأَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. وَالْقَائِلُونَ بِالْأَشْبَهِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ، فَقِيلَ: تَفْسِيرُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنَّهُ أَشْبَهَ. وَقِيلَ: الشَّبَهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ قُوَّةُ الشُّبْهَةِ، فَهُوَ الْأَمَارَةُ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ يَجِبُ طَلَبُهُ. وَقِيلَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ عِنْدَهُ فِي الْحَادِثَةِ حُكْمُ لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ وَبَيَّنَهُ لَمْ يَنُصَّ إلَّا عَلَيْهِ. وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا هُوَ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَأَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عَنْ الْمُخْطِئِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ يَقُولَانِ: إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ، وَإِنَّمَا يَظُنُّ ذَلِكَ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ إلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يُنَصِّبُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا [إمَّا] غَامِضًا وَإِمَّا جَلِيًّا. وَكُلِّفَ الْمُجْتَهِدُ طَلَبَهُ وَإِصَابَتَهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَصَابَهُ كَانَ مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ، وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَأَجْرٌ عَلَى إصَابَتِهِ. وَإِنْ أَخْطَأَهُ كَانَ مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ، إلَّا أَنَّ لَهُ أَجْرًا عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَالْخَطَأُ مَرْفُوعٌ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ الْمَرِيسِيِّ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَالْأَصَمُّ وَزَادُوا فَقَالُوا: عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، ثُمَّ أَخْطَأَهُ، كَانَ آثِمًا مُضَلِّلًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ " إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ ": إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْ الْمُجْتَهِدَ إصَابَتَهُ وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ طَلَبَهُ، فَإِنْ أَصَابَهُ كَانَ مُصِيبًا، وَإِنْ أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ، لَا فِي الْحُكْمِ.

وَحُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ. وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَسْرِهَا إلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حُكْمٌ مَطْلُوبٌ عَلَى الْيَقِينِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَيَكُونُ مُصِيبًا. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ. وَمَعْنَى الْأَشْبَهِ أَنَّ اللَّهَ لَوْ أَنْزَلَ حُكْمًا فِي الْحَادِثَةِ لَكَانَ هُوَ فَيَجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ الْأَشْبَهِ. وَحَكَى ابْنُ فُورَكٍ عَنْهُمْ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّ اللَّهَ نَصَّبَ عَلَى الْحُكْمَيْنِ مَعًا دَلِيلًا، إلَّا أَنَّ الْأَدِلَّةَ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَغَمُضَتْ تَحَيَّرَ. وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ [إلَى] أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ، فَإِنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ كَانَ مُخْطِئًا لِلْمَطْلُوبِ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ، كَالْقَوْلِ الثَّانِي لِلْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ فَاَلَّذِي حَكَاهُ عَنْهُمْ الْخُرَاسَانِيُّونَ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ فُورَكٍ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَأَنَّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ طَلَبَهُ بِالدَّلِيلِ. فَإِنْ أَخْطَأَهُ كَانَ مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ، لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَوَّلِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّ لِأَبِي الْحُسَيْنِ فِيهَا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ حُكْمٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَأَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِيهَا، وَاخْتَارَ هَذَا وَنَصَرَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ، وَلَا دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ مِثْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلْمُعْتَزِلَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ: - فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ، وَاَلَّذِي يُؤَدِّي إلَى غَيْرِهِ شُبْهَةٌ وَلَيْسَ بِالدَّلِيلِ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْمُجْتَهِدِينَ إصَابَةَ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ الَّذِي نَصَّبَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ كَانَ مَعْذُورًا عَلَى خَطَئِهِ مُثَابًا عَلَى قَصْدِهِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ

الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيُّ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، إلَّا أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فِيهَا مَسَائِلُ نَقَضُوا فِيهَا الْحُكْمَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، كَالْحُكْمِ بِالنُّكُولِ وَسَائِرِ مَا حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَأَوْجَبُوا الْحَدَّ عَلَى وَاطِئِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَإِنْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ فِي ذَلِكَ. وَأَوْجَبُوا إعَادَةَ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ تَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ أَوْ تَرَكَ النِّيَّةَ أَوْ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ، وَإِعَادَةَ الصَّوْمِ عَلَى مَنْ تَرَكَ نِيَّتَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ، أَوْ نَوَى فِي فَرْضِهِ التَّطَوُّعَ، وَكَذَلِكَ نَقَضُوا الْحُكْمَ عَلَى مَنْ حَكَمَ بِخِلَافِ خَبَرِ الْمُصَرَّاةِ، وَخَبَرِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، وَالْعَرَايَا، وَالْفَلَسِ. وَكَانَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ يَنْقُضَانِ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ حَكَمَ بِصِحَّةِ نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شَهَادَةَ، أَوْ شَهَادَةَ فَاسِقَيْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ قَبْلَ قَوْلِ الْمُزَنِيّ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ فِعْلَ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُزَنِيّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ صَلَّى إلَى بَعْضِ الْجِهَاتِ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ عَلِمَ خَطَأَهُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ عِنْدَهُمَا إصَابَةَ عَيْنِ الْقِبْلَةِ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ الصَّلَاةَ بِالِاجْتِهَادِ. انْتَهَى. وَاَلَّذِي رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ " فَسَادِ التَّقْلِيدِ " لِلْمُزَنِيِّ تَرْجِيحَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَطَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ إنْكَارُ الصَّحَابَةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْفَتَاوَى، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ لِمُخَالِفِهِ: قَدْ أَصَبْت فِيمَا خَالَفْتَنِي فِيهِ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ، وَيُرْوَى عَنْ السَّمْتِيِّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ، وَالْإِثْمُ فِيهِ مَرْفُوعٌ، قَالَ: وَجَاءَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَ خَصْمَيْنِ فِي طَسْتٍ ثُمَّ غَرِمَهُ لِلْمُقْضَى عَلَيْهِ. قَالَ الْمُزَنِيّ: فَلَوْ كَانَ يَقْطَعُ بِأَنَّ الَّذِي قَضَى بِهِ هُوَ الْحَقُّ لَمَا تَأَثَّمَ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا غَرِمَ لِلظَّالِمِ ثَمَنَ طَسْتٍ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَنَّهُ ظَالِمٌ بِمَنْعِهِ إيَّاهُ مِنْ صَاحِبِهِ، قَالَ: وَلَكِنَّهُ عِنْدِي

خَافَ أَنْ يَكُونَ قَضَى عَلَيْهِ بِمَا أَغْفَلَ مِنْهُ وَظَلَمَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، فَتَوَرَّعَ فَاسْتَحَلَّ ذَلِكَ مِنْهُ وَغَرِمَهُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ غَرِمَهُ لَهُ وَهُوَ يَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا طَلَبُ الثَّوَابِ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ إعْطَاءَهُ لِمُحْتَاجٍ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، وَصَارَ الْقَاضِي وَأَبُو الْحُسَيْنِ فِي طَبَقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُصِيبٌ، وَالْغُلَاةُ مِنْهُمْ أَثْبَتُوا أَوْ نَفَوْا مَطْلُوبًا مُعَيَّنًا. وَعَزَا الْقَاضِي مَذْهَبَهُ لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ: لَوْلَاهُ لَكُنْت لَا أَعُدُّهُ مِنْ أَحْزَابِ الْأُصُولِيِّينَ. ثُمَّ قَالَ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي عَمَلِهِ قَطْعًا. وَقَالَ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وَهُوَ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ وَيُخْطِئُ الْمُخَالِفُ فِيهِ، أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي الظَّنِّيَّاتِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ إلْكِيَا: انْقَسَمُوا عَلَى قِسْمَيْنِ: غُلَاةٌ وَمُقْتَصِدَةٌ. فَالْغُلَاةُ افْتَرَقُوا مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْهَا أَنْ يَأْخُذَ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَدْرَكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالِاجْتِهَادِ، وَيَأْخُذُ بِمَا يَشَاءُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذَا الْمَذْهَبُ أَوَّلُهُ سَفْسَطَةٌ وَآخِرُهُ زَنْدَقَةٌ، أَمَّا السَّفْسَطَةُ فَلِكَوْنِهِ حَلَالًا حَرَامًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الزَّنْدَقَةُ فَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْإِبَاحَةِ. و (الثَّانِي) ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمَطَالِبَ مُتَعَدِّدَةٌ. فَلَا بُدَّ مِنْ أَصْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ.

وَأَمَّا الْمُقْتَصِدَةُ فَقَالُوا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي عَمَلِهِ قَطْعًا، وَلَا يُقْطَعُ بِإِصَابَةِ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَادَّعُوا أَنَّ فِي الْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ حُكْمًا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَهُوَ شَوْقُ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَطْلُوبُ الْبَاحِثِينَ، وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَ إصَابَتِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَالْمُجْتَهِدُ مُقَصِّرٌ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَمَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَصِرْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ مُخْطِئٌ فِيهِ، وَيَخْتَلِفُ خَطَؤُهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ، فَقَدْ يَكُونُ كَبِيرَةً، وَقَدْ يَكُونُ صَغِيرَةً. وَهَذَا مَذْهَبُ الْغُلَاةِ، وَمِنْهُمْ الْأَصَمُّ وَالْمَرِيسِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاسْتِدْلَال. وَقِيلَ: فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ، إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ لِدِقَّتِهِ وَغُمُوضِ طَرِيقِهِ فَهُوَ مَعْذُورٌ آثِمٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَنَفَرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَحُكِيَ. عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفُرُوعِ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى طَرِيقُ إثْبَاتِهَا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَالْقِيَاسُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِيهَا وَاحِدٌ، وَالْفُرُوعُ الَّتِي تَتَجَاذَبُهَا أُصُولٌ كَثِيرَةٌ وَيُسَمَّى طَرِيقُ إثْبَاتِهَا قِيَاسُ عِلِّيَّةِ الْأَشْبَاهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٌ فِيهَا مُصِيبٌ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ الْمُحَصِّلُونَ. وَقَالَ فِي بَعْضِ مَجْمُوعَاتِهِ فِي جَوَابٍ سُئِلَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُثَابَ عَنْهُ، لِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ فِيمَا لَا يَسُوغُ، وَلَا فِي الْخَطَأِ الْمَوْضُوعِ.

ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ خَطَأً قُصَارَى أَمْرِهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، فَكَيْفَ يَطْمَعُ فِي الثَّوَابِ عَلَى خَطَأٍ لَمْ يَصْنَعْهُ. وَقَدْ تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ فِي كُتُبِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا حَكَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُخَالِفِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ الْأَشْبَهَ، وَاَلَّذِي هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَنَّهُ كُلِّفَ إصَابَتَهُ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مَعْذُورًا إنْ كَانَ خَطَؤُهُ صَغِيرًا. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاتِّحَادِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَقِيلَ: يُمْنَعُ مِنْ وُرُودِ التَّعَبُّدِ فِي الْفُرُوعِ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ وَقِيلَ: السَّمْعُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِهِ وَاحِدٌ. وَذَهَبَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَنَّ الْمَطَالِبَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي، أَيْ أَنَّ الْمُصَوِّبَةَ انْقَسَمُوا إلَى غُلَاةٍ وَمُقْتَصِدَةٍ. وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَالَهُ إلْكِيَا. وَقَالَ فِي " الْقَوَاطِعِ ": ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ، وَالْبَاقُونَ مُخْطِئُونَ، غَيْرَ أَنَّهُ خَطَأٌ يُعْذَرُ فِيهِ الْمُخْطِئُ وَلَا يُؤَثَّمُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُهُ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ قَوْلٌ سِوَاهُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) مَا قُلْنَاهُ، وَ (الْآخَرُ) أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلُوهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيُّ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَمُخَالِفُهُ خَطَأٌ وَصَاحِبُهُ مَأْثُومٌ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي أُصُولِهِ ": قَالَ فَرِيقٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْحَوَادِثِ الَّتِي يَجُوزُ الْفَتْوَى فِي أَحْكَامِهَا بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ حُقُوقٌ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ بِعَيْنِهِ. ثُمَّ إنَّهُمْ افْتَرَقُوا، فَقَالَ

قَوْمٌ: الْجَمِيعُ حَقٌّ عَلَى التَّسَاوِي. وَقَالَ قَوْمٌ: الْوَاحِدُ مِنْ الْجَمَاعَةِ أَحَقُّ، وَسَمُّوهُ (تَقْوِيمَ ذَاتِ الِاجْتِهَادِ) وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ: وَالْكَلَامُ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ ثُمَّ افْتَرَقُوا فَقَالَ قَوْمٌ: إذَا لَمْ يُصِبْ الْمُجْتَهِدُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، حَتَّى أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبًا فِي حَقِّ عَمَلِهِ حَتَّى لَوْ عَمِلَهُ يَقَعُ بِهِ صَحِيحًا شَرْعًا. كَأَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِيُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ: كُلٌّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي أَخْطَأَ مَا عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُصِيبٌ فِي حَقِّ عَمَلِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الطُّرُقِ: إذَا تَلَاعَنَ الزَّوْجَانِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ. فَجَعَلَ قَضَاءَهُ فِي حَقِّهِ صَوَابًا مَعَ قَوْلِهِ إنَّهُ مُخْطِئُ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَهَذَا قَوْلُ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالنَّقْصِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ مُخْطِئًا فِي حُكْمِهِ، قَالُوا: وَمَا كُلِّفَ الْإِنْسَانُ إصَابَةَ الْأَشْبَهِ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا نَصًّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَحُكِيَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَالنَّاسُ بِطَلَبِهِ مُكَلَّفُونَ إصَابَتَهُ، فَإِذَا اجْتَهَدُوا وَأَصَابُوا حُمِدُوا وَأُجِرُوا. وَإِنْ أَخْطَئُوا عُذِرُوا وَلَمْ يَأْثَمُوا. إلَّا أَنْ يُقَصِّرُوا فِي أَسْبَابِ الطَّلَبِ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْحَقُّ، وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ. ثُمَّ يَقُولُ: إنَّهُ مَأْجُورٌ فِي الطَّلَبِ إذَا لَمْ يُقَصِّرْ وَإِنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ، وَمَعْذُورٌ عَلَى خَطَئِهِ وَعَدَمِ إصَابَتِهِ لِلْحَقِّ. وَقَدْ يُوجَدُ لِلشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ وَمُنَاظَرَاتِهِ مَعَ خُصُومِهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اجْتَهَدَ فَقَدْ أَصَابَ. وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَصَابَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ بَلَغَ عِنْدَ نَفْسِهِ مَبْلَغَ الصَّوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصَابَ عَيْنَ الْحَقِّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إلَّا مَا قُلْنَاهُ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا

فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَقَالَ مَا قَالَ عَنْ شَهَوَاتِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ ": الْمُخْتَارُ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمْ يُصِيبُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْبَاقُونَ يُصِيبُونَ الْحَقَّ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ. وَحَكَى ابْنُ فُورَكٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ عِنْدِي. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ خِلَافٍ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ أَنَّ كُلًّا مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ " عِنْدِي " وَلِذَلِكَ يَقُولُ: إنَّ الْمُخَالِفَ لَهُ مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ عِنْدَهُ، فَهَذَا كَلَامٌ لَا حَاصِلَ لَهُ. قُلْت: وَالْحَاصِلُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذْهَبِنَا ثَلَاثُهُ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهِيَ الْأَشْهَرُ: إثْبَاتُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ الَّتِي حَكَاهَا أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصَحُّهُمَا - وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ - أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابَيْهِمَا: إنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي " كِتَابِ الْقَضَاءِ " وَفِي " الرِّسَالَةِ ": وَكُلُّ مُجْتَهِدَيْنِ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ فَالْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِهِمَا. قَالَا: هَذَا هُوَ مَذْهَبُهُ وَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَشْيَاءَ أَطْلَقَهَا وَكَانَ مُرَادُهُ فِيهَا مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَا حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ بِخُرَاسَانَ عَنْهُ وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَنِسْبَةُ هَذَا إلَى الْأَشْعَرِيِّ أَشْهَرُ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَغَيْرُ الْحَقِّ لَا يُؤْمَرُ بِالْعَمَلِ بِهِ. وَعَلَى هَذَا فَهَلْ يَقُولُ: الْحُكْمُ وَالْحَقُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، أَوْ يَقُولُ: الْحَقُّ وَاحِدٌ وَهُوَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ، إلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ لِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْغَزَالِيُّ وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ

الْمَقْصُودُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا وَاحَدَا، وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْمَأْمُورِ غَيْرُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَبَقَ عَبْدُهُ فَقَالَ لِعَبِيدِهِ: اُطْلُبُوهُ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْأَمْرِ وُجُودُ الْآبِقِ، وَمِنْ الْعَبِيدِ طَلَبُهُ فَحَسْبُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوهُ فَمَا ذَمَّهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَتَوَانَوْا فِيهِ فَكَذَا هُنَا. - وَبِالثَّانِي أَجَابَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ وَحَكَوْا عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ، وَزَعَمَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَفِي " كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ " وَفِي " رِسَالَةِ الْمَصْرِيِّينَ " مُحْتَمَلٌ، وَأَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ كَلَامِهِ وَالْأَشْبَهَ بِمَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ أَمْثَالِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. وَتَابَعَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ: لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّخْصِيصِ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ النَّقَلَةُ عَنْهُ فِي اسْتِنْبَاطِهِمْ مِنْ كَلَامِهِ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ نُصُوصُهُ فِي " الرِّسَالَةِ " وَغَيْرِهَا طَافِحَةٌ بِهِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي - الْقَطْعُ بِالْأَوَّلِ، وَيُحْكَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الرَّازِيَّ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ. وَالثَّالِثُ - التَّفْصِيلُ بَيْنَ قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ إلْكِيَا فِي النَّقْلِ عَنْ الشَّافِعِيِّ كَمَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ نَقَلَهَا عَنْهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " قَالَ: زَلَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَظَنُّوا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ كَانَ يَسُوغُ لَهُ مُخَالَفَةُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَلِهَذَا قَالَ: مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مَقِيسٌ عَلَيْهِ إلَّا وَاحِدٌ فَالْحَقُّ فِيهِ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا مَا تَجَاذَبَهُ أَصْلَانِ فَأَكْثَرُ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهِ مُصِيبُ. قُلْت: وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. .

تفريع على أن الحق واحد أو متعدد

[تَفْرِيعُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ] التَّفْرِيعُ إذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ فُرُوعٌ: (مِنْهَا) : أَنَّهُ هَلْ يَقْطَعُ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ وَخَطَأِ الْمُخَالِفِ، أَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهِ؟ وَجْهَانِ: " أَصَحُّهُمَا "، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، اعْلَمْ إصَابَتَنَا لِلْحَقِّ وَاقْطَعْ بِخَطَأِ مَنْ خَالَفَنَا وَمَنْعِهِ مِنْ الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ، غَيْرَ أَنِّي لَا أُؤَثِّمُهُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَسَائِلَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يُقْطَعُ فِيهِ بِالْإِصَابَةِ، وَإِلَى مَا لَا يَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ، بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَصَرُّفُ أَصْحَابِنَا فِي نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ. وَ (مِنْهَا) : أَنَّ الْمُخْطِئَ هَلْ يُقَالُ: إنَّهُ مَعْذُورٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) - وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ -: نَعَمْ وَ (الثَّانِي) وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ فُورَكٍ: لَا. وَ (مِنْهَا) اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا هُوَ مَقْصِدُ الطَّالِبِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ نَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ دَفِينٍ يُعْثَرُ [عَلَيْهِ] ، فَمَنْ عَثَرَ عَلَيْهِ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ نَصَّبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا الدَّلِيلُ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ، فَحَكَى الْقَاضِي عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ: أَنَّهُ قَطْعِيٌّ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيِّ وَجَمِيعِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، إلْحَاقًا لِلْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ بِأَنَّهُ: هَلْ دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ أَوْ الْعَقْلُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مُخْطِئِ هَذَا الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ هَلْ هُوَ مَأْثُومٌ مَحْطُوطٌ

عَنْهُ؟ فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِأُخَرَةٍ: إنَّ مُخْطِئَهُ مَأْثُومٌ، وَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ مَنْقُوضٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، لِأَنَّهُ خَالَفَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا. وَقِيلَ: بَلْ الْإِثْمُ مَحْطُوطٌ عَنْهُ. وَحَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ عَنْ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ. وَذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ ظَنِّيٌّ، وَأَنَّ الْإِثْمَ مَوْضُوعٌ عَنْ مُخْطِئِهِ وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ كُلِّفَ طَلَبَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهَلْ كُلِّفَ إصَابَتَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ - أَوْ وَجْهَانِ -: (أَحَدُهُمَا) : نَعَمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَيُحْكَى عَنْ الْمُزَنِيّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَنَسَبَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ إلَى الشَّافِعِيِّ، فَعَلَى هَذَا إنْ أَصَابَهُ الْمُجْتَهِدُ كَانَ مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ كَانَ الْإِثْمُ مَرْفُوعًا عَنْهُ، وَلَهُ أَجْرٌ بِقَصْدِهِ الْحَقَّ. وَ (الثَّانِي) : وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَنُسِبَ إلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْ الْمُجْتَهِدَ إصَابَتَهُ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِهِ، فَكُلُّ مَنْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ. وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ، هَلْ الْحَقُّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَوْ نَقُولُ: الْحَقُّ وَاحِدٌ وَهُوَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَلَّفٌ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، لِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِيهِ وَجْهَانِ: اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ مِنْهُمَا الْأَوَّلُ. وَبِالثَّانِي أَجَابَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، وَحَكَوْهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَالدَّارَكِيِّ. انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ هَلْ يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ حُكْمًا مَطْلُوبًا هُوَ أَشْبَهُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي غَالِبِ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، فَلِهَذَا قِيلَ: هُنَاكَ أَشْبَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ، فَقِيلَ: هُوَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ. وَقِيلَ: هُوَ قُوَّةُ الشَّبَهِ لِقُوَّةِ الْأَمَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: هُوَ مَا لَوْ وَرَدَ بِهِ نَصٌّ لِطَابَقِهِ. قَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": وَهَذَا حُكْمٌ عَلَى الْغَيْبِ. وَقِيلَ: لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ،

وَالْجَمِيعُ وَاحِدٌ إلَّا مَا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ الْأَوْلَى أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ اخْتَلَفُوا: هَلْ نَصَّبَ اللَّهُ تَعَالَى أَدِلَّةً مُخْتَلِفَةً يُؤَدِّي اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى دَلِيلٍ مَنْصُوبٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) نَعَمْ، كَالتَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيُّهَا فَعَلَ أَجْزَأَهُ، فَكَذَا أَيْ الْأَدِلَّةُ صَارَ إلَيْهِ وَأَخَذَ بِهِ كَانَ حَقًّا. وَ (الثَّانِي) أَنَّهُ لَمْ يُنَصِّبْ عَلَيْهَا دَلَالَةً، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ، لِأَنَّهُ الْمُتَعَبَّدُ بِهِ. . تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّفِيَّ الْهِنْدِيَّ قَدْ حَرَّرَ الْمَذَاهِبَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَحْرِيرًا جَيِّدًا فَقَالَ: الْوَاقِعَةُ الَّتِي وَقَعَتْ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا نَصٌّ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَجْتَهِدَ الْمُجْتَهِدُ أَمْ لَا. وَالثَّانِي عَلَى قِسْمَيْنِ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَصِّرَ فِي طَلَبِهِ أَوْ لَا يُقَصِّرَ. وَإِنْ وَجَدَهُ فَحَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِوَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ وِفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْعِلْمِ وَلَكِنْ قُدِّرَ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ بَلْ بَالَغَ فِي الِاسْتِكْشَافِ وَالْبَحْثِ وَلَمْ يَعْثُرْ عَلَى وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا إذَا لَمْ يَجِدْهُ مَعَ الطَّلَبِ الشَّدِيدِ، وَسَيَأْتِي. وَإِنْ لَمْ نَجِدْهُ فَإِنْ كَانَ لِتَقْصِيرٍ فِي الطَّلَبِ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَآثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ بِأَنْ بَالَغَ فِي التَّنْقِيبِ عَنْهُ وَأَفْرَغَ الْوُسْعَ فِي طَلَبِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْهُ. فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الرَّاوِي الَّذِي عِنْدَهُ النَّصُّ، أَوْ عَرَفَهُ وَلَكِنْ مَاتَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ قَطْعًا، وَهَلْ هُوَ مُخْطِئٌ أَمْ مُصِيبٌ؟ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِيمَا

لَا نَصَّ فِيهِ، وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا. وَأَمَّا الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: لِلَّهِ فِيهَا قَبْلَ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ لَا، بَلْ حُكْمُهُ تَابِعٌ لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ. فَهَذَا الثَّانِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ، كَأَبِي الْهُذَيْلِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا خِلَافُهُ. وَهَذَا فِي أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فَهَلْ وُجِدَ فِيهَا مَا لَوْ حَكَمَ اللَّهُ فِيهَا بِحُكْمٍ لَمَا حَكَمَ إلَّا بِهِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ؟ وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمِصْرِيِّينَ وَإِلَيْهِ صَارَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَابْنُ سُرَيْجٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. قَالَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": ذَهَبَ بَعْضُهُمْ فِي الْأَشْبَهِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا بَلْ هُوَ أَوْلَى طُرُقِ الشَّبَهِ فِي الْمَقَايِيسِ وَالْعِبَرِ، وَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِإِلْحَاقِ الْأُرْزِ بِالْبُرِّ بِوَصْفِ الطُّعْمِ أَوْ الْقُوتِ أَوْ الْكَيْلِ، وَأَحَدُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْرَبُ فِي التَّمْثِيلِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَوْلُ الْمُخْلِصِ مِنْ الْمُصَوِّبَةِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ لِلَّهِ فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: عَلَيْهِ دَلَالَةٌ أَوْ أَمَارَةٌ فَقَطْ، أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ وَلَا أَمَارَةٌ. فَأَمَّا (الْقَوْلُ الْأَوَّلُ) : وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْحُكْمِ دَلِيلًا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ، وَهَؤُلَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ، وَأَنَّهُ إذَا وَجَدَهُ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَإِذَا أَخْطَأَهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُخْطِئِ هَلْ يَأْثَمُ وَيَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ؟ فَذَهَبَ بَشَرٌ إلَى التَّأْثِيمِ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ وَغُمُوضِهِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي أَنَّهُ هَلْ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ؟ فَذَهَبَ الْأَصَمُّ إلَى أَنَّهُ يُنْقَضُ، وَخَالَفَهُ الْبَاقُونَ. وَأَمَّا (الْقَوْلُ الثَّانِي) : وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْحُكْمِ أَمَارَةً فَقَطْ فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ

الْفُقَهَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْ قَائِلٍ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِإِصَابَتِهِ لِخَفَائِهِ وَغُمُوضِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، فَهُوَ وَإِنْ أَخْطَأَ - عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ إصَابَتِهِ - لَكِنَّهُ مَعْذُورٌ مَأْجُورٌ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَمَّا (الْقَوْلُ الثَّالِثُ) : وَهُوَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَلَا أَمَارَةَ، فَذَهَبَ إلَيْهِ جَمْعٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ " كَدَفِينٍ ". قَالَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعُثُورَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الِاجْتِهَادُ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعُثُورَ عَلَيْهِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. . الثَّانِي: قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى إثْبَاتِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، فَأَمَّا مَنْ نَفَاهُ فَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ لَا غَيْرَ. . الثَّالِثُ: مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُصَوِّبَةُ حَدِيثُ بَعْثَةِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - السَّرِيَّةِ لِسَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ: (لَا تَنْزِلُوا حَتَّى تَأْتُوهُمْ) فَجَاءَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاخْتَلَفُوا حِينَئِذٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ تَوَجَّهَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَادَى وَحَمَلَ قَوْلَهُ (لَا تَنْزِلُوا) عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَمَّا عُرِضَتْ الْقِصَّةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُخَطِّئْ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَمْ يُؤَثِّمْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَمَّا اخْتَلَفَ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْوِتْرِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا: (أَصَبْتُمَا) . وَكَذَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: فَكَانَ مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، وَلَمْ يَعِبْ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِيَّةِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الرُّخْصَةِ، أَوْ الْعَكْسِ، فَفَضَّلَ كُلٌّ جِهَةً، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَفْضَلِ وَصَوَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَعَ الِاخْتِلَافِ.

وَيُحْتَجُّ لِلْمُخَطِّئَةِ بِحَدِيثِ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَأَجْرٌ» وَبِحَدِيثِ «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ» لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى، وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ: «وَإِنْ طَلَبَ مِنْك أَهْلُ حِصْنٍ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي. أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا» . . الرَّابِعُ: قَدْ سَأَلَ الْمِصِّيصِيُّ الْغَزَالِيَّ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْوَقَائِعَ الشَّرْعِيَّةَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ - مَا فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ، كَأَكْلِ الضَّبِّ عَلَى مَائِدَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَالْمُصِيبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاحِدٌ، إذْ النَّصُّ وَاحِدٌ، وَقَدْ وَضَعَ الشَّرْعُ إبَاحَةَ الضَّبِّ، وَعَلَى الْمُجْتَهِدِينَ تَعَرُّفُ مَا وَضَعَهُ الشَّرْعُ، فَمَنْ عَرَفَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ أَخْطَأَ النَّصَّ وَلَمْ يَعْثُرْ عَلَيْهِ فَقَدْ أَخْطَأَ، أَيْ أَخْطَأَ النَّصَّ الَّذِي كَانَ مَأْمُورًا بِطَلَبِهِ، وَلَوْ وَجَدَهُ لَلَزِمَهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، وَيَكُونُ النَّصُّ كَالْقِبْلَةِ فِي حَقِّهِ، وَالْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ، وَلَهُ أَجْرَانِ، وَلِلْمُخْطِئِ أَجْرٌ. الثَّانِي - مَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنْ يَدُلُّ النَّصُّ عَلَيْهِ، كَسِرَايَةِ عِتْقِ الْأَمَةِ، إذْ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَكِنْ يَدُلُّ النَّصُّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَا شَهِدَ لَهُ النَّصُّ شَهَادَةً

جَلِيَّةً بِقِيَاسٍ جَلِيٍّ، فَمَنْ أَخْطَأَ مَعْنَى النَّصِّ كَمَنْ أَخْطَأَ عَيْنَ النَّصِّ، لِأَنَّ النَّصَّ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِمَعْنَاهُ لَا لِلَفْظِهِ. وَمَهْمَا تَعَيَّنَ الْمَطْلُوبُ كَانَ مُصِيبُهُ وَاحِدًا، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: " أَخْطَأَ " إلَّا أَنَّهُ أَخْطَأَ مَا قَصَدَ الشَّرْعُ مِنْهُ أَنْ يَعْثُرَ عَلَيْهِ، وَمَا لَوْ عَثَرَ عَلَيْهِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا كَالْأَوَّلِ. الثَّالِثُ - مَا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ الشَّرْعُ لَا بِلَفْظٍ يَخُصُّهُ وَلَا يَخُصُّ غَيْرَهُ وَيَسْرِي إلَيْهِ، وَلَكِنْ لِلْخَلْقِ فِيهِ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ فَاطْلُبُوهُ. فَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ، فَكُلُّ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ فَالْمُصِيبُ مَنْ أَمْرِ بِهِ، وَمَنْ تَعَدَّاهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَحَ قَدْ تَعَيَّنَ عِنْدَ اللَّهِ وَصَارَ مَطْلُوبًا، وَكُلُّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا مُعَيَّنًا فَإِمَّا أَنَّهُ يُصِيبُ وَإِمَّا أَنْ يُخْطِئَ فَيُتَصَوَّرُ فِيهِ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ، وَكُلُّ مَا تُصَوِّرَ فِيهِ ذَلِكَ فَيُمَيَّزُ الْمُخْطِئُ لَا مَحَالَةَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ الْمُصِيبِ. الرَّابِعُ - مَا لَيْسَ لِلشَّرْعِ فِيهِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، وَلَكِنْ قِيلَ لِلْمُجْتَهِدِينَ: اُطْلُبُوا الْحُكْمَ وَتَرَدَّدُوا بَيْنَ رَأْيَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّأْيَيْنِ مُسَاوٍ لِلْآخَرِ فِي الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ هَاهُنَا مُصِيبٌ. وَهَذَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي الشَّرْعِ، وَالْعَقْلِ: أَمَّا شَرْعًا فَكُلُّ حُكْمٍ نِيطَ بِاجْتِهَادِ الْوُلَاةِ، كَتَفْرِقَةِ الْعَطَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ أَوْ التَّفَاوُتِ، كَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، إذْ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى عَيْنِهِ وَلَا عَلَى مَسْأَلَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ يُقَالُ: إنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ فِيهِ إهْمَالٌ لِمَصْلَحَةِ تَمَيُّزِ الْفَاضِلِ مِنْ الْفُضُولِ، وَهُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ، وَفِي التَّفَاوُتِ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَمَهْمَا قُوبِلَ مَا فِي إحْدَاهُمَا مِنْ الْمَضَرَّةِ بِمَا فِي إحْدَاهُمَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ يَجُوزُ أَنْ تَتَرَجَّحَ إحْدَاهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَسَاوَيَا فِي عِلْمِ اللَّهِ بِالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ. وَإِذَا تَسَاوَيَا فِي عِلْمِ اللَّهِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ صَوَابًا. وَلَوْلَا هَذَا لَرَدَّ الْمَفْضُولُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بَعْضَ مَا أَخَذَهُ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ. أَوْ لَامْتَنَعَ الْفَاضِلُ فِي زَمَنِ عُمَرَ مِنْ أَخْذِ الزِّيَادَةِ. وَكُلُّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالَيْنِ وَتَقْرِيرِ الْحُكْمَيْنِ. فَهَذَا مِنْهُمْ إجْمَاعٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ.

وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعُقُوبَةِ وَالنَّفَقَاتِ، كَمَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي التَّرَقِّي إلَى الثَّمَانِينَ مَضَرَّةٌ مِنْ وَجْهٍ وَمَصْلَحَةٌ مِنْ وَجْهٍ. وَكَذَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَهُمَا عِنْدَ اللَّهِ مُتَسَاوِيَانِ بِالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ. وَكَذَا كُلُّ وَاقِعَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ. الْخَامِسُ - مَسْأَلَةٌ تَدُورُ بَيْنَ نَصَّيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، فَحُكْمُ اللَّهِ فِيهِ الْأَصْلَحُ إنْ كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، فَيُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الرَّابِعِ وَالثَّالِثِ. وَحُكْمُ اللَّهِ فِيهِ الْأَخْذُ بِالْأَشْبَهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى. وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ اللَّهِ أَشْبَهَ، وَقَدْ تَكُونُ نِسْبَتُهُ فِي الشَّبَهِ إلَى الْجَانِبَيْنِ عَلَى التَّسَاوِي فِي عِلْمِ اللَّهِ. فَهَذَا مُمْكِنٌ، وَإِذَا أَمْكَنَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ صَوَابٌ وَلَا مُخْطِئَ فِيهِ. إذْ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ يَسْتَدْعِي شَيْئًا مُعَيَّنًا يَعْسُرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِالصَّوَابِ، وَعَنْ الْغَفْلَةِ عَنْهُ بِالْخَطَأِ، وَهَاهُنَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَإِذًا إنْ كَانَ التَّسَاوِي فِي الصَّلَاحِ أَوْ الشَّبَهِ مُمْكِنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَقَدْ صَحَّ مَا قُلْنَاهُ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا وَإِمْكَانَهُ أَثْبَتَ عَلَيْهِ بِقَوَاطِعِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْمُبَاحَاتِ كُلَّهَا إنَّمَا سَوَّى الشَّرْعُ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا لِتَسَاوِيهَا عِنْدَهُ فِي صَلَاحِ الْخَلْقِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَحْكَامِ السِّيَاسَاتِ وَجَمِيعُ مَسَائِلِ تَقَابُلِ الْأَصْلَيْنِ يَكَادُ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، إذْ قَلَّمَا يَكُونُ فِيهَا تَرْجِيحٌ، فَإِذَا قَضَى قَاضٍ بِتَحْلِيفِ أَحَدٍ، وَقَضَى آخَرُ بِتَحْلِيفِ الْآخَرِ فَقَدْ أَصَابَا، بَلْ أَقُولُ: لَوْ اسْتَوَى عِنْدَ قَاضٍ وَاحِدٍ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَضَرَّةُ فِي أَمْرَيْنِ، أَوْ اسْتَوَى عِنْدَهُ الشَّبَهُ بِالْأَصْلَيْنِ أَوْ الِاسْتِصْحَابُ فِي مُقَابِلِ الْأَصْلَيْنِ وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ صَارَ مُخَيَّرًا كَمَا فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ. فَإِذًا مِنْ الْمَسَائِلِ مَا يُعْلَم أَنَّ الْمُصِيبَ فِيهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْلُوَ عَنْ حُكْمٍ مَذْكُورٍ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَالْخَيْلِ مَثَلًا فِي أَنَّهُ هَلْ يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّهُ مَعَ كَثْرَتِهِ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ يُعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَغْفَلَهُ عَنْ بَيَانِ حُكْمِهِ، فَيَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ. وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْنَا فِيهِ نَصٌّ مَثَلًا، فَهَذَا حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ

عِنْدَ اللَّهِ، فَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ آحَادِ الْأَشْخَاصِ وَأَعْيَانِ الْمَسَائِلِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَشْدِيدُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ فِي بَيْعِ الْعَيِّنَةِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُجَاوَزَةٌ لِحُكْمٍ ثَابِتٍ بِإِجْمَاعٍ. وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ عَلَى أَخْذِ الْفَضْلِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْقِسْمِ الثَّانِي. انْتَهَى. . وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": اخْتَلَفُوا فِي كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ أَمْ لَا، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ هَلْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ أَمْ لَا، وَلْنُقَدِّمْ عَلَيْهِ مُقَدِّمَةً وَهِيَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ وَنُصِبَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ وَالْأَمَارَاتُ فَإِذَا أُصِيبَ حَصَلَ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَجْرُ الْإِصَابَةِ، وَالْآخَرُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ. وَ (الثَّانِي) : وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمَنْ يَنْظُرْ إلَى هَذَا الْحُكْمِ الثَّانِي وَلَمْ يَنْظُرْ فِي الْأَوَّلِ قَالَ: إنَّ حُكْمَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبِالنَّظَرِ إلَى وُجُوبِ الْمَصِيرِ إلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ. وَأَمَّا الْآخَرُ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ الَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بِالنَّظَرِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ وَأَصَابَ» لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْإِصَابَةِ وَالْخَطَأِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ أَمْرًا مُعَيَّنًا. وقَوْله تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْسُوبٌ إلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ خَلَا أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ. وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. قَالَ: وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا غَوْرَ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْإِصَابَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حَقٌّ، وَقَدْ وَافَقَ الْغَزَالِيُّ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَالَ: إنْ كَانَ ثَمَّ تَقْصِيرٌ فَالْخَطَأُ وَاقِعٌ لِتَقْصِيرِهِ، لَا لِخَطَئِهِ إصَابَةَ أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَقْصِيرٌ فَلَا حُكْمَ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ،

وَاسْتَدَلَّ بِمَسْأَلَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءَ بَلَغَهُمْ النَّصُّ فَأَسْرَعُوا فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِمْ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ عَدَمِ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الْمُخَابَرَةُ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُخَابِرُ وَلَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى بَلَغَهُ خَبَرُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ بِالنَّهْيِ عَنْهَا. انْتَهَى. . مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَإِنْ أَخْطَأَ، قَالُوا بِأَنَّهُ مَأْجُورٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَإِنْ أَخْطَأَ، وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ مَأْجُورٍ عَلَى الْخَطَأِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْمُخْطِئُ آثِمٌ، وَقِيلَ: غَيْرُ مَأْجُورٍ وَلَا آثِمٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ بَلْ هُوَ مَأْجُورٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْت أَنَّ الْحُكَّامَ قَدْ هَلَكُوا. ثُمَّ وَعَلَى مَاذَا يُؤْجَرُ؟ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَأْجُورٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِيهِ لِقَصْدِهِ الصَّوَابَ وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ، إنَّمَا لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ، لِأَنَّ الْأَجْرَ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْمُثَابِ، وَلَا تَرْغِيبَ فِي الْخَطَأِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَى قَصْدِهِ وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ خَطَأً، كَمَا لَوْ اشْتَرَى رَقَبَةً فَأَعْتَقَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ ثُمَّ وَجَدَهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ بَعْدَ تَلَفِ ثَمَنِهَا، وَهُوَ مَأْجُورٌ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ شِرَاؤُهُ وَعِتْقُهُ لَمْ يَقَعْ، لِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقَصْدِ إلَى فَكِّ الرَّقَبَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ. قَالَ: وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا. وَأَيْضًا لَا بُدَّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْدِلَ فِي اجْتِهَادِهِ عَنْ طُرُقٍ فَاسِدَةٍ فَيَفْتَحَ لَهُ فَاسِدَهَا إلَى طُرُقٍ مُسْتَقِيمَةٍ يَظُنُّ فِيهِ الْحَقَّ فَعُدُولُهُ عَنْ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الْفَاسِدَةِ اجْتِهَادٌ صَحِيحٌ فَأُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرَ أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى نِيَّتِهِ وَعَلَى نَفْسِ

الِاجْتِهَادِ، وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى الْحُكْمِ لِخَطَئِهِ فِيهِ. فَأَمَّا اجْتِهَادُهُ بِمَا بَلَغَ فِيهِ فَصَوَابٌ، وَمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ إلَى بُلُوغِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي تَخَلُّفِهِ عَنْهُ، لِأَنَّ فَهْمَهُ بَلَغَ فِيهِ بَعْضَ طُرُقِهِ وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ أَقْصَى مَا طَلَبَهُ، وَهُوَ فِيمَا إذَا أَتَى بِهِ مِنْهُ مَأْجُورٌ وَمُصِيبٌ فِيهِ، وَمَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةُ الْحَاجِّ الَّذِي أُمِرَ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ لِيَبْلُغَ بِهِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَسَلَكَ بَعْضَ الطَّرِيقِ وَضَعُفَ عَنْ بَاقِيهِ وَتَلِفَتْ رَاحِلَتُهُ يُؤْجَرُ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي قَصَدَهُ، وَعَبَّرَ الْقَفَّالُ عَنْ هَذَا فَقَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ فِي قَصْدِهِ الْخَطَأَ الْمَوْضُوعَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى إنْشَاءِ قَصْدِ الثَّوَابِ. وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُومَ لِيَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ، فَأَخْطَأَ فِي وَصْفِ الطَّرِيقِ وَعَدَلَ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ، فَثَوَابُهُ مِنْ ابْتِدَاءِ قَصْدِهِ إلَى مَوْضِعِ عُدُولِهِ عَنْ الْخَطَأِ. قَالَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ، إنَّمَا لَا يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِ الثَّوَابِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» . وَلَهُ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ: أَحَدُهَا - أَنَّ نِيَّتَهُ فِي الِاجْتِهَادِ خَيْرٌ مِنْ خَطَئِهِ فِي الِاجْتِهَادِ. وَثَانِيهَا - أَنَّ نِيَّتَهُ خَيْرٌ مِنْ صَوَابِ عَمَلِهِ. وَثَالِثُهَا - أَنَّ النِّيَّةَ أَوْسَعُ مِنْ الْعَمَلِ، لِأَنَّهَا تَسْبِقُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ فَتُعَجِّلُ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: مَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ أَوَّلًا أَصَحُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ هُوَ خِلَافُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُصِيبُ بِهِ الْحَقَّ، لِأَنَّهُ لَوْ وَصَفَهُ فِي صِفَتِهِ وَرَتَّبَهُ عَلَى تَرْتِيبِهِ لَقَضَى بِهِ إلَى الْحَقِّ، فَلَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ فِي " الْعُدَّةِ ": يُثَابُ الْمُخْطِئُ عَلَى مَاذَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) عَلَى الِاجْتِهَادِ، كَرَجُلَيْنِ سَلَكَا الْجَامِعَ مِنْ طَرِيقَيْنِ، قَصَدَ أَحَدُهُمَا الطَّرِيقَ أُثِيبَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْجَامِعِ.

وَ (الثَّانِي) عَلَى الْقَصْدِ، كَرَجُلَيْنِ رَمَيَا إلَى كَافِرٍ، فَأَصَابَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ يُثَابُ الْمُخْطِئُ عَلَى الْقَصْدِ. وَحَكَاهَا الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِخُرَاسَانَ ثُمَّ قَالَ: وَإِطْلَاقُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ عَلَى مَا بَيَّنْت. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ، بَلْ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ. وَقِيلَ: بَلْ عَلَى اسْتِدَادِهِ فِي تَقَصِّي النَّظَرِ، فَإِنَّ الْمُخْطِئَ يَسْتَدُّ أَوَّلًا ثُمَّ يَزُولُ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ الْمُخْطِئَ قَدْ يَحِيدُ فِي الْأَوَّلِ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ ثُمَّ هُوَ مَأْجُورٌ بِحُكْمِ الْخَبَرِ لِقَصْدِ الصَّوَابِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي " الشَّرْحِ " ثُمَّ الْأَجْرُ عَلَى مَاذَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: (أَحَدُهُمَا) - وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَأَبِي الطَّيِّبِ - أَنَّهُ عَلَى الْقَصْدِ إلَى الصَّوَابِ دُونَ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ أَفْضَى بِهِ إلَى الْخَطَأِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ الطَّرِيقَ الْمَأْمُورَ بِهِ. قُلْت: حَكَاهُ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِ " ذَمِّ التَّقْلِيدِ " عَنْ النَّصِّ فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحَدِيثِ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» : " لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ فِي الدِّينِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ لِإِرَادَتِهِ الْحَقَّ الَّذِي أَخْطَأَهُ ". قَالَ الْمُزَنِيّ: فَقَدْ ثَبَتَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا أَنَّ الْمُخْطِئَ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُ، وَإِنَّمَا أَجْرُهُ عَلَى نِيَّتِهِ لَا عَلَى خَطَئِهِ. انْتَهَى. وَشَبَّهَهُ الْقَفَّالُ فِي الْفَتَاوَى بِرَجُلَيْنِ رَمَيَا إلَى كَافِرٍ، فَأَخْطَأَ أَحَدُهُمَا يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِهِ الْإِصَابَةَ، بِخِلَافِ السَّاعِي إلَى الْجُمُعَةِ إذَا فَاتَتْهُ يُؤْجَرُ عَلَى الْقَصْدِ وَإِنْ لَمْ يَنَلْ ثَوَابَ الْعَمَلِ. وَ (الثَّانِي) أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَالْوُقُوفِ عَلَيْهِ. وَرُبَّمَا سَلَكَ الطَّرِيقَ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ الْإِتْمَامَ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَهَذَا مُنَاسِبٌ إذَا سَلَكَهُ فِي الِابْتِدَاءِ. فَإِنْ حَادَ عَنْهُ

فِي الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَصْدُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عُشْرَ أَجْرِ الْمُصِيبِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» . قُلْت: وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَالِهِ فِي مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي الرَّجُلِ يَطَأُ أَمَتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا أُخْتُهُ: أَمَّا فِي الْغَيْبِ فَلَمْ تَزَلْ أُخْتَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا. وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَكَانَتْ لَهُ حَلَالًا مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَعَلَيْهِ حَرَامٌ حِينَ عَلِمَ. وَقِيلَ لَهُ: إنَّ غَيْرَك يَقُولُ: إنَّهُ لَمْ يَزَلْ آثِمًا بِإِصَابَتِهَا وَلَكِنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ. مَسْأَلَةٌ نُقِلَ عَنْ دَاوُد وَأَصْحَابِ الظَّاهِرِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْتَى فِي حَادِثَةٍ بِحُكْمٍ يُرِيدُ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ فَهُوَ مُصِيبٌ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا يَزِيدُ عَلَى الْعَنْبَرِيِّ، لِأَنَّ ذَاكَ صَوَّبَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا صَوَّبَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا بَعْدَمَا بَذَلَ وُسْعَهُ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: مَنْ صَوَّبَ الْمُجْتَهِدِينَ شَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ يَنْقُضُ الْحُكْمَ الْمُسْتَنِدَ إلَيْهِ، قَالَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي قَوَاعِدِهِ ". قَالَ: وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ شُرْبُ الْحَنَفِيِّ لِلنَّبِيذِ مُبَاحًا وَإِنْ قُلْنَا

بِتَصْوِيبِهِمْ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ قَوْلَهُمْ: إنَّهُ لَا حُكْمَ فِي النَّازِلَةِ مُعَيَّنًا، فَصَارَ كَمَنْ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَتَاعٌ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدَ فِيهِ مَتَاعًا وَجَدَهُ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يَعْنِي: لَا حُكْمَ أَيْ مُعَيَّنًا فِيهَا فَيُدْرَكُ قَبْلَ الطَّلَبِ، كَمَا يُدْرَكُ بِغَيْرِ طَلَبٍ مِنْ النَّصِّ الظَّاهِرِ، بَلْ فِيهَا حُكْمٌ لَهَا وَلِغَيْرِهَا يُدْرِكُهُ الْمُجْتَهِدُ عِنْدَ تَصَفُّحِ قَوَانِينِ الشَّرْعِ الْكُلِّيَّةِ، تَلْحَقُ بِهَا الْجُزَيْئَاتُ، فَفِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . الثَّانِي: قِيلَ عَلَى أُصُولِ الْمُصَوِّبَةِ: إنَّا نَقْطَعُ بِالْأَحْكَامِ، وَإِنَّ الْمُخَطِّئَةَ تَظُنُّهَا ظَنًّا. قَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ: وَهُوَ عِنْدِي وَهْمٌ عَلَى الْقَوْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَوِّبَةَ تَقُولُ: لَا يَكْفِيهِ أَيُّ ظَنٍّ كَانَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِهَادٍ وَبَذْلِ وَسْعٍ. فِي تَصْحِيحِ الْمُقْتَضَى وَتَحْقِيقِ الشَّرْطِ وَرَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ، بِحَيْثُ لَوْ دَخَلَ بِذَلِكَ لَكَانَ مُخْطِئًا آثِمًا. الثَّالِثُ: قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، لِأَنَّهُ إنْ أَصَابَ فَمَا قَالَهُ حَقٌّ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَقَدْ نَقَضَ قَوْلَهُ فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ مُجْتَهِد مُصِيبًا، وَلَك فِي حَلِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ طُرُقٌ: إحْدَاهَا - أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ وَالْخِلَافُ فِي " أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ " إنَّمَا هُوَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ. أَمَّا الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ فَالْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ قَطْعًا. الثَّانِيَةُ - يَلْتَزِمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وَلَكِنْ لَمَّا قُلْت: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. لَيْسَ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا. وَقَوْلُك أَنَّهُ مُصِيبٌ قُلْنَا: وَكَذَلِكَ خَصْمُهُ أَيْضًا مُصِيبٌ. بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الْمُصَوِّبِ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي حَقِّ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، غَيْرَ أَنَّهُ فِي حَقِّ خَصْمِهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ.

الرَّابِعُ - سَلَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ، لَكِنْ مَا الَّذِي يَعْنِي الْقَائِلُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ؟ إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ بُطْلَانَ قَوْلِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَوْ يَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ. وَإِنْ عَنَيْت بِالْبَاطِلِ مَا لَا يَكُونُ مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَبِالصِّحَّةِ مَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ مِنَّا، لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ، كَيْفَ وَأَنَّ مَذْهَبَ الْقَائِلِ بِتَصْوِيبِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الْأَحْكَامُ تَابِعَةٌ لِظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَإِنْ عَنَيْت بِالْبَاطِلِ وَالْحَقِّ مَا فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَقٌّ وَصَوَابٌ، فَإِذًا الْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ الْكُلِّ وَعَدَمِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ، لِأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى ظَنِّ تَقْيِيدِهِ. الْخَامِسُ: إنَّ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اقْتِدَاءَ الشَّافِعِيِّ، كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ " وَالْأَصَحُّ فِيهِ الصِّحَّةُ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ إخْلَالُهُ بِمَا يَشْتَرِطُهُ وَيُوجِبُهُ، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْمُخَالَفَةِ حِينَئِذٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا رَاجِحًا عِنْدَهُ. وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُفَوِّضَ الْقَضَاءَ إلَى الْحَنَفِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ يَعْتَقِدُ الْمُفَوِّضُ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ [فِيهَا] غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ. قَالَ: وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ الْحُكْمَ فِيهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَيُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ، فَلَا يَكُونُ الْمُفَوِّضُ عِنْدَ التَّفْوِيضِ مُعِينًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُ مَنْعَهُ. فُرُوعٌ الْأَوَّلُ: قَدْ رَاعَى الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ خِلَافَ الْخَصْمِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مُدَّعِيَ الْإِصَابَةِ لَا يَقْطَعُ بِخَطَأِ مُخَالِفِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمَّا كَانَ يَجُوزُ خِلَافُ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَنَظَرَ فِي مُتَمَسِّكِ خَصْمِهِ فَرَأَى لَهُ مَوْقِعًا رَاعَاهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَأَكْثَرُهُ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَعِ، وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ النَّظَرِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ:

وَلِذَلِكَ رَاعَى مَالِكٌ الْخِلَافَ، قَالَ: وَتَوَهَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُرَاعِي صُورَةَ الْخِلَافِ وَهُوَ جَهْلٌ أَوْ عَدَمُ إنْصَافٍ. وَكَيْفَ هَذَا وَهُوَ لَمْ يُرَاعِ كُلَّ خِلَافٍ وَإِنَّمَا رَاعَى خِلَافًا لِشِدَّةِ قُوَّتِهِ. قُلْت: وَقَدْ يُرَاعِي الشَّافِعِيُّ الْخِلَافَ الْمُشَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا قَرَّرَ الْقَصْرَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ قَالَ: فَأَمَّا أَنَا فَأُحِبُّ أَنْ لَا أَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إذَا مَرِضَ الْإِمَامُ أَنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ خَلْفَهُ. ولَا أُفَضِّلُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ. وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ. عَلَى أَنَّ الْإِبْيَارِيَّ اسْتَشْكَلَ اسْتِحْبَابَ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ إذَا اخْتَلَفَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ التَّرْكَ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّوَابِ، وَالْفِعْلُ جَائِزٌ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. نَعَمْ، الْوَرَعُ يَلِيقُ بِهِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَيْنَ الْخِلَافِ لَا يَنْتَصِبُ شُبْهَةً وَلَا يُرَاعَى بَلْ النَّظَرُ إلَى الْمَأْخَذِ وَقُوَّتِهِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ الْبَحْرِ ": لَوْ كَانَ الْخِلَافُ بِنَفْسِهِ يَنْتَصِبُ شُبْهَةً لَاسْتَوَتْ الْمَسْأَلَتَانِ، يَعْنِي مَسْأَلَةَ إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْحَنَفِيِّ بِشُرْبِ النَّبِيذِ وَشَهَادَتِهِ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي الدَّلَائِلِ. . الثَّانِي: لَوْ كَانَ الزَّوْجَانِ مُجْتَهِدَيْنِ فَخَاطَبَهَا الزَّوْجُ بِلَفْظَةٍ نَوَى بِهَا الْكِنَايَةَ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا نِيَّةَ. وَتَرَى الْمَرْأَةُ أَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِيهِ، فَلِلزَّوْجِ طَلَبُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، عَمَلًا مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ، وَطَرِيقُ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا أَنْ يُرَاجِعَا مُجْتَهِدًا آخَرَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، أَمْ كُلٌّ مُصِيبٌ. فَإِنْ كَانَا مُقَلِّدَيْنِ قَلَّدَ مَنْ شَاءَ، فَإِنْ اخْتَلَفَا يُخَيَّرُ إنْ اسْتَوَيَا، وَإِلَّا فَيُقَلِّدُ الْأَعْلَمَ وَالْأَوْرَعَ، وَإِنْ كَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ عَمِلَ بِمَا قُلْنَا فِي الْمُجْتَهِدِينَ. هَكَذَا قَالَ فِي الْمَحْصُولِ " وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْقَاضِي فَذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " أَنَّ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ

وَاحِدٌ مَنْ صَارَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَى الْوَقْفِ حَتَّى يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ فِيهَا هُوَ الْوَقْفُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَتَّى يَرْفَعَ أَمْرَهَا إلَى الْقَاضِي فَيَنْزِلَهَا عَلَى اعْتِقَادِ نَفْسِهِ، وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ حِينَئِذٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تُسَلَّمُ الْمَرْأَةُ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ نَكَحَهَا نِكَاحًا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ وَهُوَ السَّابِقُ بِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ. قَالَ: وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ الْمُجْتَهِدَاتِ، وَفِيهَا تَقَابُلُ الِاحْتِمَالَاتِ، فَيَجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا عِنْدَنَا وَمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حَقٌّ مِنْ وَقْفٍ أَوْ تَقْدِيمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ وُجُوهِ الْجَوَابِ. . الثَّالِثُ: وَلَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ. وَإِلَّا يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ النَّقْضِ وَيَتَسَلْسَلُ فَتَضْطَرِبُ الْأَحْكَامُ وَلَا يُوثَقُ فِيهَا. فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ خَالَعَ امْرَأَتَهُ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ فَتَزَوَّجَهَا الرَّابِعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى هَذَا الِاعْتِقَادِ مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَأَدَّاهُ إلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لَمْ يَنْقَضِ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي بَلْ يَبْقَى عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالصِّحَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهَا. لِأَنَّ الْمُصَاحِبَ الْآنَ قَاضٍ بَانَ اجْتِهَادُهُ الْأَوَّلُ خَطَأً، فَيُعْمَلُ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْضَ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ، بَلْ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَالْمَحْصُولِ " وَالْمِنْهَاجِ ". وَقَوْلُهُ.

فِي الْحَاكِمِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ بَاطِنًا، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ فِرَاقِهِ إيَّاهَا نَقْضُ حُكْمِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَسْرِيحُهَا وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا التَّفْصِيلَ ثُمَّ قَالَ: وَأَبْدَى تَرَدُّدًا فِيمَا إذَا فَعَلَ الْمُقَلِّدُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلَّدِهِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ كَذَلِكَ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُقَلِّدِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ وَالْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا. هَذَا فِيمَا إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلَوْ تَغَيَّرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَفْتَى مُقَلِّدُهُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلَاثًا وَنَكَحَهَا الْمُقَلِّدُ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، قَالَ فِي الْمَحْصُولِ " وَالْإِحْكَامِ " وَتَبِعَهُ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْرِيحُهَا، كَمَا فِي حَقِّ نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، بِخِلَافِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ مَتَى اتَّصَلَ بِالْحُكْمِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ اسْتَقَرَّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ النَّقْضُ عِنْدَ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ ": لَوْ نَكَحَ رَجُلٌ نِكَاحًا فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ اسْتَفْتَى فَأَفْتَاهُ بِالْإِفْسَادِ، فَهَلْ تَبِينُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِمُجَرَّدِ الْفَتْوَى؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَالثَّانِي: لَا حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي، قُلْت: وَحَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ " فِي بَابِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْيَمِينِ عَنْ رِوَايَةِ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ ". قَالَ: وَذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا مُفَصَّلًا فَقَالَ: إنْ صَحَّحَ النِّكَاحُ قَاضٍ فَالْفَتْوَى لَا تَرْفَعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ تَصْحِيحُهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ ارْتَفَعَ بِالْفَتْوَى. وَحَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا فِي بَابِ عَدَدِ الشُّهُودِ، قَالَ: وَهَذَا إذَا اعْتَمَدَ فِي الْعَقْدِ الْفَتْوَى، فَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ مُتَوَلِّيَهُ لَمْ يَرْتَفِعْ إلَّا بِحُكْمِهِ. وَخَصَّ الْخِلَافَ بِمَا إذَا لَمْ يَكُونَا مُجْتَهِدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ مُجْتَهِدَيْنِ وَاخْتَلَفَا فَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. وَجَزَمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا أَفْتَاهُ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَا يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُ الْمُسْتَفْتَى بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ إذَا كَانَ قَدْ

عَمِلَ بِهِ، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهُ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إنَّمَا يَعْمَلُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ، وَقَدْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُ عَنْ قَوْلِهِ. وَلَوْ قَالَ مُجْتَهِدٌ لِلْمُقَلِّدِ - وَالصُّورَةُ هَذِهِ -: أَخْطَأَ بِهِ مَنْ قَلَّدْتَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَلَّدَهُ أَعْلَمَ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلِّدِهِ، وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ لَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، بَلْ الْوَجْهُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِ الثَّانِي. الرَّابِعُ: حَيْثُ كَانَتْ حُجَّةُ الْحُكْمِ قَطْعِيَّةً فَالْمُخْتَارُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إذَا وَقَعَ بِخِلَافِهِ يُنْتَقَضُ، بِخِلَافِ الظَّنِّيَّةِ. وَقِيلَ: فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ عَلَى الْحَاكِمِ دَلِيلًا قَاطِعًا، وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ قَالَ: لَا يُنْقَضُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ وَإِنْ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ، وَمِنْهُ مَا لَوْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ لِدَلِيلٍ أَوْ أَمَارَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَمَارَةٌ تُسَاوِي الْأُولَى. وَكَذَا مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْ الْأُولَى، لَكِنْ لَا يَنْتَهِي إلَى ظُهُورِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَ لَوْ قَارَنَ لَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ، لِأَنَّ الرُّجْحَانَ حَاصِلٌ حَالَ الْحُكْمِ. أَمَّا لَوْ ظَهَرَ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ أَوْ قِيَاسٌ جَلِيٌّ بِخِلَافِهِ نُقِضَ هُوَ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَلَمْ يَنْقُضْهُ الظَّنُّ وَإِنَّمَا نُقِضَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى تَقْدِيمِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ آمِرٌ لَوْ قَارَنَ الْعِلْمَ بِهِ لَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ قَطْعًا، فَكَذَلِكَ نُقِضَ بِهِ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ " مُصَرِّحٌ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالنَّصِّ الَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا خَالَفَهُ هُوَ الظَّاهِرُ.

خَاتِمَةٌ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَهَكَذَا اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْكُلَّ مُصِيبٌ، لِصِحَّةِ الْكُلِّ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَخِلَافُهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الِاخْتِيَارِ، وَمَنْ قَرَأَ عَنْ إمَامٍ لَا يَمْنَعُ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ. قَالَ: وَلَيْسَتْ كَالْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَضَادَّةٍ، وَأَحْكَامُ الْقِرَاءَاتِ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِهَا مَعًا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ. وَنَظِيرُ قِرَاءَةِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] . نَظِيرُ مَنْ قَالَ: هُوَ حَلَالٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مِثْلُهُ، لَا نَظِيرَ مَنْ قَالَ: هُوَ حَلَالٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ حَرَامٌ.

التقليد

[التَّقْلِيدُ] ُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْقِلَادَةِ الَّتِي يُقَلِّدُ غَيْرَهُ بِهَا، وَمِنْهُ: قَلَّدْت الْهَدْيَ: فَكَأَنَّ الْحُكْمَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ قَدْ جُعِلَ كَالْقِلَادَةِ فِي عُنُقِ مَنْ قُلِّدَ فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَتِهِ، هَلْ هُوَ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ قَالَهُ؟ ، أَيْ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ قِيَاسٍ. أَوْ قَبُولِ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ تَظْهَرُ عَلَى قَوْلِهِ؟ وَجَزَمَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ " بِالْأَوَّلِ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ " وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ بِالثَّانِي، وَعَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ. وَتَنْبَنِي عَلَيْهِمَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَنَّ الْعَمَلَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يُسَمَّى تَقْلِيدًا؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَلَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا، لِأَنَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسُ الْحُجَّةِ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ، وَتَرَدَّدَ فِيهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالسَّبَبِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ خُصُوصُ ذَلِكَ السَّبَبِ وَعَيْنِهِ فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُهُمْ تَقْلِيدًا. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَمْرٌ أَعَمُّ مِنْ هَذَا، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَجْتَهِدُونَ

فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ أَقْوَالِهِمْ الْوَحْيُ فَلَا يَكُونُ تَقْلِيدًا أَيْضًا عَلَى الْأَوَّلِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُمْ يَجْتَهِدُونَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ السَّبَبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا الْوَحْيُ أَوْ الِاجْتِهَادُ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَدْ عَلِمْنَا السَّبَبَ، وَاجْتِهَادُهُمْ مَعْلُومُ الْعِصْمَةِ. قُلْت: وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ الْقَفَّالَ بَنَى الْخِلَافَ فِي تَسْمِيَتِهِ مُقَلِّدًا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ عَنْ قِيَاسٍ؟ فَإِنْ كَانَ يَقُولُهُ - وَهُوَ الْأَصَحُّ - فَيُقَلَّدُ، لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَقَالَهُ عَنْ وَحْيٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَلَيْسَ بِتَقْلِيدٍ. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي التَّعْلِيقِ ": لَا خِلَافَ أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُسَمَّى تَقْلِيدًا. وَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهَلْ يُسَمَّى تَقْلِيدًا؟ وَجْهَانِ يَنْبَنِيَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي حَقِيقَةِ التَّقْلِيدِ مَاذَا؟ قُلْت: وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ السِّلْسِلَةِ " أَنَّ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُسَمَّى تَقْلِيدًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَقِّ الصَّحَابِيِّ لَمَّا ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ مَا نَصُّهُ: فَإِمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انْتَهَى. وَخَطَّأَ الْمَاوَرْدِيُّ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ، وَلَكِنْ قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَعْلِ الْقَبُولِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقْلِيدًا وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقَبُولَ مِنْ السُّؤَالِ عَنْ وَجْهِهِ. وَفِي وُقُوعِ اسْمِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى رُجُوعِ الْخِلَافِ إلَى اللَّفْظِ، وَبِهِ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " وَقَالَ: هُوَ اخْتِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ يَهُونُ مَوْقِعُهَا عِنْدَ ذَوِي التَّحْقِيقِ. وَاخْتَارَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا، بَلْ هُوَ اتِّبَاعُ شَخْصٍ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ فِي أَنَّ لَهُ حُجَّةً، فَلَا يَكُونُ قَبُولُ قَوْلِهِ قَبُولَ قَوْلٍ فِي الدِّينِ مِنْ قَائِلِهِ بِلَا حُجَّةٍ. وَأَغْرَبَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْآخِذَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَالرَّاجِعَ إلَيْهِ لَيْسَ بِمُقَلِّدٍ، بَلْ هُوَ

صَائِرٌ إلَى دَلِيلٍ وَعِلْمٍ يَقِينٍ. فَأَمَّا كَوْنُهُ صَائِرًا إلَى دَلِيلٍ وَعِلْمٍ يَقِينٍ فَلَا رَيْبَ فِيهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا فَمَرْدُودٌ بِالْخِلَافِ السَّابِقِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ سِوَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَلَّدُ، بَلْ وَفِي أَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ سِوَاهُ. وَأَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّهُ أَوَّلَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِتَقْلِيدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ قُلْت؟ وَلَا: لِمَ قُلْت؟ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كَانَ أَرَادَ هَكَذَا فَكَذَا أَيْضًا جَاءَ فِي الْعَامِّيِّ مَعَ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْأَلُهُ: مِنْ أَيْنَ قُلْت؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَامِّيُّ عَنْهُ مُقَلِّدًا فَلَا يَكُونُ أَيْضًا. هَذَا كَذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي مَمْنُوعٌ. بَلْ الْأَصْحَابُ اخْتَلَفُوا فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ عَلَى طُرُقٍ: (أَحَدُهَا) تَأْوِيلُ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا تَقْلِيدَ فِي اتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَلَا فِي اتِّبَاعِ الْعَامِّيِّ الْمُجْتَهِدَ. وَرَأْسُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْقَاضِي، وَقَدْ أَوَّلَهُ كَمَا رَأَيْت، وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ. وَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى الِاعْتِضَادِ بِهَذَا النَّصِّ مِنْ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الْعَامِّيِّ الْمُجْتَهِدَ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ، فَجَرَتْ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُسْتَثْنَى دُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَتَصَرَّفَتْ فِي الْمُسْتَثْنَى بِالتَّأْوِيلِ إمَّا مَعَ الِاعْتِرَاضِ، كَالْقَاضِي، أَوْ لَا مَعَهُ، كَالْغَزَالِيِّ. وَ (ثَانِيهَا) فِرْقَةٌ اعْتَقَدَتْ أَنَّ الْعَامِّيَّ مُقَلِّدٌ، وَأَنَّ الْأَخْذَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَقْبُولٌ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ لَمْ تَجْرِ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ، لَا فِي الْمُسْتَثْنَى وَلَا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمِنْهُمْ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: هَذَا مَذْكُورٌ عَلَى طَرِيقِ التَّوَسُّعِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَرَأْسُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، فَقَالَ فِي أَوَّلِ " تَعْلِيقِهِ " إذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ بِحَالٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ ": إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا إلَّا الرَّسُولَ. فَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ يُسَمَّى تَقْلِيدًا فَقَدْ غَلِطَ، وَتَقْلِيدُ الرَّسُولِ لَا يَجُوزُ. وَإِنَّمَا صُورَتُهُ صُورَةُ التَّقْلِيدِ، وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ تَقْلِيدٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَ كَانَ جَوَابُهُ فِي الصُّورَةِ مِثْلَ

أَنْ يُسْأَلَ الشَّافِعِيُّ فَيُجِيبَ، لَكِنَّ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ قَبُولُ قَوْلِ الْمُجِيبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ لَا يُمْكِنُ هُنَا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الدَّلِيلِ، وَجَوَابُ الرَّسُولِ بِعَيْنِهِ حُجَّةٌ وَدَلِيلٌ، فَلَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي الْجَوَابِ. انْتَهَى. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ لِلنَّصِّ تَأْوِيلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ تَقْلِيدُ أَحَدٍ بَعْدَ الرَّسُولِ، بَلْ يَفْتَرِقُونَ، فَعَالِمُهُمْ لَا يُقَلِّدُ، وَعَامِّيُّهُمْ يُقَلِّدُ. وَأَمَّا الرَّسُولُ فَنِسْبَةُ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ إلَيْهِ سَوَاءٌ، وَالْكُلُّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَاهِلِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ يَأْخُذُ بِقَوْلِهِ تَقْلِيدًا، بَلْ لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا: إنَّ لِلْعَامِّيِّ سُؤَالَ الْعَالِمِ عَنْ مَأْخَذِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الرَّسُولُ [فَلَيْسَ] لِعَامِّيٍّ وَلَا لِلْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: لِمَ؟ وَلَا: مِنْ أَيْنَ؟ وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَبْقَى لِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ إلَّا فِي تَعْمِيمِ قَوْلِهِ " أَحَدٍ " عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: كُلُّ أَحَدٍ. وَ (ثَانِيهِمَا) إبْقَاءُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ إلَّا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يُقَلَّدُ. وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى التَّقْلِيدِ أَنْ يُلْقِيَ الْمَرْءُ الْمَقَالِيدَ وَيَطْرَحَ كُلَّهُ وَيَجْعَلَ اعْتِمَادَهُ فِيمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْحَوَادِثِ وَفِي تَفَرُّقِ حَمْلِهَا عَلَى الرَّسُولِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ فِي كُلِّ نَائِبَةٍ نُدْرَةٌ. وَإِنَّمَا تَطْمَئِنُّ فِيمَنْ لَا يُخْطِئُ، وَذَلِكَ هُوَ مَنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ، وَهُوَ الرَّسُولُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - فَإِنْ قُلْت: وَالرُّجُوعُ إلَى الْمُجْتَهِدِ رُجُوعٌ إلَيْهِ. قِيلَ: وَلَكِنْ لَا وُثُوقَ بِصَوَابِ الْمُجْتَهِدِ. فَإِذًا لَا يُقَلَّدُ إلَّا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ نَهْيُ الشَّافِعِيِّ عَنْ التَّقْلِيدِ حَيْثُ قَالَ الْمُزَنِيّ: هَذَا مُخْتَصَرٌ اخْتَصَرْتُهُ مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ، مَعَ عِلْمِهِ نَهْيُهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ. انْتَهَى. فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ: يُقَلَّدُ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُقَلَّدُ فَتْوَاهُ. وَأَمَّا دَعْوَى الْقَاضِي الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُقَلَّدُ فَكَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَهُ أَنَّ الْمُقَلِّدَ

شَاكٌّ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بَلْ الْمُقَلِّدُ لَا شَكَّ عِنْدَهُ، لِوُثُوقِهِ بِالْمُقَلَّدِ الَّذِي أَلْقَى بِتَقَالِيدِهِ إلَيْهِ، وَلَمَّا تَقَارَبَ الْخِلَافُ زَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَفْظِيٌّ، وَلَمَّا اعْتَقَدَ الْقَاضِي أَنَّ اتِّبَاعَ الْعَامِّيِّ تَقْلِيدٌ، وَأَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ مَعَ التَّقْلِيدِ، تَبَعًا لِلشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ (إيمَانِ الْمُقَلِّدِ) الَّتِي تُعْزَى لِأَبِي الْحَسَنِ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقْنَا الْكَلَامَ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّقْلِيدِ، لِيَخْرُجَ مِنْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. وَمِنْ ثَمَّ عَقَدَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " بَابًا فِي إمْكَانِ التَّقْلِيدِ فِي جُمْلَةِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ عَقَدَ بَابًا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي فُرُوعِ الْأَحْكَامِ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي أُصُولِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَنَّ أَخْذَ الْعَامِّيِّ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ، هَلْ يُسَمَّى تَقْلِيدًا أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَوْعِ اجْتِهَادٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَحَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ فِي زِيَادَتِهِ " عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، لِأَنَّهُ بَذَلَ مَجْهُودَهُ فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": الَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ أَصْلًا، فَإِنَّ قَوْلَ الْعَالِمِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَفْتِي. نَصَبَهُ الرَّبُّ عَلَمًا فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِهِ، كَمَا أَوْجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْعَمَلَ بِاجْتِهَادِهِ، وَاجْتِهَادُهُ عَلَمٌ عَلَيْهِ. وَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْلِيدٌ مُبَاحٌ فِي الشَّرِيعَةِ، لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ. إذْ التَّقْلِيدُ عَلَى مَا عَرَّفَهُ الْقَاضِي: اتِّبَاعُ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِاتِّبَاعِهِ حُجَّةٌ وَلَمْ يَسْتَنِدْ إلَى عِلْمٍ. قَالَ: وَلَوْ سَاغَ تَسْمِيَةُ الْعَامِّيِّ مُقَلِّدًا مَعَ [أَنَّ] قَوْلَ الْعَالِمِ فِي حَقِّهِ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ جَازَ أَنْ يُسَمَّى الْمُتَمَسِّكَ بِالنُّصُوصِ وَغَيْرِهَا مِنْ الدَّلَائِلِ مُقَلِّدًا. قَالَ الْقَاضِي: وَلِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى حُجَّةٍ قَطْعِيَّةٍ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، فَلَا يَكُونُ تَقْلِيدًا. وَهَذَا بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيْ التَّقْلِيدِ.

وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ - قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ - إلَى أَنَّهُ مُقَلِّدٌ لَهُ فِيمَا يَأْخُذُهُ، لِأَنَّا إنْ فَسَّرْنَاهُ بِقَبُولِ الْقَوْلِ بِلَا حُجَّةٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ، إذْ قَوْلُهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِقَبُولِ الْقَوْلِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَأْخَذِهِ فَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي قَوْلِ الْمُفْتِي أَيْضًا. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَلَعَلَّهُ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ حُجَّةُ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ قَبْلُ، وَالْإِجْمَاعُ سَبَقَ الْقَاضِي. عَلَى أَنَّ الْعَوَامَّ يُقَلِّدُونَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيدًا فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا تَقْلِيدٌ. وَمَنْ نَظَرَ كُتُبَ الْعُلَمَاءِ وَالْخِلَافِيِّينَ وَجَدَهَا طَافِحَةً بِجَعْلِ الْعَوَامّ مُقَلِّدِينَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى " بَعْدَمَا ذَكَرَ أَنَّ الْعَامِّيَّ إذَا أَخَذَ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ فَهُوَ ظَانٌّ صِدْقَهُ، وَالظَّنُّ مَعْلُومٌ، وَوُجُوبُ الْحُكْمِ عِنْدَ الظَّنِّ، وَهَذَا عِلْمٌ قَاطِعٌ، وَالتَّقْلِيدُ جَهْلٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَفَعْتُمْ التَّقْلِيدَ مِنْ الْبَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ تَقْلِيدَ أَحَدٍ سِوَى الرَّسُولِ، فَقَدْ أَثْبَتَ تَقْلِيدًا. قُلْنَا: قَدْ صَرَّحَ بِإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ إلَّا مَا اسْتَثْنَى، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الِاسْتِفْتَاءَ، وَقَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَشَهَادَةَ الْعُدُولِ تَقْلِيدًا. نَعَمْ، يَجُوزُ تَسْمِيَةُ قَوْلِ الرَّسُولِ تَقْلِيدًا تَوَسُّعًا وَاسْتِثْنَاءً مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً دَلَّتْ عَلَى صِدْقِهِ جُمْلَةً فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَكَانَ تَصْدِيقًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ خَاصَّةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى ذَلِكَ تَقْلِيدًا مَجَازًا. انْتَهَى. وَهَذَا أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي، وَلَا يُوَافِقُ عَلَى أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ، وَالْقَاضِي إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ. وَلَمْ يَقْتَصِرْ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى مَا فَعَلَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ بَلْ زَادَا: لَوْ سَمَّى مُسَمٍّ الرُّجُوعَ إلَى مَنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ تَقْلِيدًا فَلَا مُشَاحَّةَ فِي التَّسْمِيَةِ. قُلْت: وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " أَيْضًا. وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى قَوْلِنَا. أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَالْآمِدِيَّ أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ فَلَا تَنْبَغِي هَذِهِ التَّسْمِيَةُ، لِخُرُوجِهَا عَنْ وَضْعِ اللِّسَانِ. وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ تَسْمِيَةِ الرَّسُولِ مُقَلَّدًا، وَإِذَا عُرِفَتْ الْمَدَارِكُ هَانَتْ الْمَسَالِكُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْغَزَالِيَّ يَقُولَانِ: لَا تَقْلِيدَ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا الْآمِدِيُّ فَيَقُولُ: لَا تَقْلِيدَ فِي رُجُوعِ الْمَرْءِ إلَى قَوْلِ الْعَامِّيِّ، وَالْمُجْتَهِدِ إلَى قَوْلِ مِثْلِهِ، يَعْنِي حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِيَخْرُجَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا جَوَّزَهُ قَوْمٌ. وَاعْتَرَضَ الْآمِدِيُّ - تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ - بِأَنَّهُ لَوْ سَمَّى مُسَمٍّ الرُّجُوعَ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى الْإِجْمَاعِ وَالْمُفْتِي وَالشُّهُودِ تَقْلِيدًا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا مُشَاحَّةَ فِي اللَّفْظِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ تَبِعَ الْآمِدِيَّ، وَكَذَا ابْنُ الصَّلَاحِ صَرَّحَ بِمَا يُوَافِقُهُمْ حُكْمًا. غَيْرَ أَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ تَعْرِيفِهِمْ لِلتَّقْلِيدِ. وَمَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ إلَى الْمُفْتِي لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ مَعَ دَعْوَاهُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْفُتْيَا " مِنْ مُنَازَعَةِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ كَوْنِهِمْ لَيْسُوا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ فَعَجَبٌ، إذْ كَيْفَ يُقْضَى عَلَى أَبِي عَلِيٍّ - وَهُوَ الْحَبْرُ - بِالتَّقْلِيدِ، وَلَا يُقْضَى بِذَلِكَ عَلَى الْعَامِّيِّ الصِّرْفِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ وَقْتَ التَّعْرِيفِ مَعَ الْغَزَالِيِّ، وَعِنْدَ الِانْفِصَالِ جَرَى عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ إلَى الْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدٌ. وَقَدْ يَأْخُذُ الْمُجْتَهِدُ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ، وَلَكِنْ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ أَخْذًا مَجَازٌ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَهُ مِنْهُ لِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ نَظَرُهُ، لَا لِكَوْنِ ذَلِكَ قَالَهُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ - إنْ سُمِّيَ - لِسَبْقِهِ إلَيْهِ كَمَا نَقُولُ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ مَالِكٍ، أَوْ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسَائِلَ سَبَقَاهُ إلَى الْقَوْلِ بِهَا. وَمَنْ تَبَحَّرَ فِي مَذْهَبِ إمَامٍ وَلَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَأَفْتَى عَلَى مَذْهَبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ كَانَ الْمُسْتَفْتِي مُقَلِّدًا لِذَلِكَ الْإِمَامِ، لَا لِلْمُفْتِي. حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ عَنْ شَيْخِهِ الْقَفَّالِ. ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي ". وَجَزَمَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْغِيَاثِيِّ ". وَقَالَ الرَّافِعِيُّ إنَّهُ الْمَشْهُورُ لِلْأَصْحَابِ، إلَّا أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ الْهَرَوِيَّ أَحَدُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يُقَلِّدُ الْمُتَبَحِّرَ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: يَنْبَغِي تَخْرِيجُ هَذَا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ مَا يُخَرِّجُهُ أَصْحَابُنَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

مَسْأَلَةٌ قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ بِوَجْهٍ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ إلَى الدَّعْوَى لَا يُثْمِرُ عِلْمًا، لِأَنَّ صُورَةَ دَعْوَى الْمُحِقِّ صُورَةُ دَعْوَى الْمُبْطِلِ، وَإِنَّمَا يُثْمِرُ بِالدَّلِيلِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": قِيلَ: مَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافِ: أَحَدُهَا - النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ يُسَمَّى تَقْلِيدًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ، وَالثَّانِي - الْمُخَبِّرُ عَنْ الرَّسُولِ. وَالثَّالِثُ - الْمُجْمِعُونَ عَلَى حُكْمٍ، فَتَقْلِيدُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَاجِبٌ. وَالرَّابِعُ الصَّحَابَةُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهَيْنِ فِي تَسْمِيَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ تَقْلِيدًا، قَالَ: وَأَوْلَاهُمَا أَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّسْلِيمُ لِقَوْلِهِ إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ فِي عَدَالَتِهِ فَصَارَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا بِدَلِيلٍ. قَالَ: وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْأُمَّةِ إذَا قَالَتْ قَوْلًا عَنْ إجْمَاعٍ فَهُوَ حُجَّةٌ. وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ: الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ الرَّسُولِ وَالْإِجْمَاعِ، وَالْقَاضِي إلَى الْبَيِّنَةِ، لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ. قُلْت: وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى عِبَارَةٍ كَمَا سَبَقَ.

فَصْلٌ التَّقْلِيدُ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُقَلَّدُ عَالِمًا بِأَنَّ الَّذِي يُقَلِّدُهُ لَا يُخْطِئُ، فِيمَا قَلَّدَهُ فِيهِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَبُولُ بِمُجَرَّدِهِ، كَقَبُولِ الْأَئِمَّةِ عَنْ الرَّسُولِ الْأَحْكَامَ، وَقَبُولِ قَوْلِ الْمُجْمِعِينَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَأَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ تَقْلِيدًا. وَالثَّانِي: قَبُولُهُ عَلَى احْتِمَالِ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ. وَالْعُلُومُ نَوْعَانِ: عَقْلِيٌّ وَشَرْعِيٌّ. الْأَوَّلُ: الْعَقْلِيُّ وَهُوَ الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوُجُودِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ، بَلْ يَجِبُ تَحْصِيلُهَا بِالنَّظَرِ، وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ " عَنْ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الطَّوَائِفِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ فِي التَّوْحِيدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ خَشَى الْمُكَلَّفُ أَنْ يَمُوتَ لَمْ يَجُزْ التَّقْلِيدُ. وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ جَمِيعِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ التَّقْلِيدُ فِيهَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَعْرِفُهُ بِالدَّلِيلِ. وَقَالُوا: الْعَقَائِدُ الْأُصُولِيَّةُ عَقْلِيَّةٌ، وَالنَّاسُ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعَقْلِ. وَقَالَ: وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلَّفَ الْعَوَامُّ لِاعْتِقَادِ الْأُصُولِ بِدَلَائِلِهَا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ، وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ " عَنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِيهَا، تَأَسِّيًا بِالسَّلَفِ، إذْ لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَجْلَافَ الْعَرَبِ بِالنَّظَرِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ

فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِالنَّظَرِ الْمُصْطَلَحُ، مِنْ تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ فَلَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقًا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ النَّظَرُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، مِنْ غَيْرِ هَذَا التَّرْتِيبِ وَالِاصْطِلَاحُ مَمْنُوعٌ، وَكَيْفَ وَقَدْ شَاهَدُوا الْمُعْجِزَةَ، وَأَحْوَالَ الرَّسُولِ، وَالْقَرَائِنُ الَّتِي شَاهَدُوهَا أَفَادَتْهُمْ الْقَطْعَ. وَقِيلَ: بَلْ يَجِبُ التَّقْلِيدُ، وَالِاجْتِهَادُ فِيهِ حَرَامٌ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْأَحْوَذِيِّ " عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ ": لَمْ يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ إلَّا الْحَنَابِلَةُ، وَقَالَ الْإسْفَرايِينِيّ: لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: وَسَأَلْت الْحَنَابِلَةَ فَقَالُوا: مَشْهُورُ مَذْهَبِنَا مَنْعُ التَّقْلِيدِ وَالْغَزَالِيُّ يَمِيلُ إلَيْهِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ " عَنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ كَتَبَةِ الْحَدِيثِ، أَنَّ طَلَبَ الدَّلِيلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُوَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَرَوْنَ الشُّرُوعَ فِي مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ كُفْرًا، وَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ وَالنَّظَرَ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا وَهُوَ طَرِيقٌ إلَى حُصُولِ الْعِلْمِ حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَتَرَدَّدُ، فَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُؤْمِنًا وَزَالَ عَنْهُ كُلْفَةُ طَلَبِ الْأَدِلَّةِ، وَمَنْ أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِ، أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالِاعْتِقَادِ الصَّافِي مِنْ الشُّبْهَةِ وَالشُّكُوكِ، فَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِأَكْلِ أَنْوَاعِ النَّعَمِ وَأَحَلَّهَا، حَتَّى لَمْ يَكِلْهُ إلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، لَا سِيَّمَا الْعَوَامُّ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَجِدُهُ فِي صِيَانَةِ اعْتِقَادِهِ أَكْثَرَ مِمَّنْ شَاهَدَ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ. وَمَنْ كَانَ هَذَا وَصْفُهُ، كَانَ مُقَلِّدًا فِي الدَّلِيلِ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَنَا أَجْمَعُوا، عَلَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي النِّيَّاتِ، بِحَيْثُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الشُّبْهَةِ.

إلَّا مَا يَرِدُ عَلَى صَاحِبِ الِاسْتِدْلَالِ، وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ بِوُجُوبِ النَّظَرِ، ثُمَّ قَالَ: فَلَوْ اعْتَقَدَ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالدَّلِيلِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ، وَإِنْ فَسَقَ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ، وَبِهِ قَالَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ: لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا، حَتَّى يَخْرُجَ فِيهَا عَنْ جُمْلَةِ الْمُقَلِّدِينَ. انْتَهَى. وَقَدْ اُشْتُهِرَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ إيمَانَ الْمُقَلِّدِ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيّ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُحَقِّقِينَ صِحَّتَهُ عَنْهُ، وَقِيلَ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ قَبُولَ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، فَإِنَّ التَّقْلِيدَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَدْ يَكُونُ ظَنًّا، وَقَدْ يَكُونُ وَهْمًا، فَهَذَا لَا يَكْفِي فِي الْإِيمَانِ. أَمَّا التَّقْلِيدُ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ لَا الْمُوجِبِ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْإِيمَانِ، إلَّا أَبُو هَاشِمٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِذَا مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ فِي ذَلِكَ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَبْلُغَ فِيهِ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، بِحَيْثُ يَحِلُّ لَهُ الْفَتْوَى فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إيجَابُ مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ، بَعِيدٌ جِدًّا عَنْ الصَّوَابِ، وَمَتَى أَوْجَبْنَا ذَلِكَ فَمَتَى يُوجَدُ مِنْ الْعَوَامّ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ؟ وَيَصْدُرُ عَقِيدَتُهُ عَنْهُ؟ كَيْفَ وَهُمْ لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ لَمْ يَفْهَمُوهَا، وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَامِّيِّ، أَنْ يَتَلَقَّى مَا يُرِيدُ - أَنْ يَعْتَقِدَهُ وَيَلْقَى [بِهِ] رَبَّهُ - مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَيَتْبَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَيُقَلِّدَهُمْ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَيْهَا بِقَلْبٍ طَاهِرٍ عَنْ الْأَهْوَاءِ وَالْإِدْخَالِ، ثُمَّ يَعَضُّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَلَا يَحُولُ، وَلَا يَزُولُ، وَلَوْ قُطِّعَ إرْبًا، فَهَنِيئًا لَهُمْ السَّلَامَةُ، وَالْبَعْدُ عَنْ الشُّبُهَاتِ الدَّاخِلَةِ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ، وَالْوَرَطَاتِ الَّتِي تَغُولُهَا، حَتَّى أَدَّتْ بِهِمْ إلَى الْمَهَاوِي وَالْمَهَالِكِ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّبُهَاتُ الْعَظِيمَةُ وَصَارُوا مُتَجَرِّئِينَ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِمْ مُتَوَرِّعٌ عَفِيفٌ إلَّا الْقَلِيلَ، فَإِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ وَرَعِ الْأَلْسِنَةِ، وَأَرْسَلُوهَا فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِجُرْأَةٍ وَعَدَمِ مَهَابَةٍ وَحُرْمَةٍ، فَفَاتَهُمْ وَرَعُ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَذَهَبَ

عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَرَعُ اللِّسَانِ، وَالْإِنْسَانُ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَإِذَا خَرِبَ جَانِبٌ مِنْهُ، تَدَاعَى سَائِرُهُ إلَى الْخَرَابِ، وَلِأَنَّهُ مَا مِنْ دَلِيلٍ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ، إلَّا وَلِخُصُومِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ الشُّبْهَةِ الْقَوِيَّةِ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِقَدْرِ مَا يَنَالُ الْمُسْلِمُ بِهِ رَدَّ الْخَاطِرِ، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ إيجَابُ التَّوَصُّلِ إلَى الْعَقَائِدِ فِي الْأُصُولِ، بِالطَّرِيقِ الَّذِي اعْتَقَدُوا، وَسَامُوا بِهِ الْخَلْقَ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ أَدَّى بِهِمْ ذَلِكَ إلَى تَكْفِيرِ الْعَوَامّ أَجْمَعَ، وَهَذَا هُوَ الْخَطِيئَةُ الشَّنْعَاءُ، وَالدَّاءُ الْعُضَالُ، وَإِذَا كَانَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ هُمْ الْعَوَامُّ، وَبِهِمْ قِوَامُ الدِّينِ، وَعَلَيْهِمْ مَدَارُ رَحَى الْإِسْلَامِ، وَلَعَلَّ لَا يُوجَدُ فِي الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ الْمِائَةَ أَلْفٍ، مَنْ يَقُومُ بِالشَّرَائِطِ الَّتِي تَعْتَبِرُونَهَا، إلَّا الْعَدَدَ الْقَلِيلَ الشَّاذَّ الشَّارِدَ النَّادِرَ، وَلَعَلَّهُ لَا يَبْلُغُ عَقْدَ الْعَشَرَةِ، فَمَنْ يَجِدُ الْمُسْلِمُ مِنْ قَبْلَهُ، أَنْ يَحْكُمَ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ أَجْمَعَ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ لَا عَقِيدَةَ لَهُمْ فِي أُصُولٍ أَصْلًا، وَإِنَّهُمْ أَمْثَالُ الْبَهَائِمِ. انْتَهَى. الثَّانِي: الشَّرْعِيُّ: وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفُرُوعِ وَالْمَذَاهِبِ وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ: فِرْقَةٌ أَوْجَبَتْ التَّقْلِيدَ وَفِرْقَةٌ حَرَّمَتْهُ وَفِرْقَةٌ تَوَسَّطَتْ. [الْأَوَّلُ] فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى تَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا، كَالتَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ، وَوَافَقَهُمْ ابْنُ حَزْمٍ، وَكَادَ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّقْلِيدِ، قَالَ وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: (أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي، فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ فَاتْرُكُوهُ) وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: وَدِدْت أَنِّي ضُرِبْت بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَكَلَّمْت فِيهَا بِرَأْيٍ سَوْطًا، عَلَى أَنَّهُ لَا صَبْرَ لِي عَلَى السِّيَاطِ قَالَ: فَهَذَا مَالِكٌ يَنْهَى عَنْ تَقْلِيدِهِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا، فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَتَأْخُذُ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْت عَلَيَّ زُنَّارًا؟ أَرَأَيْتَنِي خَارِجًا مِنْ كَنِيسَةٍ؟ حَتَّى تَقُولَ لِي فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَأْخُذُ بِهَذَا؟

وَلَمْ يَزَلْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كُتُبِهِ يَنْهَى عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ، هَكَذَا رَوَاهُ الْمُزَنِيّ فِي أَوَّلِ " مُخْتَصَرِهِ " عَنْهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا نَهَوْا الْمُجْتَهِدَ خَاصَّةً عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، دُونَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الرُّتْبَةَ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ، وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ لِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ أَرْبَعَ عَشْرَةَ صُورَةً لِلضَّرُورَةِ: وُجُوبَ التَّقْلِيدِ عَلَى الْعَوَامّ، وَتَقْلِيدَ الْقَائِفِ، إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ. وَالثَّانِي يَجِبُ مُطْلَقًا، وَيَحْرُمُ النَّظَرُ، وَنُسِبَ إلَى بَعْضِ الْحَشْوِيَّةِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْحَقُّ، وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ: " لَا يَحِلُّ تَقْلِيدُ أَحَدٍ " مُرَادُهُمْ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سَأَلْت أَبِي، الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَهُ الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ، فِيهَا قَوْلُ الرَّسُولِ وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَيْسَ لَهُ بَصِيرَةٌ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الْمَتْرُوكِ وَلَا الْإِسْنَادِ الْقَوِيِّ مِنْ الضَّعِيفِ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا شَاءَ وَيُفْتِي بِهِ؟ قَالَ: لَا يَعْمَلُ حَتَّى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ عَمَّا يُؤْخَذُ بِهِ مِنْهَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ فَرْضَهُ التَّقْلِيدُ وَالسُّؤَالُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. انْتَهَى. وَأَمَّا تَحْرِيمُهُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] يَعْنِي كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ لَمَّا «قَالَ لَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ، قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ، إلَى مَا يَرْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ» . قَالُوا فَصَوَّبَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ جُمْلَتِهِ التَّقْلِيدَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ يَحْرُمُ عَلَى الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ

أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . قَالَ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِهِ فَسَادِ التَّأْوِيلِ ": تَوْفِيقُ اللَّهِ تَعَالَى لِمُعَاذٍ فِي اجْتِهَادِهِ لِمَا يَرْضَاهُ رَسُولُهُ عِنْدَنَا إنَّمَا هُوَ لِنَظَرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُهُ أَفَرْضَ مَا رَأَيْت فِي الْحَادِثَةِ، لَوَجَبَ فَرْضُ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، قَالَ: وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ كَقَوْلِهِ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67] وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] وَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا وَإِنَّمَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ» قَالَ: وَيُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ: هَلْ لَك مِنْ حُجَّةٍ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، أُبْطِلَ التَّقْلِيدُ، لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدَ وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، قِيلَ لَهُ: فَلِمَ أَرَقْت الدِّمَاءَ، وَأَبَحْت الْفُرُوجَ وَالْأَمْوَالَ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أَصَبْت، وَإِنْ لَمْ أَعْرِفْ الْحُجَّةَ، لِأَنَّ مُعَلِّمِي مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ. قِيلَ لَهُ: تَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِك أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِك، لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْ مُعَلِّمِهِ كَمَا لَمْ يَقُلْ مُعَلِّمُك إلَّا بِحُجَّةٍ قَدْ خَفِيَتْ عَنْك، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ، وَكَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْعَالِمِ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نُقِضَ قَوْلُهُ، وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَغْزَرُ عِلْمًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ.

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ، رَجُلًا، فَإِنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ» . وَأَمَّا وُجُوبُهُ عَلَى الْعَامَّةِ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَقَوْلُهُ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] فَأَمَرَ بِقَبُولِ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِمْ لَمَا كَانَ لِلنِّذَارَةِ مَعْنًى، وَلِقَضِيَّةِ الَّذِي شُجَّ، فَأَمَرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَقَالُوا: لَسْنَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً فَاغْتَسَلَ وَمَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، إنَّمَا كَانَ شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالَ» فَبَانَ بِذَلِكَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي إذَا قَامَ بِهَا الْبَعْضُ، سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، وَلَوْ مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ، لَأَفْضَى إلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ. وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُفْتُونَ الْعَوَامَّ، وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْلِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُجْتَهِدُ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ، إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَكْفِي فِي الْحُكْمِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَذْكُرُ لَهُ مَا يَكْفِي، فَأَسْنَدَ إلَيْهِ الْحُكْمَ

فِي مِثْلِ ذَلِكَ، الْتَزَمَهُ قَطْعًا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فِي بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ: لَوْ وَجَبَ عَلَى الْكَافَّةِ التَّحْقِيقُ دُونَ التَّقْلِيدِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَعْطِيلِ الْمَعَاشِ، وَخَرَابِ الدُّنْيَا، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُقَلِّدًا، وَبَعْضُهُمْ مُعَلِّمًا، وَبَعْضُهُمْ مُتَعَلِّمًا، وَلَمْ تَرْفَعْ دَرَجَةُ أَحَدٍ فِي الْجِنَانِ لِدَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ ثُمَّ دَرَجَةِ الْمُحِبِّينَ وَقَالَ: الْمَصِيرُ فِي الْمُوجِبِ لِتَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ، عَدَمُ آلَةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَتَعَذُّرُهَا عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَالْتِمَاسُ أُصُولِ ذَلِكَ، فَلَوْ تَرَكَهُ حَتَّى يَعْلَمَ جَمِيعَهَا، وَيَسْتَنْبِطَ مِنْهَا لَتَعَطَّلَتْ الْفَرَائِضُ مِنْ الْعَالِمِ حَتَّى يَصِيرُوا كُلُّهُمْ عُلَمَاءَ، وَهَذَا فَاسِدٌ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْعَالِمِ الْبَاحِثِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ قَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ، وَمِنْ هَذَا امْتَنَعَ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لِمِثْلِهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِدَفْعِ التَّقْلِيدِ وُجُودُ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهَا. قُلْت: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَقَائِدِ، أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْعَقَائِدِ الْعِلْمُ، وَالْمَطْلُوبَ فِي الْفُرُوعِ الظَّنُّ، وَالتَّقْلِيدُ قَرِيبٌ مِنْ الظَّنِّ، وَلِأَنَّ الْعَقَائِدَ أَهَمُّ مِنْ الْفُرُوعِ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا كَافِرٌ. وَأَوْرَدَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ شُبْهَةً لِلْمَانِعِينَ مِنْ التَّقْلِيدِ، قَالَ: إنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، وَيَتَمَسَّكُونَ بِالظَّوَاهِرِ، وَيَقُولُونَ: حُكْمُ الْعَقْلِ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، وَلَا يُتْرَكُ هَذَا إلَّا لِنَصٍّ قَاطِعِ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ وَالْعَامِّيُّ الذَّكِيُّ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَإِلَّا نَبَّهَهُ الْمُفْتِي عَلَيْهِ، وَعَلَى النَّصِّ الْقَاطِعِ فِي الْوَاقِعَةِ إنْ جَهِلَهُ، وَلَا يُقَالُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ تَمْنَعُهُ مِنْ الْمَعَاشِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي الِاشْتِغَالُ عَنْهَا يُفْضِي إلَى خَرَابِ الْعَالَمِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إيجَابَ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الدِّينِ، وَلَا يُجَابُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ مَعْرِفَةُ أَدِلَّةِ النُّبُوَّةِ وَالتَّوْحِيدِ جُمْلَةً وَهِيَ سَهْلَةٌ، بِخِلَافِ الْفُرُوعِ لِكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا، لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ جَمِيعَ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ الْجَلِيِّ، فَقَدْ قَلَّدَ فِي بَعْضِهَا، فَيَكُونُ مُقَلِّدًا فِي النَّتِيجَةِ، وَإِنْ عَلِمَهَا وَمَا يَرِدُ فَقَدْ حَصَلَ الِاشْتِغَالُ. وَجَوَابُهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَقْلِيلِ الْأَدِلَّةِ، فَذَلِكَ

يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَمُمَارَسَةٍ، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْعَامِّيِّ. إذَا عَلِمْت هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْسِيمٍ يَجْمَعُ أَفْرَادَ الْمَسْأَلَةِ، وَيَضْبِطُ شُعَبَهَا، فَنَقُولُ: الْعُلُومُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَشْتَرِك فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَيُعْلَمُ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَالْمُتَوَاتِرِ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ لِأَحَدٍ، كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَتَعْيِينِ الصَّلَاةِ، وَتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَالزِّنَى، وَاللِّوَاطِ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَشُقُّ عَلَى الْعَامِّيِّ مَعْرِفَتُهُ، وَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ أَعْمَالِهِ، وَكَذَا فِي أَهْلِيَّةِ الْمُفْتِي. وَنَوْعٌ مُخْتَصٌّ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَاصَّةِ، وَالنَّاسُ فِيهِ ثَلَاثَةُ ضُرُوبٍ: مُجْتَهِدٌ، وَعَامِّيٌّ، وَعَالِمٌ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ. أَحَدُهَا: الْعَامِّيُّ الصِّرْفُ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِفْتَاءُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ جَمِيعِهَا، وَلَا يَنْفَعُهُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعُلُومِ لَا تُؤَدِّي إلَى اجْتِهَادٍ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ عَلَيْهَا تَقْلِيدُ عُلَمَائِهَا، وَأَنَّهُمْ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فِي الْقِبْلَةِ، نَقَلَ لَك مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا بِغَيْرِهِ بِمَعْنًى مَا يَدِينُ بِهِ. انْتَهَى. وَمَنَعَ مِنْهُ بَعْضُ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ، كَالتَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ، وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ عَلَى طَرِيقِ الْحُكْمِ وَعِلَّتِهِ، وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْعَالِمِ، إلَّا لِتَنْبِيهِهِ عَلَى أُصُولِهَا، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ الْجَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ، وَابْنِ حَرْبٍ مِنْهُمْ عَنْ الْجُبَّائِيُّ: يَجُوزُ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ دُونَ مَا طَرِيقُهُ الْقَطْعُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِثْلَ الْعَقْلِيَّاتِ وَنَحْوِهِ. قَوْلُ الْأُسْتَاذِ: يَجِبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ عِلْمِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِي الْفِقْهِ يُدْرِكُهَا الْقَطْعُ، وَيَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ فِي ظَنِّيَّاتِهِ إلَى الْقَطْعِيَّاتِ، الْفُرُوعُ بِالْأُصُولِ. وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ الْخِلَافَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ: مَنْ صَارَ لَهُ التَّقْلِيدُ،

لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنْ الدَّلِيلِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ بِدَلِيلِهَا. وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ الْمَسَائِلَ الظَّاهِرَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهَا دُونَ الْخَفِيَّةِ. انْتَهَى. وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ وَظِيفَةَ الْعَامِّيِّ التَّقْلِيدُ جَاءَ الْخِلَافُ السَّابِقُ أَنَّهُ هَلْ هُوَ تَقْلِيدٌ حَقِيقَةً؟ فَالْقَاضِي يَمْنَعُهُ وَيَقُولُ إنَّمَا مُسْتَدِلٌّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعَ الْعَالِمِ، وَهُوَ خِلَافٌ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّقْلِيدِ لَمْ يَرَ إلَّا هَذَا، وَلَكِنَّ لِسَانَ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ جَرَى عَلَى صِحَّةِ إطْلَاقِ التَّقْلِيدِ لِلْعَامِّيِّ، وَالنَّهْيُ عَنْ إطْلَاقِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: الْعَالِمُ الَّذِي حَصَّلَ بَعْضَ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ وَلَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ: فَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَالْعَامِّيِّ الصِّرْفِ، لِعَجْزِهِ عَنْ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِهِ، لِأَنَّ صَلَاحِيَّةَ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَيَجِيءُ عَلَيْهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ عَنْ الْجُبَّائِيُّ وَالْأُسْتَاذِ هُنَا مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. وَمَا أَطْلَقُوهُ مِنْ إلْحَاقِهِ هُنَا بِالْعَامِّيِّ فِيهِ نَظَرٌ. لَا سِيَّمَا أَتْبَاعُ الْمَذَاهِبِ الْمُتَبَحِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُنَصِّبُوا أَنْفُسَهُمْ نَصَبَةَ الْمُقَلِّدِينَ. وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَسْنَا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ الْإِشْكَالُ فِي إلْحَاقِهِمْ بِالْمُجْتَهِدِينَ، إذْ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدٌ مُجْتَهِدًا. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا. لِأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا سِوَى حَالَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ مُلْتَزِمُونَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا. أَمَّا كَوْنُهُمْ مُجْتَهِدِينَ فَلِأَنَّ الْأَوْصَافَ قَائِمَةٌ بِهِمْ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُلْتَزِمِينَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا فَلِأَنَّ إحْدَاثَ مَذْهَبٍ زَائِدٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لِفُرُوعِهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ مُبَايِنَةٌ لِسَائِرِ قَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُتَعَذِّرُ الْوُجُودِ، لِاسْتِيعَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ

سَائِرَ الْأَسَالِيبِ. نَعَمْ، لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ تَقْلِيدُ إمَامٍ فِي قَاعِدَةٍ، إذَا ظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ مَذْهَبِ غَيْرِ إمَامِهِ فِي وَاقِعَةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ إمَامَهُ، لَكِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مُسْتَبْعَدٌ، لِكَمَالِ نَظَرِ مَنْ قَبْلَهُ. وَسَبَقَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ كَلَامٌ لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَبْلُغَ الْمُكَلَّفُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ: فَإِنْ كَانَ اجْتَهَدَ فِي الْوَاقِعَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا، خِلَافُ مَا ظَنَّهُ، بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ ظَنَّهُ لَا يُسَاوِي الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْعَمَلُ بِأَقْوَى الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ. وَ [لَوْ] خَالَفَ وَحَكَمَ بِخِلَافِ ظَنِّهِ فَقَدْ أَثِمَ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا لِغَيْرِهِ. وَهَلْ يُنْتَقَضُ حُكْمُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِلْحَنَابِلَةِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ ". وَهُوَ يَقْدَحُ فِي نَقْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ الِاتِّفَاقَ عَلَى بُطْلَانِ حُكْمِهِ. وَاسْتَثْنَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَا إذَا كَانَ حُكْمًا يَجِبُ هَلْ أَوْ عَلَيْهِ يَحْتَاجُ فِي فَصْلِهِ إلَى حَاكِمٍ بَيْنَهُمَا بِاجْتِهَادِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ اجْتَهَدَ فَفِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا: الْأَوَّلُ - الْمَنْعُ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ

الْوَقْتُ مُوَسَّعًا أَوْ مُضَيَّقًا، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْبَحْرِ " وَكَذَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ خَلَا ابْنِ سُرَيْجٍ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ النَّصُّ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَالثَّانِي يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ قَالَ الْكَرْخِيّ: يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ قَالَ: وَلِهَذَا جَوَّزَ تَقْلِيدَ الْقَاضِي فِيمَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ تَمَسُّكَاتِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: حَكَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ أَنَّ مَذْهَبَنَا ذَلِكَ، وَلَا نَعْرِفُ. وَالثَّالِثُ - يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ فَقَطْ، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ تَقْلِيدِهِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعُثْمَانَ وَغَيْرَهُمَا. وَقَدْ أَجَابَ الرُّويَانِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ تَقْلِيدًا وَإِنَّمَا هُوَ اتِّفَاقُ رَأْيِهِ لِرَأْيِهِمْ وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي عُثْمَانَ بِالتَّقْلِيدِ. وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَلَا يُقَلَّدُ أَحَدٌ بَعْدَهُمْ غَيْرَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَاسْتَغْرَبَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ. وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَرْجَحَ فِي نَظَرِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي نَظَرِهِ فِيهَا تَخَيَّرَ فِي التَّقْلِيدِ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ عَدَاهُمْ. وَعَزَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ إلَى الشَّافِعِيِّ. وَالْخَامِسُ - يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَالسَّادِسُ - يُقَلِّدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَلَا يُقَلِّدُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ. وَنَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَقَالَ: إنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَمَنْ يُقَوِّيهِ

رَأْيُ الْآخَرُ فِي نَفْسِهِ عَلَى رَأْيِهِ لَفَضَلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَخْلُ فِي تَقْلِيدِهِ إيَّاهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الِاجْتِهَادِ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " وَالرُّويَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَكَذَا إلْكِيَا. قَالَ، وَرُبَّمَا قَالَ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَعَنْ هَذَا أَوْجَبَ قَوْمٌ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَشَرَطَ مَعَهُ ضِيقَ الْوَقْتِ. وَالسَّابِعُ - يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ دُونَ مَا يُفْتِي بِهِ، حَكَاهُ ابْنُ الْقَاصِّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَالثَّامِنُ - يَجُوزُ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ فِيمَا يَخُصُّهُ إذَا خَشَى فَوَاتَ الْوَقْتِ فِيهَا بِاشْتِغَالِهِ بِالْحَادِثَةِ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ سُرَيْجٍ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُمْ إذَا كَانُوا فِي سَفِينَةٍ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِمْ جِهَةُ الْقِبْلَةِ قَلَّدُوا الْمَلَّاحِينَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الصَّلَاةِ: فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَهُوَ كَالْأَعْمَى، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ جَعَلَهُ كَالْأَعْمَى فِي الصَّلَاةِ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ ثُمَّ يُعِيدُ، لَيْسَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ. وَقَدْ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ ثُمَّ غَلَّطَهُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقِيلَ، إنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ الِاجْتِهَادِ فَلَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا قَرِيبٌ لِأَنَّ الْمُكْنَةَ الَّتِي جَعَلْنَاهَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ قَدْ تَعَذَّرَتْ بِسَبَبِ تَضَيُّقِ الْوَقْتِ. وَقَدْ نَفَى الْقَفَّالُ الْخِلَافَ بَيْنَ الْأَصْحَابِ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّقْلِيدِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّ الْمَحْكِيَّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ نَقَلَهُ عَنْ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ " سَمَاعًا مِنْهُ. وَالتَّاسِعُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي فِي الْمُشْكِلِ عَلَيْهِ. حَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا قَالَ: لِأَنَّهُ فِي الْمُشْكِلِ عَلَيْهِ كَالْعَامِّيِّ، وَلَكِنَّ الْحَاكِمَ لَا ضَرُورَةَ لَهُ إلَى التَّقْلِيدِ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْأَقَاوِيلِ وَتَوَلِّي غَيْرِهِ الْحُكْمَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي يُفَوِّضُ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ إذَا حَلَّتْ بِهِ نَازِلَةٌ، فَإِنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، فَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَلَمْ

يَصِلْ إلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ إلَّا بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ السَّابِعِ. وَالْعَاشِرُ - أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ، فَإِنَّهُ نَصَّبَ الْخِلَافَ فِي حَاكِمٍ تَحْضُرُهُ الْحَادِثَةُ وَيَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ الِاجْتِهَادِ. وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالتَّقْلِيدِ وَلَا يُفْتِيَ بِهِ إلَّا بَعْدَ اجْتِهَادِهِ، قَالَ: وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ لَهُ الْحُكْمُ بِالتَّقْلِيدِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ الْإِفْتَاءُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَ حَتَّى يَجْتَهِدَ أَوْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ اجْتَهَدَ فِيهِ قَبْلَهُ. انْتَهَى. وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْإِفْتَاءِ مَحَلُّ وِفَاقٍ. وَجَعَلَ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ الْخِلَافَ فِي تَقْلِيدِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقَلِّدَهُ لِيُفْتِيَ غَيْرَهُ أَوْ يَحْكُمَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ: إنْ حَضَرَ مَا يَنُوبُهُ، كَالْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسَافِرِينَ وَهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ جَازَ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَيَحْكُمَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرُدَهُ فِي الْفَتْوَى. وَخَالَفَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمُسْتَفْتِي بِسَبِيلٍ مِنْ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ. وَلَا ضَرُورَةَ إذًا وَلَا حَاجَةَ بِإِفْتَاءِ الْمُقَلِّدِ، وَلَا كَذَلِكَ الْحَاكِمُ، خُصُوصًا إذَا مَنَعَ مِنْ الِاسْتِخْلَافِ. الْحَادِيَ عَشَرَ - الْوَقْفُ. وَبِهِ يُشْعِرُ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ. وَالْأَمْرَانِ يَسُوغَانِ فِي الْعَقْلِ وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي الشَّرْعِ وُجُوبُ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ لِلْمُجْتَهِدِ الِاجْتِهَادَ، فَهَذَا الْوَاجِبُ لَا يَزُولُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَنُوزِعَ فِي الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْمُجَوِّزَ يَقُولُ: الْوَاجِبُ إمَّا الِاجْتِهَادُ وَإِمَّا التَّقْلِيدُ، فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ الْوَقْفُ. فَرْعٌ لَوْ كَانَ لِمُجْتَهِدٍ حُكُومَةٌ، فَحَكَمَ حَاكِمًا فِيهَا يُخَالِفُ اجْتِهَادَهُ، فَإِنَّهُ يَتَدَيَّنُ

مسألة في مجتهد الصحابة

فِي الْبَاطِنِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَبِتَرْكِ اجْتِهَادِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، ذَكَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: يَعْمَلُ فِي الْبَاطِنِ بِنَقِيضِ اجْتِهَادِهِ، ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ " وَعَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ أَنَّهُ: هَلْ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَا كَانَ حَرَامًا فِي نَظَرِهِ؟ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ هَلْ يُغَيِّرُ مَا فِي الْبَاطِنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَهُمَا الْتِفَاتٌ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَمْ لَا؟ . [مَسْأَلَةٌ فِي مُجْتَهِدُ الصَّحَابَةِ] مَسْأَلَةٌ مُجْتَهِدُ الصَّحَابَةِ إذَا لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ حُجَّةً فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ خِلَافٌ: ذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُقَلِّدُهُ، وَنَقَلَهُ عَنْ إجْمَاعِ الْمُحَقِّقِينَ، قَالُوا: وَلَيْسَ هَذَا لِأَنَّ دُونَ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ الصَّحَابَةِ، مَعَاذَ اللَّهِ: فَهُمْ أَعْظَمُ وَأَجَلُ قَدْرًا، بَلْ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ لَمْ يَثْبُتْ حَقَّ الثُّبُوتِ كَمَا ثَبَتَتْ مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ قَدْ طَبَقُوا الْأَرْضَ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَهْذِيبِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يُقَرِّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ أُصُولًا تَفِي بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا، بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ كَفَوْا النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَسَبَرُوا وَنَظَرُوا وَأَكْثَرُوا أَوْضَاعَ الْمَسَائِلِ. وَنَازَعَ الْمُقْتَرَحُ وَقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ سَبْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وُجُوبُ تَقْلِيدِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ جَمَعَ سَبْرًا أَكْثَرَ مِنْهُمْ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبَعَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ عَلَى قَضِيَّةِ هَذَا. قَالَ: إنَّمَا الظَّاهِرُ فِي التَّعْلِيلِ فِي الْعَوَامّ أَنَّهُمْ لَوْ كُلِّفُوا تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ لَكَانَ فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ مَا لَا يُطِيقُونَ مِنْ تَعْطِيلِ مَعَاشِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلِهَذَا سَقَطَ عَنْهُمْ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ

قُلْت: وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ فَأَحْسَنَ فِيهَا الْجَوَابَ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ مَا مَعْنَاهُ: مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ لِتُحْسِنَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ أَرَدْنَا فِقْهَهُمْ لَمَا أَدْرَكَهُ عُقُولُنَا. رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ ". وَمَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَلَكِنْ لِغَيْرِ هَذَا الْمَأْخَذِ فَقَالَ مَا حَاصِلُهُ: إنَّهُ يَتَطَرَّقُ إلَى مَذْهَبِ الصَّحَابَةِ احْتِمَالَاتٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَامِّيُّ مَعَهَا مِنْ التَّقْلِيدِ: مِنْ قُوَّةِ عِبَارَاتِهِمْ وَاسْتِصْعَابِهَا عَلَى أَفْهَامِ الْعَامَّةِ. وَمِنْهَا: احْتِمَالُ رُجُوعِ الصَّحَابِيِّ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، كَمَا وَقَعَ لِعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا. - وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ قَدْ انْعَقَدَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ. - وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ إسْنَادُ ذَلِكَ إلَى الصَّحَابَةِ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَذَاهِبِ الْمُصَنِّفِينَ فَإِنَّهَا مُدَوَّنَةٌ فِي كُتُبِهِمْ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِنَقْلِهَا عَنْ الْأَئِمَّةِ، فَلِهَذِهِ الْغَوَائِلِ حَجَرْنَا عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ. ثُمَّ وَرَاءَ ذَلِكَ غَائِلَةٌ هَائِلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ الْوَاقِعَةَ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ هِيَ الْوَاقِعَةُ الَّتِي أَفْتَى فِيهَا الصَّحَابِيُّ وَيَكُونُ غَلَطًا، لِأَنَّ تَنْزِيلَ الْوَقَائِعِ عَلَى الْوَقَائِعِ مِنْ أَدَقِّ وُجُوهِ الْفِقْهِ وَأَكْثَرِهَا لِلْغَلَطِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَتَأَهَّلُ لِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ قَرِيبٌ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَهَّلُ لِلْعَمَلِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَنُصُوصِهِ وَظَوَاهِرِهِ. إمَّا لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِقَوْلِ الشَّارِعِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ فِي عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ يَكَادُ يَكُونُ حُجَّةً، فَامْتِنَاعُ تَقْلِيدِهِ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ لَا لِنُزُولِهِ. وَأَمَّا ابْنُ الصَّلَاحِ فَجَزَمَ فِي كِتَابِ الْفُتْيَا " بِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَزَادَ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ التَّابِعِينَ أَيْضًا وَلَا مَنْ لَمْ يُدَوَّنْ مَذْهَبُهُ، وَإِنَّمَا يُقَلِّدُ الَّذِينَ دُوِّنَتْ مَذَاهِبُهُمْ وَانْتَشَرَتْ حَتَّى ظَهَرَ مِنْهَا تَقْيِيدُ مُطْلَقِهَا وَتَخْصِيصُ عَامِّهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ نُقِلَتْ عَنْهُمْ الْفَتَاوَى مُجَرَّدَةً، فَلَعَلَّ لَهَا مُكَمِّلًا أَوْ مُقَيِّدًا أَوْ مُخَصِّصًا، أَوْ أُنِيطَ كَلَامُ قَائِلِهِ، فَامْتِنَاعُ التَّقْلِيدِ إنَّمَا هُوَ لِتَعَذُّرِ نَقْلِ حَقِيقَةِ مَذْهَبِهِمْ.

وَعَلَى هَذَا فَيَنْحَصِرُ التَّقْلِيدُ فِي الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ. وَإِسْحَاقَ وَدَاوُد عَلَى خِلَافٍ فِي دَاوُد حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ ذَوُو الْأَتْبَاعِ. وَلِأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ جَرِيرٍ أَتْبَاعٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا. وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى [أَنَّ] الصَّحَابَةَ يُقَلَّدُونَ لِأَنَّهُمْ قَدْ نَالُوا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَهُمْ بِالصُّحْبَةِ يَزْدَادُونَ رِفْعَةً. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ إنْ عُلِمَ دَلِيلُهُ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي فَتَاوِيهِ " إذَا صَحَّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَذْهَبٌ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْضَحَ مِنْ دَلِيلِهِ. وَقَدْ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ إنَّ تَحَقُّقَ ثُبُوتِ مَذْهَبٍ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ تَقْلِيدُهُ وِفَاقًا، وَإِلَّا فَلَا، [لَا] لِكَوْنِهِ لَا يُقَلَّدُ، بَلْ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ لَمْ يَثْبُتْ حَقَّ الثُّبُوتِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ يَنْبَنِي عَلَى جَوَازِ الِانْتِقَالِ فِي الْمَذَاهِبِ فَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ: مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ لَمْ تَكْثُرْ فُرُوعُهَا حَتَّى يُمْكِنَ الْمُكَلَّفُ الِاكْتِفَاءَ بِهَا فَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إلَى الِانْتِقَالِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَمَذَاهِبُ الْمُتَأَخِّرِينَ ضُبِطَتْ، فَيَكْفِي الْمَذْهَبُ الْوَاحِدُ الْمُكَلَّفَ طُولَ عُمُرِهِ، فَيَكْمُلُ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ مَنْعُ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ إلْكِيَا، بَعْدَ أَنَّ قَرَّرَ مَنْعَ الِانْتِقَالِ: الْوَاحِدُ مِنَّا لَا يَأْخُذُ بِمَذْهَبِ الصَّحَابَةِ إذَا كَانَ مُقَلِّدًا، بَلْ يَأْخُذُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأُصُولَ الَّتِي وَضَعَهَا أَبُو بَكْرٍ لَا تَفِي بِمَجَامِعِ الْمَسَائِلِ. وَأَمَّا الْأُصُولُ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَهِيَ وَافِيَةٌ بِهَا. فَلَوْ قُلْنَا بِتَقْلِيدِ الصِّدِّيقِ فِي حُكْمٍ لَزِمَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ فِي حُكْمٍ آخَرَ، وَقَدْ لَا يَجِدُهُ. مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِالتَّقْلِيدِ أَوْجَبُوا التَّقْلِيدَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَمُسْتَنَدُهُمْ فِيهِ أَنَّهُمْ

اسْتَوْعَبُوا الْأَسَالِيبَ الشَّرْعِيَّةَ فَلَمْ يَبْقَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أُسْلُوبٌ مُتَمَاسِكٌ عَلَى السَّبْرِ. وَلِهَذَا لَمَّا أَحْدَثَتْ الظَّاهِرِيَّةُ وَالْجَدَلِيَّةُ بَعْدَهُمْ خِلَافَ أَسَالِيبِهِمْ قَطَعَ كُلُّ مُحَقِّقٍ أَنَّهَا بِدَعٌ وَمَخَارِقُ لَا حَقَائِقَ. لَكِنَّ الْجَدَلِيَّةَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَثْبُتُ بِتِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْجَدَلِيَّةِ، وَإِنَّمَا عُمْدَتُهُمْ فِي اسْتِحْدَاثِهَا تَمْرِينُ الْأَذْهَانِ وَتَفْتِيحُ الْأَفْكَارِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُسْتَنَدَاتٌ وَحُجَجٌ عِنْدَ اللَّهِ يَلْقَى بِهَا فَلَا. وَأَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ فَلَمَّا أَحْدَثُوا قَوَاعِدَ تُخَالِفُ قَوَاعِدَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَتْ بِهِ إلَى الْمُنَاقَضَةِ لِمَجْلِسِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمَّا اجْتَرَءُوا عَلَى دَعْوَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ غَيْرَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ أُخْرِجُوا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَلَمْ يَعُدَّهُمْ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَحْزَابِ الْفُقَهَاءِ، وَسَبَقَ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ؟ وَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ أَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى اتِّبَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لِأَنَّهُمْ سَبَقُوهُمْ بِالْبُرْهَانِ حَتَّى لَمْ يُبْقُوا لَهُمْ بَاقِيَةً يَسْتَبِدُّونَ بِهَا، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَلَكِنَّ الْفَضْلَ لِلْمُتَقَدِّمِ، وَظَهَرَ بِهَذَا تَعَذُّرُ إثْبَاتِ مَذْهَبٍ مُسْتَقِلٍّ بِقَوَاعِدَ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِ الْمُحِيطِ ": إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْتَحِلَ نِحْلَةَ الشَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَوْعِ اجْتِهَادٍ، وَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِّيِّ، فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ: فُلَانٌ يَتَّبِعُ السُّنَنَ وَفُلَانٌ يُخَالِفُهَا بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِحْسَانِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ لَهُ: خَرَجَ لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الْجُهَّالَ مَمْنُوعُونَ مِنْ التَّقْلِيدِ فِي شَيْئَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَصْلُ التَّوْحِيدِ، وَ (الثَّانِي) أَصْلُ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ مَا الَّذِي أَوْجَبَ عَلَى قَوْمٍ اخْتِيَارَ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ

دُونَ غَيْرِهِ؟ فَذَهَبَ أَصْحَابُ دَاوُد وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّا إنَّمَا رَجَعْنَا إلَى مَذَاهِبِهِمْ وَالْأَخْذِ بِأَقَاوِيلِهِمْ وَالْعَمَلِ بِفَتَاوَاهُمْ تَقْلِيدًا لَهُ، وَلَا يَجِبُ الْفَحْصُ وَالْبَحْثُ عَنْ الْأَدِلَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ دُونَ قَوْلِ غَيْرِهِمْ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ الْعِصْمَةَ فِي جَمِيعِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَقَالَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّا إنَّمَا صِرْنَا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّا وَجَدْنَاهُ أَهْدَى النَّاسِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَأَكْمَلَهُمْ آلَةً وَهِدَايَةً فِيهِ، فَلَمَّا كَانَتْ طَرِيقَتُهُ أَسَدَّ الطُّرُقِ سَلَكْنَاهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْفَتَاوَى، لَا أَنَّا قَلَّدْنَاهُ: أَمَّا فِي اللُّغَةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ فَلِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ الْأَئِمَّةِ بِذَلِكَ، بَلْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الْأُصُولِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ حَتَّى وَرَدَ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ فَزِعَ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنْ يَذْكُرُوا فَضْلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ لِأَجْلِ مَالِكٍ، وَمِنْهُ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا بَلْ جَمِيعُ مَا عَوَّلَ عَلَيْهِ مَالِكٌ حَفِظَهُ الشَّافِعِيُّ وَزَادَ عَلَيْهِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَقْدَمَ فِي هَذِهِ الصَّنْعَةِ مِنْ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ. وَأَمَّا الْآي وَالسُّنَنُ وَالْآثَارُ فَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بِهَا. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَدَعْوَى انْتِفَاءِ التَّقْلِيدِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَحَاطُوا بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ. وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ عَامِّيٍّ تَقْلِيدُهُ، وَتَابَعَهُمَا عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ. وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ إلَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ

مِنْ غَيْرِهِمْ تَقْلِيدًا فَيَتَعَيَّنُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَطْنَبَ فِي وَصْفِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، وَهَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَكَأَنَّ ابْنَ حَزْمٍ يَدَّعِي أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَقْلِيدٍ فَلْيُقَلَّدْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَالتَّقْلِيدُ إنَّمَا اُبْتُدِئَ بِهِ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَاحِدٌ فَصَاعِدًا يُقَلِّدُ عَالِمًا بِعَيْنِهِ لَا يُخَالِفُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ: وَقَدْ ذَكَرَ قَوْمٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ فِي تَفْضِيلِ أَئِمَّتِهِمْ. وَأَحَقُّ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَتْ أُمُّ الْكَمَلَةِ عَنْ بَنِيهَا: ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْت أَعْلَمُ أَيَّهُمْ أَفْضَلَ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا. فَمَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا تَجَرَّدَ النَّظَرُ إلَى خَصَائِصِهِ إلَّا وَيَفْنَى الزَّمَانُ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهِمْ فَضْلَةٌ لِتَفْضِيلٍ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا سَبَبُ هُجُومِ الْمُفَضَّلِينَ عَلَى التَّعْيِينِ لِأَجْلِ غَلَبَةِ الْعَادَةِ، فَلَا يَكَادُ يَسَعُ ذِهْنُ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لِتَفْضِيلِ غَيْرِ مُقَلِّدِهِ إلَى ضِيقِ الْأَذْهَانِ عَنْ اسْتِيعَابِ خَصَائِصِ الْمُفَضَّلِينَ جَاءَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ كُلَّ آيَةٍ إذَا جُرِّدَ النَّظَرُ إلَيْهَا قَالَ النَّاظِرُ حِينَئِذٍ: هَذِهِ أَكْبَرُ الْآيَاتِ، وَإِلَّا فَمَا يُتَصَوَّرُ فِي آيَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، لِتَنَاقُضِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَالْمَفْضُولِيَّةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ انْخَرَقَتْ بِهِمْ الْعَادَةُ، عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ، عِنَايَةً مِنْ اللَّهِ بِهِمْ، فَإِذَا قِيسَ أَحْوَالُهُمْ بِأَحْوَالِ أَقْرَانِهِمْ كَانَتْ خَارِقَةً لِعَوَائِدِ أَشْكَالِهِمْ. مَسْأَلَةٌ مَنْ قَلَّدَ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ ارْتَفَعَ قَلِيلًا إلَى دَرَجَةِ الْفَهْمِ وَالِاسْتِبْصَارِ، فَإِذَا رَأَى حَدِيثًا مُحْتَجًّا بِهِ يُخَالِفُ رَأْيَ إمَامِهِ وَقَالَ بِهِ قَوْمٌ، فَهَلْ لَهُ الِاجْتِهَادُ؟ وَفِي

ذَلِكَ أَطْلَقَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِالْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَقَدْ قَالَ: إذَا رَأَيْتُمْ قَوْلِي بِخِلَافِ قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَخُذُوا بِهِ، وَدَعُوا قَوْلِي. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: قَدْ اعْتَمَدَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ، وَالْعِلْمُ بِعَدَمِ الْمُعَارِضِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ اسْتِقْرَاءِ الشَّرِيعَةِ، حَتَّى يُحْسِنَ أَنْ يُقَالَ: لَا مُعَارِضَ لِهَذَا الْحَدِيثِ، أَمَّا اسْتِقْرَاءُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَرَافِيُّ تَحْجِيرٌ، وَمَا يُرِيدُ بِ " انْتِفَاءِ " الْمُعَارِضِ إنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَبَاطِلٌ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُصَوِّبَةِ فَبَاطِلٌ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ " أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ " فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ إذَا كَانَ لَهُ الْحُكْمُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ دَلِيلٌ، ثُمَّ يَقُولُ: " إذَا صَحَّ حَدِيثٌ أَقْوَى مِمَّا عِنْدِي، فَذَلِكَ مَذْهَبِي، فَخُذُوا بِهِ، وَاتْرُكُوا قَوْلِي " فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا مَعَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ؟ ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا جَمْعٌ مِنْ الْأَصْحَابِ، كَالْبُوَيْطِيِّ وَالدَّارَكِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَصْحَابِ، وَلَيْسَ هَذَا بِالْهَيِّنِ، فَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهِ يُسَوِّغُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ عَمِلَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ الْجَارُودِ بِحَدِيثٍ تَرَكَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَجَابَ عَنْهُ، وَهُوَ حَدِيثُ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» ، وَعَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُ سُنَّةً لِلرَّسُولِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُودِعْهَا الشَّافِعِيُّ كِتَابَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: إنْ كَانَ فِيهِ آلَاتُ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، أَوْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، كَانَ لَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالْعَمَلِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَإِنْ لَمْ تَكْتَمِلُ آلَتُهُ، وَوَجَدَ فِي قَلْبِهِ حَزَازَةً مِنْ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ مُعَارِضًا بَعْدَ الْبَحْثِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ فَلَهُ التَّمَذْهُبُ بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ قَوْلِ إمَامِهِ، وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ

إنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِمَنْ لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مُطَالَعَةِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ كُلِّهَا، وَنَحْوِهَا مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ الْآخِذِينَ عَنْهُ، وَهَذَا شَرْطٌ صَعْبٌ، قَلَّ مَنْ يَتَّصِفُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ: إنْ كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ لِلِاسْتِنْبَاطِ، لِمَعْرِفَتِهِ بِالْقَوَاعِدِ، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْمَنْقُولِ، بِحَيْثُ عَرَفَ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ إجْمَاعٍ أَوْ اخْتِلَافٍ، وَجَمَعَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا، وَالْأَدِلَّةَ، وَرُجْحَانَ الْعَمَلِ بِبَعْضِهَا، فَهَذَا هُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْجُزْئِيِّ، وَالْمُتَّجَهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا قَامَ عِنْدَهُ عَلَى الدَّلِيلِ، وَلَا يُسَوَّغُ لَهُ التَّقْلِيدُ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْبَاحِثُ عَنْ حَالِ الْأَئِمَّةِ الْمَنْقُولِ أَقَاوِيلُهُمْ، وَعُدُّوا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ أَنَّهُمْ إنَّمَا عُدُّوا لِذَلِكَ لِاسْتِجْمَاعِهِمْ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْكُلِّيَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَأَحَاطُوا بِأَدِلَّةِ جُمْلَةِ غَالِبٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِ جَمْعٍ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ عَدَمُ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّقُ الْقَوْلَ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ، كَذَا، وَإِنْ صَحَّ قُلْت بِهِ، ثُمَّ يَجِدُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ قَدْ صَحَّتْ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ قَدْ صَحَّ، أَوْ يُعَلِّلُ رَدَّ الْحَدِيثِ بِعِلَّةٍ ظَهَرَتْ لَهُ يَظْهَرُ انْتِفَاؤُهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْأَئِمَّةِ كَثِيرٌ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ كَثُرَ أَخْذُهُ بِالرَّأْيِ وَتَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَوْصُوفُ يُقَلِّدُ الْإِمَامَ فِي مَسَائِلَ يُسَوَّغُ لَهُ التَّقْلِيدُ فِيهَا، وَقَعَ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَى الدَّلِيلِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ، بَلْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَالتَّرْجِيحِ، وَفِيهِ قُصُورٌ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلَكِنْ جَمَعَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، وَعَرَفَ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، لِهَذَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِقَوْلِ إمَامِهِ، وَلَا بِهَذَا الدَّلِيلِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ، وَيَنْبَغِي لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ

الْحَدِيثُ فِي جَانِبِهِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ اطِّلَاعَ إمَامِهِ عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ لِعِلَّةٍ فِيهِ، أَوْ لِوُجُودِ أَقْوَى مِنْهُ. أَمَّا إنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَلَمْ يَجْمَعْ أَدِلَّةَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، بَلْ رَأَى فِيهَا حَدِيثًا يَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ فَهَذَا لَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ حُجَّةَ إمَامِهِ، كَمُخَالَفَةِ مَالِكٍ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ بِطَرِيقِهِ فَلْيَعْمَلْ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَ إجْمَالًا، أَنَّ لِإِمَامِهِ أَوْ لِمَنْ خَالَفَ الْعَمَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَدِلَّةً، يَجُوزُ مَعَهَا الْمُخَالَفَةُ أَوْ يَقْوَى، فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يَتَرَجَّحُ مُخَالَفَةُ إمَامِهِ، وَلَهُ تَقْلِيدُ الْقَائِلِ بِالْحَدِيثِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ. الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَعْلَمَ الْحُجَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ إجْمَالًا وَلَا تَفْصِيلًا، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُخَالِفِ حُجَّةٌ تَسُوغُ مَعَهَا الْمُخَالَفَةُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَجْمَعْ أَدِلَّةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا وَاسْتِدْلَالًا، فَالْأَوْلَى بِهَذَا تَتَبُّعُ الْمَآخِذِ، فَإِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ مَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ مِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى تَقْلِيدًا لِمَنْ عَمِلَ بِهِ، وَلَهُ الْبَقَاءُ عَلَى تَقْلِيدِ إمَامِهِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا اُسْتُقْرِئَ مِنْ أُصُولِ الصَّحَابَةِ وَمُقَلِّدِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى مَنْ اسْتَفْتَاهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ، وَسَأَلَ غَيْرَهُمْ عَنْ أُخْرَى، أُمِرَ بِالْعَوْدِ إلَى مَنْ قَلَّدَ قَبْلَ ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ الْبَارِعُ فِي الْمَذْهَبِ وَمَآخِذِهِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ أَوْ يَحْكُمَ بِالْوُجُوهِ الْمَرْجُوحَةِ إذَا قَوِيَ مُدْرِكُهَا؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَيَحْتَمِلُ أَوْجُهًا. (مِنْهَا) التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَفْتَى بِهِ، فَيَجُوزُ. أَوْ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ، وَالِاحْتِمَالِ، وَتَبَيَّنَ الْمَأْخَذُ فَلَا.

وَ (مِنْهَا) وَهُوَ الْأَقْرَبُ، التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ، كَجَرَيَانِ الرَّبَّا فِي الْفُلُوسِ إذَا رَاجَتْ رَوَاجَ النُّقُودِ، وَبُطْلَانِ بَيْعِ الْعَيِّنَةِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ اتَّخَذَهُ عَادَةً، وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّرْخِيصِ وَالتَّخْفِيفِ فَمُمْتَنِعٌ، وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَبَحُّرِ ذَلِكَ الْمُفْتِي أَوْ الْحَاكِمِ فِي الْمَذْهَبِ وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ قَطْعًا. وَحَيْثُ جَازَ فَلَا يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ فَالْوَجْهُ أَوْلَى، وَهُوَ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ نَصٌّ بِخِلَافِهَا أَوْلَى، وَلِهَذَا قَالَ الْقَفَّالُ فِي " فَتَاوِيهِ ": لَوْ قَالَ بِعْتُك صَاعًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تُفْتِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَقَالَ: عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ مَنْ يَسْأَلُنِي إنَّمَا يَسْأَلُنِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لَا عَنْ مَذْهَبِي. انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ، أَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَقَوِيَ عِنْدَهُ مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْلِيدُهُ، لَكِنَّ وُقُوعَ هَذَا نَادِرٌ، لِأَنَّ نَظَرَ الْأَئِمَّةِ، كَانَ نَظَرًا مُتَنَاسِبًا مُفَرَّعًا فِي كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى قَوَاعِدَ لَا تَنْخَرِمُ. مَسْأَلَةٌ فِي تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: امْتِنَاعُهُ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ شُرَيْحٍ، لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْمَفْضُولِ كَاعْتِقَادِ الْمُجْتَهِدِ الدَّلِيلَ الْمَرْجُوحَ مَعَ وُجُودِ الْأَرْجَحِ. الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّهَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، الْجَوَازُ لِإِجْمَاعِ

غير المجتهد يجوز له تقليد المجتهد

الصَّحَابَةِ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِي الْفَهْمِ، ثُمَّ إجْمَاعُهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ لِمَنْ يَعْتَقِدُهُ فَاضِلًا أَوْ مُسَاوِيًا، وَالْخِلَافُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّظَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ أَفْضَلِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ نَائِبًا عَنْ إقْلِيمِهِ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ الِاشْتِغَالُ بِتَرْجِيحِ إمَامٍ عَلَى إمَامٍ، بَعْدَ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الْفَتْوَى، وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ اجْتِهَادُ الْعَامِّيِّ فِي النَّظَرِ فِي الْأَعْلَمِ وَسَيَأْتِي. . [غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ] مَسْأَلَةٌ غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ الْحَيِّ بِاتِّفَاقٍ، كَذَا قَالُوا، لَكِنْ مَنَعَهُ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ، وَرَوَى بِسَنَدِهِ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النَّهْيَ عَنْ تَقْلِيدِ الْأَحْيَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ [لَا] مَحَالَةَ مُقَلِّدًا فَلْيُقَلِّدْ الْمَيِّتَ. انْتَهَى. فَإِنْ قَلَّدَ مَيِّتًا فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ، الْجَوَازُ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَذَاهِبُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا، وَلَا بِفَقْدِ أَصْحَابِهَا، وَرُبَّمَا حُكِيَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ، وَأَيَّدَهُ الرَّافِعِيُّ بِمَوْتِ الشَّاهِدِ بَعْدَمَا يُؤَدِّي شَهَادَتَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَبْطُلُ. قُلْت: وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ

مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» وَقَوْلُهُ: «بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» ، وَلِهَذَا يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ. وَاحْتَجَّ الْأُصُولِيُّونَ عَلَيْهِ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَانِنَا، عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِفَتَاوَى الْمَوْتَى، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ، وَالْمُجْمِعُونَ لَيْسُوا مُجْتَهِدِينَ فَلَا يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُمْ بِحَالٍ، أَوْ نَقُولُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، إنَّمَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى جَوَازِ إفْتَاءِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، فَلَوْ أَثْبَتَ جَوَازَ إفْتَائِهِ بِهَذَا لَزِمَ الدَّوْرُ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ إجْمَاعُ الْمُجْتَهِدِينَ قَاطِبَةً. ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ ذَلِكَ، لَأَدَّى إلَى فَسَادِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَهَذَا شَيْءٌ سَبَقَهُ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، فَقَالُوا: لَوْ مَنَعْنَا مِنْ تَقْلِيدِ الْمَاضِينَ، لَتَرَكْنَا النَّاسَ حَيَارَى، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْخِلَافَ يَجْرِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ، وَذَلِكَ هُوَ صَرِيحُ قَوْلِ الْمَحْصُولِ ": " إنَّهُ لَا يَجْتَهِدُ الْيَوْمَ "، مَعَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ " لَا يُقَلَّدُ الْمَيِّتُ ". وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ، فِيمَا إذَا كَانَ فِي الْقُطْرِ مُجْتَهِدٌ وَمُجْتَهِدُونَ: فَمِنْ قَائِلٍ مَوْتُ الْمُجْتَهِدِ لَا يُمِيتُ قَوْلَهُ، فَكَأَنَّهُ أَحَدُ الْأَحْيَاءِ، فَيُقَلَّدُ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ، وَمِنْ قَائِلٍ، بَلْ يَبْطُلُ قَوْلُهُ، وَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْحَيِّ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُفَصِّلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ أَرْجَحَ مِنْ الْحَيِّ، فَلَا يُتْرَكُ قَوْلُهُ، لَا سِيَّمَا إذَا أَوْجَبْنَا تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ، أَوْ يُفَصِّلَ بَيْنَ أَنْ يَطَّلِعَ الْمُجْتَهِدُ الْحَيُّ عَلَى مَأْخَذِ الْمَيِّتِ ثُمَّ يُخَالِفُهُ، فَلَا يُقَلِّدُ الْمَيِّتَ حِينَئِذٍ، أَوْ لَا يَطَّلِعُ فَيُقَلِّدُ، فِيهِ نَظَرٌ وَاحْتِمَالٌ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ الْمُطْلَقُ، إمَّا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، كَمَنْ تَجَدَّدَ فِسْقُهُ بَعْدَ عَدَالَتِهِ لَا يَبْقَى حُكْمُ عَدَالَتِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَصْفُهُ، وَبَقَاءُ الْوَصْفِ مَعَ زَوَالِ الْأَصْلِ مُحَالٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَجْدِيدِهِ، لَا يَتَحَقَّقُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَتَقْلِيدُهُ بِنَاءً عَلَى

وَهْمٍ أَوْ تَرَدُّدٍ، وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ الْقَاضِي. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ. وَنَصَرَهُ ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي كِتَابِ النُّكَتِ " وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " فِيهِ إجْمَاعَ الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": إنَّهُ الْقِيَاسُ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ " فِيهِ فَقَالَ: اخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْفَتْوَى بِمَا يَحْكِيهِ عَنْ الْمُفْتِينَ؟ فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْكِيَ عَنْ مَيِّتٍ أَوْ عَنْ حَيٍّ، فَإِنْ حَكَى عَنْ مَيِّتٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ، لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لِلْمَيِّتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ مَعَ خِلَافِهِ حَيًّا، وَيَنْعَقِدُ مَعَ مَوْتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ قَوْلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَإِنْ قُلْت: لِمَ صُنِّفَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ مَعَ فَنَاءِ أَصْحَابِهَا؟ قُلْت: لِفَائِدَتَيْنِ: (إحْدَاهُمَا) : اسْتِبَانَةُ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْحَوَادِثِ، وَكَيْفَ بُنِيَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. (وَالثَّانِيَةُ) : مَعْرِفَةُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ الْمُخْتَلِفِ، فَلَا يُفْتَى بِغَيْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَ الرَّاوِي عَدْلًا ثِقَةً مُتَمَكِّنًا مِنْ فَهْمِ كَلَامِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي مَاتَ، ثُمَّ رَوَى لِلْعَامِّيِّ قَوْلَهُ حَصَلَ لِلْعَامِّيِّ ظَنَّ صِدْقِهِ، ثُمَّ إذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ عَدْلًا ثِقَةً عَالِمًا، فَذَلِكَ يُوجِبُ ظَنَّ صِدْقِهِ فِي تِلْكَ الْفَتْوَى، فَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّدُ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّبَقَتَيْنِ لِلْعَامِّيِّ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ نَفْسُ مَا رَوَى لَهُ هَذَا الرَّاوِي الْحَيُّ عَنْ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ الْمَيِّتِ، وَالْعَمَلُ بِالظَّنِّ وَاجِبٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْعَامِّيِّ الْعَمَلُ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا هَذَا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَتْوَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مُجْتَهِدٌ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ.

قَالَ النَّقْشَوَانِيُّ: فِي قَوْلِ الْإِمَامِ: " لَيْسَ فِي الزَّمَانِ مُجْتَهِدٌ " مَعَ قَوْلِهِ: " انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ " مُنَاقَضَةٌ، وَقَدْ سَلِمَ فِي الْمُنْتَخَبِ " مِنْهَا، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجْتَهِدُ فِي زَمَنِنَا. وَاخْتَصَرَهُ صَاحِبُ التَّحْصِيلِ "، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ، وَلَكِنْ قَالَ: وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا، وَكُلُّ ذَلِكَ سَعْيٌ فِي دَفْعِ التَّنَاقُضِ، وَاَلَّذِي فَعَلَهُ فِي الْمُنْتَخَبِ "، هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ صَاحِبُ الْحَاصِلِ " تِلْمِيذُ الْإِمَامِ، وَهُوَ أَعْرَفُ أَصْحَابِهِ بِكَلَامِهِ. فَقَالَ: وَأَيْضًا فَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِفَتَاوَى الْمَوْتَى، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فَقَالَ فِي الْمِنْهَاجِ ": وَاخْتُلِفَ فِي تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ، وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَصَرَّفُوا فِي كَلَامِ الْإِمَامِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَاَلَّذِينَ نَقَلُوا كَلَامَهُ، اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِالْمُنَاقَضَةِ كالنقشواني، وَاَلَّذِي يَدْفَعُ التَّنَاقُضَ، أَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ: لَا مُجْتَهِدَ فِي الزَّمَانِ لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ " انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا "، لِأَنَّ الْمَعْنَى بِهِ إجْمَاعُ السَّابِقِينَ عَلَى حُكْمِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ فِيهِ، كَمَا أَنَّا نَحْكُمُ الْآنَ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ الَّذِي تَنْدَرِسُ فِيهِ أَعْلَامُ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ عَقَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْغِيَاثِيِّ " بَابًا عَظِيمًا فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ سَيَأْتِي. وَالثَّالِثُ: الْجَوَازُ بِشَرْطِ فَقْدِ الْحَيِّ، وَجَزَمَ إلْكِيَا وَابْنُ بَرْهَانٍ. وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ لَهُ أَهْلٌ لِلْمُنَاظَرَةِ، مُجْتَهِدًا فِي ذَلِكَ الْمُجْتَهَدِ الَّذِي يُحْكَى عَنْهُ، فَيَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَأْخُوذًا مِنْ وَجْهٍ حَكَاه الرَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا عَرَفَ الْعَامِّيُّ مَسْأَلَةً، أَوْ مَسَائِلَ بِدَلَائِلِهَا، أَنَّهُ إنْ كَانَ الدَّلِيلُ نَقْلِيًّا جَازَ، أَوْ قِيَاسِيًّا فَلَا، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي لِلْهِنْدِيِّ أَنْ يُقَيِّدَ تَفْصِيلَهُ بِمَا إذَا كَانَ الْمَنْقُولُ قِيَاسِيًّا، وَأَنْ لَا يُجَوِّزَهُ إذَا كَانَ نَقْلِيًّا، لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَلَا فُتْيَاهُ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ عَامًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْهِنْدِيَّ إنَّمَا أَخَذَ تَفْصِيلَهُ، مِنْ بِنَاءِ الْأَصْحَابِ جَوَازَ.

فُتْيَا مُتَبَحِّرِ الْمَذْهَبِ بِمَذْهَبِ الْمَيِّتِ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ النَّاقِلَ بِحَيْثُ لَا يُوثَقُ بِنَقْلِهِ فَهْمًا، وَإِنْ وُثِقَ بِهِ نَقْلًا تَطَرَّقَ عَدَمُ الْوُثُوقِ بِفَهْمِهِ إلَى عَدَمِ الْوُثُوقِ بِنَقْلِهِ، وَصَارَ عَدَمُ قَبُولِهِ لِعَدَمِ حُجَّةِ الْمَذْهَبِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ، لَا لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُقَلِّدُ، فَلَيْسَ التَّفْصِيلُ وَاقِفًا، غَيْرَ أَنَّ عُذْرَ الْهِنْدِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ الْمَسْأَلَةَ لِتَقْلِيدِ الْمَيِّتِ، كَمَا فَعَلَ الْإِمَامُ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ قِيلَ: الْخِلَافُ هُنَا مُخْرِجٌ مِنْ الْخِلَافِ فِي إعَادَةِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ مَرَّةً أُخْرَى. الثَّانِي قَيَّدَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بِمَا إذَا كَانَ فِي الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ أَوْ مُجْتَهِدُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا خِلَافَ فِي تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ، لِئَلَّا تَضِيعَ الشَّرِيعَةُ، قَالَ: وَإِطْلَاقُ مَنْ أَطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ. إنَّمَا النَّظَرُ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إذَا لَمْ يَخْلُ عَنْ مُجْتَهِدٍ، فَفِي ظَنِّ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ يُقَلِّدُ الْمَيِّتَ حِينَئِذٍ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْغَزَالِيِّ، وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، أَنَّهُ يَجِبُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدِ الْعَصْرِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَيِّتِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَقْلِيدِ الْمَوْتَى إلَّا مِنْ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَاجْتَمَعَ قَوْلُ الْإِمَامِ: " انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ " وَقَوْلُهُ: " لَا مُجْتَهِدَ فِي الزَّمَانِ "، إذَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الزَّمَانِ مُجْتَهِدٌ، لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَقْلِيدٍ، بَلْ إمَّا أَنْ تَخْتَلِفَ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ عِنْدَ

مسألة غريبة تعم بها البلوى

وُجُودِ مُجْتَهِدٍ حَيٍّ خِلَافٌ، وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُقَلَّدُ حِينَئِذٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْمُجْتَهِدِ الْحَيِّ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْغَزَالِيِّ، وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ. وَثَانِيهِمَا: إذَا خَلَا عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَنَقَلَ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ نَاقِلُونَ، هَلْ يُؤْخَذُ بِنَقْلِ كُلِّ عَدْلٍ، أَمْ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِنَقْلِ عَارِفٍ مُجْتَهِدٍ فِي مَذْهَبِ مَنْ يَنْقُلُ عَنْهُ؟ هَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَقَوْلُ الْإِمَامِ: " فُتْيَا غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ "، إنْ أَرَادَ رِوَايَتَهُ، فَهِيَ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا إذَا كَانَ عَدْلًا، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِالْمَرْوِيِّ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَهِيَ مَسْأَلَةُ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ هَذَا إذَا كَانَ نَاقِلًا مَحْضًا عَنْ نَصٍّ، أَمَّا إذَا كَانَ مُخْرِجًا فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ الصِّرْفَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّخْرِيجِ، فَلَا يُمْكِنُهُ، فَعَلَى هَذَا فَالْخِلَافُ فِي النَّاقِلِ الْمَحْضِ، وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ الْهِنْدِيُّ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِنَقْلِ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَذْهَبِ، قَادِرٍ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَرَجَّحَ غَيْرُهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِنَقْلِ كُلِّ عَدْلٍ، وَلَا يَخْفَى فِي أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ التَّعَارُضِ فِي النَّقْلِ. . فَرْعٌ لَوْ اسْتَفْتَى مُجْتَهِدًا فَأَجَابَهُ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِفَتْوَاهُ حَتَّى مَاتَ الْمُجْتَهِدُ. فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِفَتْوَاهُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ،: وَالْجَوَازُ هُنَا أَقْرَبُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا. . [مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى] مَنْ عَاصَرَ مُفْتِيًا أَفْتَى بِشَيْءٍ، وَصَادَفَ فَتْوَاهُ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ الْإِمَامِ الَّذِي تَقَلَّدَهُ، فَهَلْ يَتَّبِعُ الْمُفْتِيَ، لِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُهُ إلَّا بَعْدَ اعْتِقَادِ تَأْوِيلِهِ، أَوْ الْإِمَامَ الْمُتَقَدِّمَ، لِظُهُورِ كَلَامِهِ؟ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْغِيَاثِيِّ وَقَالَ: فِيهِ تَرَدُّدٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالِاخْتِيَارُ اتِّبَاعُ مُفْتِي الزَّمَانِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِتَأَخُّرِهِ سَبَرَ مَذَاهِبَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَنَظَرُهُ فِي التَّفَاصِيلِ أَشَدُّ مِنْ نَظَرِ الْمُقَلَّدِ عَلَى

الْجُمْلَةِ، قَالَ: وَلَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي اتِّبَاعِ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، لِتَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ وَعُسْرِ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا. قُلْت: وَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ، وَقَدَّمَ فَتْوَى ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَصَنَّفَ فِيهِ تَصْنِيفًا، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ الْمُقَلَّدُ نَصَّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَصِحَّ فِيهِ مَذْهَبٌ، فَلَيْسَ إلَّا تَقْلِيدُ مُفْتِي الزَّمَانِ. مَسْأَلَةٌ إذَا اجْتَهَدَ مُجْتَهِدٌ فِي حَادِثَةٍ، فَلَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ، فَيَعْمَلُ بِهِ، ثُمَّ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ خِلَافُهُ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُ الثَّانِي - أَيْضًا - ظَنًّا، فَإِنْ كَانَ فِي حُكْمٍ لَمْ يَنْقُضْهُ، إذْ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ أَخَذَ بِالثَّانِي الَّذِي رَجَحَ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُ الثَّانِي أَيْضًا يَقِينًا أَخَذَ بِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلْمُجْتَهِدِ فِيهِ شَيْءٌ فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَالْأَصَحُّ الِامْتِنَاعُ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِيءُ خِلَافُ التَّخْيِيرِ أَوْ الْوَقْفِ. مَسْأَلَةٌ إذَا اجْتَهَدَ مُجْتَهِدٌ فِي حُكْمِ وَاقِعَةٍ، وَبَلَغَ إلَى حُكْمِهَا، ثُمَّ تَكَرَّرَتْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ، وَتَجَدَّدَ مَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ، وَجَبَ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَتَجَدَّدْ، لَا إنْ كَانَ ذَاكِرًا عَلَى الْمُخْتَارِ.

وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النَّظَرِ، لَعَلَّهُ يَظْفَرُ بِخَطَأٍ أَوْ زِيَادَةٍ لِمُقْتَضٍ. ذَكَرَ بَعْضَ هَذَا التَّفْصِيلِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ، وَفَصَّلَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ، وَأَمَّا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، فَأَطْلَقَ حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ، وَاخْتَارَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَكْرِيرُ الِاجْتِهَادِ، وَأَطْلَقَ الرَّافِعِيُّ أَيْضًا، حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَصَحُّهُمَا لُزُومُ الِاجْتِهَادِ، قَالَ: وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ مَا قَدْ يُوجِبُ رُجُوعَهُ، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ قَطْعًا، وَإِنْ تَجَدَّدَ مَا قَدْ يُوجِبُ الرُّجُوعَ لَزِمَهُ قَطْعًا. وَقَالَ الْقَاضِي شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِهِ رَوْضَةِ الْحُكَّامِ ": إذَا اجْتَهَدَ لِنَازِلَةٍ، فَحَكَمَ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ، ثُمَّ حَدَثَتْ تِلْكَ النَّازِلَةُ ثَانِيًا، فَهَلْ يَسْتَأْنِفُ الِاجْتِهَادَ؟ وَجْهَانِ: وَالصَّحِيحُ: إنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا لَا يَخْتَلِفُ فِي مِثْلِهِ الِاجْتِهَادُ لَا يَسْتَأْنِفُ الِاجْتِهَادَ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ اسْتَأْنَفَ. انْتَهَى. وَهَكَذَا الْعَامِّيُّ، يَسْتَفْتِي ثُمَّ تَقَعُ لَهُ الْوَاقِعَةُ هَلْ يُعِيدُ السُّؤَالَ؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " وَالْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي " وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: يَنْظُرُ، إنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَفْتَاهُ عَنْ نَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ كَانَ قَدْ تَبَحَّرَ فِي مَذْهَبٍ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَلَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، فَأَفْتَاهُ عَنْ نَصِّ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ، فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْفَتْوَى الْأُولَى، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُقَلَّدُ مَيِّتًا، وَجَوَّزْنَاهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَفْتَاهُ عَنْ اجْتِهَادٍ أَوْ شَكٍّ فَلَا يَدْرِي، وَالْمُقَلَّدُ حَيٌّ، فَوَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى السُّؤَالِ ثَانِيًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُهُ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ.

وَأَصَحُّهُمَا: قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ السُّؤَالِ ثَانِيًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ، فَعَلَى هَذَا يُعْمَلُ بِالْفَتْوَى الثَّانِيَةِ، سَوَاءً وَافَقَتْ الْأُولَى أَمْ لَا، قَالَ فِي الْبَحْرِ ": وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ إلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ، هَلْ يَعْمَلُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْفَتْوَى الْأُولَى يَجُوزُ لِغَيْرِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا غَالِبًا، فَإِنْ قَرُبَ، لَمْ يَلْزَمْ الِاسْتِفْتَاءُ ثَانِيًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكْثُرْ وُقُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كَثُرَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْعَامِّيِّ تَجْدِيدُ السُّؤَالِ قَطْعًا، وَحَكَى فِي الْمَنْخُولِ " وَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ الْمُرَاجَعَةِ، ثُمَّ اخْتَارَ التَّفْصِيلَ، بَيْنَ أَنْ تَبْعُدَ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا، أَوْ تَكَرَّرَ الْوَاقِعَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، فَلَا يُرَاجِعُ قَطْعًا، وَأَطْلَقَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ " الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْمُرَاجَعَةِ عَلَى الْمُقَلِّدِ عِنْدَ التَّكْرَارِ، وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِمَا إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مُجْتَهَدًا فِيهَا، أَمَّا لَوْ كَانَ الْمُفْتِي حِينَ أَفْتَاهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَنْ نَصٍّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِعَادَةِ، وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ فِي النِّهَايَةِ " فِيمَا إذَا كَانَ الْعَامِّيُّ ذَاكِرًا لِلْحُكْمِ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْتَاءُ ثَانِيًا قَطْعِيًّا، وَخَصَّ ابْنُ الصَّلَاحِ الْخِلَافَ بِمَا إذَا قَلَّدَ حَيًّا، وَقَطَعَ فِيمَا إذَا كَانَ خَبَرًا عَنْ مَيِّتٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ تَجْدِيدُ السُّؤَالِ. . مَسْأَلَةٌ إذَا اجْتَهَدَ فِي حَادِثَةٍ، وَأَفْتَى فِيهَا، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ. لَزِمَ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي بِالرُّجُوعِ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَكَذَا بَعْدَهُ، حَيْثُ يَجِبُ النَّقْضُ، ذَكَرَهُ

النَّوَوِيُّ، وَنَقَلَ فِي، الْقَوَاطِعِ " أَنَّهُ إنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِهِ يَلْزَمُهُ، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إنَّمَا يَعْمَلُ بِهِ، لِأَنَّهُ قَوْلُ الْمُفْتِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ قَوْلَهُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، وَهَلْ يَجِبُ نَقْضُ مَا عَمِلَ؟ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَنْقُضْهُ، وَإِنْ كَانَ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَجَبَ نَقْضُهُ لَا مَحَالَةَ. مَسْأَلَةٌ إذَا رَجَعَ الْمُجْتَهِدُ عَنْ قَوْلٍ تَقَدَّمَ لَهُ، وَلَمْ يَقْطَعْ بِخَطَأِ نَفْسِهِ، فَهَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُهُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ؟ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ، فَإِنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ فِي حِلٍّ مَنْ رَوَى عَنِّي الْقَدِيمَ.

الإفتاء والاستفتاء

[الْإِفْتَاءُ وَالِاسْتِفْتَاءُ] ُ (الْمُفْتِي) هُوَ الْفَقِيهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِّ الْفِقْهِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ اسْمُ الْفَقِيهِ، لِأَنَّ مَنْ قَامَتْ بِهِ صِفَةٌ جَازَ أَنْ يُشْتَقَّ لَهَا مِنْهَا اسْمُ فَاعِلٍ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَمَوْضُوعُ هَذَا الِاسْمِ لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ، وَعَلِمَ جُمَلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ، وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَنِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَمْ يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا. فَمَنْ بَلَغَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ سَمَّوْهُ هَذَا الِاسْمَ، وَمَنْ اسْتَحَقَّهُ أَفْتَى فِيمَا اُسْتُفْتِيَ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْمُفْتِي مَنْ اسْتَكْمَلَ فِيهِ ثَلَاثَ شَرَائِطَ: الِاجْتِهَادُ، وَالْعَدَالَةُ، وَالْكَفُّ عَنْ التَّرْخِيصِ وَالتَّسَاهُلِ. وَلِلْمُتَسَاهِلِ حَالَتَانِ: (إحْدَاهُمَا) : أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ وَيَأْخُذُ بِمَبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِلِ الْفِكَرِ، فَهَذَا مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى. (وَالثَّانِيَةُ) : أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الرُّخَصِ وَتَأَوُّلِ الشُّبَهِ، فَهَذَا مُتَجَوِّزٌ فِي دِينِهِ، وَهُوَ آثَمُ مِنْ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا إذَا عَلِمَ الْمُفْتِي جِنْسًا مِنْ الْعِلْمِ بِدَلَائِلِهِ وَأُصُولِهِ وَقَصَّرَ فِيمَا سِوَاهُ، كَعِلْمِ الْفَرَائِضِ وَعِلْمِ الْمَنَاسِكِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي غَيْرِهِ. وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِيهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، لِإِحَاطَتِهِ بِأُصُولِهِ وَدَلَائِلِهِ. وَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ لِأَنَّ لِتَنَاسُبِ الْأَحْكَامِ وَتَجَانُسِ الْأَدِلَّةِ امْتِزَاجًا لَا يَتَحَقَّقُ إحْكَامُ بَعْضِهَا إلَّا بَعْدَ الْإِشْرَافِ عَلَى جَمِيعِهَا. انْتَهَى. وَتَجَوَّزَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فَجَوَّزَهُ فِي الْفَرَائِضِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا تُبْنَى عَلَى غَيْرِهَا، بِخِلَافِ مَا عَدَاهَا مِنْ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَهُوَ حَسَنٌ.

وَسَوَاءٌ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي فِي الْمُعَامَلَاتِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ مِنْ الِاسْتِظْهَارِ فِي الِاجْتِهَادِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُفْتِي. وَفِي فَتْوَى الْمَرْأَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، قَالَ: وَخَصَّهُمَا بِمَا عَدَا أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الذُّكُورَةَ لَا تُشْتَرَطُ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ كَوْنُ الْحُكْمِ لَا تَتَوَلَّاهُ امْرَأَةٌ لِأَنَّهَا لَا تَلِي الْإِمَامَةَ فَلَا تَلِي الْحُكْمَ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَهَذَا التَّخْرِيجُ غَلَطٌ، بَلْ الصَّوَابُ: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ. وَالْمُسْتَفْتِي: مَنْ لَيْسَ بِفَقِيهٍ. ثُمَّ إنْ قُلْنَا بِتَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ مُفْتِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرٍ مُسْتَفْتِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَالْمُفْتِي: مَنْ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْفِعْلِ، وَالْمُسْتَفْتِي: مَنْ لَا يَعْرِفُ جَمِيعَهَا. . مَسْأَلَةٌ الْمُجْتَهِدُ يَجُوزُ لَهُ الْإِفْتَاءُ وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ لَهُ الْإِفْتَاءُ مُطْلَقًا. وَجَوَّزَهُ قَوْمٌ مُطْلَقًا إذَا عَرَفَ الْمَسْأَلَةَ بِدَلِيلِهَا. فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ إنْ تَحَرَّى مَذْهَبَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ، وَاطَّلَعَ عَلَى مَأْخَذِهِ، وَكَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ وَالتَّفْرِيعِ عَلَى قَوَاعِدِهِ جَازَ لَهُ الْفَتْوَى، وَإِلَّا فَلَا. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ الْقَفَّالِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى أُصُولِهِ. إنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَأَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ تَقْلِيدَ الْمُسْتَفْتِي هَلْ هُوَ لِذَلِكَ الْمُفْتِي، أَوْ لِذَلِكَ الْمَيِّتِ، أَيْ: صَاحِبِ الْمَذْهَبِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ: فَإِنْ قُلْنَا: " لِلْمَيِّتِ " فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ، وَإِنْ قُلْنَا: " لِلْمُفْتِي " فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ

يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " التَّلْقِيحِ ": تَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ، أَوْ اسْتِرْسَالِ الْخَلْقِ فِي أَهْوَائِهِمْ. فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ إذَا كَانَ عَدْلًا مُتَمَكِّنًا مِنْ فَهْمِ كَلَامِ الْإِمَامِ ثُمَّ حَكَى لِلْمُقَلِّدِ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ. وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفُتْيَا. هَذَا مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ كُنَّ يَرْجِعْنَ فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ إلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ أَزْوَاجُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَرْسَلَ الْمِقْدَادَ فِي قِصَّةِ الْمَذْيِ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَظْهَرُ، فَإِنَّ مُرَاجَعَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ ذَاكَ مُمْكِنَةٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْمُقَلِّدِ الْآنَ لِلْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ مُتَعَذِّرَةٌ. وَقَدْ أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ مَعَ عَدَمِ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ الْيَوْمَ. انْتَهَى. وَقَالَ آخَرُونَ: إنْ عَدِمَ الْمُجْتَهِدُ جَازَ لَهُ الْإِفْتَاءُ، وَإِلَّا فَلَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ لِمُقَلِّدِ الْحَيِّ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا شَافَهَهُ بِهِ أَوْ يَنْقُلَهُ إلَيْهِ مَوْثُوقٌ بِقَوْلِهِ، أَوْ وَجَدَهُ مَكْتُوبًا فِي كِتَابٍ مُعْتَمَدٍ عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمَيِّتِ. وَجَعَلَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " الْخِلَافَ فِي الْعَالِمِ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمَنْ شَدَا شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يُفْتِيَ. انْتَهَى. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: إذَا عَلِمَ الْعَامِّيُّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ وَدَلِيلَهَا، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ لِغَيْرِهِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، ثَالِثُهَا: إنْ كَانَ الدَّلِيلُ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ نَظَرًا وَاسْتِنْبَاطًا لَمْ يَجُزْ. قَالَ: وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ دَلَالَةٌ تُعَارِضُهَا أَقْوَى مِنْهَا. وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": مَنْ حَفِظَ نُصُوصَ الشَّافِعِيِّ وَأَقْوَالَ النَّاسِ بِأَسْرِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَهَا وَمَعَانِيَهَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَقِيسَ، وَلَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى، وَلَوْ أَفْتَى بِهِ لَا يَجُوزُ. وَكَانَ الْقَفَّالُ يَقُولُ إنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَحْكِي مَذْهَبَ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ يُقَلِّدُ صَاحِبَ الْمَذْهَبِ وَقَوْلَهُ. وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَحْيَانَا: لَوْ اجْتَهَدْت وَأَدَّى اجْتِهَادِي

إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَقُولُ: " مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَذَا، وَلَكِنْ أَقُولُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ "، لِأَنَّهُ جَاءَ لِيَعْلَمَ وَيَسْتَفْتِيَ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَلَا بُدَّ أَنْ أُعَرِّفَهُ بِأَنِّي أُفْتِي بِغَيْرِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ خِلَافَهُ، وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَعَانِيهِ فَيَكُونُ حَاكِيًا مَذْهَبَ الْغَيْرِ، وَمَنْ حَكَى مَذْهَبَ الْغَيْرِ - وَالْغَيْرُ مَيِّتٌ - لَا يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا وَأَخْبَرَهُ عَنْهُ بِفَتْوَاهُ أَوْ مَذْهَبِهِ فِي زَمَانٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَهُ وَيَقْبَلَهُ، كَمَا أَنَّ اجْتِهَادَ الْمُفْتِي يَتَغَيَّرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَامِّيٍّ أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى مَضَتْ لِعَامٍّ مِثْلِهِ. فَإِنْ قُلْت: أَلَيْسَ خِلَافُهُ لَا يَمُوتُ بِمَوْتِهِ فَدَلَّ عَلَى بَقَاءِ مَذْهَبِهِ؟ قُلْنَا: كَمَا زَعَمْتُمْ، لَكِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمْ يُقَلِّدْهُ قَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا قَالَهُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ فَتْوَاهُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ لَجَازَ لِلْعَامِّيِّ الَّذِي جَمَعَ فَتَاوَى الْمُفْتِينَ أَنْ يُفْتِيَ. وَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ. وَلَجَازَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ مُقَلِّدُ صَاحِبِ الْمَقَالَةِ. وَلَكِنْ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ هَذَا. أَمَّا إذَا أَفْتَى بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا فِيهِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يُفْتِي أَحْيَانَا بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَانَ مُتَبَحِّرًا، لِأَنَّهُ حَكَى أَنَّ أَصْحَابَ مَالِكٍ كَانُوا يَأْتُونَهُ بِمَسَائِلَ يَسْأَلُونَهُ إخْرَاجَهَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فَيَسْتَخْرِجُهَا عَلَى أَصْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَجُوزُ، وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ. وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ فِي مَذْهَبِ نَفْسِهِ لَا يَعْرِفُ إلَّا يَسِيرًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ. قَالَ: وَالْعُلُومُ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا - الْفِقْهُ: وَهُوَ فَنٌّ عَلَى حِدَةٍ، فَمَنْ بَلَغَ فِيهِ غَايَةَ مَا وَصَفْنَاهُ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ إلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادِهِ لِيَصِحَّ إيمَانُهُ. وَثَانِيهَا - عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ: وَمَا زَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ يَقُولُ: هُوَ

عِلْمٌ بَيْنَ عِلْمَيْنِ، لَا يَقْوَى الْفِقْهُ دُونَهُ، وَلَا يَقْوَى هُوَ دُونَ أُصُولِ التَّوْحِيدِ، فَكَأَنَّهُ فَرْعٌ لِأَحَدِهِمَا أَصْلٌ لِلْآخَرِ، فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا نَقُولَ: أُصُولُ الْفِقْهِ مِنْ جِنْسِهِ حَتَّى لَا بُدَّ مِنْ ضَمِّهِ إلَيْهِ، لَكِنْ لَا يَقُومُ دَلِيلُهُ دُونَهُ. وَثَالِثُهَا - تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ: وَكُلُّ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْمُفَسِّرِ، بَلْ مِنْ وَظِيفَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ. وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَعْظِ وَالْقَصَصِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَيُقْبَلُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ. وَالرَّابِعُ - سُنَنُ الرَّسُولِ: لَا يُقْبَلُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى جَمْعٍ وَتَرْتِيبٍ، وَتَخْصِيصٍ وَتَعْمِيمٍ وَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إلَيْهِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ حَائِضٍ، هَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَ زَوْجَهَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: انْصَرَفُوا إلَى سُوَيْعَةٍ أُخْرَى، فَانْصَرَفُوا وَعَادُوا ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى قَالَ مَنْ كَانَ يَتَرَدَّدُ إلَى الْفُقَهَاءِ: أَلَيْسَ أَيُّهَا الشَّيْخُ رَوَيْت لَنَا عَنْ «عَائِشَةَ أَنَّهَا غَسَلَتْ رَأْسَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ حَائِضٌ» ؟ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ أَفْتَى بِهِ. انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَ آخَرَ الْكَلَامِ عَلَى شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ كَلَامٌ لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُهُ هُنَا. مَسْأَلَةٌ وَإِنَّمَا يُسْأَلُ مَنْ عُرِفَ عِلْمُهُ وَعَدَالَتُهُ، بِأَنْ يَرَاهُ مُنْتَصِبًا لِذَلِكَ، وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى سُؤَالِهِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ عَرَفَ بِضِدِّ ذَلِكَ، إجْمَاعًا. وَالْحَقُّ مَنْعُ ذَلِكَ مِمَّنْ جُهِلَ حَالُهُ، خِلَافًا لِقَوْمٍ. لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ كَوْنُهُ جَاهِلًا أَوْ فَاسِقًا، كَرِوَايَتِهِ، بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْعَدَالَةُ،

فَخَبَرُ الْمَجْهُولِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ. وَلَيْسَ الْأَصْلُ فِي النَّاسِ الْعِلْمَ. وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي اسْتِفْتَاءِ الْمَجْهُولِ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَنُقِلَ فِي " الْمَحْصُولِ " الِاتِّفَاقُ عَلَى الْمَنْعِ، فَحَصَلَ طَرِيقَانِ. وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ عِلْمُهُ بُحِثَ عَنْ حَالِهِ. ثُمَّ شَرَطَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " إخْبَارَ مَنْ يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ عَالِمًا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَكْفِي خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ. وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ. وَاكْتَفَى فِي " الْمَنْخُولِ " فِي (الْعَدَالَةِ) خَبَرُ عَدْلَيْنِ، وَفِي (الْعِلْمِ) بِقَوْلِهِ: إنِّي مُفْتٍ، قَالَ: وَاشْتِرَاطُ تَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا - كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ - غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ التَّوَاتُرَ يَعْتَمِدُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَكْفِيهِ أَنْ يُخْبِرَهُ عَدْلَانِ بِأَنَّهُ مُفْتٍ. انْتَهَى. وَشَرَطَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ امْتِحَانَهُ، بِأَنْ يُلَفِّقَ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً وَيُرَاجِعَهُ فِيهَا، فَإِنْ أَصَابَ فِيهَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا وَقَلَّدَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَتَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ مِنْ النَّاسِ. وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي، الرَّوْضَةِ " وَنَقَلَهُ عَنْ الْأَصْحَابِ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ اعْتِمَادُ قَوْلِ الْمُفْتِي: أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْفَتْوَى وَالْمُخْتَارُ فِي " الْغِيَاثِيِّ " اعْتِمَادُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَظْهَرَ وَرَعُهُ، كَمَا يَحْصُلُ بِاسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ عَنْهُ، وَسَبَقَ مِثْلُهُ عَنْ الْغَزَالِيِّ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ ": قِيلَ: يَقُولُ لَهُ: أَمُجْتَهِدٌ. أَنْتَ فَأُقَلِّدُك؟ فَإِنْ أَجَابَهُ قَلَّدَهُ. وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ. وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ (الْعَدَالَةَ) فَلِلْغَزَالِيِّ احْتِمَالَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَأَشْبَهَهُمَا الِاكْتِفَاءُ؟ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ بِخِلَافِ الْبَحْثِ عَنْ الْعِلْمِ، فَلَيْسَ الْغَالِبُ فِي النَّاسِ الْعِلْمَ. ثُمَّ ذَكَرَ احْتِمَالَيْنِ فِي أَنَّهُ إذَا وَجَبَ الْبَحْثُ فَيَفْتَقِرُ إلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ، أَمْ يَكْفِي إخْبَارُ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ؟ قَالَ: وَأَقْرَبُهُمَا: الثَّانِي. قُلْت: وَجَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ يَكْفِيهِ خَبَرُ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عَنْ فِقْهِهِ وَأَمَانَتِهِ، لِأَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْإِخْبَارِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالِاحْتِمَالَانِ فِي مَجْهُولِ الْعَدَالَةِ هُمَا فِي الْمَسْتُورِ، وَهُوَ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَلَمْ يَخْتَبِرْ بَاطِنَهُ، وَهُمَا

وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا غَيْرُهُ وَأَصَحُّهُمَا الِاكْتِفَاءُ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ تَعَسَّرَ مَعْرِفَتُهَا عَلَى غَيْرِ الْقُضَاةِ، فَيَعْسُرُ عَلَى الْعَوَامّ تَكْلِيفُهُمْ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالَانِ الْمَذْكُورَانِ ثَانِيًا فَهُمَا مُحْتَمَلَانِ لَكِنَّ الْمَنْقُولَ خِلَافُهُمَا. وَاَلَّذِي قَالَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ مَنْ اسْتَفَاضَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَقِيلَ: لَا تَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ وَلَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ: أَنَا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى. وَيَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ مَنْ أَخْبَرَ ثَابِتَ الْأَهْلِيَّةِ بِأَهْلِيَّتِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ " الْأُصُولِ ": مَنْ أَسْلَمَ وَهُوَ قَرِيبُ الْعَهْدِ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ، فَأَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ. فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِهِ: يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَا يَعْتَبِرُ فِيهِ شَرَائِطَ الْمُفْتِي السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ تِلْكَ الشَّرَائِطُ فِينَا، لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْنَا الِاعْتِبَارُ فِيهَا، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْآنَ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ شَيْئًا وَقْتُهُ مُوَسَّعٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَسْتَعْلِمَ ذَلِكَ مِنْ خَلْقٍ، وَلَا يُبَادِرُ حَتَّى يَعْلَمَ حَالَ مَنْ أَفْتَاهُ وَيُتَابِعُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ شَيْئًا وَقْتُهُ مُضَيَّقٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) يُقْبَلُ قَوْلُهُ، كَقَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ. وَ (الثَّانِي) يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ، كَمَا يَتَوَقَّفُ الْحَاكِمُ فِي الْعُدُولِ وَغَيْرِهَا. . مَسْأَلَةٌ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَيَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْعَالِمَ بِدَلِيلِ الْجَوَابِ، لِأَجْلِ احْتِيَاطِهِ لِنَفْسِهِ. وَيُلْزِمَ الْعَالِمَ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ الدَّلِيلَ إنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، لِإِشْرَافِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ. وَلَا يَلْزَمُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ، لِافْتِقَارِهِ إلَى اجْتِهَادٍ يَقْصُرُ عَنْهُ فَهْمُ الْعَامِّيِّ. .

مسألة إذا لم يكن هناك إلا مفت واحد

[مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ] ٌ تَعَيَّنَتْ مُرَاجَعَتُهُ. وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَهَلْ يَلْزَمُهُ النَّظَرُ فِي الْأَعْلَمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ: (أَحَدُهُمَا) - وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ - أَنَّ عَلَيْهِ اجْتِهَادًا آخَرَ فِي طَلَبِهِ، لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالسَّمَاعِ مِنْ الثِّقَاتِ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَصَحَّحَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَإِلْكِيَا، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ أَهْدَى إلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ. وَ (الْمُخْتَارُ) أَنَّهُ لَا يَجِبُ، بَلْ يَتَخَيَّرُ وَيَسْأَلُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ: إنَّهُ الْأَصَحُّ، كَمَا لَا يَلْزَمُ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْأَعْمَى: كُلُّ مَنْ دَلَّهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِبْلَةِ وَسِعَهُ اتِّبَاعُهُ وَلَمْ نَأْمُرْهُ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْأَوْثَقِ، وَفِي خَبَرِ الْعَسِيفِ قَالَ وَالِدُ الزَّانِي: فَسَأَلْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُنَاكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ الْكُلِّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. انْتَهَى. قَالَ إلْكِيَا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرَّأْيَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَلَا يَجِبُ الْأَفْضَلُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى الصَّيْمَرِيِّ الْحَنَفِيِّ بِفَتْوَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ فَاسِقًا فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا لَمْ يَنْفُذْ الطَّلَاقُ، وَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، فَقَالَ الصَّيْمَرِيُّ: هَؤُلَاءِ قَدْ أَفْتَوْك أَنَّك كُنْت عَلَى فَرْجٍ حَرَامٍ، وَأَنَّهَا حَلَالٌ لَك الْيَوْمَ، وَأَنَا أَقُولُ لَك: إنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً لَك قَبْلَ هَذَا وَهِيَ الْيَوْمَ حَرَامٌ عَلَيْك. وَقَصَدَ بِذَلِكَ رَدَّ الْعَامِّيِّ إلَى مَذْهَبِهِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فَرَجَعْت إلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَحُكِيَتْ لَهُ الْقِصَّةَ فَقَالَ: كُنْت تَقُولُ: إنَّهُ كَمَا قُلْت بِهِ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُ تَقْلِيدَ الصَّيْمَرِيِّ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا قَلَّدَ ثِقَةٌ شَافِعِيًّا تَخَلَّصَ مِنْ الْإِثْمِ وَالتَّبِعَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

مَسْأَلَةٌ إذَا قُلْنَا: لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ، هَلْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُقَلِّدُ فِيهَا؟ بِحَيْثُ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ عَلَى مَذْهَبِ فَقِيهٍ أَقْوَى وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ؟ اخْتَلَفَ جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْقُدُورِيِّ، فَأَوْجَبَهُ الْقُدُورِيُّ وَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لِلْعَامِّيِّ اسْتِحْسَانُ الْأَحْكَامِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ وَلَا أَنْ يَقُولَ: قَوْلُ فُلَانٍ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ فُلَانٍ، وَلَا حُكْمَ لِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ وَلَا اعْتِنَاءَ بِهِ، وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى الِاسْتِحْسَانِ كَمَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى الصِّحَّةِ. وَلَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَعْلَمُ، نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْأَعْلَمِ إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمْ بِزِيَادَةِ عِلْمٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا - فَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ سُؤَالِ آحَادِ الصَّحَابَةِ مَعَ وُجُودِ أَفَاضِلِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: " وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ ". وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، لِمَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ. وَإِذَا قُلْنَا: يَطْلُبُ الْأَعْلَمَ، فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ الْأَوْرَعَ؟ كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا: فَقِيلَ: عَلَيْهِ، اسْتِنْبَاطًا. وَقِيلَ: لَا، إذْ لَا تَعَلُّقَ لِمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ بِالْوَرَعِ، وَالْأَصَحُّ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ عِلْمًا عَلَى الرَّاجِحِ وَرَعًا. فَإِنْ اسْتَوَيَا قُدِّمَ الْأَسَنُّ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِصَابَةِ، لِطُولِ الْمُمَارَسَةِ. وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا شَافِعِيٌّ مَثَلًا، وَالْآخَرُ حَنَفِيٌّ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ أَصْلِ الْمَذْهَبَيْنِ فَيَعْلَمُ أَيَّهُمَا أَصَحَّ؟ قِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَالرَّأْيِ، وَالْآخَرُ عَلَى النَّصِّ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ لَا يَجِبُ طَلَبُ الْأَعْلَمِ فِي الْأَصَحِّ. وَقَالَ إلْكِيَا: أَمَّا اتِّبَاعُ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ

فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقِيلَ: يَجُوزُ، كَمَا يُتَّبَعُ مُجْتَهِدِي الْعَصْرِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ إمْكَانُ دَرْكِ التَّنَاقُضِ. وَلَوْ اخْتَلَفَ جَوَابُ مُجْتَهِدَيْنِ، فَالْقَصْرُ فِي حَقِّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ، وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْإِتْمَامُ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ ابْنُ سُرَيْجٍ اجْتَهَدَ فِي الْأَوْثَقِ وَالْأَفْقَهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِخِلَافِهِ قَالَ الرُّويَانِيُّ: فَفِيهِ أَوْجُهٌ: (أَصَحُّهَا) : فِي " الرَّافِعِيِّ ": أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ وَيَعْمَلُ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِيمَا إذَا تَسَاوَيَا فِي نَفْسِهِ، وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ مُسْتَدِلًّا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ. وَأَغْرَبَ الرُّويَانِيُّ فَقَالَ: إنَّهُ غَلَطٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَوْ لَمْ أَجِدْ تَخْيِيرَ الْعَامِّيِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُفْتِينَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ لَمَا كَانَ الْهُجُومُ عَلَى تَقْرِيرِهِ سَائِغًا، وَدَلَّ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَقَالَ: لَا تَنْزِلُوا حَتَّى تَأْتُوهُمْ، فَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاخْتَلَفُوا حِينَئِذٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ تَوَجَّهَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَادَى وَحَمَلَ قَوْلَهُ: لَا تَنْزِلُوا عَلَى ظَاهِرِهِ. فَلَمَّا عُرِضَتْ الْقِصَّةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُخَطِّئْ أَحَدًا مِنْهُمْ» . وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ السَّرِيَّةَ مَا خَلَتْ عَمَّنْ لَا نَظَرَ لَهُ وَلَا مَفْزَعَ إلَّا تَقْلِيدُ وُجُوهِ الْقَوْمِ وَعُلَمَائِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمُقَلِّدُ مُخَيَّرًا، وَبِاخْتِيَارِهِ قَلَّدَ وَلَمْ يَلْحَقْهُ عَتْبٌ وَلَا عَيْبٌ. و (الثَّانِي) : يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ.

وَ (الثَّالِثُ) : يَأْخُذُ بِالْأَيْسَرِ وَالْأَخَفِّ. وَ (الرَّابِعُ) : يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ أَعْلَمِهِمَا عِنْدَهُ، فَإِنْ اسْتَوَيَا قَلَّدَ أَيَّهُمَا شَاءَ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لِأَنَّهُ قَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي الْقِبْلَةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا عَلَى الْأَعْمَى، عَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّدَ أَوْثَقَهُمَا وَأَدْيَنَهُمَا عِنْدَهُ. وَيُفَارِقُ مَا قَبْلَ السُّؤَالِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ، لِأَنَّ فِي الِاجْتِهَادِ فِي أَعْيَانِهِمْ مَشَقَّةً. وَ (الْخَامِسُ) : يَأْخُذُ بِقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ حِينَ سَأَلَهُ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ حِكَايَةِ الرُّويَانِيِّ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُمَا لَوْ أَجَابَاهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ دَفْعَةً أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا فَنَقُولُ: قَدْ لَزِمَهُ قَوْلُ السَّابِقِ. وَ (السَّادِسُ) حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ يَبْنِي عَلَى الْأَثَرِ دُونَ الرَّأْيِ. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ (سَابِعًا) ، وَقَالَ: إنَّهُ الْأَوْلَى، أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي قَوْلِ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُمَا. وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ (ثَامِنًا) وَهُوَ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ حَقِّ عِبَادِهِ: فَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَخَذَ بِأَيْسَرِهِمَا، وَمَا كَانَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَبِأَثْقَلِهِمَا، وَبِهِ قَالَ الْكَعْبِيُّ. وَحَكَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ " الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ " (تَاسِعًا) عَنْ؛ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ، أَنَّهُ إنْ اتَّسَعَ عَقْلُهُ لِلْفَهْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُخْتَلِفَيْنِ عَنْ حُجَّتِهِمَا فَيَأْخُذَ بِأَرْجَحِ الْحُجَّتَيْنِ عِنْدَهُ. وَإِنْ قَصَّرَ عَنْ ذَلِكَ أَخَذَ بِقَوْلِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ (عَاشِرٌ) وَهُوَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمَا إنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي (بَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ) : وَلَوْ كَانَا عِنْدَهُ فِي الْعِلْمِ سَوَاءً فَوَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا) يَتَخَيَّرُ. وَ (الثَّانِي) يَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا وَيُصَلِّي إلَى جِهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلًا بَيَّنَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فَيُرَاجِعَهُمَا مَرَّةً أُخْرَى وَيَقُولُ: تَنَاقَضَ عَلَى جَوَابِكُمَا وَتَسَاوَيْتُمَا فَمَا الَّذِي يَلْزَمُنِي؟ فَإِنْ خَيَّرَاهُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْ الْمِيلِ إلَى أَحَدِهِمَا فَعَلَ، وَإِنْ أَصَرَّا عَلَى الْخِلَافِ: فَإِنْ كَانَا سَوَاءً فِي اعْتِقَادِهِ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ أَرْجَحَ فَوَجْهَانِ: اخْتَارَ الْقَاضِي التَّخْيِيرَ، وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ اتِّبَاعَ الْأَفْضَلِ، لِرُجْحَانِ الظَّنِّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ الْأَعْلَمِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، مَعَ اخْتِيَارِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ هُنَا مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الضَّرُورَةِ وَالْإِصْرَارِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَا ضَرُورَةَ بِهِ تَدْعُو إلَى اتِّبَاعِ الْأَعْلَمِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَعْرِيفَهُ إمَّا بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ الضَّرُورَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُكْمِ اعْتِبَارِ ضِدِّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي أَشَارُوا إلَيْهِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَعَدَمُ وُجُوبِ تَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ لَا يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ. قِيلَ: وَكَأَنَّ الْخِلَافَ هُنَا مُخَرَّجٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعِلَّتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا وَإِحْدَاهُمَا تَقْتَضِي الْحَظْرَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: بَلْ مِنْ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، أَوْ: كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَمَنْ خَيَّرَ بَيْنَهُمَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَمَنْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ قَالَ " الْمُصِيبُ وَاحِدٌ. وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا، فَلَوْ اسْتَفْتَى عَالِمًا فَعَمِلَ بِفَتْوَاهُ

ثُمًّ أَفْتَاهُ آخَرُ بِخِلَافِهِ لَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، قَالَهُ فِي " الْإِحْكَامِ ". وَقَالَ إلْكِيَا: إنْ تَسَاوَيَا فِي ظَنِّهِ وَلَا تَرْجِيحَ اُخْتُلِفَ فِيهِ: فَقِيلَ: يَحْكُمُ بِخَاطِرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ (الْإِلْهَامِ) . وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّعْلِيقُ بِعِلْمِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِيَكُونَ بَانِيًا عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": يَجْتَهِدُ، فَإِنْ ظَنَّ أَرْجَحِيَّةً فِي أَحَدِهِمَا عَمِلَ بِهِ، وَإِنْ ظَنَّ اسْتِوَاءَهُمَا مُطْلَقًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، لِتَعَارُضِ أَمَارَتَيْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِوُقُوعِهِ وَيَسْقُطَ التَّكْلِيفُ وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ ظَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِي الدِّينِ دُونَ الْعِلْمِ قَلَّدَ الْأَعْلَمَ. وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ. وَبِالْعَكْسِ الْأَدْيَنَ، وَإِنْ ظَنَّ أَحَدَهَا أَعْلَمَ وَالْآخَرَ أَدْيَنَ فَالْأَقْرَبُ الْأَعْلَمُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ أَصْلٌ وَالدِّينُ مُكَمِّلٌ. . مَسْأَلَةٌ إذَا اسْتَفْتَى الْمُتَنَازِعَانِ فَقِيهًا مَعَ وُجُودِ الْحَاكِمِ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: فَإِنْ الْتَزَمَا فُتْيَاهُ عَمِلَا بِهِ، وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ لَمْ يَجِدَا حَاكِمًا لَمْ يَلْزَمْهُمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ حَتَّى يَلْتَزِمَاهُ. وَإِنْ الْتَزَمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ ثُمَّ تَنَازَعَا إلَى الْحَاكِمِ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِهِ لَزِمَهُمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ فِي الْبَاطِنِ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُمَا حُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا إلَى فَتْوَى الْفُقَهَاءِ، وَدَعَا الْآخَرُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، أُجِيبَ الدَّاعِي إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ فُتْيَا الْفَقِيهِ إخْبَارٌ وَحُكْمَ الْحَاكِمِ إجْبَارٌ، وَإِذَا دَعَا الْخَصْمُ إلَى فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ لَمْ تُجْبِرْهُ، وَإِنْ دَعَا إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ أَجْبَرَهُ. وَإِذَا كَانَ الْفَقِيهُ عَدْلًا وَالْحَاكِمُ لَيْسَ بِعَدْلٍ فَأَفْتَاهُمَا الْفَقِيهُ بِحُكْمٍ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِغَيْرِهِ لَزِمَهُمَا فِي الْبَاطِنِ أَنْ يَعْمَلَا بِحُكْمِ الْفَقِيهِ، وَلَزِمَهُمَا فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَعْمَلَا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ.

وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْحِكَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ، بَلْ إنَّمَا يُفْتِي بِاجْتِهَادِهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا سُئِلَ قَوْلَهُ. فَإِنْ سُئِلَ عَنْ حِكَايَةِ قَوْلِ غَيْرِهِ جَازَتْ حِكَايَتُهُ. وَلَوْ جَازَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْحِكَايَةِ جَازَ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ: وَإِذَا أَفْتَاهُ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ، وَإِلَّا لَزِمَهُ. قَالَ: وَإِذَا أَفْتَاهُ بِقَوْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَمْ يُخْبِرْ فِي الْقَبُولِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ، وَكَذَا إنْ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفْتِينَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا التَّخْيِيرِ مَعْلُومًا مِنْ قَصْدِ الْمُفْتِي لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُخَيِّرَهُ لَفْظًا، بَلْ يَذْكُرَ لَهُ قَوْلَهُ فَقَطْ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحُكْمُ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ تَخْيِيرَهُ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُسْتَفْتِي مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَاخْتَارَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ بِاجْتِهَادِهِ فَكَذَلِكَ الْعَامِّيُّ يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ هَذَا الْعَالِمِ وَلَا يَجِبُ تَخْيِيرُهُ. . مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ، وَقَدْ سَأَلَهُ الْعَامِّيُّ عَلَى يَمِينٍ مَثَلًا وَكَانَ مُعْتَقَدُهُ الْحِنْثَ، أَنْ يُحِيلَهُ عَلَى آخَرَ يُخَالِفُ مُعْتَقَدَهُ أَوْ لَا؟ الظَّاهِرُ الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَمْرُ مُقَلِّدِهِ بِذَلِكَ. وَالْأَحْوَطُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْمُسْتَفْتِي لَا تَشْدِيدًا وَلَا تَسْهِيلًا وَلَا بِحِيلَةٍ. وَقَدْ عَرَفَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ.

ثُمَّ رَأَيْت عَنْ أَحْمَدَ التَّصْرِيحَ بِجَوَازِ إرْشَادِهِ إلَى آخَرَ مُعْتَبَرٍ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ. وَفِي " تَعْلِيقِ " الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، فِي (بَابِ الْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ) أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ كَالْحَنَفِيِّ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الدَّارَكِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، يَقَعُ عَلَى مُعْتَقِدِ إبَاحَتِهِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَفْتَى الشَّافِعِيُّ مَنْ يَرَى مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ بِجَوَازِ التَّحَلُّلِ. فَلَمَّا أَفْتَاهُ بِمَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ بَطَلَ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ. . مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ لِلْعَالَمِ أَنْ يُفْتِيَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؟ قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ": ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يُحَكِّمُ نَفْسَهُ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. قَالَ: وَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَتْوَاهُ لِوَالِدِهِ وَوَلَدِهِ فِيمَا هَذَا شَأْنُهُ. قُلْت: قَدْ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " فِي هَذَا احْتِمَالَيْنِ. فَلَوْ رَضِيَ الْآخَرُ بِفَتْوَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ إذَا أَفْتَى بِنَصٍّ يُقْبَلُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا فَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَمَّا فَتْوَى نَفْسِهِ مِمَّا يَعُودُ عَلَى أَمْرِ دِينِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اسْتَفْتِ نَفْسَك وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك» . وَأَمَّا فَتْوَاهُ فِيمَا يَعُودُ عَلَى وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ مَا سَبَقَ. . مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ عِلَّتَهُ، خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. .

مَسْأَلَةٌ مَتَى يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ الْعَمَلُ بِمَا يُلَقِّنُهُ الْمُجْتَهِدُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: (أَحَدُهَا) : بِمُجَرَّدِ الْإِفْتَاءِ. وَ (الثَّانِي) : إذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ وَحَقِيقَتُهُ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ أَوْلَى الْأَوْجُهِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَمْ أَجِدْهُ لِغَيْرِهِ. وَ (الثَّالِثُ) : ذَكَرَهُ احْتِمَالًا: أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، كَالْكَفَّارَاتِ. وَهُوَ يَقْوَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الشُّرُوعَ فِيمَا يَلْزَمُ مُلْزِمٌ. وَ (الرَّابِعُ) : - وَهُوَ الْأَصَحُّ - لَا يَلْزَمُهُ بِهِ إلَّا بِالْتِزَامِهِ، كَالنَّذْرِ، فَيَصِيرُ بِالْتِزَامِهِ لَازِمًا لَهُ، لَا بِالْفُتْيَا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَبَقَ مِنْ التَّخْيِيرِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ جَوَابُ الْمُفْتِينَ. وَ (الْخَامِسُ) : - وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ سَوَاءٌ الْتَزَمَ أَوْ لَا، أَوْ بِرُجْحَانِ أَحَدِهِمَا، أَوْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَكَانَ السُّؤَالُ مَثَلًا عَنْ يَمِينٍ فَقَالَ لَهُ الْمُجْتَهِدُ: حَنِثْت فَهَلْ يُقَدَّرُ الْحِنْثُ وَاقِعًا بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ، كَحُكْمِ الْحَاكِمِ، أَوْ إنَّمَا يَقَعُ الْحِنْثُ بِالِالْتِزَامِ بِلَفْظِهِ أَوْ بِنِيَّةٍ؟ فِيهِ نَظَرٌ. . مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ تَقْلِيدِ مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ

قَالَ إلْكِيَا: يَلْزَمُهُ. - وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: لَا، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي (أَوَائِلِ الْقَضَاءِ) وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ. وَقَدْ رَامَ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ زَمَنَ مَالِكٍ حَمْلَ النَّاسَ فِي الْآفَاقِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ الْعِلْمَ فِي الْبِلَادِ بِتَفْرِيقِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، فَلَمْ يَرَ الْحَجْرَ عَلَى النَّاسِ، وَرُبَّمَا نُودِيَ: " لَا يُفْتَى أَحَدٌ وَمَالِكٌ بِالْمَدِينَةِ " قَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ: وَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: لَا يُفْتَى أَحَدٌ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ مَالِكٌ بِالْأَهْلِيَّةِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: لَا تَحْمِلْ عَلَى مَذْهَبِك فَيُحْرَجُوا، دَعْهُمْ يَتَرَخَّصُوا بِمَذَاهِبِ النَّاسِ. وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ الطَّلَاقِ فَقَالَ: يَقَعُ يَقَعُ، فَقَالَ لَهُ الْقَائِلُ: فَإِنْ أَفْتَانِي أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، يَجُوزُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَدَلَّهُ عَلَى حَلْقَةِ الْمَدَنِيِّينَ فِي الرَّصَافَةِ. فَقَالَ: إنْ أَفْتَوْنِي جَازَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَنْ شَاءُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ» . - وَتَوَسَّطَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ فَقَالَ: الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، لَا قَبْلَهُمْ. وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَبْلَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يُدَوِّنُوا مَذَاهِبَهُمْ وَلَا كَثُرَتْ الْوَقَائِعُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى عُرِفَ مَذْهَبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ الْوَقَائِعِ وَفِي أَكْثَرِهَا، وَكَانَ الَّذِي يَسْتَفْتِي الشَّافِعِيَّ - مَثَلًا - لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا يَقُولُهُ الْمُفْتِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ مَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعِ، أَوْ لِأَنَّهَا مَا وَقَعَتْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَضِّدَهُ إلَّا سِرٌّ خَاصٌّ، وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ فُهِمَتْ الْمَذَاهِبُ وَدُوِّنَتْ وَاشْتُهِرَتْ وَعُرِفَ الْمُرَخِّصُ مِنْ الْمُشَدِّدِ فِي كُلِّ

وَاقِعَةٍ، فَلَا يَنْتَقِلُ الْمُسْتَفْتِي - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ إلَّا رُكُونًا إلَى الِانْحِلَالِ وَالِاسْتِسْهَالِ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي الْفَتْحِ الْهَرَوِيِّ أَحَدِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا مَذْهَبَ لَهُ. مَسْأَلَةٌ فَلَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا، كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَاعْتَقَدَ رُجْحَانَهُ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ إمَامَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ وَيَأْخُذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ مُجْتَهِدٍ آخَرَ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ: (أَحَدُهَا) : الْمَنْعُ، وَبِهِ جَزَمَ الْجِيلِيُّ فِي الْإِعْجَازِ، لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ إمَامٍ مُسْتَقِلٌّ بِآحَادِ الْوَقَائِعِ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الِانْتِقَالِ إلَّا التَّشَهِّيَ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ التَّرَخُّصِ وَالتَّلَاعُبِ بِالدِّينِ. وَ (الثَّانِي) : يَجُوزُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي " الرَّافِعِيِّ "، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُوجِبُوا عَلَى الْعَوَامّ تَعْيِينَ الْمُجْتَهِدِينَ، لِأَنَّ السَّبَبَ - وَهُوَ أَهْلِيَّةُ الْمُقَلِّدِ لِلتَّقْلِيدِ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَقْوَالِهِ، وَعَدَمُ أَهْلِيَّةِ الْمُقَلِّدِ مُقْتَضٍ لِعُمُومِ هَذَا الْجَوَابِ. وَوُجُوبُ الِاقْتِصَارِ عَلَى مُفْتٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ سِيرَةِ الْأَوَّلِينَ. بَلْ يَقْوَى الْقَوْلُ بِالِانْتِقَالِ فِي صُورَتَيْنِ: (إحْدَاهُمَا) : إذَا كَانَ مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ يَقْتَضِي تَشْدِيدًا كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ ثُمَّ فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، وَكَانَ مَذْهَبُ مُقَلَّدِهِ

عَدَمَ الْحِنْثِ فَخَرَجَ مِنْهُ لِقَوْلِ مَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْتِزَامِ الْحِنْثِ قَطْعًا. وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ الْقَصْرَ فِي سَفَرٍ جَاوَزَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ. وَ (الثَّانِيَةُ) : إذَا رَأَى لِلْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِمَذْهَبِ إمَامِهِ دَلِيلًا صَحِيحًا وَلَمْ يَجِدْ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ دَلِيلًا قَوِيًّا عَنْهُ وَلَا مُعَارِضًا رَاجِحًا عَلَيْهِ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ مِنْ التَّقْلِيدِ حِينَئِذٍ مُحَافَظَةً عَلَى الْعَمَلِ بِظَاهِرِ الدَّلِيلِ. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِ رُجُوعِ الْمُقَلِّدِ عَمَّنْ قَلَّدَهُ فَهُوَ - إنْ صَحَّ - مَحْمُولٌ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ أَنْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ فِيهَا. وَاعْلَمْ أَنَّا حَيْثُ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَشَرْطُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ رُجْحَانَ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ الَّذِي قَلَّدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ لِلْعَامِّيِّ ذَلِكَ مُطْلَقًا، إذْ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَيْهِ. وَلِهَذَا قَالَ الْبَغَوِيّ: لَوْ أَنَّ عَامِّيًّا شَافِعِيًّا لَمَسَ امْرَأَتَهُ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَقَالَ: عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ الطَّهَارَةُ بِحَالِهَا، لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، فَأَشْبَهَ مَا إذَا اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ، قَالَ: وَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَرْتَكِبَ جَمِيعَ مَحْظُورَاتِ الْمَذْهَبِ، كَشُرْبِ الْمُثَلَّثِ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَنَحْوِهِ، وَيَقُولُ: هَذَا جَائِزٌ، وَيَتْرُكُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: هَذَا جَائِزٌ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. انْتَهَى. وَ (الثَّالِثُ) : أَنَّهُ كَالْعَامِّيِّ الَّذِي لَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ عَمِلَ فِيهَا بِقَوْلِ إمَامِهِ لَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا بِقَوْلِهِ فَلَا مَانِعَ فِيهَا مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ. وَ (الرَّابِعُ) : إنْ كَانَ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ فَلَا يَجِبُ التَّخْصِيصُ بِمَذْهَبٍ، وَإِنْ حَدَثَ وَقَلَّدَ إمَامًا فِي حَادِثَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي يُتَوَقَّعُ وُقُوعُهَا فِي حَقِّهِ. وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، لِأَنَّ قَبْلَ تَقْرِيرِ الْمَذَاهِبِ مُمْكِنٌ، وَأَمَّا بَعْدُ فَلَا، لِلْخَبْطِ وَعَدَمِ الضَّبْطِ.

وَ (الْخَامِسُ) : إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِ مُقَلَّدِهِ أَقْوَى مِنْ مُقَلَّدِهِ جَازَ. قَالَهُ الْقُدُورِيُّ الْحَنَفِيُّ. وَ (السَّادِسُ) : وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي " الْقَوَاعِدِ " -: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْهَبُ الَّذِي أَرَادَ الِانْتِقَالَ عَنْهُ بِمَا يَنْقُضُ الْحُكْمَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ [لَهُ] الِانْتِقَالُ إلَى حُكْمٍ يَجِبُ نَقْضُهُ، لِبُطْلَانِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْخَذَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَ التَّقْلِيدُ وَالِانْتِقَالُ، لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا [كَذَلِكَ] فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا لَأَنْكَرُوهُ. وَقَالَ فِي " الْفَتَاوَى الْمَوْصِلِيَّةِ " - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ شَافِعِيٍّ حَضَرَ نِكَاحَ صَبِيَّةٍ لَا أَبَ لَهَا وَلَا جَدَّ وَالشَّهَادَةُ عَلَى إذْنِهَا لَهُ فِي التَّزْوِيجِ - فَأَجَابَ: إنْ قَلَّدَ الْمُخَالِفَ فِي مَذَاهِبَ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي " الرَّوْضَةِ " فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ أَنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَوْ الْإِبَاحَةَ، بِاجْتِهَادٍ، أَوْ تَقْلِيدٍ، أَوْ حُسْبَانٍ، أَوْ مُجَرَّدٍ. وَ (السَّابِعُ) : - وَاخْتَارَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - الْجَوَازُ بِشُرُوطٍ: (أَحَدُهَا) أَنْ لَا يَجْتَمِعَ فِي صُورَةٍ يَقَعُ الْإِجْمَاعُ عَلَى بُطْلَانِهَا، كَمَا إذَا افْتَصَدَ وَمَسَّ الذَّكَرَ وَصَلَّى. (وَالثَّانِي) أَلَّا يَكُونَ مَا قَلَّدَ فِيهِ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ الْحُكْمُ لَوْ وَقَعَ بِهِ. (وَالثَّالِثُ) انْشِرَاحُ صَدْرِهِ لِلتَّقْلِيدِ الْمَذْكُورِ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهِ لِكَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِالدِّينِ مُتَسَاهِلًا فِيهِ. وَدَلِيلُ اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ قَوْلُهُ: «وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك» فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك فَفِعْلُهُ إثْمٌ. بَلْ أَقُولُ: إنَّ هَذَا شَرْطُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ وَهُوَ أَلَّا يُقْدِمَ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ

مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ. وَلَا اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، بَلْ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ النُّصُوصِ بِحَيْثُ يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُسْتَكْرَهًا، فَيَكْفِي فِي ذَلِكَ عَدَمُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِقَائِلِ الْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِذَلِكَ الظَّاهِرِ. انْتَهَى. وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عَنْ الزَّنَاتِيِّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ الْجَوَازَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: (أَحَدُهَا) أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى صُورَةٍ تُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ. وَ (الثَّانِي) أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ الْفَضْلَ بِوُصُولِ أَخْبَارِهِ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدُهُ فِي عَمَلِهِ. وَ (الثَّالِثَةُ) أَنْ لَا يَتَّبِعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ. قَالَ: وَالْمَذَاهِبُ كُلُّهَا مَسْلَكٌ إلَى الْجَنَّةِ، وَطُرُقٌ إلَى الْخَيْرَاتِ، فَمَنْ سَلَكَ مِنْهَا طَرِيقًا وَصَّلَهُ. انْتَهَى. وَحَكَى بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ هَذَا الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْأَوْلَى الْأَخْذُ بِالْأَخَفِّ أَوْ الْأَثْقَلِ. ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنَّ مَنْ بُلِيَ بِوَسْوَاسٍ أَوْ شَكٍّ أَوْ قُنُوطٍ فَالْأَوْلَى أَخْذُهُ بِالْأَخَفِّ وَالْإِبَاحَةِ وَالرُّخَصِ، لِئَلَّا يَزْدَادَ مَا بِهِ وَيَخْرُجَ عَنْ الشَّرْعِ، وَمَنْ كَانَ قَلِيلَ الدِّينِ كَثِيرَ التَّسَاهُلِ أَخَذَ بِالْأَثْقَلِ وَالْعَزِيمَةِ لِئَلَّا يَزْدَادَ مَا بِهِ، فَيَخْرُجَ إلَى الْإِبَاحَةِ. وَمَرَّ بِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ سُئِلَ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ لَهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ يَرَى هَذَا الْقَوْلَ حَقًّا أَنْ يُبْتَلَى بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَنَعَمْ، إلَّا فَلَا. وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ مُتَوَرِّعٍ، وَقَسَّمَ بَعْضُهُمْ الْمُلْتَزِمَ لِمَذْهَبٍ إذَا أَرَادَ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ إلَى أَحْوَالٍ: (إحْدَاهَا) : أَنْ يَعْتَقِدَ - بِحَسَبِ حَالِهِ - رُجْحَانَ مَذْهَبِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَيَجُوزُ اتِّبَاعًا لِلرَّاجِحِ فِي ظَنِّهِ. (الثَّانِيَةُ) أَنْ يَعْتَقِدَ مَذْهَبَ إمَامِهِ، أَوْ لَا يَعْتَقِدَ رُجْحَانًا أَصْلًا، لَكِنْ

فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ - أَعْنِي اعْتِقَادَهُ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ، وَعَدَمَ الِاعْتِقَادِ - يَقْصِدُ تَقْلِيدَهُ احْتِيَاطًا لِدِينِهِ، كَالْحِيلَةِ إذَا قَصَدَ بِهَا الْخَلَاصَ مِنْ الرِّبَا، كَبَيْعِ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَشِرَاءِ الْجَنِيبِ بِهَا، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، بِخِلَافِ الْحِيلَةِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ حَيْثُ يُحْكَمُ بِكَرَاهَتِهَا. (الثَّالِثَةُ) أَنْ يَقْصِدَ بِتَقْلِيدِهِ الرُّخْصَةَ فِيمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، لِحَاجَةٍ لَحِقَتْهُ، أَوْ ضَرُورَةٍ أَرْهَقَتْهُ، فَيَجُوزُ أَيْضًا، إلَّا إنْ اعْتَقَدَ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ وَيَقْصِدُ تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ فَيَمْتَنِعُ، وَهُوَ صَعْبٌ. وَالْأَوْلَى: الْجَوَازُ. (الرَّابِعَةُ) أَلَّا تَدْعُوَهُ إلَى ضَرُورَةٍ وَلَا حَاجَةٍ، بَلْ مُجَرَّدِ قَصْدِ التَّرَخُّصِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ رُجْحَانُهُ، فَيَمْتَنِعُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ لَا لِلدِّينِ. (الْخَامِسَةُ) أَنْ يَكْثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَيَجْعَلَ اتِّبَاعَ الرُّخْصِ دَيْدَنَهُ، فَيَمْتَنِعُ، لِمَا قُلْنَا وَزِيَادَةُ فُحْشِهِ. (السَّادِسَةُ) أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ مُرَكَّبَةٌ مُمْتَنِعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَمْتَنِعُ. (السَّابِعَةُ) أَنْ يَعْمَلَ بِتَقْلِيدِهِ الْأَوَّلَ، كَالْحَنَفِيِّ يَدَّعِي شُفْعَةَ الْجِوَارِ فَيَأْخُذَهَا بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ تُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيُرِيدُ أَنْ يُقَلِّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، فَيَمْتَنِعُ، لِتَحَقُّقِ خَطَئِهِ إمَّا فِي الْأَوَّلِ وَإِمَّا فِي الثَّانِي، وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ مُكَلَّفٌ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ - ادَّعَى الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَلَا بَعْدَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَا، فَفِي كَلَامِ غَيْرِهِمَا مَا يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ بَعْدَ

الْعَمَلِ أَيْضًا، وَكَيْفَ يَمْتَنِعُ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ؟ ، لَكِنَّ وَجْهَ مَا قَالَاهُ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ مُكَلَّفٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ غَيْرُهُ، وَالْعَامِّيُّ لَا يَظْهَرُ لَهُ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ، حَيْثُ يَنْتَقِلُ مِنْ أَمَارَةٍ إلَى أَمَارَةٍ. وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: التَّقْلِيدُ بَعْدَ الْعَمَلِ إنْ كَانَ مِنْ الْوُجُوبِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَتْرُكَ، كَالْحَنَفِيِّ يُقَلِّدُ فِي الْوِتْرِ، وَمِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَفْعَلَ، كَالشَّافِعِيِّ يُقَلِّدُ فِي أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ جَائِزٌ، وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ لَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ، وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ خَارِجٌ عَنْ الْعَمَلِ وَحَاصِلٌ قَبْلَهُ، فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ التَّقْلِيدِ. وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ الْإِبَاحَةَ فَقَلَّدَ فِي الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ فَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَبْعَدُ. وَلَيْسَ فِي الْعَامِّيِّ إلَّا هَذِهِ الْأَقْسَامُ. نَعَمْ، الْمُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ إذَا أَفْتَى بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ حَرَامًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ وَيُفْتِيَ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَحْضُ تَشَهٍّ. وَالثَّانِي - ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ جَرَيَانُ هَذَا الْخِلَافِ فِي تَتَبُّعِ الرُّخْصِ وَغَيْرِهَا. وَرُبَّمَا قِيلَ: اتِّبَاعُ الرُّخْصِ مَحْبُوبٌ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ» . وَيُشْبِهُ جَعْلَهُ فِي غَيْرِ الْمُتَتَبِّعِ مِنْ الِانْتِقَالِ قَطْعًا، خَشْيَةَ الِانْحِلَالِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنِيرِ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ فَاوَضَهُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ وَنَحْنُ نَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَالْكُلُّ دِينُ اللَّهِ، وَالْعُلَمَاءُ أَجْمَعُونَ دُعَاةٌ إلَى اللَّهِ، قَالَ: حَتَّى كَانَ هَذَا الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ غَلَبَةِ شَفَقَتِهِ عَلَى الْعَامِّيِّ إذَا جَاءَ يَسْتَفْتِيهِ - مَثَلًا - فِي حِنْثٍ يَنْظُرُ فِي وَاقِعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ يَحْنَثُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَحْنَثُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ قَالَ لِي: أَفْتِهِ أَنْتَ. يَقْصِدُ بِذَلِكَ التَّسْهِيلَ عَلَى الْمُسْتَفْتِي وَرَعًا. كَانَ يَنْظُرُ أَيْضًا فِي فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ التَّقَيُّدِ، فَيَرَى أَنَّهُ إنْ شَدَّدَ عَلَى الْعَامِّيّ رُبَّمَا لَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ، فَيُوَسِّعُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا مُسْتَدْرَكَ وَلَا تَقْلِيدَ، بَلْ جُرْأَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاجْتِرَاءٌ عَلَى الْمُحَرَّمِ. قُلْت: كَمَا اتَّفَقَ لِمَنْ سَأَلَ التَّوْبَةَ وَقَدْ قَتَلَ تِسْعًا

مسألة تتبع الرخص في كل مذهب

وَتِسْعِينَ. قَالَ: فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَئُولُ بِهِ إلَى هَذَا الِانْحِلَالِ الْمَحْضِ فَرُجُوعُهُ حِينَئِذٍ فِي الرُّخْصَةِ إلَى مُسْتَنَدٍ وَتَقْلِيدُ الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ رُجُوعِهِ إلَى الْحَرَامِ الْمَحْضِ. قُلْت: فَلَا يَنْبَغِي حِينَئِذٍ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ، بَلْ يَرْجِعُ النَّظَرُ إلَى حَالِ الْمُسْتَفْتِي وَقَصْدِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِي الْحِكَايَاتِ الْمُسْنَدَةِ إلَى وَلَدِ ابْنِ الْقَاسِمِ حَنِثَ فِي يَمِينٍ حَلَفَ فِيهَا بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَاسْتَفْتَى أَبَاهُ، فَقَالَ لَهُ: أُفْتِيك فِيهَا بِمَذْهَبِ اللَّيْثِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ عُدْت أَفْتَيْتُك بِمَذْهَبِ مَالِكٍ. يَعْنِي بِالْوَفَاءِ، قَالَ: وَمَحْمَلُ ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ نَقَلَ لَهُ مَذْهَبَ اللَّيْثِ لَا أَنَّهُ أَفْتَاهُ بِهِ، وَحَمَلَهُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ بِمَشَقَّةِ الْمَشْيِ عَلَى الْحَالِفِ أَوْ خَشْيَةُ ارْتِكَابِ مَفْسَدَةٍ أُخْرَى، فَخَلَّصَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ هَدَّدَهُ بِمَا يَقْتَضِي تَحَرُّزَهُ مِنْ الْعَادَةِ. قُلْت: وَرُبَّمَا كَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَرَى التَّخْيِيرَ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا إذَا رَآهُ مَصْلَحَةً، وَأَمَّا بِالتَّشَهِّي فَلَا. قَالَ: وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقَائِعُ تُتَّفَقُ نَوَادِرَ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ سَاءَتْ الْقُصُودُ وَالظُّنُونُ وَكَثُرَ الْفُجُورُ وَتَغَيَّرَ إلَى فُتُونٍ، فَلَيْسَ إلَّا إلْجَامُ الْعَوَامّ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الرُّخَصِ أَلْبَتَّةَ. . [مَسْأَلَةٌ تتبع الرُّخْص فِي كُلِّ مَذْهَبٍ] مَسْأَلَةٌ فَلَوْ اخْتَارَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مَا هُوَ الْأَهْوَنُ عَلَيْهِ، فَفِي تَفْسِيقِهِ وَجْهَانِ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: يُفَسَّقُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا، حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ فِي فَتَاوِيهِ ".

وَأَطْلَقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِكُلِّ رُخْصَةٍ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ، وَأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ كَانَ فَاسِقًا. وَخَصَّ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ التَّفْسِيقَ بِالْمُجْتَهِدِ إذَا لَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُ إلَى الرُّخْصَةِ وَاتَّبَعَهَا، وَبِالْعَامِّيِّ الْمُقْدِمِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ، لِإِخْلَالِهِ بِغَرَضِهِ وَهُوَ التَّقْلِيدُ. فَأَمَّا الْعَامِّيُّ إذَا قَلَّدَ فِي ذَلِكَ فَلَا يُفَسَّقُ، لِأَنَّهُ قَلَّدَ مَنْ يَسُوغُ اجْتِهَادُهُ. وَفِي " فَتَاوَى النَّوَوِيِّ " الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ. وَقَالَ فِي فَتَاوٍ لَهُ أُخْرَى وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مُقَلِّدِ مَذْهَبٍ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَ مَذْهَبِهِ فِي رُخْصَةٍ لِضَرُورَةٍ وَنَحْوِهَا؟ أَجَابَ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِفْتَاءِ إذَا سَأَلَهُ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ تَلَقُّطِ الرُّخَصِ وَلَا تَعَمُّدِ سُؤَالِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مَذْهَبَهُ التَّرْخِيصُ فِي ذَلِكَ. وَسُئِلَ أَيْضًا: هَلْ يَجُوزُ أَكْلُ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَوْ شُرْبُهُ تَقْلِيدًا لِمَالِكٍ؟ فَأَجَابَ: لَيْسَ لَهُ أَكْلُهُ وَلَا شُرْبُهُ إنْ نَقَصَ عَنْ قُلَّتَيْنِ إذَا كَانَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَعْتَقِدُ نَجَاسَتَهُ. انْتَهَى. وَفِي " أَمَالِي " الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ: إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، كَشُرْبِ النَّبِيذِ - مَثَلًا - فَشَرِبَهُ شَخْصٌ وَلَمْ يُقَلِّدْ أَبَا حَنِيفَةَ وَلَا غَيْرَهُ، هَلْ يَأْثَمُ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ إضَافَتَهُ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ بِأَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَحَاصِلُ مَا قَالَ إنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ الْمُكَلَّفُ: فَإِنْ كَانَ مِمَّا اشْتَهَرَ تَحْرِيمُهُ فِي الشَّرْعِ أَثِمَ، وَإِلَّا لَمْ يَأْثَمْ. انْتَهَى. وَعَنْ " الْحَاوِي " لِلْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْ النَّبِيذِ مَا لَا يُسْكِرُ مَعَ عِلْمِهِ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَعْتَقِدْ الْإِبَاحَةَ وَلَا الْحَظْرَ حُدَّ. وَفِي " فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ ": عَامِّيٌّ شَافِعِيٌّ لَمَسَ امْرَأَةَ رَجُلٍ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَقَالَ: عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الطَّهَارَةُ بِحَالِهَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ بِالِاجْتِهَادِ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادَهُ، كَمَا إذَا اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَةِ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ جَوَّزْنَا لَهُ ذَلِكَ لَأَدَّى إلَى أَنْ يَرْتَكِبَ مَحْظُورَاتِ الْمَذَاهِبِ وَشُرْبَ الْمُثَلَّثِ وَالنِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. انْتَهَى.

وَفِي " السُّنَنِ " لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ: مَنْ أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ. وَعَنْهُ: يُتْرَكُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُتْعَةُ وَالصَّرْفُ، وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ السَّمَاعُ وَإِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ الْحَرْبُ وَالطَّاعَةُ، وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ النَّبِيذُ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ يَقُولُ: سَمِعْت ابْنَ سُرَيْجٍ يَقُولُ: سَمِعْت إسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ قَالَ: دَخَلْت عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَدَفَعَ إلَيَّ كِتَابًا نَظَرْت فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ الرُّخَصَ مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ، فَقُلْت: مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيقٌ، فَقَالَ: لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ؟ قُلْت: الْأَحَادِيثُ عَلَى مَا رَوَيْت وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحْ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحْ الْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إلَّا وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ - مَثَلًا - أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْخَطِّ عِنْدَ الْمَالِكِيِّ الَّذِي يَرَى الْعَمَلَ بِهِ؟ صَرَّحَ ابْنُ الصَّبَّاغِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي (كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ) . قَالُوا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى خَطِّ نَفْسِهِ، وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ إذَا وَثِقَ بِهِ وَقَلَّدَ الْمُخَالِفَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَصْحِيحُ النَّوَوِيِّ قَبُولَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ عَلَى مَا لَا يَعْتَقِدُهُ كَالشَّافِعِيِّ يَشْهَدُ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَنَفِيَّ إذَا حَكَمَ لِلشَّافِعِيِّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْحِلُّ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْكِلُ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي (كِتَابِ الصَّلَاةِ) أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعَقِيدَةِ الْإِمَامِ لَا الْمَأْمُومِ. .

خاتمة الكتاب

مَسْأَلَةٌ الْعَامِّيُّ إذَا اتَّبَعَ مُجْتَهِدًا ثُمَّ مَاتَ وَفِي الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ آخَرُ، فَقِيلَ: عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَنْ عَاصَرَهُ، فَإِنَّ نَظَرَهُ أَوْلَى مِنْ نَظَرِ الْمَيِّتِ. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا لَيْسَ مَقْطُوعًا بِهِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمَا كُلِّفَ النَّاسُ بِاتِّبَاعِ مَذْهَبِهِ بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِذَنْ الِاخْتِيَارُ مُفَوَّضٌ إلَى الْعَامِّيِّ فِي الْقَبُولِ. وَكَأَنَّ هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ. وَالْأَصَحُّ: الْجَوَازُ. . مَسْأَلَةٌ إذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ فِعْلًا مُخْتَلَفًا فِي تَحْرِيمِهِ غَيْرَ مُقَلِّدٍ لِأَحَدٍ، فَهَلْ نُؤَثِّمُهُ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ لَا، بِنَاءً عَلَى التَّحْلِيلِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ إضَافَتُهُ لِأَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلَمْ يَسْأَلْنَا عَنْ مَذْهَبِنَا فَنُجِيبُهُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّهُ آثِمٌ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَهَذَا أَقْدَمَ غَيْرَ عَالِمٍ فَهُوَ آثِمٌ بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ. وَأَمَّا تَأْثِيمُهُ بِالْفِعْلِ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا عُلِمَ فِي الشَّرْعِ قُبْحُهُ أَثَّمْنَاهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [خَاتِمَة الْكتاب] تَمَّ الْكِتَابُ، بِعَوْنِ الْمِلْكِ الْوَهَّابِ. [وَجَدْت فِي آخِرِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ مَا صُورَتُهُ] قَالَ مُؤَلِّفُهُ [فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ، وَنَفَعَ الْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَتِهِ] : نُجِزَ سَابِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِالْقَاهِرَةِ، جَعَلَهُ اللَّهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، مَقْرُونًا بِالزُّلْفَى وَالْقَبُولِ إلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، وَنَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ، إنَّهُ الْوَهَّابُ. وَأَنَا أَرْغَبُ إلَى مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْسُبَ فَوَائِدَهُ

إلَيْهِ فَإِنِّي أَفْنَيْت الْعُمُرَ فِي اسْتِخْرَاجِهَا مِنْ الْمُخَبَّآتِ، وَاسْتِنْتَاجِهَا مِنْ الْأُمَّهَاتِ، وَاطَّلَعْت فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَحْسُرُ عَلَى غَيْرِي مَرَامُهُ، وَعَزَّ عَلَيْهِ اقْتِحَامُهُ، وَتَحَرَّزْت فِي النُّقُولِ مِنْ الْأُصُولِ بِالْمُشَافَهَةِ لَا بِالْوَاسِطَةِ، وَرَأَيْت الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ وَقَعَ لَهُمْ الْغَلَطُ الْكَثِيرُ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ، فَإِذَا رَأَيْت فِي كِتَابِي هَذَا شَيْئًا مِنْ النُّقُولِ، فَاعْتَمِدْهُ فَإِنَّهُ الْمُحَرَّرُ الْمَقْبُولُ. وَإِذَا تَأَمَّلْتَهُ وَإِسْعَافَهُ وَجَدْتَهُ قَدْ زَادَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَضْعَافَهُ. وَقَدْ أَحْيَيْت مِنْ كَلَامِ الْأَقْدَمِينَ خُصُوصًا الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، مَا قَدْ دَرَسَ، وَأَسْفَرَ صَبَاحُهُ بَعْدَ أَنْ تَلَبَّسَ بِالْغَلَسِ. وَلَقَدْ كَانَ مَنْ أَدْرَكْت مِنْ الْأَكَابِرِ يَقُولُ: مَسَائِلُ أُصُولِ الْفِقْهِ إذَا اُسْتُقْصِيَتْ تَجِيءُ نَحْوَ الثَّمَانِمِائَةِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا إلَى الثَّمَانِيَةِ آلَافٍ وَأَزْيَدَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى مَا ذَكَرَهُ، وَتَتَضَاعَفُ عِنْدَ التَّوْلِيدِ وَالنَّظَرِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَصَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمَخْلُوقِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَعِتْرَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ الطَّاهِرِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

§1/1