البحث اللغوي عند العرب

أحمد مختار عمر

مقدمة

المقدمة: يتناول هذا الكتاب بالتأريخ الدراسات اللغوية عند العرب، منذ نشأتها المبكرة إلى أن وصلت إلى مرحلة النضج والكمال، ولا يتجاوز ذلك القرن الخامس الهجري بأي حال من الأحوال، ففي هذا القرن اكتملت الاتجاهات المعجمية، وفي القرن الذي قبله وصل الدرس النحوي والصرفي والأصواتي إلى قمته. ولم يعد ما تلا ذلك من الدراسات أن يكون ترديدًا أو شرحًا أو تلخيصًا أو نظمًا لأعمال سابقة. ولم أتجاوز القرن الخامس إلا في حالة واحدة، هي أن أبدأ بالحديث عن اتجاه ما، ثم لا أجده ينتهي بانتهاء هذا القرن، فلم يكن هناك بد من السير بالاتجاه إلى نهايته. وقد حدث هذا -مثلًا- حين تتبعي للمدارس المعجمية، وحدث كذلك حين الكلام عن دعوات التجديد والإصلاح للنحو العربي. ولما كان الحكم على العقلية العربية، وتقييم ما قدمته في ميدان الدراسات اللغوية من أبحاث ونظريات لا يكتمل إلا بمعرفة جهود السابقين والمعاصرين في نفس الميدان، رأيت أن أخصص فصلًا في الباب الأول لعلاج هذا الموضوع واخترت له عنوان "الدراسات اللغوية عند غير العرب". وتسلم هذه الدراسة للأعمال اللغوية الأجنبية - إلى جانب الأعمال اللغوية العربية- إلى تساؤل يتعلق بمدى الصلة بين الجهدين، ومقدار ما قدمه كل طرف للآخر أو أخذه عنه. وقد أفردت لعلاج هذا الموضوع بابًا خاصًّا هو الباب الثالث الذي عالج قضية التأثير من جانبيها ولكن في إيجاز وتركيز. ولست أزعم أن كل ما جاء في هذا الكتاب جديد، فبعضه -وهو قليل- لا جديد فيه على الإطلاق، ومعصه بعضه قديم وضع في ثوب جديد، وبعضه -وهو كثير- جديد بالنسبة للقارئ العربي.

وأرجو أن يغني هذا الكتاب طلاب الدراسات العليا في جامعاتنا العربية عن الرجوع إلى المظان المختلفة وبعضها نادر الوجود وبعضها الآخر مصور أو مخطوط. كما أرجو أن يكون نافذة تفتح عيونهم على كثير من القضايا التي ما تزال معلقة حتى الآن، أو ما تزال في حاجة إلى تحليل وتمحيص. وأحمد الله أن لاقى هذا الكتاب رواجًا كبيرًا لم أكن أتوقعه حتى صدرت له خمس طبعات في خمس عشرة سنة، وقد اقتضاني هذا إعادة النظر فيه عند كل مرة أدفعه إلى المطبعة. وكنت في كل مرة أتجنب ما قد أجده من هفوات أو مواطن وأزيد ما بدا لي ضروريًّا. وتختلف هذه الطبعة عن الطبعات السابقة اختلافًا ملموسًا وتتميز بما يأتي: 1- تحرير القول في موقف اللغويين والنحاة من القراءات القرآنية. 2- تدقيق النظر في موقف اللغويين من الحديث النبوي الشريف. 3- إعطاء آراء ابن سيناء الصوتية اهتمامًا خاصًّا بعد أن نُشر كتابه "أسباب حدوث الحروف" نشرة علمية محققة. 4- توسيع الفصل الخاص بالمعاجم ليلبي حاجات الطلاب والدارسين، وبخاصة بعد أن أصبح علم المعاجم مقررًا مستقلًّا في كثير من الجامعات العربية، وبعد أن تطورت صناعة المعجم على المستوى العالمي. وقد أضفت في هذا الفصل عناوين كثيرة مثل: المعجم اللغوي والموسوعة - الخطوات الإجرائية لإعداد المعجم- مجمل اللغة لابن فارس- دراسة تحليلية لكتاب ابن بري "التنبيه والإيضاح" - التكملة والذيل والصلة للزبيدي -حاضر المعجم العربي-

وضع منهجية جديدة للمعجم العربي وجهود أحمد فارس الشدياق - معجم المساعد للكرملي. كما أضفت بعض الأمثلة التطبيقية على معاجم الترتيب الصوتي والجمهرة والمقاييس نظرًا لصعوبة الكشف فيها، وحاجة مستعملها إلى تدريب خاص. وهناك إضافات أخرى وتعديلات موزعة في ثنايا الكتاب يصعب حصرها. والله الموفق. سبتمبر 1987 المؤلف

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب: الصفحة المقدمة 51- 75 الباب الأول - دراسات تمهيدية 17 فصل الأول: مصادر اللغويين العرب القرآن الكريم 17 - القراءات القرآنية 19- الحديث النبوي 34 - الشعر 42 - الشواهد النثرية 50 - مآخذ 54. 57 الفصل الثاني: الدراسات اللغوية عند غير العرب تمهيد 57 - الهنود 57 - اليونانيون 61- المصريون القدماء 63 - السريان 65 - العبرانيون 67- الصيونيون 74. 76- 337 الباب الثاني - الدراسات اللغوية عند العرب الفصل الأول: مرحلة النشأة 79 تأخر البحث اللغوي 79 - غريب ابن عباس 79 - محاولة أبي الأسود لضبط المصحف 79 - علامة التشديد عند أهل المدينة 80 - البدء بجمع المادة 80 - تأخر البحث النحوي عن جمع المادة اللغوية 81 - النحو كفن نشأ قبله كعلم 82 - أول من ألفوا في النحو 83 - سبب وضع النحو 86 - أمثلة لأوليات اللحن 86 - الإقواء 88 - عيسى بن عمر 89 - أبو عمرو بن العلاء 90 - عبد الله بن أبي إسحاق 90. 93 الفصل الثاني: الأصوات عرض تاريخي 93 - جهود النحاة 93 - جهود المعجميين 92 - علماء التجويد 95 - المؤلفون في إعجاز العرب وعلوم البلاغة.... .... أصحاب

الموسوعات الأدبية 98 - ابن جنى 100 - ابن سينا 101 - بعض النتائج الصوتية التي توصل إليها العرب 114 - تعقيب 119. 123 الفصل الثالث: النحو والصرف..... ..... .... عرض تاريخي 123 - سيبويه 123- الرد على سيبويه للمبرد 124- الانتصار لسيبويه من المبرد لابن ولاد 125 - أبو جعفر الرؤاسي ومعاذ الهراء 126 - التنافس بين البصريين والكوفيين 126 - هل وجدت مدارس نحوية عند العرب 128 - أهم الفروق بين مدرستي البصرة والكوفة 136 - ملاحظات 138 - دعوات التجديد والإصلاح للنحو العربي 146 - أسباب الشكوى من النحو 146- الشعوبيون والهجوم على النحو 152 الكتب الميسرة 154 - مقترحات إصلاح النحو: ابن ولاد 156 - أبو العلاء المعري 157 - ابن حزم 158- ابن مضاء 159- قيمة الدراسات النحوية عند العرب 159. 161 الفصل الرابع: المعجم........ .... ......... ........ 161 1- مقدمات للموضوع.... .... .... .... .... ....... صعوبة العمل المعجمي 161 - تعريف المعجم 162- المعجم اللغوي والموسوعة 162 - أنواع المعاجم 163 - معنى كلمة معجم واشتقاقها 163- جمعها 164- شروط المعجم 165 - وظيفة المعجم 165 - الخطوات الإجرائية لإعداد المعجم 167- أول من استخدم لفظ معجم 173 - معجم وقاموس 173.

للصاغاني 253- لسان العرب لابن منظور 255 - القاموس المحيط للفيروزآبادي 257 - نظامه 257 - بين الفيروزآبادي والجوهري 259 - إضاءة الراموس لابن الطيب الفاسي 264 - تاج العروس للزبيدي 266- التكملة للزبيدي 268 - مدرسة الترتيب بحسب الأبنية: مدخل 269 - مرحلة التمهيد 270 - مرحلة المعجم الكامل: ديوان الأدب للفارابي 273- المقدمة 274 - المادة اللغوية 275 - التذييلات 278- فائدة هذا النوع من المعاجم 279 - تقدير القدماء لديوان الأدب 280 - عيوبه 281 - شمس العلوم لنشوان 282 - نظامه 283- بين ديوان الأدب وشمس العلوم 284- مقدمة الأدب للزمخشري 286. القسم الثاني: معاجم المعاني: الكتيبات والرسائل اللغوية 288 - كتب الصفات والغريب المصنف 288- المخصص لابن سيده 289 - كفاية المتحفظ لابن الأجدابي 291- المؤلفات على كفاية المتحفظ 293. 295 3 المآخذ على المعاجم العربية.... ...... .......... ......... إهمال الترتيب الداخلي 295 - الخروج على المنهج المرسوم 296 - أخطاء الشرح 296 - الشرح المعيب 298 - إهمال ضبط الكلمة 298 - التقليد الأعمى 298 - تقييد فترة التسجيل 300 - تجاوز وظيفة المعجم 300 - جمود المعجم العربي في العصر الحديث 301.

304 4- أهم المحاولات لوضع معجم حديث محاولات الأفراد. وضع منهجية جديدة وجهود أحمد فارس الشدياق 304 - تأليف المعاجم الميسرة: محيط المحيط 310- قطر المحيط 310 - أقرب الموارد 310 - المنجد 310 - البستان و"فاكهة البستان" 311- متن اللغة 311 -الرائد 311- المساعد 311 - إعادة ترتيب المعاجم القديمة: ترتيب القاموس المحيط 313 - مختار القاموس 313 - المختار من صحاح اللغة 314 - الإفصاح في فقه اللغة 314 - معاجم المستشرقين: محاولة فيشر 316 - معجم لين 319 - معجم دوزي 321. محاولات المجامع اللغوية: مجمع اللغة العربية بالقاهرة: 322 - المعجم الوسيط 323 - المعجم الكبير 324 - معجم ألفاظ القرآن الكريم 325- مصطلحات العلوم والفنون 325- المعجم الوجيز 325 - المكتب الدائم لتنسيق التعريب 326 - المجمع العلمي العربي بدمشق 328. 329 5 قائمة بكلمات يصعب معرفة أصلها 333 الفصل الخامس: الدراسة المقارنة الزعم أن الدراسة المقارنة لم توجد إلا في العصر الحديث 333 - قدم الدراسة المقارنة عند العرب 333- ابن بارون 333- حودة بن قريش336. 339- 365 الباب الثالث - قضية التأثير والتأثر تمهيد 341.

343 الفصل الأول: احتمالات التأثير الأجنبي. ... .... ...... ........ الهنود 343 - اليونان 350 - السريان 352- العبرانيون 355. 357 الفصل الثاني: احتمالات التأثير العربي ... ... .... النحو السرياني 357- النحو القبطي 358 - النحو العربي 358- المعجم: الهنود 359 - الترك 359 - ديوان لغات الترك للكاشغري 360 - قاموس الأروام لملا صالح 363 - الفرس 363- استعارة الحروف العربية 364- العروض العربي 364. 367-382 مراجع الكتاب:.... ......... ......... ............. .......... 369 1- المراجع العربية. .... ....... ....... ....... ...... 381 2 المراجع الأجنبية ... ..... ...... ....... ........ ... 383 كتب أخرى للمؤلف.... .... ........ ..... ....... ...

المقدمة: يتناول هذا الكتاب بالتأريخ الدراسات اللغوية عند العرب، منذ نشأتها المبكرة إلى أن وصلت إلى مرحلة النضج والكمال، ولا يتجاوز ذلك القرن الخامس الهجري بأي حال من الأحوال، ففي هذا القرن اكتملت الاتجاهات المعجمية، وفي القرن الذي قبله وصل الدرس النحوي والصرفي والأصواتي إلى قمته. ولم يعد ما تلا ذلك من الدراسات أن يكون ترديدًا أو شرحًا أو تلخيصًا أو نظمًا لأعمال سابقة. ولم أتجاوز القرن الخامس إلا في حالة واحدة، هي أن أبدأ بالحديث عن اتجاه ما، ثم لا أجده ينتهي بانتهاء هذا القرن، فلم يكن هناك بد من السير بالاتجاه إلى نهايته. وقد حدث هذا -مثلًا- حين تتبعي للمدارس المعجمية، وحدث كذلك حين الكلام عن دعوات التجديد والإصلاح للنحو العربي. ولما كان الحكم على العقلية العربية، وتقييم ما قدمته في ميدان الدراسات اللغوية من أبحاث ونظريات لا يكتمل إلا بمعرفة جهود السابقين والمعاصرين في نفس الميدان، رأيت أن أخصص فصلًا في الباب الأول لعلاج هذا الموضوع واخترت له عنوان "الدراسات اللغوية عند غير العرب". وتسلم هذه الدراسة للأعمال اللغوية الأجنبية - إلى جانب الأعمال اللغوية العربية- إلى تساؤل يتعلق بمدى الصلة بين الجهدين، ومقدار ما قدمه كل طرف للآخر أو أخذه عنه. وقد أفردت لعلاج هذا الموضوع بابًا خاصًّا هو الباب الثالث الذي عالج قضية التأثير من جانبيها ولكن في إيجاز وتركيز. ولست أزعم أن كل ما جاء في هذا الكتاب جديد، فبعضه -وهو قليل- لا جديد فيه على الإطلاق، ومعصه بعضه قديم وضع في ثوب جديد، وبعضه -وهو كثير- جديد بالنسبة للقارئ العربي.

وأرجو أن يغني هذا الكتاب طلاب الدراسات العليا في جامعاتنا العربية عن الرجوع إلى المظان المختلفة وبعضها نادر الوجود وبعضها الآخر مصور أو مخطوط. كما أرجو أن يكون نافذة تفتح عيونهم على كثير من القضايا التي ما تزال معلقة حتى الآن، أو ما تزال في حاجة إلى تحليل وتمحيص. وأحمد الله أن لاقى هذا الكتاب رواجًا كبيرًا لم أكن أتوقعه حتى صدرت له خمس طبعات في خمس عشرة سنة، وقد اقتضاني هذا إعادة النظر فيه عند كل مرة أدفعه إلى المطبعة. وكنت في كل مرة أتجنب ما قد أجده من هفوات أو مواطن وأزيد ما بدا لي ضروريًّا. وتختلف هذه الطبعة عن الطبعات السابقة اختلافًا ملموسًا وتتميز بما يأتي: 1- تحرير القول في موقف اللغويين والنحاة من القراءات القرآنية. 2- تدقيق النظر في موقف اللغويين من الحديث النبوي الشريف. 3- إعطاء آراء ابن سيناء الصوتية اهتمامًا خاصًّا بعد أن نُشر كتابه "أسباب حدوث الحروف" نشرة علمية محققة. 4- توسيع الفصل الخاص بالمعاجم ليلبي حاجات الطلاب والدارسين، وبخاصة بعد أن أصبح علم المعاجم مقررًا مستقلًّا في كثير من الجامعات العربية، وبعد أن تطورت صناعة المعجم على المستوى العالمي. وقد أضفت في هذا الفصل عناوين كثيرة مثل: المعجم اللغوي والموسوعة - الخطوات الإجرائية لإعداد المعجم- مجمل اللغة لابن فارس- دراسة تحليلية لكتاب ابن بري "التنبيه والإيضاح" - التكملة والذيل والصلة للزبيدي- حاضر المعجم العربي-

وضع منهجية جديدة للمعجم العربي وجهود أحمد فارس الشدياق - معجم المساعد للكرملي. كما أضفت بعض الأمثلة التطبيقية على معاجم الترتيب الصوتي والجمهرة والمقاييس نظرًا لصعوبة الكشف فيها، وحاجة مستعملها إلى تدريب خاص. وهناك إضافات أخرى وتعديلات موزعة في ثنايا الكتاب يصعب حصرها. والله الموفق. سبتمبر 1987 المؤلف

الباب الأول: دراسات تمهيدية

الباب الأول: دراسات تمهيدية الفصل الأول: مصادر اللغويين العرب القرآن الكريم ... الباب الأول: دراسات تمهيدية الفصل الأول: مصادر اللغويين العرب من الممكن حصر المصادر التي استقى منها اللغويون العرب مادتهم فيما يأتي: 1- القرآن الكريم. 2- القراءات القرآنية. 3- الحديث النبوي. 4- الشعر. 5- الشواهد النثرية. وإن وجد بينهم خلاف حول بعضها. وإليكم بيان ذلك: 1- القرآن الكريم: وقد اعتبروه في أعلى درجات الفصاحة، وخير ممثل للغة الأدبية المشتركة، ولذا وقفوا منه موقفًا موحدًا فاستشهدوا به، وقبلوا كل ما جاء فيه، ولا يعرف أحد من اللغويين قد تعرض لشيء مما أثبت في المصحف بالنقد والتخطئة1. ويقول الراغب الأصفهاني في كتابه "المفردات" مبينًا قيمة اللفظ القرآني: "ألفاظ القرآن الكريم هي لب كلام العرب

_ 1 بل كانوا يدافعون عن النص القرآني ضد ما يوجه إليه من شبهات كما فعل ابن هشام في "شذور الذهب" حين نقل ما يروى عن عثمان أنه قال: "إن في المصحف لحنًا وستقيمه العرب بألسنتها". وما يروى عن عائشة أنها قالت: "هذا خطأ من الكاتب" "في قوله تعالى: "والمقيمين" و "الصابئون" و"إن هذان" فقد ذكر أن الخبر باطل لوجوه منها: أ- أن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات فكيف يقرون اللحن في القرآن؟. ب- أن العرب كانت تستقبح اللحن فكيف لا تستقبحه في القرآن؟ ج- أن المصحف يطلع عليه العربي وغيره. د - أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب "التابوه" بالهاء فأمره عثمان أن يكتبها بالتاء على لغة قريش. هـ- أن عمر بلغه قراءة ابن مسعود "عتى" فأمره أن يدعها ويقرئ الناس بلغة قريش فإن الله إنما أنزله بلغتهم، "شرح شذور الذهب بحاشية الأمير، ص 18".

وزبدته، وواسطته، وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء ... وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء ... وما عداها ... كالقشور والنوى بالاضافة إلى أطايب الثمرة". والمراد بالقرآن النص القرآني المدون في المصحف، وهو غير القراءات، يقول الزركشي في "البرهان": "القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان. فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- للبيان والإعجاز. والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما ... "1. ويقول الآمدي في "الإحكام": "أما حقيقة الكتاب فقد قيل فيه: هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة المشهورة نقلًا متواترًا"2. ومن الحقائق المسلمة أن القرآن نزل أولًا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرأوه بلغتهم. ولم يكلف أحد منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة3، وكانت الإباحة بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام وذلك بعد الهجرة4. فلما جاء عثمان وأراد جمع القرآن في المصاحف ونسخها "اقتصر من سائر اللغات على لغة قريش"5، ولذلك "جعل مع زيد النفر القرشيين لئلا يكون شيء من القرآن مرسومًا على غير لغتهم"6. وقال عثمان للقرشيين. "إن اختلفتم في شيء أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه على لسان قريش فإنما نزل بلسان قريش"7.

_ 1 البرهان 1/ 318. 2 الأحكام 1/ 228. 3 القراءات واللهجات، ص 8. 4 النووي على مسلم 6/ 103. 5 الإتقان 1/ 63. 6 المقنع ص 109. 7 المرجع ص 5.

القراءات القرآنية

2- القراءات القرآنية: وهي الوجوه المختلفة التي سمح النبي بقراءة نص المصحف بها قصدًا للتيسير، والتي جاءت وفقًا للهجة من اللهجات العربية. يقول ابن الجزري في كتابه "النشر"1: "فأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها، وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها، وإجابة لقصد نبيها ... حيث أتاه جبريل فقال له: "إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أسأل الله معافاته ومعونته إن أمتي لا تطيق ذلك، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف". ويقول: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى جميع الخلق أحمرها وأسودها عربيها وعجميها، وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة، وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها أو من حرف إلى آخر، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولا بالتعليم والعلاج لا سيما الشيخ والمرأة، ومن لم يقرأ كتابًا ... فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع، وما عسى أن يتكلف وتأبى الطباع". ثم ينقل ابن الجزري عن ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن" قوله: "فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يُقرئ كل أمة بلغتهم وما جرت عليه عادتهم: فالهذلي يقرأ "عتى حين"

_ 1 النشر 1/ 22.

يريد "حتى" ... والقرشي لا يهمز. والآخر يقرأ "قيل لهم" و"غيض الماء" بالإشمام ... وهذا يقرأ "عليهم" و"منهم".. والآخر يقرأ "عليهمو ومنهمو" بالصلة ... إلى غير ذلك.. ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلًا وناشئًا وكهلًا لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه". شروط قبول اللغويين للقراءة: يحتاج موقف اللغويين من القراءات القرآنية وشروط قبولهم لها إلى توضيح، لأن هناك خلطًا كثيرًا وقع في هذه القضية. وأحب بادئ ذي بدء أن أميز بين منهجين مختلفين وموقفين متباينين من القراءات القرآنية: أولهما: موقف القراء وعلماء الأصول. والآخر: موقف اللغوييين والنحاة. الفريق الأول حكمته النظرة إلى القراءة باعتبارها وسيلة تعبد وتقرب إلى الله، وشرطًا لصحة الصلاة، ومصدرًا للتشريع. أما الفريق الثاني فقد حكمته النظرة إلى القراءة باعتبارها أحد المصادر اللغوية المعتمدة، وشاهدًا لا يصح النظر إليه بمعزل عن سائر الشواهد اللغوية. الفريق الأول: حين غلب المقياس الديني- وضع لقبول القراءة شروطًا ثلاثة هي: 1- موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا. 2- موافقة العربية ولو بوجه. 3- صحة سندها واتصال روايتها1.

_ 1 النشر لابن الجزري ص 1- 9.

أما الفريق الثاني -وهو الذي يهمنا - فقد وضع لصحة القراءة شرطًا واحدًا هو صحة الرواية عن القارئ العدل حتى لو كان فردًا، وسواء رويت القراءة بطريق التواتر أو الآحاد، وسواء كانت سبعية أو عشرية أو شاذة. بل إن ابن جني في كتابه "المحتسب" كان حريصًا على وضع القراءة الشاذة على قدم المساواة مع القراءة السبعية، وذلك في قوله: "إنه نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالرواية من أمامه وورائه. ولعله أو كثيرًا منه مساو في الفصاحة للمجتمع عليه". وإذا كان اللغويون لم يشترطوا النقل المتواتر في أي نص لغوي؛ فلماذا يشترطونه في القراءة القرآنية. وإذا كانوا قد صرحوا بقبول نقل الواحد إذا كان الناقل عدلًا رجلًا كان أو امرأة، حرًّا كان أو عبدًا1 فلماذا يوضع قيد على قبول القراءة دون غيرها؟ بل أكثر من هذا يصرح السيوطي بأن العدالة وإن كانت شرطًا في الراوي فهي ليست شرطًا في العربي الذي يحتج بقوله. وإلى جانب عدم اشتراط اللغوي للتواتر لم يشترط اتصال السند ورفعه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- واللغويون بهذا يتعاملون مع القراءة على أنها نص عربي رواه أو قرأ به من يوثق في عربيته على فرض التشكك في نسبة القراءة إلى الرسول. وبهذا يدخل في باب الاحتجاج اللغوي كثير مما عده القراء من باب التفسير أو الشرح اللغوي. أما شرط موافقة القراءة لأحد المصاحف للعثمانية؛ فلا يتقيد به اللغوي كذلك. بل هو يرى في هذا الشرط حدًّا من فائدة تعدد القراءات وإضاعة للحكمة من تشريعه، وهي التخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها كما سبق أن ذكرنا. إن العادات النطقية والقدرة على التلفظ ببعض الأصوات دون بعض إنما ترتبط بالجانب الصوتي لا الكتابي. وإلا فأي صعوبة نطقية تتحقق

_ 1 الاقتراح للسيوطي ص 86.

في أن يقرأ القارئ الكلمة كما قرئت "فتبينوا" أو "فتثبتوا" وأي صعوبة في أن ينطق كلمة "عباد" في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} كما قرأها ابن كثير وابن عامر ونافع وغيرهم "عِنْدَ الرحمن"، أو كما قرأها أُبي وسعيد بن جبير: "عَبْد الرحمن". "بفتح العين وسكون الباء" أو كما قرأها ابن عباس: "عُبَّاد الرحمن" "بضم العين وتشديد الباء"؟ وهل تظهر الحكمة من تعدد القراءات في مثل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} ، حينما قرئت "منه" تارة. "مِنّةً" "بكسر الميم وتشديد النون والنصب" وتارة: "مَنُّه" "بفتح الميم وضم النون المشددة والإضافة"، وتارة: "مِنَّة" "بكسر الميم وتشديد النون والرفع". فإذا كان مثل هذه القراءات يدخل في باب المقبول مع غياب حكمة التخفيف فيها، فلماذا نستبعد قراءات أخرى تبدو حكمة التخفيف واضحة منها لمجرد مخالفتها لرسم المصحف؟ والأمثلة كثيرة على القراءات التي تدخل في باب العادة الكلامية أو الخاصة اللهجية -مما يقبله اللغوي دون تردد- ويستبعده القارئ لمخالفته رسم المصحف مثل: 1- {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْب بِضَنِينٍ} ، التي قرئت: "بِظَنين". وكلنا يلاحظ التداخل بين صوتي الضاد والظاء حتى في لغة المعاصرين، ورسم المصحف لا يسمح بالتبادل بين الضاد والظاء. 2- قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} ، وقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} فقد قرأهما ابن مسعود على خلاف سائر القراء حين أبدل الكاف قافًا في الأولى فصارت "قشطت" وأبدل القاف كافًا في الثانية فصارت، "تكهر". والصلة الصوتية بين القاف والكاف أوضح من أن تحتاج إلى تعليق، ورسم المصحف لا يسمح بالتبادل بين القاف والكاف.

3- قراءة ابن مسعود: "عتى حين" في: "حتى حين"، وهي خاصة لهجية معروفة منقولة عن هذيل. 4- ومثل هذا يقال عن قراءة: "إنا أنطيناك الكوثر" بدلًا من {أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، وقد قرأ بها كل من الحسن وطلحة وابن محيصن وأم سلمة. بل إنني أرى أن شرط موافقة القراءة لأحد المصاحف العثمانية قد فتح بابًا دخل منه بعض القراء واللغويين الذين غلبوا جانب الرسم على جانب الرواية، فسمحوا بالقراءة بما يوافق الرسم دون التحقق من صحة الرواية، فسمحوا بالقراءة بما يوافق الرسم دون التحقق من صحة الرواية. وهذا باب خطير دخل منه كثير من الطاغين في القراءات حين ردوا كثيرًا مما روى منها إلى الاجتهاد في النطق بما هو مرسوم. ولهذا كان حمزة بن حسن الأصفهاني في كتابه "التنبيه على حدوث التصحيف" حريصًا على أن يوضح أن احتمال الهجاء لا يكفي بل لا بد أن يقرأ بهما لتصيرا قراءتين. أما إذا احتمل الهجاء لفظين ولم يقرأ بهما فلا تصيران قراءتين. وضرب الأصفهاني أمثلة لقراءات وافقت رسم المصحف ولم تصح الرواية فيها فعدت من التصحيف، منها القراءات المنسوبة إلى حماد الراوية، قال الأصفهاني: "وكان حماد الراوية يقرأ القرآن دون رواية فكان يقع في التصحيف"، ومما صحفه، "بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي غِرَّةٍ "بكسر الغين" وَشِقَاقٍ"، بدلًا من {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ، وكذلك: "لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُعنِيهِ" بدلًا من "شأن يغنيه".. وغير ذلك. أما شرط "موافقة العربية ولو بوجه" فلا يرى اللغوي ضرورة له، لأنه أمر متحقق لا محالة حين يتحقق شرط الرواية، ولهذا يقول ابن الجزري: "وقولنا في الضابط: "ولو بوجه" نريد به وجهًا من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحًا، مجمعًا عليه أم مختلفًا فيه اختلافًا لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة

بالإسناد الصحيح...." وحين أرد بن الجزري أن يمثل لما نقله الثقة ولا وجه له في العربية لم يجد ما يمثل به إلا ما كان من قبيل السهو والخطأ، ومع ذلك عقب بقوله: "وهو قليل جدًّا بل لا يكاد يوجد"1. ومن الغريب أن نجد من بين المشتغلين بالقراءات من المعاصرين من يحاول إسقاط ما عدا القرءات السبع من الكتب، ويرفض إثباتها أو الإشارة إليها لأي غرض من الأغراض. فأقصى ما يمكن أن يقوله قائل: أنه لا تصح الصلاة بغير المتواتر، لأنه ليس بقرآن. ولكن إذا لم يكن قرآنًا، أليس من وجهة النظر اللغوية البحتة كلامًا عربيًّا فصيحًا؟ وإذا كان يحظر التعبد به أو قراءته في الصلاة، أليس هناك مجالات أخرى لروايته والاستشهاد به؟ يقول القسطلاني2: "إن من قرأ بالشواذ غير معتقد أنها قرآن ولا يوهم أحدًا ذلك، بل لما فيها من الأحكام الشرعية عند من يحتج بها، أو الأحكام الأدبية فلا كلام في جواز قراءتها". وبهذا ينبغي أن تدخل القراءات بجميع درجاتها ومستوياتها في الدرس الأدبي واللغوي دون حرج. نظرة اللغويين إلى القراءة: تختلف نظرة اللغويين إلى القراءة باختلاف الغاية من الاستشهاد بها. فإن كانت الغاية إثبات وجود اللفظ في اللغة، أو ضبط نطقه أو ذكر معناه، أو غير ذلك من النتائج الجزئية التي لا تعمم حكمًا ولا تبني قاعدة، إذا كانت الغاية كذلك فلا يهم كثرة النماذج اللغوية الموافقة لهذه القراءة أو قلتها، كما لا يهم أن تكون القراءة هي النموذج الوحيد المنقول إلينا. وقد قبل اللغويون روايات الآحاد بالنسبة لجميع الشواهد اللغوية في مثل هذه الحالة.

_ 1 النشر 1/ 10، 16. 2 لطائف الإشارات ص 73.

أما إذا كانت الغاية من الاستشهاد وضع قاعدة، أو استنباط حكم أن تقنين نمط فإن اللغوي حينئذ يضع القراءة إلى جانب غيرها من النصوص، ويوازن بينها، ويبني القاعدة على الكثير الشائع، سواء كان مقروءًا به، أو غير مقروء، وسواء كانت القراءة متواترة أو غير متواترة، والقراءة حينئذ لا تتميز بوضع خاص، ولا تنفرد بنظرة معينة بالنسبة لسائر المصادر اللغوية. وكيف تتميز والنص القرآني نفسه لم يعط أي ميزة في مجال التقعيد على غيره من النصوص؟ ألم يتوقف اللغويون عند بعض الآيات القرآنية فحفظوها ولم يقيسوا عليها لأنها لم تأت طبقًا للنموذج الشائع في لغة العرب؟ أينا يسمح بأن يقيس المتعلم على الآية القرآنية "إنّ" بنون مشددة "هذان لساحران" فيرفع الطرفين بعد "إنّ"؟ "الآية 63 طه" وهي قراءة نافع وابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي من القراء السبعة. ومثل هذا يقال عن قراءة معظم السبعة {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} "النساء 162". فالقراءة إذن في مجال التقنين والتقعيد لا تعزل عن بقية المصادر اللغوية وهي القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والشعر الجاهلي والإسلامي ومأثور النثر من حكم وأمثال وخطب ... وهي توضع مع غيرها في سلة واحدة ويصنف الجميع ويحلل ثم توضع القاعدة على ما تثبت كثرته ويتضح شيوعه واطراده، لأنه هو الذي يمثل اللغة المشتركة أو القاعدة التي يجب محاكاتها والالتزام بها. ومعنى هذا أن معيار اللغوي ومنهجه يختلف عن معيار القارئ ومنهجه، وأن أي محاولة لفرض منهج القراءة على اللغويين سيعني فرض منهج علم على علم آخر، كما سيظهر اللغوي بمظهر المضطرب أو المتناقض في أقواله وأفعاله.

وعلى هذا فحين يقول اللغويون عن القراءات. 1- "والقراء لم يطالبوا بأن يحملوا القراءة على ما يجوز في كلام العرب بل إن قراءتهم مردودة إلى الرواية" "رسالة الملائكة للمعري". 2- "الرواية تصلها إلى رسول الله، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وهذا حكم عام في المعاني والألفاظ "المحتسب لابن جني". 3- "والسلامة عند أهل الدين إذا صحت القراءتان عن الجماعة ألا يقال: إحداهما أجود من الأخرى لأنهما جميعًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيأثم من قال ذلك" "إعراب القرآن للنحاس". فليس معنى هذا أنهم لا بد أن يقعدوا عليها بصورة مطلقة، وأن يخالفوا أمثلتهم الكثيرة ليبنوا على ما كان منها قليلًا. كما أنه ليس معنى رفضهم التقعيد على بعض القراءات أنهم يرفضون قبول القراءات ككل. وبهذا يمكننا أن نفهم وجهة نظر اللغويين القدماء الذين استبعدوا من مجال الاستشهاد قراءات سبعية مثل: 1- قراءة ابن عامر: "وَكَذلِك زُيّنَ" -بضم الزاي- "لِكَثِيرٍ مِن الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ" -بضم اللام- "أَوْلادَهِمْ" -بفتح الدال- "شُرَكَائهم" بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول. 2- قراءة حمزة: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ" بالجر على عطف الظاهر على الضمير المتصل دون إعادة حرف الجر. وقد وضح أبو على الفارسي ذلك قائلًا: "وهذا ضعيف في القياس وقليل في الاستعمال، وما كان كذلك فترك الأخذ به أحسن".

3- قراءة نافع: "وَجَعَلْنَا لَكُم فِيْهَا مَعَائِش" بإبداء ياء مفعلة همزة في الجمع، وهي ليست زائدة. وقد قال المازني تعليقًا على هذه القراءة: "أصل أخذ هذه القراءة عن نافع، ولم يكن يدري ما العربية"، وقال الزجاج: "ولا أعلم لها وجهًا إلا التشبيه بصحيفة وصحائف، ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة". وفي نفس الوقت قبلوا في الاستشهاد قراءات غير سبعية مثل: أ- قراءة الحسن: "اهبطوا مصر" بمنع مصر من الصرف. ب- قراءة الحسن: "ولا خوف" بفتحة واحدة "عليهم ولا هم يحزنون". ح- قراءة الأعمش: "وإن منها لما يهبط" بضم الباء "من خشية الله". فالنوع الأول وإن حقق شروط القراء لم يحقق شروط اللغويين، والنوع الثاني وإن لم يحقق شروط القراء فقد حقق شروط اللغويين. مناقشة اللغويين المعاصرين: أدى عدم تفرقة كثير من اللغويين المعاصرين بين الاستشهاد بالقراءة في مجال اللغة والاستشهاد بها في مجال النحو، وعدم التزام كثير من النحاة بالاستشهاد بالقراءة في مجال النحو رغم تصريحاتهم الكثيرة بأن القراءة سنة، وأن الرواية تصلها إلى الرسول - أدى هذا وذاك إلى التلبيس على كثير من الباحثين وإيقاعهم في الحيرة والاضطراب حين أرادوا التوفيق بين تصريحات اللغويين ومواقف النحاة: "أ" فالدكتور عبد الفتاح شلبي1 يرى أن موقف قدامى النحاة من القراءات كان موقف مهادنة لأن مدرسة الإقراء ومدرسة النحو

_ 1 رسالته للدكتوراه المعنونة "أبو على الفارسي" - غير مرقمة الصفحات.

نشأتا متصلتين، ثم حينما أخذتا في الانفصال تميزتا حتى بلغ من انفراج الشقة بينهما أن عرض النحاة المتأخرون بمشايخ القراء وضعفهم في العربية. ونحن لا نستطيع أن نسلم بهذا الرأي بعد أن وجدنا من النحاة الأول من كان يلحن القراء ويتعرض لهم بالنقد والتخطئة. 1- فقد حكى البغدادي في خزانته أن النحاة في عصر أبي عمرو ابن العلاء أنكروا على القراء قراءتهم "وَمَا أَنْتُم بِمُصْرِخِي" بكسر الياء، ففزع أحدهم إلى أبي عمرو بن العلاء قائلًا له: إن أصحاب النحو يلحنوننا فيها، فقال له: هي جائزة أيضًا لا تبال1. وممن طعن في هذه القراءة من قدامى النحاة الفراء الذي وصفها بأنها من وهم القراء إذ ظنوا أن الباء في "بِمُصْرخي" خافضة للفظ كله، مع أن الياء للمتكلم2. كذلك طعن فيها أبو عبيدة وقال: "نراهم قد غلطوا ظنا أن الباء تكسر لما بعدها". وطعن فيها أيضًا أبو حاتم والأخفش والزجاج وغيرهم3. 2- قرأ نافع وابن عامر: "أَتُحَاجُوني" بنون خفيفة، كما قرأ نافع: "فَبِمَ تُبَشِّرُون". وقد خطأ أبو عمرو بن العلاء القراءتين محتجًّا بأنه لا يقال. "أنتم تقوموا" بحذف نون الأعراب4 كما خطأها

_ 1- خزانة الأدب 2/ 259. 2- معاني القرآن للفراء، ورقة 89، والبحر المحيط 5/ 419. 3- البحر المحيط 5/ 419. 4- إعراب القرآن للنحاس، ورقة 60، 97. وجمهور النحاه على جواز الجمع بين النونين بدون ادغام وبادغام وجواز الاكتفاء بنون واحدة. وقد اختلف النحاة في المحذوف منهما. "انظر إعراب القرآن للنحاس ورقة 97، وأوضح المسالك 1/ 79 الهامش رقم 1.

أبو حاتم وقال: "هذا يكون في الشعر اضطرارًا"1. 3- قرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد بن مروان السدي: "هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرَ لَكُم"2 بنصب أطهر. وقد قال أبو عمرو بن العلاء في شأن هذه القراءة: "من قرأ: "هُنّ أَطْهَرَ لَكُم" فقد تربع في لحنه"3. وقال الخليل: هذا لا يجوز. وقال سيبويه: احتبى ابن جؤية في اللحن في قوله: "هُنّ أَطْهَرَ لَكُم"4. 4- قرأ حمزة: "ولا يحسبن الَّذِين كفروا سبقوا"، وقد قال النحاس عن هذه القراءة: وما علمت أحدًا من أهل العربية بصريًّا ولا كوفيًّا إلا وهو يمنع أن تقرأ هذه القراءة5. 5- قرأ الحسن وأبو جعفر: "أَنْ نُتخذ مِن دونك مِن أولياء" بضم نون نتخذ، وقد قال عن هذه القراءة أبو عمرو بن العلاء وعيسى ابن عمر: لا يجوز نتخذ، إذ لو كانت كذلك لحذفت "مِن" الثانية فقلت: "أن نتخذ من دونك أولياء"6. 6- قرأ بعضهم: "وكذلك زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائهم" ففصل بالمفعول بين المضاف والمضاف إليه. وقد قال أبو حيان عن هذه القراءة: "جمهور البصريين يمنعونها متقدموهم ومتأخروهم"7.

_ 1 البحر المحيط 5/ 458. 2 البحر المحيط 5/ 247. 3 البديع لابن خالويه ص 60، ومجالس ثعلب 2/ 247 والبحر المحيط 5/ 247. 4 إعراب القرآن للنحاس ورقة 87، ومجالس ثعلب 2/ 427. ووجهة نظر المنكرين أن "هنّ" في الآية لا تصلح أن تكون ضمير فصل لأن ما بعدها فضلة. 5 إعراب القرآن للنحاس ورقة 132، ومعاني القرآن للفراء ورقة 129. 6 إعراب القرآن للنحاس ورقة 133. 7 البحر المحيط 4/ 229.

"ب" والدكتور مهدي المخزومي بقسم النحاة إلى فريقين فالبصريون يلجئون إلى التأويل عند مواجهتهم قراءة من القراءات السبع لا سبيل إلى إنكارها، ويغلطون ما عداها. أما الكوفيون فلهم موقف آخر يغاير البصريين كل المغايرة. فقد قبلوا القراءات واحتجوا بها وعقدوا على ما جاء فيها كثيرًا من أصولهم وأحكامهم. وهم إذا رجحوا القراءات التي يجتمع القراء عليها فلا يرفضون غيرها، ولا يغلطونها، لأنها صواب عندهم أيضًا. كذلك يعد الدكتور المخزومي القراءات المختلفة - حتى الشاذ منها- من مصادر دراسات الفراء، ويقول: إنه لا يني يستشهد بها ويصوبها ويحتج بها1. "ج" والأستاذ إبراهيم مصطفى يقول: كان في حلب ... مدرسة نحوية عظيمة أسسها أبو عبد الله الحسين بن أشهد بن خالويه "سنة 370" وأبو الفتح عثمان بن جني المتوفي سنة 392. ولهذه المدرسة أسلوب في البحث يتميز بعنايتها بالقرآن وجمع روايته وتوجيه ما سمي منها شاذًّا"2 وقريب منه ما يقوله الدكتور عبد الفتاح شلبي عن ابن جني من "أنه كان أسلم موقفًا من شيخه الفارسي ومن المبرد بتأليفه كتاب المحتسب"3. ولا يسعنا كذلك أن نسلم بأي من هذه الآراء، فقد اتضح لنا بعد طول البحث والاستقصاء أن موقف النحويين من القراءات موقف موحد لا يختلف فيه كوفي عن بصري، ولا يشذ فيه ابن خالويه أو ابن جني أو غيرهما عنهم. فهم جميعًا كانوا ينقدون القراءة ويقيسونها بمقاييسهم النحوية وهم جميعًا كانوا لا يتورعون عن تخطئة القراءة سواء كانت سبعيه أو عشرية أو شاذة أو غيرها، وهم جميعًا كانوا لا يقطعون القراءة إلا إذا وجدوا لها من كلام العرب نظيرًا، وهم جميعًا كانوا

_ 1 مدرسة الكوفة صفحات 166، 388، 389. 2 المهرجان الألفي لأبي العلاء ص 364، 365. 3 أبو على الفارسي.

لا يتحرجون عن تخطئة القراءة أو تلحينها إذا عجزوا عن فهمها أو توجيهها، لا فرق في ذلك بين من اشتغل بالقراءة إلى جانب النحو أو تخصص للدرس النحوي. ونعرض من بين القراءات التي خطأها ابن خالويه وابن جني الأمثلة الآتية: 1- قرأ بعضهم: "وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَال" وقد قال ابن خالويه عن هذه القراءة: وإنما يجوز مثل هذا في الشعر كقول الشاعر: فلو أن واش باليمامة1. 2- ويقول ابن خالويه في قراءة: "سَاحِرَانِ تَظّاهَرَا" بالتشديد: تشديده لحن لأنه فعل ماض وإنما تشدد في المضارع2. 3- ويقول كذلك ابن خالويه في قراءة: "وَلَه أَخّ" بالتشديد: فقال ابن دريد: التشديد لغة وقال ابن خالويه: وأهل العربية يرونه لحنًا. وغير ذلك3. 4- قرأ الحسن: "وَمَا تَنَزّلَتْ بِه الشَّيَاطُون"، وقد قال عنها ابن جني: "الشياطون غلط"4، على الرغم مما هو ثابت أنها قد سمعت من بعض العرب فقد حكى أبو العلاء المعري في كتابه "عبث الوليد" عن بعض العلماء أنه سمع أعرابيًّا يقول: "هذه بساتون بني فلان"5.

_ 1 البديع ص 25. 2 المرجع ص 113. 3 المرجع ص 25 وانظر كذلك الحجة لابن خالويه ورقة 46 والبديع له ص 35. 4 المحتسب ورقة 118. 5 عبث الوليد ص 226.

5- قرأ يحيى بن عامر: "وإن أدرىَ لعله"، "وإن أدرىَ أقريب" وقد قال ابن جني: "أنكر ابن مجاهد تحريك هاتين الياءين، وظاهر الأمر لعمري كذلك"1. 6- قرأ ابن محيصن: "ثم أطّره" وقد قال ابن جني: "هذه لغة مرذولة"2. أما القراءات التي خطأها الكوفيون فقد سبقت نماذج منها ونضيف ما يأتي إلى ما سبق: 1- قرأ بعضهم: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" وقد قال عنها الفراء: "وفيه قبح"3. 2 - قال الفراء في قراءة الحسن: "وما تنزلت به الشياطون": "غلط الشيخ"4. 3 استقبح الكسائي قراءة: "بيت طائفة" بادغام التاء في الطاء، مع أنها قراءة أبي عمرو والكوفيين5. نعم إن الكوفيين كانوا أقل تخطئة للقراءات، وأكثر قبولًا لها من البصريين، ولكن ذلك لا يرجع- في نظرنا- إلى احترامهم للقراءات وحسن تقبلهم لها، وإنما يرجع إلى ما عرفوا به من توسع في أصول اللغة، وقياس على القليل، واعتداد بالمثال الواحد6، فأمكنهم بذلك توجيه كثير من القراءات وتخريجها على مقتضى أصولهم. ومن هنا قلت تخطئتهم لها. وإذا كان الدكتور مهدي المخزومي قد ساق أمثلة قبل فيها الكوفيون.

_ 1 المحتسب ورقة 103. 2 المرجع ورقة 22. 3 معاني القرآن للفراء ورقة 36 4 البحر المحيط 7/ 46. 5 إعراب القرآن للنحاس ورقة 43. وانظر أمثلة أخرى في معاني القرآن للفراء ورقة 110، 177، ومعاني القرآن للنحاس ورقة 178. 6 انظر: من أسرار اللغة ص 11.

بعض القراءات وصححوها1، فإن هذا لا يكفي لإثبات دعواه. وقد ذكرنا أمثلة مضادة تكفي لهدم تلك الفكرة، ولا نزعم أنها كل ما أنكره الكوفيون من قراءات. وإذا كان الكوفيون -كما يقول الدكتور مهدي المخزومي- يستشهدون بالقراءات فلماذا يحاولون الاستدلال على صحتها بالتماس وجه لها في العربية تخرج عليه؟ ولماذا يخطئون ما يعجزون عن تخريجه؟ وأنت ترى ذلك واضحًا في قول إمام من أئمتهم وهو الفراء: "وقرأ الحسن: "إلا من هو صال الجحيم" فإن كان أراد واحدًا فليس بجائز، لأنك لا تقول هذا قاض ولا رام "بالضم"، وإن يكن عرف فيها لغة مقلوبة مثل عاث وعثا فهو صواب"2 فعلام هذا الترديد؟ ولماذا يتوقف تصحيح القراءة على سماع نظير لها من لغة العرب؟ لقد اشتهر الكوفيون بأنهم يقيسون على المثال الواحد، فلماذا لا يقيسون على القراءة ولو لم يكن لها نظير فيما نقلوه من لغة العرب، ويعتبرونها هي المثال الواحد؟. إن ترك هذا يعني -في نظرنا- أن القراءة عندهم لا ترقى إلى مرتبة الشاهد في الاستدلال، ويعني كذلك أن القراءة لا يوثق فيها بمفردها، ولا يصح الاستشهاد بها إلا مع سند من كلام العرب وهذا ينفي فكرة استشهادهم بالقراءات واحترامهم لها. وليس معنى هذا أنهم كانوا يرفضون كل لفظ يرد في القراءات وإنما معناه أنهم كانوا لا يكتفون بالقراءات حين يرد فيها لفظ من الألفاظ بل يدعمونها بنص آخر شعري أو نثري حتى يمكن أن يؤخذ بها. ونحن لا نعيب على النحاة عدم استشهادهم المطلق بالقراءات ورفضهم بناء اللغة الأدبية المشتركة عليها إلا ما وافق منها الأصول العامة وجرى على النمط العربي الفصيح، فذلك عين الصواب كما سبق.

_ 1 مدرسة الكوفة ص 284 - 395. 2 معاني القرآن للفراء ورقة 160.

أن بينا، وإنما نعيب عليهم وصفهم بعض القراءات بأنه قبيح أو رديء أو وهم أو غلط1. وقد كان في إمكانهم أن يصفوها بأنها جاءت على لهجة محلية أو أقل فصاحة فلا تبني عليها قاعدة، دون أن يطعنوا على القارئ أو يشككوا في صحة القراءة. ونحن لا ندعي -ولا غيرنا- أن القراءات كلها على مستوى واحد من الفصاحة2، فما هي في معظم حالاتها إلا تمثيل للهجات، واللهجات تتفاوت فيما بينها في درجات الفصاحة، ولهذا يقول أبو نصر القشيري: "فإننا لا ندعي أن كل القراءات على أرفع الدرجات في الفصاحة"3. وقد كان الطبري أكثر توفيقًا في تعليقه على بعض القراءات حين كان يقول: "وأعجب القراءتين إليّ كذا"، وكذلك كان الفراء في تعليقات له مثل "وأنه لأحب الوجهين إليّ"، ومثل: "ولست أشتهي ذلك".

_ 1 من سوء تعبيرهم قول المبرد عن قراءة لأبي عمرو: "هي لحن لا يجوز في كلام ولا شعر"، وقوله عن قراءة أخرى: "لو صليت خلف إمام يقرأ بها لأخذت نعلي ومضيت"، وقول الزمخشري عن قراءة لابن عامر أنها "شيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سمجًا مردودًا فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في القرآن". 2 لم أجد أحدًا من الباحثين قد وضع القرآن وقراءاته في مستوى واحد من الفصاحة إلا الأستاذ عباس حسن الذي قال: "بعض القراء قرأ: "ما ودعك"، أفيكون هذا شذوذًا في الاستعمال مع قراءة القرآن به، وكيف يتفق القول أن يكون القرآن أسمى لغة عربية بيانية مع اشتماله على الشاذ"؟ "مجلة رسالة الإسلام العدد 3 السنة 10 ص 284". وهو هنا يخلط بين حقيقتين متغايرتين ويثبت لإحداهما ما هو للأخرى. 3 القراءات واللهجات ص 131.

الحديث النبوي

3- الحديث النبوي: المشهور بين الباحثين أن قدامى اللغويين والنحاة كانوا يرفضون الاستشهاد بالحديث في اللغة، فلا يستندون إليه في إثبات ألفاظها أو وضع قواعدها، يقول الشيخ أحمد الإسكندري: "مضت ثمانية قرون والعلماء من أول أبي الأسود الدؤلي إلى ابن مالك لا يحتجون بلفظ الحديث في اللغة إلا الأحاديث المتواترة"1. ويقول أبو حيان معترضًا على ابن مالك لاستشهاده بالحديث: "على أن الواضعين الأولين لعلم النحو والمستقرئين للأحكام من لسان العرب، والمستبطين المقاييس كأبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه من أئمة البصريين، وكمعاذ والكسائي والفراء وعلي بن المبارك الأحمر وهشام الضرير من أئمة الكوفيين لم يفعلوا ذلك"2. وقد حاول المتأخرون أن يعللوا هذا الرفض المزعوم وانتهوا إلى أنه يرجع لسببين: أحدهما أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى والثاني أنه وقع اللحن كثيرًا فيما روي من الحديث لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع3. والذي نحب أن نلفت النظر إليه أن هؤلاء القدماء الذين نسب إليهم رفضهم الاستشهاد بالحديث لم يثيروا هذه المسألة، ولم يناقشوا مبدأ الاحتجاج بالحديث، وبالتالي لم يصرحوا برفض الاستشهاد به. وإنما هو استنتاج من المتأخرين الذين لاحظوا -خطأ- أن القدامى لم يستشهدوا بالحديث، فبنوا عليه أنهم يرفضون الاستشهاد به، ثم حاولوا تعليل ذلك. وهناك أسباب كثيرة تحمل على الشك في صحة ما نسب إلى الأقدمين من رفضهم الاستشهاد بالحديث، بل هناك من الدلائل ما يكاد يقطع -إن لم يكن يقطع فعلًا- أنهم كانوا يستشهدون به ويبنون عليه قواعدهم، سواء منهم من اشتغل باللغة أو النحو أو بهما معا.

_ 1 مجلة المجمع 1/ 299. 2 التذييل والتكميل 5/ 168. 3 خزانة الأدب 1/ 5، 6، والتذييل والتكميل 5/ 168، 169.

ولهذا لا يسع الباحث المدقق أن يسلم بما ادعاه المتأخرون وسنده في ذلك ما يأتي: 1- أن الأحاديث أصح سندًا من كثير مما ينقل من أشعار العرب. ولهذا قال صاحب "المصباح المنير" بعد أن استشهد بحديث: "فأثنوا عليه شرًّا" على صحة إطلاق الثناء على الذكر بشر - قال: "قد نقل هذا العدل الضابط عن العدل الضابط عن العرب الفصحاء عن أفصح العرب، فكان أوثق من نقل أهل اللغة، فإنهم يكتفون بالنقل عن واحد ولا يعرف حاله"1. 2- أن من المحدثين من ذهب إلى "أنه لا تجوز الرواية بالمعنى إلا لمن أحاط بجميع دقائق اللغة، وكانت جميع المحسنات الفائقة بأقسامها على ذكر منه فيراعيها في نظم كلامه. وإلا فلا يجوز له روايته بالمعنى"2. على أن المجوزين للرواية بالمعنى معترفون بأن الرواية باللفظ هي الأولى، ولم يجيزوا النقل بالمعنى إلا فيما لم يدون في الكتب، وفي حالة الضرورة فقط3. وقد ثبت أن كثيرًا من الرواة في الصدر الأول كانت لهم كتب يرجعون إليها عند الرواية. ولا شك أن كتابة الحديث تساعد على روايته بلفظه وحفظه عن ظهر قلب مما يبعده عن أن يدخله غلط أو تصحيف4. 3- أن كثيرًا من الأحاديث دون في الصدر الأول قبل فساد اللغة على أيدي رجال يحتج بأقوالهم في العربية. فالتبديل على فرض ثبوته إنما كان ممن يسوغ الاحتجاج بكلامه، فغايته تبديل لفظ يصح الاحتجاج به بلفظ كذلك5.

_ 1 المصباح المنير مادة "ثني". وانظر مجلة المجمع 3/ 201. 2 ابن علان في "شرح الاقتراح" ص 94. 3 مجلة المجمع اللغوي 3/ 204. 4 تعليق الفرائد للدماميني- باب الفاعل "غير مرقم الصفحات". 5 ابن علان ص 94، تعليق الفرائد- باب الفاعل.

4- أن هناك أحاديث عرف اعتناء ناقلها بلفظها لمقصود خاص، كالأحاديث التي قصد بها بيان فصاحته -صلى الله عليه وسلم- ككتابه لهمدان، وكتابه لوائل ابن حجر، والأمثال النبوية 1. 5- وإذا كان قد وقع في رواية بعض الأحاديث غلط أو تصحيف؛ فإن هذا لا يقتضي ترك الاحتجاج به جملة، وإنما غايته ترك الاحتجاج بهذه الأحاديث فقط، وحمله على قلة ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة2، وقد وقع في الأشعار غلط وتصحيف، ومع ذلك فهي حجة من غير خلاف، وإذا كان العسكري قد ألف كتابًا في تصحيف رواة الحديث، فقد ألف كتابًا فيما وقع من أصحاب اللغة والشعر من التصحيف3. 6 لو صح أن القدماء لم يستشهدوا بالحديث فليس معناه أنهم كانوا لا يجيزون الاستشهاد به، إذ لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به"4، فقد تكون العلة لتركه "عدم تعاطيهم إياه". وقد ثبت فعلًا أن أوائل النحاة من شيوخ سيبويه حتى زمن تدوين صحيح البخاري لم يكثروا من الاستشهاد بالحديث لأنه لم يكن مدونًا في زمانهم5. 7- على أني وجدت من قدامى اللغويين من استشهد بالحديث في مسائل اللغة كأبي عمرو بن العلاء6 والخليل7 والكسائي8.

_ 1 خزانة الأدب 1/ 6 عن الشاطبي. 2 مجلة المجمع اللغوي 3/ 207. 3 المرجع والصفحة. 4 خزانة الأدب 1/ 5. 5 شرح كافية المتحفظ ورقة 16، وانظر خديجة الحديثي ص 412 6 إعراب القرآن للنحاس ورقة 138. 7 العين 1/ 70- 72 وغير ذلك كثير. 8 إعراب القرآن للنحاس ورقة 72.

والفراء "1" والأصمعي "2" وأبي عبيد "3" وابن الأعرابي "4" وابن السكيت "5" وأبي حاتم "6" وابن قتيبة 7 والمبرد 8 وابن دريد 9 وأبي جعفر النحاس10 وابن خالويه11 والأزهري 12 والفارابي 13 والصاحب بن عباد 14 وابن فارس 15 والجوهري 16 وابن سيده 17 وابن منظور والفيروزأبادي وغيرهم. ولا يختلف موقف النحاة عن هذا، إذ لا يعقل أن يستشهد الخليل مثلًا بالحديث في اللغة، ثم لا يستشهد به

_ 1 معاني القرآن للفراء ورقة 40، 85. 2 الأضداد للأصمعي ص 12، 23، 27. 3 إعراب القرآن للنحاس ورقة 173، والغريب المصنف لأبي عبيد ص 118، 478. 4 إعراب القرآن للنحاس ورقة 167. 5 الأضداد لابن السكيت ص 167، 172، والقلب والإبدال له 31. 6 الأضداد لأبي حاتم ص 36، 136، والمخصص لابن سيده ص 40. 7 المسائل والأجوبة لابن قتيبة ص 8. 8 إعراب القرآن للنحاس ورقة 200. 9 الجمهرة 1/ 16، 18، 21، 25، 26، 27، 31، 33، 34، 43، 44، 45، 48، 50،.... إلخ. 10- شرح المعلقات للنحاس ورقة 72، ومعاني القرآن له ورقة 44. 11 "كتاب ليس" لابن خالويه ص 5، 6، 11، 24، 40، 41، 50، 67، 74، 77، 83، 157، 163 ... إلخ. 12 1/ 30، 33، 38، 42، 57، 68، 86، 88، 94، 98، 100، 113 ... إلخ. 13 انظر ديوان الأدب 1/ 73، 138، 139، 153، 201، 211. 14 المحيط للصاحب بن عباد 3/ 9، 17، 21، 66، 69، 89، 92، 123، 125، 127، 151، 178.... إلخ. 15 مقاييس اللغة 1/ 14، 16، 24، 41، 43، 44، 54، 55، 63، 65 ... إلخ. 17 المخصص 1/ 18، 22، 40، 48، 50، 60، 77، 108، 160 ... إلخ.

في النحو، وهما صنوان يخرجان من أصل واحد، وممن استشهد بالحديث من النحاة: أبو عمرو بن العلاء والخليل وسيبويه 1 والفراء 2 والكوفيون 3 والمبرد4 والزجاجي والزمخشري5 وابن خروف6 وابن الخباز7 وابن مالك8 وابن عقيل9 وابن الدماميني 10 والأشموني11 والسيوطي وغيرهم وغيرهم 12 وفاقهم في ذلك كل ابن مالك وبلغ الذروة في كتابه "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" حيث عقده للأحاديث التي يشكل إعرابها، وذكر لها وجوهًا يستبين بها أنها من قبيل العربي الصحيح. بل إن ابن الضائع "13" وأبا حيان14 وهما على رأس من رفض الاستشهاد بالحديث لم تخل كتبهما من

_ 1 وقد استشهد بثلاثة عشر حديثًا في الكتاب "انظرها في موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث لخديجة الحديثي ص 53 وما بعدها وص 67". وانظر خديجة الحديثي ص 42، 43، 46، 50. 2 شرح المفصل لابن يعيش 4/ 103، والإنصاف 2/ 300. 3 الإنصاف 2/ 300، 303، 367،368. 4 احتج المبرد في المقتضب بالحديث في ثلاثة عشر موضعًا "انظر خديجة الحديثي ص 97". 5 شرح الجمل لابن عصفور ورقة 65، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 7، 31، 4/ 6، 153، وخديجة الحديثي ص 111. 6 تنقيح الألباب في شرح غوامض الكتاب لابن خروف ص 38. 7 شرح ألفية ابن معطي لابن الخباز ورقة 30، 71، 79، 100. 8 انظر كتابه شواهد التوضيح، في أماكن كثيرة. 9 شرحه على الألفية 1/ 58، 293، 538، 547. 10 حاشية على المغني ورقة 22، 23. 11 شرح الأشموني 1/ 82، 85، 96، 119، 183، 204، 225، 266، 292، 322، 400. 12 همع الهوامع 1/ 40، 171، 223، 2/ 25. وانظر استشهادات الزجاج وابن السراج وابن الأنباري وابن النحاس وابن درستويه وابن خالويه وابن علي الفارسي والرماني وابن حني. ... في خديجة الحديثي ص 98 وما بعدها. 13 شرح الجمل لابن الضائع "غير مرقم الصفحات" باب الاستثناء، باب الاختصاص، باب لولا. 14 التذييل والتكميل في شرح التسهيل لأبي حيان 1/ 4، 139.

بعض الحديث. وقد فطن إلى هذا ابن الطيب الفاسي فقال: "بل رأيت الاستشهاد بالحديث في كلام أبي حيان نفسه مرات ولا سيما في مسائل الصرف"1. ولكن إحقاقًا للحق أقول: إن شواهد النحاة من الحديث ليست في غزارة شواهد اللغويين وكثرتها. فهي قليلة بالنسبة إليها وبخاصة عند قدامى النحاة. وقد رأينا كيف أن سيبويه لم يستشهد إلا بثلاثة عشر حديثًا فقط. 8- وقد وجدت في "المزهر" للسيوطي نصًّا يؤيد ما ذهبت إليه، فهو يقول: "قال أبو الحسن الشاري: ومذهبي ومذهب شيخي أبي ذر الخشني وأبي الحسن بن خروف أن الزبيدي أخل بكتاب العين كثيرًا لحذفه شواهد القرآن والحديث وصحيح أشعار العرب منه ... ولما علم بذلك الإمام ابن التياني عمل كتابه "فتح العين" وأتى فيه بما في العين من صحيح اللغة ... دون إخلال بشيء من شواهد القرآن والحديث ... "2. فهذا صريح في أن الخليل كان يستشهد بالحديث في كتابه "العين". ولم يكن الخليل بدعًا من اللغويين، فما صنعه الخليل صنعه غيره من أئمة اللغة. 9- وقد انتهى ابن الطيب الفاسي إلى نفس النتيجة التي انتهيت إليها إذ قال: "ذهب إلى الاحتجاج بالحديث الشريف جمع من أئمة اللغة منهم ابن مالك وابن هشام والجوهري وصاحب البديع والحريري وابن سيده وابن فارس وابن خروف وابن جني وابن بري والسهيلي....

_ 1 شرح كفاية المتحفظ ورقة 16. وقد حصرت الدكتورة خديجة الحديثي لأبي حيان في كتابيه ارتشاف الضرب، ومنهج المسالك ثمانية وعشرين حديثًا انفرد في الاحتجاج بها، وبنى عليها حكمًا جديدًا أو معنى جديدًا أو استعمالًا جديدًا "ص 339، 363". 2 المزهر 1/ 88.

وغيرهم ممن يطول ذكره. وهو الذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه. على أنا لا نعلم أحدًا من علماء العربية خالف في هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان في "شرح التسهيل"، وأبو الحسن بن الضائع في "شرح الجمل" وتابعهما ... السيوطي"1. 10- كذلك انتهت الدكتورة خديجة الحديثي إلى ما انتهيت إليه وأرخت بداية الاحتجاج بالحديث النبوي بأبي عمرو بن العلاء والخليل وسيبويه2. وإذن فقد كان المتأخرون مخطئين فيما ادعوه من رفض القدماء الاستشهاد بالحديث، وكانوا واهمين حينما ظنوا أنهم هم أيضًا برفضهم الاستشهاد بالحديث إنما يتأثرون خطاهم وينهجون نهجهم. ونحن نحمل ابن الضائع وأبا حيان تبعة شيوع هذه القضية الخاطئة، فهما أول من روج لها ونادى بها3، وعنهما أخذها العلماء دون تمحيص أو تحقيق، ثقة في حكمها أو تخففًا من البحث وركونًا إلى الراحة والتماسًا لأيسر السبل. ولعل منشأ تلك الفكرة الخاطئة ما يأتي: 1- أن القدماء لم ينصوا على الاستشهاد بالحديث واكتفوا بدخوله تحت المعنى العام لكلمة "النصوص الأدبية القديمة" ثم حين جاء من تلوهم ودونوا هذه الفكرة كانوا يفهمون ذلك فلم يخصوا الحديث بنص مستقل، فلما جاء ابن الضائع وأبو حيان وغيرهما، ولم يجدوا نصًّا مستقلًّا يعد الحديث من مصادر اللغة ظنوا أن القدماء لم يكونوا

_ 1 شرح كفاية المتحفظ ورقة 15. 2 موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث ص 78. وقد جمعت المؤلفة لمن يسمون بنحاة ما قبل الاحتجاج سبعة وثمانين حديثًا نبويًّا، وتسعة وعشرين حديثًا مرويًّا عن آل البيت والصحابة1 ص 189". 3 المرجع والصفحة، والتذييل والتكميل 5/ 168، 169، وخزنة الأدب 1/ 5.

يستشهدون به وسجلوا هذا الظن على أنه حقيقة واقعة. وجاء من بعدهم فنقلوا عنهم دون تمحيص وتابعوهم من غير بحث. ويؤيد هذا الافتراض أن السيوطي1 استنبط من قول بعضهم: "النحو علم يستنبط بالقياس والاستقراء من كتاب الله تعالى وكلام فصحاء العرب" أن اللغويين لم يكونوا يستشهدون بالحديث، فعقب على ذلك بقوله: "فقصره عليهما ولم يذكر الحديث". 2- أن سيبويه في احتجاجه بالحديث لم يكن يقدم له بما يوضح أنه من الحديث، فالتبس الحديث بغيره على الباحثين حتى نسب إليه أبو حيان وغيره عدم الاحتجاج بالحديث. وربما كان السبب في إغفال سيبويه للنسبة أنه كان يحتج بالحديث بأي عبارة منثورة من كلام العرب الفصحاء ... ولم يكن إغفاله النسبة إلى النبي خارجًا عما فعله مع معظم الشواهد الشعرية والنثرية التي لم يهتم بنسبتها إلى شخص معين2.

_ 1 الاقتراح ص 18. 2 خديجة الحديثي ص 78، 412.

الشعر

4- الشعر: لاقى الشعر اهتمامًا كبيرًا من اللغويين واعتبروه الدعامة الأولى لهم حتى لقد تخصصت كلمة الشاهد فيما بعد وأصبحت مقصورة على الشعر فقط. ولذلك نجد كتب الشواهد لا تحوي غير الشعر ولا تهتم بما عداه. وقد كان اللغويون يستشهدون بالشعر المجهول قائله إن صدر عن ثقة يعتمد عليه. ولذا اعتبروا الأبيات التي وردت في كتاب سيبويه أصح شواهد اعتمد عليها خلف بعد سلف مع أن فيها أبياتا عديدة جهل قائلوها1. وقد كان سيبويه يحرص على إطلاق البيت من النسبة فكان إذا استشهد ببيت لم يذكر ناظمه. وإنما امتنع سيبويه عن تسمية الشعراء "لأنه كره أن يذكر الشاعر وبعض الشعر يروي لشاعرين، وبعضه مجهول لا يعرف قائله لأنه قدم العهد به". وأما الأبيات المنسوبة في الكتاب إلى قائليها "فالنسبة حادثة بعده، اعتنى بنسبتها الجرمي. قال الجرمي: نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا. فأما الألف فعرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما خمسون فلم أعرف أسماء قائليها"2. بل إن اللغويين والنحاة قد صرحوا بأن تعدد الروايات في البيت الواحد لا يسقط حجيتها، وأن كل رواية -ما دامت قد نقلت عن ثقة- يصح الاستشهاد بها. يقول ابن ولاد: "الرواة عن الفرزدق وغيره من الشعراء قد تغير البيت على لغتها وترويه على مذاهبها مما يوافق لغة الشاعر ويخالفها. ولذلك كثرت الروايات في البيت الواحد ... ولغة الرواة من العرب في البيت الواحد يجعل كل رواية حجة إذا رواها فصيح، لأنه يغير البيت إلى ما في لغته، فيجعل ذلك أهل العربية حجة"3. وحديثنا عن الشاهد الشعري يجرنا إلى الحديث عن قضية "الضرورة الشعرية" أو ما يسمى "بضرورة الشعر" حينما يحاول اللغوي أو النحوي أن يستبعد البيت من مجال الاستشهاد. فما حد هذه الضرورة؟ ومتى يكون الشاعر مضطرًّا اضطرارًا يسقط حجية الاستشهاد ببيته؟ لقد اختلف النحاة في ذلك إلى فريقين: ففريق يرى -وهو جمهورهم-

_ 1 خزانة الأدب 1/ 8، 178. 2 خزانة الأدب 1/ 8، 78. وانظر مقال الدكتور رمضان عبد التواب: "أسطورة الأبيات الخمسين". 3 الانتصار لابن ولاد ص 19، 193.

أن الضرورة هي "ما وقع في الشعر مما لم يقع في النثر سواء أكان للشاعر غنه مندوحة أم لا"1. ومذهب ابن مالك -وهو الصحيح عن سيبويه- أنها "ما ليس للشاعر مندوحة عنه"2. ويبين أثر هذا الخلاف فيما جاء في الشعر ووجدت فيه المندوحة، فالجمهور يقصره على السماع، وابن مالك يقيس عليه. "ولذلك أجاز وصل ال بالمضارع قليلًا، ولم يجعله ضرورة استدلالًا بقوله: ما أنت بالحكم الترضى حكومته لتمكنه من أن يقول: "المرضي حكومته"3. وحيث لم يقل ذلك مع الاستطاعة، ففي ذلك، أشعار بالاختيار وعدم الاضطرار"4. وكأني بأصحاب المذهب الأول قد وسعوا في مدلول الضرورة، وأطلقوها دون قيد لتكون سيفًا مصلتًا، وسلاحًا يشهرونه في وجه كل بيت يخالف قواعدهم ويعجزون عن تخريجه؛ فيجدون المخلص في هذا الوصف السهل يلقونه دون نظر أو تفكير. وكأن ذلك لم يكفهم فرموا بعض الأبيات بالضرورة، لا فرارًا من الإخلال بالوزن أو القافية، بل فرارًا من الزحاف، وهو ما تأباه النظرة الفاحصة المتأنية. ولهذا نجد أبا العلاء المعري في كثير من كتبه -وقد كان ذا نظرة تحررية- يهاجم رأي الجمهور وينصر مذهب الأقلية، ولا يترك فرصة للذود عنه والانتصار له إلا انتهزها فهو يرى أن الزحاف لا يحمل الشاعر على ارتكاب ضرورة، فهو كثير في الشعر، وبخاصة في بعض الأوزان.

_ 1 موطئة الفصيح لابن الطيب الفاسي، ورقة 19، 20، والضرائر للألوسي ص 6. 2 موطئة الفصيح ص 19، 20. 3 موطئة الفصيح ورقة 20. 4 خزانة الأدب 1/ 15.

وهو يرى أن من الأبيات الشعرية ما يختل وزنها إن غيرت، فهذه هي محل الضرورة، ومنها ما لا يكون تغييرها مخلًّا بالنظم، فهي كالنثر لا يصح أن يقال عنها: إنها ضرورة ولهذا فهو يقول في رسالة الملائكة: "ينشد قول أبي ذؤيب الهذلي: تركوا هوى وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنب مصرع ولو أنشد هواي لم يكن بالوزن بأس. والاستشهاد بالشعر على نوعين: أحدهما لا مزية فيه للمنظوم على المنثور، والآخر يكون حكم الموزون فيه غير حكم النثر. فالضرب الأول كبيت أبي ذؤيب الذي مر، وكقول الآخر. أنا ابن النارك البكري بشر ... عليه الطير ترقبه وقوعا فخفض "بشر" ونصبه لا فضيلة فيه للوزن، وكذلك خفض "البكري" ونصبه، لأنه قويم في الحالين. والضرب الآخر هو الذي يكون الوزن إن غير عما استشهد به عليه لحقه إخلال كقوله: ألا من مبلغ الحرين عني ... مغلغلة وخص بها أبيا يطوّف بي عكب في معد ... ويطعن بالصملة في قفيا فهذا لا يمكن إلا على لغة من قال قفي"1. ويقول في موضوع آخر: "وأنشد الفراء قول زهير": عليهن فرسان كرام لباسهم ... سوابيغ زغف لا تخرقها نبل فهذه زيادة بغير ضرورة، لأنه لو حذف لم يضر بالبيت"2. ويقول في بيت الهذلي: أبيت على معاري فاخرات ... بهن ملوب كدم العباط الذي يدعي النحاة أنه ضرورة، يقول أبو العلاء: "ولو قال معار

_ 1 رسالة الملائكة ص 181 - 183. 2 رسالة الملائكة ص 25، 21.

فاخرات لم يخل بالبيت"1 فلن يكون فيه سوى تسكين لام "مفاعلتن" فأين هي الضرورة؟ وكأنما شعر النحاة بانهيار دعواهم أمام تلك الحجة القوية، فحاولوا أن يلتمسوا مخلصًا لهم، فادعوا أن الشاعر ارتكب هذه الضرورة كراهة الزحاف، فقال أبو العلاء مفندًا تلك الحجة: "وهذا قول ينتقض، لأن في هذه الطائية أبياتًا كثيرة لا تخلو من زحاف. وكل قصيدة للعرب وغيرها على هذا القريّ كقوله: عرفت بأجدث فنعاف عرق ... علامات كتحبير النماط فيه زحافان من هذا الجنس، ثم يجيء في كل الأبيات إلا أن يندر شيء"2. وكأنما حاول بعضهم أن يتعلل بأن هذا الزحاف -مع كثرته في شعرهم- قد يخل بموسيقى البيت، فرد عليه أبو العلاء بأن حركة الزحاف هذه لا تنفر منها الأذن "ولا يشعر بها في الغريزة"3. وأيًّا ما كان الأمر فقد قسم اللغويون الشعراء إلى طبقات أربع هي: 1- الشعراء الجاهليون، وهم قبل الإسلام. 2- الشعراء المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام. 3- الشعراء الإسلاميون، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق، وآخرهم ابن هرمة. قال: الأصمعي: "ختم الشعر بابن هرمة"4، وقال أبو عبيدة: "افتتح الشعر بامرئ القيس، وختم بابن هرمة"5.

_ 1 رسالة الملائكة ص 205، 210. 2 رسالة الغفران ص 292. 3 رسالة الملائكة ص 210. 4 الاقتراح ص 26. 5 العمدة ص 56.

4- المولدون، وهم من بعدهم إلى زماننا هذا كبشار وأبي نواس1. فالطبقتان الأوليان يستشهد بشعرهما إجماعًا، وإن كان من بينهم بعض شعراء طعن فيهم، كعدي بن زيد، وأبي دؤاد الأيادي. قال الأصمعي: "عدي بن زيد وأبو دؤاد الإيادي لا تروي العرب أشعارهما لأن ألفاظهما ليست نجدية"2. وقال المرزباني: "كان عدي بن زيد يسكن الحيرة، ويراكن الريف فلان لسانه وسهل منطقه"3. أما الطبقة الثالثة فالصحيح جواز الاستشهاد بشعرها. وقد كان أبو عمرو بن العلاء وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن البصري وعبد الله بن شبرمة يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة وأضرابهم.. وكانوا يعدونهم من المولدين3. وقد كان الأصمعي ينكر أبرق الرجل وأرعد، فلما احتج عليه ببيت الكميت: أبرق وأرعد يا يزيد ... فما وعيدك لي بضائر لما احتج عليه ببيت الكميت هذا قال: ليس بيت الكميت بحجة، إنما هو مولد4. وقال الأصمعي: "جلست إلى أبي عمرو بن العلاء ثماني حجج، فما سمعته يحتج ببيت إسلامي"5. ومع تحري العلماء جانب الصواب. ووضعهم شروطًا في الرواة على نمط شروط المحدثين في رواة الحديث فقد دست عليهم بعض الأشعار،

_ 1 الخزانة 1/ 3. 2 الموشح ص 73. 3 الحزانة 1/ 3. 4 ديون الأدب 2/ 316. 5 العمدة ص 57.

فجاء في شواهدهم أبيات لم تسلم من الظنة. ومن ذلك استشهاد سيبويه بقول الشاعر: حذرًا أمورًا لا تُخاف وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار فهذا البيت مصنوع ومع ذلك رواه سيبويه في "الكتاب": "ذكر أبو يحيى اللاحقي أن سيبويه سأله: هل تعدي العرب فعلًا؟ قال فوضعت له هذا البيت". وممن قال بوضعه كذلك الصفدي في "نفوذ السهم"1.ومن ذلك استشهاد الفارابي اللغوي بقول امريء القيس: وعمرو بن درماء الهمام إذا غدا ... بذي شطب عضب كمشية قسورا على أنه أراد قسورة فحذف التاء2. وقد أنكر أبو العلاء المعري هذا البيت ورأى أنه مصنوع وعبر عن ذلك بطريقته الخاصة التي عرف بها في رسالة الغفران فأجرى حوارًا بين صاحبه ابن القارح وامرئ القيس جاء فيه: "وإنا لنروي لك بيتًا ما هو في كل الروايات، وأظنه مصنوعًا لأن فيه ما لم تجر عادتك بمثله وهو قولك ... قسورًا، فيقول "امرؤ القيس": أبعد الله الآخر، لقد اخترص فما اترص وان نسبة هذا إليّ لأعده إحدى الوصمات"3. وأما الطبقة الرابعة فالصحيح أنه لا يستشهد بكلامها مطلقًا، ومنهم من أباح الاستشهاد بكلام من يوثق به منهم، ومن هؤلاء الزمخشري اللغوي والنحوي المشهور الذي كان يرى الاحتجاج بشعر أبي تمام4.

_ 1 سيبويه إمام النحاة ص 146. ونفوذ السهم مادة فزع، وأسطورة الأبيات الخمسين ص17. 2 ديوان الأدب ورقة 298. 3 رسالة الغفران ص 235. 4 راجع الكشاف. آية: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [سورة البقرة آية 20]

وغيره من أئمة اللغة ورواتها، ويقول ردًّا على من سأله كيف يستشهد في الكشاف بشعر لأبي تمام: "اجعل ما ينظمه بمنزلة ما يرويه". يشير إلى مجموع أبي تمام المعروف باسم "ديوان الحماسة" والذي تلقاه العلماء بالقبول والثقة. وإذا كان الزمخشري يصرح بثقته في شعر أبي تمام وأضرابه ولذا فهو يستشهد به، فهناك من اللغويين من استشهد في استخفاء بشعراء من هذه الطبقة. ومن هؤلاء الخليل بن أحمد الذي استشهد في "العين" بحفص الأموي وبشار بن برد1. ونسب إلى سيبويه أنه استشهد في كتابه ببيت لبشار بعد أن توعده بالهجاء. "وأصحاب بشار يروون له هذا البيت: وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ... وما كل مؤت نصحه بلبيب وفي كتاب سيبويه نصف هذا البيت الآخر، وهو في باب الإدغام لم يسم قائله"2. وفي العصر الحديث ارتفعت أصوات تنادي بإباحة الاستشهاد بالأدباء والشعراء المشهورين حتى وقتنا الحاضر، بشرط موت الشاعر، لأن المعاصرة حجاب كما يقولون، وبشرط أن يكون الشاعر ممن شهد لهم بالفصاحة والبيان. ونسي هؤلاء أن الشاعر أو الأديب لا يعد من زعماء البيان إلا إذا صحت لغته واستقام لسانه، ولن يتم له ذلك إلا إذا جرى على النمط العربي السليم. ومتى فعل ذلك فقد صار عربيًّا بلغته، وتماثلت اللغتان بل تطابقتا وبهذا فهو لم يخلق شيئًا لم يعرفه العرب ولم يأت بجديد. بالإضافة إلى أن مؤهلات الزعامة لا ضابط لها، وقد تفتح بابًا لدخول كل طامع. ولكننا نجد من أصحاب هذا الرأي من يقولون لقد ورد في شعر بعض المعاصرين ما لم يرد في شعر القدماء مثل شوقي الذي يقول:

_ 1 المعجم العربي 1/ 241. 2 رسالة الغفران ص 365. وانظر الاقتراح ص 26. وذكر الدكتور رمضان أن البيت لأبي الأسود الدؤلي، أو لمودود العنبري "أسطورة: ص 9".

ولي بين الضلوع دم ولحم ... هما الواهي الذي ثكل الشبابا حيث أخبر عن المثنى بالمفرد، ومثل قوله أيضًا: إن عزًّا لم يظلل في غد ... بجناحيك ذليل مستباح حيث نفى بلم المستقبل بدليل قوله: "في غد" و"لم" لنفي الماضي1.

_ 1 اللغة والنحو ص 24 وما بعدها، وصفحة 129، ومحاضرات الدكتور أنيس لطلبة الليسانس بكلية دار العلوم عام 1964.

الشواهد النثرية

5- الشواهد النثرية: تشمل الشواهد النثرية نوعين من المادة اللغوية: أحدهما: ما جاء في شكل خطبة أو وصية أو مثل أو حكمة أو نادرة. وهذا يعد من آداب العرب الهامة ويأخذ في الاستشهاد به مكانة الشعر وشروطه. وآخرهما: ما نقل عن بعض الأعراب ومن يستشهد بكلامهم في حديثهم العادي، دون أن يتحقق له من التأنق والذيوع مثل ما تحقق للأول. وقد وضع اللغويون شروطًا تشمل الزمان والمكان بالنسبة لهذا النوع من المادة. أما من ناحية الزمان، فقد حددوا نهاية الفترة التي يستشهد بها بآخر القرن الثاني الهجري بالنسبة لعرب الأمصار، وآخر القرن الرابع بالنسبة لعرب البادية1. وأما المكان فقد ربطوه بفكرة البداوة والحضارة، فكلما كانت القبيلة بدوية أو أقرب إلى حياة البداوة كانت لغتها أفصح، والثقة فيها أكثر، وكلما كانت متحضرة، أو أقرب إلى حياة الحضارة كانت لغتها محل شك ومثار شبهة، ولذلك تجنبوا الأخذ

_ 1 انظر: اللغة والنحو للأستاذ عباس حسن ص 24.

عنها. وفكرتهم في ذلك أن الانعزال في كبد الصحراء، وعدم الاتصال بالأجناس الأجنبية يحفظ للغة نقاوتها ويصونها عن أي مؤثر خارجي، وأن الاختلاط يفسد اللغة وينحرف بالألسنة، وأول من روى لنا قائمة محددة بالقبائل التي يستشهد بها والتي لا يستشهد بها الفارابي في كتابه "الألفاظ والحروف". وتعد هذه القائمة وثيقة هامة تناقلتها كتب اللغة المتأخرة مثل "شرح التسهيل" لأبي حيان "والمزهر" و "الاقتراح" للسيوطي. وهذا هو نص الوثيقة: "كانت قريش أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس. والذين نقلت عنهم اللغة العربية، وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد. فإن هؤلاء هم الذين عنهم أخذ أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب وفي التصريف. ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين. ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فلم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط. ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب والنمر1، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان. ولا من بكر لمجاورتهم للنبط2 والفرس. ولا من عبد القيس وأزد عمان لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس. ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة. ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة

_ 1 في المزهر: واليمن. والتصحيح من الاقتراح، مخطوطة دار الكتب المصرية 116 مجاميع. 2 في المزهر: للقبط، والتصحيح من الاقتراح.

صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم. والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها علمًا وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب"1. وجاء ابن خلدون؛ فأيد في مقدمته رأي الفارابي، وأوضح هذه الفكرة، وارتكز على نفس الأساس السابق، وإن كنا نجد بعض فروق طفيفة في تحديد أسماء القبائل. يقول ابن خلدون: "الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم، وذلك لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال ... فلا ينزع إليهم أحد من الأمم. فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم.. واعتبر ذلك في مضر من قريش، وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة، لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع، وبعدوا من أرياف الشام والعراق ومعادن الأدم والحبوب ... وأما العرب الذين كانوا بالتلول، وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسان وطييء وقضاعة وإياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم2. ويظهر أن هذه القائمة لم تكن محل اتفاق بين جميع اللغويين، ويظهر كذلك أن البصريين كانوا أكثر تمسكًا بها من الكوفيين، ولهذا كانوا يفتخرون بقولهم: "نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وهؤلاء "يعنون الكوفيين" أخذوا اللغة عن أهل السواد أصحاب الكوميخ وأكلة الشواريز3. كما كانوا يتهمونهم بأنهم يأخذون اللغة عن غير الفصحاء، يقول أبو جعفر النحاس: "واحد الآناء إني لا يعرف البصريون غيره. وحكى الفراء واحد الآناء إني ...

_ 1 المزهر 1/ 211، 212. 2 مقدمة ابن خلدون ص 129، 130. 3 أخبار النحويين البصريين للسيرافي ص 68.

وللفراء في هذا الباب في كتاب المقصور والممدود أشياء قد جاء بها ... قد أنكرت عليه، ورواها الأصمعي، وابن السكيت، والمتقنون من أهل اللغة على خلاف ما روى. والذي يقال في هذا: إنه مأمون على ما رواه، غير أن سماع الكوفيين أكثره عن غير الفصحاء"1. وممن لم يلتزمها من المتأخرين ابن مالك في مؤلفاته. قال السيوطي بعد أن نقل هذه القائمة: "ونقل ذلك أبو حيان في "شرح التسهيل" معترضًا به على ابن مالك حيث عنى في كتبه بنقل لخم وخزاعة وقضاعة وغيرهم، وقال: ليس ذلك من عادة أئمة هذا الشأن"2. كذلك كانت هذه القائمة محل نقد من بعض المعاصرين، كما فعل الدكتور مهدي المخزومي الذي يرى أن التفرقة بين القبائل خطأ منهجي، ويشرح ذلك بقوله: "ولا نرى هذا إلا لغو الكلام. إنهم يجهلون أن اللغة سليقة وطبيعة، ويجهلون أن صاحب اللغة لا يغلط في لغته، لأنها جزء من حياته التي فطر عليها وعادة من عاداته التي نشأ عليها. وإذا كان الجاهليون يغلطون، والمخضرمون يغلطون، والإسلاميون يغلطون، فعلى من بعد هؤلاء يعتمد النحاة؟ بماذا يحتجون؟ ومن أين جاءوا بهذه الأصول التي وضعوها، وهذه القواعد التي استنبطوها". ثم يناقش فكرتها في وجود الفصاحة في كبد الصحراء فقط بعيدة عن ملابسات الحضارة فيقول: "ولو كان مقياس الفصاحة هو الانعزال في كبد الصحراء وعدم الاتصال بالأجانب؛ لكانت لغة قريش أبعد اللغات عن الفصاحة، ولا قائل بهذا"3 والدكتور المخزومي على حق في هذا، فقريش كانت تسكن مكة وما حولها، وهم أهل تجارة، والتجارة تؤدي إلى الاختلاط، والاختلاط يفسد اللغة على حد زعمهم. فعلام التفريق اذن بين قريش.

_ 1 إعراب القرآن للنحاس 2/ 362. 2 الاقتراح ورقة 106، مخطوطة دار الكتب رقم 116 مجامع. 3 مدرسة الكوفة ص 73، 77.

وتلك القبائل التي اتهمت في فصاحتها؟ ولِم أخذوا عن قريش ورفضوا الأخذ عن غيرها ممن وجد في حالة مشابهة لحالتها1؟. ويلاحظ أن علماء اللغة جميعًا في حال الرواية لم يجيزوا الاعتماد على النص المكتوب، وإنما استندوا أساسًا على المشافهة والتلقي، وحذروا العالم من الاعتماد على النص المدون، وحذروا المتعلم من تلقي العلم على من يفعل ذلك. ومن أقوالهم المشهورة: "لا تأخذوا العلم عن صحفي، ولا القرآن عن مصحفي". وهم بذلك لا يختلفون كثيرًا عن المنهج الحديث الذي يعتمد على الراوي اللغوي، ويعتمد على الكلام المنطوق دون المكتوب. ولكننا نأخذ عليهم بعض مآخذ مثل: 1- عدم استمرار المشافهة طوال فترة الدراسة، ولجوء بعضهم إلى مشافهات الآخرين يعتمدون عليها. 2 تكميل الثغرات بالمنطق والقياس لا بمعاودة المشافهة. 3 اعتقادهم أن اللغة شيء وراثي يتناقله الأبناء عن الآباء وترضعه الأمهات للأطفال. ولهذا سيطرت عليهم فكرة ارتباط الفصاحة بالجنس ارتباطًا وثيقًا، وأنكروا على الفارسي أو اليوناني إمكان اتقان اللغة العربية كما يتقنها أهلوها من العرب مهما بذلوا في تعلمها، وثابروا في المران عليها، وتلقوها منذ الصغر، ومهما كان حضورهم مبكرًا إلى الجزيرة العربية، ولو أجنة في بطون أمهاتهم، ومهما كان حظهم من الثقافة العربية. ولهذا كان اللغويون العرب يرفضون الأخذ عن ابن المقفع لأصله الفارسي، برغم فصاحته وتلقيه اللغة منذ نعومة أظفاره،

_ 1 انظر تعليق الدكتور عبده الراجحي على تفضيل قريش: اللهجات العربية في القراءات القرآنية ص 41 وما بعدها.

في حين كانوا لا يتورعون عن الاستشهاد بكلام الأطفال والمجانين. قال السيوطي: "قال ابن دريد في أماليه: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال: سمعت صبية بحمى ضرية "بين البصرة والكوفة" يتراجزون فوقفت وصدوني عن حاجتي، وأقبلت أكتب ما أسمع إذ أقبل شيخ فقال لي: أتكتب كلام هؤلاء الأقزام الأدناع". وقال: "وكذلك لم أرهم توقوا أشعار المجانين من العرب بل رووها واحتجوا بها"1. 4- خلطهم الشواهد الشعرية بالشواهد النثرية، ومحاولة استخلاص قواعد عامة تجمعها مع أنه من المعروف أن للشعر قواعده ونظمه الخاصة التي ينفرد بها. 5 أنهم لم يكثروا من الاستشهاد بالحديث مع أنه أهم من الشعر في ميدان البحث اللغوي، لأنه من النثر الذي لا تحكمه ضرورة من وزن أو قافية، ولأنه يعطي الباحث اللغوي صورة صحيحة لروح عصره بخلاف الشعر الذي يحتوي على كثير من الصيغ الفنية والعبارات المتكلفة التي تبعده عن تمثيل الحياة العادية وتنئيه عن الروح السائدة في عصره. 6- أنهم خلطوا مستويين من اللغة لا يصح الخلط بينهما، وهما مستوى اللغة الأدبية النموذجية الممثلة في القرآن والحديث والشعر والخطب والأمثال، ومستوى اللهجات العامية المتمثلة في القراءات القرآنية ولغة الخطاب. 7 أنهم لم يكونوا على حق في ربطهم الفصاحة بالبداوة، لأن اللغة بنت الحاجة والاستعمال، واللغة لا تنشأ في فراغ، وإنما لتعبر عن

_ 1 المزهر ص 140. 2 وفي تهذيب اللغة: سمعت صبيًّا من بني عقيل يقول لصبي آخر: وجهي زين ووجهك شين. والتقدير: وجهي ذو زين ووجهك ذو شين. فنعتهما بالمصدر "13/ 255".

تجارب واحتياجات وثقافات معينة. ولا شك أن تجارب البدوي واحتياجاته تختلف عن تجارب الحضري واحتياجاته، ولذلك ليس من المعقول أن تغني إحدى اللغتين عن الأخرى، وليس من الحق أن نعد لغة البدوي أرقى من لغة الحضري برغم أنها لا تفي باحتياجاته. 8- أن عنايتهم باللهجات العربية كانت ضئيلة، فهم أولًا قد أبعدوا جزءًا منها من مجال التسجيل اللغوي، وهم ثانيًا لم يكونوا حريصين على تسمية اللهجة، مما تركنا في ظلام دامس حين نريد تتبع الظواهر اللهجية الحديثة ونردها إلى أصلها القديم. وفرق بين أن نسجل اللهجة وننسبها، وبين أن نقيم عليها قاعدة تكون نموذجًا لمن يريد أن يحتذى الصواب. 9- أن جميع علماء اللغة لم يكونوا يعرفون شيئًا عن اللغات السامية كالعبرية والسريانية معرفة صحيحة، فنشأ عن ذلك أنهم لم يوفقوا في بيان المعاني الدقيقة التي يؤديها كثير من الكلمات العربية في أصل وضعها ونشأ عن ذلك أيضًا وقوعهم في أغلاط فيما يتعلق بالاشتقاق. كما أن معرفتهم المحدودة باللغات الأجنبية جعلتهم غير موفقين في رد كثير من الكلمات المعربة إلى أصولها الأجنبية.

الفصل الثاني: الدراسات اللغوية عند غير العرب

الفصل الثاني: الدراسات اللغوية عند غير العرب مدخل ... الفصل الثاني: الدراسات اللغوية عند غير العرب تمهيد: ليس من همنا في هذا الفصل أن نعرض بالتفصيل للجهود اللغوية التي قام بها غير العرب من اللغويين، وإنما همنا أن نعرض صورة موجزة لأهم هذه الجهود. كذلك ليس من همنا أن نعرض لكل الجهود اللغوية الأجنبية، وإنما همنا أن نعرض للجهود التي سبقت أو عاصرت الدراسات اللغوية عند العرب: وليس هذا البحث مقصودًا لذاته، وإنما هدفه الأساسي خدمة بحث تال يتناول قضية التأثير والتأثر، ويناقش احتمالات التأثير الأجنبي على الدراسات اللغوية العربية والعكس. وسوف نحصر أنفسنا في الدراسات اللغوية عند الشعوب التالية وحدها: 1- الهنود. 2 اليونانيون. 3 المصريون القدماء. 4 السريان. 5 العبرانيون. 6 الصينيون.

الهنود

1- الهنود: ظهرت في الهند القديمة دراسات للغة السنسكريتية "لغة الهند الكلاسيكية" على مستوى عال من التنظيم والدقة. ولربما كان الهنود أسبق -حتى من اليونانيين- في هذا الميدان، سواء من ناحية الزمن أو ناحية القيمة. وقد أثرت عن الهنود دراسات، في فروع علم اللغة المختلفة تتناول الأصوات والاشتقاق والنحو والمعاجم، كما تتناول كثيرًا من مشكلات فقه اللغة، ويرجع أقدم هذه الدراسات إلى فترة مجهولة لنا، أما أقدم ما وصلنا منها فيرجع إلى حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. ويحتاج عرض الدراسات اللغوية عند الهنود إلى حيز كبير لا يسمح به المقام، ولذا سنكتفي بإشارات سريعة، تاركين التفصيلات إلى بحث آخر1. أما الدراسة الصوتية عندهم فكانت متنوعة وشاملة لمعظم جوانب هذا العلم. فدرسوا الصوت المفرد وقسموه إلى علل وأنصاف علل وسواكن وقسموا العلل إلى بسيطة ومركبة، كما قسموا السواكن بحسب مخارجها. وتوصل الهنود إلى أثر القفل في إنتاج الأصوات الانفجارية، والفتح في إنتاج أصوات العلة والتضييق في إنتاج الأصوات الاحتكاكية. وتحدث الهنود عن كيفية تسرب الهواء من التجويف الحنجري، وذكروا أنه إذا فتح ما بين الوترين الصوتيين ينتج النفس وإذا ضيق ما بينهما ينتج الصوت، وصرحوا بأن النَّفَس يحدث في حالة الأصوات الساكنة المهموسة، والصوت في حالة السواكن المجهورة أو العلل. ولم يكتف الهنود بالحديث عن الصوت المفرد فتحدثوا عن المقطع، وكان حديثهم مفصلًا بشكل مثير للدهشة. كذلك وضع الهنود قواعد دقيقة للنبر في لغتهم القديمة، واعتبروه من خصائص العلل لا السواكن، وقسموه إلى درجات ثلاث.

_ 1 انظر كتابنا المطبوع بعنوان "البحث اللغوي عند الهنود" وما ذكرناه هنا ملخص عن هذا الكتاب.

ويكفي الهنود فخرًا أن تكون جهودهم الصوتية هي الأساس الذي بني عليه علماء الأصوات المحدثون. يقول بروفسر ألن: "إن الاتصال بين الهنود القدماء والمدارس الغربية الحديثة في دراسة اللغة أشد وأوثق في مجال الأصوات عنه في مجال النحو". ويعترف العلامة فرث الإنجليزي أن المدرسة الأصواتية الإنجليزية لم تنشأ في القرن التاسع عشر إلا على أكتاف المعلومات التي قدمها وليم جونز عن النحاة والأصواتيين الهنود. وأما في مجال النحو، فإنه من غير المبالغ فيه أن نقول: إن هذا العلم لم يلق من العناية في أي بلد من بلاد العالم مثل ما لقيه من الهنود. وقد كان في الهند القديمة ما يقرب من اثنتي عشرة مدرسة نحوية مختلفة، وأكثر من ثلثمائة مؤلف في النحو، ووصلتنا فعلًا دراسات تزيد على الألف عدًّا بعضها أصلي وبعضها شارح. ويمثل بانيني1 فترة النضج في الدراسات النحوية عند الهنود، ولذا نال كتابه المسمى "الأقسام الثمانية" شهرة غطت على أي مؤلف آخر سبقه أو لحقه. وقد كتب بانيني تأليفه في شكل قواعد مختصرة، وبذل فيه جهدًا ضخمًا للتوفيق بين الآراء والاتجاهات المتعارضة التي كانت موجودة حينئذ. وأهم ما يميز النحو الهندي:

_ 1 اختلف بدرجة كبيرة في تحديد زمنه. وأشهر الآراء أنه كان موجودًا بين عامي 700و 600 ق. م، وقد وصلنا فعلًا كتاب بانيني المسمى Ashtadhyayi" "الأقسام الثمانية" واحتفل به العلماء وترجموه إلى لغات عدة. وقد نال عمل بانيني شهادات التقدير من القدماء والمحدثين على السواء، فقد قال عنه باتنجالي "150 ق. م": " أنه محيط واسع من العلم". وقال عنه ماكس مولر: "لا يوجد نحو في أي لغة يمكن أن يعادل نحوه". وقال بلومفيلد: "إن نحو بانيني يعد واحدًا من أعظم الشواهد القديمة على تقدم العقل البشري". وقال روبنس: "بين كل النحاة الهنود يقف اسم بانيني متميزًا عن غيره".

1- أنه بدأ بجمع المادة اللغوية وتصنيفها، ثم انتقل إلى استخلاص الحقائق منها. فنقطة البداية في النحو الهندي مختلفة عنها في اليوناني، الذي بدأ من الفلسفة وحاول أن يطبق القواعد الفلسفية على حقائق اللغة. 2- أنه سبق النحو اليوناني في تحديد أقسام الكلام "اسم - فعل - حروف إضافة - أدوات". 3- أنه حلل هذه الأقسام إلى عواملها الأولية فميز بين الجذر أو الأصل، وبين الزيادة أو الحروف التشكيلية. 4 عرف النحو الهندي الأعداد الثلاثة: المفرد والمثنى والجمع منذ عصر مبكر. 5- قسم النحو الهندي الفعل السنسكريتي إلى ثلاثة أقسام بحسب الزمن وهي: ماض وحاضر ومستقبل. وأما الأعمال المعجمية عند الهنود فقد بدأت في شكل قوائم تضم الألفاظ الصعبة الموجودة في نصوصهم المقدسة، ثم تطور هذا النظام فألحق بكل لفظ في القائمة شرحًا لمعناه، ويمكن أن يعتبر هذا العمل من نوع "معاجم الموضوعات" أو "معاجم المعاني" وبعد ذلك ظهرت كتب لا تقصر نفسها على ألفاظ النصوص المقدسة، وأقدم ما وصلنا من هذه الكتب معجم ظهر في القرن السادس الميلادي، أو قبله، لمؤلف بوذي اسمه أمارا سنها Amara Sinha وقد ضم هذا المعجم "واسمه Amara Kosa" جزءا ضم كلمات المترادفات، وجزءا في كلمات المشترك اللفظي، وجزءا عن الكلمات غير المتصرفة والكلمات المذكرة أو المؤنثة أو المحايدة: ويعيب هذا الكتاب وأمثاله أنه كتب في شكل منظوم ليسهل حفظه وأنه لم يتبع أي ترتيب ييسر اللجوء إليه والعثور على المراد بسرعة، فيما عدا المشترك اللفظي الذي رتب بحسب الحروف الساكنة في أواخر كلماته. ولا نجد عملًا آخر يستحق الإشارة إليه بعد ذلك سوى معجم كتب في القرن الحادي عشر الميلادي، وهو معجم ضخم رتبت الكلمات فيه أولًا بحسب عدد مقاطعها ثم بحسب الجنس "مذكر ومؤنث" ثم بحسب الحرف الأول.

اليونانيون

2- اليونانيون: أول عمل لغوي في اليونان -وقد تم بالطبع قبل وصول أي تسجيلات- كان تطوير نظام هجائي للكتابة في أوائل الألف قبل الميلاد. وفي هذا النظام الهجائي مثل اليونانيون كل الأصوات سواء السواكن منها والعلل، وفيما بعد مثلوا كذلك النبر برموز خاصة به1. أما التفكير اللغوي فقد بدأ مرتبطًا بالفلسفة Philosophia وهي علم كان يغطي مجالًا أوسع عند اليونانيين القدماء من المصطلح philosophy اليوم. ولذلك فإن أسماء اللغويين اليونانيين الأولين هي أسماء فلاسفتهم الأولين. وربما كان أقدم ما وصلنا من أبحاث اليونانيين يرجع إلى حوالي القرن السادس قبل الميلاد على أيدي السوفسطائيين. وبعد ذلك نجد سقراط يدلي برأيه في بعض مشكلات اللغة ويليه أفلاطون "428ق م إلى 348 ق م" وأرسطو "384 ق م إلى 322 ق م"2. وربما كان من أهم المشاكل التي لفتت أنظار اليونانيين موضوع اللغة نفسها وهل هي أمر طبيعي أو عرفي ناتج عن اتفاق البشر. وقد خصص أفلاطون جزءًا من محاوراته لمعالجة هذه القضية وعرض وجهتي النظر المختلفتين. كما عالج أصل الكلمات أو موضوع العلاقة بين الاسم والمسمى3. وتطور النقاش بعد ذلك ليصل إلى أيدي القياسيين Analogists والشذوذيين Anomalists، فقال الأولون: إن اللغة فطرية وقياسية ومنطقية، وقال الآخرون: إن عدم

_ 1 انظر: روبنس Short History" A" ص 12 - 13. 2 راجع روبنس المرجع السابق ص 14 و on Language" ص3. 3 انظر: On Language" ص 3.

اطراد اللغة خير دليل على بطلان الرأي الأول1. وعلى الرغم من أن أفلاطون لم يسبق آراءه اللغوية بشكل مترابط، ولم يجمعها في مكان واحد- فقد عده الباحثون رائد الدراسات النحوية اليونانية "وأول فاحص للمشكلات النحوية"2. ويعد أفلاطون أول من فرق بين الاسم والفعل كما أنه أعطانا تقسيمًا ثلاثيًّا للأصوات يمكن أن يكون: أصوات العلة -الأصوات الساكنة المجهورة- الأصوات الساكنة المهموسة3. وأقر أرسطو تقسيم أفلاطون للكلمة إلى اسم وفعل وزاد عليها قسمًا ثالثًا سماه رابطه. وذلك أنه شعر أن الأفعال والأسماء تؤدي معاني مستقلة في حين أن سائر الكلمات ليس لها إلا الوظيفة النحوية فقط4. وبعد ذلك انتقلت الدراسات اللغوية إلى أيدي الرواقيين Stoics الذين فصلوها عن الفلسفة واعتبرت حينئذ فرعًا مستقلًّا تحت الحقل الواسع المسمى Philosophia. وقد تأسست مدرسة الرواقيين على يد Zeno "حوالي 300 ق م". وأعطى هؤلاء شخصية مستقلة لكل من الأصوات والنحو والاشتقاق، وإن كان معظم اهتمامهم منصبًّا على النحو وحده، حتى اعتبر بعضهم بدء النحو بمعناه الحديث على أيدي هؤلاء الرواقيين5. وعلى أيدي الرواقيين زيد قسم رابع ثم خامس إلى أقسام الكلمة الثلاثة عند أرسطو، كما قدمت شروحًا مستفيضة لآراء أرسطو اللغوية. كذلك يبدو أن الرواقيين كانوا أول من درسوا العدد والمطابقة بين الاسم

_ 1 "On Language" ص3، وروبنس ص 17 وما بعدها. 2 روبنس ص 14. 3 "On Language" ص 3 و Greek Phoneers ص 107، 109، وانظر: روبنس ص 3، 10. 4 Greek Phonears ص 110 و "On Language" ص 3 - 4. 5 روبئس ص 27 و Greek Phonears ص 107.

والفعل، وحالات الاسم الإعرابية، وحالات الفعل من حيث الصيغة والزمن1. وبعد الرواقيين تحول مركز الدراسات النحوية إلى الإسكندرية وظهرت مدرسة نحوية كاملة في الاسكندرية خلال القرن الأول قبل الميلاد كما سنعرض فيما بعد. أما في المجال فقد أنتجوا عددًا ضخمًا من المعاجم. وتقول دائرة المعارف البريطانية: إن Athenaeus قد اقتبس نصوصًا من 35 عملًا معجميًّا فقدت جميعها2. ولكن كثيرًا من هذه المعاجم تم إنتاجه في الاسكندرية ولذا نترك الحديث عنها الآن إلى مكان آخر. ويعتبر العلماء القرون الأولى بعد الميلاد هي العصر الذهبي للمعاجم اليونانية وبخاصة في مدينة الإسكندرية كما سنتحدث فيما بعد، ولكن اشتهر من بين المعاجم اليونانية معجم أبو قراط Hippocrate الذي ألفه Glaucus عام 180 ق م وهو معجم ألفبائي3.

_ 1 "On Language" ص 5، وروبنس ص 28. 2 مادة Dietionary. 3 الجرح ص 14 و Haywood ص 8.

المصريون القدماء

3- المصريون القدماء: اتجهت أبحاثهم إلى عدة فروع من الدراسات اللغوية، فدرس بعضهم الآثار الأدبية اليونانية القديمة دراسة فلولوجية، واتجه بعضهم إلى الدرس النحو، وفريق ثالث اتجه إلى وضع المعاجم. ودارت كل هذه الدراسات حول اللغة اليونانية وتركزت جميعها في الاسكندرية. أما الدراسة الفلولوجية فقد وجدت في الإسكندرية في وقت مبكر جدًّا. وكان الهدف منها تصحيح النصوص المكتوبة وتفسيرها والتعليق. عليها1. وظهرت في القرن الثالث قبل الميلاد شروح على أشطر هوميروس وغيره من الشعراء. كما وجه اهتمام إلى دراسة المفردات وجمع الألفاظ الصعبة أو الكلمات الشعرية أو الكلمات التي تنتمي إلى لهجات خاصة 2. وأما النحو فنبغ فيها علماء كثيرون أبرزهم Dionysius Thrax الذي ألف في النحو كتابًا اشتمل -ضمن ما اشتمل عليه- على آراء النحاة السابقين. ونال كتابه شهرة جعلته المرجع الأول للنحو اليوناني في الألف والثمانمائة سنة التالية. وقد أكد ديونسيوس العلاقة بين النحو والأدب، وأهمل كلية الكلام العامي، وزاد في أقسام الكلام حتى بلغ بها ثمانية، وكان بكل تأكيد تقدمًا كبيرًا بالنسبة لأفلاطون وأرسطو3. ويقول عنه أحد الباحثين: "إن جزءًا كبيرًا من نحونا مدين له. لقد كان عمله فذًّا في مدرسته لثلاثة عشر قرنًا. ويدين له بالفضل كذلك النحاة اللاتين القدماء وأهل العصور الوسطى"4. ومن أهم التجديدات والإضافات التي قام بها لغويو الاسكندرية رفضهم بعض أقسام الكلام التي توصل إليها سابقوهم وإضافتهم أقسامًا جديدة مثل حروف الإضافة Prepositions ومثل الضمير Pronoun، ومن ذلك فصلهم اسم الفاعل واسم المفعول عن الفعل. وتناولوا الاسم من حيث التذكير والتأنيث ومن حيث العدد، وقسموا الفعل باعتبار الزمن والصيغة، وغير ذلك كثير. وهناك نقطة أخرى هامة في نحوهم هي أنهم اهتموا فقط بالاستعمالات

_ 1 السعران ص 351، ودي سوسير ص1. 2 السعران: ص 351. 3 "On Language" ص 5. 4 "Greek Pione" ص 112 وانظر: "On Language" ص 6.

الموجودة في الشعر والكتابات النثرية وأهملوا ما عداهما1. أما في مجال المعاجم؛ فإن أقدم معجم يوناني معروف لنا هو معجم Appollonius السوفسطائي، وكان موجودًا في الاسكندرية في عصر Augustus ويتناول هذا المعجم الكلمات التي استعملها هوميروس2. ولكن العصر الذهبي للمعاجم كان في القرون التي تلت المسيحية، وشمل ذلك معاجم كثيرة عرفنا من أسمائها. 1- معجم Orion " / "390 - 460"، الخاص بالاشتقاق وقد ألفه بمصر. 2- معجم Helladius الذي ألفه بالأسكندرية في القرن الخامس وكان ترتيبه ألفبائيًّا. 3- معجم Ammonius وكان معاصرًا للسابق، وقد خصص معجمه للكمات المتفقة في اللفظ المختلفة في المعنى3. 4- معجم اللهجات والسمات المحلية المؤلفة Hesychius4 وغير ذلك.

_ 1 "Greek Pioneers" ص 111 وما بعدها. 2 دائرة المعارف البريطانية Dictionary. 3 المرجع السابق. 4 الجرح ص 14.

السريان

4- السريان: احتك السريان باليونان منذ القدم، واختلطوا بهم إما بحكم الجوار أو بحكم خضوعهم لسلطان اليونان. ولذلك ترجم السريان النحو اليوناني. إلى السريانية. ونقلوا إلى لغتهم كثيرًا من الكلمات والاصطلاحات. وليس هذا فحسب، بل قلدوا اليونان في نحوهم حين وضعوا قواعد لغتهم. أول نحوي سرياني نعرفه هو يوسف الأهوازي أستاذ مدرسة نصيبين المتوفي سنة 580 م "حوالي 42 ق هـ" فقد كتب رسالة في النحو، وترجم كتابًا في نحو اللغة اليونانية اسمه: "الصناعة النحوية" إلى السريانية. كذلك اخترع بعض علامات للشكل، وكتب رسالة عن الكلمات التي تكتب بصورة واحدة ولكن يتعدد معناها. وقد عثر على قطعة من كتاب ألف في القرن السادس في نحو السريان يتضح منها أن مؤلفها اتبع قواعد النحو اليوناني. وفي القرن السابع ظهر نحاة سريان ينسب إلى بعضهم ابتداع نقط الإعجام في السريانية واختراع الحركات، ويعد يعقوب الرهاوي الذي ولد حوالي عام 640 م "19 هـ" وتوفي عام 708 م "90 هـ" أول من وضع نحوًا شاملًا، وقواعد للغة السريانية مبنية على النحو اليوناني، وقد عثر على قطع من هذا الكتاب1 فيها حديث عن الصوائت "الحركات" وقد استعارها من اليونانية ووضعها أولًا بين الحروف، ثم قام بوضعها فوق الحرف أو تحته في المكان الذي يوجد به فراغ2. ووجدت طريقة ثالثة أقدم من هاتين، وهي وضع نقطة أو نقطتين، بطريقة رأسية أو أفقية أو مائلة، فوق الحرف أو تحته، ليوضح شكل حركة من الحركات. وفي القرنين الثامن والتاسع ظهرت بعض مصنفات في نحو السريانية، وكان أشهر المؤلفين فيه أبو زيد حنين ابن إسحاق المتوفي سنة 873.

_ 1 كان الباحثون يظنون أن عمل يعقوب قد فقد إلى أن عثر وليم ربت على صفحات قديمة منه في المتحف البريطاني، ثم على قطع أخرى في البودليانا بأكسفورد. "انظر: " Fragments of the Syriac Grammar: wight". 2 المرجع السابق ص 4. وانظر الآداب السامية للأبراشي ص 63 - 67.

"260هـ"1. وقد ألف معظم أعماله بالعربية، وكذلك مترجماته من اليونانية. وقد عرفنا له ثلاثة كتب هي. "النحو السرياني"، و"المعجم السرياني"، كذلك كتب حنين رسالة عن المترادفات. وقد مد حنين ومدرسته في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين المسلمين بكل ما يعرفونه عن العلوم اليونانية سواء أكان طبًّا أم رياضة أم فلسفة2. أما في القرن العاشر فنجد أن التأليف بالسريانية قد ضعف، إذ أصبح معظم المؤلفين يفضلون -حتى في الكتابات الدينية والرسمية- الكتابة بالعربية. وقد فعل ذلك علماء مثل: أبو علي عيسى بن إسحاق ابن زرعة "943 - 1008م" وأبو زكريا يحيى بن عدي "توفي 974 عن إحدى وثمانين سنة"3.

_ 1 في تفصيل الحديث عن نشأة النحو السرياني راجع -إلى جانب المرجع السابق - ما يأتي: A Short History of Syriac Literature تأليف وليم ريت ص 115، 116، 150. ب- نشأة النحو عند السريان وتاريخ نحاتهم تأليف زاكية رشدي ص 215، 217. ج- تاريخ اللغة السريانية لزاكيه رشدي، ص 266. 2- A Short History of SYriac Literature Wright. ص 212 - 214. وورد في دائرة المعارف البريطانية مادة Syriac Literature أن معظم المؤلفات والوثائق ترجمت من اليونانية إلى السريانية خلال عدة قرون مكونة جزءًا من التراث السرياني. وساهمت هذه الترجمات في تركيب الحضارة الإسلامية فيما بعد حيث كانت أسهل من السريانية إلى العربية عن الترجمة من اليونانية إلى العربية. 3- A Short History ص 222.

العبرانيون

5- العبرانيون: يبدو أن الدراسات اللغوية العذرية لم تزدهر في فترة ما قبل الإسلام، وأن أهم الأعمال التي قدمت لم تظهر إلا بعد اختلاطهم بالعرب، وخوفهم من اندثار لغتهم. لانصراف الناس عنها وتعلمهم اللغة العربية. يقول كاتب مادة Grammar في دائرة المعارف اليهودية: "إن الحافز لدراسة الفلولوجي العبري قد قوي بعامل خارجي، وبالتحديد بالمثال الذي قدمته اللغة العربية. وقد استمرت اللغة العربية تؤثر على علم اللغة العبري وكان النموذج العربي هو الذي احتذاه العبرانيون ثم طوروه". ويقول Hirschfeld: "هناك شواهد مؤكدة أن النفوذ العربي كان موجودًا حتى منذ اللحظة الأولى للنشاط اللغوي العبري. فإننا نجد الأسماء العبرية للحركات الثلاث الرئيسية هي نفسها الأسماء العربية "الفتحة - الكسرة- الضمة". وكذلك الكلمة المستعملة للعلة تعد نقلًا حرفيًّا من العربية "حركة"1. وينص سيعد الفيومي "ولد في صعيد مصر 892 ومات 942م" في مقدمة معجمه على السبب في تأليفه بقوله: "إن اليهود يعطون اهتمامًا قليلًا للغتنا الفصيحة، واهتمامًا أقل للكلمات الصعبة، وأسلوبهم مليء بالأخطاء كما أن شعرهم معيب من ناحية القافية، وغير واضح، وتافه"2. ومع هذا دعنا نلقي نظرة على أهم الأعمال التي قدمها اليهود عن اللغة العبرية قبل الإسلام أو بعده حتى القرن الرابع الهجري: بدأت دراسة اللغة والنحو في العبرية لخدمة الكتاب المقدس ثم استقلت3 وقد أطلق على البداية الأولى للنحو العبري باسم Masorah وكان اهتمام المشتغلين بها محصورًا في التفرقة بين الصيغ المختلفة للكلمات الموجودة في الكتاب المقدس، وربط الأشكال المتشابهة في مجموعات، وتسجيل غرائب النص. ولكن عملهم لم يعط أي اهتمام

_ 1 Literary History of Heberw ص 7. 2 المرجع السابق ص 13، ودائرة المعارف اليهودية مادة "Saadia". 3 دائرة المعارف اليهودية مادة "Grammar".

للتقسيمات النحوية، ولا لحصر الصيغ الموجودة في اللغة العبرية. وظلت الـ Masorah مزدهرة حتى بعد ظهور علم النحو. وحتى من قبل نشأة علم النحو وجدت دراسات تتعلق بتصنيف السواكن والعلل، وتقديم النصائح لقارئ النص المقدس، كما وجد نظام للنقط ووضعت قواعد للكتابة، والضبط بالشكل، وأشير إلى ظاهرة النبر ولوحظت الفروق في أشكالها1. وهناك خلاف كبير حول ما إذا كان شرف البدء بالأعمال النحوية يرجع إلى الربانيين Rabbanites أو القرائين Qaraites ولكن يمكن أن يقال: إن القرائين كانوا أكثر اهتمامًا بالنحو من الربانيين. واستنادًا إلى الشواهد التاريخية يمكن القول أن الأحكام النحوية الأولى التي وصلت إلينا ترجع إلى Nissi b Noah الذي برز في النصف الأول من القرن التاسع وكانت أعماله مكتوبة بالعبرية، لأنه من المعروف أن اليهود لم يستعملوا اللغة العربية لكتاباتهم قبل القرن العاشر الميلادي2. وفي القرن العاشر الميلادي نجد عالمًا كبيرًا سبق أن أشرنا إلى اسمه وهو سعيد الفيومي الذي أنتج أعمالًا يدخل بعضها في عداد النحو وبعضها الآخر في عداد المعاجم. والتأثير العربي واضح عليه لأنه في أول عمل أنتجه، وكان له من العمر 21 سنة، أشار إلى عناوين مؤلفات الكتاب العرب الذين عالجوا فصاحة الأسلوب. وتتلخص جهود سعيد الفيومي فيما يأتي: 1- عمل معجم يسمى Agron، وقد اجتاز تأليف هذا المعجم

_ 1 راجع Literary History of Hebrew ص 5، 6، 9. وراجع دائرة المعارف اليهودية مادة " Grammar". 2 Literary History ص 7 - 8.

مرحلتين اثنتين. فقد ظهر أولًا في شكل معجم عبري خالص مرتب ترتيبًا هجائيًّا تبعًا لبدايات الكلمات ونهايتها. وكل مادة كانت توضح باقتباسات من الكتب المقدسة. وكان غرض المؤلف مساعدة الشعراء الدينيين في نظم القصائد من النوع المسمى Acrostics1 وفي العثور على قواف مناسبة لقصائدهم2. ومن سوء الحظ أن قدرًا صغيرًا منه فقط قد حفظ لنا، وبذا لا يمكننا أن نكون فكرة كبيرة عن محتوياته، ولكننا نملك المقدمة العبرية التي تعطينا بعض المعلومات الهامة. وفي هذه المقدمة تحدث المؤلف عن موضوعات أساسية مثل تكوين الكلمات من جزءين يعد واحد منهما أساسيًّا والآخر إضافيًّا. والجزء الإضافي يقوم بوظيفة الجمعية والملكية والزمن، في حين يبقى الجزء الأساسي من الكلمة غير متغير. ويبدو أن سعيد الفيومي قد أحس بنوع من عدم الرضا عن عمله. ولذا نجده فيما بعد يلبسه ثوبًا جديدًا ويظهره في شكل آخر، إذ قام بإضافة ترجمة عربية للكلمات موضوع البحث، كما كتب مقدمة عربية ووضع له عنوانًا جديدًا هو "كتاب الشعر". 2- تمثلت اهتمامات سعيد فيما بعد في جمعه لرسائل نحوية اثنتي عشرة تحت عنوان "كتب في اللغات" وقد ضاع هذا المجموع فيما عدا بعض اقتباسات منه بقيت في كتاب آخر له شرح فيه "كتاب الخليقة". 3- شرح "كتاب الخليقة"، وفي هذا الشرح ناقش الأصوات الحلقية Guttural في أماكنها المتعددة في الكلمات، والتغيرات المنطقية

_ 1 هي قصائد إذا جمعت أوائل حروف أبياتها كانت اسمًا أو جملة. 2 Literary History of Hebrew ص 11، ودائرة المعارف اليهودية مادة Saadia.

التي تلحقها حينما ترفض أي نوع من التضعيف. وهو في بحثه هذا لم يكن مسبوقًا، لأن هذه الأصوات لم يوجه لها اهتمام خاص في اللغة العربية. 4- كذلك أخرج سعيد عملًا معجميًّا ثانيًا يتمثل في قائمة مفرداته للكلمات التي وردت في الكتاب المقدس مرة واحدة. والمفردات في هذه القائمة ليست مرتبة بأي شكل وقد أضيفت إليها تعليقات وشروح، وترجمة عربية لبعض الكلمات1. وهناك معاصر لسعيد الفيومي اشتغل بالنحو هو أبو يوسف القرقساني Qirqisani، وقد تتلمذ معه على مدارس بغداد، وظهرت آثار ثقافته العربية في أعماله النحوية. وأهم ما تركه عملان نحويان أحدهما تأليف والآخر شرح. وقد اعتبره مؤلف: "التاريخ الأدبي للنحاة المعجمين العبريين" مثلًا لأحسن نموذج لمدرسة القرائين ووضعه في مرتبة تالية لسعيد الفيومي وصف أبحاثه بالدقة والتعمق في فهم اللغة العبرية2. وهناك أعلام أخرى يهودية لمعت في هذا القرن مثل: داود بن إبراهيم الذي كان من مواطني مراكش. وقد ألف معجمًا يشبه معجم سعيد الفيومي، وقسم الكلمات العبرية إلى أربعة أقسام تبعًا لعدد الحروف التي اعتبرها أصلية، بادئًا بالكلمات التي تشتمل على أصل واحد. واعتبر المؤلف ما زاد على الأربعة استثناء. وقدم المؤلف إلى جانب هذا عملًا نحويًّا، وقام ببعض الأبحاث المقارنة3. ميناحيم بن سروق الذي ألف معجمًا عبريًّا خالصًا رتب مادته ترتيبًا هجائيًّا. ولكن المؤلف فشل في التعرف على بعض الجذور فرتب كثيرًا.

_ 1 Literary History of Hebrew ص 11 - 15. 2 ص 16. 3 Literary Historv of Hebrew ص 20، 21.

من الكلمات بحسب صورتها الخارجية. ولهذا فإنك تجد كلمات ذات أصول اشتقاقية متباعدة، تجدها في مكان واحد. وقد أعطى المؤلف في معجمه قائمة بالكلمات ذات الأصل الواحد، وأخرى بالكلمات ذات الأصلين. وقد تحدث ميناحيم عن حروف الهجاء التي لا تأتي إلا أصلية فقط وعن الحروف التي تأتي أصلية وزائدة. وقد كان ميناحيم من سكان قرطبة وولد عام 910 ومات عام 970م1. يهوذا بن حيوج الذي ارتفع بعلم اللغة العبري إلى مستوى علمي رفيع. وقد كان من مواطني فاس ومن تلاميذ ميناحيم السابق ذكره. وبلغ من علو مكانته أن اعتبره بعض المؤرخين أول النحاة العبريين، وقد ساعدته معلوماته العميقة في العربية ودراساتها على التعمق في البحث اللغوي العبري. وقد وصلتنا أجزاء من بعض مؤلفاته3 كما وصلنا أحد أعماله كاملًا متمثلًا في ثلاث رسائل كتبته باللغة العربية. وفي إحدى هذه الرسائل نجد دراسة فونولوجية متقدمة، تعالج العلل والسواكن والتنغيم والنبر والمقطع. ومن الخصائص الفونولوجية التي ذكرها المؤلف أنه لا توجد كلمة عبرية تبدأ بساكن غير متبوع بعلة، كما لا توجد كلمة تنتهي بعلة. وبلغ من عمق تحليلاته ودقتها أن اعتبره بعضهم صاحب "أول محاولة لوضع قواعد فونولوجية للغة العبرية مؤسسة على أسس علمية"3.

_ 1 المرجع ص 24 - 26. ودائرة المعارف اليهودية Menahem b. saruq" ودائرة المعارف البريطانية "Dictionary". 2 من ذلك قطع من أحد كتبه عثر عليها في لينجراد ونشرت عام 1916. وهي تعالج اشتقاق بعض الكلمات العبرية. كما تفرق بين الكلمات ذات الأصوات المختلفة التي تبدو متفقة في الصورة. 3 Literary History of Hebrew ص 35- 39.

وقرب نهاية القرن العاشر ظهر عالمان يستحقان الإشادة وهما: أبو الوليد بن جناح القرطبي الذي ولد في نهاية هذا القرن واشتغل بالطب أولًا ثم اتجه لدراسة اللغة العبرية. وقد ألف كتبًا كثيرة أشهرها. "أ" كتاب بالعربية أسماه "كتاب المستلحق" وهو ذيل على عمل يهوذا بن حيوج. "ب" كتاب بالعربية أسماه "كتاب التنبيه" رد فيه اعتراضات خصومه واحد بعد الآخر، وعالج فيه بعمق كثيرًا من الصيغ الشاذة. "ج" كتاب ثالث اسمه "رسالة التقريب والتسهيل" يعد تعليقات على كتاب ابن حيوج، ويعالج جزؤه الأول موضوعات فونولجية، وجزؤه الثاني مشكلة الأصول الثلاثية للكلمات، وجزؤه الثالث الكلمات ذات الأصل الثالث الضعيف "الناقصة" والكلمات المضعفة. "د" كتاب في النحو اسمه "اللمع" يحتوي على 46 فصلًا ويسير على النمط العربي. "هـ" كتاب اسمه "كتاب الأصول" وهو معجم عبري باللغة العربية1. ويلاحظ أنه كتب جميع مؤلفاته باللغة العربية. وأبو الفرج هارون الذي أتم عملًا لغويًّا ضخمًا عام 1028 م وأسماه "الكتاب الشامل في الأصول والفروع للغة العبرية". ويحتوي الكتاب على ثمانية أبواب تعالج الستة الأولى منها مسائل نحوية، والسابع. يشكل معجمًا، في حين أن الأخير يعالج الكلمات الآرامية الموجودة في الإنجيل. وفي الجزء المعجمي كان يأخذ الأصل الثلاثي ويناقشه ويعرض معانيه المختلفة واستعمالاته، ثم بعد ذلك يعيد ترتيب حروف الكلمة بشكل آخر ويفعل ما سبق فعله. وهكذا يقلب الكلمة على احتمالاتها الواردة في اللغة. وله أعمال لغوية أخرى2.

_ 1 المرجع السابق ص 40 - 46. ودائرة المعارف البريطانية مادة "Dictionary". 2 Literary History of Hebrew ص 50- 52. وقارن هذا بصنيع الخليل في العين.

الصينيون

6- الصينيون: يقول "فيشر" في مقدمة معجمة اللغوي التاريخي: "وإذا استثنينا الصين فلا يوجد شعب آخر يحق له الفخار بوفرة كتب علوم لغته وبشعوره المبكر بحاجته إلى تنسيق مفرداتها بحسب أصول وقواعد غير العرب"1 والذي يهمنا في هذه العبارة ما شهدت به من فضل للصينين في مجال الدراسة اللغوية. وهذه حقيقة نريد أن نعرضها الآن في إيجاز وتركيز. ربما كان أول عمل صيني معجمي قديمًا جدًّا، ولكن أول محاولة منظمة للتعريف بالأشكال التعبيرية كانت العمل المسمى Eah Ya الذي يمكن أن يؤرخ بالفترة ما بين 200 قبل ميلاد المسيح. وهو أشبه بمعجم من معاجم المعاني التي توزع الكلمات تحت موضوعات أو معان مختلفة. Hu shin. وفي نهاية القرن الأول الميلادي ظهر أول معجم حقيقي وهو معجم Shwo wan لمؤلفه. وعلى الرغم من أن هذا المعجم يشرح حوالي 10.600 كلمة فهو ليس معجمًا شاملًا، بل لا يحتوي حتى على جميع الكلمات التي وردت في مقدمته. وقد كان جل اهتمام المؤلف منصبًّا على الكلمات التي وردت في النصوص الدينية. وبعد ذلك ظهر نظام جديد للمعاجم الصينية رتبت فيه الكلمات.

_ 1 صفحة 4.

صوتيًّا تبعًا لنطقها. فكل الكلمات ذات الصوت الواحد تعالج معًا في باب واحد بغض النظر عن اختلاف طرق كتابتها. وأول معجم صيني يتبع هذا النظام هو معجم Hu fa Yen الذي كتب بين عامي 581، 601م. وكان للصينين دراسات صوتية، لكن يبدو أنهم مدينون في التوصل إليها إلى الهنود الذين نقلوا علومهم إلى الصين على يد الرهبان البوذيين فمنهم عرف الصينيون كيف يصنفون أصوات الكلام معًا تبعًا لمكان المنطق1.

_ 1 راجع في كل ما مضى: دائرة المعارف البريطانية "Dictionary". Arabic Lexicography" لمؤلفه Haywood" والدكتور الجرح: المعجم العربي صفحة 12، 13، و "General Linguistics" لمؤلفه "Robins " ص 373. وهناك معجم صيني ضخم ظهر في القرن السادس الميلادي في اثني عشر مجلدًا واسمه yu pien واسم مؤلفه "ku ye wang".

الباب الثاني: الدراسات اللغوية عند العرب

الباب الثاني: الدراسات اللغوية عند العرب الفصل الأول: مرحلة النشأة لم يؤثر عن العرب أي نوع من الدراسات اللغوية قبل الإسلام، ولهذا فهم متأخرون زمنيًّا عن كثير من الأمم التي سبق أن تحدثنا عن جهودها، والتي عرف لبعضها دراسات لغوية راسخة قبل الإسلام بقرون. ولم يكن البحث اللغوي عند العرب من الدراسات المبكرة التي خفوا لها سرعًا، لأنهم وجهوا اهتمامهم أولًا إلى العلوم الشرعية والإسلامية وحين فرغوا منها أو كادوا اتجهوا إلى العلوم الأخرى. يقول السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء معبرًا عن الفكرة: إنه منذ منتصف القرن الثاني الهجري بدأ علماء المسلمين يسجلون الحديث النبوي، ويؤلفون في الفقه الإسلامي والتفسير القرآني. وبعد أن تم تدوين هذه العلوم اتجه العلماء وجهة أخرى نحو تسجيل العلوم غير الشرعية ومن بينها اللغة والنحو1. ويقول الأستاذ أحمد أمين: "أكثر اللغة كتبت في العصر العباسي الأول لا قبله"2. وحتى ما وجد في القرن الأول من تأملات نحوية أو محاولات لدراسة بعض المشاكل اللغوية كان الحافز إليه إسلاميًّا، ولم يقصد بذاته وإنما لاعتباره خادمًا للنص القرآني. ومن ذلك محاولة ابن عباس جمع الكلمات الغريبة في القرآن وشرحها من صحت نسبة "غريب القرآن" إليه. وكذلك محاولة أبي الأسود الدؤلي لضبط المصحف بالشكل حين استحضر كاتبًا وأمره أن يتناول المصحف. وأن يأخذ صنعًا يخالف لون المداد فيضع نقطة فوق

_ 1 تاريخ الخلفاء: ص 173. 2 ضحى الإسلام: 1/ 298.

الحرف إذا رآه يفتح شفتيه، وتحت الحرف إذا رآه قد خفض شفتيه، وبين يدي الحرف إذا رآه يضم شفتيه. أما إذا أتبع الحرف الأخير غنة فينقط نقطتين فوق بعضهما. أما الحرف الساكن فقد تركه1. ثم اخترع أهل المدينة بعد ذلك علامة التشديد وهي قوس طرفاه إلى أعلى هكذا ويوضع فوق الحرف المفتوح وتحت المكسور وعلى شمال المضموم. أما الفتحة فكانت توضع داخل القوس والكسرة تحته والضمة في شماله ثم استغنوا عن النقط في حالة استخدام الشدة وأصبحت الفتحة مع الشدة هكذا. ومع الكسرة ومع الضمة2: ويبدو أن كثيرًا من المحاولات الأولى للدرس اللغوي التي تمت في أماكن مختلفة من العالم كانت مرتبطة بالدين وبالعقيدة. نجد هذا عند الهنود الذين بدأوا بحثهم اللغوي لخدمة نصوصهم المقدسة المسماة بالفيدا. ومثل هذا نجده عند الصينيين إذا كانت دراسة النصوص الدينية البوذية وغيرها سببًا في نشأة المعاجم الصينية، وكذلك كانت دراسة الشعر الحماسي والديني في اليونان دافعًا للتأليف اللغوي. وبدأت دراسة اللغة والنحو في العبرية لخدمة الكتاب المقدس3. وعلى أي حال فمن المنطقي أن يكون البحث اللغوي عند العرب قد بدأ في شكل جمع للمادة اللغوية، أو ما يعرف بمتن اللغة، وأن يسبق ذلك الدرس النحوي. وقد تم هذا الجمع أولًا بطريق المشافهة والحفظ، ودون منهج معين في ترتيب المادة المجموعة أو تبويبها، أو على حد تعبير

_ 1 الفهرست لابن النديم ص40، والخط العربي لسهيلة الجبوري ص56 - 57، وقصة الكتابة لجمعة ص 51 - 52. 2 سهيلة الجبوري ص57. والخط الممتد يمثل الحرف المشدد. 3 انظر "Haywood" ص3. ودائرة المعارف اليهودية مادة Grammar".

الأستاذ أحمد أمين: "كان المدونون الأولون للغة في هذا العصر يدونون المفردات حيثما اتفق، وكما يتيسر لهم سماعها. فقد يسمعون كلمة في الفرس، وأخرى في الغيث، وثالثة في الرجل القصير، وهكذا. فكانوا يقيدون ما سمعوا من غير ترتيب"1. وبعد ذلك اتجه أهل اللغة إلى التبويب والتصنيف والتقسيم ورد النظير إلى النظير، كل بطريقته الخاصة التي رآها. فمنهم من صنف المادة اللغوية بحسب الموضوعات، مثل النبات والشجر والإبل والخيل والسلال والأنواء، وأخرجها في شكل رسائل منفصلة. ومنهم من اتجه إلى الشعر الجاهلي أو الإسلامي يدونه ويرويه ويشرح مفرداته الصعبة. ومنهم من اهتم بتسجيل بعض الظواهر الخاصة التي لاحظها في بعض القبائل ... وهكذا. وتوجت هذه الجهود بظهور المعاجم اللغوية المنظمة التي كان رائدها الخليل بن أحمد "100 - 175 هـ"، وذلك بوضعه معجم "العين" كما سنفصل الحديث فيما بعد. أما البحث النحوي فلا شك أنه بدأ متأخرًا عن جمع اللغة، لأنه لا يمكن القيام به بدون مادة توضع تحت تصرف النحوي، وبعبارة أخرى لأن تقعيد للقواعد ما هو إلا فحص لمادة لغوية تم جمعها بالفعل ومحاولة لتصنيفها واستنباط الأسس والنظريات التي تحكمها. وأفضل ما يعبر عن ذلك قول عبد اللطيف البغدادي في "شرح الخطب النباتية" فيما نقله السيوطي عنه: "اعلم أن اللغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعداه. وأما النحوي فشأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه، ومثالهما المحدث والفقيه، فشأن المحدث نقل الحديث برمته، ثم إن الفقيه يتلقاه ويتصرف فيه ويبسط فيه علله ويقيس عليه الأشباه والأمثال"2.

_ 1 ضحى الإسلام 1/ 302، و 2/ 263 - 264. 2 المزهر 1/ 59.

ومع ذلك فنحن نسمع عن إشارات أو أحكام سريعة تمت في وقت مبكر جدًّا لا يتجاوز النصف الثاني من القرن الأول الهجري كتلك التي قام بها أبو الأسود الدؤلي أو علي بن أبي طالب أو غيرهما. وفي رأينا أن النحو العربي قد نشأ فنًّا قبل أن يكون علمًا، أي: أن هذه الطرق الخاصة بالأداء في اللغة قد التزمت باطراد في تراكيبها وأساليبها ومرنت عليها ألسنة العرب، وتمكنت من طبائعهم قبل أن توضع لها القواعد النحوية. ولهذا فنحن نستبعد تمامًا ما يقوله ابن فارس من أن علم النحو في اللغة العربية قديم بقدمها ومنزل كتنزيلها، وأنه كان معروفًا ومدروسًا من قديم، ثم تنوسيت قواعده وأتت عليها الأيام حتى جاء أبو الأسود الدؤلي فأحيا ما اندثر منه1: ولا نرى رأيه أن اللغة العربية قد وجدت أول ما وجدت وفيها تلك الظواهر الفنية، أو أن تكون قد عرفت أول ما عرفت وهي متميزة بضوابط الإعراب المختلفة. وإنما الذي نراه أن اللغة العربية لا بد أن تكون قد مرت بمراحل من الاضطراب وعدم الاستقرار، وأن هذه الضوابط المتبعة في الأداء قد سلكت طريقًا طبيعيًّا في التكوين، كما تسلك اللغة نفسها هذا الطريق، فكانت في أول الأمر بسيطة غير مطردة ولكنها مع الزمن قد تمت وعمت والتزمت واستقرت في النفوس على وجه يجعلها ملكة أو ما يشبه الملكة، وجرى أهلها على سنن ثابت أو كالثابت في صوغ الكلمة وضبط حروفها وبناء الجمل والأساليب2. وأغلب الظن أن كثيرًا مما نجده في بطون الكتب القديمة، وفي ثنايا النصوص من أمثلة نحوية وشواهد أدبية خارجة عن تلك القواعد والتي وضعها النحاة ثم التمسوا لها تخريجًا - إن هو إلا بقيا من اللغة العربية

_ 1 الصاحبي ص 10. 2 اللغة والنحو لحسن عيون ص 57، 108 وعباس حسن وروي في بعض الأصول ص 12.

في مراحلها الأولى قبل أن تنضج. فمن ذلك إهمال الإعراب في مثل قول امرئ القيس: اليوم أشرب غير مستحقب ... إثمًا من الله ولا واغل وقول الراجز: متى أنام لا يؤرقني الكرى ... ليلًا ولا أسمع أصوات المطي ومن ذلك حذف النون من المثنى من غير إضافة كقول الشاعر: هما خطتا إسار ومنة ... وإما دم والقتل بالحر أجدر والمثل العربي القديم: بيضك ثنتا وبيضي مائتا1. وكذلك إلزام الأسماء الخمسة الألف مثل: مكره أخاك لا بطل. أما كيف نشأ النحو؟ ومن أول من ألف فيه؟ فهذا سؤالان ما نظن أن في أيدينا الإجابة عنهما أو الرد عليهما بحسم. وأغلب الظن أنهما سيظلان معلقين حتى نعثر على مادة جديدة تكشف عن بداية النحو العربي، وتضع حدًّا للإرهاصات والتنبؤات حولها2. فمن قائل: إنه علي بن أبي طالب، ومن قائل: إنه نصر بن عاصم3. ويختلف من قالوا: إن أبا الأسود هو واضع النحو في الباعث له على ذلك، فيقول بعضهم: إن علي بن أبي طالب هو الذي أوعز إليه بوضع النحو، ومن قائل: إنه عمر بن الخطاب، ومن قائل: إنه زياد بن أبيه، ومن قائل: إن أبا الأسود فزع بنفسه إلى وضع النحو حين سمع قارئًا يقرأ: "لَا يَأْكُلُه

_ 1 رسالة الغفران ص 291، واللغة والنحو ص 86، 94. وانظر مغني اللبيب 1/ 167، والمدخل إلى دراسة النحو لعابدين ص 36. 2 يقول بروكلمان: "يبدو أن أوائل علم اللغة العربية ستبقى دائمًا محوطة بالغموض والظلام لأنه لا يكاد ينتظر أن يكشف النقاب بعد عن مصادر جديدة تعين على بحثها ومعرفتهان "2/ 123". 2 الفهرست ص 39، ومدرسة البصرة النحوية ص 32 - 35.

إِلَّا الخْاَطِئِين" أو قارئًا يقرأ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بكسر "رسول". وقيل: السبب إلى ابنته قالت له: "ما أحسنُ السماء" بضم أحسن تريد التعجب، ولكنه فهم الاستفهام فقال لها: نجومها فقالت له: يا أبت، إنما أخبرك ولم أسألك فقال لها: إذن فقولي: "ما أحسنَ السماء" بالنصب1. وتروى قصته مع ابنته برواية أخرى إذ يقال: إن أبا الأسود دخل عليها في وقدة الحر بالبصرة؛ فقالت له: يا أبت، ما أشد الحرّ "تعني التعجب، ولكنه فهم الاستفهام لأنها رفعت" فقال لها: شهرًا ناجر2. فقالت له: يا أبت، إنما أخبرتك ولم أسألك3. وهناك رواية أخرى وردت في "الفهرست" لابن النديم تقول: "ويقال: إن السبب في ذلك أيضًا أنه مر بأبي الأسود سعد وكان رجلًا فارسيًّا من أهل زندخان كان قدم البصرة مع جماعة من أهله فدنوا من قدامة بن مظعون وادعوا أنهم أسلموا على يديه، وأنهم بذلك من مواليه. فمر سعد هذا بأبي الأسود وهو يقود فرسه، فقال: مالك يا سعد، لِم لا تركب؟ قال: إن فرسي ضالع" أراد ظالعا" فضحك به بعض من حضره فقال أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام، ودخلوا فيهفصاروا لنا إخوة، فلو عملنا لهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول4. والرواية بصورتها هذه تحمل في طياتها بذور الشك فيها، إذ لا علاقة مطلقًا بين خطأ الرجل "وهو نتيجة عادة كلامية خاصة" وبابي الفاعل والمفعول اللذين قيل: إن أبا الأسود قد وضعهما من أجله. أما رواية من قال: إن زيادًا هو الذي حرك أبا الأسود لوضع النحو فتمضى قائلة: إن أبا الأسود رفض أولًا، ففكر زياد في حيلة "فبعث

_ 1 ضحى الإسلام 1/ 245. 2 في اللسان: شهرًا ناجر أشد ما يكون من الحر ويزعم قوم أنهما حزيران وتموز. وناجر رجب، وقيل: صفر. 3 من تاريخ النحو للأفغاني ص 10. 4 ص 40.

رجلًا يقعد له بطريقه، وأمره أن يقرأ شيئًا من القرآن ويتعمد اللحن فقرأ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} - بالجر" فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال: عز وجه الله؟ إن الله لا يبرأ من رسوله. ثم رجع من فوره إلى زياد فقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت"1. وينقل ابن النديم رواية تدل على أن عليًّا هو أول من وضع النحو وذلك إذ يقول: "قال محمد بن إسحاق زعم أكثر العلماء أن النحو أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وأن أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب"2. بل أكثر من هذا يروي ابن الأنباري نصًّا دفع به علي لأبي الأسود جاء فيه: "الكلام كله اسم وفعل وحرف. فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى. واعلم أن الأسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر ... " ثم يمضي ابن الأنباري قائلًا: ثم وضع أبو الأسود بابي العطف والنعت، ثم بابي التعجب والاستفهام إلى أن وصل إلى باب إن وأخواتها ما خلا لكن، فلما عرضها على علي أمره بضم لكن إليها، وكلما وضع بابًا من أبواب النحو عرضه عليه3. ولكن ابن النديم يعود فيذكر رواية أخرى تثبت هذا الوضع لأبي الأسود، وذلك في فصل عقده بعنوان: "سبب يدل على أن من وضع النحو كلامًا أبو الأسود الدؤلي" ذكر فيه أنه رأى بنفسه أربعة أوراق قديمة كتب عليها: "هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود الدؤلي رحمة الله عليه بخط يحيى بن يعمر. وتحت هذا الخط بخط عتيق هذا خط علان النحوي: وتحته: هذا خط النضر بن شميل"4:

_ 1 من تاريخ النحو للأفغاني، ص 10 حاشية رقم1. 2 الفهرست ص 39. 3 ضحى الإسلام 2/ 285. 4 الفهرست ص 40 - 41.

وقد تبين من هذا أن السبب الأساسي في وضع النحو -مهما كان واضعه- ما فشا من لحن عقب الفتوحات الإسلامية، وامتداد آفاق اللغة العربية إلى مجالات لم تتح لها من قبل، وفساد الألسنة حتى بالنسبة للعرب أنفسهم نتيجة اختلاطهم بالأجانب. يقول الزبيدي: "لم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها؛ حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان فدخل الناس فيه أفواجًا، وأقبلوا عليه أرسالًا، واجتمعت الألسنة المتفرقة واللغات المختلفة ففشا الفساد في اللغة العربية"1. ونلتقط من بين الأمثلة التي ذكرها المؤرخين للحن ما يأتي: 1- تسكين أواخر الكلمات وترك الإعراب خوفًا من اللحن. ومن ذلك ما حكي أن مهدي بن مهلهل كان يقول: "حدثنا هشام بن حسان". بالتسكين على ما نقل الجاحظ2. 2- الانحراف في نطق بعض الأصوات كنطق الظاء ضادًا، وقد سبق مثاله. وكنطق الصاد سينًا، كما يروى أن عمر بن الخطاب مر برجلين يرميان فقال أحدهما للآخر: أسبت "يعني أصبت" فقال عمر: "سوء اللحن أشد من سوء الرمي"3. ومثل ذلك ما يروى عن مولى زياد أنه كان ينطق الحاء هاء كقوله: "أهدى لنا همار وهش" "أي حمار وحش"4. 3- الخطأ في قواعد النحو، كما يروى أن مؤذنًا سُمع يقول: "أشهد أن محمدًا رسولَ الله" "بنصب رسول" فقال له أعرابي: ويحك، يفعل ماذا؟ وما يروى أن أبا عمرو بن العلاء مر بالبصرة فإذا

_ 1 عبد العزيز مطر ص 29 عن طبقات الزبيدي. 2 ضحى الإسلام 1/ 295 عن البيان والتبيين. 3 من تاريخ النحو ص 10. 4 مطر ص 30.

أعدال مطروحة مكتوب عليها "لأبو فلان" فقال: يا رب، يلحنون ويرزقون؟ وما يروى أن رجلًا دخل على زياد فقال له: إن أبينا هلك وإن أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا، فقال له زياد: ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضع من مالك1. 4- الخطأ في بنية الكلمة، كما يقال: إن أول لحن سُمع بالبادية قولهم: "هذه عصاتي"2. ولم ينج الحكام والخلفاء من الوقوع في اللحن. فمنهم من كان بعد ذلك يكابر. ومنهم من كان يخجل ويحاول إصلاح نفسه وتقويم لسانه. فمن النوع الأول ما يروى أن بعض الأمراء بالبصرة كان يقرأ: "إنّ اللهَ ومَلائِكَتُه" بالرفع- فمضى إليه الأخفش ناصحًا فانتهره، وقال له: تلحنون أمراءكم3. ومن النوع الثاني الحجاج بن يوسف الثقفي الذي بلغ من حرصه على توقي اللحن وتقززه منه أن أبعد يحيى ابن يعمر الليثي؛ لأنه اطلع على لحن له. والحكاية كما ترويها كتب اللغة والأدب تتلخص في أن الحجاج سأل يحيى بن يعمر. أتراني ألحن على المنبر؟ فقال يحيى -خوفًا من سطوة الحجاج وجبروته-: الأمير أفصح الناس إلا أنه لم يكن يروي الشعر فكرر الحجاج سؤاله فقال يحيى: نعم في آي القرآن،

_ 1 من تاريخ النحو ص10. وهناك أمثلة أخرى كثيرة لهذا النوع كما يروى أن عمر بن الخطاب مر على قوم يرمون بالسهام فلم يعجبه رميهم. ولما أبدى هذا قالوا: إننا قوم متعلمين. وروي أن بشر بن مروان قال لغلام له: ادع صالحًا فقال الغلام: يا صالحًا، فقال بشر: ألغ منها ألف. فقال له عمر بن عبد العزيز وكان حاضرًا المجلس: وأنت فزد على ألفك ألفًا. 2 مطر ص 29. ومن أمثلته كذلك أن رجلًا قال لأعرابي: كيف أهلك، بكسر اللام، فقال: صلبا. لأنه أجابه على فهمه ولم يعلم أنه أراد السؤال عن أهله وعياله. 3 من تاريخ النحو ص 18.

فقال الحجاج: فذاك أشنع. وما هو؟ قال: تقول: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} "برفع أحب" وصحتها أحبَّ "بالنصب". فقال: والله لن تسمعني ألحن بعد ذلك وأبعده إلى خراسان1. ومن هذا النوع أيضًا -وإن اختلف سلوك كل- عمر بن عبد العزيز الذي لحن لحنة فنبه إليها فحبس نفسه في منزله ومعه من يعلمه العربية. ولم يخرج على الملإ إلا وهو أفصح الناس2. ويروى كذلك أن عبد الملك ابن مروان، وإن لم يكن قد عرف عنه اللحن؛ فإنه كا يتجنبه ويتوقاه ولهذا حين سئل: "لماذا عجل الشيب إلى رأسك يا أمير المؤمنين" فقال: "شيبتني مواقف الخطابة وتوقع اللحن". ويرى الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس أن جميع الأمثلة التي ذكرها العروضيون للإقواء ليست من قبيل الخطأ الموسيقي، وإنما من قبيل الخطأ النحوي. وعلى هذا فهو يرى أن حسان بن ثابت كان ينشد: لا بأس بالقوم من طول ومن قصر ... جسم البغال وأحلام العصافير كأنه قصب جفت أسافله ... مثقب نفخت فيه الأعاصير بكسر الأعاصير حفاظًا على النغمة الموسيقية، وإن كسر بذلك قواعد النحو "وليس بالرفع كما زعم النحاة حفاظًا على قواعد النحو، وإن كان يكسر النغمة الموسيقية"، إذا لا يعقل أن الشاعر الفحل يخطئ في الموسيقى وإن عقل أن يخطئ في النحو. وإذا علمنا أن الإقواء كان شائعًا بين الشعراء الجاهليين3 خرجنا من ذلك بأن اللحن كان شائعًا

_ 1 محاضرات الدكتور إبراهيم أنيس لطلبة الليسانس بكلية دار العلوم "غير مطبوعة" ومن تاريخ النحو ص 12. 2 من تاريخ النحو ص 14. 3 يروى عن أبي عمرو بن العلاء قوله: فحلان من العرب الشعراء كانا يقويان النابغة وبشر بن أبي خازم "ديوان النابغة الذبياني ص 29" وفي القصيدة الثانية من ديوان النابغة إقواءان على الأقل "البيتان 2، 17".

حتى بين فصحاء العرب وشعرائهم1. ومهما كان الأمر فقد تمت أوليات الدراسة النحوية في مدينة البصرة وشمل ذلك الفترة التي تمتد من أبي الأسود إلى الخليل بن أحمد. وكانت الكوفة وقتها مشغولة برواية الأشعار والأخبار2. وفي الفترة بين أبي الأسود والخليل نجد أسماء -مجرد أسماء- وبعض اقتباسات، ولكن لم تصلنا أي مؤلفات، وإن ذكرت التراجم وجودها. ومن أشهر نحاة هذه الفترة يحيى بن يعمر، وعنبسة الفيل، وميمون الأقرن، وعيسى بن عمر الثقفي، وأبو عمرو بن العلاء، وعبد الله ابن أبي إسحاق الحضرمي. وليس هناك شيء يذكر بالنسبة للثلاثة الأوائل، أما الثلاثة الأواخر فقد ذكرت عنهم كتب التراجم ما يأتي: عيسى بن عمر الثقفي: كان نحويًّا بصريًّا كفيفًا مولعًا بالغريب: ومما حكي عنه في ذلك أنه سقط ذات يوم في سوق البصرة مغشيًّا عليه، ودار الناس حوله يقولون: مصروع، فبين قارئ ومتعوذ من الجان. فلما أفاق من غشيته أمر الناس أن ينفضوا من حوله بلغة حشاها بالغريب من الألفاظ وحوشي الكلام، حتى إن الناس لم يفهموه، إذ قال لهم: ما لكم تكأكأتم عليَّ كتكأكئكم على ذي جنة. افرنقعوا عني، فعلق أحد الحاضرين بقوله: "إن جنيته تتكلم الهندية"3: ويروى كذلك أنه أنكر وديعة أودعت عنده فضرب بالسياط ليقر فجعل يقول: "والله إن كانت إلا أثيابا في أسيفاط قبضها عشاروك"4. وقد مات عام 149 هـ.

_ 1 محاضرات الدكتور إبراهيم أنيس. 2 نشأة النحو ص 16، 17. 3 وفيات الأعيان 3/ 154 - 156. 4 نشأة النحو ص 61 "ط ثانية". والسفط كالجوالق والجمع أسفاط.

بعد أن ترك كتابين هما "الجامع" و "المكمل" وقد مدحهما الخليل ابن أحمد بقوله: بطل النحو جميعًا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر ولكن فقد الكتابان ولم يعثر لهما على أثر1. أبو عمرو بن العلاء: أحد الأعلام في القراءة والنحو واللغة وأحد القراء السبعة. قال فيه أبو عبيدة: "أعلم الناس بالقراءات العربية وأيام العرب والشعر، وكانت دفاتره ملء بيته إلى السقف". وقال فيه يونس: "لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله كله في شيء واحد كان ينبغي لقول أبي عمرو بن العلاء في العربية أن يؤخذ كله". وقد اختلف هو وعيسى بن عمر في قولهم: "ليس الطيب إلا المسك" فكان أبو عمرو يجيز الرفع وعيسى بن عمر ينكره. وحين تحاجا قال أبو عمرو له: "نمت وأدلج الناس. ليس في الأرض حجازى إلا وهو ينصب ولا تميمي إلا وهو يرفع". واحتكما إلى الأعراب فشهدوا لأبي عمرو بن العلاء. وتوفي أبو عمرو عام 154 هـ2. عبد الله بن أبي اسحاق: سئل عنه يونس فقال: "هو والنحو سواء" ويقال: إنه أول من علل النحو وإنه كان شديد التجريد للقياس والعقل به يقول ابن سلام: "كان أول من بعج النحو ومد القياس والعلل"، ويقول ابن الأنباري. "إنه أول من علل النحو". ولم ينقل عن ابن أبي إسحاق كتاب في النحو لكنه عني بالهمز ومهر فيه حتى كان له فيه كتاب.

_ 1 الفهرست لابن النديم ص 41 - 42. 2 الأفغاني: من تاريخ النحو ص 36 - 37، ونشأة النحو "ط ثانية" ص 62 و "يونس" للدكتور حسين نصر ص 22.

ويروى أن والي البصرة في عهد هشام بن عبد الملك جمع بين أبي عمرو ابن العلاء وابن أبي إسحاق، فقال أبو عمرو: "فغلبني ابن أبي إسحاق بالهمز يومئذ"1.وبالرجوع إلى فهارس كتاب سيبويه "إعداد هارون" يتبين أن نقول سيبويه عن ابن أبي إسحاق تبلغ تسعة فقط. ولكن جاء جانب من شهرة ابن أبي إسحاق من كثرة تتبعه لزلات الشعراء وتلمسه الأخطاء لهم. وأشهر من تعرض له الفرزدق، وله معه قصص كثيرة. فمن ذلك أنه سأله يومًا: كيف تنشد هذا البيت: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر2 فقال الفرزدق: "فعولان" فرد ابن أبي إسحاق: ما كان عليك لو قلت فعولين؟ فقال الفرزدق: لو شئت أن أسبح لسبحت، ونهض فلم يعرف أحد مراده. وتعرض ابن أبي إسحاق للفرزدق في شعر له، إذ عابه على قوله: وعض زمان يا بن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف3 وسأله: علام رفعت؟ فقال الفرزدق: على ما يسوؤك وينوؤك علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا ثم هجاه بقوله: فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى موالي فقال له ابن أبي اسحاق: وهذا أيضًا خطأ، كان يجب أن تقول: موال لا موالي4.

_ 1 نشأة النحو "ط ثانية" ص 58، والنحو العربي لمازن المبارك ص 41، 53. 2 يخرج البيت على أن "كان" تامة. 3 المسحت: المستأصل، والمجلف: الباقي منه شيء. 4 محاضرات الدكتور أنيس، ونشأة النحو "ط ثانية" ص 59 - 60.

ولم تنقل كتب التراجم بماذا رد عليه الفرزدق مع أن توجيه البيت قريب، فمن العرب من يجر مثل هذه الكلمات بالفتح الظاهر لأنها ممنوعة من الصرف وعليه قول الهذلي: أبيت على معاري فاخرات ... بهن ملوب كدم العباط وقراءة "والفَجْر ولياليَ عَشْر" - بفتح ياء ليالي. وكانت وفاة ابن أبي اسحاق عام 117 هـ. أما أول عمل نحوي كامل يصل إلينا فهو "الكتاب" لسيبويه. وسنفرده ببحث خاص فيما بعد. وليس معنى أن "الكتاب" هو أول عمل وصلنا أنه أول عمل على الإطلاق، فقد سبق أن تحدثنا عن جهود نحوية قبل سيبويه وسبق أن ذكرنا أسماء لبعض مؤلفات لم تصلنا. وندع مرحلة النشأة لنتحدث بشيء من التفصيل عن جهود العرب في مجالات البحث اللغوي المختلفة، وهو ما سيكون موضوع الفصول التالية إن شاء الله. ولما كان البحث اللغوي قد تنوع وتعددت جوانبه فمن الأوفق أن نتناول موضوعات كل فرع على حدة وذلك على النحو التالي: 1- الأصوات. 2 النحو والصرف. 3 المعجم. 4 الدراسة المقارنة.

الفصل الثاني: الأصوات

الفصل الثاني: الأصوات عرض تاريخي: يعتبر علماء اللغة المحدثون دراسة الأصوات أول خطوة في أي دراسة لغوية، لأنها تتناول أصغر وحدات اللغة، ونعني بها الصوت، الذي هو المادة الخام للكلام الإنساني. أما اللغويون العرب فلم ينظروا إلى الدراسة الصوتية هذه النظرة، ولم يعالجوا الأصوات علاجًا مستقلًّا، وإنما تناولوها دائمًا مختلطة بغيرها من البحوث وذلك على النحو التالي: 1- بالنسبة للنحاة: خصصوا بعض الأبواب في كتبهم النحوية لهذه الدراسة. بل إنهم لم يقصدوها لذاتها وإنما لغيرها، حيث اعتبروها تمهيدًا أو مدخلًا لدراسة ظاهرة الإدغام، والحديث عن قواعد الإعلال والإبدال، وقد عالج سيبويه "الإدغام" في نهاية مؤلفه "الكتاب"، وعالج الأصوات قبل معالجة الإدغام. وعالج المبرد في كتابه "المقتضب" الإدغام في الجزء الأول وقدم له بدراسة للأصوات ومخارجها. كذلك أنهى الزجاجي كتابه "الجمل" بالحديث عن الإدغام، ومهد لحديثه ببعض الأفكار الصوتية. وأنهى الزمخشري كتابه "المفصل" بالإدغام، وقدم بين يديه دراسة للأصوات. 2 كما تناول أصحاب المعاجم بعض المشكلات الصوتية، إما في مقدمات معاجمهم. أو في ثنايا المادة اللغوية المجموعة. ويبدو الاهتمام بهذا النوع من الدراسة في المعاجم التي رتبت صوتيًّا واتبعت نظام

التقليبات "كالعين" للخليل، أو اتبعت نظام التقليبات فقط "كالجمهرة" لابن دريد. وقد تناولت مقدمة "العين" -التي شغلت ست عشرة صفحة من المطبوعة- المشكلات الصوتية الآتية: أ- ترتيب الحروف ترتيبًا صوتيًّا1. ب- اعتبار الراء واللام والنون ذات وضع خاص وتسميتها بحروف الذلاقة لأنها تخرج من ذلق اللسان أي بطرف أسلته. ولا ينطق طرف اللسان إلا بالراء واللام والنون فقط. وألحق الخليل بهذه الثلاثة، ألفاء والباء والميم لأنها شفوية، وسحب عليها اسم الذلاقة كذلك2. حـ تصريحه بأن حروف الذلاقة الستة أسهل من غيرها في النطق، ولذا تكثر في أبنية الكلام، ولا يخلو أي بناء رباعي أو خماسي منها أو من بعضها3. د الحديث عن مخارج الأصوات تفصيلًا4. وسوف نتعرض لبعض هذه المباحث بشيء من التفصيل فيما بعد. أما مقدمة "الجمهرة" فقد تناولت جميع النقاط السابقة مع شيء من التفصيل في بعضها، وزادت ما يأتي:

_ 1 صفحة 53. 2 ص 57، 58. 3 ص 58، ص 64، 65 على التوالي. 4 نفس المرجع.

"أ" الحديث عن نسج الكلمة العربية والحروف التي تأتلف أو لا تأتلف كقولها: لم تأتلف القاف والكاف في كلمة واحدة إلا بحواجز، وكذلك حالهما مع الجيم- بقاف والكاف جاءت مع الشين- جمعوا بين الشين والجيم- الحروف إذا تقاربت مخارجها كانت أثقل على اللسان منها إذا تباعدت- الحاء والعين لم تأتلف في كلمة واحدة - أصعب الحروف حروف الحلق. ب- حديثها عن الأصوات الرخوة والأصوات المطبقة والأصوات الشديدة. حـ- تعرضها لنسبة تردد الأصوات في اللغة العربية، وادعاؤها أن أكثر الحروف استعمالًا في اللغة هي الواو والياء والهاء، وأقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشين ثم القاف ثم الخاء ثم النون ثم اللام ثم الراء ثم الباء ثم الميم1. 3 وأسهم علماء التجويد والقراءات القرآنية بقدر لا يجحد في هذا الميدان، ولسنا نملك لهذا النوع من الدراسة مادة كافية تسمح بتتبع تطوره ووصف المراحل التي قطعها حتى صار علمًا مستقلًّا هو "علم التجويد" وكل الذي يعرف عن مراحله الأولى أن أول من استخدام هذه الكلمة في معنى قريب من معانها هو ابن مسعود الصحابي الذي كان ينصح المسلمين بقوله: "جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات". والذي يروي البخاري مسلم في شأنه أنه كان يتفنن في تجويد القرآن وترتيله وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يجهش بالبكاء حينما يسمع القرآن بترتيل ابن مسعود. ويبدو أن نشأة علم التجويد جاءت استجابة لدعوة ابن مسعود، ومحاولة لتقنين قواعد القراءة اقتفاء لأثره. وأصبح كل كتاب للتجويد -فيما بعد- يشتمل - إلى جانب قواعد

_ 1 الجمهرة 1/ 6 - 13.

التلاوة - على فصل في مخارج الحروف وطريقة نطقها وصفاتها كما فعل ابن الجزري في كتابه "النشر" الذي خصص سبع صفحات فيه لهذا المبحث وحده. كذلك ترددت في كتب التجويد مصطلحات صوتية مثل الإشمام، والإشباع، والاختلاس، والمد، والتفخيم، والترفيق، ونحوها1. 4- وأدلى المؤلفون في إعجاز القرآن وعلوم البلاغة بدلوهم مع الدلاء وزودونا بمعلومات صوتية ذات قيمة. ومعظم ما شغلهم من مباحث الأصوات يتعلق بتنافر الأصوات وتآلفها. واستتبع هذا بالضرورة حديثًا عن مخارج الحروف وهل للقرب أو البعد المخرجي دخل في التنافر أو التآلف ونضرب على هذا النوع من الدراسة الأمثلة الآتية: أ- يقول الرماني "القرن الرابع" في رسالته "النكت في إعجاز القرآن" بعد أن قسم الكلام إلى متنافر، ومتلائم في الطبقة الوسطى، ومتلائم في الطبقة العليا: "والمتلائم في الطبقة العليا القرآن كله. والسبب في التلاؤم تعديل الحروف في التأليف. فكلما كان أعدل، كان أشد تلاؤمًا وأما التنافر فالسبب فيه ما ذكره الخليل من البعد الشديد أو القرب الشديد وذلك أنه إذا بعد البعد الشديد كان بمنزلة الطفر، وإذا قرب القرب الشديد كان بمنزلة مشي المقيد، لأنه بمنزلة رفع اللسان ورده إلى مكانه، وكلاهما صعب على اللسان ... ومخارج الحروف مختلفة فمنها ما هو من أقصى الحلق، ومنها ما هو من أدنى الفم، ومنها ما هو في الوسائط بين ذلك"2.

_ 1 Tajwid as a Source in Phonetic Research صفحات 114، 118، 119. وانظر دائرة المعارف الإسلامية- مادة تجويد، ففيها معلومات عن موضوعات فن التجويد وإن لم يكن فيها أي ترتيب تاريخي. 2 ص 87 - 79.

"ب" ويقول ابن سنان الخفاجي "القرن الخامس" في كتابه "سر الفصاحه". "وقد ذهب علي بن عيسى1 أيضًا إلى أن التنافر أن تتقارب الحروف في المخارج أو تتباعد بعدًا شديدًا، وحكي ذلك عن الخليل ابن أحمد، ويقال: إنه إذا بعد البعد الشديد كان بمنزلة الطفر، وإذا قرب القرب الشديد كان بمنزلة مشي المقيد، لأنه بمنزلة رفع اللسان ورده إلى مكانه وكلاهما صعب على اللسان. والسهولة من ذلك في الاعتدال، ولذلك وقع في الكلام الإدغام والإبدال" ويعقب ابن سنان الخفاجي على ذلك بقوله: "والذي أذهب أنا إليه ... لا أرى التنافر في بُعد ما بين مخارج الحروف وإنما هو في القرب. ويدل على صحة ذلك الاعتبار كلمة "ألم" فهي غير متنافرة، وهي مع ذلك مبنية من حروف متباعدة المخارج؛ لأن الهمزة من أقصى الحلق، والميم من الشفتين، واللام متوسطة بينهما وعلى مذهبه كان يجب أن يكون هذا التأليف متنافرًا؛ لأنه على غاية ما يمكن من البعد ... ومتى اعتبرت جميع الأمثلة لم ترد للبعد الشديد وجهًا في التنافر على ما ذكره. فأما الإدغام والإبدال فشاهدان على أن التنافر في قرب الحروف دون بعدها لأنهما لا يكادان يردان في الكلام إلا فرارًا من تقارب الحروف. وهذا الذي يجب عندي اعتماده، لأن التتبع والتأمل قاضيان بصحته"2. حـ- وقد ضمن أبو بكر الباقلاني "القرن الرابع" كتابه المشهور "إعجاز القرآن" كثيرًا من المباحث الصوتية، بقصد تحليل آيات القرآن، وبيان أوجه إعجازها. وأهم ما ذكره في هذه الخصوص يتعلق بفواتح السور وسر اختيار حروف معينة لها. ومن ذلك قوله: 1- "إن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفًا

_ 1 هو الرماني. 2 ملحق بمجموعة "ثلاث رسائل في إعجاز القرآن" ص 169.

وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة. وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفًا؛ ليدل بالمذكور على غيره. والذي تنقسم إليه هذه الحروف ... أقسام.. فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة وأخرى مجهورة. فالمهموسة منها عشرة وهي الحاء والهاء والخاء والكاف والشين والثاء والفاء والتاء والصاد والسين. وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة. وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور، وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء لا زيادة ولا نقصان"1. 2- ويذكر الباقلاني كذلك أن نصف حروف الحلق "العين والحاء والهمزة والهاء والخاء والغين" وهو العين والحاء والهاء قد ورد في هذه الفواتح. وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف حلق. كما يذكر أن نصف الحروف الشديدة "الهمزة والقاف والكاف والجيم والتاء والدال والطاء والباء" وهو الطاء والقاف والكاف والهمزة مذكورة في جملة تلك الحروف: وكذلك نصف الحروف المطبقة "الطاء والضاد والصاد والظاء" وهو الطاء والصاد مذكور في الفواتح2. 3- ويقول عن البدء بحروف "ألم": "لأن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلقًا، واللام متوسطة، والميم متطرفة، لأنها تأخذ في الشفة، فنبه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم مما يتعارفون من الحروف التي تتردد بين هذين الطرفين"3. 4- كذلك شارك أصحاب الموسوعات الأدبية في هذا الحقل، وعلى

_ 1 ص 66. 2 ص 67 - 68. 3 ص 68 - 69.

رأسهم الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين". ونكتفي بضرب بعض الأمثلة من بيان الجاحظ باعتبارها تمثل هذا النوع من البحوث: "أ" مما تعرض له الجاحظ عيوب النطق سواء كانت ناتجة عن سرعة أو سبب عضوي، أو لثغة، أو لكنة أجنبية. أما العيب الناتج عن السرعة فقد سماه اللفف، وعرفه بأن يدخل المتكلم الكلام بعضه في بعض. وأما العيب الناتج عن سبب عضوي مثل سقوط بعض الأسنان فقد مثل له الجاحظ بخطيب اسمه الجمحي أصاب في خطبته، ولكنه كان نازعًا بعض أسنانه فكان في كلامه صفير يخرج من موضع ثناياه المنزوعة. ونقل الجاحظ في مكان آخر ملاحظة لمحمد بن عمرو الرومي عن سقوط جميع الأسنان وهي "قد صحت التجربة، وقامت العبرة على أن سقوط جميع الأسنان أصلح في الإبانة عن الحروف منه إذا سقط أكثرها، وخالف أحد شطريها الشطر الآخر". أما اللثغة فقد عالجها الجاحظ في شيء من الاستفاضة، وتعرض للحروف التي تدخلها، وذكر أنها أربعة هي القاف والسين واللام والراء فلثغة القاف تكون بقلبها طاء، والسين بقلبها ثاء، واللام بقلبها ياء أو كافًا، والراء بقلبها ياء أو عينًا أو ذالًا أو ظاء. وتعرض الجاحظ كذلك للكنة التي تبدو في كلام الأعجمي إذا نطق اللغة العربية كنطق السدي الجيم زايًا، والنبطي الزاي سينًا والعين همزة1. ب كذلك تناول الجاحظ نسج الكلمة العربية، وعدم اجتماع

_ 1 1/ 34 - 38، 58، 70، 74. وانظر كذلك ص 15. وتعرض الجاحظ كذلك لجملة من عيوب النطق مثل التمتمة والحبسة والعقلة والحكة والتلعثم ... "انظر.. بعض البحوث اللغوية عند الجاحظ ص 61، 62".

بعض الحروف مع بعض، وذلك في قوله: "فأما اقتران الجروف فإن الجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الطاء ولا الغين بتقديم ولا بتأخير. والزاي لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال.. وهذا باب كبير، وقد يكتفى بذكر القليل حتى يستدل به على الغاية التي إليها يجري"1. "ح" وينقل الجاحظ الزعم أن الياء واللام والألف والراء أكثر الحروف ترددًا من غيرها، وأن الحاجة إليها أشد، ثم يعقب بقوله: "واعتبر ذلك بأن تأخذ عدة رسائل، وعدة خطب من جملة خطب الناس ورسائلهم، فإنك متى حصلت جميع حروفها وعددت كل شكل على حدة علمت أن هذه الحروف الحاجة إليها أشد"2. ومنهج الجاحظ في هذه التجربة الصوتية يعد أحدث منهج متبع الآن، وهو أخذ عينة من المادة اللغوية المدروسة ثم استخلاص النتائج منها والانتهاء بتعميم الحكم. وأول من أفرد المباحث الصوتية بمؤلف مستقل ونظر إليها على أنها علم قائم بذاته ابن جني المتوفي عام 392 هـ في كتابه "سر صناعة الإعراب"3 الذي تناول الموضوعات الصوتية الآتية: 1- عدد حروف الهجاء وترتيبها ووصف مخارجها. 2 بيان الصفات العامة للأصوات وتقسيمها باعتبارات مختلفة. 3 ما يعرض للصوت في بنية الكلمة من تغيير يؤدي إلى الإعلال أو الإبدال أو الإدغام أو النقل أو الحذف.

_ 1- 1/ 69. 2- 1/ 22. 3 رجعنا إلى تحقيق مصطفى السقا للجزء الأول. وقد حقق الكتاب كاملًا ونشر مؤخرًا في دمشق بتحقيق الدكتور حسن هنداوي.

4- نظرية الفصاحة في اللفظ المفرد ورجوعها إلى تأليفه من أصوات متباعدة المخارج1. ويقول ابن جني في مقدمة كتابه. "وأذكر أحوال هذه الحروف في مخارجها ومدارجها، وانقسام أصنافها، وأحكام مجهورها ومهموسها، وشديدها ورخوها، وصحيحها ومعتلها، ومطبقها ومنفتحها وساكنها ومتحركها ... إلى غير ذلك من أجناسها. وأذكر فرق ما بين الحرف والحركة. وأذكر أيضًا الحروف التي هي فروع مستحسنة والحروف التي هي فروع مستقبحة، والحركات التي هي فروع متولدة عن الحركات كتولد الحروف عن الحروف. وأذكر أيضًا ما كان من الحروف في حال سكونه له مخرج؛ فإذا حرك أقلقته الحركة وأزالته عن محله في حال سكونه"2: ويجدر بنا ونحن نتحدث عن ابن جني أن ننبه إلى شيئين اثنين: أ- أن ابن جني كان أول من استعمل مصطلحًا لغويًّا للدلالة على هذا العلم ما زلنا نستعمله حتى الآن وهو "علم الأصوات"3. ب- أن ابن جني يعتبر الرائد في هذه الدراسة، وكان على حق في قوله في كتابه: "وما علمت أن أحدًا من أصحابنا خاض في هذا الفن هذا الخوض ولا أشبعه هذا الإشباع"4. وسوف نعرض فيما بعد نتفًا من آراء ابن جني الصوتية. وأخيرًا نشير إلى عمل لابن سينا الفيلسوف المشهور يدخل تحت الدراسة الصوتية وهو رسالته "أسباب حدوث الحروف" التي طبعت بالقاهرة عام 1332 هـ بتحقيق محب الدين الخطيب، وفي طهران عام

_ 1 مقدمة المحققين ص 14. 2 مقدمة المؤلف ص 3. وانظر التفكير الصوتي عند العرب ص 4. 3 ص 10.

1333هـ1، وف بيروت عام 1962 بتحقيق فؤاد حنا ترزي، وفي دمشق عام 1983. والرسالة -بالإضافة إلى مقدمتها- مقسمة إلى الفصول الستة الآتية: 1- الفصل الأول سبب حدوث الصوت. 2- الفصل الثاني جعل عنوانه "سبب حدوث الحروف" وفيه يتحدث عن مخارج الأصوات ومحابسها. 3- وخصص ابن سينا الفصل الثالث لتشريح الحنجرة واللسان. 4- وفي الفصل الرابع يعالج ابن سينا الحروف العربية ويبين كيفية صدور كل حرف منها ويصف العملية العضوية مع كل حرف وصفا مفصلا. 5- أما الفصل الخامس فقد خصصه ابن سينا لأصوات سمعها في لغات أخرى غير العربية مثل السين الزائية والزاي السينية والزاي الظائية والفاء الشبيهة بالباء. 6- وأنهى ابن سينا رسالته بفصل فريد بين فيه كيفية إنتاج هذه الأصوات بحركات غير نطقية، كالشين التي تسمع "عن نشيش الرطوبات" والطاء التي "تحدث عن تصفيق اليدين بحيث لا تنطبق الراحتان"2.

_ 1 مقدمة التحقيق لطبعة دمشق. وقد ترجمت إلى الإنجليزية والروسية والألمانية كما أعيد طبعها في طهران عام 1349. 2 أصوات اللغة عند ابن سينا للدكتور إبراهيم أنيس في أماكن متعددة، إلى جانب الرسالة نفسها. وقد ولد ابن سينا عام 370 أو 373 أو 375 هـ في قرية أفشنة قرب بخارى، وتوفي عام 428 هـ في همذان، بعد أن ترك ما يزيد على مائتين وخمسين مؤلفًا من بينها أربعة مؤلفات في اللغة والنحو.

آراء ابن سينا الصوتية: "أ" طبيعة الصوت: تناول ابن سينا طبيعة الصوت في رسالته "أسباب حدوث الحروف"، وفي كتابه "الشفاء" في فصل السمع. وقد انتهى إلى أن العملية الصوتية تتضمن عناصر ثلاثة هي: 1- وجود جسم في حالة تذبذب. 2- وجود وسط تنتقل فيه الذبذبة الصادرة عن الجسم المتذبذب. 3- وجود جسم يستقبل هذه الذبذبات. وهو نفس ما انتهى إليه المحدثون من علماء الأصوات. وقد عبّر ابن سينا عن العنصر الأول باشتراط وجود قرع أو قلع "أما القرع فمثل ما تقرع صخرة أو خشبة فيحدث صوت. وأما القلع فمثل ما قلع أحد شقي مشقوق عن الآخر، كخشبة تنحى عليها بأن تبين أحد شقيها عن الآخر طولًا". واشترط لإحداث القرع أو القلع صوتًا أن يكون كل منهما بقوة معينة "فإن قرعت جسمًا كالصووف بقرع لين جدًّا لم تحسن صوتًا. بل يجب أن يكون للجسم الذي تقرعه مقاومة ما، وأن يكون للحركة التي للمقروع به إلى المقروع عنف صادم ... وكذلك إذا شققت شيئًا يسيرًا وكان الشيء لا صلابة له لم يكن للقلع صوت ألبتة"1. وعبر عن العنصر الثاني، وهو وجود وسط ناقل للذبذبات بقوله: "أظن أن الصوت سببه القريب تموج الهواء ودفعه بسرعة وبقوة من أي سبب كان". وقوله: "وهذا الشيء الذي فيه هذه الحركات شيء

_ 1 الشفاء ص 82. وأسباب حدوث الحروف. الفصل الأول.

رطب سيال لا محالة، إما ماء، وإما هواء، فيكون مع كل قرع وقلع حركة للهواء أو ما يجري مجراه، إما قليلًا برفق، وإما دفعة على سبيل تموج أو انجذاب بقوة. فقد وجب أن ها هنا شيئًا لا بد أن يكون موجودًا عند حدوث الصوت، وهو حركة قوية من الهواء، أو ما يجري مجراه"1. أما الجسم المستقبل للذبذبات فقد تحدث عنه في كتابيه الشفاء وأسباب حدوث الحروف، وذلك في قوله الأول: " فإذا انتهى التموج من الهواء أو الماء إلى الصماخ، وهناك تجويف فيه هواء راكد يتموج بتموج ما ينتهي إليه، ووراءه، كالجدار مفروش عليه العصب الحاس للصوت أحس بالصوت"2. وفي الثاني: "ثم ذلك الموج يتأدى إلى الهواء الراكد في الصماخ فيموجه فيحس به العصبة المفروشة في سطحه"3. ومن اللافت للنظر كذلك أن يتنبه ابن سينا إلى قابلية الأذن لإدراك الأصوات بمعدلات معينة للتردد والتوتر لها حد أدنى وحد أعلى، وأن ينتبه إلى أن زيادة شدة الصوت عن مقدار معين تسبب الأذى والإزعاج للسامع، وذلك في قوله: "القرع الشديد يحدث صوتًا يضر السمع" وقوله: "والتموج الفاعل للصوت قد يحس حتى يؤلم". بل يصرح ابن سينا بقدرة الأصوات الشديدة على تحطيم الأشياء "فإن صوت الرعد قد يعرض منه أن يدك الجبال، وربما ضرب حيوانًا فأفسده. وكثيرًا ما يستظهر على هدم الحصون العالية بأصوات البوقات"4.

_ 1 الشفاء ص 83، وأسباب حدوث الحروف - الفصل الأول. 2 ص 84. 3 الفصل الأول. 4 الشفاء ص 83، 84.

"ب" مخرج الصوت الإنساني وصفاته: يستخدم ابن سينا للتعبير عن إنتاج الصوت لفظ الحبس ومشتقاته. أما كلمة المخرج؛ فيبدو أنه يستخدمها للإشارة إلى مجرى الهواء أو طريقه الذي يكون إما نحو الأنف أو الفم. وقد تردد في كلامه ألفاظ المخرج والمخارج والحبس والحابس والمحبوس والمحابس.. ويرى ابن سينا أن الذي يميز الحرف "الصوت" عن الحرف "الصوت" جملة عوامل منها: 1- اختلاف نقطة التحكم في مجرى الهواء "بسبب اختلاف الأجرام التي يقع عندها وبها الحبس والإطلاق، فإنها ربما كانت ألين، وربما كانت أصلب، وربما كانت أيبس، وربما كانت أرطب.. وقد يكون الحابس أصغر وأعظم، والمحبوس أكثر وأقل، والمخرج أضيق وأوسع، ومستدير الشكل، ومستعرض الشكل مع دقة، والحبس أشد وألين، والضغط بعد الإطلاق أحفز وأسلس.."1. 2- اختلاف حال التموج "بعد أن ذكر أن نفس التموج إنما يفعل الصوت": "وأما حال التموج في نفسه من اتصال أجزائه وتماسها، أو تشظيها بها فيفعل الحدة والثقل. أما الحدة فيفعلها الأولان، وأما الثقل فيفعله الثانيان"2. ويفسر الدكتور إبراهيم أنيس الحدة والثقل بأحد تفسيرين: أولهما وأرجحهما: أن ابن سينا هنا يشير إلى درجة الصوت pitch لأن طول الموجة مع الصوت الحاد أقل منه مع الصوت الثقيل. فأجزاء الموجه في الصوت الحاد متقاربة متمساكة، على حين أن أجزاءها مع الصوت الثقيل متباعدة.

_ 1 أسباب حدوث الحروف - الفصل الثاني. 2 السابق - الرواية الأولى من طبعة إيران.

الأمر الثاني أن ابن سينا في هذا النص أراد فعلًا أن يصف لنا حدة الصوت وثقله high and low pitch، وجعل حدة الصوت أو ثقله متوقفًا على طبيعة الجسم المقروع. فهو في حالة اتصال أجزائه وتماسكها، أي: حين تكون ذات كثافة كبيرة كالأجسام الصلبة من معادن ونحوها يكون الصوت عادة حادًّا على حين أن الصوت مع الجسم الأقل كثافة كالخشب مثلًا يكون ثقيلًا1. 3- اختلاف طريقة التحكم في الهواء عند نقطة الإنتاج "المحبس". وقد ذكر ابن سينا في هذا الخصوص طريقتين هما: أ- الحبس التام للصوت. ب- الحبس غير التام للصوت. وقد عبر عن هذين بقوله: "والحروف بعضها -في الحقيقة- مفردة، وحدوثها عن حبسات تامة للصوت أو للهواء الفاعل للصوت يتبعها إطلاق دفعة. وبعضها مركبة وحدوثها عن حبسات غير تامة لكن مع إطلاقات2. وهنا نلاحظ أن ابن سينا يستعمل المصطلحين: مفردة ومركبة في مقابل مصطلحي سيبويه: شديدة ورخوة، والمصطلحين الحديثين: انفجارية "وقفية" واحتكاكية. وقد فرق ابن سينا بين الحروف المفردة والحروف المركبة قائلًا: "وهذه المفردة تشترك في أن وجودها وحدوثها في الآن الفاصل بين زمان الحبس وزمان الإطلاق. وذلك لأن زمان الحبس التام لا يمكن أن يحدث فيه صوت حادث عن الهواء وهو مسكن بالحبس، وزمان الإطلاق ليس يسمع فيه شيء من هذه الحروف؛ لأنها لا تمتد ألبتة، إنما هي مع إزالة

_ 1 أصوات اللغة عند ابن سينا ص 178، 179. 2 أسباب حدوث الحروف - الفصل الثاني.

الحبس فقط: وأما الحروف الأخرى فإنها تشترك في أنها تمتد ... في الزمان الذي يجتمع فيه الحبس مع الإطلاق 1. وقد قسم ابن سينا الحروف المفردة "الوقفية" إلى نوعين: أ- مفردة "على الإطلاق". ب- مفردة من وجه. أما المفردة على الإطلاق فهي: الباء والتاء والجيم والدال والطاء والقاف والكاف والهمزة. وأما المفردة من وجه فهي: الضاد واللام والميم والنون. وقد أصاب ابن سينا في هذه التفرقة بين النوعين، واعتباره الحبس في الأصوات الأربعة الأخيرة حبسًا جزئيًّا في مكان يصحبه تسريح في مكان آخر. فالضاد -كما يذكر القدماء- "إن شئت تكلفتها من الجانب الأيمن، وإن شئت من الجانب الأيسر"، وكلام سيبويه يدل على أنها تكون من الجانبين. واللام -على حد تعبير سيبويه- صوت منحرف جرى فيه الصوت لانحراف اللسان مع الصوت، ولم يعترض على الصوت كاعتراض الحروف الشديدة. والميم والنون صوتان شديدان عند سيبويه يجري معهما الصوت. لأن ذلك الصوت غنة من الأنف، فإنما تخرجه من أنفك. وقد اعتبر بعض المتأخرين "ابن جني والزمخشري وابن الجزري وغيرهم" النون والميم واللام مع حروف أخرى" ضمن الحروف المتوسطة أو بين الشديدة والرخوة. وأما الحروف المركبة "الاحتكاكية" فلم يذكرها ابن سينا بالاسم

_ 1 السابق.

مكتفيًا بذكر مقابلاتها المفردة "الوقفية" ولك أن تعدها عدًّا". وبعملية إسقاط للحروف المفردة يتبين أن المركبة عنده هي: الثاء - الحاء - الخاء - الذال - الراء - الزاي - السين - الشين - الصاد - الضاد - العين - الغين - الفاء - الهاء. ويبقى تعليق على صوت الراء. فإذا كان التقسيم الثنائي إلى شديد ورخو لم يستطع أن يشملها، فاختصها اللغويون باسم "المكرر" "وإن اعتبروها نوعًا من الشديد" فإن مصطلح "المركب" عند ابن سينا يمكن أن يشملها بسهولة؛ لأن شرط التركيب في الصوت أن "يمتد في الزمان الذي يجتمع فيه الحبس مع الإطلاق"، وهو ما ينطبق على الصوت المكرر: الراء، كما ينطبق على الأصوات الاحتكاكية. جـ- أصوات العربية: خص ابن سينا أصوات اللغة العربية بفصل في رسالته، هو الفصل الرابع الذي عنونه "في الأسباب الجزئية لحرف حرف من حروف العرب". وقد عالج ابن سينا في هذا الفصل الأصوات صوتًا صوتًا على الترتيب التالي: الهمزة - الهاء - العين - الحاء - الخاء - الغين - القاف - الكاف - الجيم - الشين - الضاد - السين - الصاد - الزاي - الطاء - التاء - الدال - الثاء - الذال - الظاء - اللام - الراء - الفاء - الباء - الميم - النون - الواو الصامتة - الياء الصامتة - المصوتات: الألف الصغرى والكبرى - الواو الصغرى والكبرى - الياء الصغرى والكبرى. وأول ما يلفت النظر في ترتيب ابن سينا ما يأتي: 1- تفريقه بين السواكن والعلل، وتسميته الأولى صوامت والثانية مصوتات.

2- تفريقه بين نوعين من الواو والياء. فنوع أدرجه في الصوامت، ونوع أدرجة في المصوتات. 3- تفريقه بين الحركة القصيرة والحركة الطويلة "الصغرى والكبرى". 4- اتباعه الطريقة العربية التي ترتب الأصوات من الداخل إلى الخارج. ويتميز ترتيب ابن سينا بما يأتي: 1- عدم وضعه الألف بجوار الهمزة بخلاف ما فعل سيبويه وابن جني. وإن وضع الألف مع أصوات الحلق من أخطاء اللغويين القدماء، وإن حاول بعضهم الدفاع عنه. 2- تقديم القاف على الكاف مخالفًا في ذلك سيبويه. 3- إبعاد الواو والياء إلى ما بعد الانتهاء من الصوامت. 4- تأخير أحرف العلة الثلاثة "قصيرها وطويلها" إلى ذيل القائمة. فكأن ابن سينا قد راعى البدء بالصوامت ثم أشباه المصوتات ثم المصوتات. 5- وضع الميم والنون متتاليتين رغم اختلاف مخرجهما لاشتراكهما في صفة الأنفية. 6- أما وضع الراء واللام عند ابن سينا ففيه نظر. ولعله تبع فيه ترتيب الخليل بن أحمد في معجمه العين. أما حديثه عن مخارج الأصوات وصفاتها وكيفيات نطقها فنجد فيه تفصيلًا دقيقًا لا نجده في كتب اللغويين. وقد أعانه على ذكر الحركات العضوية، وعلى تحديد العضلات والمفاصل المشتركة في انتاج الصوت.

خبرته العملية الواسعة بتركيب جسم الإنسان وبتشريح أعضائه. ومن أمثلة ذلك قوله: 1- أما الهمزة فإنها تحدث عن حفز قوي من الحجاب وعضل الصدر لهواء كثير، ومن مقاومة الطرجهالي الحاصر زمانًا قليلًا لحفز الهواء ثم اندفاعه إلى الانقلاع بالعضلة الفاتحة وضغط الهواء معًا له. 2- وأما الحاء وإن شاركت العين؛ فإنها تخالف العين في هيئة المخرج وفي المحبس وفي القوة وفي جهة مخلص الهواء. فإن الفرجة بين الغضروفين السافلين تكون أضيق، والهواء يندفع أميل إلى قدام، ويصدم حافة التقعير الذي كان يصدمه هواء العين عند الخروج. وتلك الحافة صلبة والدفع فيها أشد فيقسر الرطوبة ويميلها إلى قدام ... 3- وأما الثاء فتخرج باعتماد من الهواء عند موضع التاء بلا حبس وتحبس عند طرف الأسنان ليصير الخلل أضيق؛ فيكون صفير قليل مع القلع. وكأن الثناء سين تلوفيت بحبس فرج مسلك هوائها الصفار. 4- وحدوث اللام بحبس من طرف اللسان رطب غير قوي جدًّا، ثم قلع إلى قدام قليلًا، والاعتماد على الجزء المتأخر من اللسان المماس لما فوقه أكثر من الاعتماد على طرف اللسان. وليس الحفز للهواء بقوي. ولو كان الحفز والشد قويًّا خرج حرف كالطاء. 5- وإن كان طرف اللسان متعرضًا للموضع الذي يمسه في اللام من غير مس صادق، ولا التصاق رطوبة، ثم عرض حافتاه بالعضلتين المطولتين تعريضًا أقوى من تعريض الطرف نفسه، وحمل عليه الهواء حتى نفضه وأرعده كما يفعل الريح بكل لين متعرض له متعلق.

_ 1 هو الغضروف الثالث من غضاريف الحنجرة في تشريح ابن سينا.

من طرف منه بشيء ثابت حدث منه حرف الراء، وسمع التكرير الذي فيه للارتعاد قدمًا. 6- وأما الميم فإن الحبس فيها تام وبأجرام من الشفة أيبس وأخرج. وليس تسريب الهواء مع القلع إلى خارج الفم كله، بل يصرف بعضه بحفز قوي إلى التجويف الذي في آخر المنخر ليدور فيه ويفعل دويًّا، ثم يطلقان معًا. وقد فطن ابن سينا إلى وجود أثر سمعي يصاحب نطق بعض الأصوات كالزاي والذال والغين ... "وهو ما سماه اللغويون بالجهر" وحاول تفسيره من الناحية العضوية. وعلى الرغم من أن تفسيره تعوزه الدقة العلمية فهو أقرب إلى القبول من تفسير اللغويين. يقول سيبويه معرفًا الصوت المجهور بأنه "حرف أشبع الاعتماد في موضعه ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد ويجري الصوت" ونفس التعريف بألفاظه نجده عند ابن جني وغيره. أما ابن سينا فيقول عن صوت الزاي مفرقًا بينه وبين السين والصاد: "وأما الزاي فإنها تحدث أيضًا قريبًا من الموضع الذي يحدث فيه السين والصاد. ولكن يكون طرف اللسان فيها أخفض، وما بعده أرفع وأقرب من سطح الحنك كالمماس بالعرض أجزاء دون أجزاء. ولكنها أقل أخذًا في الطول مما يأخذه المقرب من سطح الشجر والحنك في السين. والغرض من ذلك أن يحدث هناك اهتزاز على سطح اللسان وسطح الحنك ليجتمع ذلك الاهتزاز مع الصفير. وأما في سائر الأشياء فهو كالسين. ويكاد للاهتزاز الذي يقع في الزاي أن يكون تكريرًا كالتكرير الواقع في الراء". ويقول عن صوت الغين: "ويكون الاهتزاز في تلك الرطوبة أكثر منها فيما سلف"مع الخاء". ويقول عن الذال: إنها "تفارق الثاء في الاهتزاز".

ومعنى هذا أن ابن سينا قد فطن إلى وجود اهتزاز يصاحب نطق الزاي والذالوالغين.. وأن هذا الاهتزاز في تكراره يشبه التكرار الواقع في الراء. وهذه نقطة تحسب في صالحه. ولكن الشيء الذي يؤخذ عليه هو عدم اهتدائه إلى العضو المهتز. إذ جعله ابن سينا سطح اللسان، أو سطح الحنك أو الرطوبة، مع أنه في الواقع الوتران الصوتيان في منطقة الحنجرة. ويبدو أن وجود الوترين الصوتيين في موضعهما المذكور لم يهتد إليه القدماء، ولذا لم يرد لهما ذكر في الكتب الطبية والتشريحية العربية. نعم قد ورد في كتابات ابن سينا وغيره مصطلح "الجسم الشبيه بلسان المزمار" أو "الشيء الذي يُسمى لسان المزمار" أو "الجسم المعروف بلسان المزمار" كما ورد في كتابات ابن سينا أن آلة الصوت "الحنجرة والجسم الشبيه بلسان المزمار، وهي الآلة الأولى الحقيقية، وسائر الآلات بواعث ومعينات"1. وذكر ابن القف أن لسان المزمار "هو الآلة الأولى في الصوت، ويسمى بهذا الاسم لأنه يشبه لسان المزمار في شكله وفعله ووضعه.. فإنه موضوع في الحنجرة في الموضع الذي يوضع فيه لسان المزمار في المزمار.. وقد جعل له الفعل الذي للسان المزمار في المزمار وهو التلحين"2 ولكن ليس من السهل التسليم بأنهما يريدان بلسان المزمار الفرجة التي بين الأوتار الصوتية كما يرجح الدكتور أنيس3. وأغلب الظن أنهما يريدان به ما يقابل المصطلح الأجنبي Epiglottis وهو مصطلح يطلق على الغضروف المفرد أعلى غضاريف الحنجرة الذي يقع في مقدمة الحنجرة وخلف جذر اللسان مباشرة مشكلًا جدارًا أماميًّا منحرفًا لمدخل الحنجرة.. ويقوم لسان المزمار بالفصل بين الهواء والغذاء أثناء البلع وذلك باندفاعه إلى أسفل تبعًا لحركة جذر اللسان والعظم

_ 1- انظر القانون ص 394، والعمدة في الجراحة ص 102. 2- العمدة ص 102. 3- الأصوات اللغوية ص 144.

اللامي ليغلق مدخل الحنجرة1. ومما يدل على أن هذا هو المراد بلسان المزمار، وليس الفرجة التي بين الأوتار الصوتية ما ورد في كتاب "العمد" من أن جالينوس سماه "طبق الحنجرة", وما ورد فيه من أنه "حال ازدراد الطعام وشرب الشراب بنطبق الجميع ويحيط بالحنجرة من داخل غشاء ملبس عليها جميعها"2. وعلى هذا يكون تفسير الجهر عند ابن سينا تفسيرًا مقاربًا إذ ربطه بالاهتزاز، ولكن يظل غير دقيق لعدم اهتدائه للعضو الأساسي في ظاهرة الجهر وهو الوتران الصوتيان. كذلك تحدث ابن سينا عما سماه سيبويه بالإطباق، وما يمكن تسميته كذلك بالتفخيم، وهو الوصف الذي تتميز به الأصوات: ص - ض - ط - ظ. وقد أشار سيبويه إلى الإطباق بقوله3: "أما المطبقة فالصاد والضاد والطاء والظاء.. وهذه الحروف الأربعة إذا وضعت لسانك في مواضعهن انطبق لسان من مواضعهن إلى ما حاذى الحنك الأعلى من اللسان ترفعه إلى الحنك. فإذا وضعت لسانك فالصوت محصور فيما بين اللسان والحنك إلى موضع الحروف" وأشار إليه ابن جني بقوله: "والإطباق أن ترفع ظهر لسانك إلى الحنك الأعلى مطبقًا له"4. ولكننا نجد ابن سينا يتميز عليهما بوصفه التفصيلي المعتمد على تحديد ما يلحق الأعضاء المشاركة في النطق من تعديلات. فحين يتحدث عن الصاد يقول: "ويحدث في اللسان كالتقعير حتى يكون لانقلاب الهواء كالدوي". وحين يتحدث عن الطاء يقول بعد أن حدد مخرجها

_ 1 دراسة السمع والكلام ص 109. 2 العمدة ص 102، 103. 3 الكتاب "4/ 436. 4 سر الصناعة 1/ 70.

وربطه بمخرج التاء والدال: "لكن الطاء يحبس في ذلك الموضع بجزء من طرف اللسان أعظم.. وتقعر وسط اللسان خلف ذلك المحبس ليحدث هناك للهواء دوي عند الإخراج، ثم يقلع ويكون الحبس بشد قوي" وحين يفرق بين التاء والطاء يقول: "وأما التاء فيكون مثله في كل شيء إلا أن الحبس بطرف اللسان فقط". فهنا نجد لأول مرة حديثًا عن تقعر اللسان مع الأصوات المفخمة، وعن اشتراك جزءين من اللسان في عملية نطقها، وهو ما لم نجده بهذا الوضوح عند اللغويين القدماء1. بعض النتائج الصوتية التي توصل إليها العرب: كان للقدماء من علماء العربية بحوث في الأصوات اللغوية شهد المحدثون أنها جليلة القدر بالنسبة إلى عصورهم، بل حتى بالنسبة للعصر الحديث، برغم ما فيه من إمكانات هائلة لم تتح للقدماء، من آلات وأجهزة للتصوير والتسجيل وتحليل الأصوات وغيرها. ويكفي العرب فخرًا في مجال الأصوات أن يشهد لهم عالمان غربيان كبيران هما برجشتراسر الألماني، وفيرث الإنجليزي. يقول الأول: "لم يسبق الأوربيين في هذا العلم إلا قومان من أقوام الشرق وهما أهل الهند ... والعرب" 2 ويقول الثاني: "إن علم الأصوات قد نما وشب في خدمة لغتين مقدستين هما السنسكريتية والعربية". أما أهم النتائج الصوتية التي توصل إليها العرب فهي باختصار: 1- وضع العرب أبجدية صوتية للغة العربية رتبت أصواتها بحسب المخارج ابتداء من أقصاها في الحلق حتى الشفتين. وقد وضع

_ 1 تجد تطابقًا بين ما قاله ابن سينا وما يقوله المحدثون. فالدكتور إبراهيم أنيس مثلًا يقول عن الظاء: "في حالة النطق بالظاء يرتفع طرف اللسان وأقصاه نحو الحنك وينقعر وسطه" "الأصوات اللغوية ص 47، 48". 2 التطور النحوي ص 5.

الخليل بن أحمد أول أبجدية من هذا النوع عرفتها اللغة العربية تشتمل على تسعة وعشرين رمزًا، وسار فيها على النحو التالي. ع ح هـ خ غ - ق ك - ج ش ض - ص س ز - ط د ت - ظ ث ذ - ر ل ن - ف ب م - وا ي همزة 1. ولكن سيبويه في كتابه قد خالف أستاذه مخالفات جوهرية، إذ رتبها على النحو التالي: همزة اهـ ع ح غ خ ك ق ض ج ش ي ل ر ن ط د ت ص ز س ظ ذ ث ف ب م و. أما ترتيب ابن جني فقد جاء موافقًا -في معظمه- لترتيب سيبويه، فيما عدا وضعهالقاف قبل الكاف، وتأخيره الضاد إلى ما بعد الياء2. 2- تحدث العرب عن أعضاء النطق وسموا كلًّا منها مثل الرئة والحنجرة والحلق واللسان والشفتين، وقسموا الحلق إلى أقصى ووسط وأدنى، واللسان إلى أصل وأقصى ووسط وظهر وحافة وطرف3. وتحدثوا عن مخارج الأصوات بطريقة تفصيلية، وصنفوا الأصوات بحسب المكان الذي يتم فيه التحكم في الهواء الخارج من الرئتين. وقد حصر الخليل المخارج في ثمانية4، وبعضهم حدد مخارج الأصوات بطريقة أدق فوصل بالرقم إلى ستة عشر أو سبعة عشر مثل سيبويه وابن دريد وابن جني وعلماء التجويد5. وقد شبه ابن جني مجرى الهواء في الحلق والفم بالناي قائلًا: "إذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة، وراوح بين أنامله اختلفت الأصوات وسمع لكل خرق منها صوت لا يشبه صاحبه. فكذلك.

_ 1 العين للخليل 1/ 53. 2 سر صناعة الإعراب 1/ 50 - 51. 3 دروس في علم الأصوات العربية لكانتينو ص 18، 19. 4 العين للخليل 1/ 65. 5 سر صناعة الإعراب 1/ 52، 53، وجمهرة ابن دريد 1/ 8.

إذا قطع الصوت في الحلق والفم باعتماد على جهات مختلفة كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة"1. 3- توصل العرب إلى أن طريقة التحكم في مجرى الهواء هامة في إنتاج الصوت. وقد قسموا الأصوات على أساسها إلى شديدة ورخوة ومتوسطة. وفسروا الشديد بأنه الحرف الذي يمنع الصوت من أن يجري فيه، والرخو بأنه الذي يجري فيه الصوت. ووضعوا قائمة بأصوات كل نوع بطريقة يوافقهم عليها في جملتها التحليل الصوتي الحديث2. 4- فصل العرب الأصوات المطبقة عن غيرها، وهي الأصوات المفخمة التي يتشرك مؤخر اللسان في النطق بها، وذكروا أنها هي الصاد والضاد والطاء والظاء3. 5- اهتدى العرب إلى وجود رنين معين يصحب نطق الأصوات المجهورة، ولذا قسموا الأصوات من حيث وجود هذا الرنين أو عدم وجوده إلى مجهورة ومهموسة، ووضعوا لنا قائمة بكل نوع4. وقد ذكر أبو الحسن الأخفش أنه سأله سيبويه عن الفرق بين المهموس والمجهور فقال له: "المهموس إذا أخفيته ثم كررته أمكنك ذلك، وأما المجهور فلا يمكنك فيه. ثم كرر سيبويه التاء بلسانه وأخفى فقال: ألا ترى كيف يمكن؟ وكرر الطاء والدال وهما من مخرج التاء فلم يمكن. قال: وإنما فرق بين المجهور والمهموس أنك لا تصل إلى تبين المجهور إلا أن تدخله الصوت الذي يخرج من الصدر. فالمجهورة كلها هكذا يخرج صوتهن من الصدر ويجري في الحلق.. أما المهموسة فتخرج أصواتها من مخارجها.. والدليل على ذلك أنك إذا أخفيت همست بهذه الحروف ولا تصل إلى ذلك في المجهور ... "5.

_ 1 سر صناعة الإعراب 1/ 9. 2 المرجع 1/ 69، 70 وجمهرة ابن دريد 1/ 8، وكانتينو ص 35، 36. 3 جمهرة ابن دريد 1/ 8. 4 سر صناعة الإعراب 1/ 68، 69. 5 الأصوات اللغوية للدكتور أنيس، ص 89 نقلًا عن مخطوطة دار الكتب لشرح السيرافي لكتاب سيبويه.

ويعلق الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس على عبارة سيبويه بقوله: إنها تتضمن آراء قيمة في الدراسة الصوتية تتفق مع أحدث النظريات الحديثة إلى حد كبير. فسيبويه يرشدنا هنا إلى وسيلة أخرى لتمييز المهموس من المجهور وذلك عن طريق إخفاء الصوت، وأنه يمكن هذا الإخفاء في المهموسات دون أن تفقد معالمها. أما الإخفاء في المجهورات فيترتب عليه أن الحروف تضيع صفتها المميزة فلا نسمع الدال دالًا حينئذ وإنما نسمع صوتًا آخر هو التاء ... وكذلك يحدثنا سيبويه عما يسميه بصوت الصدر ويراه صفة مميزة للمجهور. ولعل هذا الصوت هو صدى الذبذبات التي تحدث في الوترين الصوتيين بالحنجرة1. 6- قسم العرب الأصوات إلى صحيحة ومعتلة على أساس اتساع المخرج من العلة دون الصحيحة. واهتدوا أيضًا إلى السمات الخاصة التي تميز بعض الأصوات، مثل اللام التي وصفوها بأنها حرف منحرف، والراء التي وصفوها بأنها حرف مكرر2. كذلك ميزوا في أصوات العلة بين الفتحة والألف من ناحية، والكسرة والياء والضمة والواو من ناحية أخرى يقول ابن جني: "والحروف التي اتسعت مخارجها ثلاثة: الألف ثم الياء ثم الواو. وأوسعها وألينها الألف، إلا أن الصوت الذي يجري في الألف مخالف للصوت الذي يجري في الياء والواو. والصوت الذي يجري في الياء مخالف للصوت الذي يجري في الألف والواو. والصوت الذي يجري في الياء مخالف للصوت الذي يجري في الألف والواو. والصوت الذي يجري في الياء مخالف للصوت الذي يجري في الألف والواو. والعلة في ذلك أنك تجد الفم والحلق في ثلاثة الأحوال مختلف الأشكال أما الألف فتجد الحلق والفم معها منفتحين.. وأما الياء فتجد الأضراس معها سفلًا وعلوًا قد اكتنفت جنبتي اللسان وضغطته ... وأما الواو فتضم لها معظم الشفتين وتدع بينهما بعض الانفراج ليخرج فيه النفس"3: 7- تحدث العرب عن أطوال أصوات العلة وقسموها إلى قصيرة

_ 1 الأصوات اللغوية ص 90. 2 سر صناعة الإعراب 1/ 8، 70، 71، 72. 3 سر صناعة الإعراب 1/ 8، 9.

وطويلة وأطول. يقول ابن جني: "اعلم أن الحركات أبعاض حروف المد واللين، وهي الألف والواو والياء. فكما أن هذه الحروف ثلاثة، فكذلك الحركات ثلاث، وهي الكسرة والفتحة والضمة. فالفتحة بعض الألف والكسرة بعض الياء، والضمة بعض الواو، وقد كان متقدمو النحويين يسمون الفتحة الألف الصغيرة، والكسرة الياء الصغيرة، والضمة الواو الصغيرة، وقد كانوا في ذلك على طريق مستقيمة. ألا ترى أن الألف والياء والواو اللواتي هن توام كوامل قد تجدهن في بعض الأحيان أطول وأتم منهن في بعض، وذلك قولك: يخاف وينام ويسير ويطير ويقوم ويسوم. فتجد فيهن امتدادًا واستطالة ما، فإذا أوقعت بعدهن الهمزة أو الحرف المدغم ازددن طولًا وامتدادًا وذلك نحو يشاء.. وتقول مع الإدغام شابة ودابة"1. ولكن تبقى فكرة ابن جني في البعضية غامضة حيث "لم يقل لنا ما إذا كان الفرق بين حرف المد والحركة معتبرًا بالثلث أو النصف أو بأي كسر آخر"2. 8- ومن الدراسات الصوتية التي قدمها العرب حديثهم عن ائتلاف الحروف وكيفية بناء الكلمة العربية. وقد لاحظ الخليل أن اللغات تختلف في ذلك، وما قد يتلاءم مع أمة ربما لا يتلاءم مع أمة أخرى. ولاحظ أيضًا أن الأذن العربية قد تستسيغ أصواتًا معينة لا يستسيغها غيرها، وأن اللسان العربي قد ينطق بتركيب خاص لا ينطق به لسان غيره، وأن العرب كانوا يأبون تأليفًا خاصًّا من الكلمات لا يأباه غيرهم، مثل إبائهم اجتماع واوين أول الكلمة، والابتداء بالساكن، واجتماع حرفين ساكنين. كذلك تحدث الخليل وسيبويه عما يسمى بالانسجام الصوتي مثل

_ 1 المرجع ص 19، 20. 2 التفكير الصوتي عند العرب ص 16.

إبدال السين صادًا في كلمة مثل السويق، وإبدال الصاد زايًا في بعض اللغات إذا كانت الصاد ساكنة وبعدها صوت مجهور مثل "يصدق" التي ينطقها بعضهم "يزدق". وعللا هذه الظاهرة بقولهما: "ليكون عمل اللسان من وجه واحد". ويعنيان بذلك الاقتصاد في الجهد العضلي. وتلك نظرية يقرهما عليها علم اللغة الحديث، وممن نادى بها Andre Martinet إذ صرح بأن التغييرات الصوتية الهامة في اللغة ترجع أساسًا إلى الميل إلى استعمال الوسائل الفونيمية في اللغة اقتصاديًّا، وبطريقة سهلة بقدر الإمكان. تعقيب: ولنا على آراء العرب الصوتية الملاحظات الآتية: 1- أننا إذا تصفحنا الكتب العربية التي عرضت للأصوات وصفاتها وأسمائها، وجدنا أصحابها مقلدين لا مجددين وتابعين لا متبوعين، فهم لم يزيدوا على ما وضعه الخليل وسيبويه إلا قليلًا. بل إنك لتجد العبارة هي العبارة وحتى الغموض هو الغموض. وتتبع تعريف "المجهور" بعد سيبويه تجده هو تعريف سيبويه برغم ما فيه من إبهام وتعقيد ... فسيبويه يعرفه بأنه "حرف أشبع الاعتماد في موضعه ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت" والتعريف بحروفه في "سر صناعة الإعراب" لابن جني وكذا في "شرح مفصل" الزمخشري1. 2- عدم توحيد المصطلحات بينهم وغموض بعضها. ومن ذلك "الحروف المصمتة"2 و "الشجرية" و "المتفشية" ومن ذلك استخدام سيبويه مصطلح الإطباق في مقابل مصطلح الخليل: الاستعلاء. واستخدام ابن جني "المقطع" وابن سينا "المحبس" بمعنى "المخرج".

_ 1 الأصوات اللغوية، ص 120. 2 الجمهرة 1/ 7، 13.

3- أهمل العلماء العرب دراسة النبر إهمالًا تامًّا، ولهذا فإننا لا نستطيع أن نتبين مواضع النبر في العصور الإسلامية الأولى. ولعل سرّ هذا الإهمال أن النبر ليس فونيمًا في اللغة العربية. 4- أهمل العلماء العرب دراسة المقاطع وأشكالها وأجزائها إهمالًا تامًّا. 5- افترض اللغويون العرب وجود حركة قبل أصوات العلة الطويلة من جنسها فزعموا وجود فتحة قبل الألف في "قال" وكسرة قبل الياء في "يرمي" وهذا خطأ، لأنه ليس هناك فتحة ولا كسرة؛ لأن الألف نفسها هي الحركة والياء نفسها هي الحركة، ولكن كلًّا منهما حركة طويلة. 6- عدم تمثيلهم أصوات العلة القصيرة في الكتابة أول الأمر، ثم تمثيلهم لها في فترة متأخرة برموز تثبت فوق الصوت الساكن أو تحته1 أي مع النظرة إليها باعتبارها أصواتًا ثانوية، على الرغم من أنها أكثر أهمية من الأصوات الساكنة، وأكثر وضوحًا في السمع منها، وهي التي تكون قمم المقاطع في اللغة العربية. 7- ذكر سيبويه ومن تبعه الهمزة والألف معًا، ونسبوهما إلى مخرج واحد هو الحنجرة. والألف باعتبارها حركة، أو صوت علة طويلًا لا تنسب إلى الحنجرة، فذكرها في هذا المقام فيه نظر. وقد اختلفت الآراء حوله: "أ" فمن قائل بأن سيبويه قد أخطأ، لأن الأبجدية التي ذكرها أبجدية للأصوات الساكنة، والألف من الحركات فلا مجال لذكرها.

_ 1 سهيلة جبوري: الخط العربي، ص 57، 60.

وعلى فرض التجاوز عن ذلك، فإن الألف كحركة لا تخرج من هذا المخرج، ومن ثم لا يصح وضعها مع الهمزة أو الهاء. فالألف لا تنسب إلى الحنجرة، وإنما إلى اللسان وطبيعة وضعه وضعًا معينًا يسمح بخروج الهواء في أثناء النطق حرًّا طليقًا لا يقف في طريقه عائق. "ب" ويرى الدكتور أيوب أن وجود ذبذبة في الأوتار الصوتية في أثناء النطق بالألف ربما كان السبب في وضعه الألف مع الهمزة والهاء. ولكن حركة الأوتار الصوتية مع الهمزة أصلية فنسبت إلى الحنجرة ومع الألف إضافية فلم يكن يصح أن ينسبها إليها. أو أن سيبويه قد وصف ذلك النوع من الألف المشوب بهمزة "ومن العرب من يقلب الألف همزة قلبًا كاملًا فيقول دأبة في دابة وهكذا" وهي خاصة في بعض اللهجات العربية1. 8- ذكر سيبويه صوت القاف بين المجهورات. فهل هذا خطأ منه؟ الحقيقة أن هذا الصوت قد لحقه تطور في النطق الحديث وأنه كان ينطق مجهورًا في القديم. والصوت الذي وصفه سيبويه قد يكون منطبقًا على نطق القاف جيمًا قاهرية، أو غينًا. وكلا النطقين ما يزال موجودًا حتى الآن في أماكن مختلفة من البلاد العربية2. وقد لحقت صوت القاف تطورات كثيرة في اللهجات الدارجة مما يدل على كثرة تعرضه للتطور والتغير. ومن ذلك نطقه همزة في القاهرة وكثير من المدن العربية3. وقد ثبت أن نطق القاف همزة ليس نطقًا حديثًا وإنما له أصول قديمة. وقد ذكر أنولتمان في بحث له بعنوان "بقايا".

_ 1 انظر بحث: الدراسات اللغوية عند العرب للدكتور أيوب - محاضرات عام 67 - 68 ص 27 - 28. 2 راجع: علم اللغة العام - الأصوات للدكتور بشر، ص 138 وما بعدها. 3 راجع: كانتينو، دروس في علم الأصوات ص 108 وما بعدها وص 109 بخاصة.

اللهجات العربية في الأدب العربي العربي"1 أن هذا التغير موجود في أسماء الأعلام الفينيقية. وقد ذكرت كتب اللغة. تصوأ بمعنى تصوق "أي توسخ" وأفز بمعنى قفز واستنشأ بمعنى استنشق. 9- عد القدماء صوت الهمزة من الأصوات المجهورة. وهذا لا يتفق بحال مع حقيقة وضع الأوتار الصوتية حال النطق بهذا الصوت، إذ الأوتار الصوتية حينئذ تغلق أولًا إغلاقًا تامًّا لفترة قصيرة ثم تنفرج فجأة وبسرعة فيخرج الهواء محدثًا انفجارًا. وربما نطق العلماء العرب الهمزة متلوة بحركة فظنوها مجهورة، مع أن الجهر سببه الحركة لا الهمزة. 10- هناك فرق بين وصف الضاد عند سيبويه وبين الضاد الحديثة. وليس هذا نتيجة خطأ من سيبويه في الوصف، وإنما نتيجة التطور الذي لحق هذا الصوت2.

_ 1 مجلة كلية الآداب، مايو سنة 1948. 2 انظر في تفصيل ذلك: مناهج البحث في اللغة ص 92 والأصوات اللغوية للدكتور أنيس ص49 - 50 والأصوات للدكتور بشر، ص 132 وما بعدها.

الفصل الثالث: النحو والصرف

الفصل الثالث: النحو والصرف عرض تاريخي: سبق أن تناولنا نشأة النحو العربي بشيء من الإيجاز والتركيز، وهدفنا الآن أن نتناول -في إيجاز كذلك- تاريخ الدرس النحوي منذ سيبويه1 ونتتبعه حتى وصولهإلى مرحلة الكمال والنضج، وتبلور أفكاره في اتجاهات ومذاهب معينة. يعد سيبويه2 إمام النحاة بلا منازع. وقد جمع في مؤلفه المعروف بـ"الكتاب" مباحث النحو والصرف، وجعل لكل مكانًا منه لا يشركه الآخر فيه أو يكاد. وبدأ بالنحو وثنى بالصرف، صنيع من يراهما علمين3. ومن يراجع موضوعات الجزء الأول من "الكتاب" يجدها خاصة بالنحو، فقد تناول فيه الكلمة، والنكرة والمعرفة، والأفعال اللازمة والمتعدية، وأسماء الأفعال، إلى جانب الفاعل والمبتدأ والخبر، وأيضًا المنصوبات كالمصادر المنصوبة، والحال والمفعول فيه، وإن وأخواتها والنداء، والاستثناء، وغيرها. أما الجزء الثاني فجميع أبوابه صرفية إذا استثنينا باب الممنوع من الصرف الذي افتتح به الجزء. ومن موضوعاته النسب، والتصغير، ونونا التوكيد، وجمع التكسير، وأوزان

_ 1 راجع في ترجمته مقدمة "الكتاب" بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، و"سيبويه إمام النحاة" للأستاذ على النجدي ناصف. 2 برغم شهرة سيبويه لم يذكر أحد تاريخ ولادته ولا وفاته بالتحديد. وإجمالًا يمكن أن يقال: إنه ولد في النصف الأول من القرن الثاني وتوفي عام 180 أو 188 ولم يتجاوز الأربعين. 3 علي النجدي، ص 170.

المصادر، وصيغ الأفعال، ومعاني الزوائد، واسم الآلة، وأسماء الأماكن، وفعل التعجب، والإمالة، والوقف، والإعلال، والإدغام. وقد كان من سوء حظ النحو العربي أن جاء سيبويه في وقت مبكر جدًّا لا يتجاوز النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، إذ نتج عن تفوقه وشدة إعجاب النحاة به أن أصيب التفكير النحوي بشلل، ودار الجميع في فلك سيبويه، واتخذوه أساسًا لدراستهم، ولذا لم يطوروا هذه الدراسة بالقدر الكافي، وتحولت كثير من الدراسات النحوية إلى مجرد شروح له أو اختصارات أو تعليقات عليه، أو جمع لشواهده وشرحها.. أو.. أو ... ويكفي دليلًا على ما كان لعمل سيبويه من سحر وإغراء إطلاقهم عليه اسم "قرآن النحو"1. وقول المازني في تمجيده: "من أراد أن يعمل كتابًا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي" وقول السيرافي: "وعمل كتابه الذي لم يسبقه إلى مثله أحد قبله، ولم يلحق به من بعده". وكان المبرد يقول لمن أراد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه: "هل ركبت البحر" تعظيمًا واستصعابًا له2 ولسنا نريد أن نحبر صفحات في سرد أسماء الكتب والأبحاث التي دارت حول كتاب سيبويه3 وإنما نخص بالذكر كتابًا فريدًا من بين هذه الكتب وهو كتاب ألفه المبرد، واختار له عنوانًا هو "الرد على سيبويه"4، وذلك لطرافته وغرابة موضوعه.

_ 1 مراتب النحويين، ص 65. 2 بغية الوعاة، ترجمة عمرو بن عثمان، ومقدمة عبد السلام هارون للكتاب، ص 21، 23. 3 تفصيل ذلك في مقدمة عبد السلام هارون للكتاب عناوين. فممن شرحه "ص 36"، وممن شرح مشكلاته ونكته وابنيته "ص 38" - وممن شرح شواهده "ص 39"، وممن اختصره أو اختصر شروحه "ص 41"، وممن ألف في الاعتراض عليه أو رد تلك الاعتراضات "ص 41". 4 ذكر ابن جني أن المبرد سماه "مسائل الغلط".

خصص المبرد كتابه هذا للهجوم على سيبويه والاعتراض عليه. وبرغم أن الكتاب لم يصلنا نصه، فقد وصلتنا اقتباسات كثيرة منه في كتب متأخرة تكفي لتكوين فكرة عنه. وقد كان مثار دهشة وعجب أن يأتي أقصى هجوم على سيبويه من المبرد رأس المدرسة البصرية في عهده، وأن يتعرض المبرد لسيبويه بالنقد والتخطئة، وأن يتعقب زلاته ويؤلف فيها كتابًا كاملًا، ومن أجل هذا حاول بعضهم أن يبرئ المبرد من تهمة التعرض لسيبويه وادعوا بطلان نسبة هذا الكتاب إليه. ومنهم من ادعى أن ما اعترض به المبرد على سيبويه حدث أيام الشباب وأنه عاد فرجع عنه. وأفضل مرجع حوى اقتباسات من عمل المبرد هو "الانتصار لسيبويه من المبرد" الذي ألفه ابن ولاد المصري المتوفي سنة 332 هـ. ومنه نعلم أن كتاب المبرد يحوي 134 مسألة، وأن الخلاف بين سيبويه والمبرد كان عميقًا ويعود إلى اختلاف المنهج والخط الفكري في كثير من الأحيان. ومن ذلك منع سيبويه أن يقال: "السقي لك"، و"الرعى لك" بدلًا من سقيًا لك ورعيًا لك لأن العرب لم تتكلم بهاتين العبارتين مع الألف واللام. وقد أجازهما المبرد لأنه لا فرق عنده -في القياس- بينهما بالألف واللام وبين "الحمد لله" و"العجب لزيد"1. ونعود إلى "الكتاب" فنقول: إنه برغم نسبته إلى سيبويه ففضل الخليل فيه لا يجحد، حتى قيل: إن الأوفق أن ينسب الكتاب إلى الخليل وحده أو إليهما معًا. يقول أبو الطيب اللغوي: "عقد سيبويه كتابه بلفظه ولفظ الخليل2" ويقول ثعلب: "اجتمع على صنعة الكتاب اثنان وأربعون إنسانًا منهم سيبويه، والأصول والمسائل للخليل"3.

_ 1 هناك عرض واف لكتاب ابن ولاد مع التعرض لمسائل الخلاف في مجلة كلية المعلمين الجامعة الليبية، العدد الأول، صفحات 177 - 190. 2 المدارس النحوية لشوقي ضيف، ص 34. 3 مقدمة الكتاب لهارون، ص 24.

وقد طبع كتاب سيبويه -حتى الآن- في فرنسا والهند ومصر وترجم إلى الألمانية ترجمة كاملة. وقام المحقق الكبير الأستاذ عبد السلام هارون بتحقيقه ونشره نشرة علمية دقيقة ظهرت في خمسة أجزاء. وفي نفس الفترة التي كان الخليل وسيبويه ينشران علمهما فيها بالبصرة وجد عالمان بالكوفة اشتغلا بالنحو، وإن لم يبلغا في الشهرة مبلغ الخليل وسيبويه. هذان العالمان هما أبو جعفر الرؤاسي، ومعاذ الهراء. أما أولهما فقد صنف كتابًا اسمه "الفيصل" يقال: إن الخليل قد اطلع عليه، واستفاد منه. وأما الآخر فقد غلب عليه الاشتغال بالأبنية حتى قيل: إنه واضع علم الصرف. ويصدر الدكتور شوقي ضيف على هذين الرجلين حكما قلبيًّا فيقول: "وكان علم معاذ بالصرف مثل علم الرؤاسي في النحو كان علمًا محدودًا لا غناء فيه ولا شيء يميزه من علم البصرة"1. وبعد ذلك سار نحاة البصرة والكوفة جنبًا إلى جنب وتنافسا في البحث والإنتاج، وتابع من كلا البلدين نحاة أعلام ليس من السهل تفضيل أيهما على الآخر. فمن نحاة البصرة نجد الأخفش سعيد بن مسعدة، وقطرب والمازني والمبرد. ومن نحاة الكوفة نجد الكسائي، والفراء، وثعلب وابن السكيت. وهؤلاء جميعًا عاشوا وماتوا قبل نهاية القرن الثالث الهجري. وأهم ما يميز هذه الفترة ارتقاء البحث النحوي ونضجه بدرجة لم تسمح بجديد بعدها. كما يميزها ظهور الكتب الكاملة التي تعالج النحو بابًا بابًا. ونضرب لذلك المثل بكتاب "المقتضب" للعبود، وهو برغم اسمه كتاب ضخم طبع في أربعة مجلدات بتحقيق الأستاذ الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة. ويميزها أيضا اتجاه البحث إلى التقصي، والاستقراء للمأثور عن العرب وإعمال الفكر، واستخراج القواعد. وقد أذكى من روح النشاط التنافس البلدي الذي نشأ بين

_ 1 راجع: شوقي ضيف، المدارس النحوية ص 153، 154، والأفغاني: من تاريخ النحو، ص 41، 42، ونشأة النحو، ص 97.

البصرة والكوفة ومحاولة كل فريق أن يظهر على الآخر. كما يميزها انفصال الصرف عن النحو على يد أبي عثمان المازني الذي ألف "التصريف"1. وقد طبع هذا الكتاب بشرح ابن جني عليه باسم المنصف في ثلاثة أجزاء. وبعد القرن الثالث نافست أقطار ومدن أخرى البصرة والكوفة في الدراسة النحوية وكان أشهرها بغداد ومصر والمغرب والأندلس. وظهر نحاة أعلام في كل بلد من هذه البلاد تجد تفصيلًا عنهم في كتب التراجم المختلفة2. وأهم ما يميز هذه المرحلة أنها كانت مرحلة خفت فيها حدة التنافس والتعصب، وظهر جيل من العلماء لما يتحيز لعالم دون آخر. وأول من فعل ذلك البغداديون. وقد اتجه رجال هذه الفترة إلى عرض المذهبين السابقين وانتقادهما، واختيار ما يبدو مناسبًا منهما، بالإضافة إلى زيادات قليلة من القواعد تولدت لهم من اجتهادهم قياسًا وسماعًا. ومن أشهر رجال هذه المرحلة -حتى نهاية القرن الرابع- الزجاج وابن السراج والزجاجي والأخفش الصغير وابن ولاد وأبو جعفر النحاس والسيرافي وأبو علي الفارسي والرماني والزبيدي3.

_ 1 هذا على فرض أنه لم يصح وضع معاذ الهراء لعلم الصرف. وانظر نشأة النحو ص 94. 2 على سبيل المثال: طبقات الزبيدي، وإنباه القفطين وبغية السيوطي، وضحى الإسلام، وبروكلمان. 3 راجع: نشأة النحو في أماكن متفرقة وبخاصة ص 158، 159. ولمزيد من التفصيلات يستحسن الرجوع إلى كتب التراجم المختلفة تحت الأسماء السابقة ولكتاب الدكتور شوقي ضيف: المدارس النحوية، وكتاب الدكتور مازن المبارك: النحو العربي. ولكتاب سعيد الأفغاني: من تاريخ النحو، ولكتاب محمد الطنطاوي، نشأة النحو، ولكتاب الدكتور عبد الرحمن السيد: مدرسة البصرة النحوية، ولكتاب البيرحبيب: الحركة اللغوية في الأندلس، ولكتاب الدكتور مهدي المخزومي: مدرسة الكوفة.

هل وجدت مدارس نحوية عند العرب؟ السؤال الذي يجب طرحه الآن هو: هل يمكن أن نطلق اسم "مدرسة" على أي دراسة نحوية تمت في خلال الفترة موضوع الدراسة؟ ولكي نجيب عن السؤال يجب أولًا أن نوضح النقاط الآتية: 1- ماذا نفهم من المصطلح "مدرسة نحوية". 2- الأساس الذي بني عليه تقسيم الدراسة النحوية العربية إلى مدارس. 3- عدد هذه المدارس حتى نهاية القرن الرابع الهجري. أما بالنسبة للنقطة الأولى؛ فإن هذا المصطلح يعني -في نظرنا- وجود جماعة من النحاة، يصل بينهم رباط من وحدة الفكر والمنهج في دراسة النحو. ولا بد أن يكون هناك الرائد الذي يرسم الخطة ويحدد المنهج، والتابعون أو المريدون الذين يقتفون خطاه، ويتبنون منهجه، ويعملون على تطويره والدفاع عنه. فاستمرار النظرية -أو المنهج- ودوامها عبر السنين شرط أساسي لتكون المدرسة التي لا يمكن أن تستحق هذا الاسم، أو يعترف بوجودها بمجرد مولد النظرية أو خلقها، حتى تعيش ويكتب لها البقاء لبعض الوقت بين المريدين. ومن ناحية أخرى فنحن لا نوافق على اتخاذ المعيار الجغرافي أساسًا لتقسيم العلوم إلى مدارس فكرية مختلفة، إن وجود جماعة من الدارسين في مكان واحد لا يكفي مطلقًا لتشكيل مدرسة، أو لأحقية ربطهم جميعًا برباط واحد، اللهم إلا إذا وجد الخيط الذي يصل بينهم، والخطة أو النظرية التي يشتركون في تطبيقها. وعلى هذا يكون المرشح لأحقيتهم اسم مدرسة ليس وجودهم في مكان واحد وإنما اشتراكهم في خط فكري معين.

وإذا نحن انتقلنا إلى النقطة الثانية وحاولنا أن نتعرف الأساس لتقسيم الدراسات النحوية إلى مدارس، وجدنا من الحتم أولًا أن نظهر الحقائق الآتية: أ- أن المعيار الجغرافي كان الأساس الوحيد لهذا التقسيم، وهذا يوضح لماذا حملت كل مدرسة اسم منطقة. ب- لا نجد أي إشارة إلى مدرسة أطلق عليها هذا الاسم لالتفاف أتباعها حول رائد معين فحملت اسمه من أجل ذلك على عكس ما نجده الآن1. جـ على الرغم من أن المعيار الجغرافي كان هو الأساس الوحيد المستعمل لتقسيم المدارس العربية؛ فإنه قد عجز تمامًا عن إبراز الفروق الحقيقية والاتجاهات الفكرية المختلفة لهذه المدارس، كما عجز -في نفس الوقت- عن تجميع الخصائص المشتركة، والاتجاهات الفكرية الموحدة. ولنأخذ مثالًا على هذا أقدم مدرستين لغويتين، وهما مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، فماذا نجد؟ نجد البصريين "أو الكوفيين" يختلفون في المسألة الواحدة، ونجد في كثير من الأحيان بصريين ينضمون إلى المدرسة الكوفية، وكوفيين ينضمون إلى المدرسة البصرية "والأمثلة على ذلك كثيرة نكتفي منها بما يأتي: 1- في حالة يصرح الأخفش "بصري" أن رأي الكوفيين صحيح. 2 في حالة أخرى نجد للخليل رأيًا يخالف رأي سيبويه والأخفش.

_ 1 Bloomfield School أو Vossler School انظر Fries ص 196، Malmberg ص 69.

3- في حالة أخرى نجد سيبويه والخليل يريان رأيًا مناقضًا لرأي الأخفش والمازني والزيادي والمبرد "وكلهم بصريون". 4- في حالة أخرى نجد كلًّا من سيبويه والمبرد والكسائي والفراء يقف منفردًا برأيه الخاص. 5- في حالة أخرى نجد المبرد يفضل رأيًا كوفيًّا. 6- في حالة أخرى نجد الكسائي يفضل رأيًا بصريًّا1. 7- على الرغم من أن المبرد وسيبويه ينسبان إلى مدرسة واحدة فنحن نجد أن أقصى هجوم وجه لسيبويه كان على يد المبرد -كما سبق أن ذكرنا- حتى ألف الأخير كتابًا لنقد سيبويه والهجوم عليه. ومن ناحية أخرى فنحن نجد أن اختلاف المنهج والخط الفكري واضح جدًّا بين الأستاذين ويشمل اختلافات جوهرية. 8- على الرغم من أن الكسائي والفراء ينتميان إلى المدرسة الكوفية فإن خلافهما في مسائل النحو كثير. ونكتفي بالتقاط الأمثلة الآتية: أ- يذهب الكسائي إلى أن الفاء والواو وأو تنصب الفعل بنفسها، ولكن الفراء يذهب إلى أن المضارع ينصب هذه الأحرف على الخلاف "أي: أن المعطوف بها صار مخالفًا للمعطوف عليه في المعنى فخالفه في الإعراب"2. ب- يذهب الكسائي إلى جواز العطف على اسم إن بالرفع قبل تمام الخبر، فيصح عنده أن تقول: "إن زيدًا وعمرو قائمان", ولكن

_ 1 انظر في تفصيل المسائل السابقة: منهج السالك لأبي حيان صفحات 7، 8، 9، 19 مقدمة المحقق، والانصاف لابن الأنباري ص 27، 47. 2 الكافية 2/ 224، والأشموني 3/ 300.

الفراء يفصل، فيجيزه في حالة خفاء الإعراب، ويمنعه فيما عدا ذلك، فمثال ما خفي إعرابه "إنك وزيد قائمان" وقد حمل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ} 1. جـ يذهب الكسائي إلى أن أصل "آية" آئية بزنة فاعلة، فحذفت الهمزة كما حذفت في شاك السلاح ومكان هار. ويذهب الفراء إلى أن أصلها" "آية" بالتشديد، وفروا من المشدد إلى الألف كما فروا إلى الياء في دينار وأصله دنار2. د- أجاز الكسائي تقديم المحصور بإلا مطلقًا، وذهب الفراء إلى منع تقديم الفاعل المحصور وأجاز تقديم المفعول المحصور3. هـ- قال الكسائي في "أشياء": هي جمع شيء كبيت وأبيات، ووزنها أفعال، ومنعت من الصرف على توهم أنها كحمراء، وقال الفراء: أصلها أشيئاء جمع شيء وأصله شيء نحو بين وأبيناء ولين وأليناء، ثم حذف من وسط أشياء همزة لكثرتها فصارت أشياء4. ويذهب الكسائي -وهو رأي البصريين- إلى أن "نعم" و"بئس" فعلان ماضيان لا ينصرفان ويذهب الفراء -وهو رأي باقي الكوفيين- إلى أنهما اسمان.5. 9 وأخيرًا نمثل بمسألة تشعبت فيها أوجه النظر، واختلط فيها الحابل بالنابل كما يقول المثل العربي، وهي تخريج "إياك" وأخواتها.

_ 1 الانصاف 1/ 119، ومجالس ثعلب 1/ 316، والرضى على الكافية 2/ 330، ومعاني القرآن، ورقة 45. 2 رسالة الملائكة ص 101 - 106. 3 الأشموني 4/ 39. 4 معاني القرآن للفراء ورقة 46، وإعراب القرآن للنحاس ورقة 54- 55، والرضى على الشافية ص 9. 5 الإنصاف 1/ 66، الكافية 2/ 292.

أ- فجمهور الكوفيين، وهو رأي الفراء، يذهب إلى أن الكاف والهاء والياء من إياك وإياي وإياه ... هي الضمائر، وأن "إيا" عماد لها تصير بسببها منفصلة. واختاره ابن كيسان من البصريين. قال الرضى: وليس هذا القول ببعيد عن الصواب. ب- ورأى الخليل أن "إيا" اسم مضمر مضاف إلى الكاف بدليل وقوع الظاهر مقام الكاف في قولهم: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب. وهو رأي الأخفش والمازني. جـ- وقال سيبويه: إن الاسم المضمر هو "إيا"، وما يتصل به بعده حرف يدل على أحوال المرجوع إليه من التكلم والخطاب والغيبة، وهو رأي جمهور البصريين. د- وقال قوم من الكوفيين: إياك وإياه وإياي أسماء بكمالها، وليس فيها تركيب. هـ- وقال الزجاج، والسيرافي: "إيا" اسم ظاهر مضاف إلى المضمرات، كأن "إياك" بمعنى نفسك1: هذه الأمثلة -وغيرها كثير جدًّا لمن أراد المزيد- تكشف عن فساد المعيار الجغرافي وتظهر فشله2.

_ 1- مدرسة الكوفة ص 229، الكافية 2/ 12 ورسالة الملائكة ص 57 وهامش صفحتي 55، 56. 2 لا أدل على فشل المنهج الجغرافي في بيان الاتجاهات الفكرية، وإبراز أوجه الخلاف والشبه بينها من اختلاف الآراء حول نسبة بعض اللغويين إلى مدرسة معينة. وأشير في هذا المجال إلى أبي عبيد الذي وضعه بروكلمان تحت أبناء المدرسة البصرية "2/ 155"، بينما وضعه الزبيدي وآخرون تحت اتباع المدرسة الكوفية "ابن النديم ص 71". وحالة أبي عبيد تمثل صعوبة أخرى، وهي صعوبة نسبة عالم من ذلك العصر إلى بلد معين نظرًا لكثرة الأسفار، وعدم الإقامة في مكان واحد مدة طويلة. فهو قد ولد في هراة وتنقل بين البصرة والكوفة ومرو وسر من رأى وطرسوس وبغداد ومكة. "معجم الأدباء 16/ 254، والقفطي 2/ 15، 19، 20".

ولكن إلى جانب هذه الاختلافات بين أبناء المدرسة الواحدة فنحن نجد بعض الخطوط والاتجاهات المشتركة التي يتميز بها أبناء المدرسة الواحدة وعلى هذا فربما قبلنا -مع شيء من التحفظ- هذه القسمة. والنقد الخطير الذي يمكن أن يوجه إلى هذا المعيار هو احتمال الانحراف في تطبيقه. ربما قبلنا تبرير هذا المعيار على أساس أن الفكرة، أو الاتجاه المعين، إنما يظهر أول الأمر في مكان ما، ومن أجل هذا فمن المعقول أن ينسب هذا الاتجاه أو هذه النظرية إلى مكان الميلاد. ولكن الشيء الذي لا نقبله هو الزعم بأن هذه المدرسة المعينة لا بد أن تشمل كل المواطنين في هذا المكان -بغض النظر عن اختلافاتهم- وتستبعد من عداهم، دون نظر إلى آرائهم ومدى اتفاقهم أو اختلافهم. وعلى هذا فنحن نعتقد أن الباب لا بد أن يترك مفتوحًا على مصراعيه ليضم المثقفين، ويعزل المخالفين. إن باب المدرسة البصرية أو الكوفية يجب أن يظل مفتوحًا؛ ليسمح بدخول أي مؤيد أو متفق في الرأي مهما كانت جنسيته، وبخروج المخالف، حتى ولو كان منتسبًا إلى المنطقة بالميلاد أو الإقامة، وطبقًا لهذا، فإننا نجد المدارس اللغوية الحديثة التي تحمل أسماء أماكن قد اشتملت على أسماء علماء من بلاد مختلفة. ونحن نشير بوجه خاص إلى "مدرسة جنيف"1 التي أسسها اللغوي السويسري دي سوسير وشملت لغويين فرنسيين وسويسريين وألمان وإنجليز2. أما إجابة السؤال الثالث، فهي دقيقة وصعبة، إذا حاولنا تناولها بدقة. إنها تقتضي عملية تتبع كامل للإنتاج النحوي في جميع أنحاء العالم العربي لفترة تمتد إلى أكثر من ثلاثة قرون، مع الأخذ في الاعتبار ضياع نسبة كبيرة من الإنتاج النحوي لتلك الفترة وعدم وصوله لنا، بالإضافة

_ 1 بعض الدارسين يسميها كذلك "المدرسة الفرنسية" "انظر Sommerfelt ص 283". 2 Malmberg صفحات 16، 46، 47،49، 50.

إلى تبعثر الآراء النحوية في كتب التفسير والقراءات والأدب وشروح الدواوين الشعرية وغيرها. ولهذا فنحن سنكتفي في هذا المقام بنظرة خاطفة مركزين على الخلافات بين الدارسين حول الاعتراف أو عدم الاعتراف بأي منها1. فيما عدا سعيد الأفغاني الذي رفض المعيار الجغرافي أساسًا للتقسيم النحوي وتشكك في جدواه2 "برغم استعماله لفظ مدرسة مع نحاة البصرة ونحاة الكوفة مجاراة لما هو شائع"، واقترح معيارًا آخر فإن سائر الدارسين قد قبلوا التقسيم الجغرافي أساسًا لتصنيف المدارس النحوية العربية. الفرق الوحيد بينهم هو اختلافهم في عدد المدارس: وبغض النظر عن المستشرق G. weil الذي اعترف بالمدرسة البصرية فقط، نجد جميع الدارسين يعترفون بوجود مدرستي البصرة والكوفة، ويعترفون بأسبقيتهما لأي مدارس نحوية أخرى، ومنهم من يضيف إليهما مدارس أخرى على النحو التالي: "أ" بعضهم يضيف مدرسة ثالثة في بغداد. ويضم هذا الفريق بروكلمان ومهدي المخزومي.

_ 1 كان من سوء الحظ أن المحاولات الأولى لتقسيم الدراسة اللغوية إلى مدارس كانت ترمي إلى عمل ترجمات للغويين، مع التركيز على الجانب التاريخي من حياتهم. وربما كان المعيار الجغرافي صالحًا لمثل هذه الدراسة التاريخية، ولكن الخطأ الذي ارتكب فيما بعد هو تطبيق هذا المعيار على الدراسة اللغوية البحتة. 2 يقول: درج العلماء على أن هناك مذهبًا بصريًّا وآخر كوفيًّا. فما معالم كل من المذهبين؟ هذه الميزات والمعالم الآتية بعد ليست جامعة مانعة. فليس هناك قاعدة أجمع عليها نحاة البصرة وتوارد على معارضتها نحاة الكوفة، أو قال بها الآخرون جميعًا وعارضها الأولون جميعًا. في أصول النحو ص 195 - 196" وانظر بحثه: هل في النحو مذهب أندلسي؟ ص 76.

ب- وبعضهم -مثل طه الراوي ومحمد أسعد طلس- يضيف مدرسة رابعة في الأندلس. ج- أضاف Howell مدرستين أخريين في مصر والمغرب. د- وعد الدكتور شوقي ضيف خمس مدارس هي: البصرية والكوفية والبغدادية والأندلسية والمصرية، ولم يذكر المغربية. هـ- ويقف الزبيدي منفردًا في هذا النزاع حيث يقسم اللغويين إلى بصريين وكوفيين ومصريين وأندلسيين، ولم يذكر البغداديين1. وإذا كان لنا من ملاحظات على هذه التقسيمات فهي: 1- أنه ما دام المعيار الجغرافي هو الأساس في التقسيم فلا بد من الاعتراف بوجود مدرسة في كل بلد أنتج فكرًا نحويًّا. 2- من الغريب أن يعترف الزبيدي باللغويين المصريين والأندلسيين ولا يذكر البغداديين. 3- وأغرب من هذا أن يعترف طه الراوي ومحمد طلس بوجود مدرسة في الأندلس ولا يعترفان بوجود مدرسة في مصر، برغم أسبقية مصر في هذا الميدان واعتماد النحو الأندلسي في نشأته. ووجوده وبنائه على مصر2. وأخيرًا فإننا نؤمن بأن تقسيم العلوم إلى مدارس -

_ 1 ارجع إلى: دائرة المعارف الإسلامية، مادة "ثعلب" و"نحو"، ومراتب النحويين لأبي الطيب، والفهرست لابن النديم، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان، ومدرسة الكوفة للمخزومي ص391، ونظرة في النحو لطه الراوي، وأبو الفتح بن جني لطلس، وطبقات النحويين للزبيدي، والمدارس النحوية لشوقي ضيف، ومقدمة Howell لكتابه Grammar of the Classical Arbaic. 2 يرجع الفضل في النهضة الأندلسية النحوية إلى عودة محمد بن يحيى الرباحي الأندلسي من المشرق بمناهج حديثة "كما يقول الزبيدي" وبكتب جديدة في القرن الرابع. ولم يكن الرباحي نفسه مؤلفًا، وإنما لاقى الأساتذة وقرأ عليهم وحمل كتبهم. وممن لاقاهم بمصر أبو جعفر النحاس وأبو العباس =

مهما كان المعيار ليس خير سبيل. إنه يعطي إحساسًا بمحلية العلوم، ويخلق جوًّا من التحيز والتعصب، إنه يظهر اتفاقًا سطحيًّا بين أتباع المدرسة الواحدة حول مبادئ معينة أو قواعد خاصة، ولكنه يخفي من ورائه خلافات جوهرية. ومن أجل هذا فنحن نفضل المعيار المبني على أساس النظريات المنفصلة والاتجاهات المستقلة. وعلى هذا يمكننا أن نتكلم عن نظرية سيبويه في الالتزام بما سمع عن العرب وعدم استخدام القياس النظري، لأن العرب يمتنعون عن التكلم بالشيء وإن كان القياس يوجبه، ويتكلمون بالشيء وإن كان القياس يمنعه. وعن نظرية الفراء في النصب على الخلاف أو المخالفة. وعن نظرية ابن فارس في رد الكلمات الكبيرة البنية إلى أصول أقل حجمًا، وهكذا. هذا الاتجاه ربما يكون أكثر دقة في تتبع النظرية أو الاتجاه، وفي رسم حدود كل ومعالمه عبر العصور من غير استخدام التعميمات، أو إصدار الأحكام الكلية التي تفتقر في كثير من الأحيان إلى الدقة ويعوزها الحذر العلمي. أهم الفروق بين مدرستي البصرة والكوفة: على الرغم من موقفنا السابق من اتخاذ المعيار الجغرافي أساسًا

_ = ابن ولاد، وكلاهما نحوي متخصص. وقد نقل للأول إلى الأندلس كتبه "صناعة الكتاب" و"الاشتقاق" و"الكافي في النحو" و"المقنع في النحو" وللثاني "الانتصار لسيبويه" و"المقصور والممدود، و"النقائض". ونضيف إلى هذا أنه من بين تلامذة النحاس الأجانب وعددهم أربعة عشر "على حسب ما أمكنني البحث" نجد ثمانية أندلسيين. ومن بين الترجمات الخمسمائة الأولى في كتاب ابن الفرضي "تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس" نجد خمسة وخمسين على الأقل قد درسوا في مصر. "ولمزيد من التفصيلات راجع رسالتي للدكتوراه Arabic Linguistic Studies in Egypt الخاتمة".

للتقسيم، وما سبق أن ذكرناه من عدم وجود خط محدد يسير عليه كل من الكوفيين والبصريين، فقد رأينا أن نسجل هنا أهم ما يميز الدرس النحوي البصري عن الكوفي، مع اعترافنا بأن هذه المميزات ليست قاطعة أو صارمة، كما ستكشف في تعليقنا الآتي بعد، ويمكن تلخيص هذه المميزات أو الفروق فيما يأتي: 1- ما سبق أن ذكرناه من تشدد البصرة في فصاحة العربي الذي تأخذ عنه اللغة والشعر وتساهل الكوفيين حتى إنهم كانوا يأخذون عن الأعراب الذين قطنوا حواضر العراق، مما جعل بعض البصريين يفخر على الكوفيين بقوله: "نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنت تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكواميخ"1. 2- ما سبق أن ذكرناه من توسع الكوفيين في قبول القراءات القرآنية بالنسبة للبصريين. وذلك ليس نتيجة تقسيمهم للقراءات وحسن تقبلهم لها، وإنما بسبب ما عرفوا به من توسع في أصول اللغة وقياس على القليل واعتداد بالمثال الواحد2. 3- أن البصريين لم يكونوا يكتفون في استخلاص القاعدة بالمثال الواحد أو الأمثلة القليلة "وإنما اشترطوا الكثرة والتداول على ألسنة العرب الفصحاء. أما الكوفيون فكانوا يعتدون بالأشعار والأقوال الشاذة، ولا يشترطون أي نوع من الكثرة في تقعيد قواعدهم، ولهذا يقول السيوطي: "لو سمع الكوفيون بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا وبوبوا عليه". ويقول: "عادة الكوفيين إذا سمعوا لفظًا في شعر أو نادر كلام جعلوه بابًا أو فصلًا"3.

_ 1 راجع بحث "الشواهد النثرية" في الفصل الأول، الباب الأول من هذا الكتاب. وشوقي ضيف: المدارس النحوية ص 160. 2 راجع بحث "القراءات القرآنية" في الباب الأول من هذا الكتاب. 3 شوقي ضيف: المدارس النحوية ص 161، 162، محاضرات الدكتور إبراهيم أنيس لطلبة الليسانس بدار العلوم، سنة 1964.

4- أن التأويل والتقدير كثر عند البصريين بطريقة لافتة للنظر، وذلك تبعًا لرفضهم كثيرًا من الأمثلة العربية الصحيحة، ونتيجة لمحاولاتهم المتكررة إخضاع الأمثلة العربية الصحيحة لأقيستهم النظرية البحث. ويمتدح الدكتور شوقي ضيف صنيع البصريين هذا بقوله: "على أنه ينبغي أن نعرف أن المدرسة البصرية حين نحَّت الشواذ عن قواعدها لم تحذفها ولم تسقطها، بل أثبتتها، أو على الأقل أثبتت جمهورها، نافذة في كثير منها إلى تأويلها، حتى تنحي عن قواعدها ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من أن خللًا يشوبها، وحتى لا يغمض الوجه الصحيح في النطق على أوساط المتعلمين، إذ قد يظنون الشاذ صحيحًا مستقيمًا، فينطقون به، ويتركون المطرد في لغة العرب الفصيحة. ومن هنا تتعرض الألسنة للبلبلة ... وقد ينجذب إليها بعض من لم يفقه الفرق بين القاعدة الدائرة على كثرة الأفواه، بل على كثيرها الأكثر، والقاعدة التي لم يرد منها إلا شاهد واحد، مما قد يؤول إلى اضطراب شديد في الألسنة"1. وسنذكر رأينا في هذا الأصل فيما بعد. 5- لما كان الكوفيون أهل شعر ورواية لم يلتفتوا كثيرًا إلى قوانين المنطق والأقيسة العقلية. أما البصريون؛ فقد عوضوا تخلفهم في مجال الشعر والرواية بأن أطلقوا لعقلهم العنان وبرعوا في استخدام المنطق ولجأوا أحيانًا إلى النظر المجرد، ويمثل هذا الاتجاه البصري خير تمثيل قول أبي على الفارسي: "لأن أخطئ في خمسين مسألة من باب الرواية خير عندي من أن أخطئ في مسألة واحدة من باب القياس"2. ولنا على هذه الفروق الملاحظات الآتية: 1- أن المذهب الكوفي -في نظرنا- أقرب إلى الحق والواقع حين أجاز القياس على المثال الواحد المسموع، ولم يعتبر القلة والكثرة.

_ 1 المدارس النحوية ص 162. 2 المرجع ص 264.

وذلك لأن القبائل العربية تتساوى في صحة القول وسلامة اللغة، وليس أمام العقل مسوغ في تفضيل لهجة على لهجة. ومن القواعد المقررة في فقه اللغة أنه لا يحتج بلغة قبيلة على أختها، ولا يحكم النظير بالتخلف على نظيره. ومن يدرينا أن الظاهرة اللغوية التي روى لها الكوفيين شاهدًا واحدًا ليس لها شواهد أخرى؟ أليس من الممكن جدًّا أن يكون وراء هذا الشاهد الواحد عشرات الشواهد التي لم يهتم العلماء بتسجيلها، أو التي فقدت ولم تصلنا؟ يدل على هذا ما ينسب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من قوله: "إن الشعر كان علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت العرب عنه بالجهاد وغزو الفرس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يئولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم كثيره". ويروى عن أبي عمرو بن العلاء قوله: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله. ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير"1. ويقول القاضي الجرجاني في الوساطة: "أما الألفاظ التي زعموا أن الشعراء تفردوا بها فإنها موجودة عن أئمة اللغة وعمن ينتهى السند إليهم ... وإنما نتكلم بما تكلموا به. وواحدهم كالجمع، والنفر كالقبيلة، والقبيلة كالأمة. فإذا سمعنا عن العربي الفصيح الذي يعتد حجة كلمة اتبعناه فيها وإن لم تبلغنا من غيره"2. فإذا سمع الكوفيون أمثلة معدودة نسب العرب فيها إلى الجمع فقبلوا هذه النسبة، واتخذوها أساسًا، وقاسوا عليها لم يكونوا حائدين عن الجادة كما يحاول بعضهم أن يصورهم، بل يكونوا على حق. خصوصًا وأن الكثرة العددية للكلمات المفردة المنسوب إليها لا تعارض.

_ 1 اللغة والنحو لعباس حسن، ص 36، 37. 2 المرجع السابق.

القلة العددية للكلمات المجموعة المنسوب إليها، لأنه من الممكن أن توجد القاعدتان جنبًا إلى جنب وتتعايشا معًا دون تناقض، فيقال: إن أريد النسب إلى المفرد رد الجمع إلى مفرده ونسب إليه، وإن أريد النسب إلى الجمع نسب إليه على لفظه. وليس هذا مثلًا من قبيل رفع المفعول أو نصب الفاعل. ولهذا نجد الكوفيين برغم سماعهم لمثل: "خرقَ الثوبُ المسمارَ" لم يجوزوا رفع المفعول أو نصب الفاعل. مما يدل على أن اعتدادهم بالمثال الواحد أو الأمثلة القليلة إنما يرد في مثل النسب إلى الجمع مما يوسع مجال اللغة ولا يخلق فيها الفوضى والاضطراب. 2- أن البصريين لم يوضحوا مرادهم بالكثرة، أهي الكثرة العددية بين أفراد القبيلة الواحدة؟ أم القبائل جمعاء؟ أهي الكثرة النسبية القائمة على الاستقراء التام والعد واستخراج النسبة؟ فإذا كان الأول فما حدها؟ وهل يمكن إجراء النسبة في كل ظاهرة لغوية؟ وهل يدعي البصريون أنهم قاموا باستخراج النسبة في أي قاعدة نحوية استخلصوها؟ 1 ولا أدل على غموض هذا المصطلح عند البصريين من تخبط بعضهم في شرحه، ومن اختلافهم في كثير من الأحكام -بعضهم مع بعضهم- من حيث القياسة أو السماعية. وما نظن أن تفسير ابن هشام -فيما نقله السيوطي عنه- يمثل اتفاقًا بين النحاة، وإنما هو مجرد اجتهاد منه لتفسير مصطلحات غامضة يكثر ترددها بين النحاة، وتفسيره مع ذلك لا يمكن تطبيقه، كما لا يمكن أن يدعي أن النحاة أو أيًا منهم على الإطلاق قد قاموا بتطبيقه يقول ابن هشام: "اعلم أنهم يستعملون غالبًا وكثيرًا ونادرًا وقليلًا ومطردًا. فالمطرد لا يتخلف.

_ 1 لا أدل على عدم وضوح فكرة القلة والكثرة في أذهان النحاة أن بعضهم حاول تحديدها فقال: "والفرق بين الغالب والكثير أن ما ليس بكثير نادر وكل ما ليس بغالب ليس نادرًا بل قد يكون كثيرًا".

والغالب أكثر الأشياء ولكنه يتخلف، والكثير دونه، والقليل دونه، والنادر أقل من القليل. فالعشرون بالنسبة إلى ثلاثة وعشرين غالب، والخمسة عشر بالنسبة إليها كثير لا غالب والثلاثة قليل والواحد نادر"1. والتحكم واضح في تحديدات ابن هشام فضلًا عن عدم مطابقتها لآراء النحاة. وهناك من ساوى بين مصطلحات الأصل والمطرد والكثير والأكثر والغالب، وساوى بين الشاذ والقليل والأقل والنادر2 والأمر بعد هذا يحتاج إلى تحديد دقيق من هيئة علمية لها مكانتها في ميدان البحث اللغوي كمجمع اللغة العربية في القاهرة أو دمشق. وهو تحديد سينسحب على ما يجد من بحوث استقرائية لمادة اللغة أو دمشق. وهو تحديد سينسحب على ما يجد من بحوث استقرائية لمادة اللغة المسجلة، على أيدي لغويين محدثين، ولا يمكن الزعم بأنه سيشمل إلى جانبهم علماء اللغة القدامى. 3- إن البصريين قد خالفوا أصلهم في القياس على الكثير وترك القليل، وذلك في مسائل متعددة من مسائل النحو. فنراهم تارة يمتنعون عن القياس على الكثير وتارة يقيسون على المثال الواحد. فمن النوع الأول اعترافهم بأن وقوع المصدر حالًا وصفة كثير ومع ذلك فهم يقصرونه على السماع. ومن ذلك اعترافهم بأن "فعيل" بمعنى مفعول كثير في لسان العرب وقولهم: إنه مع كثرته لم يقس عليه بإجماع3. ومن ذلك منعهم قياسية جمع ما بدئ بميم زائدة من أسماء الفاعلين- جمعه جمع تكسير مع أنني استطعت أن أجمع -بجولة سريعة في كتب اللغة- ما يزيد على ثمانين كلمة جمعت هذا الجمع. فهل الثمانون لا تكفي للقياس4؟ ومن نفس النوع منعهم جمع "فعل" على أفعال وادعاؤهم أن جمع حمل على أحمال في القرآن شاذ، مع أنه قد ورد عن العرب جمع

_ 1 في أصول اللغة ص 129. 2 في اللغة والنحو لعباس حسن، ص 39. 3 المرجع نفسه ص 44. 4 راجع كتابي: من قضايا اللغة والنحو ص 181 وما بعدها.

فعل على أفعال أكثر من جمعه على أفعل، فعدد ما ورد على أفعل 142 وعلى أفعال 340 لفظة طبقًا لإحصاء أورده بعض الباحثين1. ومن النوع الثاني ونسبتهم إلى فعولة على فعلى مع أن ذلك لم يرد عن العرب إلا في مثال واحد هو شنوءة وشنيء، وأيضًا قول الشاعر: أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع لم يسمع عن العرب غيره حذفت فيه "كان" وعوض عنها "ما"، ومع ذلك جعله البصريون قاعدة يقاس عليها. 4- أنه كان من جراء إفراط البصريين في استخدام الأقيسة العقلية وتشددهم في قبول الشاهد النحوي، أن وجدوا أنفسهم أمام شواهد فصيحة تخالف قياسهم المنطقي أو قاعدتهم التي استنبطوها. وهنا وجدوا أنفسهم مضطرين إما إلى تأويلها وإخراجها عن ظاهرها لتنسجم مع قواعدهم، وإما إلى رميها بالشذوذ أو الخطأ. وقد أدت تأويلات النحاة إلى إفساد النحو العربي وملئه بمسائل ومشاكل لا نحتاج إليها في تصحيح نطقنا أو تقويم لساننا. وإن أردت الدليل على ذلك فانظر إلى ما قاله كل من البصريين والكوفيين في نواصب المضارع. ذهب معظم الكوفيين إلى أن النواصب عشرة، وهي تنصبالمضارع بنفسها وذلك مذهب لا التواء فيه ولا تعقيد، ولا يحمل هذه النواصب ما لا تحتمله من المعاني، ولا يوقعنا في تكلفات تشوه النحو وتنفر الدارسين منه، أما البصريين فقد قسموا النواصب إلى قسمين: قسم ينصب بنفسه وهو أن وإن وإذن وكي "الأخيرة في بعض حالاتها" وقسم ينصب بأن مضمرة بعده وهو النواصب الستة الباقية. ثم تحدثوا بعد هذا عن "أن" المضمرة جوازًا و"أن" المضمرة وجوبًا. واضطرهم تقدير "أن" إلى أن يبحثوا للأدوات الستة عن أعمال أخرى غير النصب، لأن ما بعدها لا بد أن يؤول بمصدر لوجود أن المضمرة، وهذا

_ 1 شذا العرف ص 69، محاضر جلسات المجمع 4/ 51، 52.

المصدر لا بد من إعراب يعرب به. وقد وقعوا بذلك في تكلفات لم يقع فيها نحاة الكوفة واخترعوا لنا ما سموه بالمصدر المتصيد. وقد حمل البصريين على سلوك هذا المسلك الوعر قاعدتهم المنطقية التي تقول: "إن الحروف لا تعمل إلا إذا كانت مختصة". فما دامت هذه الحروف تدخل على الأسماء والأفعال فلا يصح أن تعمل، وإذا كانت هذه الحروف لا تعمل في الفعل فلا بد من التفتيش عن العامل، وقد وجدوه في "أن" المستترة. ولكن هل اللغة منطقية إلى هذا الحد؟ وانظر أيضًا إلى ما قاله البصريون من عدم جواز أن يلي كان معمول خبرها، وحين ووجهوا بقول الشاعر: بما كان إياهم عطية عودا قالوا: إن في كان ضمير شأن هو اسمها، وعطية مبتدأ وعود خبره وإياهم مفعول به لعود، والجملة من المبتدأ والخبر خبر كان. فلم كل هذا العناء؟ ولماذا نضع القاعدة مسبقًا ثم نلوي الشواهد النحوية لتخضع لهم؟ وما أثر كل هذا في تصحيح نطقنا أو تقويم لساننا؟ وأحيانًا كان البصريون يرجون أنفسهم فيرمون الشاهد بالندرة أو الشذوذ أو الخطأ، وليست تخطئات ابن أبي إسحاق للفرزدق علينا ببعيدة. وهذا أيضًا غريب، ويعجبني في هذا ما يقوله العكبري: "كيف نجعل ما وضعه البصريون للتقريب والتعليم مما لا أصل له ولا ثبات حجة على لسان العرب الفصحاء؟ "1 وقد كان أكرم للبصريين أن يحذوا حذو شيخهم أبي عمرو ابن العلاء. فقد سئل ذات يوم: "أخبرني عما وضعت مما سميته عربية، أيدخل فيها كلام العرب كله؟ فقال: لا. فقيل له: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة؟ فقال: أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات"2.

_ 1 عباس حسن: اللغة والنحو، ص 92. 2 شوقي ضيف "المدارس النحوية، ص 27، 28.

5- على الرغم مما في مذهب الكوفيين من بساطة ويسر، وبعد عن التكلف والتأويل والتقدير -في الغالب- فأخطر ما يعيبه أنه ربما يوقع في الفوضى والاضطراب في ظواهر اللغة. لأن شرط كل لغة أن تكون لها ظواهر مطردة منسجمة موحدة. فلو أننا جوزنا في الظاهرة الواحدة أكثر من وجه، ولو أننا سمحنا باستخدام التعبير لمجرد وجود مثال واحد ربما كان من بقايا لهجات قديمة أو لثغة أو ضرورة أو نحوها لما أصبح للغة قيود وقواعد، ولصح قول بعضهم: "لا تخرج من الكلام فمهما أخطأت فستجد لك وجهًا في العربية تصح به عبارتك". وتخيل معي شخصًا يرفع المفعول به، أو ينصب الفاعل، أو يلزم المثنى الألف في الرفع والنصب والجر، أو يلزم جمع المذكر السالم الياء أو الواو، أو يرفع الجزأين بعد كان، أو ينصب الجزأين بعد أن، أو يصرف الممنوع من الصرف، أو يمنع المصروف من الصرف، أو ينعت المرفوع بمنصوب أو المنصوب بمرفوع.. أو.. أو ... فأي شيء يبقى لقواعد اللغة؟ وأي شيء نستفيده -سوى الفوضى والاضطراب- لو تمسكنا بالشواهد القليلة التي جاءت مؤيدة لذلك؟ وعلى هذا فمن الخير أن نتبع طريق البصريين في وضع القواعد دفعًا للفوضى والاضطراب، ولكن بدون لجوء إلى تأويل وتقدير، وبدون تحكيم للمنطق والقياس النظري، ومع الاقتصار على اللغة النموذجية الأدبية المشتركة. أما في متن الكلمات، وفي الجموع، والمصادر، والمشتقات وأمثالها مما يتعلق بصوغ الألفاظ وبناء هياكلها ومادتها الأصلية وتقيمها وتأخيرها وذكرها وحذفها فنتبع طريق الكوفيين، ونرجع إلى القياس بمعناه العام الذي يبيح لنا محاكاة الكلام العربي الفصيح مهما كان قائله1. وبذلك نوسع أصول اللغة وننمى مواردها، ونفتح طرقًا يزداد بها بيان اللغة سعة على سعته. ومن أمثلة ذلك:

_ 1 عباس حسن: اللغة والنحو، ص 111، 112.

أ- حين تذكر كتب اللغة بعض مشتقات المادة اللغوية ونترك بعضها فالتوسع في القياس يكمل هذا النقص1. ب- أننا إذا وجدنا العرب يشتقون وزنًا معينًا ويستعملونه للدلالة على شيء خاص أمكننا أن نقيس عليه ما لم يذكر. فإذا وجدناهم يصوغون فَعّال للدلالة على محترف الحرفة كتجار وحداد أمكننا أن نقيس عليها أصحاب المهن الأخرى فنقول: بواب وفنان ... وإذا وجدناهم يستخدمون فعيل "بكسر الفاء وتشديد العين" للدلالة على ملازمة الشيء والمبالغة فيه مثل شريب وزميت وسكيت وصميت وخمير وسكير ... أمكننا أن نقيس عليها ما شئنا من ألفاظ. ومثل هذا يقال في صيغة فعال للمبالغة "بضم الفاء وتشديد العين" فقد ورد منها: عجاب وكبار وظراف وجمال وكرام وحسان وطياب. ويمكننا كذلك أن نقيس صيغة فعلة "بضم الفاء وسكون العين" للمبالغة في المفعول - وهي صيغة فريدة لا نظير لها في اللغة العربية لأن سائر صيغ المبالغة للمبالغة في الفاعل - فقد ورد من ذلك كلمات مثل: لعة وسخرة وهزأة وسبة ونهبة ... وغيرها2. "جـ" تصحيح كثير من العبارات والألفاظ التي تشيع على ألسنة المتكلمين وأقلام الكتاب في العصر الحديث، والتي يمكن أن نلتمس لها وجهًا في العربية تصح به. هذا باب واسع بدأ مجمع اللغة العربية في مصر في فتحه على مصراعيه كما يتبين لمن يراجع محاضر جلسات المجمع ومجلته ومنشوراته اللغوية مثل "في أصول اللغة" و "مجمع اللغة العربية في خمسين عامًا". ومن أمثلته تصحيح كلمات صحفي، ودولي، ونضوج وإدخال" "أل" على "كل" و "بعض".

_ 1 انظر رسالتنا للماجستير: الفارابي اللغوي تحت عنوان "كلمات ناقصة الاشتقاق" ص 211 وما بعدها. 2 انظر بحثًا لنا بعنوان: صيغ أخرى للمبالغة في كتابنا "من قضايا اللغة والنحو" ص 193 وما بعدها.

دعوات التجديد والإصلاح للنحو العربي: شاب النحو العربي منذ نشأته شوائب، وارتفعت شكوى المتعلمين من صعوبته وتعقده. ويرجع ذلك لأسباب متعددة منها: 1- أن النحويين القدماء حين قعدوا قواعدهم أقحموا اللهجات العربية بصفتها وخصائصها المتباينة، ونظروا إليها على أنها صور مختلفة من اللغة المشتركة، مما خلق مشاكل معقدة أيسرها اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة، ومحاولة التوفيق بين المذاهب والشواهد المتناقضة، والإكثار من الأمور الجائزة، وكثرة التقسيمات والتشعيبات، والإسراف في وضع الشروط1. وقد كان الواجب عليهم إسقاط كل هذه الأمثلة اللهجية، وترك غيرها مما يمثل مراحل التطور اللغوي، كما كان الواجب عليهم أن يفرقوا بين القواعد النحوية التي غايتها احتذاء الصواب وصيانة اللسان عن الخطأ، وبين دراسة ما نطق به العرب وما جرى على ألسنة قبائلهم وما نقله الرواه من شعر أو نثر تضمن خصائص لهجية معينة2. أما الأولى فتبنى على اللغة النموذجية الأدبية الممثلة في القرآن الكريم "دون قراءاته" والحديث النبوي الشريف، والآثار الأدبية الرفيعة من أشعار.

_ 1 يكفي أن أحيل القارئ إلى شروط أفعل التفضيل، التي حينما أعاد مجمع اللغة العربية في مصر بحثها رأى إسقاط معظمها، فأسقط شرط تجرد الفعل الثلاثي أخذًا برأي سيبويه والأخفش، وأسقط شرط البناء للمعلوم عند أمن اللبس، وتخفف من شرط كون الفعل تامًّا أخذًا بقول الكوفيين وتخفف من شرط ألا يكون الوصف منه على أفعل فعلاء أخذًا برأي الكوفيين وهشام والأخفش وتخفف من شرط عدم الاستغناء عنه بمصوع من مرادفه، لأن من النحاة من تركه، وأن من ذكره لم يورد إلا مثالًا واحدًا. "انظر ص 121 من كتاب أصول اللغة- وفي الصفحات التالية لها أبحاث شائقة اشترك فيها كثير من أعضاء المجمع حول هذه الشروط". 2 عبد الحميد حسن: القواعد النحوية، ص 207، 208، 217، من أسرار اللغة، ص 28 - 30، المدخل إلى دراسة النحو، ص 49 - 52.

وخطب وأمثال وحكم ورسائل ووصايا ونحو ذلك. وأما الثانية فتضم إلى هذا ما نقل عن العرب أو الأعراب من كلام عادي، وما ينسب إلى كل قبيلة أو منطقة من خصائص تعبيرية معينة، وما سجل من قراءات قرآنية. 2- نظرية العامل التي بالغ النحاة فيها، وفلسفوها، حتى ألفوا كتبًا تجمع قواعد النحو بعنوان العوامل. فألف أبو علي الفارسي كتاب العوامل ومختصره، وألف عبد القاهر الجرجاني العوامل المائة، ودونوا للعوامل شروطًا وأحكامًا هي عندهم فلسفة النحو وسر العربية فقالوا: لا يجتمع عاملان على معمول واحد "ذاكر ونجح محمد". الحرف لا يعمل في نوع من الكلمات حتى يكون مختصًّا به "النصب بأن مضمرة بعد فاء السببية". لا يعمل في الاسم وضميره معًا "محمدًا ضربته". إلى آخر ما هو مذكور في كتبهم. ولما تكونت للنحاة هذه الفلسفة حكموها في اللغة وجعلوها ميزان ما بينهم من جدل، بل تجاوزوا ذلك إلى تفضيل لهجات من العرب على أخرى بأصول فلسفتهم هذه، بل تجاوزوا ذلك إلى رفض بعض الأساليب العربية المنقولة. وقد كان النحاة -في سبيلهم هذه- متأثرين بروح الفلسفة التي كانت شائعة بين المتأخرين منهم، فهم يعللون منعهم اجتماع عاملين على معمول واحد بقولهم: "إذا اتفق العاملان في العمل لزم تحصيل الحاصل وهو محال، وإن اختلفا لزم أن يكون الاسم مرفوعًا منصوبًا مثلًا، ولا يجتمع الضدان في محل"1.

_ 1 إحياء النحو، ص 31، 32.

3- الإفراط في التأويل والتقدير، وحمل الأساليب العربية على غير ظاهرها. وقد سبق أن ضربنا مثالًا لذلك تقدير "أن" مضمرة بعد الفاء ونصب الفعل "بأن" هذه ثم اعتبار الفاء حرف عطف، عطفت المصدر المؤول من أن المقدرة ومدخولها على المصدر المتصيد من اللام السابق! وتقدير نحو: "ذاكر فتنجح"، لتكن منك مذاكرة فنجاح!! ولا أدري ماذا منع العربي أن يقول هذا إن كان هو مراده؟. وقد بدأت مثل هذه التأويلات من اللحظة الأولى لوضع النحو، فالتأويل السابق هو من عمل الخليل -سامحه الله- وقد نتج بذلك بابًا أمام النحاة يصعب قفله الآن. ومن تأويلاتهم العجيبة ما يقوله المبرد في إعراب قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} . يقول المبرد إن فاعل "بدا" مصدر مقدر، وتأويل الآية: ثم بدا لهم بدو. ولكن حذف بدو من الكلام لأن "بدا" تدل عليه. ولا معنى لكل هذا الكلام لأن "ليسجننه" جملة في موضع الفاعل - على حد تعبير ابن ولاد. ويستمر ابن ولاد قائلًا: "وأما قوله: إنه يضمر فيه البدو، فإنما نضمر إذا كان الكلام محتاجًا إلى الإضمار ناقصًا عن التمام. فأما إذا كان الكلام تامًّا مفيدًا، فلا حاجة بنا إلى الإضمار"1. 4- استخدام العلل الثواني والثوالث في النحو، ذلك مثل سؤالهم عن زيد من قولنا: قام زيد: لم رفع، وإجابتهم: لأنه فاعل وكل فاعل مرفوع، ثم سؤالهم: ولم رفع الفاعل؟ وإجابتهم للفرق بين الفاعل والمفعول، ثم سؤالهم: ولِم لم تعكس القضية فينصب الفاعل ويرفع المفعول، وإجابتهم بأن السبب أن الفاعل قليل، لأنه لا يكون للفعل إلا فاعل واحد، فأعطى الأثقل الذي هو الرفع للفاعل، وأعطى الأخف الذي هو النصب للمفعول ليقل في كلامهم ما يستثقلون2!! ولا أدري بماذا يجيبون لو سألتهم: ولكن لكل فعل فاعل، وليس لكل فعل

_ 1 الانتصار لسيبويه من المبرد، ص 212- 213. 2 الرد على النحاة لابن مضاء.

مفعول، فمن الأفعال ما هو لازم، ومنها ما يحذف مفعوله فعدد الفاعلين قد يكون أكثر من عدد المفعولين. وتعليلات الخليل وسيبويه كثيرة كثرة لافتة للنظر، فهما -في نظرنا- المسئولان الأولان عن فتح هذا الباب، وسنّ هذه السنة. وخذ مثالًا آخر من تعليلاتهم التي حكموها حتى في القراءات القرآنية، يقول سيبويه: إنه لا يجوز العطف على المضمر المجرور إلا بإعادة الخافض فلا يجوز مررت به ومحمد، بل لا بد من أن يقال: مررت به وبمحمد "برغم قراءة حمزة وهو من السبعة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . وعلل ذلك بأن الضمير شبيه بالتنوين. لذلك لا يجوز العطف عليه حتى لو أكد. فلا يجوز مررت به هو ومحمد1!! ويحكم سيبويه بأن الفعل ثقيل والاسم خفيف ويعلل ذلك بقوله: "ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم وإلا لم يكن كلامها، والاسم قد يستغني عن الفعل تقول: الله إلهنا، وعبد الله أخونا"2. وقد بلغ من شدة اهتمام النحاة بهذا النوع من البحوث أن ألف فيه بعضهم كتبًا مستقلة، مثل قطرب "توفي 206" الذي ألف "العلل في النحو" والمازني "توفي 230 أو 248" الذي ألف "علل النحو"3. 5- استخدام النحويين أنواعًا من الأقيسة النظرية التي لا تعتمد على شاهد من كلام العرب، كمنعهم تقدم الفاعل على فعله وإعرابهم الجملة: "محمد قام" على أنها مكونة من مبتدأ ثم جملة فعلية مكونة من الفعل وفاعله المستتر، وأخيرًا يعربون الجملة الفعلية خبرًا لهذا المبتدأ. ولم يكتفوا بذلك، بل فلسفوا القياس، وبحثوا عن أركانه ثم حاولوا أن يحددوا شرائط القياس النحوي4. وظهر سلطان العلوم الدينية على التفكير النحوي حتى اعترف النحاة بأنهم احتذوا في أصولهم أصول

_ 1 شوقي ضيف: المدارس النحوية، ص 51. 2 الدكتور مازن المبارك: النحو العربي، ص62، 69. 3 المرجع السابق. 4 راجع: في أصول النحو للأفغاني، ص 108 وما بعدها.

الفقه عند الحنفية خاصة. ونجد كمال الدين بن الأنباري من أهل المائة السادسة يضع كتابه "لمع الأدلة" ليكون للنحو بمثابة "علم الأصول" للفقه، عقد فيه فصولًا عدة للقياس وأنواعه كما كان فعل علماء الفقه وأصوله1. وأخذ النحاة يتنافسون في هذه الأقيسة النظرية والافتراضات غير الواقعية، وممن تمادوا فيها الرماني المولود سنة 2276 هـ، وفيه يقول الفارسي: "إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله نحن فليس معه منه شيء"2. وبلغ من اعتداد النحويين بالقياس أن قال ابن الأنباري: "إن إنكار القياس في النحو لا يتحقق، لأن النحو كله قياس ... فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو"3. ونحن لا نستطيع -ولا غيرنا- أن نطالب بإغلاق القياس أو الحد منه وإنما نطالب بإلغاء ما ليس قياسًا حقيقة. لقد قسم اللغويون القياس إلى: أ- حمل كلمة على نظائرها في حكم ثبت لها باستقراء كلام العرب. ب- إعطاء كلمة حكمًا ثبت لغيرها من الكلم المخالف لها في نوعها، ولكن توجد بينهما مشابهة من بعض الوجوه كترخيم المركب المزجي قياسًا على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث. جـ- القياس النظرى الذي لا يعتمد على شاهد من كلام العرب كقول بعضهم: "ولا أمنع أن يجيء الفعل على فَعْلَنَ وإن كان المتقدمون لم يذكروه. لأن الاسم إذا جاء على ذلك وجب أن يجيء عليه الفعل إذ كان الاسم أصلًا والفعل متفرع عنه. وقد قالوا: ناقة رعشن.. وامرأة خلبن". د- أطلقوه كذلك على نوع من التعليل المنطقي كقولهم: إن الفعل

_ 1 المرجع نفسه، ص 100، 101. 2 نشأة النحو، ص 173. 3 الاقتراح، ص 46.

المضارع أعرب لشبهه بالاسم أو قياسًا على الاسم، وما ادعوه في باب الممنوع من الصرف من أن الاسم يمنع من الصرف حملًا على الفعل أو قياسًا على الفعل1. وليس منها ما يعد قياسًا لغويًّا على وجه الحقيقة سوى النوع الأول الذي نتمسك به ونبقيه لأن النحو -كما يقول ابن الأنباري- قياس، ومن أنكر القياس فقد أنكر النحو. أما الأنواع الأخرى فلا يضر إلغاؤها. 6- تناولهم أمورًا لا علاقة لها بالنحو، ولا فائدة تؤدي إليها، لأنها لا تفيد نطقًا ولا تعصم لسانًا ولا تمنع خطأ. وذلك مثل اختلافهم في الناصب بعد الفاء والواو أهو هذه الأدوات نفسها؟ أم "أن" مضمرة؟ أم أن الفعل منصوب على الخلاف؟ ومثل خلافهم في رافع المبتدأ والخبر، فقيل: إن المبتدأ يرتفع بالابتداء والخبر بالابتداء كذلك أو الابتداء والمبتدأ معًا، وقيل: إن المبتدأ والخبر يترافعان فيرفع المبتدأ الخبر والخبر والمبتدأ. وكذلك فخلافهم في رافع المضارع فقيل: هو التجرد من الناصب والجازم، وقيل: وقوعه موقع الاسم، وقيل: المضارعة، وقيل: حروف المضارعة2. ومن ذلك أيضًا تناولهم لمسائل غير عملية بل عقدهم أبوابًا كاملة غير عملية مثل أبواب الاشتغال والتنازع ... وتفريعهم للمسائل وتشقيقها. ولنأخذ باب الاشتغال على سبيل المثال. فقد اضطرب النحاة في صور تعبيره اضطرابًا شديدًا، وقسموا صوره إلى ما يجب رفعه، وما يجب نصبه وما يترجح فيه الرفع أو النصب، وما يجوز فيه الأمران، وتبحث في كلام العرب عن أمثلة أو شواهد لكل هذا الذي قالوه، فلا تجد لمعظمه وجهًا، بل لا تجد له ذكرًا.

_ 1 انظر: الخضر حسين: القياس في اللغة، ص 25، 27، وشرح الحماسة لأبي العلاء المعري، ص 263. 2 راجع: الإنصاف 1/ 31، الكافية 1/ 19، 2/ 224، الأشموني 2/ 299 - 300، 281 - 282.

ومن ذلك المسائل الافتراضية التي عالجها النحاة، والتمارين غير العملية التي فتح الخليل وسيبويه بابها على مصاريعه -على حد تعبير الدكتور شوقي ضيف- ومن ذلك ما ذكره سيبويه من أنه سأل الخليل عن رجل سمي "أولو" من قوله عز وجل: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّة} أو سمي "ذوو" من قولهم: ذوو عزة، وكيف يجري إعرابهما بحسب مواقع الكلام، وكذلك سؤال سيبويه أستاذه عن رجل يسمى "يرمي" أو "أرمي"1. ومن ذلك قول سيبويه: "وإن سميت رجلًا ضربوا فيمن قال: أكلوني البراغيث. قلت: هذا ضربون قد أقبل". ومن خير ما يصور ذلك عنده "باب ما قيس من المعتل من بنات الياء والواو ولم يجئ في الكلام إلا نظيره من غير المعتل"، ويأخذ في عرض ذلك عرضًا يطول حتى يشغل أكثر من أربع صفحات طويلة. وكلها في صيغ من بنات أفكاره يحاول أن يقيسها على صيغ معروفة2. ومن أمثلة ذلك في كلام المبرد قوله: "فإذا قال لك: ابن من ضرب مثل جعفر فقد قال لك: رد على هذه الحروف الثلاثة حرفًا. فحق هذا أن تكرر لامه فتقول: ضربب، ولو قال لك: ابن لي من ضرب على مثال صمحمح لقلت: ضربرب3. ومثل هذا نجده في قوله: "ولو قلت: افعوعل من القول لقلت لقوول ومن البيع ابييع وكان أصلها أبيويع"4. وقد ضاق طلاب النحو من قديم بطريقة النحاة هذه، وظهرت دعوات متعددة على طول تاريخ النحو العربي، منها ما يدعو إلى تهذيب النحو، وإصلاحه، ومنها ما يدعو إلى تركه والتخلي عنه بالكلية، ومنها ما كان يعبر عن سخط وضجر. كما ظهرت محاولات عملية لتأليف النحو تأليفًا تعليميًّا سهلًا يطرح الخلافات ويتخلص من الأبواب غير العملية والمسائل التدريبية. وانتهز الشعوبية فرصة الضجر من النحو والنحاة.

_ 1 المدارس النحوية، ص 55 - 56. 2 نفس المرجع، ص 91، 92. 3 المقتضب "مخطوط"، ص 37. 4 المرجع نفسه ص 119، وانظر ص 120، 128.

فأخذوا يصيدون في الماء العكر، وينقصون من قدر هذه الدراسة ويتلمسون الأدلة والأسباب لنقولاتهم. ويحكي لنا أبو جعفر النحاس "من نحاة القرن الرابع بمصر" طرفًا من هذه القضية في كتاب له بعنوان "صناعة الكتاب" لم يصلنا، ولكن اقتبسه القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى". ونص عبارته: "قال أبو جعفر النحاس: وقد صار أكثر الناس يطعن على متعلمي العربية جهلًا وتعديًا حتى إنهم يحتجون بما يزعمون أن القاسم بن مخيمرة قال: "النحو أوله شغل وآخره بغي". قال: وهذا كلام لا معنى له لأن أول الفقه شغل وأول الحسساب شغل، وكذلك أوائل العلوم. أفترى الناس تاركين العلوم من أجل أن أولها شغل؟ قال: وأما قوله: "وآخره بغي" إن كان يريد به أن صاحب النحو إذا حذقه صار فيه زهو واستحقر من يلحن فهذا موجود في غيره من العلوم، من الفقه وغيره في بعض الناس وإن كان مكروهًا. وإن كان يريد بالبغي التجاوز فيما لا يحل، فهذا كلام محال، فإن النحو إنما هو العلم باللغة التي نزل بها القرآن، وهي لغة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكلام أهل الجنة وكلام أهل السماء. ثم قال بعد كلام طويل: وقد كان الكتاب فيما مضى أرغب الناس في علم النحو، وأكثرهم تعظيمًا للعلماء حتى دخل فيهم من لا يستحق هذا الاسم فصعب عليه باب العدد فعابوا من أعرب الحساب وبعدت عليهم معرفة الهمزة التي ينضم ويفتح ما قبلها"1. وقد ظهر ضيق الناس بالنحو حتى قبل استفحال أمر الشعوبية، وحتى من طلاب النحو المتفرغين. فالجاحظ يقول في حيوانه: "قلت لأبي الحسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنحو، فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها، ولا نفهم أكثرها؟ وما بالك تقدم بعض العويص، وتؤخر بعض المفهوم؟ قال: أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين. ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلّت حاجاتهم إلي فيه. وإنما قد كسبت في هذا التدبير، إذ كنت إلى التكسب ذهبت"2. ويروي عن دماذ صاحب أبي عبيدة

_ 1 صبح الأعشى 1/ 171. 2 الحيوان 1/ 91، 92.

أنه قرأ من النحو إلى بابي الفاء والواو، فلما استمع إلى قول الخليل وأصحابه أن ما بعدهما ينتصب بأن مضمرة وجوبًا نبا فهمه عن ذلك وكتب إلى المازني يشكو إليه ما لقيه من عنت في أبيات ختمها بقوله: لقد كدت يا بكر من طول ما ... أفكر في بابه أن أجن1 وأخذ رد الفعل الإيجابي لهذا الضجر شكلين منتجين: أحدهما: الكتب الميسرة التي تلبي حاجة الطلاب والمتعلمين. ونكتفي بضرب المثلين الآتيين: أ- "مقدمة في النحو" تأليف خلف الأحمر البصري المتوفي سنة 180 هـ. وقد استهل المؤلف كتابه قائلًا: "لما رأيت النحويين وأصحاب العربية أجمعين قد استعملوا التطويل وكثيرة العلل، وأغفلوا ما يحتاج إليه المتعلم المتبلغ في النحو من المختصر ... والمأخذ الذي يخف على المبتدئ حفظه ويحيط به فهمه، فأمعنت النطر والفكر في كتاب أؤلفه، وأجمع فيه الأصول والأدوات والعوامل على أصول المبتدئين ليستغنى به المتعلم عن التطويل، فعملت هذه الأوراق، ولم أدع فيها أصلًا. ولاأداة، ولا حجة، ولا دلالة إلا أمليتها فيها. فمن قرأها وحفظها وناظر عليها علم أصول النحو كله". ومن عناوين هذا الكتاب وأبحاثه: - باب الحروف التي ترفع كل اسم بعدها. وهي: إنما وكأنما وهل وبل وهو وأين ... - باب الحروف التي تنصب كل شيء أتى بعدها. وهي رأيت وظننت وحسبت ووجدت ...

_ 1 السيرافي: أخبار النحويين البصريين، ص 77، 78.

- باب الحروف التي تخفض ما بعدها من اسم وأخبارها مرفوعة، ويقال لها: حروف الصفات وهي: من وإلى وعن وعلى وتحت ودون ووراء ... وكل وبعض وغير ... وأطيب وأكتب وأفرس وأشجع ... 1. ب- "التفاحة في النحو" لأبي جعفر النحاس المتوفي سنة 338 هـ2 والكتاب يتناول موضوعات النحو وحدها "ولا يتناول أي موضوعات صرفية"، ويحتوي على واحد وثلاثين فصلًا منها: باب أقسام العربية - باب الإعراب - باب رفع الاثنين- باب أقسام الفعل- باب الفاعل والمفعول به - باب الابتداء - باب حروف الخفض- باب الحروف التي تنصب الأسماء وترفع الأخبار - باب الحروف التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار- باب الحروف التي تنصب الأفعال المستقبلة. والكتاب صغير الحجم جدًّا إذ يقع في ثماني ورقات من مخطوطة المكتبة المتوكلية بصنعاء، ولكنه مفيد جدًّا لأنه يحوي جميع مبادئ النحو وقواعده الرئيسية. وقد ساعده على الاختصار طرحه الخلافات النحوية، واعتماده على اللغة الأدبية المشتركة وترك الخلافات اللهجية، وحذفه الشواهد وأسماء النحاة، واستبعاده المناقشات المنطقية والفلسفية. وقد خلا الكتاب -إلى جانب ذلك- من الأبواب غير العملية مثل باب الاشتغال، وباب التنازع، بل تجاهل صيغة "أفعل به" في التعجب وذلك لعدم اشتهارها. وقد اتبع المؤلف المنهج الوصفي في تقعيد القواعد، ومن أجل ذلك عد في باب حروف الخفض كثيرا من الكلمات التي يعتبرها النحو التقليدي

_ 1 مقدمة في النحو - أماكن متفرقة. 2 ينسب الكتاب خطأ إلى الخليل بن الخليل بن أحمد، انظر فهرست المخطوطات لفؤاد سيد 1/ 71.

ظروفها، مثل أسفل وخلف وقدام ووراء وفوق وتحت ووسط وبين. والسر في ذلك أنه نظر إلى وظيفة الكلمات في الجملة فوجدها لا تختلف في "على" عنها في "فوق" مثلًا. فلماذا لا يجعلها كلها في فصل واحد؟ وأي فرق -في الحقيقة- بين قولنا: الكوب على المائدة، والكوب فوق المائدة حتى نعد الأول من قبيل حرف الجر والمجرور، والثاني من قبيل الظرف والمضاف إليه؟. وواضح من عنوان الكتاب، ومن طريقته في تناول المسائل أنه وضع ككتاب مدرسي يلبي حاجة طلاب العربية ودارسي النحو المتعجلين. ولذلك فللكتاب قيمة كبيرة من الناحية التعليمية. والآخر: تقديم المقترحات لإصلاح النحو أو تيسيره، ونقد النحو ومناهج النحاة. ومن أقدم من تصدى لذلك: 1- أبو العباس أحمد بن محمد بن ولاد المصري "القرن الرابع". 2- أبو العلاء المعري الشاعر المعروف "القرن الخامس". 3 ابن حزم الأندلسي "القرن الخامس". 4- ابن مضاء الأندلسي "القرن السادس" أما ابن ولاد فهوأقدم الأربعة، وقد نادى بالمبادئ الآتية: أ- لا يصح الطعن على العربي أو رميه باللحن أو الخطأ أو تقديم القياس النظري على المادة اللغوية المسموعة. وفي هذا يقول ردًّا على المبرد: "إن كانت التخطئة لمن قال ذلك من العرب، فهذا رجل يجعل كلامه في النحو أصلًا، وكلام العرب فرعًا، فاستجاز أن يخطئها إن تكلمت بفرع يخالف أصله"، ويقول: "الذي للغوي أن يفعله أن يمثل ويعتل لما جاء عن العرب؛ فأما أن يرده فليس ذلك له".

"ب" أنه يجبه الوقوف عند المادة اللغوية المسموعة، ولا يجوز تصحيح ما لم يرد عن العرب بمقتضى القياس النظري فهناك من الأساليب والكلمات ما يصح في القياس ولكنه لم يسمع، فيجب أن نقف عند ما قالته العرب ولا نغيره. يقول ابن ولاد: "لا ينظر إلى القياس فقط دون ما تتكلم به العرب. فإن العرب يمتنعون من التكلم بالشيء وإن كان القياس يوجبه، ويتكلمون بالشيء وإن كان القياس يمنعه". ويقول: "سبيل النحويين اتباع كلام العرب إذ كانوا يقصدون إلى التكلم بلغتهم. فأما أن يعملوا قياسًا -وإن حسن- يؤدي إلى غير لغتها فليس ذلك لهم، وهو غير ما بنوا عليه صناعتهم". "جـ" كذلك هاجم ابن ولاد التأويل والتقدير في النحو، وادعاء الحذف والإضمار، وقد سبق أن مثلنا لذلك بإعراب قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} 1. وأما أبو العلاء المعري فتتمثل دعوته إلى الإصلاح في ثورته العارمة على مبدأ التأويل والتقدير. ولم يكن هناك ما يغيظه أكثر مما كان يقرؤه ويسمعه من تأويلات النحاة، وتكلفاتهم، وتخريجهم بعض الأبيات على غير حقيقتها للاستشهاد بها على آرائهم الخاصة. وكثير من نقده ينصب على هذا الجانب من نحو النحاة.. وقد سدد المعري معظم سهامه إلى نحاة البصرة الذين أكثروا من التأويل والتقدير، وتعسفوا غاية التعسف في تخريج كثير من الشواهد لتستقيم من أصول مذهبهم. وقد امتلأت مؤلفات المعري بأمثله لذلك ولكننا سنكتفي بعرض نماذج منها: "أ" يمنع سيبويه وكثير من النحويين أن يلي كان معمول الخبر، وهم يؤولون ما ورد كذلك ويقدرون ما يستغنى الكلام عنه، كما قالوه في قول الشاعر:

_ 1 انظر أيضًا مقالنا عن كتابه "الانتصار" في مجلة كلية المعلمين، الجامعة الليبية، العدد الأول.

قنافذ دراجون حول خبائهم ... بما كان إياهم عطية عودا فيقدرون ضمير الشأن في "كان" محله الرفع على أنه أسمها. ويعربون "عطية" مبتدأ، وجملة "عود" خبره، و"إياهم" منصوبة بـ"عود" وجملة المبتدأ وخبره خبر "كان". أو يعربون "ما" موصولة واسم "كان" ضميرًا مستقرًّا يرجع إلى "ما" و"عطية"، مبتدأ "وعود" خبره "وإياهم" مفعولًا مقدمًا والعائد محذوف ... إلى آخر ما قالوه في توجيه البيت. ولكن المعري بذوقه العربي يرفض هذه الأعاريب قائلًا: والأشبه بمذاهب العرب أن يكون عطية مرفوعًا بـ "كان" "وإياهم" منصوبًا بـ "عود"1. ب- وأبدع خيال المعري مشهدًا لطيفًا، وقف فيه أبا علي الفارسي في الجنة موقف المتهم: "وكنت رأيت في المحضر شيخًا لنا كان يدرس النحو في الدار العاجلة يعرف بأبي على الفارسي، وقد امترس به قوم يطالبونه ويقولون: تأولت علينا وظلمتنا. ومنهم يزيد بن الحكم الكلابي وهو يقول: ويحك! أنشدت عني هذا البيت برفع الماء، يعني قوله: فليت كفافًا كان شرك كله ... وخيرك عني ما ارتوى الماء مرتوي ولم أقل إلا الماء بالنصب. وكذلك زعمت ... وإذا رجل آخر يقول: ادعيت علي أن الهاء راجعة إلى الدرس في قولي: هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب أفمجنون أنا حتى أعتقد ذلك ... "2. وأما ابن حزم الأندلسي فقد هاجم علل النحو ورأى أنها "كلها فاسدة لا يرجع منها شيء إلى الحقيقة ألبتة. وإنما الحق من ذلك أن

_ 1 عبث الوليد، ص 80. 2 رسالة الغفران، ص 152 - 154.

هذا سمع من أهل اللغة الذين يرجع إليهم في ضبطها، وما عدا هذا فهو -مع أنه تحكم فاسد متناقض- فهو أيضًا كذب؛ لأن قولهم: كان الأصل كذا فاستثقل فنقل إلى كذا ... شيء يعلم كل ذي حسن أنه كذب لم يكن قط، ولا كانت العرب عليه مدة ثم انتقلت إلى ما سمع منها بعد ذلك"1. كما كان من رأيه أن التعمق في بحث مسائل النحو إفساد وأنه يجزئ في النحو كتاب "الواضح" للزبيدي أو "الموجز" لابن السراج. أما "التعمق في علم النحو ففضول لا منفعة بها. بل هي مشغلة عن الأوكد ومقطعة دون الأوجب والأهم، وإنما هي "تكاذيب"2. وأما ابن مضاء القرطبي فقد ألف كتابًا في شرح آرائه الهجومية أسماه "الرد على النحاة"، وقد قام الأستاذ الدكتور شوقي ضيف بتحقيقه وكتابة مقدمة وافية له يجب الرجوع إليها لمن يريد أن يعرف منهج ابن مضاء في نقد النحو والنحاة. وكانت غاية ابن مضاء أن يحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه، وأن ينبه على ما اجتمعوا على الخطأ فيه. وتتحقق هذه الغاية في رأيه بإلغاء نظرية العامل، وإلغاء العلل الثواني والثوالث، وإبطال القياس، وترك المسائل النظرية، وإسقاط كل ما لا يفيد في النطق3. قيمة الدراسات النحوية عند العرب: على الرغم مما شاب النحو العربي من شوائب، وما وجه إليه من نقد، فلا أحد يستطيع أن ينكر قيمة النحو العربي، ومقدرة النحاة الفائقة التي تصل أحيانًا إلى حد الإعجاز، يقول الأستاذ عباس حسن. "أينا لا تنهره تلك العناية المعجزة التي بذلها الأولون في جمع أصول

_ 1 نظرات في اللغة عند ابن حزم الأندلسي، ص 44 - 46. 2 نفس المرجع السابق. 3 النحو العربي للدكتور مازن المبارك، ص 153. وقد نبه المؤلف إلى بعض الأفكار التي نادى بها ابن مضاء ولها نظير عند السابقين. وانظر بحثنا: دعوات الإصلاح للنحو العربي قبل ابن مضاء.

اللغة، ولَمّ شتاتها واستنباط أحكامها العامة والفرعية وحياطتها بسياج من اليقظة الواعية والحيطة الوافية"1. بل إن ابن مضاء -برغم عدائه الشديد للنحاة- يقول: "وإني رأيت النحويين ... قد وضعوا صناعة النحو لحفظ كلام العرب من اللحن ... فبلغوا من ذلك الغاية التي أموا"2. وهذا ما دعا أحد المستشرقين إلى قوله: "إن علم النحو أثر من آثار العقل العربي، لما فيه من دقة في الملاحظة ونشاط في جمع ما تفرق. وهو لهذا يحمل المتأمل فيه على تقديره، ويحق للعرب أن يفخروا به"3. وحمل يوهان فك على أن يقول: "ولقد تكفلت القواعد التي وضعها النحاة العرب -في جهد لا يعرف الكلل، وتضحية جديرة بالإعجاب- بعرض اللغة الفصحى وتصويرها في جميع مظاهرها ... حتى بلغت كتب القواعد الأساسية عندهم مستوى من الكمال لا يسمح بزيادة لمستزيد"4 ويقول فيشر في مقدمة معجمة: "إذا استثنينا الصين لا يوجد شعب آخر يحق له الفخار بوفرة كتب علوم لغته، وبشعوره المبكر بحاجته إلى تضيق مفرداتها حسب أصول وقواعد غير العرب"5.

_ 1 رأي في بعض الأصول اللغوية والنحوية، ص 1. 2 الرد على النحاة ص 80. 3 مجلة الأزهر، رمضان سنة 1391هـ، ص 40. 4 العربية، ص 2. 5 المعجم اللغوي التاريخي، ص 4.

الفصل الرابع: المعجم

الفصل الرابع: المعجم 1- مقدمات للموضوع: صعوبة العمل المعجمي: يعد العمل المعجمي من أصعب مجالات النشاط لعلم اللغة. فهو أولًا يتطلب مواصفات خاصة في صانعه يندر توافرها الآن، وهو ثانيًا يتطلب دقة وصبرًا متناهيين ولذا يقول Gleason: "إن عمل المعاجم عمل مضجر إلى أقصى حد. إنه الدقة ... إنه عبء عظيم لا يمكن تصديقه". وإلى جانب هذا وذاك؛ فإن العمل المعجي يستلزم معرفة كل شيء عن اللغة المعنية، والخصائص الملائمة لوحداتها المعجمية، والنظام العام للغة، كما يستلزم تكوين صورة واضحة عن مستعمل المعجم وهدفه وتفكيره. وبالإضافة إلى هذه الصعوبات فهناك صعوبتان أخريان هما: 1- أن المعجمي يعالج ظاهرة مفتوحة لا تستقر على حال. ولذا فإن أي محاولة لحصر كلمات أي لغة حية تعد مطلبًا عزيز المنال إن لم يكن مستحيلًا، ويظل المعجمي في حالة تساؤل دائم عن مدى تحقيق معجمه للشمول ومقدار قربه أو بعده من الجمع الكامل لمادة اللغة. 2- أن المعنى هو المحل الأول لاهتمام المعجمي، وهو يمثل صعوبة في حد ذاته بل عده بعضهم واحدًا من أصعب حقول الدراسة1.

_ 1 Manual of Lexicography ص 15 - 23.

تعريف المعجم: عرّف اللغويون المعجم بأنه "كتاب يضم بين دفتيه مفردات لغة ما ومعانيها واستعمالاتها في التراكيب المختلفة، وكيفية نطقها، وكتابتها، مع ترتيب هذه المفردات بصورة من صور الترتيب التي غالبًا ما تكون الترتيب الهجائي". وعرفه المعجم الوسيط بأنه "ديوان لمفردات اللغة مرتب على حروف المعجم". المعجم اللغوي والموسوعة: يتمثل الفرق بين المعجم اللغوي والموسوعة في اختلافات ثلاثة: أولها: أن الموسوعة معجم ضخم يشغل مجلدات كثيرة في حين أن المعجم اللغوي يتفاوت حجمه تبعًا للغاية المنشودة ولنوعية مستعمله. وثانيها: أن المعجم اللغوي لا يهتم كثيرًا بالمواد غير اللغوية، وإذا ذكرها فبصورة مختصرة جدًّا لأنه يترك تفصيلاتها للموسوعات. ومن أمثلة المواد غير اللغوية التي لا يهتم بها المعجم أسماء الأعلام، والأسماء الجغرافية مثل الأقطار والمدن والأنهاروالجبال والبحار والمحيطات.. والأحداث والعصور التاريخية، والتنظيمات الحكومية وغير الحكومية، والمؤسسات العلمية وغيرها. وثالث الاختلافات: أن المعجم اللغوي يهتم بالوحدات المعجمية للغة وبالمعلومات اللغوية الخاصة بها في حين أن الموسوعة إلى جانب اهتمامها بالمعاني الأساسية للوحدات المعجمية تعطي معلومات عن العالم الخارجي غير اللغوي، فالمعجم اللغوي يشرح الكلمات، أما الموسوعة فنشرح الأشياء. ولو أخذنا كلمة Bridge أو جسر على سبيل المثال ونظرنا إليها في عملين معجميين أحدهما لغوي ويمثله معجم أكفسورد الإنجليزي، والآخر موسوعي ويمثله دائرة المعارف البريطانية لتبين. الفرق بين العملين في علاج المادة.

فمعجم أكسفود يذكر معناه وهو: طريق مرتفع فوق نهر أو واد.. إلخ أو ممر يصل نقطتين مرتفعتين عن سطح الأرض. كما يتحدث عن اختلافات أشكال الجسور ومواد بنائها، ويقتبس بعض الأمثلة من عصور مختلفة. في حين أن دائرة المعارف البريطانية بعد أن عرفت الجسر أردفت التعريف بمعلومات تتناول أشكال الجسور وتعدد نماذجها "جسور ثابتة - جسور متحركة ... إلخ" كما تتناول إنشاء الجسور من ناحية تاريخية، وتذكر أسماء الجسور المشهورة بنماذجها، ومواد بناء الجسور، وتصميم الجسور، بالإضافة إلى بعض الجداول والرسوم. ولكن لأن الكلمات لا تظهر معانيها إلا بالنظر إلى الأشياء التي تدل عليها؛ فإنه من غير الممكن تأليف معجم دون الإشارة إلى الأشياء الخارجية، ودون ربط الكلمات بالموجودات التي تدل عليها. أنواع المعاجم: عادة ما تطلق كلمة "معجم" على المعاجم الشاملة أحادية اللغة، أي التي تتطابق فيها لغة المدخل مع لغة الشرح. ولكن الكلمة قد تطلق كذلك على ما يسمى بالمعاجم الخاصة ذات المجال المحدود فيقال: معجم مصلحات - معجم مترادفات - معجم ألفاظ القرآن الكريم.. إلخ كما تطلق علي المعاجم ثنائية "أو متعددة" اللغة، وهي المعاجم التي تختلف فيها لغة الشرح عن لغة المدخل، وتهتم بتقديم المعلومات عن اللغة المشروحة أكثر مما تهتم باللغة الشارحة ... معنى كلمة معجم واشتقاقها: تفيد مادة "عجم" في اللغة معنى الإبهام والغموض، ففي اللسان: "الأعجم الذي لا يفصح ولا يبين كلامه"، وفيه "ورجل أعجمى وأعجم إذا كان في لسانه عجمة"، وفيه "سميت البهيمة عجماء لأنها

لا تتكلم". وسمى العرب بلاد فارس بلاد العجم؛ لأن لغتها لم تكن واضحة ولا مفهومة عندهم. فإذا أدخلنا الهمزة على الفعل "عجم" ليصير "أعجم" اكتسب الفعل معنى جديدًا من معنى الهمزة "أو الصيغة" الذي يفيد هنا السلب والنفي والإزالة. ففي اللغة أشكيت فلانًا: أزلت شكايته، وفيها: أقذيت عين الصبي: أزلت ما بها من قذى. ومثلهما "قسط" و"أقسط" حيث تفيد الأولى "ظلم" والثانية "عدل" "أو أزال الظلم". ولهذا ذم الله القاسطين: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} ومدح المقسطين: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} . وعلى هذا يصير معنى أعجم: "أزال العجمة أو الغموض أو الإبهام. ومن هنا أطلق على نقط الحروف لفظ "الإعجام" لأنه يزيل ما يكتنفها من غموض. فمثلًا حرف "ب" يحتمل أن يقرأ ب أو ت أو ث.. فإذا وضعنا النقط أي: أعجمناه زال هذا الاحتمال وارتفع الغموض. ومن هنا أيضًا جاء لفظ "المعجم" بمعنى الكتاب الذي يجمع كلمات لغة ما ويشرحها ويوضح معناها ويرتبها بشكل معين. ويكون تسمية هذا النوع من الكتب معجمًا إما لأنه مرتب على حروف المعجم "الحروف الهجائية" وإما لأنه قد أزيل أي إبهام أو غموض منه، فهو معجم بمعنى مزال ما فيه من غموض وإبهام. وقد فهم من هذا أن لفظ "معجم" يُعد اسم مفعول من الفعل "أعجم" ويحتمل من ناحية أخرى أن يكون مصدرًا ميميًّا من نفس الفعل، ويكون معناه الإعجام أو إزالة العجمة والغموض. جمعها: تجمع كلمة "معجم" جمع مؤنث سالمًا على معجمات" وهذا محل اتفاق بين جميع اللغويين.

وهناك جمع آخر لهذا اللفظ وهو "معاجم" الذي يُعد جمع تكسير. وقد اختلف في صحة هذا الجمع، فالمتشددون يمنعونه قائلين: إن سيبويه قد نص على أنه لا يصح أن يجمع جمع تكسير كل ما بُدئ بميم زائدة من أسماء الفاعلين والمفعولين. وغير المتشددين يسمحون به بناء على وجود ألفاظ كثيرة من هذا القبيل جمعت جمع تكسير مثل محرم ومحارم، ومُرْسَل ومراسل، ومُجْسَد، ومجاسد، ومسند، ومساند، ومُصْعَب ومصاعب، ومهرع ومهارع1 وقد اتخذ مجمع اللغة العربية بالقاهرة مؤخرًا قرارًا بصحة هذا الجمع. شروط المعجم: هناك شرطان لا بد من توافرهما في أي كتاب يجمع مفردات اللغة ويشرحها. هذان الشرطان هما: أ- الشمول. ب- الترتيب. ويعد الشمول أمرًا نسبيًّا تتفاوت المعاجم في تحقيقه. أما الترتيب فلا بد من توفيره، وإلا فقد المعجم قيمته. وقد كان تعدد طرق الترتيب المعجمي عند العرب، وتفاوت هذه الطرق صعوبة وسهولة سببًا في موت معاجم وحياة أخرى، وخمول بعضها وشيوع أخرى. وظيفة المعجم: هناك مجموعة من الوظائف يجب أن يؤديها المعجم وهي: أ- شرح الكلمة وبيان معناها أو معانيها، إما في العصر الحديث فقط أو مع تتبع معناها أو معانيها عبر العصور.

_ 1 انظر كتابنا: من قضايا اللغة والنحو، ص 181 وما بعدها.

ب- بيان كيفية نطق الكلمة. جـ- بيان كيفية كتابة الكلمة. د- تحديد الوظيفة الصرفية للكلمة. هـ- بيان درجة اللفظ في الاستعمال، ومستواه في سلم التنوعات اللهجية. و تحديد مكان النبر في الكلمة. والنبر باختصار هو إعطاء بروز معين لأحد مقاطع الكلمة دون المقاطع الأخرى. ولما كان النبر في اللغة العربية الفصحى لا يؤدي انتقاله من مقطع إلى مقطع إلى تغيير المعنى، فإننا نجد المعجميين العرب يهملون بيان موقع النبر في الكلمة، وإن كنا نرى أن بيان موضعه ضروري لمن يريد تحقيق النطق العربي الفصيح، كما أنه ضروري بالنسبة لمن يريد أن يتعلم كيفية النطق الحديث للهجات العربية. أما المعاجم الأجنبية، وبخاصة مع اللغات التي يختلف فيها معنى الكلمة تبعًا لموقع النبر، فقد اهتمت ببيان موضع النبر عن طريقة علامة تضعها فوق المقطع المنبور. ومثال ذلك كلمة Import الإنجليزية فإذا وضعنا النبر على المقطع الأول كانت اسمًا، وإذا وضعناه على المقطع الثاني كانت فعلًا ومثلها كلمات: Presen, subject وغيرها1. وبالنسبة للهجات العربية المعاصرة فإنه لا بد لأي معجم لها أن يحدد موضع النبر في الكلمة لأنه يختلف من منطقة إلى منطقة. فمثلًا كلمة "كتب" تنطق في القاهرة بنبر الأول وفي منطقة الصعيد بنبر الثاني، وكلمة "مطر" تنطق في مصر بنبر الأول وفي ليبيا بسكون الميم وتشديد الراء ... وهكذا.

_ 1 انظر موضوع النبر في كتابنا "دراسة الصوت اللغوي".

الخطوات الإجرائية لإعداد المعجم: أصبح للمعجم الحديث مواصفات عالمية يجب توافرها في كل معجم، كما استقرت منهجيته في جملة من الإجراءات التي أهمها: أولًا: التقديم بين يدي المعجم بمقدمة تحدد منهجه، وطريقة ترتيبه، ووسائل ضبط الهجاء والنطق فيه، وكيفية تصنيفه المعاني والدلالات، ووسائل التعريف المتبعة، وشرح الرموز والعلامات والاختصارات المستعملة في المعجم. كما تشمل المقدمة عرضًا سريعًا لتاريخ اللغة وأنظمتها الصوتية والصرفية والدلالية ... ثانيا: السير في تأليف المعجم على الخطوات الآتية: أ- جمع المادة، ويتم عن طريق الاستخلاص من النصوص التي تقع في دائرة اهتمام المعجمي مع وضع كل مفرد في بطاقة. ولا يهم أن تكون المادة مكتوبة أو شفوية. ولكن ينبغي الحذر في تسجيل المادة الصحفية لأنها كثيرًا ما تسعمل تعبيرات متكررة في مناسبات خاصة، كما تستخدم مفردات إبداعية سريعة، ويندر أن تلتزم بمستوى لغوي معين. ولكن مسح النصوص الصحفية هام لأنها في أخبارها ومقالاتها الافتتاحية تحتوي على أحدث مادة معاصرة بالنسبة للموضوعات التي تعالجها. والنص الذي يجب اقتباسه في كل بطاقة لا بد أن يشتمل على جزء السياق اللغوي الذي يسمح باستنتاج المعنى الأساسي للكلمة، وبعض من ملامحها الدلالية، وخصائصها النحوية، إنه يجب أن يكون مختصرًا، ولكنه يجب كذلك أن يكون واضحًا. وقد يُستعان في جمع المادة بوسيلتين أخريين أولاهما ما يمكن أن يسمى بالدليل اللغوي Informant الذي يلجأ إليه في تمثيل اللغة كما ينطقها ويستعملها أبناؤها. وفي تكملة بعض الثغرات التي لم يملأها.

الجمع اللغوي. والأخرى استشارة المعاجم الأخرى في اللغة موضوع الدراسة. بل قد يحدث أحيانًا أن يكون أحد المعاجم هو الأساس لعمل المعجم الجديد. ب- الخطوة الثانية من عمل المعجمي اختيار المداخل أي الوحدات المعجمية التي سيتضمنها المعجم. ويؤثر في هذا الاختيار جملة من العوامل منها ما سبق اتخاذه من قرارات عن نموذج المعجم والهدف من تأليفه. ومنها حجم المعجم المقترح، فمعجم كبير أو متوسط لا يصح أن يهمل ذكر التنوعات العامية للغة. ومعجم كبير أو متوسط يجب أن يهتم بمصطلحات العلوم والفنون وأن يذكر منها ما يشيع في اللغة العامة. ومعجم كبير أو متوسط لا بد أن يعطي إشارات لأسماء الأماكن ذات الأهمية الخاصة، وأعلام الأشخاص إذا اشتهرت، أو حملت معنى عامًّا، أو كان لاشتقاقها أهمية خاصة. وأهم من هذا يأتي السؤال: ماذا يأخذ المعجمي من المادة وماذا يترك حتى بعد أن يحدد نموذج المعجم وهدفه وحجمه؟ فليس هناك عدد معين من المواد يمكن تحديده مسبقًا بالنسبة لأحجاج المعاجم الثلاثة: الصغير والمتوسط والكبير. وإن كان هناك أعداد تقريبية تطرح لكل نوع. فالصغير يبدأ من 120 ألف كلمة إلى 150 ألف كلمة، والمتوسط من نصف مليون كلمة إلى مليون "وقد احتوى المعجم الوسيط على مليون كلمة أو ثلاثين ألف مادة" والكبير في حدود ثلاثة ملايين كلمة. وقد يلجأ المعجمي في اختيار مداخله إلى نسب تردد الكلمات حين يتيسر له ذلك "كثير من اللغات يخلو من هذه النسب" وإن كان بعضهم يشكك في قيمة هذا العامل، ويرى عدم الاعتماد على الإحصاء في اختيار كلمات المداخل لأنه لا يوجد عد دقيق تحت أيدينا حتى الآن، ولأن أي

عد يعتمد على العينات لا على مسح المادة اللغوية، ولأن أي عد لم يتضمن حتى الآن تجمعات الكلمات. جـ- أما الخطوة الثالثة من عمل المعجمي فهي تأليف المداخل أو معالجة المادة من نواحيها المختلفة كالمعنى، والنطق، والهجاء، والاشتقاق، ودرجة الاستعمال. ويقع المعنى في بؤرة اهتمام المعجمي ومع ذلك فهو يمثل أكبر صعوبة تواجهه لصعوبة تحديده أولًا، ولاعتماد دقة تفسيره على جملة من القضايا الدلالية التي تتعلق بمناهج دراسة المعنى، وشروط التعريف، والتغير الدلالي، وتخصيص المعنى أو تعميمه، والمعاني المركزية والهامشية والإيحائية، وصعود المعنى أو هبوطه، والتلطف في المخاطبة أو البدائل الدلالية المهذبة، والاتساع المجازي، والترادف، والاشتراك اللفظي، وتعدد تطبيقات الاستعمال، وغيرها. ويلجأ المعجمي إلى طرق مختلفة لعرض المعنى أو تفسيره، فقد يلجأ إلى المرادف كأن يقول: الجود: الكرم، السبات: النوم. وقد يلجأ إلى ذكر المضاد كأن يفسر العدل بأنه ضد الظلم، أو الجهل بأنه ضد العلم، وقد يلجأ إلى الشرح في جملة أو عبارة. وهناك شروط حددها العلماء للتعريف الجيد الذي يعطي خصائص واضحة وشرحًا محددًا لمعنى الكلمة أو معانيها كأن يخلو الشرح من أي كلمة تعتمد على جذرها حتى لا يخرج القارئ من قراءة التعريف صفر اليدين. وقد فسر معجم إنجليزي كلمة Negro بقوله: of the Negro race وقد كان يقبل هذا التعريف لو أن المعجم خصص مدخلًا لـ Negro race ولكنه لم يفعل ذلك مع الأسف. وكان المطلوب في مثل هذه الحالة إعطاء خصائص هذا الجنس كالسواد، والمواطنية الأصلية في إفريقيا، والشفة الغليظة، والشعر المجعد ... إلخ.

كما يشترط في التعريف أن يكون محددًا فلا يقال مثلًا عن "القَدَم" أو "المتر" إنه وحدة لقياس الطول، بل لا بد من تحديد قياسه لتحديد الفرق بينه وبين غيره من مقاييس الطول. وقد يلجأ المعجمي إلى وسيلتين أخريين إضافيتين لتحديد المعنى كالاستعانة بالصور أو الرسوم، أو الاستعانة بما يسمى "بالتعريف الظاهري" "أو التمثيل الواقعي" الذي يعطي مثالًا أو أكثر من العالم الخارجي. فبدلًا من الاكتفاء في تفسير "البياض" بأنه لون "الأبيض" كما تفعل كثير من المعاجم يتبع ذلك بقوله:"وهو لون الثلج النقي، أو ملح المائدة المكرر." ولا يستغني توضيح المعنى عن شيئين آخرين هما التمثيل بجمل مفيدة قصيرة ووضع الكلمة في سياقاتها المتعددة التي تقع فيها مثل الفعل "أدرك" الذي يستعمل في سياقات متعددة ويختلف معناه تبعًا لذلك فيقال: أدرك القطار: إذا لحقه، وأدرك حاجته: إذا حققها وحصل عليها، وأدرك الصبي. إذا راهق وبلغ حد البلوغ. ويمكن للتمثيل الجيد أن يوظف لخدمة المعنى فيقوم بتوضيح ظلال المعاني، ويمكنللتمثيل الجيد أن يوظف لخدمة المعنى فيقوم بتوضيح ظلال المعاني، والمجالات التي ترد فيها الكلمة، والصفات المصاحبة، ونوع المفعول من الفعل. والمصاحبات الظرفية.. إلخ. فإذا نحن عرفنا "الجميل" بأنه ما يعطي بهجة أو رضًا للعقل أو الحس فلا شك أن التمثيل سيزيد المعنى وضوحًا كأن نقول: وجه جميل - زهرة جميلة - صوت جميل - طقس جميل - موسيقا جميلة ... إلخ. ولا يكتفي المعجمي بشرح المفردات بل لا بد كذلك أن يشرح التعبيرات وبخاصة إذا لم يكن من الممكن فهمها من أجزائها المكونة. مثل: الكتاب الأسود، الراية البيضاء، ركوب الرأس، طول اليد. كما لا بد أن يعالج الكلمات ذات الوحدات المتعددة "المركبة" مثل: الماء الثقيل - السوق السوداء - الهواء المطلق - بيضة الديك - بقرة بني إسرائيل - قميص عثمان - كبد السماء ... إلخ. ومن الممكن

في مثل هذه الوحدات أن توضع تحت الكلمة الأولى منها، أو تحت أسبق الكلمتين في ترتيب المعجم، أو تحت الكلمتين مع الربط بين الموقعين، أو تحت أبرز الكلمتين. وهناك قضية أخرى هامة بالنسبة للمعنى ما تزال موضع جدل بين المعجمين، وهي معيار الحكم على كلمة بأنها ذات معنى واحد أو عدة معان. وإذا كانت ذات عدة معان أهي من باب المجاز أم من باب المشترك اللفظي؟ ويترتب على اعتبار الكلمة ذات معنى واحد وضعها في مدخل واحد حتى لو تعددت تطبيقاتها في الاستعمال، أو حملت بعض المعاني المجازية. ويكتفى في هذه الحالة بترتيب المعاني داخليًّا بصورة من صور الترتيب المتفق عليها. أما إذا اعتبرت ذات معان متعددة فسيفرد لكل معنى مدخل، وتتعدد المداخل بتعدد المعاني. الفعل "شحذ" مثلًا يأتي لمعنيين: شحذ السكين: إذا أحده. وشحذ الفقير الناس: سألهم. فهل يمكن رد المعنيين إلى معنى واحد هو "الإلحاح" و"التكرار" فيكون المدخل واحدًا؟ أو أن التماس هذا المعنى الواحد لا يتم إلا بتكلف وتمحل ولا يفطن إليه مستعمل اللغة العادي؛ فيكون للفظ معنيان مختلفان فينظر إليه على أنهما لفظان مختلفان يستحق كل منهما مدخلًا مستقلًّا؟ ومثل هذا يمكن أن يطرح بالنسبة لكمات مثل: "حميم": في قوله تعالى: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} مع قوله تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} . فالأولى بمعنى: صديق قريب والثانية بمعنى: حار مغلي.

"قبيلة": فقد ذكر القاموس المحيط أنها واحدة قبائل الرأس للقطع المشعوب بعضها إلى بعض وأن منه قبائل العرب وهم بنو أب واحد، وعلّق صاحب التاج قائلًا: ظاهره أنه مجاز وصرح بعضهم بخلافه فادعى الاشتراك. وحين ينتهي المعجمي من مشكلة المعنى تظل أمامه مشكلات أخرى أقل أهمية مثل اختيار النطق الصحيح والنص عليه "ويتم ذلك في اللغة العربية بوسيلة من ثلاث: "إما ضبط الكلمة بالشكل، وإما النص على ضبطها بالكلمات، وإما ذكر وزنها أو مثالها" ومثل تبيين رسم الكلمة وطريقة هجائها وبخاصة إذا كان يختلف نطقها عن رسمها" ويتعين ذلك بالنسبة للغة العربية في أربعة أنواع من الكلمات: ما يزاد فيه حرف مثل مائة وأولو، وما ينقص فيه حرف مثل: هذا، وذلك، والسموات، والرحمن. وما ينتهي بألف مقصورة مثل الضحى والربا، وما يشتمل على همزة متوسطة أو متطرفة". أما ذكر المعلومات الصرفية أو الاشتقاقية فيتوقف على حجم المعجم والغرض منه. فإذا كان المعجم موجهًا للمستعمل العادي فإنه يكفي فيه الإشارات السريعة إلى المعلومات الوظيفية أو العملية، والتغييرات التصرفية التي تلحق الكلمة عند الإسناد. أما التتبع التاريخي لاشتقاق الكلمة أو ذكر أصله مما يدخل تحت فرع "الأتيمولوجيا" فليس موضع اهتمام المعاجم الصغيرة أو المتوسطة. ويظل بعد ذلك أن يبين المعجمي درجة اللفظ في الاستعمال ويحدد مستواه في سلم التنوعات اللهجية كأن يبين ما إذا كان اللفظ قديمًا أو حديثًا؟ دارجًا أو فصيحًا؟ من لغة الشعر أو النثر؟ عامًّا أو مقيدًا؟ مهجورًا أو مماتًا، نادرًا أو شائعًا؟ رسميًّا أو عاميًّا؟ محترمًا أو مبتذلًا؟ من لغة للكبار أو الصغار؟ وغير ذلك. د- وأخيرًا لا يبقى على المعجمي إلا أن يرتب مداخله بطريقة من طرق الترتيب الهجائي أو الموضوعي التي سنعرض لها فيما بعد.

أول من استخدم لفظ معجم: لم يكن اللغويون أول من استعمل هذا اللفظ في معناه الاصطلاحي، وإنما سبقهم إلى ذلك رجال الحديث النبوي1 فقد أطلقوا كلمة معجم على الكتاب المرتب هجائيًّا الذي يجمع أسماء الصحابة ورواة الحديث. ويقال: إن البخاري كان أول من أطلق لفظة معجم وصفًا لأحد كتبه المرتبة على حروف المعجم "ولد البخاري سنة 194 هـ وتوفي 256 هـ" ووضع أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى "210 - 307 هـ" "معجم الصحابة"، ووضع البغوي "توفي 317 هـ" "معجم الحديث" ... وهكذا. ويلاحظ أن اللغويين القدماء لم يستعملوا لفظ "معجم" ولم يطلقوه على مجموعاتهم اللغوية، وإنما كانوا يختارون لكل منها اسمًا خاصًّا به. فهذا "العين" وذاك "الجمهرة" وآخر "الصحاح" ... وهكذا. أما إطلاقنا للفظ "المعجم" على هذه الكتبفإطلاق متأخر. معجم وقاموس: من استعمالات العصر الحديث إطلاق اسم "القاموس" على أي معجم سواء كان باللغة العربية أو بأي لغة أجنبية: أو مزدوج اللغة. ولفظ القاموس"في اللغة لا يعنيهذا ولا شيئًا قريبًا من هذا: فالقاموس هو قعر البحر، أو وسطه، أو معظمه، وقال أبو عبيد: القاموس أبعد موضع غورًا في البحر2 ومرجع هذا المعنى الذي ألصق بلفظ "قاموس" أن عالمًا من علماء القرن الثامن، واسمه "الفيروزآبادي" ألف معجمًا سماه "القاموس المحيط" وهذا وصف للمعجم بأنه بحر واسع أو عميق. كما نسمي بعض كتبنا: الشامل، أو الكامل: أو الوافي.. أو نحو ذلك.

_ 1 انظر عدنان الخطيب: المعجم العربي، ص 30 - 34. 2 انظر اللسان: قمس.

وقد حقق معجم الفيروزآبادي لنفسه شهرة وشيوعًا، وصار مرجعًا لكل باحث. وبمرور الوقت ومع كثرة تردد اسم هذا المعجم على ألسنة الباحثين ظن بعضهم أنه مرادف لكلمة معجم، فاستعمله بهذا المعنى. وشاع هذا الاستعمال، وصار يطلق لفظ القاموس على أي معجم. وظل هذا اللفظ محل خلاف بين العلماء، فمن مهاجم له، ومن مدافع عنه حتى أقر معجم اللغة العربية هذا الاستخدام وذكره ضمن معاني كلمة "قاموس" في معجمه المسمى بالمعجم الوسيط، واعتبر إطلاق لفظ "القاموس" على أي معجم من قبيل المجاز، أو التوسع في الاستخدام 1.

_ 1 انظر عدنان الخطيب: المعجم العربي، ص 48- 50، المعجم الوسيط "قمس".

الترتيب المعجمي عند العرب

2- الترتيب المعجمي عند العرب: لا تعرف أمة من الأمم في تاريخها القديم أو الحديث قد تفننت في أشكال معاجمها، وفي طرق تبويبها وترتيبها كما فعل العرب. وقد تعددت طرق وضع المعجم العربي حتى كادت تستنفد كل الاحتمالات الممكنة. وقد كان العرب منطقيين حينما لاحظوا جانبي الكلمة، وهما اللفظ والمعنى، فرتبوا معاجمهم -إجمالًا- إما على اللفظ، وإما على المعنى، وبهذا وجد قسمان رئيسيان هما: أ- معاجم الألفاظ: ب- معاجم المعاني: وقد كان مجال تنافسهم واضحًا بالنسبة للقسم الأول حيث وجدت في داخله طرق متعددة بخلاف القسم الثاني حيث لم يوجد فيه إلا طريقة واحدة. وما أظنهم كانوا سيكتفون بهذه الطريقة الواحدة لو أمكن -عقلًا- الاهتداء إلى طريقة أخرى. وبالنسبة لمعاجم الألفاظ كان هناك عدة أشكال لترتيب الأحرف الهجائية هي: أ- الترتيب الصوتي الذي يراعي التشابه الصوتي للأحرف وتدرج المخارج. ب- الترتيب الألفبائي الذي يراعي التشابه الكتابي للأحرف فيضع الثلاثيات متجاورة ثم الثنائيات وينتهي بالأحرف المفردة.

جـ- الترتيب الأبجدي وهو أقدم ترتيب عرفه العرب، وهو ترتيب فينيقي. ولم يستخدم العرب في معاجمهم الترتيب الأبجدي، وإنما استعملوا الترتيب الصوتي والترتيب الألفبائي. وقبل أن نتناول أنواع المعاجم العربية بصورة مفصلة نلخص مدارسها في الشكل التالي:

القسم الأول: "معاجم الألفاظ" سنتناول معاجم هذا النوع على الترتيب التالي: أ- مدرسة الترتيب الصوتي "أو المخرجي". ب- مدرسة الترتيب الألفبائي. وقد أخذت الأخيرة صورًا خمسة هي: 1- وضع الكلمة تحت أسبق حروفها الأصلية في الترتيب الألفبائي. 2- وضع الكلمة تحت أول حروفها الأصلية. 3 - وضع الكلمة تحت أول حروفها دون تجريد. 4- وضع الكلمة تحت حرفها الأخير دون تجريد. 5- وضع الكلمة تحت حرفها الأصلي الأخير "الباب والفصل". جـ- مدرسة الترتيب بحسب الأبنية. وإليكم تفصيل ذلك: أ- مدرسة الترتيب المخرجي: معجم العين للخليل: رائد هذه المدرسة هو الخليل بن أحمد "100 - 175 هـ" الذي امتاز بعقلية رياضية، وبراعة في الموسيقى والنغم. وخبرة واسعة بأمور اللغة ومشكلاتها. وقد صب الخليل كل خبراته هذه في معجمه الذي سماه "العين"، والذي يعد أول معجم من أي نوع عرفته اللغة العربية.

وأهم ما يميز هذا المعجم -عدا نظامه- أن مؤلفه لم يجمع مفرداته عن طريق استقراء ألفاظ اللغة، وتتبعها في مؤلفات السابقين، وجمعها من شفاه الرواة، وإنما جمعها بطريقة منطقية رياضية، حيث لاحظ أن الكلمة العربية قد تكون ثنائية وقد تكون ثلاثية، وقد تكون رباعية وقد تكون خماسية. وفي كل حالة إذا أمكن تبديل حروف الكلمة إلى جميع احتمالاتها "بالانتقال من حرف هجائي إلى الذي يليه" وأمكن تقليب أماكن هذه الحروف إلى جميع أوجهها الممكنة يكون الحاصل معجمًا يضم جميع كلمات اللغة من الناحية النظرية. ولكن لا توجد لغة تستخدم جميع إمكانياتها النظرية، ولهذا كان لا بد للخليل بعدالإحصاء النظري أن يميز بين المستعمل من هذه الصور والمهمل1 وقد فعل ذلك، واستفاد في تمييز المستعمل من المهمل بثقافته اللغوية الخصبة، وبخبرته الصوتية الباهرة، ومعرفته بالتجمعات الصوتية المسموح بها وغير المسموح بها في اللغة العربية. وبذا حكم القوانين الصوتية إلى جانب تحكمة للمادة اللغوية المسجلة. وإذا تصورنا كيفية حصر الخليل للمادة اللغوية في أبواب الثنائي والثلاثي الصحيح، فإننا نفترض أنه قام بصنيع يشبه الجداول الآتية2 لجمع مواد اللغة "التوافيق" ثم قام بتقليب أصوات كل مادة ليحصل على الصور العقلية الممكنة "التباديل":

_ 1 يكاد يتطابق مفهوم "المستعمل" عند الخليل مع مفهوم "المورفيم" عند المحدثين "المورفيم: أصغر وحدة ذات معنى" أما مفهوم المهمل فيشمل ما يسمى بالمصطلح الحديث "مورف" ويشمل غيره. وذلك لأن المهمل إذا كانت قوانين اللغة الصوتية تسمح به ولكن حدث بمحض الصدفة أن أهمل يسمى "مورفا". أما إذا كانت قوانين اللغة الصوتية لا تسمح به ولا يتصور أن يستخدم في وقت ما فلا يسمى "مورفا" ولكنه هو و"المورف" داخلان في مفهوم المهمل عند الخليل. 2 أهملت العين مع الحاء والهاء والخاء والغين من الثنائي وبدأت بالعين والقاف. وأهملت العين والحاء مع ما يثلثهما، وبدأت أبواب الثلاثي الصحيح بالعين والهاء والقاف.

وقد أثيرت شكوك حول كتاب العين شملت المؤلف نفسه أهو الخليل أم غيره. كما شملت احتمال وجود تأثير أجنبي على معجم العين. وسنترك قضية التأثير الأجنبي لمكانها في الباب الثالث من هذا البحث. ونتحدث الآهن عن مؤلف العين أهو الخليل أم غيره. ولن نتناول القضية بالتفصيل، فقد سبقنا إليها الدكتور عبد الله درويش الذي خصص بابًا بعنوان "الخلاف حول كتاب العين"1 في كتابه المعاجم العربية. ولكننا سنكتفي بالعرض السريع المركز. تتلخص الآراء في مؤلف العين فيما يأتي: 1- أن المؤلف هو الخليل. 2- واضع الفكرة هو الخليل والمنفذ هو الليث. 3- المؤلف هو الليث. 4- واضع الفكرة، ومؤلف قسم منه هو الخليل. أما الذي أكمله فهو الليث. أما من نفوا نسبة "العين" للخيل كليًّا أو جزئيًّا -وهذا يجمع الآراء الثلاثة الأخيرة- فقد بنوا رأيهم على ما يأتي: 1- اختفاء معجم العين منذ عصرالمؤلف حتى منتصف القرن الثالث الهجري. وحين ظهر على أيدي أحد الوراقين الخراسانيين أنكره أبو حاتم السجستاني "255 هـ". 2- وجود فجوة بين معجم "العين" وثاني معجم يظهر في اللغة العربية وهو معجم الجمهرة لابن دريد "321 هـ". مما يشكك في تأليف العين في القرن الثاني الهجري. فلا بد أن يكون مؤلفه لغويًّا متأخرًا.

_ 1 صفحة 45 وما بعدها.

3- لم يذكر أحد من تلامذة الخليل أو معاصريه هذا المعجم ولم يحكه عنه، مما يدل على أنه ليس من مصنفات الخليل. 4- تشكك كثير من العلماء في نسبته للخليل أو إنكارهم هذه النسبة. ومن هؤلاء الأزهري "370 هـ" الذي قال في كتابه التهذيب: "كان الليث رجلًا صالحًا عمل كتاب العين ونسبه إلى الخليل لينفق كتابه باسمه ويرغب فيه". ومن هؤلاء أبو الطيب اللغوي "ت بعد سنة 305" الذي يرى أن ترتيب الأبواب للخليل والحشو لغيره. 5- استخدام العين لبعض المصطلحات الكوفية مع أن الخليل أستاذ مدرسة البصرة. ومن ذلك إدخاله الرباعي المضعف في باب الثلاثي المضعف. 6- ما يوجد من خلاف في الترتيب الصوتي ومخارج الحروف بين ما جاء في العين وما جاء في كتاب سيبويه. فلو كان المؤلف هو الخليل لتطابق ما في الكتابين لأن سيبويه حامل علم الخليل. 7- كثرة الأخطاء والمآخذ في العين. 8- النقل عن علماء متأخرين أو معاصرين للخليل، والاستشهاد بالمرذول من شعر المحدثين. 9- نسخ العين التي عثر عليها كلها حديثة. 10- لا إسناد لكتاب العين. ويبدو أن منكري نسبة العين للخليل -لكي يجعلوا إنكارهم مقنعًا- قد نسجوا من خيالهم قصصًا شائقة، وإن لم تكن في جملتها مقنعة. فمن ذلك ما يحكيه ابن المعتز عن ذهاب الخليل إلى خراسان ونزوله عند الليث. وقد لاقى الخليل حفاوة وترحيبًا وإكرامًا بالغًا من الليث؛ فقام بإهدائه معجمه "العين". وأعجب الليث بالمعجم وانكب

عليه دراسة حتى كاد يحفظه عن ظهر قلب. وطاب لليث يومًا أن يشتري جارية حسناء، مما أحفظ قلب زوجته عليه، وهداها تفكيرها إلى الانتقام منه في أغلى شيء لديه فأحرقت نسخته من العين. ولم يتوان الليث عن التفكير في طريقة يحيي بها الكتاب من جديد، فأخذ يكتب مرة أخرى ما كان يحفظه من الكتاب حتى أتم نصفه تقريبًا. ثم جمع بعضًا من اللغويين المعاصرين فعاونوه على إتمام الكتاب. وقد أفضى الأستاذ الدكتور عبد الله درويش في مناقشة هذه الأدلة وأبطلها جميعها بما ملخصه، مع بعض إضافات لي أو لغيري: 1- يبدو أن عزلة الخليل، وانصرافه عن أن يدون كتبه بنفسه قد ساعد هو وغيره على أن يختفي كتاب العين بعضًا من الوقت فلم يظهر هذا الكتاب إلا بأخرة على يد وراق من خراسان، وربما كان مصير "العين" مثل مصير "الجيم" لأبي عمرو الشيباني، إذ يرون أن أبا عمرو بعد أن أتم تأليفه ضن به على الناس، ولهذا لم تكثر نسخه، ولم يشتهر أمره بين المتأخرين من العلماء1. 2- أن هناك بعض معاجم ظهرت بين "العين" و"الجمهرة"، وأشهرها "الجيم" لأبي عمرو الشيباني "206 هـ". 3- ليس من الغريب أن يروي العين عن الخليل الليث وحده، فقد حدث ما هو أغرب من هذا بالنسبة لصحاح الجوهري، ومع ذلك لم يشك أحد في نسبته، حيث لم يروه -كما يقول القفطي- أحد من أهل خرسان. 4- أما إنكار الأزهري فلا اعتبار له، لأنه كان دائب التجريح لغيره من اللغويين، والانتقاص من قدر الكتب التي ألفت قبله حتى يرفع من قيمة معجمه.

_ 1 دلالة الألفاظ، ص 223، المعاجم للدكتور عبد السميع، ص 38.

5- أما ما يوجد من خلاف في الترتيب الصوتي1 بين الخليل وسيبويه أو ما يوجد من وفاق بين مصطلح الخليل ومصطلح الكوفيين، فلا شيء يمكن أن يؤخذ منه. وقد سبق أن عرضنا في فصل "النحو والصرف" تحت عنوان "هل وجدت مدارس نحوية عند العرب؟ " أمثلة كثيرة من هذا النوع فارجع إليها. بالإضافة إلى أن تصنيف الكلمات التي تكرر بعض حروفها محل خلاف كبير بين اللغويين، إذ لم يتفقوا فيه على رأي2. 6- أما الأخطاء أو المآخذ الموجودة في العين؛ فلا دلالة لها كذلك حتى مع التسليم بها. وهل هناك من يزعم أن الخليل منزه عن الخطأ أو التصحيف أو التحريف؟ ومَنْ مِنَ اللغويين قد سلم من أمثال هذه الهفوات؟ ويكفي أن يراجع القارئ كتاب "التنبيه على حدوث التصحيف" لحمزة الأصفهاني "ت حوالي 460 هـ" ليرى مصداق ذلك. وأكتفي بأن أشير إلى الباب الأول من كتابه وعنوانه: "في تصحيفات العلماء في شعر القدماء وهم "أي العلماء" ستة وعشرو" ذكر منهم: أبو عبيدة، الأصمعي، أبو زيد، أبو عمرو بن العلاء، عيسى بن عمر، الخليل بن أحمد، سيبويه، أبو الخطاب الأخفش ... وبالإضافة إلى هذا فقد سبق أن ذكرنا أن الخليل قد وجه كل اهتمامه إلى الطريقة الرياضية التي جمع بها مادته اللغوية، وأنه لم يفعل كما فعل غيره من الرجوع إلى الرواة والأعراب ليسمع منهم ويسجل لهم. وهذهطريقة ربما كانت أكثر عرضة للخطأ من غيرها، وإن كانت أدق من الناحية الإحصائية.

_ 1 ورد في "المزهر" للسيوطي ما يفسر هذا الاختلاف حيث ذكر ابن كيسان أنه سمع من يذكر أن الخليل قال: "لم أبدأ بالهمزة لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفيفة لا صوت لها. فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء فوجدت العين أنصع الحرفين فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف...." "المزهر" 1/ 90". 2 انظر ديوان الأدب 1/ 25 مقدمة المحقق.

7- أما ما عثر عليه من نقول، سواء من المعاصرين أو المتأخرين، فيمكن تفسيره بسهولة على النحول التالي: أ- ما ذكره أهلورات -حيث عثر على قطعتين مخطوطتين لا عنوان عليهما- ووجد فيهما نقولًا عن ثعلب "ت 291" والدينوري "ت 281" وكراع "ت 307" والزجاج "ت 310" وغيرهم- لا قيمة له مطلقًا؛ لأن القطعتين ليستا من كتاب "العين" كما زعم وإنما من كتاب "المحكم" لابن سيده كما حقق الدكتور عبد الله درويش. ب- أما نقوله عن المعاصرين فلا شيء فيها، وقد كانت هذه طريقة القدماء، يجلس أحدهم إلى من يجد عنده علمًا دون نظر إلى سنة أو بلد ولا نظن أن نقل المؤلف عمن هو أصغر منه سنًّا -ما دام في سن تسمح بالأخذ عنه- يعد أمرًّا غريبًا، أو شيئًا مثيرًا للشبهة. جـ- وأما نقوله عن المتأخرين فتفسيرنا لها أنها كانت أول الأمر بمثابة حواش أو تعليقات كتبها أحد التلامذة على نسخته من العين. وبمرور الوقت أدخلت هذه الزيادات في صلب الكتاب بفعل النساخ. وقد حدث هذا لكثير من الكتب، فليس "العين" بدعًا من بينها. 8- وأما الزعم بأن كتاب "العين" ظل بلا إسناد ولا رواية فليس من الواقع في شيء فعندنا ثلاث سلاسل لإسناد الكتاب وهي: أ- السلسلة الموجودة في النسخة التي طبعت وهي: قال أبو معاذ عبد الله بن عائد: حدثني الليث بن المظفر ابن نصر بن سيار عن الخليل بجميع ما في هذا الكتاب ... ب- سلسلة ذكرها ابن فارس في أول المقاييس، وهي عن على بن إبراهيم القطان عن أبي العباس أحمد بن إبراهيم المعداني ... عن الليث عن الخليل.

جـ- سلسلة ذكرها السيوطي في "المزهر" وهي عن أبي علي الغساني، عن أبي عمر بن عبد البر، عن عبد الوارث بن سفيان، عن القاضي منذر بن سعيد، عن أبي العباس أحمد بن محمد بن ولاد النحوي، عن أبيه، عن أبي الحسن علي بن مهدي، عن أبي معاذ عبد الجبار بن يزيد، عن الليث، عن الخليل. وقراءة كتاب العين على ابن ولاد ثابتة في عدة مراجع. بل إن الروايات نفسها تتحدث عن وجود نسخة أخرى من "العين" عند أبي جعفر النحاس "وهو معاصر لابن ولاد" كان يقرئها لمن يحب من تلاميذه. وتمضي الروايات قائلة: إن المنذر بن سعيد حينما ذهب إلى مصر قصد أبا جعفر النحاس أولًا، ولكن نشأ بينهما نوع من الجفوة نتيجة تصحيح منذر بن سعيد خطأ وقع فيه النحاس1. ولذلك أبى النحاس أن يقرئ منذر بن سعيد معجم "العين" فانتقل ابن سعيد من مجلس النحاس إلى مجلس ابن ولاد وقرأ عليه ونسخ من نسخته كتاب "العين". وننتهي من هذا إلى أن معجم "العين" من عمل الخليل -جزئيًّا على الأقل- وإن كان الأرجح أنه كان من عمله. ويبدو أن الدكتور إبراهيم أنيس -برغم تشككه في نسبة العين- يميل مع الرأي الذي ينسبه إلى الخليل وهو يدعم رأيه بقوله: "وفي رأينا أن مثل هذا الترتيب الصوتي الموسيقى لا يمكن أن يقوم به إلا الخليل الذي عرف أنه موسيقى وعني عناية خاصة بالأصوات. والدليل اختراعه علم العروض وتأليفه كتبًا في الموسيقى. فمثله يمكن أن يعني بهذا الترتيب المخرجي". وقد طبع الجزء الأول من العين عام 1967، وقام بتحقيقه الدكتور عبد الله درويش على ثلاث نسخ مخطوطة. ولكنه توقف عن تحقيقه فتقدم لهذه المهمة الدكتوران إبراهيم السامرائي، ومهدى المخزومي. وقد

_ 1 راجع معجم الأدباء 14/ 183، 4/ 226 - 227، والقفطي 1/ 103، والزبيدي ص24.

نشرا الجزء الأول عام 1980 ثم تتابع نشر بقية الأجزاء حتى اكتمل المعجم في ثمانية أجزاء ظهر آخرها عام 1985. أما ترتيب الخليل للعين فقد أخذ الصورة الآتية: 1- رتب كلمات معجمه على الحروف ترتيبًا مخرجيًّا. وقد وجد أعمق الحروف هي حروف الحلق فبدأ بها. ولم يكتف بذلك، بل رتب حروف الحلق فيما بينهما فوجدها ذات مخارج ثلاثة هي: الهمزة والهاء - ثم العين والحاء - ثم الغين والخاء - وقد كان من المتوقع إذن أن يبدأ الخليل معجمه بحرف الهمزة وأن يسمي كتابه بـ "الهمزة"، ولكنه عدل عن ذلك وبدأ بحرف العين وسمى كتابه "العين"، والسر في ذلك أن الخليل قد وجد -بحسه الصوتي- أن الهمزة صوت معرض للتغييرات مثل التسهيل أو الحذف، فلم يشأ أن يبدأ بها، ووجد أن الهاء صوت مهموس خفي فلم يشأ أيضًا أن يبدأ بها. وانتقل إلى الحيز الثاني من حروف الحلق فوجد فيه العين والحاء فبدأ بالعين لأنها "أنصع" أي: أوضح لأنها مجهورة. 2- كان يلتزم تجريد الكلمة من زوائدها، ثم يضعها في مكانها بعد ذلك، ومعنى ذلك أنه بنى معجمه على "الجذور" أو "ألأصول" وأهمل حروف الزيادة. وقد ظل هذا دأب معظم معاجمنا حتى الآن. 3- رتب الأصوات على الوجه الآتي: ع ح هـ خ غ / ق ك / ج ش ض / ص س ز / ط د ت / ظ ذ ث / ر ل ن / ف ب م / وأ ي 1.

_ 1 نظمها بعضهم في قوله: العين والحاء ثم الهاء والخاء ... والغين والقاف ثم الكاف أكفاء والجيم والشين ثم الضاد يتبعها ... صاد وسين وزاي بعدها طاء والدال والتاء ثم الظاء متصل ... بالظاء ذال وثاء بعدها راء واللام والنون ثم الفاء والباء ... والميم والواو والمهموز والياء

4- خصص لكل حرف كتابًا أسماه باسمه. فالمعجم عبارة عن كتب بعدد حروف الهجاء هي كتاب العين - كتاب الحاء - كتاب الهاء ... وهكذا. 5- وفي كل كتاب كان يضع الكلمات التي تشتمل على الحرف الذي يحمل الكتاب اسمه أيًّا كان موضع هذا الحرف في الأول أو الوسط أو الآخر. 6- حين يتناول كلمة ما كان يقلبها على جميع أوجهها الممكنة. وكان في كثير من الأحيان يلتزم ببيان الأوجه المستعملة، والأوجه المهملة. فكلمة مثل "قد" تقرأ بوجهين إما مع البدء بالقاف أو مع البدء بالدال. وكلمة مثل "عند" إذا قلبت على أوجهها تنتج ست صور هي: ع ن د - ع د ن - ن ع د - ن د ع - د ع ن - د ن ع. ولتوضيحها بالنسبة للثلاثي رسم ابن دريد مثلثًا وضع عند كل زاوية منه حرفًا من الحروف الثلاثة للجذر، وتحرك من كل زاوية في الاتجاهين، فحصل على التقليبات الستة: ولتوضيحها بالنسبة للرباعي رسم الدكتور محمد سالم الجرح جدولًا ذا قوائم أربعة. فإذا وضعنا في القائمة الأولى أحد الأصول جاز لنا أن نضع في الثانية كلًّا من الثلاثة الباقية. ويتبادل مع كل واحد من حروف القائمة الثانية الحرفان الباقيان في الثالثة والرابعة. أي: أننا نحصل على ست صور في القائمة الرابعة مع حرف بعينه في القائمة

الأولى. فإذا ضربنا ذلك في الاحتمالان الأربعة بالنسبة للحرف الأول حصلنا على 24 صورة. فإذا كان الأصل الرباعي مثلًا هو دحرج كان الجدول كما يأتي: وتتكرر نفس العملية مع كل من الحاء والراء والجيم بوضعها في القائمة الأولى مكان الدال. فإذا كان الجذر خماسيًّا ضرب هذا الرقم في خمسة فتبلغ صور الخماسي العقلية 120 تقليبًا. وقد طبق الخليل التقليبات مع جميع كلمات الثنائي والثلاثي وكان ينص على المستعمل من هذه الصور والمهمل. ولكن مع الرباعي والخماسي. وجد أن العملية طويلة والاحتمالات كثيرة والصور المستعملة فعلًا -بالنسبة للمهملة- قليلة جدًّا، ولذا اكتفى بالتقليبات العملية فقط لا الممكنة عقلًا. 7- نتيجة لنظام التقليبات فإن كل كتاب لا يشتمل على كلمات فيها حروف سابقة: فكتاب "الحاء" لا يشتمل على أي كلمة فيها "عين"، لأن جميع الكلمات التي تشتمل على حرف العين قد سبقت في كتاب العين، وكتاب الهاء لا يشتمل على أي كلمات فيها عين أو حاء لأنها سبقت.... وهكذا. ومعنى هذا أن الكتب الأولى أكبر من الكتب المتأخرة. وكلما تأخرنا قلت كلمات الكتاب. ولهذا فإن كتاب العين يُعد أكبر كتب المعجم وحين نصل إلى كتاب الميم نجده لا يتجاوز بضع عشرة صفحة،

لأنه لم يبق لهذا الحرف ليوفق معه إلا أحرف العلة الثلاثة. أما كتب الحروف المعتلة وهو آخر الكتب فلم يتجاوز بضع صفحات. 8 خضع تبويب الكلمات لنظام الكمية. فمثلًا في باب العين نجد الكلمات مسجلة بحسب التقسيم الآتي: الثنائي - الثلاثي الصحيح - الثلاثي المعتل - اللفيف - الرباعي - الخماسي - أما الثنائي فقد قصد به الخليل ما وجد فيه حرفان من الحروف الصحيحة، ولو مع تكرار أحدهما في أي موضع طبقًا لنظرية العناصر، فيشمل مثل قد وقد وقدقد. كما يشمل مثل ددن وقلق وجلل. ولذلك يقول ابن القطاع: الثنائي ما كان على حرفين من حروف السلامة، ولا تبال أن تتكرر فاؤه أو عينه"1 وواضح أن اصطلاح الخليل هذا ناتج عن نظام التقليبات الذي اتبعه، لأن مثل ددن وقلق وجلل ستتماثل في صورة من صور تقليباتها وتشترك في موضع التكرير فيها. أما سائر اللغويين ممن لم يقلبوا، فيعتبرون مثل قد وجلل من مضعف الثلاثي، ويعتبرون مثل قدقد من مضعف الرباعي، ويعتبرون مثل قلق من السالم2. وأما الثلاثي الصحيح فهو عنده -كما عند غيره- ما اجتمع فيه ثلاثة حروف صحيحة. وأما الثلاثي المعتل فما وجد فيه حرفان صحيحان وحرف علة واحد سواء جاء أولًا "مثال" أو وسطًا "أجوف" أو آخرًا "ناقص". وأما اللفيف فقد عنى به ما وجد فيه حرفا علة سواء كانا مفروقين مثل وعى، أو مقرونين مثل كوى. أما طريقة الكشف في العين فتقضي أولًا تجريد الكلمة من زوائدها لتحديد الجذر، ثم يبحث عن أعمق أصواتها لتحديد الكتاب. فإن كان من بينها "ع" أيًّا كان موضعها؛ فإن مكان الكلمة كتاب العين وإن لم

_ 1 أبنية الأسماء والمصادر، ص 12. 2 شرح الشافية 1/ 34.

يكن بها "ع" ووجد بها "ح" فمكانها كتاب الحاء ... ولهذا لا بد أن يعرف الباحث الترتيب المخرجي للحروف، ويفتش عن أقصى حرف في المخرج. فإذا حددنا الكتاب الذي سنبحث فيه عن الكلمة نظرنا إلى ناحية الكم، وحددنا نوع الكلمة أهي من الثنائي أم الثلاثي الصحيح أم الثلاثي المعتل ... وبذا نضيق دائرة البحث. وبعد ذلك نحدد مادة الكلمة عن طريق إعادة ترتيبها صوتيًّا. وأخيرًا نقوم بالتقليبات الممكنة، وسنجد جذر الكلمة المطلوبة ضمن هذه التقليبات. تهذيب اللغة للأزهري: كان الأزهري مخظوظًا في مقدمة معجمه فنشرت أكثر من مرة، قبل أن تتعهد المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر بتحقيق المعجم بأكمله ونشره. ويرجع الاهتمام بالمقدمة إلى أنها -كما يقول الأستاذ عبد السلام هارون- "من أهم الوثائق في تاريخ التأليف اللغوي وتاريخ المدارس اللغوية الأولى"1. ويبدو أن الأزهري -وقد امتد به العمر من 282 إلى 370 هـ- قد ألف معجمه هذا بعد السبعين كما يفهم من عبارة له وردت في المقدمة2 وأنه حشد له خبرات هذه الأعوام الطوال، وأمده بكثير مما سجله وقيده وسمعه سواء من الأساتذة أو الأعراب أو القوم الذين وقع في أسرهم، وكانوا عربًا عامتهم من هوازن. وقد ذكر الأزهري في مقدمة معجمه أن من الروافد التي أمدت معجمه: 1- تقييد نكث حفظها ووعاها من أفواه الأعراب الذين شاهدهم وأقام بين ظهرانيهم سنيات. إذ كان ما أثبته كثير من أئمة اللغة في الكتب لا ينوب مناب المشاهدة، ولا يقوم مقام الدربة والعادة.

_ 1 مقدمة المحقق، ص 17. 2 يقول: وكنت منذ تعاطيت هذا الفن في حداثتي إلى أن بلغت السبعين مولعًا بالبحث في المعاني والاستقصاء فيها وأخذها من مظانها....

2- المادة التي جمعها حين وقع في أسر القرامطة. وكان القوم الذين وقع في سهمهم عربًا عامتهم من هوازن، واختلط بهم أصرام من تميم وأسد. وقد كانوا قومًا "لا يكاد يقع في منطقهم لحن أو خطأ فاحش". وقد أقام بينهم -على حد تعبيره- دهرًا طويلًا واستفاد من مخاطباتهم ومحاورة بعضهم بعضًا ألفاظًا جمة ونوادر كثيرة أوقع أكثرها مواقعها في الكتاب1. ومن يراجع "تهذيب اللغة" بأجزائه الخمسة عشر يجد مئات الأمثلة لهذه المادة التي رواها الأزهري عن طريق المشافهة والنقل المباشر. ولهذا فنحن لا نقر الدكتور عبد الله درويش على تشككه في قيمة المادة المسجلة من هذا الطريق، ووصفه لها بالندور2. ومن أمثلة هذه المشافهة: 1- وسمعت الأعراب من بني عقيل يقولون: جارية فارهة وغلام فاره إذا كانا مليحي الوجه. "6/ 279". 2- وخطأ بعض الناس قول القائل: فلان يستأهل أن يكرم بمعنى يستحق الكرامة. قال: ولا يكون الاستئهال إلا من الإهالة، وأجاز ذلك كثير من أهل الأدب. وأما أنا فلا أنكره، ولا أخطئ من قاله لأني سمعته. وقد سمعت أعرابيًّا فصيحًا من بني أسد يقول لرجل أولى كرامة: أنت تستأهل ما أوليت، وذلك بحضرة جماعة من الأعراب فما أنكروا قوله "6/ 418". 3- سمعت صبيًّا من بني عقيل يقول: وجهي زين ووجهك شين أراد أنه صبيح الوجه وأن الآخر قبيحة ... والتقدير: وجهي ذو زين، ووجهك ذو شين "13/ 255".

_ 1 المصدر نفسه 6، 7. 2 المعاجم العربية، ص 29.

ولم يكن للأزهري طريقة معينة في تسجيل مشافهاته: 1- فتارة يعتمد على الدليل السلبي "أي عدم سماعه عن العرب" في نفي وجود اللفظ أو التعبير ومن ذلك قوله: أ- ولم أسمعهم يقولون في الغراب: نعق ولكنهم يقولون: نعب "1/ 257". ب- لم أسمع الوضع في شيء من كلامهم "3/ 84". 2- وتارة ينص على القبيلة أو الجماعة اللغوية التي سمع منها. وأكثر من سمع عنهم. 8 بنو تميم "1/ 129، 3/ 263، 5/ 169، 9/ 228، 10/ 562" * بنو عقيل "4/ 327، 6/ 279، 13/ 255". * بنو كلاب - الكلابيون "2/ 238، 15/ 446، 650". * بنو كليب "1/ 376، 7/ 144". * بنو نمير "13/ 158، 15م 650. * بنو سعد "2/ 219، 7/ 178". * قيس "3/ 326، 10/ 562. * بنو أسيد "10/ 94، 110". ثم طييء "14/ 359"، وبنو مضرس "15/ 124"، وبنو فزارة "11/ 155"، وبنو سليم "10/ 546"، والهجريون "1/ 344"، والبحرانيون "1/ 62". 3- وهو في معظم حالاته يسجل سماعه دون أن ينسبه ومن ذلك: أ- سمعت بعض العرب "1/ 64، 106، 2/ 125، 284....". ب- سمعت العرب "1/ 113، 151، 152، 178، 308، 328....". جـ- سمعت غير واحد من العرب "1/ 212، 267....".

د- سمعت أعرابيًّا يقول: "1/ 241، 377 ... ". هـ هذا سماعي من العرب "1/ 263....". وسمعت امرأة من العرب "3/ 58....". ز هكذا سمعت من العرب "3/ 331.....". ومهما يكن من شيء فإن "تهذيب اللغة" يعد تابعًا في منهجه "للعين" تبعية كاملة، بل بلغ من اتخاذه نموذجًا له أن نقل مقدمة العين في مقدمته نقلًا يكاد يكون حرفيًّا، بعد أن اعترف أن هذه المقدمة -بإجماع اللغويين- من عمل أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد1. أما من ناحية المادة اللغوية فحجم التهذيب ضخم جدًّا بالنسبة لحجم العين. وقد أبدى الأزهري كذلك اهتمامًا كبيرًا بأسماء البلدان والأماكن والمياه. واهتم بإيراد الشواهد من القرآن والحديث بالإضافة إلى الشعر، كما عني بإيراد القراءات المختلفة في مكانها المناسب2. البارع للقالي: مؤلف هذا المعجم أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي المولود عام 280 هجرية والمتوفي عام 356 هجرية بالزهراء ضاحية من ضواحي قرطبة. وبعد البارع أول معجم أندلسي، وإن لم يكن له من الأندلسية إلا مكان التأليف. وقد دخلت نسخة من كتاب "العين" الأندلس، ولم تكن موثقة فأوعز الحاكم الأموي إلى مجموعة من العلماء منهم "القالي" بمقابلة

_ 1 تهذيب اللغة 1/ 41. 2 الجرح، ص 46.

الكتاب ولم يكن القالي يطمئن قبل ذلك إلى صحة نسبة "العين" للخليل. ولكنه بعد المقابلة اقتنع بصحة نسبته، ولم ينسبه لليث كما فعل غيره، ولا تحفظ فقال: "صاحب العين" كما فعل آخرون. ويقول الأستاذ هاشم الطعام محقق "البارع": "ولقد أتيح لي وأنا أحقق النص الذي بين يدي من "البارع" أن أقارن ما ورد فيه عن الخليل وهو أعظم الكتاب بنسختين مخطوطتين من العين فإذا بالكتابين متطابقين حذو القذة بالقذة.. وبهذا يكون "البارع" أقدم نسخة وصلت إلينا من كتاب "العين" "ص 66". وقد أدخل القالي بعض زيادات وأجرى بعض تعديلات في كتاب "العين" "فقدم لكل مادة لغوية بما ورد عنها في مروياته. وارتأى أن يخالف في ترتيب الحروف بعض الشيء، وأضاف بعض ما ظنه مهملًا، ونسب الشواهد غير المنسوبة إلى قائليها -متى استطاع إلى ذلك سبيلًا- وأكمل الشواهد المبتورة فكان من ذلك كله البارع. فالبارع إذن ليس إلا كتاب العين "موصولًا". "مقدمة المحقق ص65، 66". وإلى جانب هذه التعديلات والزيادات نجد خلافات آخرين أحدهما يتعلق بترتيب الأصوات، والآخر يتعلق بالأبواب، فترتيب الخليل قد سبق ذكره، أما ترتيب القالي فهو: هـ ح خ ق ك ض ج ش ل ر ن ط ت ص ز س ظ ذ ث ف ب م وأ ي. أما اختلاف الأبواب فيتمثل في تسمية القالي للفيف: الحواشي أو الأوشاب وفي إطلاقه على الثنائي اسم: الثنائي في الخط والثلاثي في الحقيقة. والخلاف كما يبدو خلاف لفظي لا حقيقي. ولم يطبع "البارع" كله لأن المحقق لم يعثر على نسخة كاملة منه،

وإنما عثر على قطعتين إحداهما في المتحف البريطاني والأخرى في مكتبة بباريس، وهما قطعتان مختلفتان. وما زال هناك أمل في العثور على نسخة كاملة في إحدى خزائن الشمال الإفريقي. مختصر العين للزبيدي: والكتاب كما هو واضح من عنوانه اختصار لمعجم العين مع تعديلات طفيفة وتصرف ليس بالكثير. ومؤلفه في غنى عن التعريف فهو مؤلف طبقات النحويين واللغويين، ولحن العامة والاستدراك على أبنية سيبويه والواضح في عام العربية، وجميعها قد طبع وحقق1. وقد اطلعت على الجزء الأول من المطبوع ويقع في ثمانين صفحة. وهي تعادل ست عشرة صفحة من مخطوطة بغداد البالغ عددها 232 صفحة. وقام بتحقيق هذا الجزء علال الفاسي، ومحمد بن تاويت الطنجي، ونشر التحقيق في السلسلة اللغوية التي تصدرها وزارة الدولة في المملكة المغربية. وأهم ما قام به الزبيدي في مختصر العين: أ- التنظيم والتبويب: وقد شمل ذلك زيادة باب "للمضاعف الثنائي المعتل" وهو عند الخليل مدمج في باب "اللفيف". كما شمل فصل أحرف العلة والهمزة وعدم دمجها كما فعل الخليل. وقد بدأ الزبيدي بالهمزة يليها الياء فالواو. ب- تصحيح ما ورد من خلل أو تصحيف في العين مثل: جاء في

_ أ- حقق الطبقات الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم ونشره بمصر. أما لحن العامة فقد حققه كل من الدكتور رمضان عبد التواب وعبد العزيز مطر. وأما الاستدراك فقد طبع في روما عام 1890. وأما الواضح فقد حققه الدكتور أمين السيد ونشرته دار المعارف عام 1975. وقد توفي الزبيدي عام 379 هـ.

العين: رجل عقيم ورجال عقماء. فصوب الزبيدي هذا الجمع بقوله: ورجال عقمي. ومثل إيراد الزبيدي كلمة "الفقاعي" وهو الأحمر يخالطه بياض في مادة "فقع" وكانت في كتاب العين في مادة "قفع" لتصحيفها. جـ الاختصار: وذلك عن طريق حذف الصيغ القياسية كالمصادر والأفعال المضارعة والجموع القياسية، وحذف القواعد والأحكام اللغوية وأسماء اللغويين والرواة. وإسقاط الشواهد كلها نثرية وشعرية "فيما عدا بعض الشواهد القرآنية القليلة، وما فيها من قراءات". د- الاستدراك: وذلك بزيادة بعض الألفاظ التي أهملها الخليل وهي في اللغة، أو إضافة بعض المعاني التي تركها للكلمة. إلا أن الزبيدي -كما ذكر في خاتمة الكتاب- "لم يستقص جميع ما أهمله العين لأنه اكتفى بكتابه الذي خصصه لهذا الموضوع، ولأنه أراد أن يكون المختصر صورة موجزة لما في الأصل من مواد"1. المحيط للصاحب بن عباد: شهد القرن الرابع معجمًا رابعًا يسير على طريقة الخليل وهو معجم "المحيط" للوزير الأديب المشهور الصاحب بن عباد "324 - 385 هـ". وقد ظل هذا المعجم في زوايا النسيان حتى قام الشيخ محمد حسن آل ياسين بتحقيق بعض أجزاء منه. وقد رجع المحقق إلى نسختين اثنتين إحداهما نسخة المتحف البريطاني والأخرى نسخة كربلاء. وتوجد أجزاء متناثرة منه في مكتبات أخرى من العالم2.

_ 1 أبو بكر الزبيدي وآثاره في النحو واللغة ص 464 - 482. 2 انظر رأي الصاغاني في هذا المعجم بعد، حين عرضنا لمعجم العباب له.

المحكم لابن سيده: وهو من معاجم القرن الخامس الهجري ومؤلفه أشهر علماء اللغة في الأندلس في هذا القرن، وبرغم أنه كان كفيفًا فقد ألف هذا المعجم وألف معجمًا آخر ضخمًا سيرد فيما بعد وهو "المخصص". ولم يتح للمحكم أن يطبع جميعه بعد، فقد أصدر معهد المخطوطات بالقاهرة جزءه الأول عام 1958 وتتابعت الأجزاء حتى صدر السابع عام 1973 ووصل إلى مادة "ش ص م". ونظام "المحكم" هو هو نظام العين مع فروق طفيفة، مثل إدماج الخليل الهمزة في حروف العلة، وإفراد ابن سيده الهمزة بالذكر، ومثل احتساب الخليل الألف اللينة حرف علة، وتجاهلها من ابن سيده تمامًا، لأن الألف الممدودة في العربية -ترد إذا كانت أصلية- إما إلى الواو أو الياء. ويعتبر صاحب "المحكم" بأنه حذف أمورًا لا غناء فيها، ونبه فيه على أشياء لا بد من التنبيه عليها. أ - فقد حذف مثلًا المشتقات القياسية لاطرادها. ب- وميز بين المشتبهات كالجمع واسم الجمع وجمع الجمع. ومات ابن سيده عام 458 هـ.

مثالان تطبيقيان على معاجم الترتيب الصوتي: المثال الأول: إذا أردنا أن نبحث عن كلمة "مريد" في قوله تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} نسير على الخطوات الآتية: الجذر: مرد. الكتاب: الدال. القسم: الثلاثي الصحيح. المادة: درم. التقليبات: د ر م - د م ر - ر د م - ر م د - م د ر - م ر د المثال الثاني: إذا أردنا ترتيب عدد من الكلمات في معجم العين أو أحد توابعه فإننا نسير على الخطوات التالية حين يكون المراد ترتيب الكلمات الآتية: أ- غربال - رفرف - ظنين - تل - تروية - فدان - دبابة - موءودة - دندنة - غيم. 1- نحدد أعمق الأصوات في كل كلمة ونكتبه فوقها "بعد تجريدها من الزوائد": غ ر ظ ت ر د د د غربل - رفرف - ظنن - تلل - روى - فدن - دبب - وأد - د غ دندن - غيم. 2- تقسم الكلمات إلى مجموعات حسب أعمق الأصوات هكذا: مجموعة الغين "غربل - غيم". مجموعة الدال [فدن - دبب - وأد - دندن] . مجموعة التاء [تلل] . مجموعة الظاء [ظنن] . مجموعة الراء [رفرف - روى] .

3- ترتب كل مجموعة تشتمل على أكثر من كلمة حسب القسم: الغين: غيم / غربل. الدال: دبب / دندن / فدن / وأد. التاء. تلل. الظاء: ظنن. الراء: رفرف / روى. 4- إذا وجد لفظان ينتميان إلى نفس القسم يرتبان حسب المادة. وينطبق ذلك على لفظي دندن ودبب اللذين يقعان في قسم الثنائي. وبالحصول على المادة وهي دن ودب نجد دندن تسبق دبب. وعلى هذا يكون الترتيب النهائي على النحو التالي: غيم - غربال - دندن - دبابة - فدان - موءودة - تل - ظنين - رفرف - تردية. ب- دائرة - غضنفر - برائن - دريئة - تمثال - غرنوق - فرند - ورم - ثلاثة - تأييد - غاية. الترتيب: "غ" غاية - غرنوق - غضنفر. د- دائرة - دريئة - تأييد - فرند. ث- ثلاثة - تمثال - براثن. ر- ورم. والترتيب النهائي: "1" غاية "2" "3" غضنفر "4" دائرة "5" دريئة "6" "7" فرند "8" ثلاثة "9" تمثال "10" براثن "11" ورم.

"ب" مدرسة الترتيب الألفبائي: 1- وضع الكلمة تحت أسبق حروفها1: الجمهرة لابن دريد: سار ابن دريد في معجمه الجمهرة على الترتيب الألفبائي العادي، ووضع الكلمات تحت أسبق حروفها في الترتيب الهجائي ولكن عقد نظامه أن المؤلف اتبع المنهج الآتي: 1- قسم أبينة الكلام إلى ثنائي وثلاثي ورباعي وخماسي وسداسي2 ولفيف، وبدأ بهذا التقسيم. ولم يكتف بهذه القسمة السداسية فعقد الموضوع بتقسيمات فرعية، فالثنائي تحته: أ- ثنائي صحيح مثل أبب وأزز. ب- ثنائي ملحق ببناء الرباعي وهو المكرر أو الذي ضعف فيه حرفان مثل زل زل. جـ- ثنائي ممثل وما تشعب منه مثل باء وثوي "اعتبر الهمزة من حروف العلة". والثلاثي تحته: أ- ثلاثي صحيح مثل ب ك ل. ب- ثلاثي يجتمع فيه حرفان مثلان ب ت ت. جـ- ثلاثي عين الفعل منه أحد حروف اللين مثل باب. د- ثلاثي معتل الآخر ب ت "و - ا - ي". وهكذا. وقد تتبع الدكتور عبد السميع أبواب الجمهرة فحصرها في سبعة عشر بابًا3.

_ 1 أسبق حروفها في الترتيب الهجائي مهما كان موضعه في الكلمة. 2- عبر عنه بقوله: هذه أبواب ألحقت بالخماسي بالزوائد التي فيها - وبقوله: الملحق السداسي - وبقوله: السداسية وإن كان الأصل غير ذلك. وذكر له الأمثلة الآتية: سحنكك ومبرنشق ... إلخ. 3 المعاجم العربية، ص 55.

2- رتب الكلمات تحت كل باب على الترتيب الهجائي العادي. لأنه اعتبر الترتيب الصوتي مسلكًا وعرًا لا يقدر على السير فيه إلا المتخصصون، يقول: "وقد ألف أبو عبد الرحمن بن أحمد الفرهودي كتاب "العين" فأتعب من تصدى لغايته، وعنى من سما إلى نهايته، ... ولكنه -رحمه الله- ألف كتابه مشاكلًا لثقوب فهمه وذكاء فطنته وحدة أذهان أهل دهره، وأملينا هذا الكتاب والنقص في الناس فاش"1، ويقول: "وأجريناه على تأليف الحروف المعجمة، إذ كانت بالقلوب أعبق، وفي الأسماع أنفذ، وكان علم العامة بها كعلم الخاصة"2. 3- اتبع نظام التقليبات كالخليل. ومعنى هذا أننا لا نجد الكلمة تحت حرفها الأول، وإنما تحت أسبق حروفها في الترتيب الهجائي مهما كان مكان هذا الحرف. فكلمة عبد توجد في الباء لأنها أسبق الحروف في الترتيب، وكلمة سمع توجد تحت السين وهكذا. ويوجد بين العين والجمهرة وجها شبه رئيسيان هما: 1- التقسيم الكمي. 2- التقليب. كما يوجد بينهما وجها خلاف رئيسيان هما: 1- الترتيب الصوتي في العين، والهجائي في الجمهرة. 2- بدء العين بمرحلة الترتيب الهجائي "الصوتي" ثم تقسيم كل حرف تقسيمًا كميًّا، أما الجمهرة فتبدأ بالتقسيم الكمي، ثم تقسم كل نوع إلى أبواب بعدد حروف الهجاء. وهناك جملة مآخذ أخذت على ابن دريد منها: 1- التكرار حيث جعل قسمًا للثنائي الصحيح، وهو ما ضعف فيه الحرف الثاني مثل أزز، ثم جعل قسمًا للثلاثي يجتمع فيه حرفان مثلان في أي موضع، وذلك يشمل الثنائي الصحيح وزيادة.

_ 1 الجمهرة 1/ 3. 2 المرجع السابق.

2- اعتباره الهمزة من أحرف العلة. 3- من أبوابه باب سماه اللفيف1 وهو يضم الكلمات التي جاءت على أوزان قليلة. وقد حشدها بدون ترتيب وبعضها سبق توزيعه على الأبواب. 4- في أبواب الثلاثي الصحيح نجده يذكر أمثلة للثلاثي المعتل مثل: ب ن و - ب وهـ مع أن للمعتل بابًا خاصًّا به. 5- اعتباره تاء التأنيث أحيانًا من بنية الكلمة وعدها ضمن حروفها ومن ذلك ذكره كلمة "عجة" في مادة ج ع هـ وقال: "العجة ضرب من الطعام عربية صحيحة". وحقها أن تذكر في الثنائي الصحيح. والغريب أن ابن دريد ذكرها مرة ثانية في "باب من الثلاثي يجتمع فيه حرفان مثلان في أي موضع". ومن ذلك ذكره كلمة "ثبرة" في الرباعي وتعليله ذلك بأن الهاء لازمة. بل ذكره كلمات ثلاثية لا تلزمها التاء في قسم الرباعي مثل "جلبة" و "جنبة"2. 6- مناقضته اسم معجمه وما نبه عليه في المقدمة من إيثاره للجمهور من كلام العرب، وتجاهله للوحشي والمستنكر، فأكثر من الألفاظ الغربية، حتى انفرد بأشياء لم ترد في معاجم غيره. ويتضح ذلك من مراجعة المادة اللغوية التي احتواها المزهر للسيوطي في الفصل الخاص بمعرفة الضعيف والمنكر والمتروك من اللغات، فمعظمها مأخوذ من الجمهرة3.

_ 1 قال: وسميناه لفيفًا لقصر أبوابه والتفاف بعضها إلى بعض. 2 هذه المآخذ وردت في المعاجم العربية للدكتور عبد السميع ص 59 وما بعدها. وجلبة الجرح القطعة الرقيقة من الجلد التي تركبه عند البرء. أما الجنبة فهي علبة تتخذ من جلد جنب البعير. 3 الجرح: ص 43.

7- وأخطر من هذا، تلك التهمة التي ألصقها به الأزهري وذلك في قوله: "وممن ألف في عصرنا الكتب فوسم بالافتعال وتوليد الألفاظ ... وإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامها أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد وتصفحت كتاب "الجمهرة" له فلم أره دالًّا على معرفة ثاقبة وعثرت منه على حروف كثيرة أنكرتها ولم أعرف مخارجها"1. 8- ويبدو أن معظم أخطاء ابن دريد قد نتجت عن عدم خبرته بعلم الصرف وفي ذلك يقول ابن جني: "وأما كتاب "الجمهرة" ففيه أيضًا من اضطراب التصنيف وفساد التصريف ما أعذر واضعه فيه لبعده عن معرفة هذا الأمر. ولما كتبته وقعت في متونه وحواشيه جميعًا من التنبيه على هذه المواضع ما استحييت من كثرته. ثم إنه لما طال على أومأت إلى بعضه وأضربت ألبتة عن بعضه"2. ويبدو أن ابن دريد كان يحس بالنقص في عمله ويعتذر بأنه أملى الكتاب ارتجالًا "لا عن نسخة، ولا تخليد في كتاب قبله. فمن نظر فيه فليخاصم نفسه بذلك فيعذر إن كان فيه تقصير أو تكرير"3. ولكننا من ناحية أخرى نجد من العلماء من يشهد له ويقدمه على منافسيه. يقول المسعودي: "وكان ابن دريد ببغداد ممن برع في زماننا هذا في الشعر، وانتهى في اللغة، وقام مقام الخليل بن أحمد فيها، وأورد أشياء في اللغة لم توجد في كتب المتقدمين"4. ويقول

_ 1 1/ 31. 2 المزهر 1/ 93 ثقلا عن الخصائص. 3 الجمهرة 3/ 268. 4 وفيات الأعيان 3/ 448.

أبو الطيب اللغوي: "هو الذي انتهى إليه علم لغة البصريين. وكان أحفظ الناس وأوسعهم علما وأقدرهم على الشعر. وما ازدحم العلم والشعر في صدر أحد ازدحامهما في خلف الأحمر وابن دريد"1. ويدافع عنه السيوطي قائلا: "معاذ الله هو بريء مما رمى به، ومن طالع الجمهرة رأي تحريه في روايته. ولا يقبل فيه طعن نفطويه لأنه كان بينهما منافرة عظيمة"2. وكانت وفاة ابن دريد عا م 321 هـ عن نيف وتسعين سنة. وكان قد أصيب بالفالج على رأس التسعين ثم شفي ثم أصيب به مرة ثانية. وقد طبع معجم الجمهرة في حيدر آباد بالهند عام 1344 هـ في ثلاثة مجلدات ألحق بها مجلد خاص للفهارس. وقد قام على تصحيحه رجلان هما الشيخ محمد السورتي والمستشرق الألماني فريتس كرنكو. ويبدو أن تعقد منهج "الجمهرة". وتمسك ابن دريد بنظام التقليبات برغم طرحه لترتيب الخليل الصوتي كانا من أسباب انصراف المعجمين عن اتباع نظام "الجمهرة". ولذا يقف ابن دريد وحده دون أتباع أو مريدين3.

_ 1 مراتب النحويين ص 84. 2 المزهر 1/ 93. 3 ولكن هذا لم يمنع تأليف بعض الكتب حوله مثل: فائت الجمهرة لأبي عمر الزاهد، وجوهرة الجمهرة للصاحب بن عباد، وشرح شواهد الجمهرة لأبي العلاء المعري.

مثالا تطبيقيان على معجم الجمهرة: المثال الأول: للبحث عن كلمة "ربابة" في الجمهرة: الجذر: ربب. القسم: الثنائي. الباب: الباء. المادة: ب ر. التقليبات: ب ر - ر ب. المثال الثاني: ترتيب الكلمات الآتية حسب ورودها في معجم الجمهرة: علقم - سبابة - ابتلاء - توبيخ - دلال - عصفور - دقيق - انبثاق - ركود - شتيمة. 1- معجم الثنائي بعد التجريد: "سبب - دلل - دقق". مجموعة الثلاثي الصحيح: [بثق - ركد - شتم] . مجموعة الثلاثي المعتل: [بلو - وبخ] . مجموعة الرباعي: [علقم - عصفر] . 2 ترتيب كل مجموعة حسب أسبق الحروف. أ- سبب - دلل - دقق. ب- بثق - شتم - ركد. جـ- بلو - وبخ. د- عصفر - علقم. 3- ترتيب ما اتفق أسبق الحروف فيه حسب المادة: أ- ب س - د ق - د ل.

"ب" ب ث ق - ت ش م - د ر ك. جـ- ب خ و - ب ل و. د- ر ص ع ف - ع ق ل م. 4- التريب النهائي: سبابه - دلال - دقيق- انبثاق - شتيمة - ركود - ابتلاء - توبيخ - عصفور - علقم. 2- وضع الكلمة تحت أول حروفها الأصلية: ظهر هذا النوع من المعجم منذ وقت مبكر لا يتجاوز النصف الثاني من القرن الثاني الهجري. وأقدم معجم سلك هذا النظام هو: معجم الجيم لأبي عمرو الشيباني: وتوجد من المعجم نسخة مصورة في معجم اللغة العربية بالقاهرة. كما قام المجمع بطبعه في ثلاثة أجزاء حقق الأول منها إبراهيم الإبياري "1974" والثاني عبد العليم الطحاوي "1974" والثالث عبد الكريم العزباوي "1975" وألحق بالمعجم جزء رابع يشتمل على الفهارس "1983". ويعد الشيباني من المعمرين فقد ولد قبل الخليل "94 هـ"، وتوفي بعده "206 هـ". ولهذا يطرح بعضهم احتمال أن يكون الشيباني سابقا للخليل في وضع معجمه1. وأبو عمرو راوية كوفي أخذ اللغة مشافهة عن الأعراب ورحل إلى البادية، وكانت له مشاركة في رواية الحديث.

_ 1 انظر: في علم اللغة العام لشاهين، ص 197. وانظر في ذكر الخلاف حول مولده ووفاته: مقدمة المحقق لكتاب الجيم، ص 10 وما بعدها. ويختار ديم أن يكون مولده حوالي سنة 120 ووفاته سنة 213 "ص 18، 19".

ويقولون: إن مؤلف الجيم كان ضنينًا به، ولم ينسخ في حياته، ففقد بعد موته إلا يسيرًا. وحين أراد مجمع اللغة العربية تحقيقه لم يعثر إلا على نسخة واحدة ومع ذلك يقول المحقق عن الكتاب: "ولكنه لا شك ليس على صورته النهائية التي أرادها له واضعه، كما أنه لا يحمل مقدمة تعرف بمنهجه وتعلل تلك التسمية" ويقول أيضًا: "هذا إلى أن ورود بعض الأبواب مبتورة يكاد يؤكد لنا أن الكتاب لم يتم استصفاء على يدي صاحبه أبي عمرو وأن الموت عجل به عن ذلك"1. ويبدو أن عدم تداول الكتاب جعل العلماء يظنون أن سبب التسمية أنه انتهى بحرف الجيم كما ذكر كرنكو أو أنه بدأ بها كما ذكر كثيرون لكن قال أبو الطيب اللغوي: "وقفت على نسخة منه فلم نجده مبدوءًا من الجيم". وكلام أبي الطيب حق، فالمعجم لا يبدأ من الجيم وإنما يسير على الترتيب الهجائي العادي بحسب أوائل الكلمات بعد تجريدها من الزوائد، ولكنه لم يدخل في الترتيب ثواني الكلمات وثوالثها. ولهذا نجد كلمات حرف الألف تتتابع هكذا: أوق - ألب - أفق - أزح - أنف - أرب - أخذ ... إلخ. وربما كانت أهم ميزة لهذا المعجم أن ألفاظه خلاصة استصفاء لشعر شعراء قبائل تربي على الثمانين يكاد جل شعرهم يكون مجهولًا يعز تتبعه في المراجع التي بين أيدينا. كما أن هذه الكلمات تحمل شروحًا لا تنطوي عليها معاجمنا، وتكاد تكون غريبة عليها2. ولهذا فإن كتاب الجيم يمكن تسميته معجمًا على سبيل التجوز، لأنه يهتم بالألفاظ الغربية التي لا يكاد يعرفها غيره، والتي تنسب إلى قبائل معينة قديمة، ويبدو أن المؤلف -لجريه وراء الغريب- قد أطلق على معجمه لفظًا وأراد به معناه الغريب. فالجيم في اللغة الديباج،

_ 1 ص 35، 46. 2 مقدمة المحقق ص 47، وفرنر ديم ص 57.

وهذا هو المعنى الذي ربما عناه المؤلف تشبيهًا لعمله بالديباج لحسنه1. ولكن يعكر على هذا التخريج أن تفسير الجيم بالديباج لم يرد في معجم الجيم نفسه. وهناك احتمال آخر هو أن يكون المؤلف قد بدأ معجمه بالجيم فعلًا، ولكن جاء بعده من أعاد ترتيب الكتاب على الترتيب الهجائي المعروف ويبقى السؤال: لماذا اختار الجيم على هذا الاحتمال؟ الإجابة يلخصها الأستاذ إبراهيم الإبياري محقق الكتاب في قوله: أ- إما لأنه كره أن يبدأ بالباء أول الحروف لأنه لا بد معها من النص على نقطها حتى لا تلتبس بالتاء والثاء. وهذا يطول العنوان، ولذا بدأ بالجيم الذي لا يلتبس في اسمه بحرف آخر. ب- أو لأن الجيم أحد حروف خمسة تجمع بين الجهر والشدة2. وقد كان أول من نوه بمعجم الجيم وأشار إلى أهميته المستشرق ف. كرنكو ولكنه هو ومن جاء بعده من المستشرقين أخفقوا في تحقيقه. وفي عام 1968 صدرت أول دراسة علمية مفصلة عن المعجم برسالة أعدها فرنر ديم لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة لودفيك مكسيميليان في ميونيخ. وترجم بحث فرنر ديم إلى العربية ونشر عام 1980. وقد أثبت ديم أن كثيرًا من مادة "الجيم" لم يرد في المعاجم الأخرى، وأن علماء اللغة المتأخرين لم يأخذوا منه إلا قليلًا. كما ذكر أن في الجيم

_ 1 هذه المعلومات مأخوذة من بغية الوعاة - كشف الظنون - الأعلام للزركلي - دلالة الألفاظ للدكتور إبراهيم أنيس "ص 223" - محاضرات في علم اللغة للمؤلف "ص 207". وقد ذكرالدكتور عدنان الخطيب أن لأبي عمرو الشيباني معجمًا سماه "الحروف" رتبه على الترتيب الهجائي العادي "المعجم العربي، ص 29". وراجع ما ذكره في ص 32، 33 كذلك. 2 مقدمة الجيم ص 38، 40.

عددًا ضخمًا من الشواهد الشعرية التي يصعب العثور عليها في مراجع أخرى. وهذا وذاك يعطي المعجم أهمية كبيرة1. المقاييس لابن فارس: ولد ابن فارس "أحمد بن زكريا القزويني" وعاش ومات في القرن الرابع الهجري قرن النهضة المعجمية الشاملة. وكانت ولادته عام 329 هـ2 ووفاته عام 395 هـ. وآثار ابن فارس اللغوية عديدة منها "الصاحبي في فقه اللغة" ومنها "المجمل" بالإضافة إلى معجمه مقاييس اللغة الذي معنا. وقد أقيم نظام المقاييس على أساسيين هما: 1- اتباع الترتيب الهجائي العادي. ولكنه لم يكن يبدأ ثواني الكلمات من أول الألفبائية ولكن من الحرف الذي يلي الحرف الأول. وحينئذ فقوله: باب الحاء وما بعدها يعني به الحاء مع الخاء، ثم يسير إلى نهاية الألفبائية، ويبدأ من الهمزة ويقف عند الجيم، وقد شرح الدكتور عبد الله درويش الفكرة قائلًا: فإذا تصورنا أن الأبجدية منتظمة في شكل دائرة فإن الترتيب يبدأ من الحرف المعين مبتدئًا بتأليفه مع

_ 1 ديم ص 148، 158. 2 ذكر ذلك عدنان الخطيب ص 39، وأكد الأستاذ هلال ناجي أنه ولد سنة 312 والأرجح أنه ولد خلال العقد الأول من القرن الرابع أو بداية العقد الثاني "مقدمة التحقيق لمجمل اللغة".

ما يليه في الدائرة ثم ينتقل إلى الحرف الثاني وهكذا حتى تعود الدائرة من حيث بدأت وهكذا: وفعل مثل في الحروف الثالثة1. وعلى هذا فكلمة مثل "عبد" توضع في المقاييس بعد كلمة "عقد" لأن القاف تلي العين بحرفين أما الباء فلا يأتي دورها إلا بعد الانتهاء من جميع حروف الهجاء ثم البدء بالهمزة ثم الباء2. 2- تقسيم كل حرف من حروف الهجاء أقسامًا ثلاثة "إن وجدت الثلاثة" أو بعضها "إن لم توجد كلها". وهذه الأقسام هي: "أ" المضاعف. "ب" الثلاثي الأصول. "ج" ما جاء على أكثر من ثلاثة أحرف. وأهم ما يميز المقاييس إلى جانب ذلك شيئان: 1- محاولة ربط المعاني الجزئية للمعاني بمعنى عام يجمعها أو معان عامة. وخير مثال لذلك مادة "جن" التي ردها إلى معنى الستر والتستر، وفرع على ذلك: الجنة لأنها ثواب مستور عنهم اليوم -والجنة بمعنى البستان لأن الشجر بورقه يستر- والجنين الولد في بطن أمه - والجنان القلب - والمجن الترس، وكل ما استتر به من السلاح فهو جنة - والجنة المجنون، وذلك أنه يغطي العقل - وجنان الليل سواده وستره الأشياء، والجن سموا بذلك لأنهم مستترون ... 3. 2- مذهبه الخاص في الرباعي والخماسي الذي شرحه بقوله:

_ 1 المعجم العربي ص 124. 2 يبدو أن ابن فارس أخذ فكرته البدء في الثواني بما يلي الأوائل وفي الثوالث بما يلي الثواني - أخذها عن معاجم التقليبات. ولكن معاجم التقليبات فعلت ذلك تجنبًا للتكرار، ولا حكمة في صنيع ابن فارس. 3 1/ 421، 422.

"اعلم أن للرباعي والخماسي مذهبا في القياس يستنبطه النظر الدقيق. وذلك أن أكثر ما تراه منحوت. ومعنى النحت أن تؤخذ كلمتان وتنحت منهما كلمة تكون آخذة منهما جميعًا بحظ. والأصل في ذلك ما ذكره الخليل من قولهم: حيعل الرجل إذا قال حي على ... فعلى هذا الأصل بنينا ما ذكرناه من مقاييس الرباعي فنقول: إن ذلك على ضربين: أحدهما المنحوت الذي ذكرناه. والضرب الآخر الموضوع وضعًا لا مجال في طرق القياس...."1. ومن يراجع مادة المقاييس يجد ابن فارس يضيف إلى هذين الضربين ضربًا ثالثًا وهو: "ما يجيء على الرباعي وهو من الثلاثي على ما ذكرناه لكنهم يزيدون فيه حرفًا لمعنى يريدونه من مبالغة"2. وأمثلة هذه الأنواع الثلاثة كما يلي: 1- بحتر: القصير المجتمع الخلق من بتر وحتر: فالأول كأنه حرم الطول فبتر خلقه، والثاني لأنه ضيق عليه ولم يعط ما أعطيه الطويل. 2- أما ما وضع وضعًا فمثل له بالبخنق والبرغز والبرذن والبرشم 3 ... إلخ. 3- أما ما زيد فيه حرف فمثاله بلعوم من البلع، وبرقع، بزيادة الباء، وبلسم بزيادة الميم وبلقع بزيادة اللام. وقد طبع معجم مقاييس اللغة في مصر بتحقيق الأستاذ الكبير عبد السلام هارون في ستة مجلدات وزود بفهارس دقيقة وافية.

_ 1 1/ 329. 2 1/ 335. 3 البخنق: برقع يغشي العنق والصدر. والبرغز: ولد البقرة الوحشية. والبرشم: البرقع.

مجمل اللغة لابن فارس: عده بعضهم أفضل ما ألف ابن فارس وأشهره: وقد قام بتأليفه -كما ذكر في مقدمته- ليتلافى تعقيدات المعاجم السابقة مثل العين والجمهرة. ولذا ألفه مختصرًا قريبًا، قليل اللفظ، كثير الفوائد1. ويكشف عنوان الكتاب عن منهجه، وهو الإجمال الشديد، والتقليل من الشواهد والتصاريف. كما أن المؤلف يكشف عن جوانب أخرى من المنهج في مقدمته حين يصف المعجم بصغر الحجم وحسن الترتيب. وفي أوائل الأحرف قد يتحدث المؤلف عن جوانب أخرى من منهجه كقوله في أول حرف الجيم: "هذا باب الجيم من مجمل اللغة وقد ذكرنا فيه الواضح من كلام العرب والصحيح منه دون الوحشي المستنكر. ولم نأل جهدًا في اجتباء المشهور الدال على غريب آية أو تفسير حديث أو شعر. والمتوخي من كتابنا هذا من أوله إلى آخره: التقريب والإبانة عما ائتلف من حروف اللغة فكان كلامًا، وذكر ما صح من ذلك سماعًا، ومن كتاب لا يشك في صحة نسبه"2. أما ترتيبه فهو نفس ترتيب المقاييس أي الترتيب الهجائي مع بدء الثاني مما يلي الأول والثالث مما يلي الثاني والتقسيم الكمي إلى مضاعف وثلاثي وما زاد على ثلاثة أحرف. بين المقاييس والمجمل: رغم اتفاق المعجمين في الترتيب فهما يختلفان في عدة جوانب منها: 1- يقوم المقاييس على جملة من الأقيسة تتعلق بالثلاثي والرباعي كما سبق أن ذكرنا أما المجمل فمعجم عادي همه إيصال معاني الألفاظ إلى القارئ.

_ 1 مقدمة التحقيق للمجمل ص 96. 2 مجمل اللغة 1/ 382.

2- ينفرد "المجمل" بذكر مواد كثيرة لم يشر إليها في "المقاييس"1. وقد طبع "المجمل" طبعتين محققتين، أولاهما بتحقيق زهير عبد المحسن سلطان، في أربعة أجزاء، والأخرى بتحقيق هادي حسن حمودي في خمسة أجزاء، من منشورات معهد المخطوطات العربية بالكويت. مثالان تطبيقيان على معجمي المقاييس والمجمل: المثال الأول: البحث عن كلمة "متكلف" في أحد المعجمين: الجذر: كلف. الباب: الكاف. القسم: الثلاثي. المادة: الكاف واللام وما يثلثهما. المثال الثاني: ترتيب الكلمات الآتية حسب ورودها في أحد المعجمين: بهو - حيتان - أتان - تدبير - درهم - بثور - أزيز - صيام - صنبور - برزخ - دخان - صحراء - دهان. "أ" تقسم الكلمات إلى مجموعات حسب حرفها الأول بعد التجريد: * أتن - أزز. * بهو - بئر - برزخ. * حوت. * دبر - درهم - دخن - دهن. * صوم - صنبر - صحر.

_ 1 مقدمة التحقيق للمجمل ص 115.

"ب" ترتب كلمات كل حرف حسب حجمها: * أزز / أتن. * بهو - بئر - برزخ. * حوت. * دبر - دخن - دهن / درهم. * صوم - صحر / صنبر. جـ- ترتب كلمات كل قسم حسب الثواني والثوالث: * أزز - أتن. * بئر - بهو - برزخ. * حوت. * دهن - دبر - دخن - درهم. * صوم - صحر - صنبر. فيكون الترتيب النهائي: أزيز - أتان - بثور - بهو برزخ - حوت - دهان - تدبير - دخان - درهم - صيام - صحراء - صنبور. أساس البلاغة للزمخشري: ولد الزمخشري عام 467، وتوفي عام 538. وهو أول من اكتمل على يديه نظام الترتيب الألفبائي: وقد ذكر في سبب اختياره له ما يأتي: "وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولًا، وأسهله متناولًا، يهجم فيه الطالب على طلبته -موضوعة سعلى طرف الثمام وحبل الذراع". ونظام الزمخشري هو النظام الحديث الذي ينظر إلى الأوائل فإذا اتفقت ينظر إلى الثواني؛ فإذا اتفقت ينظر إلى الثوالث ... ويشرح الزمخشري

خطته قائلًا: "من خصائص هذا الكتاب تخير ما وقع في عبارات المبدعين وانطوى في استعمالات المفلقين من التراكيب التي تملح وتحسن ... "ومنها التوقيف على مناهج التركيب والتأليف.. بسوق الكلمات متناسقة لا مرسلة بددًا، ومتناظمة لا طرائق قددًا ... "ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام الفصيح بإفراد المجاز عن الحقيقة، والكناية عن التصريح ... "1. ولعل أهم ما يميز الكتاب -إلى جانب سهولة ترتيته- ما التزمه المؤلف من التفريق بين المعاني الحقيقية والمعاني المجازية للكلمة، وبدئه بالمعنى الحقيقي. ومن أمثلة ذلك قوله: 1- سيف وسنان ذ ر ب. . . وفيه ذ ر ب وذرابة: حدة.. ومن المجاز: لسان ذرب.. وسم ذ رب.. 2- مَج الماء من فيه. وشيخ وبعير ماج: هرم لا يمسك ريقه ... ومن المجاز: مزج الشراب بمجاج المزن وبمجاج النحل ... وهذا كلام تمجه الأسماع ... وإذا كان الزمخشري قد وفق في الأمثلة السابقة وغيرها فهو لم يوفق في بعض آخر مثل: 1- ... يقال: أشد من وخز الإبر ... ومن المجاز: إبرة القرن لطرفه. 2- ... أرتج الباب: أغلقه إغلاقًا وثيقًا ... ومن المجاز: أرتجت الناقة. حملت فأغلقت رحمها على الماء ... وأرتجت الدجاجة: امتلأ بطنها بيضًا. 3- كتب الكتاب ... انتسخه ... ومن المجاز: كتب عليه كذا: قضى عليه ... وكتب البغلة وكتب عليها إذا جمع بين شفريها بحلقة ... وكتب النعل والقربة: خرزها بسيرين.

_ 1 مقدمة المؤلف ص 8.

وأهم ما نلاحظه على هذه الاقتباسات شيئان: "أ" أنه ثبت المعاني الحقيقية والأخرى المجازية مع أن المجاز والحقيقة في حركة دائبة ويتبادلان مراكزهما. ب- أنه عكس الوضع بالنسبة لكلمات "إبرة" و "أرتج" و"كتب" فاعتبر المجاز حقيقة والحقيقة مجازًا. المصباح المنير للفيومي: وهو من المعاجم الموجزة، ومؤلفه من علماء القرن الثامن الهجري1. وقد اهتم فيه المؤلف بالاصطلاحات الفقهية، لأنه هدف من تأليف معجمه إلى شرح ألفاظ "شرح الوجيز" الذي كتبه الرافعي2 على "الوجيز"3 للغزالي وفيه أكثر من الاستشهاد بالحديث النبوي4. والكتاب -كما ذكر الفيومي في خاتمة معجمه- قد جمع أصله من نحو سبعين كتابًا ما بين معاجم وموسوعات وكتب تفسير ونحو ودواوين شعر. ويزيد في قيمة المعجم أن المؤلف ألحق بكتابه دراسة موجزة ضمت قواعد من النحو والاشتقاق والتصريف والمصادر والجموع والتذكير والتأنيث والتفضيل والنسب.

_ 1 لم تحدد المراجع تاريخ مولده، واستنتج بعضهم أن يكون قد ولد قبيل عام 700. أما تاريخ وفاته فقيل في حدود 760 وقبيل 770 هـ. 2 هو إمام الدين عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الرافعي القزويني "557 - 623 هـ" وشرح الوجيز يسمى كذلك: "الشرح الكبير" و "وفتح العزيز في شرح الوجيز". 3 الوجيز كتاب في فقه الشافعية. 4 من ذلك قوله في مادة "ثنى": "أثنيت عليه خيرًا وبخير وأثنيت عليه شرًّا وبشر ... وفي الصحيحين: $"مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال عليه الصلاة والسلام وجبت. ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا فقال عليه الصلاة والسلام وجبت".

ملاحظة: سارت معاجم هذه المدرسة على اعتبار الأوائل ثم الثواني ثم الثوالث، ولكن هناك طريقة غريبة سار عليها أبو حيان في معجمه "تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب" حيث اعتبر الأوائل ثم الثوالث1. 3 وضع الكلمة تحت أول حروفها دون تجريد: لم تظهر - في الحقيقة - معجمات قديمة كاملة اتبعت هذا النظام. وإنما ظهرت مجموعة من الكتب اللغوية التي اهتمت بنوع معين من المفردات وأهم هذه الكتب هو: 1- "المقصور والممدود" لابن ولاد المصري المتوفي عام 332 هـ. وهو معجم يحصر كلمات المقصور والممدود في اللغة العربية، وسار فيه المؤلف على النحو التالي: 1- وضع الكلمات تحت أوائلها بدون تفريق بين الأصلي والزائد. 2- اتباع نظام الترتيب الهجائي العادي وطرح نظام الخليل الصوتي. 3- عدم إعطاء أي اعتبار لثواني الكلمات أو ثوالثها. وقد طبع كتاب ابن ولاد حتى الآن طبعتين غير محققتين، إحداهما بإشراف الدكتور بول برونل في لندن - ليدن عام 1900، والأخرى بإشراف السيد محمد بدر الدين الحلبي في القاهرة عام 1908 - وكلتاهما مليئة بالتحريفات والأخطاء. ب- "غريب القرآن" لأبي بكر محمد بن عزير السجستاني المتوفي عام 330 هـ.

_ 1 انظر مقدمة المحققين ص 7 - 8.

جـ- وقد لاقى هذا النظام رواجًا بصفة خاصة بين المؤلفين في غريب القرآن وغريب الحديث، لأن عملهم في الحقيقة كان يخاطب الجمهور المسلم قبل المتخصصين في البحث اللغوي، ولا شك أن هذا النظام أيسر على القارئ العادي. ونشير بوجه خاص إلى "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني، و"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير. د- كذلك سلك الجواليقي هذا السبيل في كتابه عن الكلمات المعربة في اللغة العربية والذي يحمل اسم "المعرب". والسر في عدم شيوع هذا النظام بين المعجميين القدماء أنه يمزق كلمات المادة الواحدة، ويفرقها في أماكن متعددة. فمادة "كتب" مثلًا ستوزع مشتقاتها على النحو الآتي: كتاب وكتاب و ... في الكاف مكتب ومكتوب و ... في الميم تكاتب ... و ... في التاء. اكتتاب.... و.... في الألف وهكذا وبذلك ضحى المعجميون بالسهولة في سبيل لم المتفرق وجمع الشمل. 4- وضع الكلمة تحت حرفها الأخير دون تجريد: التقفية في اللغة: مؤلف هذا المعجم أبو بشر اليمان بن أبي اليمان البندنيجي، الذي ولد عام 200 هـ وتوفي عام 284 هـ. والبندنيجي نسبة إلى بلد يدعى بندنيجين على طرف النهروان من ناحية الجبل من أعمال بغداد في أرض السواد، قرب الحدود العراقية الإيرانية.

رتب المؤلف كتابه على حسب أواخر الكلمات، بغض النظر عن كونها حروفًا أصلية أو زائدة، مع أخذه في الاعتبار قوافي الشعر وكيفية ترتيبها هجائيًّا. ومن أجل هذا -ولأن المؤلف هدف إلى خدمة الشعراء- لم يرتب الكلمات داخلالقافية أي نوع من الترتيب، وإنما اكتفى بتجميع الكلمات تحت الحرف الأخير "حرف الروي في القافية"، مع ما يسبقه حين يكون التزامه ضروريًّا في القافية. ومما يدل على أن هدف المؤلف لفظي يتمثل في تقديم القوافي المتماثلة -أنه كثيرًا ما كان يسرد الكلمات سردًا متتابعًا دون توضيح معانيها، وتكراره الكلمة في أكثر من موضع بحسب ما يلحقها من زوائد تغير القافية. "فكبير" في قافية و"كبيرة" في قافية أخرى ... وهكذا. وقد أفصح المؤلف عن هذا حين قال: إنه "اختار الكلام الفصيح الذي لا يجهله العوام". وحين أطلق على الفروع داخل الحرف الواحد "قافية". ولنمثل لذلك بباب الراء. فقد بدأ بكلمات: المجر - النجر - البشر - العسر ... ثم قال: "قافية أخرى" اشتملت على كلمات مثل: الميرة - كبيرة - صغيرة - جبيرة.... ثم "قافية أخرى" اشتملت على كلمات مثل: قماطر - عذافر - تضافر - تظاهر ... ومما يؤكد سيطرة فكرة القافية على تقسيمات المؤلف أنه قسم حرف الألف إلى: باب الألف الممدودة مثل: أباء - خباء - هباء - حرباء - شتاء ... ثم باب الألف المهموزة مثل: نبأ - ظمأ - كلأ - ... وتحت هذا الباب فروع متنوعة. ففرع يشمل: الظماء - الفناءة - الجراءة ... وفرع يشمل: اللألأة - الصأصأة - الدأدأة ... وأخيرًا ذكر باب الألف المقصورة ويشمل كلمات مثل: القفا - البلى - الطلى - العلى.... وما دام هدف المؤلف تقديم القوافي للشعراء، وليس هدفه تقديم

العون لمن يريد ضبط كلمة أو معرفة معناها فإنه لم ير أي داع لترتيب الكلمات داخل القافية الواحدة. لأن من يبحث عن قافية معينة لا يهمه ترتيب الكلمات تحت هذه القافية إذ لا بد له أن يقرأ كلمات القافية المرادة كلها. وهذا هو السر في أن المؤلف لم يرتب الكلمات أي ترتيب آخر على الأوائل أو الثواني مثلًا. ولهذا فلا معنى لقول محقق "التقفية": "فلم يدر بخلده ارتضاء ترتيب هجائي يوفر على المراجع الجهد، مما يدل على عدم اختمار المسألة في ذهنه" "انظر ص 24 من المقدمة". وقد طبع المعجم عام 1976 باسم "التقفية في اللغة" وقام بتحقيقه الدكتور خليل إبراهيم العطية، ونشر في العراق بمساعدة وزارة الأوقاف. 5- وضع الكلمة تحت حرفها الأصلي الأخير: رائد هذه الطريقة التي يطلق عليها نظام الباب والفصل أو الترتيب بحسب القافية هو الفارابي اللغوي وعنه أخذها تابعون كثيرون. ومن الباحثين من ينسب الريادة للبندنيجي مؤلف "التقفية" ومن هؤلاء محقق التقفية الدكتور خليل العطية وكذلك الدكتور عبد الصبور شاهين1. وفي رأيي أن كتاب التقفية لا يمكن اعتباره من معاجم الباب والفصل لما يأتي: أ- أنه مرتب بحسب الأواخر دون تجريد من الزوائد. ب- أنه لم تعتبر فيه الأوائل في حال اتفاق الأواخر. جـ- أن مهمته تختلف عن مهمة المعجم، لأنها تتركز في عرض كلمات اللغة مبوبة على حسب تقسيمات القافية في الشعر العربي. أما مهام المعجم الأساسية التي تتلخص في شرح الكلمات وضبطها بالشكل

_ 1 انظر: في علم اللغة العام، ص 215.

وبيان كيفية كتابتها وتحديد وظيفتها الصرفية ... فتكاد تختفي من هذا الكتاب. صحاح الجوهري: يعد الجوهري تابعًا لطريقة الفارابي، ولكنه أدخل تعديلًا جوهريًّا عليها إذا طرح الخطوات الكثيرة التي سارت عليها معاجم الأبنية، واختار من منهج الفارابي المعقد فكرة الباب والفصل وحدها وأدار عليها معجمه. ولذا فإن مزيته -على حد تعبير المستشرق الألماني كرنكو- "تنحصر في أنه رتب المادة اللغوية برمتها في ترتيب هجائي واحد". والاسم الكامل لمعجم الجوهري هو "تاج اللغة وصحاح العربية" ولكنه اشتهر باسم "الصحاح". وتضبط إما بكسر الصاد جمع صحيح وإما بفتح الصاد فتكون مفردًا بمعنى صحيح مثل براء وبريء. وأفضل طبعة للصحاح تلك التي حققها الأستاذ أحمد عبد الغفور العطار. وقد سار كتاب "الصحاح" في الآفاق وبلغ في الشهرة مبلغًا عظيمًا، ويقول القفطي: إنه لما دخلت نسخة منه مصر نظرها العلماء فاستجودوا قرب مأخذها. ويقول: إن أهل مصر يروون كتاب "الصحاح" عن ابن القطاع الصقلي متصل الطريق إلى الجوهري، ولا يرويه أحد من أهل خراسان1. وفي رأيي أن كتاب "الصحاح" نال من الشهرة أكثر مما يستحق، وأن الجهد الحقيقي يعود إلى الفارابي لا إلى الجوهري، وأن أصابع الاتهام تشير إلى الجوهري بالأخذ والاغتراف من "ديوان الأدب" بدون أن يشير إلى ذلك أو يلمح حتى إليه. ولما كانت هذه التهمة خطيرة وتمس مكانة الجوهري العلمية فسنعطيها شيئًا من البسط حتى يتضح فيها وجه الحق.

_ 1 مقدمة العطار لتهذيب الصحاج للزنجاني، ص 42.

بين "الصحاح" و"ديوان الأدب": ان كرنكو1 أول من تنبه إلى العلاقة بين الصحاح وديوان الأدب، وأشار إلى وجود التشابه بل التماثل بينهما ولكنه تحدث عن ذلك في إيجاز شديد وسطحية ظاهرة، إذ قال: إنه عقد مقارنة بين المعجمين "وكم كانت دهشتي أن أكتشف أن الجوهري لم يكتف بأن عب من ديوان الأدب، بل وجدت -قدر ما استطعت الاستقراء والمقابلة- أن "الصحاح" لا يحتوي على أي شيء لا يوجد في ديوان الأدب". ولم يحاول أحد من الباحثين منذ نشر المقال "عام 1924" حتى الآن أن يتوفر على درس القضية ويناقشها مناقشة واعية فكل ما وجه إليها ما قاله الأستاذ أحمد عبد الغفور العطار: "ولقد أسرف كرنكو في دعواه ولا سند له. فديوان الأدب للفارابي وصحاح الجوهري موجودان ... والفارق بين المعجمين كبير. وبعد كل هذا نجد عمل الجوهري أصح وأكمل وأعظم من عمل خاله الفارابي"، وما قاله: "والتقاء الفارابي والجوهري في نقطة أو نقاط ليس دليلًا على أن الثاني سطا على الأول"2. وحاول الدكتور عبد السميع محمد في أسطر قليلة أن ينفي عن الجوهري دعوى السرقة من خاله الفارابي، وكان أهم ما اعتمد عليه عدم تحدث أحد من العماء عن دعوى النقل هذه3. أما نحن فليتلخص رأينا فيما يأتي: 1- هناك اتفاق بين المؤرخين على أن هناك صلة نسب بين الجوهري والفارابي. فمعظم المؤرخين على أن الفارابي خال الجوهري، وروى بعضهم رواية أخرى ضعيفة تقول: إن الجوهري هو خال الفارابي4.

_ 1 في مقال له بعنوان The Beginning of Anabic lexicography 2 مقدمة الصحاح، ص 81، 82. 3 المعاجم العربية، ص 86، 87. 4 إنباه الرواة 1/ 52، ومعجم الأنباء 6/ 61 وما بعدها، ونزهة الألباء، وبغية الوعاة وغيرها.

2- كما أن من المتفق عليه تاريخيًّا وجود صلة علمية بين الفارابي والجوهري، فقد ذكر المؤرخون أن الجوهري تتلمذ على خاله الفارابي، بل منهم من ذهب إلى تعميق هذه الصلة، وقال: إنها هي السبب في تسمية الجوهري بالفارابي، وأنه سمى بذلك نسبة إلى خاله وأصله هو من فارس1. 3- من الروايات التاريخية الموثقة أن الجوهري قرأ ديوان الأدب على خاله، وأنه كان يحتفظ بنسخة منه عنده كتبها بخطه. بل أكثر من هذا يقول ياقوت: إنه بعد أن قرأه على مؤلفه بفاراب أعاد قراءته على أبي السري محمد بن إبراهيم الأصبهاني بأصبهان، ثم عرضه على أستاذه أبي سعيد السيرافي ببغداد فقبله ولم ينكره فصار عنده من صحاح اللغة2. فكل هذه العوامل تجعلنا نقول: إن الجوهري قد استفاد ولا شك من ثقافة خاله وعلمه، وإنه تأثر بشخصيته اللغوية، واستعان بكتاب "ديوان الأدب" في تأليف معجمه "الصحاح". ولكن إلى أي حد بلغ هذا التأثر؟ وإلى أي مدى استفاد الجوهري من ديوان الأدب؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه الآن: 1- وأول شيء ثابت لا يقبل النقاش أن الجوهري أخذ عن "ديوان الأدب" نظام الباب والفصل. وهذه قضية لا يستطيع أحد أن يجادل فيها أو ينكرها. فأمامنا ديوان الأدب وأمامنا الصحاح. ولا شك أن ديوان الأدب أسبق في التأليف من الصحاح، ولا شك أن الفارابي هو السابق بهذا النظام.

_ 1 معجم الأدباء 6/ 62، وبغية الوعاة، وإضاءة الراموس 1/ 45. 2 معجم الأدباء 6/ 63.

وهذه نقطة التقاء هامة لأنها النقطة الجوهرية التي حققت للصحاح الشهرة وأنزلته من المعاجم منزلًا حسنًا. ومعظم صفات المدح التي وصف بها الصحاح ترجع إلى هذا النظام، مثل وصفه بأنه قريب التناول - حسن الترتيب - سهل المطلب لما يراد منه. ولا أظن أن الأستاذ العطار1 على حق حين يصر على نسبة الفضل في هذا النظام للجوهري مع اعترافه بأن الفارابي هو السابق. ولا أفهم كيف يمكن التوفيق بين قوله: "ولعل من الحق والإنصاف أن نذكر أن بين الفارابي والجوهري نقطة التقاء وهي تقسيم الكتاب إلى أبواب وفصول". وقوله: "والذي نراه أن منهج الجوهري في ترتيب صحاحه باعبتار أواخر الكلمات غير مقصود منه تيسر الأمر على الشعراء والكتاب ... أما المنهج الذي اتبعه فهو من ابتكاره "! ! " وهداه إليه علمه الواسع بالصرف واشتغال به" "! ! ". 2- أما المادة اللغوية، فلتحقيق صلة الصحاح فيها بديوان الأدب لجأت إلى ثلاثة طرق: أولها: أني رتبت بعض مواد "ديوان الأدب" على ترتيب "الصحاح" ثم قارنت بين النوعين من المادة. ثانيها: أنني قابلت مادة "ديوان الأدب" على "الصحاح" لأرى مدى اتفاقهما في معالجة الألفاظ، وطريقة تناولها، وبيان معانيها، وأقف على ما زاده أو نقصه كل منهما عن الآخر. وثالثها: أني عقدت موازنة بين الكتابين شملت أعلام العلماء وأسماء المراجع، والأبحاث النحوية، والشواهد، والمآخذ اللغوية. وأظننا -بعد هذه الموازنات- نستطيع أن نصدر حكمنا ونحن مطمئنون.

_ 1 مقدمة الصحاح، ص 122، 125.

أولًا: تحليل بعض المواد اللغوية مادة حبب: الصحاح 1- الحبة واحدة حب الحنطة، ونحوها من الحبوب. 2- وحبة القلب سويداؤه ويقال: ثمرته وهو ذاك. 3- والحبة السوداء والحبة الخضراء. 4- والحبة من الشيء القطعة منه. 5- ويقال للبرد: حب الغمام وحب المزن وحب تر. 6- ابن السكيت: وهذا جابر ابن حبة اسم للخبز وهو معرفة. 7- والحبة بالكسر بزور الصحراء مما ليس بقوت. وفي الحديث: $"فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل" والجمع حبب. 8- والحبة بالضم: الحب. يقال: نعم وحبة وكرامة. 9- والحب: الخابية فارسي معرب. والجمع حباب وحببة. 10- والحب المحبة وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضًا الحبيب مثل خدن وخدين. ديوان الأدب 1- الحبة واحدة الحب من كل الحبوب. 2- وحبة القلب ثمرته. 3 وهي الحبة الخضراء والحبة السوداء. 4-........ ............ 5-....... ........... 6-....... ........... 7- والحبة بزور الصحراء. 8-......... ........... 9- والحب: الخابية، والجمع حباب. 10- فلان حبي أي حبيبي، كما تقول: خدن وخدين. والحب أيضًا لغة في الحب "انظر 33".

الصحاح 11- يقال: أحبه فهو محب وحبه يحبه بالكسر فهو محبوب، قال الشاعر: أحب أبا مروان من أجل تمره ... وأعلم أن الرفق بالمرء أرفق ووالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيد ومشرق وهذا شاذ لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر إلا ويشركه بفعل بالضم إذا كان متعديًا ما خلا هذا الحرف. 12- ويقال: ما كنت حبيبًا، ولقد حببت بالكسر أي: صرت حبيبًا، ولقد حببت بالكسر أي: صرت حبيبًا. 13- الأصمعي: قولهم: حبّ بفلان معناه ما أحبه إلي. وقال الفراء: معناه حبب بضم الباء ثم أسكنت وأدغمت في الثانية. وقال ابن السكيت في قول ساعدة: هجرت غضوب وحب من يتجنب ... وعدت عواد دون وليك تشعب أراد حبب فأدغم، ونقل الضمة إلى الحاء لأنه مدح. ومنه قولهم: حبذا زيد. فحب فعل ماض لا يتصرف وأصله حبب على ما قال الفراء، وذا فاعله، وهو اسم مبهم من أسماء الإشارة، جعلا شيئًا واحدًا فصار بمنزلة اسم يرفع ما بعده. وموضعه رفع بالابتداء، وزيد خبره فلا يجوز أن يكون بدلًا من ذا لأنك تقول: حبذا المرأة ولو كان بدلًا لقلت: حبذه المرأة قال الشاعر جرير: ديوان الأدب 11- ذكر في باب فعل يفعل. يقال: حببته بمعنى أحببته. وهذا شاذ لأنه لا يأتي يفعل -بالكسر- في المضاعف وهو واقع إلا أن يشركه يفعل. 12-.... 13-.....

الصحاح وحبذا نفحات من يمانيه ... تأتيك من قبل الريان أحيانا 14- وتحبب إليه تودد. 15- وتحبب الحمار إذا امتلأ من الماء، وشربت الإبل حتى حببت أي: تملأت ريا. 16- وامرأة محبة لزوجها، ومحب لزوجها أيضًا عن الفراء. 17- الاستحباب كالاستحسان. 18- وتحابوا أي: أحب كل واحد منهم صاحبه. 19- الحباب بالكسر المحابة والموادة. 20- الحباب بالضم الحب قال الشاعر: فوالله ما أدري وإني لصادق ... أداء عراني من حبابك أم سحر 21- الحباب أيضًا الحبة. وإنما قيل: الحباب اسم شيطان؛ لأن الحية يقال لها: شيطان. ومنه سمي الرجل. 22- وحباب الماء بالفتح معظمه قال طرفة: يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفايل باليد ويقال أيضًا: حباب الماء: نفاخاته التي تعلوه وهي اليعاليل. 23- ويقول أيضًا: حبابك أن تفعل كذا أي غايتك. 24- والأحباب البروك. ديوان الأدب 14- تحبب إليه أي تودد. 15- وتحبب الحمار إذا امتلأ من الماء. 16-.... .... 17- استحبه عليه أي آثره واستحبه أي أحبه. 18- تحابوا أي أحب كل واحد منهم صاحبه. 19- والحباب الحبيب. 20-.......... ............ 21- الحباب: الحية. ومنه سمي الرجل الحباب. وإنما قيل الحباب اسم شيطان لأن الحية يقال لها شيطان. 22- حباب الماء معظمه والحبابة واحدة حباب الماء. 23- ويقال: حبابك أن تفعل كذا أي غايتك. 24- والأحباب هو البروك.

الصحاح 25- والأحباب في الإبل كالحران في الخيل، قال الشاعر: ضربت بعير السوء إذ أحبا أبو زيد: يقال بعير محب. وقد أحب أحبابًا، وهو أن يصيبه مرض أو كسر فلا يبرح من مكانه حتى يبرأ أو يموت، وقال ثعلب: يقال أيضًا للبعير الحسير: محب وأنشد: جبت نساء العالمين بالسبب ... فهن بعد كلهن كالمحب 26- وأحب الزرع وألب إذا دخل فيه الأكل، وتنشأ فيه الحب والب. 27- الحبب بالتحريك تنضد الأسنان قال: وإذا تضحك تبدي حببا. 28- الحباب اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلا نارًا ضعيفة مخافة الضيفان فضربوا بها المثل حتى قالوا: نار الحباحب لما تقدحه الخيل بحوافرها. قال النابغة يذكر السيوف: نقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب وربما قالوا: نار أبي حباحب، وهو ذباب يطير بالليل كأنه نار، قال الكميت: يرى الراءون بالشفرات منها. كنار أبي حباحب والظبينا وربما جعلوا الحباحب اسمًا لتلك النار، قال الكسعي: ما بال سهمي يوقد الحباحبا. ديوان الأدب 25- ويقال للبعير: محب إذا كان لا يبرح موضعه من كسر أو مرض. 26-........ ......... 27- حبب الأسنان تنضدها. 28- نار الحباحب النار التي توريها الخيل بحوافرها من الحجارة. ويقال الحباحب اسم رجل كان بخيلًا جدًّا.

الصحاح قد كنت أرجو أن يكون صائبًا 29- حبان بالفتح اسم رجل موضوع من الحب. 30- الحباحب بالفتح الصغار، الواحد حبحاب، قال الهذلي: دلجي إذا ما الليل جن ... على المقرنة الحباحب يعني بالمقرنة الجبال التي يدنو بعضها من بعض. 31- حبى على فعلي اسم امرأة، قال هدبة بن خشرم: فما وجدت وجدي بها أم واحد ... ولا وجد حبي بابن أم كلاب 32- ... ..... ..... 33- انظر رقم 10 34-.... .... .... 35-..... ..... ... 36- ... .... ...... 37-.... .... ..... 38- ... .... ...... ديوان الأدب 29- حبان من أسماء الرجال. 30- الحبحاب الصغير الشأن الحقير. 31-..... ....... .......... 32- الحب الخشبات الأربع التي توضع عليها الجرة ذات العروتين. 33- المحبة الحب. 34- هو الحبيب. 35- يقال: أتانا زمن الحباب أي: زمن تلقيح النخل. 36- حبان من أسماء الرجال. 37- حببت الرجل إذا أطعمته الحب. 38- حبب الله إليه الإيمان وهو نقيض التكريه.

ومن هذه الموازنة نخرج بالنتائج الآتية: 1- توجد في الصحاح ريادات ليست في ديوان الأدب مثل الفقرات 5، 6، 13، 26، 31، ومثل الزيادات التي نجدها داخل الفقرات على سبيل الشرح أو التفصيل أو الاستشهاد. ونلاحظ أن بعض هذه الزيادات يحتاج إلى نقل عن مرجع آخر كالفقرة رقم 13 وهي موجودة في "تهذيب اللغة"، وبعضها موجود في العين، وكالفقرة رقم 26 ولم أجدها في "العين" ولا "الجمهرة" ولا "تهذيب اللغة"، كما أن بعض من قبيل التطبيق أو الشرح والتفصيل الذي لا يحتاج إلى مرجع. 2- كما توجد في "ديوان الأدب" زيادات ليست في "الصحاح" مثل الفقرة رقم 32 وهي موجودة في التهذيب والعين، والفقرتين رقم 35، 37 ولم أجدهما لا في العين ولا التهذيب ولا الجمهرة. 3- ولكننا إلى جانب ذلك نلمح شبهًا كبيرًا وأحيانًا تماثلًا بين بعض الفقرات مثل: أ- الفقرة رقم 3، فالعبارة هي العبارة، والغموض في العرض هو الغموض. والعبارة -بعد هذا- لم ترد في العين ولا التهذيب ولا الجمهرة. ب- ومثل رقم 9، وتفسير الحب بالخابية لم يرد في العين ولا الجمهرة ولا التهذيب. وعبارة الخليل. الحب الجرة الضخمة. وعبارة الجمهرة: الحب الذي يكون فيه الماء. وعبارة التهذيب هي عبارة الخليل. جـ- ومثل الفقرة رقم 18. ولم ينص في "العين" ولا في "الجمهرة" ولا في "التهذيب" على هذا المعنى لأنه مفهوم من الصيغة. ولكنا نجده عند الصحاح بعبارة ديوان الأدب. ولو لم يكن قد أخذ العبارة منه لوجدنا اختلافًا بين العبارتين. وقد كان في إمكان الجوهري أن يقول مثلًا: أي أحب بعضهم بعضًا، أو أحب كل واحد منهم أخاه، أو أحب كل منهم الآخر.

3- كما نجد زيادات كثيرة في الصحاح ليست في ديوان الأدب. ولسنا في حاجة إلى ضرب الأمثلة على ذلك، فهو واضح من الموازنة السابقة بين مادة حبب في "ديوان الأدب" والصحاح، كما يتضح من المقارنة بين حجمي المعجمين، فحجم الصحاح يبلغ مثلي ديوان الأدب، ولذلك جاء أكثر ألفاظًا وأوفر مادة. 4- ونجد أيضًا زيادات في "ديوان الأدب" ليست في "الصحاح"، ولكنها قليلة بالنسبة لزيادات "الصحاح" قلة ظاهرة. وقد جمعت هذه الزيادات فلم تزد على بضع صفحات1. ثالثًا: دراسة الظواهر المشتركة 1- إذا قارنا بين المعجمين من حيث الأعلام نجد الجوهري مكثرًا من ذكر أسماء العلماء والرواة بخلاف الفارابي الذي كان مقلًّا جدًّا. 2- ومن حيث المراجع، لم يذكر الفارابي اسم أي مرجع من المراجع التي رجع إليها في حين أن الجوهري كان أحيانًا يذكر اسم المرجع ومن هذه المراجع. الإبل للأصمعي، والهمز لأبي زيد، الكتاب لسيبويه، والفرق للأصمعي، والغريب المصنف لأبي عبيد، والفرس للأصمعي. 3- ونجد الأبحاث النحوية كثيرة في الصحاح، وتفوق نظيرتها في ديوان الأدب.

_ 1 راجع رسالتنا للماجستير عن الفارابي اللغوي، ص 312.

4- أما الشواهد فتفوق في الصحاح عددها في ديوان الأدب، سواء كانت قراءات قرآنية أو أحاديث نبوية أو أمثالًا أو أبياتًا شعرية. وهناك شواهد لم ينسبها الفارابي ونسبت في الصحاح، أو جاءت ناقصة في ديوان الأدب ورواها الجوهري كاملة كما أن هناك أشياء خالف فيها الصحاح ديوان الأدب1. 5- وأما المآخذ اللغوية التي أخذها العلماء على الصحاح فنجد كثيرًا منها مشتركًا بين الصحاح وديوان الأدب، وبعضًا منها ينفرد بها الصحاح، مما يدل على أن الجوهري لم يأخذها من ديوان الأدب. ومن أمثلة المآخذ المشتركة بينهما: أ- قال الفارابي: الشَّبَر العطية وأصله بالتسكين. قال العجاج: الحمد لله الذي أعطى الشَّبَر. وقال الجوهري: ومصدره الشبر "بالسكون" إلا أن العجاج حركة فقال: الحمد لله الذي أعطى الشبر. قال ابن بري: وقول الجوهري إن الأصل فيه الشبر بسكون الباء ... وهم لأن الشبر مصدر شبرته إذا أعطيته والشبر اسم للعطية. ب- ذكر الفارابي كلمة "اللفاء" في الناقص لا المهموز، وكذلك فعل الجوهري.

_ 1 راجع تفصيل ذلك في المرجع السابق، ص 313، 323.

قال الصغاني: والمهموز موضعه. جـ- ذكر الفارابي "الزرجون" في باب فعلول على اعتبار أن نونها أصلية. وكذلك فعل الجوهري إذ ذكرها في باب النون فصل الزاي. قال الصغاني: وموضعه "زرج" لأن وزنه فعلون والجيم لام الكلمة. د- قال الفارابي في باب مفعل: منعج اسم موضع. وكذلك ضبطها الجوهري "بالفتح". قال الصغاني: والصواب فيه كسر العين، ولعله نقله من كتاب الفارابي. هـ- قال الفارابي: وسالم من أسماء الرجال. وقال بعضهم: يقال للجلدة التي بين العين والأنف سالم. ومثل هذا في الصحاح. قال الصغاني: وهذا غلط وقد تبع خاله الفارابي في أخذ اللغة من معنى الشعر. وقال الفارابي: غضبي مائة من الإبل وهي معرفة لا تدخلها الألف واللام. ومثل هذا قاله الجوهري. وقال الفيروزآبادي: قول الجوهري تصحيف والصواب غضيا بالمثناة من تحت. وغير ذلك كثير وكثير. ويتضح من هذا كله وجه الشبه الكبير في المادة اللغوية بين الصحاح وديوان الأدب، فما معنى هذا؟ وما تفسيره؟ قد يقال: إن الجوهري لم يأخذ تلك المادة من الفارابي، وإنما أخذها من أصوله ومراجعه الأولى. ولكن الذي يبدو أن الجوهري قد استعان بديوان الأدب مباشرة

وأنه أخذ منه كثيرًا من مادته اللغوية مما أدى إلى هذا التشابه أو التماثل في بعض الأحيان. ويبدو أيضًا أن كثرة ما أخذه الجوهري عن خاله كانت السبب في إغفاله ذكر اسمه في معجمه جميعه إغفالًا تامًّا، وإلا فلو حرص على ذكر اسمه في كل موضع لتكرر اسمه في كل صفحة ولسجل الجوهري على نفسه الحكم بالتبعية، وهو ما حاول أن يخفيه ويطمس معالمه. وإلا فكيف نعلل تسجيل الجوهري أسماء العلماء الذين نقل عنهم "وأسماء المراجع في بعض الأحيان" ومنهم من نقل عنه مرة واحدة أو مرتين، وفي مسائل غير ذات بال، ومنهم من لا يتمتع بمثل شهرة الفارابي وطيب سمعته1؟ ولو أن الجوهري كان حسن النية، أو لو أنه لم يأخذ كل هذه المادة المشتركة من "ديوان الأدب" مباشرة لذكر اسمه ولو مرة واحدة. وإذا كان الجوهري قد أحس بالحرج من كثرة تردد اسم خاله في كل صفحة، فلا أقل من أن يشير إلى اسمه في مقدمة معجمه ويشيد بفضله. ولكننا مع هذا لا نوافق كرنكو في قوله: "إنه ليس في الصحاح شيء لا نجده في ديوان الأدب" فالصحاح أوسع مادة وأكثر كمًّا من ديوان الأدب، وهو يحتوي على زيادات كثيرة لا نجدها في ديوان الأدب كما سبق أن ذكرنا، وأظنه لو عكس القضية فقال: "ليس في ديوان الأدب شيء إلا نجده في الصحاح" لكان أقرب إلى الصواب وأدنى إلى الحقيقة، وإن كان هذا الحكم كذلك ليس على إطلاقه. والخلاصة أن الصحاح متأثر بديوان الأدب في نظامه، وفي مادته اللغوية، وأنه استفاد منه كثيرًا -مباشرة وبالواسطة - وإن اشتمل

_ 1 ممن نقل عنهم الجوهري مثلًا أبو الغوث "في عجين أنبجان". والجوهري ينقل في صحاحه عن أساتذته المباشرين -من طبقة الفارابي- كأبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي، ويبدو أن الجوهري كان من دأبه إغفال أهم الأسماء التي اعتمد عليها، فقد فعل نفس الشيء بالنسبة لابن قتيبة، فقد أغفل ذكر اسمه إغفالًا تامًّا برغم كثرة ما أخذه عنه وكثرة إشاراته إلى العلماء بشكل ملحوظ.

على زيادات كثيرة ليست فيه، وقد أحس بهذه الاستفادة الصغاني من قبل فنبه في أكثر من موضع من كتابه "التكملة" على ذلك كما سبق أن ذكرنا. كذلك أدركها الفيومي فأشار إليها أكثر من مرة في معجمه المصباح المنير1. الأعمال التي دارت حول الصحاح: لاقى الصحاح اهتمامًا كبيرًا من الطلاب والباحثين منذ ظهوره وكتبت عليه شروح وتعليقات عديدة، كما قال أكثر من عالم باختصاره. وقد أخذت الأعمال التي دارت حول الصحاح أشكالًا خمسة هي: 1- التوهيم. 2- الدفاع. 3- التذييل والتعليق. 4- الاختصار. 5- الترجمة. وأشهر ما ألف في توهيم الصحاح كتابان هما: أولًا: التنبيه والإيضاح عما وقع من الوهم في كتاب الصحاح، الذي يعرف كذلك بحواشي ابن بري. وقد نشره مجمع اللغة العربية بالقاهرة باسم: "كتاب التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح" بتحقيق الأستاذين مصطفى حجازي وعبد العليم الطحاوي "1980 - 1981". وهذا الكتاب يعد من أسبق التعليقات النقدية على الصحاح؛ لأن مؤلفه عبد الله بن بري المصري قد ولد عام 499 هـ وتوفي عام 582هـ. فإن علمنا أن الصحاح قد دخل مصر على يد ابن القطاع المتوفي

_ 1 انظر مثلًا مادة سدد وشوش.

عام 515هـ أدركنا مدى حرص ابن بري منذ نشأته على الاشتغال بهذا الكتاب والنظر فيه، وتتبع ما فيه "محصيًا غلطاته ومخرجًا سقطاته". ولا ترجع أهمية حواشي ابن بري "التنبيه والإيضاح" إلى قدمها فقط، وإنما إلى جملة أمور، من بينها: 1- أنها أحد الأصول الخمسة التي وثق فيها ابن منظور "مؤلف لسان العرب"، وبنى عليها معجمه. 2- أنها من كتب اللغة القلائل التي توفر لمؤلفيها عمق النظرة، ودقة الرواية، وكثرة المحفوظ، وسعة الاطلاع إلى جانب العناية الفائقة بالنحو والتصريف. وقد عرف ابن بري بهذه الصفات؛ فلفت الأنظار إليه وهو في سن مبكرة، ووقع عليه الاختيار وهو في الحادية والعشرين من عمره ليتولى التصفح في ديوان الإنشاء بمصر "فكان لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملك من ملوك النواحي إلا بعد أن يتصفحه ويصلح ما لعله فيه من خلل خفي". وقد جمع ابن بري إلى علمه أدبًا جمًّا ولسانًا عفًّا، فكان -كما يقول محقق الكتاب- "لا يسارع إلى التخطئة، ولا يتهم بالغفلة أو الجهل. وهذه سمة العلماء، يعرفون فضل المتقدم ويحترمون اجتهاد غيرهم ... ". ويعجب الزبيدي بأدب ابن بري فيقارن بين عبارته: "وليس كما ذكر" ... وعبارة الفيروزآبادي: "وأخطأ الجوهري في الإطلاق"، ويقول: "ولكن ما أحلى تعبيره بقوله: "وليس الأمر كما ذكر. فانظر أين هذا من قوله [الفيروزآبادي] : أخطأ، على أنه لا خطأ". ولهذا جاءت تعليقات الذين أرخوا لحياته حافلة بعبارات التقدير وألفاظ الثناء. فالسيوطي يقول: "إنه لم يكن في الديار المصرية مثله

وكان قيمًا بالنحو واللغة والشواهد ثقة". والقفطي يقول: "كان جم الفوائد، كثير الاطلاع، عالمًا بكتاب سيبويه وعلله، وبغيره من الكتب النحوية، قيمًا باللغة وشواهدها ... وكانت كتبه في غاية الصحة والجودة ... وأكثر الرؤساء بمصر استفادوا منه وأخذوا عنه". ويصفه ابن خلكان "بالإمام المشهور في علم النحو واللغة والرواية والدراية، علامة عصره، وحافظ وقته، ونادرة دهره". وهناك إشارة في بعض المراجع القديمة إلى أن ابن بري لم يكمل حواشيه على الصحاح وأنه وقف عند مادة "وقش"، لكن الأستاذ مصطفى حجازي يرجح إتمام الكتاب وبلوغ ابن بري بحواشيه آخر الصحاح، ويتوقع الأستاذ حجازي إمكانية الحصول على نسخة كاملة من حواشي ابن بري عن طريق استخلاص ما في "لسان العرب" لابن منظور من نقول عن ابن بري بعد مادة "وقش"1 دراسة تحليلة لكتاب ابن بري: نقرر بادئ ذي بدء أن ابن بري لم يستوعب في حواشيه كل ما يمكن أن يوجه إلى الصحاح من نقد. وقد وجدنا -في حدود المادة التي وصلتنا من حواشي ابن بري- أن ابن بري قد أغفل بعض المآخذ التي وردت عند غيره كالصاغاني والفيروزآبادي. ونكتفي بذكر المثالين التاليين: 1- ذكر الجوهري أن الأتان تسمى البيدانة. وقد نقل ابن بري هذه التسمية دون أن يعقب عليها بالرفض كما فعل الصاغاني. ففي التكملة "2/ 8": "أتان بيدانة تسكن البيداء، وهي غير ما قيل: البيدانة الأتان. ففي هذا القول نظر". وتقييد البيدانة بساكنة البيداء سبق به الخليل في العين ونقله عنه الأزهري في "تهذيب اللغة". ولكن ابن بري يذكر للبيدانة تفسيرين هما: التي تسكن البيداء

_ 1 راجع مقدمة المحقق ص 5 وما بعدها.

"فتكون النون زائدة" أو العظيمة البدن "فتكون النون أصلية". ولا يوجه أي نقد لعبارة الصحاح. 2- ذكر الجوهري في فصل "ثعلب" بيتًا شاهدًا على أن الثعلبان: ذكر الثعالب، وهو: أرب يبول الثثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثعالب ولم يعقب ابن بري على هذا بأكثر من قوله: "هذا البيت مختلف في قائله فبعضهم يرويه لغاوي من ظالم، وبعضهم يرويه لأبي ذر الغفاري، وبعضهم يرويه للعباس بن مرداس". وأمامنا تعليق كل من الصاغاني والفيروزآبادي على الشاهد: "أ" قال الصاغاني: والصاب الثعلبان تثنية ثعلب "التكلمة 1/ 20". ب- وقال الفيروزآبادي: واستشهاد الجوهري بقوله: "أرب يبول الثعلبان برأسه" غلط صريح ... والصواب في البيت فتح التاء لأنه مثنى. فإذا أردنا أن نحلل تعليقات ابن بري على الصحاح تحليلًا موضوعيًّا نجدها تدور حول ما يأتي: 1- نسبة الجوهري إلى الخطأ الصرفي الذي أدى إلى صنع الكلمة في غير موضعها الصحيح. ومن ذلك وضعه "الأباءة" لأجمة القصب في المعقل مع أن همزتها أصلية، ووضعه "اختتأ" بمعنى استتر خوفًا أو حياء في "ختاء" مع أنها من ختا يختو، فحقها أن توضع في المعتل. ومن ذلك وضعه "الفئة" بمعنى الطائفة في "فيأ" من أن أصلها فئو، فالهمزة عين، والمحذوف لامها وهي الواو، وكذلك وضعه "حنبطأ". في "حبطأ" وصوابه في "حبط" لأن الهمزة زائدة.

2- الاستدراك على ما ساقه من شاهد، وهذا يشمل: أ- نسبة الشاهد إلى قائله، ومن ذلك نسبته البيت: ثنياننا إن أتاهم كان بدأهم ... وبدؤهم إن أتانا كان ثنيانا لأوس بن مغراء السعدي "1/ 6"، والبيت: إذا الأرطي توسد أبرديه ... خدود جوازئ بالرمل عين للشماخ بن ضرار "1/ 9". ب- تصحيح نسبة الشاهد، ومن ذلك نسبة الجوهري بعض بيت وهو ... قتيل التجوبي.. نسبته للكميت، وهو للوليد بن عقبة "1/ 55"، ونسبته: والقصب مضمر والمتن ملحوب لامرئ القيس، وهو لإبراهيم بن عمران الأنصاري 1/ 129"، ونسبته: جرت عليها كل ريح ريدة ... هوجاء سفواء نووج الغدوة لهميان بن قحافة، والقائل هو علقمة التيمي "2/ 24". جـ- تكملة الشاهد، ومن ذلك استشهاد الجوهري بنصف البيت: ولو تعادَى ببك كل محلوب وقد عقب ابن بري قائلًا: صدره: يقال محبسا أدنى لمرتعها "1/ 7". وكذلك استشهاد الجوهري بعجز بيت لامرئ القيس وهو: كمشي أتان حلئت عن مناهل

قال ابن بري: صدره: وَأَعجَبَني مَشيُ الحُزُقَّةِ خالِدٌ "1/ 12". د- إضافة شواهد جديدة، ومن ذلك أن الجوهري قد ذكر أن الإسوار لغة في السوار نقلًا عن أبي عمرو. وقد عقب ابن بري بقوله: "وحقه أن يذكر شاهدًا على الإسوار لغة في السوار لئلا يظن أن الإسوار في السوار قول انفرد به أبو عمرو: وشاهده قول الأحوص: غادة تَغرَثُ الوِشاحَ وَلا يَغـ ... ـرَثُ مِنها الخَلخالُ والإِسوارُ وقال حميد بن ثور.. وقال العرندس الكلابي.. وقال المرار بن سعيد الفقعسي ... " "2/ 135". هـ- الاعتراض على مكان وضع الشاهد، فقد قال الجوهري: "قراب السيف: جفنه، وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده وحمالته، وفي المثال: إن الفرار بقراب أكيس"، وقد عقب ابن بري قائلًا: "صواب الكلام أن يقول -قل المثل- والقراب: القرب، ويستشهد بالمثل عليه، لأن هذا المثل ... إلخ" "1/ 127". "و" التعليق على الشاهد بتفسير غامضه أو بيان مناسبته أو توجيهه أو ذكر أصله ومضربه إن كان مثلًا. وأكتفي باقتباس الأمثلة الآتية: * عقب على رواية بيت عدي بن زيد: أجل أن الله قد فضلكم ... فوق ما أحكي بصلب وإزار قائلًا: "هذه الرواية تحتاج إلى تفسير، لأنه أراد بالصلب ها هنا الحسب، وبالإزار العفاف. أي: فضلكم الله بحسب وعفاف فوق ما أحكي أي: أقول ... ". * عقب على قول الجوهري إن الرجز الآتي لامرأة ترقص ابنها:

أشبه أبا أمك أو أشبه عمل ولا تكونن كهلوف وكل يصبح في مضجعه قد انجدل وارق إلى الخيرات زنئا في الجبل عقب قائلًا: "البيت "اقتبس الجوهري البيت الأخير" لقيس ابن عاصم المنقري، وكان أخذ صبيًّا من أمه يرقصه، وأمه منفوسة بنت زيد الفوارس، والصبي هو ابنه واسمه حكيم ... وزعم الجوهري أن الرجز لأمه، قالته وهي ترقصه، وليس بصحيح، وإنما الذي قالته رادة على أبيه هو: أشبه أخي أو أشبهن أباكا أما أبي فلن تنال ذاكا تقصر أن تناله يداكا * عقب ابن بري على اقتباس الجوهري المثل: "أساء سمعًا فأساء جابة" بقوله: "ولم يذكر أصله. وأصله -على ما ذكر الزبير بن بكار- إنه كان لسهل بن عمرو بن مضعوف، فقال له: إنسان: أين أمك؟ أي قصدك، فقال: ذهبت تشتري دقيقًا فقال أبوه: أساء سمعًا فأساء جابة". ز تصحيح الرواية أو الضبط. والأمثلة على هذا كثيرة منها: * روى الجوهري البيت التالي "ملجأ". وملجأ مهروئين يلفي به الحيا ... إذا جلفت كحل هو الأم والأب فعقب ابن بري قائلًا: "صوابه: وملجأ بكسر الهمزة لأن قبله...." * روى الجوهري صدر بيت شاهدًا ... وهو: والخيل تمزع غربًا في أعنتها

فعقب ابن بري قائلا: "وصواب إنشاده: والخيل بالنصب لأنه معطوف على المائة من قوله: الواهب المائة الأبكار زينها ... سعدان توضح في أوبارها اللبد. * ذكر الجوهري في فصل "ميد" صدر بيت لأبي ذؤيب شاهدًا على "مايد" بالياء المثناة اسم جبل هو: يمانية أحيالها مظ ما يد وقد عقب ابن بري قائلًا: "صوابه: ما بد بالباء المعجمة بواحدة. وحقه أن يذكر في فصل مبد ... ". وغيره كثير ... 3- إهماله بعض المواد، أو الكلمات. ومن أمثلة ذلك: "أ" قال ابن بري: "وذكر في فصل "برأ": برئت أبرأ، وبرأت - أيضًا أبرأ ... ولم يذكر برأت أبرؤ -بالضم في المستقبل- وقد ذكره سيبويه وأبو عثمان المازني وغيرهما من البصريين ... ". ب- قال ابن بري: "وقد أهمل من هذا الفصل "بوب" قولهم: بابة، والجمع بابات، وهي تستعمل في الحساب والحدود والكتاب. قال الأصمعي: بابات الكتاب: وجوهه، وقال غيره: طرقه ... ". 4- التعليقات الصرفية والنحوية، وهذا يشمل: أ- أخطاء للجوهري، كما حدث في مادة "ش ي أ" حين معالجته لكلمة "أشياء"، وفي مادة "ن ب أ" حين حديثه عن تصغير "نبي"، وفي مادة "زرر" حين حديثه عن ضبط الراء في الأمر: " ز ر هـ"، وفي مادة "ن ص ب" حين حديثه عن النسبة إلى "نصيبين"، وفي مادة "ق د د" حين حديثه عن نون الوقاية....

ب- إضافة واستطرادات، كإثباته أن أصل الألف في "آءة" واو، وقوله إن "الذرية" فعلية من الذر أو فعلولة..، وكتفصيله الحديث عن "أمس" في الصفحات 256، 257، 258 ... 5- عدم الدقة في التعبير، كقول ابن بري: "وقول الجوهري: إن البوادر من الإنسان اللحمة.. ليس بصحيح، وصوابه أن يقول: إن البوادر جمع بادرة للحمة التي بين المنكب والعنق ... ". ومثله قول ابن بري: "أما قول الجوهري: الحمارة تنصب حول الحوض، وتنصب أيضًا حول بيت الصائد، فصوابه أن يقول: الحمائر: حجارة تنصب على الحوض، الواحدة حمارة، وهو كل حجر عريض". 6- ضبط كلمة أو تصحيح ضبطها، أو إزالة ما لحقها من تصحيف. ومن أمثلة ذلك: أ- قال الجوهري: البدأة: النصيب من الجزور. وقال ابن بري: ذكر أبو عبيد في باب الميسر من غريب المصنف: البدأة بالضم النصيب من أنصباء الجزور ... ب- قال الجوهري: والاسم الجشأة، مثال الهمزة. وقال ابن بري: الذي ذكره أبو زيد الأنصاري: الجشأة ساكنة الشين ويقوي قوله قول الراجز: في جشأة من جشآت الفجر جـ- روى الجوهري في فصل "س ع ب" بيتًا لابن مقبل هو: يعلون بالمردقوش الورد ضاحية ... على سعابيب ماء الضالة اللجز وقد عقب ابن بري قائلًا: "هذا تصحيف تبع فيه ابن السكيت. وإنما هو اللجن بالنون، وقبله: من نسوة شمس لا مكره عنف ... ولا فواحش في سر ولا علن 7- التعقيب برأي آخر، ومن ذلك:

"أ" ذكر الجوهري في فصل "ج ن ب" قولهم: فلان لا يطور بجنبتنا. وقد عقب ابن بري قائلًا: "هكذا قال أبو عبيدة وغيره بتحريك النون. وكذا رووه في الحديث: وعلى جنبتي الصراط أبواب مفتحة. وقال عثمان بن جني. قد غرى الناس بقولهم: أنا في ذكراك وجنبتك -بفتح النون- والصواب إسكان النون ... ". ب- ذكر الجوهري في فصل "س ر ب" قولهم: فلان آمن في سربه أي في نفسه. وقد عقب ابن بري قائلًا: "هذا القول الذي قاله هو قول جماعة من أهل اللغة. وأنكر ابن درستويه قول من قالوا: آمن في سربه أي: في نفسه، قال: وإنما المعنى آمن في أهله وماله وولده ... ". 8- توجيه النقد لغير الجوهري. وممن نقدهم ابن بري: أ- الحريري: يقول ابن بري: "وفي هذا البيت شاهد على صحة السل لأن ابن الحريري ذكر في كتابه "درة الغواص": أنه من غلط العامة، وصوابه عنده السلال، ولم يصب في إنكاره السل لكثرة ما جاء في أشعار الفصحاء، وقد ذكره سيبويه في كتابه أيضًا ... ". "1/ 112". ب- ابن القطَّاع: يقول ابن بري: "وذكر الجوهري شاهدًا على حلبة جمع حالب وهو قولهم: شتى تؤوب الحلبة، وغيره ابن القطاع فجعل بدل شني: حتى ... والمعروف هو الذي ذكره الجوهري، وكذلك ذكره الأصمعي وأبو عبيد ... " "1/ 68". جـ- المحدثون: قال ابن بري: "وأهمل أن يذكر بعد هذا الفصل "حنطب" وهي لفظة قد يصحفها بعض المحدثين فيقول حنظب، وهو غلط ... " "1/ 65". د- أبو عبيد: قال ابن بري: "لم يذكر السبحة بالفتح وهي الثياب من الجلود، وهي التي وقع فيها التصحيف، فقال أبو عبيد:

هي السُّبجة بالجيم وضم السين. وغلط في ذلك إنما السبجة: كساء أسود. واستشهد أبو عبيد على صحة قوله بقول مالك بن خويلد الهذلي وهو: إذا عاد المسارح كالسباج. فصحف البيت أيضًا، وهذا البيت من قصيدة حائية ... " "1/ 244". "هـ" الأصمعي: قال ابن بري: "وذكر في فصل "ش ت ت ". شتان ما هما ... قال: وقال الأصمعي: لا يقال: شتان ما بينهما، وقول الشاعر: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم ليس بحجة، إنما هو مولد"، وقد عقب بقوله: "وأما ما حكاه عن الأصمعي أنه لا يقال: شتان ما بينهما، فليس بشيء، لأنه قد جاء ذلك في أشعار الفصحاء من العرب، ومن ذلك قول أبي الأسود الدؤلي ... ومنه قول البعيث ... وقال آخر ... وقال الأحوص ... ". 1/ 166، 167". ثانيًا: "نفوذ السهم فيما وقع للجوهري من الوهم" لخليل بن أيبك الصفدي المتوفى عام 764 هـ، وتوجد منه نسخة مصورة بمكتبة مجمع اللغة العربية بالقاهرة. وقد تتبع الصفدي الجوهري في أوهامه المصرفية والاشتقاقيه والتصحيف وسوء التعبير والخطأ في التفسير. ويبدو أن معظم مآخذ الصفدي منقولة عن ابن بري ولذلك يقول بعضهم: "قلد فيه ابن بري، فلا يكاد يذكر مسألة من عنده إلا بعض أدبيات والاستدلال ببعض الأبيات"1. أما كتب الدفاع فأشهرها "الوشاح وتثقيف الرماح في رد توهيم

_ 1 انظر حسين نصار: المعجم العربي 2/ 526، 527.

المجد الصحاح" لعبد الرحمن بن عبد العزيز المغربي نزيل مكة وأحد مدرسيها1. وأما التذييل والتعليق؛ فقد تمثلا أحسن تمثيل في كتاب الحسن بن محمد بن الحسن الصغاني2 في كتابه المسمى "التكملة والذيل والصلة"، وقد طبعه مجمع اللغة العربية بالقاهرة. وذكر المؤلف في مقدمته ما نصه: "هذا كتاب جمعت فيه ما أهمله أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري -رحمه الله- في كتابه وذيلت عليه وسميته كتاب "التكملةوالذيل والصلة" غير مدع استيفاء ما أهمله واستيعاء ما أغفله". ويتلخص جهد الصغاني في هذا الكتاب في النقاط الآتية: 1- إيراد المواد التي أهملها الجوهري. 2- إيراد الصيغ والألفاظ والمعاني التي أهملها الجوهري فيما ذكره من مواد. 3- تكملة الشواهد الشعرية أو إصلاح ما بها من خلل أو تصحيف أو تصويب اسم قائل الشاهد الشعري. 4- نقد الاستشهاد ببعض الأحاديث الضعيفة. 5- تصحيح الأخطاء المتعلقة بالتصرف أو التفسير3. وأما المختصرات فمنها: أ- ترويح الأرواح في تهذيب الصحاح للزنجاني "ت 656 هـ". ووقع حجمه موقع الخمس من الصحاح.

_ 1 وقد طبع على هامش الصحاح "طبعة بولاق 1292 هـ". 2 توفي عام 650 هـ. 3 انظر المعجم العربي لحسين نصار 2/ 513 وما بعدها.

ب- "تهذيب الصحاح" للمؤلف السابق. قال في مقدمته: "ثم نظرت نظرًا ثانيًا فرأيت همم بني الزمان ساقطة ... فأوجزته إيجازًا ثانيًا حتى وقع حجمه موقع العشر من كتاب الجوهري1. وقد طبع الكتاب بتحقيق الأستاذين هارون والعطار. جـ- "مختار الصحاح" لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي من علماء القرن السابع الهجري. قال في مقدمته: "هذا مختصر في علم اللغة جمعته من كتاب الصحاح ... لما رأيته أحسن أصول اللغة ترتيبًا وأوفرها تهذيبًا وأسهلها تناولًا وأكثرها تداولًا ... واقتصرت فيه على ما لا بد لكل عالم فقيه أو حافظ أو محدث أوأديب من معرفته وحفظه". وقد أعيد ترتيبه على نظام أساس البلاغة مؤخرًا وحذف منه ما لا يناسب الطلاب. وقام بإعادة ترتيبه وتهذيبه الأستاذ محمود خاطر وراجعه الشيخ حمزة فتح الله. أما ترجمات الصحاح فسنتحدث عنها في الباب الثالث: قضية التأثير والتأثر. "العباب" للصغاني "العباب الزاخر واللباب الفاخر": هذا ثاني 2 عمل معجمي يقدمه الصغاني، وقد سبق الحديث عن "التكملة". ويتميز هذا العمل باستقلاله وتحرره من صحاح الجوهري. وقد ألفه فيما بين سنتي 643 و650، ومات المؤلف دون أن يتمه إذ وصل إلى مادة "بكم" 3 فقط.

_ 1 مقدمة تهذيب الصحاح للزنجاني، ص 4. ترك الصغاني عملًا لغويًّا ثالثًا هو: "مجمع البحرين" في 12 مجلدًا جمع فيه بين الصحاح والتكملة. 3 ومع ذلك تذكر بعض المراجع أنه في عشرين مجلدًا.

وقد ظل العباب حبيس خزائن الكتب حتى تصدى لتحقيقه ونشره الشيخ محمد حسن آل ياسين، فنشر حرف الهمزة عام 1977 ثم حرف الطاء عام 1979 ثم حرف الغين عام 1980 ... وقد علل المحقق لجوءه إلى نشر قطع متفرقة من الكتاب باختلاف قطع الكتاب المتفرقة وأشلائه الموزعة بين: أ- ما كتب بخط المؤلف، ويتصف بالدقة والإتقان والضبط الكامل. ب- ما نقل من أصل المؤلف وعليه خطه وتصويباته. جـ- ما خط بأقلام عدد من الناسخين الذين لم يسلموا من الوقوع في الغط. ولهذا رأى أن يبدأ "بنشر القطع المكتوبة بخط المؤلف" ولم يجد ضيرًا في انعدام التسلسل "ما دامت كل قطعة منها تشكل حرفًا مستقلًّا". وقد احتل عباب الصغاني مكانة عالية بين المعاجم حتى اعتبر أحد المعاجم اللغوية الرئيسية التي لا يستغنى الباحث والدارس عن الرجوع إليها. فقد اعتبر الفيروزآبادي في مقدمة معجمه "القاموس" محكم ابن سيده وعباب الصغاني غرتي الكتب المصنفة في هذا الباب. ويرى السيوطي أن أعظم الكتب اللغوية بعد الصحاح: المحكم والعباب. وقد قدم المؤلف لمادة معجمه بمقدمة تحدثت عما يأتي: 1- اشتمال الكتاب على ما تفرق في كتب اللغة المشهورة والتصانيف المعتبرة المذكورة وما بلغه مما جمعه علماء هذا الشأن، والقدماء الذين شافهوا العرب العرباء وساكنوها في داراتها، وسايروها في نقلها من مورد إلى مورد ومن منهل إلى منهل. 2- استشهاده بالقرآن والحديث النبوي والفصيح من الأشعار والسائر من الأمثال.

3- ذكره أسامي جماعة من أهل اللغة لا غنى بممارس هذا الكتاب وسائر كتب اللغة عن معرفتها. 4- تفاخره بدقته وبنخله الكتب المتداولة، ونقده للغويين السابقين مثل الأزهري والجوهري وابن فارس وابن السكيت والصاحب بن عباد. وقد قسا المؤلف على الأخير منهم قائلًا: "وأما الصاحب بن عباد؛ فإن كتابه المسمى بـ"المحيط" لو قيل: إنه أحاط بالأغلاط والتصحيفات لم يبعد عن الصواب. وكأن علماء زمانه خافوا أنهم لو نطقوا بشيء منها قطع رسومهم وتسويغاتهم فلبوا نداءه، وأمنوا على دعائه ونجوا بالصمت". لسان العرب لابن منظور: يعد لسان العرب من أضخم المعجمات العربية -إن لم يكن أضخمها- علىالإطلاق ومؤلفه هو عبد الله محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري، من نسل رويفع بن ثابت. وتتنازع ابن منظور أقطار عربية هي تونس وليبيا ومصر. وقد حققت في بحث لي حول ابن منظور أن صلة ابن منظور بليبيا تنحصر في أن جده الأعلى رويفع بن ثابت الصحابي ولى طرابلس إبان حكم معاوية وغزا منها إفريقية سنة 47 هـ. أما النسبة "الطرابلسي" التي وردت في بعض المراجع فهي نسبة إلى طرابلس الشام "لا طرابلس الغرب" فقد ولي ابن منظور القضاء في هذه المدينة بعد أن استردها السلطان قلاوون من أيدي الصليبين عام 688. ومن الثابت تاريخيًّا أن ابن منظور ولد بمصر وترعرع بها، ومن الثابت كذلك أنه ولي ديوان الإنشاء بمصر مدة طويلة عبر عنها المؤرخون بقولهم: "طول عمره"، كما كانت وفاة ابن منظور بمصر. ولذا فإن من الأقرب اعتباره مصريًّا إذا أصررنا على نسبته إلى إقليم بعينه، والأفضل

نسبته إلى أفريقية1 ومصر كما جاء في كتب التراجم "الإفريقي المصري"، أو عدم نسبته إلى إقليم بعينه لكثرة أسفاره وتنقلاته على عادة العلماء في ذلك العصر. وقد اعتمد ابن منظور أكثر ما اعتمد على مصادر خمسة هي "تهذيب اللغة" للأزهري، و"المحكم" لابن سيده، و"الصحاح" للجوهري، و"الجمهرة" لابن دريد، و"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير. وذكر في مقدمة معجمه أن كتابي الأزهري وابن سيده وعرا المسلك عسرا المطلب، وأنه لذلك فضل أن يرتب معجمه ترتيب الصحاح في الأبواب والفصول، لسهولة منهجه وبساطة ترتيبه. وليس هناك ما يميز معجم ابن منظور عن غيره من المعاجم التي سلكت في ترتيبها نظام الباب والفصل سوى توسعه في الشرح وإفاضته في ذكر أسماء الرواة والعلماء واللغويين والنحويين، وكثرة شواهده وتنوعها. وقد ولد ابن منظور سنة 630 هـ، وتوفي عام 711 هـ، وطبع معجمه عدة طبعات أولاها في بولاق بمصر عام 1300 هـ، وتقع في عشرين مجلدًا، والثانية في لبنان وتقع في 65 جزءًا صغيرًا. ثم قامت دار لسان العرب ببيروت بإصدار طبعة من لسان العرب بعد أن أعيد ترتيبها على حسب الأوائل، وأضيف إليها المصطلحات العلمية التي أقرتها المجامع العلمية والجامعات العربية، وزودت بالصور والرسوم والخرائط، واختارت لهذه الطبعة اسم "لسان العرب المحيط". وقد قام بإعداد هذه الطبعة وترتيبها السيدان: يوسف خياط ونديم مرعشلي.

_ 1 أفريقية كانت تطلق على ما يطلق عليه اليوم بالتقريب، تونس. وانظر مؤلفنا - النشاط الثقافي في ليبيا ص 227 - 281 - ومقالنا: ابن منظور اللغوي "مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، المجلد 18 - 74 / 1975".

وما زلنا نطمح في مزيد من الاهتمام بهذا المعجم فيتقدم أحد لإعادة ترتيب مادته داخليًّا، وإعداد فهارس متنوعة لمادته1. القاموس المحيط للفيروزآبادي: أما الفيروزآبادي فهو طاهر مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي المولود بقرية كارزين قرب شيراز. وقد عرف باسم الفيروزآبادي نسبة إلى قرية فيروزآباد من قرى فارس ومنها والده وجده. وكان مولده عام 729 هـ ووفاته عام 816 أو 817 هـ. وقد ذكر الفيروزآبادي في مقدمة معجمة السبب في وضعه هذا المعجم وأهم مميزاته فقال: "وكنت برهة من الدهر ألتمس كتابًا جامعًا بسيطًا.. ولما أعياني الطلاب شرعت في كتابي الموسوم باللامع المعلم العجاب الجامع بين المحكم والعباب2.. وضممت إليهما زيادات ... غير أني خمنته في ستين سفرًا يعجز تحصيله الطلاب. وسئلت تقديم كتاب وجيز على ذلك النظام. فصرفت صوب هذا القصد عناني، وألفت هذا الكتاب محذوف الشواهد، مطروح الزوائد ... ولخصت كل ثلاثين سفرًا في سفر، وضمنته خلاصة ما في العباب والمحكم، وأضفت إليه زيادات من الله تعالى بها. نظامه: 1- رتبه المؤلف على نظام الباب والفصل، وقد اشتمل على 28.

_ 1 نشر الدكتور ياسين الأيوبي "1980" معجمًا لشعراء لسان العرب، وطبعته دار العلم للملايين، وأصدرت دار المعارف بمصر الجزء الأول من فهارس اللسان "1984". ويقوم الدكتور خليل عمايرة بإعداد فهارس تفصيلية للسان باستخدام الكمبيوتر. كما قدم الدكتور علي حلمي موسى احصاءات بمواد لسان العرب. 2 المحكم لابن سيده، والعباب للصغاتي.

بابًا1 غير أنه قدم باب الهاء على باب الواو والياء. وأما في الفصول فالواو مقدمة على الهاء وهي قبل الياء. 2- التزام الاختصار والتركيز ما أمكن. وفي سبيل ذلك: أ- حذف الشواهد إلا ما ندر. ب- حذف أسماء الرواة واللغويين. جـ- استخدام الرموز الآتية: ع- وتعني موضع، و "د" وتعني بلد، "ة" وتعني قرية، و "ج" وتعني جمع، و "جج" وتعني جمع الجمع، و "م" وتعني معروف، و "و" وتعني واوي، و "ي" وتعني يائي. د- ترك القياسي والمطرد. هـ- لم يذكر المؤنث مرة ثانية بعد ذكر المذكر بل اكتفى بقوله: وهي بهاء أي أنثى هذا المذكر بهاء. و ترك النص على عين المضارع إذا كان الفعل من باب فعل يفعل "بفتح فضم" واكتفى بذكر الماضي. ز- ما كان مفتوح الأول جرده من الضبط وما جمع إلى ذلك فتح الثاني وصفه بقوله: محركة. 3- تخليص الواو من الياء -وهذا قسم على حد تعبير الفيروزآبادي- يسم المصنفين بالعي والإعياء. 4- أنه لم يكن -زيادة في الضبط- يكتفي بذكر الحركة وإنما يذكر المثال كقوله: "رأب الصدع كمنع أصلحه"، فهي كمنع في الضبط

_ 1 ضم الفيروزآبادي الواو والياء في باب واحد وعقد بابًا للألف اللينة وضع تحته كلمات مثل إذا - إلى - ألا....

لا في المعنى. وكقوله: "والقبقب البطن، وبالكسر صدف بحري، وكغراب أطم1 بالمدينة ... وككتاب ع بسمرقند". بين الفيروزآبادي والجوهري: من يقرأ مقدمة القاموس يحس بأن الفيروزآبادي وضع نصب عينيه صحاح الجوهري، وأنه أراد أن يتفوق عليه، وأن ينتزع الإعجاب الذي ناله الصحاح منذ ظهوره وعلى امتداد أربعة قرون. ولهذا جعل الفيروزآبادي من أهدافه في معجمه: 1- زيادة مادته على مادة الصحاح، وقد عبر عن ذلك بقوله: "ولما رأيت إقبال الناس على صحاح الجوهري -وهو جدير بذلك غير أنه فاته نصف اللغة أو أكثر إما بإهمال المادة، أو بترك المعاني الغريبة النادرة- أردت أن يظهر للناظر بادئ ذي بدء فضل كتابي هذا عليه، فكتبت بالحمرة المادة المهملة لديه.. ولم أذكر ذلك إشاعة العفاخر، بل إذاعة لقول الشاعر: كم ترك الأول للآخر"2. 2- تصويب أخطاء الجوهري ورد أوهامه، وعبر عن ذلك بقوله: "ثم إني نبهت فيه على أشياء ركب فيها الجوهري -رحمه الله- خلاف الصواب غير طاعن فيه، ولا قاصد بذلك تنديدًا له، وإزراء عليه، وغضًّا منه بل استيضاحًا للصواب، واسترباحًا للثواب ... واختصصت كتاب الجوهري من بيت الكتب اللغوية مع ما في غالبها من الأوهام

_ 1 الأطم: الحصن والبيت المرتفع. 2 ومع ذلك استدرك العلماء على الفيروزآبادي كثيرًا من المادة، يقول السيوطي: فاته أشياء ظفرت بها في أثناء مطالعتي حتى هممت أن أجمعها جزء: ويقول آخر: إنه هناك من يعتقدون أن "القاموس قد أحاط باللغة" ولذا أراد "التنبيه على بطلان هذا الزعم بذكر شيء مما فاته" "انظر: ابن الطيب الفاسي للبواب، ص123". وسيأتي ذكر لتكملة الزبيدي لقاموس الفيروزآبادي.

الواضحة، والأغلاط الفاضحة، لتداوله واشتهاره بخصوصه، واعتماد المدرسين على نقوله ونصوصه". أما بالنسبة لزيادات الفيروزآبادي فقد استعاضت المطبعة عن الحمرة بخط ممتد يوضع فوق المادة الزائدة. وتبدو الزيادات كثيرة من النظرة السريعة لكثرة الخطوط وشمولها معظم الصفحات، وتكررها في كثير منها. ولم يقم أحد من الباحثين بإحصاء يبين عدد الجذور التي يحتويها القاموس المحيط لمقارنتها بجذور معجم الصحاح وتحديد نسبة الزيادة، ولكن قدم الدكتور علي حلمي موسى الإحصاء التالي المتعلق بالصحاح واللسان وتاج العروس، كما قدم الدكتور محمد مصطفى رضوان إحصاء بمجموع مواد القاموس.. وهما كما يأتي 1: ولا يغرب عن البال أن زيادات المواد أو الجذور ليست هي كل زيادات القاموس على الصحاح، لأن التوسع في الشرح، وذكر معان جديدة للجذر يمثل نسبة كبيرة من زيادات الفيروزآبادي. ويكفي لبيان فضل الفيروزآبادي في هذا أن أشير إلى أن بعضًا من مادة القاموس لم يرد حتى في "لسان العرب" برغم اعتبار الأخير واحدًا من أضخم المعاجم العربية على الإطلاق، ويكفي أن أمثل بالمثل الآتي -وقد

_ 1 انظر احصاءات جذور معجم لسان العرب ص 93 ودراسات في القاموس المحيط صفحتي 96، 97.

عثرت عليه بطريق المصادفة- فقد أهمل ابن منظور في مادة "لجن" ذكر كلمة "لجنة" ومعنها، وقد ورد في القاموس ما نصه: "واللجنة الجماعة يجتمعون في الأمر ويرضونه". وأما بالنسبة لمآخذ الفيروزآبادي على الجوهري فبعضها يسلم له، وبعضها يسلم للجوهري، وبعضها لا يعد أحد الرأيين فيه أفضل من الآخر. وقد تتبع كثير من العلماء هذه الأوهام بالتعليق والدراسة، ويبدو أن تعاطفهم كان متجهًا إلى الجوهري ولذا ألفت الكتب في الانتصار له، ولا أعرف كتابًا واحدًا ألف للانتصار للفيروزآبادي. فمما أخذه الفيروزآبادي على الجوهري ولا يمكن الدفاع فيه عن الجوهري. 1- قال في القاموس: "شاد": "شاد الحائط يشيده طلاه بالشيد وهو ما طلى به حائط من جص ونحوه. وقول الجوهري: من طين أو بلاط - بالباء - غلط، والصواب ملاط بالميم؛ لأن البلاط حجارة لا يطلى بها، وإنما يطلى بالملاط وهو الطين". 2- قال في القاموس "صعر": "والصيعرية اعتراض في السير، وسمة في عنق الناقة لا البعير، وأوهم الجوهري بيت المسيب الذي قال فيه طرفة لما سمعه: قد استنوق الجمل". وقد حاول ابن الطيب الفاسي أن يعتذر عن الجوهري بقوله: إنه أراد بالبعير الأنثى1، والتكلف واضح في هذا الدفاع. أما بيت المسيب الذي أشار إليه الفيروزآبادي فهو: وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم

_ 1 إضاءة الراموس 3/ 109.

3- قال في القاموس: "نوف": "وأناف عليه زاد كنيف. وأفرد الجوهري له تركيب "ن ي ف " وهما. والصواب ما فعلنا لأن الكل واوي". ومما أخذه الفيروزآبادي على الجوهري دون وجه حق: 1- جاء في القاموس: "بهت" وقول الجوهري: فابهتي عليها أي فابهتيها لأنه لا يقال: بهت عليه -تصحيف- والصواب فانهتي عليها بالنون لا غير". والفيروزآبادي يشير إلى قول أبي النجم: سبي الحماة وابهتي عليها ... ثم اضربي بالود مرفقيها وقد تكفل صاحبا "إضاءة الراموس"، و "الوشاح" بالرد على الفيروزآبادي. فقال الأول: إن كانت الرواية فابهتي ثابتة فلا يلتفت لدعوى التصحيف لأنها في مثله غير مسموعة ... وإن لم تثبت الرواية كما قال، وصحت الرواية معه ثبت هذا التصحيف حينئذ بالنقل لا لأنه لا يقال.. وليس عندي جزم في الرواية حتى أفصل قوليهما.. وإنما ادعاء التحريف بمجرد أنه لا يتعدى "بهت" بعلي دعوى خالية عن الحاجة1. وقال الثاني: قوله: بالنون لا معنى له هنا لأن نهت لازم لا يتعدى ولا بحرف الجر، يقال: نهت ينهت.. والنهيت الزئير. وقد أقر ابن بري كلام الجوهري ولم يتعقبه من جهة المعنى وقال: إنما عدي بعلى لأنه بمعنى افترى2. 2- جاء في القاموس "كتب": "والكتاب" كرمان: الكاتبون.

_ 1 إضاءة الراموس 2/ 77. 2 الوشاط ص 36 والتنبيه لابن بري - مادة "بهت".

والمكتب كمقعد موضع التعليم. وقول الجوهري: الكتاب والمكتب واحد غلط". وما جاء في "الصحاح" صحيح، فقد قال الخليل: المكتب بضم الميم: المعلم، والكتاب مجمع صبيانة. وذكر الأزهري أن الكتاب اسم المكتب الذي يعلم فيه الصبيان. وقال صاحب "الوشاح": العبارة في غاية الصواب.. وفي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: "قرأت من فيّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبيعن سورة وإن زيد بن ثابت له ذؤابة في الكتاب" 1. 3- جاء في القاموس "مزج": "المزج الخلط والتحريش، وبالكسر اللوز المر كالمزيج والعسل، وغلط الجوهري في فتحه أو هي لغية". وقد تكفل الفاسي بنقض ذلك فقال: لا غلط في الفتح، فهو الذي جزم به غيره وصرح به الفيومي، وقال: سمي العسل مزجًا؛ لأنه يخلط بالشراب. وبالفتح روى بيت أبي ذؤيب: وجاءوا بمزج لم ير الناس مثله ... هو الضحك إلا أنه عمل النحل وهو الذي قاله أبو حنيفة وغيره، فلا معنى لقوله: أو هي لغية به هي لغة مبكرة صحيحة ثابتة نقلها الأثبات2. وقد اقتصر الخليل في "العين" على الفتح. وقد رد بعضهم ما في "الصحاح" من أوهام إلى أن الجوهري مات وترك الكتاب مسودة فبيضه تلميذه أبو إسحاق الوراق بعد موته فغط فيه في عدة مواضع. وسئل الميداني عن الخلل الواقع في الصحاح فقال:

_ 1 انظر العين، والتهذيب، وإضاءة الراموس 2/ 3، والوشاح ص 34 2 إضاءة الراموس 2/ 219.

إنه قرئ عليه إلى باب الضاد فحسب وبقي أكثر الكتاب على سواده. ولم يقدر له تنقيحه ولا تهذيبه. قال: ومن زعم أنه سمع من الجوهري شيئًا من الكتاب زيادة على باب الضاد فقد كذب1. إضاءة الراموس2 لابن الطيب الفاسي3. يعد إضاءة الراموس موسوعة لغوية فريدة، ومع ذلك ما يزال مخطوطًا لم ير النور بعد برغم تعدد نسخه في مكتبات العالم. ومؤلفه ابن الطيب الفاسي من أعلام المغرب، وقد ولد عام 1110 هـ من أسرة متمسكة بالدين حريصة على العلم، وتوفي عام 1170 هـ في المدينة المنورة حيث دفن. ويفصح المؤلف منذ البداية عن استنكاره لموقف الفيروزآبادي من الجوهري ويصرح بأن الدفاع عن الجوهري كان من أسباب تأليف هذا الكتاب: "وفي أثناء القراءة والإقراء.. رأيت المجد الشيرازي يكثر في قاموسه من الاعتراضات على الصحاح.. ويتابع في الرد، ويأتي بالتنديد الذي لا يحمله سد، ورأيت بعض المدعين يقلدونه في كلامه، ويعتقدون لقصورهم، تصويب اعتراضاته عليه وملامه.. فلما رأيته أكثر من التنديد عليه، وبالغ في عزو الأوهام إليه، انتصرت لأبي نصر ... وجعلت أرد ما يورده مشروحًا في شرحي لمصنفات اللغة وأتعقبه في الدروس أكمل التعقيب وأبلغه. فلما وقف على ذلك أشياخنا الأساتذة وأصحابنا الجهابذة تاقت نفوسهم إلى جمع ذلك في تعليق مستقل". وقد بدأ المؤلف متحمسًا في الأبواب الأولى من كتابه "الهمزة إلى

_ 1 انظر شرح ديباجة القاموس للشيخ نصر الهوريني، ص 38. 3 الراموس: القبر. ويعرف الكتاب كذلك باسم شرح القاموس أو حاشية القاموس. 3 اعتمدنا في كتابة هذه النبذة على رسالة الدكتوراه "مخطوطة المعنونة: ابن الطيب الفاسي وأثره في المعجم العربي للدكتور على حسين البواب.

الراء" فتوسع واستفاض في الشرح والتعقيب، ولم يهمل أي فصل من فصول القاموس، ثم فتر حماسه بعد ذلك حتى اكتفي في القسم الأخير بتعليقات بسيطة، واقتصر على أقل الألفاظ. وقد لخص الدكتور علي البواب جهود ابن الطيب الفاسي في النقاط الآتية:1 1- الشرح بمعناه الواسع الذي يشمل الضبط والتفسير والاستشهاد وغير ذلك. 2- الاستدراك 2. 3 النقد3. 4 زيادات الفيروزآبادي على الجوهري. 5 انتقادات الفيروزآبادي للجوهري. ويلاحظ في المعجم ميل المؤلف الظاهر نحو الجوهري، وتعصبه المطلق له، وتحامله الواضح على الفيروزآبادي، مما جعله يتهمه بالتقصير والغموض والخطأ والوهم وغيرها من التهم. وقد خالف ابن الطيب الفاسي تلامذة نابهين كان أشهرهم الزبيدي مؤلف "تاج العروس" التالي:

_ 1 صفحة 151 من الرسالة. 2 لاحظ أنه أراد بذلك الرد على ادعاء الفيروزآبادي الإحاطة. ولهذا نرى الفاسي يعلق وهو يستدرك على الفيروزآبادي تعليقات مثل: "وهو قصور بالغ" وأغفله مع شدة تتبعه الصحاح" و "وقد أغفل المصنف أكثر من نصفها ... وهو غاية في القصور في جنب دعوى القاموس المحيط بجميع الأمور". 3 شمل ذلك نقد الضبط والشرح وأخطاء الوزن والترتيب والخروج على الاصطلاح والحشو.

تاج العروس للزبيدي: اشتهر الزبيدي باسم السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي. وقد ولد بإحدى مدن الهند عام 1145 هـ، ثم ارتحل إلى زبيد باليمن حيث درس بها ثم غادرها وهو في السابعة عشرة من عمره. وفي سنة 1167 هـ هاجر إلى مصر واستقر بها إلى أن توفي عام 1205 هـ. وقد التقى الزبيدي بأستاذه الفاسي في المدينة المنورة وتتلمذ عليه هناك، وتلقى عليه القاموس المحيط وشرحه سماعًا ومشافهة، ووضع نسخة من حاشية ابن الطيب الفاسي بين يديه وهو يؤلف التاج1. ولم يترك الزبيدي مناسبة إلا أشاد بأستاذه وشيخه كقوله: "وهو عمدتي في هذا الفن والمقلد جيدي العاطل بحلي تقريره المستحسن"، "ولعمري لقد جمع فأوعى، وأتى بالمقاصد ووفى". وكان إذا قال في "تاج العروس": "شيخنا" -وما أكثر ما قالها- فإنه يعني ابن الطيب الفاسي2. وقد ذكر المؤلف الهدف من تأليف هذا الكتاب فقال: "كتاب القاموس المحيط ... أجلّ ما ألف في الفن.. ولما كان إبرازه في غاية الإيجاز، وإيجازه عن حد الإعجاز تصدى لكشف غوامضه ودقائقه رجال من أهل العلم "فكرت" في وضع شرح عليه ممزوج العبارة جامع لمواده.. واف ببيان ما اختلف من نسخه والتصويب لما صح منها من صحيح الأصول". وتقول المراجع إن الزبيدي بعد أن أنجز من "التاج" إلى آخر حرف الدال أولم وليمة حافلة جمع فيها طلاب العلم بمصر وأطلعهم عليه فاغتبطوا به وشهدوا بفضله وسعة اطلاعه. وإذا كان الزبيدي قد ترسم خطى أستاذه الفاسي في جميع مراحل

_ 1 ابن الطيب الفاسي، ص 288، 289، عدنان الخطيب، ص 43. 2 ابن الطيب الفاسي، ص 290.

منهجه، فقد خالفه في حملته الشديدة على الفيروزآبادي حيث خفف كثيرًا من حدتها وتجنب استعمال العبارات الجارحة. وكانت طريقة صاحب التاج أن يضع عبارة "القاموس المحيط" بين قوسين ثم يورد شروحه وأقواله واستشهاداته وتعليقاته خارج الأقواس، محاولًا الملاءمة بين ما يقوله وما هو من كلام القاموس حتى لا ينقطع السياق. وبرغم أن "تاج العروس" شرح للقاموس فلقد ظهرت شخصية الزبيدي فيه إلى حد جعله يفوق مجرد شرح أو تعليق، ويعتبره اللغويون كتابًا مستقلًّا، ومعجمًا قائمًا بذاته1. وقد ختم الزبيدي بمعجمه هذا عهد المعجمات المطولة، ورجع في تأليفه إلى حوالي خمسمائة مرجع ذكر أهمها في مقدمته. وتشمل إضافات الزبيدي على القاموس ما يأتي: 1- ذكر الشواهد التي أغفلها القاموس. 2- رد بعض الاقتباسات إلى أصولها أو مصادرها الأولى. 3- الاستدراك على الفيروزآبادي فيما أغفله من مواد أو كلمات أو معان. وكان من عادة المؤلف أن يختم المادة بما استدركه قائلًا: ومما يستدرك عليه. وقد تم طبع تاج العروس عام 1307 هـ "1889 م" بعد محاولة بدأت سنة 1287 هـ2. ويعاد طبعه الآن بالكويت طبعة علمية محققة وصلت عام 1986 إلى الجزء الثالث والعشرين.

_ 1 عبد الله درويش: المعاجم العربية ص 107، وحسين نصار: المعجم العربي 2/ 639 وما بعدها. 2 عدنان الخطيب ص 46.

التكملة والذيل والصلة للزبيدي: ألف الزبيدي هذا الكتاب ليستدرك ما فات صاحب القاموس من اللغة "إبطالًا لما يعتقده كثير ممن لا توغل له في هذا الشأن أن صاحب القاموس قد أحاط باللغة"1 وهو بهذا يحاكي الصاغاني في تكملته على الصحاح. وقد ظلت التكملة مخطوطة حتى طبع مجمع اللغة العربية بالقاهرة الجزءين الأول والثاني منها بتحقيق الأستاذ مصطفى حجازي "1986"، وقد وصل الجزءان إلى نهاية حرف الجيم. ويشبه منهج الزبيدي في هذا الكتاب منهج الصاعاني في تكملته على الصحاح فهو مثله: 1- ينسب ما يورده -مما فات صاحب القاموس من اللغة- إلى قائليه من اللغويين وأصحاب المعاجم. 2- ويعزو ما ينقله إلى مصدره كالصحاح واللسان والأساس. 3- ويتعقبه فيما وقع فيه من خطأ أو وهم. وكانت طريقته في ذلك إيراد عبارة القاموس مسبوقة بقوله: "وقول المصنف كذا ... " ثم التعقيب على ذلك بقوله:"خطأ، أو وهم صوابه: كذا" ثم يتبع ذلك بالنقول والشواهد التي تؤيد ما ذهب إليه"2. وقد ألفه بعد فراغه من معجمه "تاج العروس"، وقد ذكر ذلك في مقدمة التكملة حيث يقول: "فإني لما فرغت من شرحي على كتاب القاموس.. وتعقبت فيه البحث عن عواره، والكشف عن مخبآت أسراره، وبيان غامضه ومشكله، وتقييد مبهمه ومهمله، والتنبيه على

_ 1 ص 71. 2 ص 12، 13.

ما وقع فيه من اختلال في بعض سياقاته، وحل تعقيد في طي عباراته، وكنت ذكرت عقيب كل تركيب ما فاته من اللغات.. فكان يختلج في البال إفراد ذلك في تأليف على الاستقلال ... "1. جـ- مدرسة الترتيب بحسب الأبنية: مدخل: يلاحظ أن جميع المعاجم التي سبق ذكرها قد رتبت بحسب الحروف الساكنة "أو ما يمكن أن يسمى بالصوامت أو السواكن Cansonants" دون اعتبار الحركات "أو ما يمكن أن يسمى بالصوائت أو العلل Vowels" سواء في ذلك ما قام بتجريد الكلمة من الزوائد -وهو النوع الغالب- أو ما وضع الكلمات تحت حرفها الأول دون تجريدها من الزوائد. أما هذا النوع من المعاجم الذي سميناه بمعاجم الأبنية؛ فقد كان نوعًا فريدًا في بابه إذ راعى في ترتيب الكلمات الحركة إلى جانب الصوت الساكن. ولكنه -من سوء الحظ- لم يكتب له الشيوع والشهرة نظرًا لتعقد نظامه وتركبه من خطوات عدة. وعلى الرغم من أن أول معجم كامل اتبع نظام الأبنية قد ظهر في القرن الرابع الهجري على يد مؤلف من تركستان، من إقليم فاراب اسمه أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي؛ فقد تمت محاولات كثيرة لدراسة أبنية اللغة العربية وترتيبها منذ بدأ التفكير اللغوي عند العرب. وقد مهدت هذه المحاولات الطريق، ويسرت السبيل أمام ظهور فكرة المعجم الكامل. وربما كان من المفيد -من أجل هذا- أن نقسم البحث في معاجم الأبنية إلى نقطتين أساسيتين نتناول في أولاهما مرحلة التمهيد، أو وضع اللبنات الأولى، ونتناول في ثانيتهما مرحلة المعجم الكامل، وأشهر المعاجم التي اتبعت هذه الطريقة.

_ 1 ص 71.

أولًا: حرية التمهيد بدأ التأليف في الأبنية على أيدي النحاة، وقد كان "سيبويه أول من ذكرها وأوفى من سطرها"1، ولذلك أفرد لها في كتابه أبوابًا جمع فيها ما عرفه من أبنية اللغة العربية وقسمها تقسيما كميًّا، مع فصل أبنية الأسماء عن الأفعال، ومثل لكل نوع منها، وقد ذكر للأسماء 308 بناء بين ثلاثي مجرد ومزيد، ورباعي مجرد ومزيد، وخماسي مجرد ومزيد. وذكر للأفعال 34 بناء بين ثلاثي مجرد ومزيد ورباعي مجرد ومزيد. ومهد سيبويه لكلامه عن الأبنية بمقدمة تحدث فيها عن أقل ما تكون عليه الكلمة وأكثر ما تصل إليه وحروفها أصلية أو مزيد فيها. ثم تحدث عن حروف الزوائد حرفًا حرفًا، وذكر مواضع زيادة كل منها2. ولم يكن من غرض سيبويه في هذا البحث أن يحصر ألفاظ كل بناء، وإنما كان غرضه يتجه إلى حصر الأبنية والتمثيل فقط كل منها. وجاء النحاة بعد سيبويه فبهرهم هذا العمل، وأثار إعجابهم. فلم يقدموا لنا في الموضوع شيئًا ذا بال، وانحصر بحثهم في ناحيتين: الأولى: الاستدراك على سيبويه وإضافة بعض الأبنية التي تركها. وقد فعل ذلك ابن السراج الذي ذكر أبنية سيبويه وزاد عليها 22 مثالًا، كما زاد أبو عمر الجرمي عليها أمثلة يسيرة، ثم زاد ابن خالويه أمثلة يسيرة 3، وزاد الزبيدي أكثر من ثمانين بناء4. والثانية: يمثلها المبرد الذي حول البحث في الأبنية إلى عمليات تدريبية وافتراضات عقلية بدلًا من أن يحاول القيام بعمل إيجابي. فهو

_ 1 أبنية الأسماء لابن القطاع ورقة2. 2 كتاب سيبويه، 2/ 315 وما بعدها "طبعة بولاق". 3 أبنية الأسماء لابن القطاع ورقة 2. 4 الاستدراك على سيبويه للزبيدي "ط روما سنة 1890"، ص1.

لم يبحث الأبنية بحثًا عمليًّا يقوم على الاستقراء والتتبع، وإنما أطلق لفكره العنان، وأكثر من الفروض العقلية. ومن ذلك أنه عقد بابا باسم "هذا باب معرفة الأبنية وتقطيعها بالأفاعيل ... " قال فيه: "فإذا قال لك: ابن مَن "ضرب" مثل "جعفر" فقد قال لك: زد على هذه الحروف الثلاثة حرفا، فحق هذا أن تكرر لامه فتقول: "ضريب".. ولو قال لك: ابن لي من "ضرب" على مثال "صمحمح" لقلت "ضربرب" 1. ولكن من حسن حظنا أن اللغويين لم يدعوا النحاة وحدهم في هذا الميدان يصولون ويجولون، وإنما شاركوهم فيه. وحولوا البحث في الأبنية مرة أخرى إلى بحث استقرائي تتبعي، وإن اتجهوا في البحث اتجاهًا آخر، فلم يعد هدفهم حصر الأبنية فقط -فهذا أمر قام به السابقون- وإنما اتجه إلى محاولة حصر الألفاظ تحت كل بناء، واتخذ ذلك مظهرين اثنين: فاتجه فريق إلى أن يفردوا في كتبهم اللغوية بحوثًا خاصة بالأبنية، واتجه فريق آخر إلى التأليف في الأبنية مؤلفات مستقلة. أما الفريق الأول فلم تتسم بحوثه بطابع خاص، وإنما اتخذت أشكالًا متعددة. فمنها ما اهتم بأن يذكر من ألفاظ البناء ما يقع الاشتباه فيه ويدع ما عداها، ومنها ما اهتم بذكر الأبنية التي تعد ضبطها، ومنها ما تعرض لبعض الأبنية -بدون ضابط وذكر ألفاظها، ومنها ما اهتم بذكر الأبنية النادرة، ومعظمها وجه عنايته لصيغتين من صيغ الأفعال هما "فعل أو فعل". وقد حظيت هاتان الصيغتان باهتمام اللغويين جميعًا حتى إن الكتب المبكرة التي ألفت في الأفعال كانت تحمل اسم "فعل وأفعل" أو "فعلت وأفعلت". وأهم ما ألف في هذا الاتجاه "الغريب المصنف" لأبي عبيد، و"إصلاح المنطق" لابن السكيت، و"أدب الكاتب" لابن قتيبة،

_ 1المقتضب للمبرد "مخطوطة دار الكتب المصرية رقم 1909 - نحو، ص 37.

و "المنتخب" لكراع النمل، و "الجمهرة" لابن دريد في أبوابها الأخيرة. وأما الفريق الثاني فلم يصل بمؤلفاته -حتى القرن الرابع الهجري- إلى مرتبة المعجم الكامل الذي يحصر الأبنية "سواء كانت للأسماء أو الأفعال" ويوزع تحت كل بناء ما يخصه من ألفاظ، وإنما كانت مؤلفاته خاصة ببعض الأبنية دون بعض. وانحصرت جهود اللغويين في هذه الناحية فيما يأتي: "أ" التأليف في أبنية المصادر: وأول من ألف في ذلك الكسائي "ت سنة 182 هـ أو سنة 183 هـ"، ثم النضر بن شميل "ت سنة 203 هـ"، والفراء "ت سنة 207 هـ" وخص كتابه بمصادر القرآن، وأبو عبيدة "ت سنة 209 هـ"، والأصمعي "ت سنة 213 هـ" وأبو زيد "ت سنة 215 هـ" ونفطويه "ت سنة 323 هـ"1. "ب" التأليف في أبنية الأفعال: ولا نعرف مؤلفًا واحدًا منها تعرض للأفعال جملة، إذ لم يبدأ التأليف في ذلك إلا بعد الفارابي "قرن 4هـ" الذي سنخصه بحديث مفصل فيما بعد. وإنما نجدها تناولت صيغًا خاصة من الأفعال، ونجد صيغتين اثنتين من بين هذه الصيغ تجتذبان اهتمام اللغويين فيؤلفون فيهما، وهما صيغتا "فعل وأفعل". ومن أول من ألف فيهما قطرب "ت سنة 206 هـ" والفراء، وأبو عبيدة، وأبو زيد، والزجاج "ت سنة 311هـ" وابن دريد "ت سنة 321 هـ". وأقدم كتاب وصلنا منها هو "فعلت

_ 1 انظر الفهرست لابن النديم "ط مصر 1348" ص 77، 80، 81، 98- 100، 121 ومعجم الأدباء "ط الحلبي" 1/ 271، 272، 11/ 216، 217، 13/ 202، 203، 19/ 343، 20/ 13، 14.

وأفعلت" لأبي حاتم السجستاني "ت سنة 255 هـ"1، وقد حققه ونشره مؤخرًا الدكتور خليل العطية. "ج" التأليف في أبنية الأسماء: ولم أجد أحدًا من اللغويين قد أفرد أبنية الأسماء بتأليف مستقل يقصد استيعابها، ويعمد إلى تنظيمها ويجمع ما تفرق منها، ولكنني وجدتهم قد ألفوا في شيء خاص منها وهو "المقصور والممدود". وممن ألف في ذلك الفراء، والأصمعي، وأبو عبيدة، والزجاج2 وأبو علي القالي "ت سنة 356هـ"، وقد وصلنا كتاب أبي على القالي وما يزال مخطوطًا. ونخلص من كل هذا إلى أن التأليف في الأبنية في مرحلته الأولى لم يأخذ صورة المعجم الكامل، ولم يتجه إلى حصر المادة اللغوية وتوزيعها على الأبنية. وهو إلى جانب فقده عنصر الترتيب والنظام لم يصل إلى أكثر من: أ- حصر الأبنية والتمثيل لكل منها. ب- العناية ببعض الأبنية ومحاولة حصر ألفاظها. أي أنه فقد أهم عنصرين من عناصر المعجم الكامل وهما الشمول والترتيب. ثانيًا: مرحلة المعجم الكامل 1- ديوان الأدب للفارابي: رائد هذه المرحلة هو الفارابي اللغوي أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم المتوفي سنة 350 أو 370 هـ، وكان موطنه فاراب، وهي مدينة

_ 1 انظر الفهرست ص 79، 89، 91، 100، ومعجم الأدباء 1/ 151. 18/ 126، 136، 19/ 53، 160، 162، 20/ 13، 14. 2 انظر كشف الظنون "ط استنبول 1360 - 62" 2/ 1461، 1462.

وراء نهر سيحون. ويعتبر معجمه "ديوان الأدب" أول معجم جامع في اللغة العربية ترتب مادته على حسب الأبنية، أو باعتبار السواكن والعلل. وقد قام مجمع اللغة العربية بالقاهرة بطبع هذا المعجم بتحقيق المؤلف وظهر في أربعة أجزاء يليها جزء خاص بالفهارس. ويتلخص نظام ديوان الأدب فيما يأتي: أ- قدم الفارابي لمعجمه بمقدمة شغلت من المطبوعة ثلاثًا وعشرين صفحة1 وتناولت مسائل عدة لغوية وتصريفية كما سنتحدث فيما بعد. ب- بعد المقدمة تجيء المادة اللغوية موزعة على أبوابها بحسب أبنيتها على النحو الذي شرحه في مقدمته. جـ- وذيل معظم أبواب الأفعال بأحكام تصريفية. المقدمة: أما المقدمة فقد تناولت المسائل الآتية: 1- تفضيل اللسان العربي على سائر الألسنة؛ لأنه كلام جيران الله في دار الخلد، ولأنه المنزه من بين الألسنة عن كل نقيصة، والمعلى عن كل خسيسة. 2- التعرض لأعمال اللغويين السابقين بصورة مجملة وتقسيمهم إلى موجز وغير موجز ومعتدل بين المذهبين. 3- إدلاله بنفسه وفخره بمصنفه، وذكره أنه عمل في كتابه "عمل من طب لمن حب" وأنه لم يسبق إلى هذا النظام، أو يزاحم عليه. 4- ذكره الضابط العام الذي ينتظم كل ما حواه معجمه من مادة

_ 1 انظر ديوان الأدب بتحقيقي الجزء الأول ص 70 - 92.

لغوية وهو أن يكون مستعملًا، وأن يذكره النحارير من علماء أهل الأدب في كتبهم، وأن يكون واردًا في قرآن أو حديث أو شاهد من كلام العرب. 5- شرح منهج الكتاب. 6- التعرض لبعض الأحكام التصريفية التي تتعلق بنظام الكتاب كالحديث عن أقل الأبنية وأقصاها، وعن حروف الزيادة ومواضعها، وعن أبينة الأسماء مجردها ومزيدها واستعمالات كل بناء، كقوله عن بناء "فعل" بفتح فسكون أن يكون واحد فعول "قلب وقلوب" أو فعال "كلب وكلاب" أو أفعال "ثوب وأثواب" ويكون وصفًا من الأفعال الدالة على الطبائع "ضخم"، ويكون مصدرًا لفعل المتعدي "ضرب" ويكون جمعًا لفعلة "تمرة". المادة اللغوية: رتبت المادة اللغوية على النحو الآتي: 1- قسم الفاربي معجمه ستة أقسام أسماها كتبًا وهي على الترتيب الآتي: أ- كتاب السالم، وعرفه بقوله: ما سلم من حروف المد واللين والتضعيف. ب- كتاب المضاعف، وعرفه بقوله: ما كانت العين منه واللام من جنس واحد. جـ- كتاب المثال، وعرفه بقوله: ما كانت في أوله واو أو ياء. د- كتاب ذوات الثلاثة، وعرفه بقوله: ما كانت العين منه حرفا من حروف المد واللين "الأجوف". هـ- كتاب ذوات الأربعة، وعرفه بقوله: ما كانت اللام منه حرفًا من حروف المد واللين "الناقص".

و كتاب المهموز، وهو ما كان أحد أصوله همزة1. 2- جعل كل كتاب من هذه الكتب شطرين: أسماء وأفعالًا2 وقدم الأسماء في كل كتاب على الأفعال. قسم كل شطر منهما إلى أبواب بحسب التجرد والزيادة. ففي الأسماء بدأ بالثلاثي المجرد ثم ما لحقته الزيادة في أوله "أصبع ومذهب" ثم المثقل الحشو "المزيد بالتضعيف" وذلك مثل "حمص"، ثم ما لحقته الزيادة بين الفاء والعين "طابع"، ثم ما لحقته الزيادة بين العين واللام "سحاب" ثم ما لحقته الزيادة بعد اللام "خدب" ثم الرباعي وما ألحق به "ثعلب"، ثم الخماسي وما ألحق به" جرْدَ حل". وفي الأفعال بدأ بالثلاثي المجرد "ثقب"، ثم ما لحقته الزيادة في أوله من غير ألف وصل وهي الهمزة "أترب"، ثم المثقل الحشو رتب" ثم ما لحقته الزيادة بين الفاء والعين "جاذب"، ثم الأبواب الثلاثة التي في أولها ألف وصل "اجتذب - انسحب - استصعب" ثم ما لحقته الزيادة في أوله وهي التاء مع تثقيل حشوه "تكلم"، ثم ما لحقته الزيادة في أوله وهي التاء، مع زيادة بين الفاء والعين "تجاذب"، ثم بابا الألوان وما أشبه ذلك "أحمر - احمار"، ثم أبواب الرباعي وما ألحق به3 أو زيد فيه.

_ 1 ذكر السر في إفراد المهموز بكتاب بقوله: "والهمزة كالحرف السالم في احتمال الحركات، وإنما جعلت في حروف الاعتلال لأنها تلين فتلحق بها" "1/ 76". 2 يشمل شطر الأفعال الأفعال ومشتقاتها كالمصدر واسم الفاعل واسم المفعول. 3 الإلحاق هو جعل كلمة على وزن كلمة أزيد منها لتلحقها في التصريف وهو نوعان: ملحق بالرباعي وملحق بالخماسي. وأشهر أوزان الملحق بالرباعي: فعلن: خلبن، وفوعل، جورب، وفيعل: سيطر، وفعول: سرول، وفعلل: جلبب وغيرها.

4- ولما كان كل باب من هذه الأبواب قد يشترك في عدة أبنية، كالثلاثي المجرد من الأسماء الذي له تسعة أبنية، وضع قاعدة لتقديم بعض هذه الأبنية على بعض فقدم ساكن الحشو على المتحرك لأن السكون أخف، وقدم المفتوح الأول لأن الفتحة أخف ثم أتبعه المضموم ثم المكسور. وقدم ياء التأنيث على همزة التأنيث وهمزة التأنيث على النون. 5- ولما كانت هناك كلمات كثيرة تشترك في الوزن الواحد رأى أن يرتب الأوزان بحسب حرفها الأخير مع أولها ووسطها. وهذا ما يعرف الآن بنظام الباب والفصل، وقد اشتهر بين الباحثين أن الجوهري هو الذي اخترعه، والذي تبين الآن أن الفارابي قد سبقه إليه. ولكنه عدل في ترتيب ألفاظ المعتل اللام أو المهموزها عن اعتبار الحرب الأخير لأنه واحد في جميعها، واعتبر الحرف الذي قبله مع الحرف الأول. وهذا وجه خلاف بينه وبين الجوهري الذي لم يعدل عن اعتبار الحرف الأخير، حتى في المهموز والناقص. فكلمة البدء تذكر في الصحاح قبل الخبء لأنها عنده من باب الهمز فصل الباء. ولكنها تذكر بعد الخبء في ديوان الأدب، لأنها من باب الدال فصل الباء، وكلمة الخبء من باب الباء فصل الخاء. ومثل هذا يقال عن كلمتين مثل "نحو" و"رخو" فالأولى تذكر أولًا في ديوان الأدب، ومتأخرة في الصحاح. 6- اعتبر أحرف الزيادة لمعرفة بناء الكلمة، ولكنه لم يعتبر الزيادة حينما أراد توزيع الكلمات على الأبواب والفصول. 7- كان في كثير من الأبواب ولا سيما في شطر الأفعال يذيل الباب بتعقيب يتحدث فيه عن أحكام عامة تعلق بالباب كما سنذكر فيما بعد. 8- في أبواب المعتل كان يفصل الواوي من اليائي ويقدم الأول منهما.

9- راعى الإيجاز في معجمه ولذلك حذف الأبنية القياسية سواء في الأسماء أو الصفات أو المصادر، اكتفاء بذكر أحكامها في المقدمة والتذييلات. 10- كان يرد الجموع إلى مفرداتها ويضع الجمع تحت مفرده. التذييلات: أتبع الفارابي كثيرًا من أبواب الأفعال بفصول تذييلية تناول فيها بالتفصيل أنواع المشتقات، وتعرض لكثير من الأحكام التصريفية العامة. وكان غرضه من ذلك الجمع بين المادة اللغوية المسموعة، والأخرى المقيسة. وبذلك يضم معجمه أكبر قدر ممكن من ألفاظ اللغة، ما لا ضابط له بالنص عليه، وما له ضابط بذكر قاعدته وكيفية اشتقاقه. وكان تركيزه في هذه التذييلات على أمور منها: 1- بيان المصادر من كل باب، كقوله في باب فَعل يفعُل "بفتح فضم" والمصدر القياسي في هذا ما كان على الفعل أو الفعول. الفعل للمتعدى والفعول للازم، وقد يتبادلان، وربما اجتمعا مثل سكت سكتا وسكوتا. وربما جاء المصدر من هذا الباب على فعل "بفتح فضم" وهو قليل. 2- بيان الصفات من كل باب كاسم الفاعل والصفة المشبهة. 3- كيفية أخذ اسم الزمان والمكان والمصدر الميمي. 4- كيفية أخذ فعل الأمر وضبط ألفه في كل باب. 5- معاني صيغ الزوائد. 6- أحكام تخص بعض الأبواب دون بعض، ومن ذلك: أ- ذكره سر المخالفة بين حركة الماضي الثلاثي ومضارعه.

ب- ذكره السر في اشتمال باب فَعل يفعَل على أحد حروف الحلق. جـ- حديثه عن لزوم باب فعل يفعل وسر التزام الضم في الماضي والمضارع معًا. د- ذكره كثيرًا من أحكام الإعلال في أبواب المثال وذوات الثلاثة وذوات الأربعة1. أما فائدة هذا النوع من المعاجم فتتلخص فيما يأتي: 1- اختار ترتيب الكلمات على الترتيب الهجائي المعروف، ولم يذهب في ذلك مذهب الخليل بن أحمد ولم يرتب ترتيبه "ميلًا إلى الأشهر، لقرب متناوله، وسهولة مأخذه على الخاصة والعامة". 2- ترتيب الكلمات على حسب حرفها الأخير يسهل البحث عن الكلمات التي قد يغمض معرفة أولها، أو سبق أولها بحروف مزيدة مثل: يعد - ميزان - أواصل2. كما أن هذا الترتيب ييسر على الشعراء والكتّاب النظم والنثر في عصر كانت قد شاعت فيه المحسنات البديعية والتزمت القوافي. 3- ويكشف لنا القاضي نشوان بن سعيد الحميري في مقدمة كتابه "شمس العلوم"، وهو ممن تأثر بالفارابي في تنظيمه عن عامل آخر أملى هذا النظام، وذلك في قوله: "وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى كثيرًا من الكتب فمنهم من جعل تصنيفه حارسًا للنقط وضبطه بهذا الضبط، ومنهم من حرس تصنيفه بالحركات بأمثلة قدروها، وأوزان ذكروها،

_ 1 انظر ديوان الأدب 3/ 256، 261، 401، 4/ 81 على سبيل المثال. 2 ثبت بالإحصاء أن لام الكلمة ثابتة لا تتغير مهما اختلفت صورة الكلمة - إلا في حالات قليلة ومتى لحقها التغيير أو زيد بعدها حرف أو حرفان فإن الكلمة تنتقل إلى أوزان أخرى ولا تعتبر من الثلاثي.

ولم يأت أحد منهم بتصنيف يحرس جميع النقط والحركات. فلما رأيت ذلك ورأيت تصحيف الكتاب والقراء ... حملني ذلك على تصنيف يأمن كاتبه وقارئه من التصحيف، يحرس كل كلمة بنقطها، وشكلها، ويجعلها مع جنسها وشكلها ويردها إلى أصلها، جعلت فيه لكل حرف في المعجم كتابًا، ثم جعلت له ولكل حرف معه من حروف المعجم بابًا، ثم جعلت كل باب من تلك الأبواب شطرين: أسماء وأفعالًا، ثم جعلت لكل كلمة من تلك الأسماء والأفعال وزنًا ومثالًا. فحروف المعجم تحرس النقط وتحفظ الخط، والأمثلة حارسة للحركات والشكل، فكتابي هذا يحرس النقط والحركات جميعًا"1. 4- ترتيب المعجم على نظام الأبنية، وجمع الكلمات التي على شاكلة واحدة في صعيد واحد يفيد الصرفيين كثيرًا، ويطلعنا على خصائص الأوزان، وما يفيده كل بناء من الأبنية، كوزن "فُعال" بضم الفاء الذي يفيد الزيادة والكثرة، وصيغة "فعيل" التي تدل على الملازمة والمبالغة في الشيء. كما يقفنا على معاني صيغ الزوائد كصيغة "أفعل" و"فاعل" و"فعل" و"استفعل". إلخ. 5- من عيوب المعاجم أنها كثيرًا ما تهمل النص على باب الفعل الثلاثي مما يوقع الباحث في الحيرة. وقد تغلب الفارابي على هذه المشكلة بتوزيعه الأفعال على أبوابها، فليس في معجمه فعل واحد لم يرد إلى بابه. ومن أمثلة ذلك قول الجوهري: "قلبته أي: أصبت قلبه، وقلبت النخلة أي نزعت قلبها" ولم يذكر الباب. وقد ذكرهما الفارابي في باب فعل يفعل. "بفتح فكسر". تقدير القدماء لديوان الأدب: استفادت كتب اللغة المتأخرة بمادة ديوان الأدب وأهمها فقه اللغة

_ 1 ص 2.

للثعالبي، والتكملة والعباب للصغاني، والمزهر للسيوطي، وإضاءة الراموس للفاسي والمصباح المنير للفيومي ... كما أثنى عليه العلماء ووصفوه بأرفع الصفات فسموه "الجامع لديوان الأدب"، ووصفوه بأنه "ميزان اللغة ومعيار العربية". وكان أبو العلاء المعري يحفظه عن ظهر قلب، وهو الذي أكمله لأديب يمني عثر على جزء منه وأعجبه جمعه وترتيبه. كما مدحه كثير من الشعراء، فقال أحدهم: كتاب ديوان الأدب ... أحلى جنى من الضرب ما ضر من يحفظه ... خمول ذكر أو نسب يرفعه كتابنا ... أعلى الأعالي والحسب ومدحه القاضي نشوان بن سعيد بقوله: نعم الكتاب ديوان الأدب ... نعم الذخيرة فهمه والمكتسب في كل باب منه كنز دونه ... كنز اللجين ودونه كنز الذهب عيوبه: 1- تعقد نظام الكتاب وصعوبة استخدامه حتى على المتخصصين، فهو نظام لا يسعف الباحث المتعجل. 2- أرغمت هذه الخطة المؤلف على تمزيق الصيغ التي ترجع إلى مادة واحدة وتوزيعها على أبواب مختلفة بحسب أوزانها. 3- لم يشمل المنهج إفراد أبواب للفعل المبني للمجهول، أو للحروف، ونراه يدمج النوع الأول في أبواب المبنية للمعلوم ويدمج الثاني في أبواب الأسماء.

4- أساس الاستفادة من المعجم معرفة ضبط الكلمة أولًا. ولهذا فهو يصلح لمن يعرف ضبط الكلمة ويريد أن يقف على معناها، أو يريد أن يقف على خصائص بناء من الأبنية، ولكنه لا يصلح لمن عرف مدلول كلمة، وأراد الوقوف على ضبطها. 5- وقوع المؤلف في بعض الأخطاء المنهجية مثل تكرار اللفظ مرة في باب الأسماء ومرة في باب الأفعال، ومثل الخلط بين الأسماء والصفات والأولى موضعها القسم الخاص بها والثانية موضعها قسم الأفعال، ومثل ذكره بعض الصيغ القياسية مع نصه على عدم ذكرها في المقدمة. 6- كما أنه وقع في بعض الأخطاء في شرح المادة اللغوية كقوله: وهي الكنيسة للنصارى، مع أن المعروف أنها لليهود. أما معبد النصارى فيسمى بيعة1. 2- شمس العلوم لنشوان: وهو من معاجم الأبنية التي اقتفت أثر الفارابي: واسمه بالكامل "شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم". واسم مؤلفه نشوان ابن سعيد بن نشوان الحميري النحوي اللغوي الفقيه من علماء القرن السادس الهجري. وصفه السيوطي بقوله: "أوحد أهل عصره، وأعلم دهره". وقد كان هذا الكتاب أسعد حظًّا من "ديوان الأدب" إذ طبع منه جزء في مجلدين وصل إلى آخر حرف الجيم بتحقيق ك. و. سترستين كما أخذت مطبعة الحلبي في طبعه وأصدرت منه جزءين وصلا إلى آخر حرف الشين، وذلك قبل أن يطبع ديوان الأدب. ثم أخذت مطبعة الحلبي في إعادة طبعه وأخرجت منه عام 1983 خمسة أجزاء ثم توقفت.

_ 1 وانظر ما سبق من مآخذ لغوية في دراسة العلاقة بين الصحاح وديوان الأدب، وما كتبته في مقدمة التحقيق عن عيوب المعجم "1/ 43 وما بعدها".

والكتاب يبدأ بمقدمة يليها فصل في التصريف. وأهم ما تناولته المقدمة فضل اللغة العربية على سائر اللغات، والحديث عن نظام الكتاب. أما فصل التصريف فقد بين أهمية علم التصريف وافتقار علم اللغة إليه ثم تناول مشكلات الزيادة، والإبدال، والحذف، ومخارج الحروف، والإدغام وغير ذلك. وقد شغلت المقدمة وفصل التصريف 29 صفحة من مطبوعة ليدن. نظامه: 1- قسم المؤلف معجمه إلى كتب على عدد حروف الهجاء، مرتبة على حسب الترتيب الهجائي المعروف، فبدأ بكتاب الهمزة، وتلاه بكتاب الباء، ثم التاء، ثم الثاء. 2- قسم كل كتاب من هذه الكتب إلى جزءين، جزء للمضاعف وجزء لغيره، وكان يبدأ كل كتاب بباب المضاعف. 3- قسم كل جزء من هذين الجزءين إلى شطرين، شطر للأسماء، وشطر للأفعال وكان يبدأ بشطر الأسماء. 4- قسم كل شطر إلى أقسام بحسب التجرد والزيادة، فكان يبدأ بالثلاثي المجرد، ثم المزيد فيه، ثم الرباعي، ثم الخماسي. 5- ولما كان كل قسم من هذه الأقسام يشترك في عدة أبنية راعى في المجرد الحركة حين ترتيب الأوزان، فكان يقدم ساكن الحشو على المتحرك والمفتوح الأول على المضموم والمكسور. أما في المزيد فقد راعى مكان الزيادة فقدم من الأبنية ما كانت زيادته أسبق، مع مراعاة نوع الحركة أيضًا. 6- اعتبر أحرف الزيادة لمعرفة بناء الكلمة، ولكنه لم يعتبر الزيادة حينما وزع الكلمات على الأبواب والفصول.

بين ديوان الأدب وشمس العلوم: هناك أوجه شبه وأوجه خلاف بين المعجمين. أما أوجه الشبه فواضحة فيما يأتي: 1- فكرة التقسيم إذ اتبعا نظام الأبنية. 2- التقسيم إلى أسماء وأفعال، وإفراد أبنية كل قسم ومفرداته. 3- التقسيم بحسب التجرد والزيادة، ثم بحسب نوع الحركة. 4- اعتبار أحرف الزيادة لمعرفة بناء الكلمة، وإهمالها عند توزيع الكلمات على الأبواب والفصول. وأما أوجه الخلاف فتتلخص فيما يأتي: 1- قسم الفارابي كلماته إلى ستة أقسام بحسب نوع حروفها، في حين أن القاضي نشوان راعى فصل المضاعف فقط عن غيره. ولا أفهم سر ذلك. 2- قدم الفارابي مرحلة التقسيم بحسب الأبنية على مرحلة التقسيم بحسب الحروف، في حين أن القاضي نشوان قد شطر مرحلة التقسيم بحسب الحروف إلى شطرين، قدم أولهما "وهو اعتبار الحرف الأول والثاني" على مرحلة الأبنية، وأخر ثانيهما "وهو اعتبار الحرف الأخير" عن مرحلة الأبنية. 3- كذلك نجد الفارابي في اعتباره للحروف يرتب بحسب الحرف الأخير والأول "نظام الباب والفصل" أما القاضي نشوان فيرتب بحسب الحرف الأول، ثم الثاني، ثم الأخير1.

_ 1 سواء كان الأخير ثالثًا أو رابعًا، ولذلك رتب كلمات البناء "فعال" في قسم الأسماء هكذا: جلعب، جلسد، جلعد، جلمد - جلهم ... ولو كان ينظر إلى الحرف الثالث لغير الترتيب.

4- وهناك فرق هام بين المعجمين يتمثل في المادة اللغوية الموجودة في كل. فديوان الأدب معجم مختصر، وقف عند حدود المعجم، فأهمل المسائل الفقهية والكلامية، ونحى الأشياء الغريبة عن علم اللغة، وحد من الأبحاث النحوية والبلاغية: أما "شمس العلوم" فكان يحشد تحت المادة كل ما يمكن حشده من ألوان العلوم والمعارف، ولذا جاء حجمه ضخمًا بالنسبة لحجم "ديوان الأدب"، مع نص القاضي نشوان في مقدمته على أنه بلغ في هذا التصنيف من الإيجاز والاختصار جهده، وأتى بأقصى الغاية مما عنده. ولكن ماذا يغني الاختصار والكتاب مليء بأخبار الملوك، ومعرفة منافع الأشجار، وطبائع الأحجار، والحديث في علوم القرآن والقراءات والتفسير، والأنساب والأخبار والحساب، والفقه والنجوم وتأويل الرؤى، والنحو والصرف والعروض، ومصطلح الحديث والفرق الإسلامية1. ويبدو أن القاضي نشوان قد تعمد إغفال اسم "ديوان الأدب" حتى يقطع الصلة بين المعجمين أو يمحو معالمها. ويبدو أن هذه النية هي التي جعلته يزعم في مقدمته أن أحدًا من المؤلفين في المعاجم لم يأت قبله بتصنيف يحرس جميع النقط والحركات، مع أن الفارابي قد سبقه إلى ذلك بقرنين من الزمن. ولم يستطع القاضي نشوان برغم ذلك أن يمحو تأثير الفارابي عليه، أو يقطع صلته به، ولذلك نجد القفطي يعتبر "شمس العلوم" شرحًا لـ"ديوان الأدب". وهو ليس كذلك في الحقيقة ولكنه أثر من آثاره2.

_ 1 المقدمة س 3، 6 وقد تكلم المؤلف في أكثر من صفحتين منها من علم النجوم وأهميته ومنزلته. 2 ولاحظ ما سبق أن اقتبسناه من قصيدة نشوان في مدح ديوان الأدب. وقد أوردت القصيدة بنصها في مقدمة تحقيقي "1/ 39".

3- مقدمة الأدب للزمخشري: ومقدمة الزمخشري من الكتب التي سارت على نظام الأبنية، ومؤلفها من علماء القرن السادس كذلك، وقد قسمها إلى خمسة أقسام: الأسماء، والأفعال، والحروف، وتصرف الأسماء، وتصرف الأفعال. ولم يتبع المؤلف في قسم الأسماء نظام الأبنية، وإنما سلك فيه سبيل المعاجم المرتبة بحسب الموضوعات، فقسمه إلى أبواب، جمع تحت كل باب منها الكلمات التي تدور حول موضوع واحد. أما قسم الأفعال فقد اتبع فيه نظام الأبنية فقسمه أولًا إلى: أ- الثلاثي المجرد. ب- الثلاثي المزيد. جـ- الرباعي. د- وألحق بها قسمًا رابعًا جمع فيه "من غير نظام" الأفعال غير المتصرفة ثم قسم كل قسم من الأقسام الثلاثة الأولى إلى أبواب. فقسم الثلاثي المجرد بحسب ماضيه ومضارعه إلى ستة أبواب، وألحق بها بابًا سابعًا للمبني للمجهول. وفصل في كل باب الأنواع الآتية بعضها من بعض: أ- الصحيح. ب- المضاعف. جـ- المعتل الفاء. د- المعتل العين. هـ- المعتل اللام. و المعتل الفاء واللام. ز- المعتل العين واللام. ورتب الكلمات تحت كل نوع ترتيبًا هجائيًّا كترتيب "ديوان الأدب" و"الصحاح".

وأما قسم الحروف فهو قسم قصير جدًّا لم يعالج فيه الزمخشري الحروف معالجة اللغوي، وإنما عالجها معالجة النحوي الذي يبحث عن الأثر الإعرابي ولذلك كانت أقسامه: "فصل في الحروف التي تجر الأسماء" فصل في الحروف التي تنصب الأسماء"، "فصل في الحروف التي تنصب الاسم وترفع الخبر". وأما القسمان الرابع والخامس الخاصان بتصريف الأسماء والأفعال فيتناولان موضوعات تمس النحو والصرف كالإعراب والبناء، والتعريف والتفكير، والإفراد والتثنية والجمع، والتصغير، والنسب. وتوجد من المعجم عدة نسخ ناقصة في دار الكتب المصرية يكمل بعضها بعضًا وهي: نسخة رقم 100 لغة تشتمل على الأسماء وقسم الأفعال. نسخة رقم 636 لغة وتشتمل كذلك على قسمي الأسماء والأفعال. نسخة رقم 272 لغة تنقص قسم الأسماء فقط وتشتمل على الأقسام الأربعة الأخرى وكتب عليها خطأ "كتاب الأفعال".

القسم الثاني: معاجم المعاني يبدو أن فكرة هذا النوع من المعاجم الذي يرتب ألفاظه بحسب الموضوعات، كانت أسبق في الوجود، أو معاصرة لأولية المعاجم العربية المرتبة على الألفاظ، وإن أخذت البداية شكلًا خاصًّا يتمثل في كتيبات صغيرة يتناول كل منها موضوعًاواحدًا من الموضوعات. ومن أوائل من ألفوا الكتيبات ذات الموضوع الواحد: أبو مالك عمرو ابن كركرة الذي ألف: خلق الإنسان، والخيل. ومنهم أبو خيرة الأعرابي الذي ألف: الحشرات وهما من علماء القرن الثاني الهجري. وفي القرن الثالث استمر هذا العمل، ووجدت بجانبه أعمال أخرى تتمثل في كتب تجمع أكثر من موضوع في مجلد واحد. فمن النوع الأول: السلاح للنضر بن شميل، والنحلة، والإبل، والخيل، وخلق الإنسان لأبي عمرو الشيباني، والإنسان، والزرع لأبي عبيدة، والمطر، والمياه، وخلق الإنسان، والشجر لأبي زيد الأنصاري، والإبل، والنحل والإنسان، والنبات والخيل للأصمعي، وأسماء الخيل، والبئر، والدرع لابن الأعرابي من النوع الثاني تلك الكتب التي حملت اسم "الغريب المصنف" أو "الصفات"، وأبو عبيد القاسم بن سلام الذي ألف "الغريب المصنف"1. ومن معاجم هذا القرن كذلك معجم لابن السكيت يحمل اسم "الألفاظ" وهو مطبوع ومتداول2.

_ 1 ما يزال مخطوطًا. وانظر عدنان الخطيب ص 37، وحسين نصار 1/ 129 وما بعدها. 2 طبع بتهذيب التبريزي باسم، "كنز الحفاظ في كتاب تهذيب الألفاظ".

ويستمر الاتجاهان في القرن الرابع، فيؤلف الأخفش الأصغر "الأنواء"، وابن دريد "السرج واللجام" و "المطر والسحاب"، وأبو علي القالي "الإبل". ويؤلف كراع النمل "أبو الحسن علي بن الحسن الهنائي المتوفى بعد عام 309 هـ" "المنجد"1، وعبد الرحمن ابن عيسى الهمذاني2 "توفي 320 هـ" "الألفاظ الكتابية" وقدامة بن جعفر "توفي 337 هـ" "جواهر الألفاظ". وآخر ما طبع من معاجم المعاني لهذا القرن "متخير الألفاظ" لابن فارس "توفي 395 هـ" 3. أما القرن الخامس فقد كاد يختفي4 منه الاتجاه الأول، وبقي الاتجاه الثاني ممثلًا في "مبادئ اللغة" للإسكافي "توفي 421هـ" الذي ضم أبوابًا تدور على الموضوعات، مثل النجوم والدهر والليل والنهار والثياب والآلات وأدوات الطعام والشراب، وقد طبع بالقاهرة. كذلك ظهر فيه "فقه اللغة" للثعالبي "توفي 429 هـ" وقد طبع كذلك. وتوج هذا القرن بعملين هامّين، أحدهما غاية في الطول، والآخر غاية في الاختصار. أما العمل الأول فهو: المخصص لابن سيده: وهذا المعجم يُعد أوفى وأشمل معجم من معاجم المعاني في تاريخ اللغة العربية. وقد استعان ابن سيده في تأليفه بكل ما كتب قبله تقريبًا من مؤلفات الغريب المصنف، والصفات والألفاظ والمعاجم اللغوية وكتب اللغة المختلفة، ولذا جاء شاملًا وافيًا.

_ 1 طبع بتحقيق المؤلف بالاشتراك مع ضاحي عبد الباقي. 2- طبع كتابه بتحقيق لويس شيخو. 3 طبع بتحقيق هلال ناجي. 4 لم أعثر إلا على "الأزمنة والأنواء" لابن الأجدابي وسيرد مزيد بيان عنهما.

ويضم الكتاب إلى جانب ذلك كثيرًا من المباحث النحوية والصرفية، كما أنه مزود بالشواهد المنظومة والمنثورة. والمخصص مطبوع ومتداول ويقع في 17 جزءا. ويقول مؤلفه في مقدمته: "وتأملت ما ألفه القدماء في اللسان ... فوجدتهم قد أورثونا بذلك فيها علومًا نفيسة جمة ... إلا أني وجدت ذلك نشرًا غير ملتئم، ونثرًا ليس بمنتظم ... ثم إني لم أر لهم فيها كتابًا مشتملًا على جلها فضلًا عن كلها مع أني رأيت جميع من مد إلى تأليفها يدًا ... قد حرموا الارتياض بصناعة الإعراب، ولم يرفع الزمن عنهم ما أسدل عليهم من كثيف ذلك الحجاب، حتى كأنهم موات لم يمد بحيوانية أو حيوان لم يحد بإنسانية". والمعجم مقسم إلى أبواب رئيسية بحسب الموضوعات، وتحت كل باب مجموعة من التقسيمات الفريعة، كما يبين من المثال التالي: كتاب خلق الإنسان - كتاب اللباس - كتاب الطعام ... وتحت كتاب خلق الإنسان نجد: باب الحمل والولادة - أسماء ما يخرج مع الولد - الرضاع والفطام والغذاء وسائر ضروب التربية - الغذاء السيئ للولد ... - الرأس - ومن صفات الرأس - ... الحاجب - العين وما فيها ... - الأنف ... - الشفة وما يليها من الذقن1. وقد أعد الأستاذ محمد الطالبي دراسة، كما قام بعمل فهارس متنوعة للمخصص وطبعها تحت عنوان "المخصص لابن سيده - دراسة ودليل" وهو عمل لا بأس به وييسر على الباحثين عناء التجوال في أجزاء المخصص المتعددة للعثور على طلبتهم.

_ 1 انظر مقارنة بين معاجم المعاني "القديمة" ومعاجم الحقول الدلالية "الحديثة" في بحثنا: نظرية الحقول الدلالية واستخداماتها المعجمية "مجلة كلية الآداب، جامعة الكويت، العدد 13".

ورب سائل يسأل: ولكن ما قيمة هذا النوع من المعاجم؟ وكيف يمكن الاستفادة به؟ والحقيقة أن هذا النوع من المعاجم لا يستفيد منه من عثر على كلمة وأراد ضبطها بالشكل، أو تحديد معناها، فمثل هذا الباحث لا بد أن يرجع إلى معاجم الألفاظ. ولكنه يفيد من يدور معنى من المعاني في ذهنه، أو يفكر في موضوع ما، ويريد أن يجمع الألفاظ المتعلقة به أو التي تدور حوله فلن يفيده إلا هذا النوع من المعاجم. ولو أراد مثل هذا الباحث الاستعانة بلسان العرب مثلًا في العثور على طلبته لأفنى الشهور والسنين في لَمّ الكلمات التي يريدها وجمع شتاتها من أماكنها المتفرقة، ولعدل عن المضي في بحثه حين يكتشف مدى الجهد الذي ينتظره. وأما العمل الآخر فهو: "كفاية المتحفظ ونهاية المتلفظ" لابن الأجدابي: ولجهل الكثيرين بالكتاب ومؤلفه رأينا أن نخصهما ببحث واف يقصد إلى التعريف بهما ووضعهما في مكانهما: أما المؤلف فهو العالم اللغوي أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد بن عبد الله اللواتي الأجدابي1 الطرابلسي، من علماء القرن الخامس الهجري، إذ كان معاصرًا لأبي محمد عبد الله بن محمد بن إبراهيم ابن هانش قاضي طرابلس في المدة من عام 444 إلى 477هـ، وله معه قصة ذكرها التجاني في رحلته2. ومن مجموع ما ذكره المؤرخون وكتاب التراجم عن حياته نعرف أنه

_ 1 اللواتي نسبة إلى "لواتة" وهي قبيلة بربرية كانت تسكن أجدابية. والأجدابي نسبة إلى "أجدابية" وهي بلد من بلاد برقة "الزاوي: أعلام ليبيا ص 4، معجم البلدان الليبية ص 20". 2 ص 263.

وإن كان ينتسب إلى أجدابية، فقد ولد وعاش ومات في طرابلس. وقد وصفه القفطي بقوله: "من أهل اللغة، وممن تصدر في بلده واشتهر بالعلم. وكانت له يد جيدة في اللغة وتحقيقها وإفادتها"1. وقد ألف كتبًا كثيرة هي بالإضافة إلى كتابنا هذا: 1- الأزمة والأنواء وقد طبع طبعة محققة ونشر في دمشق بتحقيق الدكتورة عزة حسن سنة 1964 م. 2- كتاب في العروض قال عنه التجاني "ناهيك به حسنًا وترتيبًا وتهذيبًا". 3- كتاب في الرد على أبي حفص بن مكي في "تثقيف اللسان". 4- كتاب شرح ما آخره ياء مشددة من الأسماء. 5- كتاب مختصر في علم الأنساب. 6- رسالة في الحول ألفها حين عيره "ابن هانش" بحوله2: وأما الكتاب فقد نال شهرة عظيمة برغم صغر حجمه، وتوالت عليه المؤلفات شرحًا ونظمًا، وبقيت منه نسخ عدة في كثير من مكتبات العالم. كما أنه طبع أكثر من مرة في أكثر من بلد عربي. والكتاب صغير الحجم إذ يبلغ في بعض الطبعات 55 صفحة، وفي بعضها الآخر 80 صفحة. أما موضوعه فنترك الحديث عنه لابن الأجدابي نفسه الذي يقول: "هذا كتاب مختصر في اللغة وما يحتاج إليه من غريب الكلام، أودعناه كثيرًا من الأسماء والصفات، وجنبناه حوشي الألفاظ

_ 1 إنباه الرواة 1/ 158. 2 مزيد بيان عنه بمؤلفنا "النشاط الثقافي في ليبيا"، ص 257 وما بعدها.

واللغات، وأعريناه عن الشواهد ليسهل حفظه ويقرب تناوله، وجعلناه مغنيًا لمن اقتصر في هذا الفن، ومعينًا لمن أراد الاتساع فيه، وصنفناه أبوابًا". أما أبواب الكتاب فمنها: باب في صفات الرجال المحمودة- ومن صفات الرجال المذمومة باب في صفات النساء المحمودة- ومن مذموم صفاتهن- معرفة حلى النساء- باب ما يحتاج إلى معرفته من خلق الإنسان ... وليس أدل على قيمة هذا الكتاب من احتفال العلماء به، واهتمامهم بكتابة الشروح والتعليقات عليه فمن ذلك: 1- شرح محمد بن الطيب المغربي الفاسي "المتوفي سنة 1170 هـ" المسمى "تحرير الرواية في تقرير الكفاية"، وتوجد منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحمل رقم 14 لغة ش1، وقد بدأ ابن الطيب الفاسي كتابه بقوله: "يا من المتحفظ بذكره كاف عن كفاية المتحفظ، والتلفظ بشكره إلى بدايته تنتهى نهاية المتلفظ" وذكر أنه رمى من وراء تأليفه إلى ضبط كلمات الكفاية وشرح غريبهما، وأنه لم يؤلف كتابه إلا بعد ما سألنيه جماعة من الأصحاب الجهابذة الذين تكررت قراءتهم إياه كغيره على طائفة من الشيوخ والأساتذة الذين كانوا يستندون في أمثاله من العلوم اللسانية إليّ". 2- نظم ابن مالك صاحب الألفية له. ويوجد من هذا النظم ميكروفيلم محفوظ في معهد المخطوطات بالقاهرة برقمي 286، 287 لغة وعدد ورقاته 43. ومن أبياته:

_ 1 قام بتحقيقه مؤخرًا علي حسين البواب ضمن رسالة للحصول على الدكتوراه من كلية دار العلوم، جامعة القاهرة "1978".

وبعده فقد رأيت حتمًا ... إذ كنت أكملت الفصيح نظمًا أن أنتضى عزمة ذي عناية ... فأنظم الوارد في الكفاية إذ بها يتم نيل الأرب ... لمبتغي علم كلام العرب 3- ونظمه كذلك قاضي الحرم جمال الدين محمد بن محب الدين الطبري المتوفى سنة 700 هـ تحت عنوان: "عمدة المتلفظ في نظم كفاية المتحفظ". وغير ذلك: ومما قيل تعليقًا على كفاية المتحفظ: القفطي: "صنف في اللغة مقدمة لطيفة سماها كفاية المتحفظ يشتغل بها الناس في المغرب ومصر". ابن الطيب الفاسي: "واعتنى بهذا المختصر جمع من الأئمة المقتدى بهم واعتمدوه. وأكثر من النقل عنه ... الفيومي في كتابه "المصباح المنير" ... والدميري في "حياة الحيوان" وغيرهما. وعدلوه بالمصنفات الكبار كالصحاح والتهذيب والمجمل ونحوها. وربما اختار كلامه في المصباح عليهم أحيانًا ... وشهرته بين أهل الفن كافية". ومدحه الأديب الفقيه علي بن صالح العدوي بقوله: من كان يطلب في الغريب وسيلة ... من شاعر أو كاتب متلفظ أو كان يبغي في الكلام بلاغة ... فليحفظن كفاية المتحفظ1

_ 1 راجع: النشاط الثقافي في ليبيا للمؤلف، ص 262 وما بعدها.

المآخذ على المعاجم العربية

3- المآخذ على المعاجم العربية: على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها المعجميون العرب، لم يسلم عملهم من النقد، ولم يخل من المآخذ، ولعل أهم هذه المآخذ ما يأتي: 1- أكبر عقبة تصادف الباحث في معاجمنا اللغوية عدم ترتيب المواد ترتيبًا داخليًّا. ففيها خلط الأسماء بالأفعال، والثلاثي بالرباعي، والمجرد بالمزيد وخلط المشتقات بعضها ببعض "فربما رأيت الفعل الخماسي والسداسي قبل الثلاثي والرباعي، أو رأيت أحد معاني الفعل في أول المادة، وباقي معانيه في آخرها. ففي مادة "عرض" ذكر الجوهري المعارضة التي بمعنى المقابلة بعد المعارضة التي بمعنى المجانبة بثلاثة وبثلاثين سطرًا"1 وكذلك فعل الفيروزآبادي في مادة حب، فقد أورد في أولها: تحابوا أي: أحب بعضهم بعضًا، ثم قال بعد ستة وثلاثين سطرًا: والتحاب التواد. ومن هذا القبيل ما ورد في "لسان العرب" في مادة ظفر إذ قال: ظفره وظفره وأظفره غرز في وجهه ظفره. ثم ذكر بعد خمسة وثلاثين سطرًا ظفر به وعليه وظفره وأظفره الله به وعليه وظفره به2. لذلك كان على من يريد الكشف عن كلمة أن يراجع المادة كلها من أولهما إلى آخرها، ولا يكتفي بمصادفتها في مكان واحد، فربما تكرر ذكرها. ولهذا يقول أحمد فارس الشدياق: "ولا جرم أن هذا التخليط والتشويش في ذكر الألفاظ ليذهب بصبر المطلع، ويحرمه من الفوز بالمطلوب فيعود حائرًا بائرًا".

_ 1 الجاسوس على القاموس، ص 10 من مقدمته. 2- مقدمة "البستان" ص 40 وانظر أمثلة أخرى من اللسان وأساس البلاغة في المعاجم اللغوية لأبي الفرج، ص 42 وما بعدها.

2- كذلك يواجه الباحث في المعاجم العربية بعدم التزامها بالمنهج الذي اختطه المؤلف لنفسه. ومن أمثلة ذلك: 1- ما جاء في "ديوان الأدب" للفارابي من أنه لن يذكر في المعجم المشتقات القياسية، ومع ذلك نجد في المعجم ذكرًا لفعال جمع فعل، ولفعل جمع فاعل مثل نوم ونائم وغيب وغائب. ب- ما جاء في مقدمة لجنة "المعجم الوسيط" من أن المعجم قد أهمل "كثيرًا من الألفاظ الحوشية الجافية، أو التي هجرها الاستعمال لعدم الحاجة إليها، أو قلة الفائدة منها، كبعض أسماء الإبل وصفاتها ... " ومع ذلك فقد ورد في المعجم كلمات مثل الهصاهص بمعنى القوي من الناس أو الأسود، ومثل الهلواع الناقة السريعة الشديدة، ومثل الناقة الدرصاء التي تكسرت أسنانها كبرًا، ومثل الدرفاسي بمعنى الضخم العظيم من الإنسان والحيوان1. 3- ومن عيوبها كذلك وقوعها في بعض الأخطاء عند شرح المادة اللغوية. وقد ألفت الكتب قديمًا وحديثًا في التنبيه على هذه الأخطاء. وقد سبقت الإشارة إلى "التنبيه والإيضاح" لابن بري، و"نفوذ السهم" لخليل بن أيبك الصفدي، و"التنبيه على حدوث التصحيف" لحمزة الأصفهاني. أما في الحديث فمما ألف فيها: "الجاسوس على القاموس" لأحمد فارس الشدياق، "وتصحيحات لسان العرب" لأحمد تيمور، كما نشرت تصحيحات للسان العرب في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق بقلم الأستاذ توفيق داود قربان، وتصحيحات أخرى للأستاذ عبد السلام هارون في مجلة المجلة، وأخرى للأستاذ عبد الستار أحمد فراج في مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة وغيرها2. ونشرت

_ 1 عدنان الخطيب ص 63، 67 - 69. 2 عدنان الخطيب نفس المرجع والصفحات. وانظر حسين نصار 2/ 747 وما بعدها.

تصحيحات للمعجم الوسيط للأستاذ عدنان الخطيب في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق تحت عنوان "نظرات في المعجم الوسيط". ومن أمثلة هذه الأخطاء قول الجوهري: وسالم من أسماء الرجل، ويقال للجلدة التي بين العين والأنف سالم. وقد عقب الصغاني بقوله: وهذا غلط. وقد تبع خاله الفارابي في أخذه اللغة من معنى الشعر. والبيت الذي أخذ الفارابي هذا المعنى منه هو قول الشاعر: يديرونني عن سالم وأريغه ... وجلدة بين العين والأنف سالم وهذا البيت قد قاله ابن عمر في ابنه سالم، وواضح أن "سالم" في الشطر الثاني - كما هو في الشطر الأول - هو سالم ابن ابن عمر، وقد جعله لمحبته بمنزلة جلدة بين عينه وأنفه. ومعنى أريغه أطلبه وأريده وأميل إليه سرًّا1. ومن أمثلتها كذلك قول الفارابي: "الصيعرية سمة في عنق البعير". قال الفيروزآبادي: الصيعرية سمة في عنق الناقة لا البعير. وقد حاول ابن الطيب الفاسيأن يعتذر عن الفارابي بأنه أراد بالبعير الأنثى. ولا معنى لذلك في رأينا. وقديمًا عيب على المسيب بن علس قوله: وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم لأن الصيعرية صفة للنوق لا للفحول. ولذلك حين سمع طرفة بن العبد هذا البيت قال: استنوق الجمل، وضحك منه2. 4- ومن عيوبها شرح الكلمات شرحًا معيبًا مثل:

_ 1 التكملة 6/ 22، لسان العرب، مادة "سلم". ويؤيد تفسيرنا البيت ما جاء في وصية هشام بن عبد الملك لمؤدب ولده: "إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني، وقد وليتك تأديبه". 2- ديوان الأدب 2/ 45، والقاموس المحيط مادة "صعر" واضاءة الراموس 3/ 109، والموازنة للآمدي ص 32، والموشح للمرزباني ص 76.

أ- غموض العبارة، وتعريف اللفظ الغامض بلفظ غامض، كقول الفارابي: "الصدع الوعل بين الوعلين"، وهو يريد أنه وسط منها ليس بالعظيم ولا الصغير. ولكنه وعل بين وعلين، كما شرحه الصحاح. وكقول الفارابي كذلك النثور: النيلج وقد شرحه الجوهري بقوله: وهو دخان الشحم يعالج به الوشم حتى يخضر. ب- عدم الدقة في التعبير، كقول الفارابي: الأكلف لون بين السواد والحمرة، والحقيقة أن الكلفة هي ذلك اللون، أما الأكلف فهو ما كان لونه بين السواد والحمرة. ومنه قوله أيضًا: "القنينة آنية الشراب" والصواب إناء لأن القنينة مفرد لا جمع. جـ- التعريف الدوري مثل قول الفارابي: حسب الرجل صار حسيبًا وقوله: الوارش في الطعام مثل الواغل في الشراب، الواغل في الشراب مثل الوارش في الطعام. وعبارة الجوهري أوضح وهي: "الوارش" الداخل على القوم وهم يأكلون ولم يُدْعَ، مثل الواغل في الشراب". ومنه قول القاموس: تنجح الحاجة واستنتجحها تنجزها، ثم قوله: تنجز الحاجة واستنجزها استنجحها1. 5- أنها أهملت في بعض الأحيان النص على ضبط الكلمة، وبيان باب الفعل الثلاثي. ومن أمثلة ذلك قول الجوهري: قلبته أي أصبت قلبه. وقلبت النخلة أي: نزعت قلبها. ولم يذكر الباب، وقد ذكر غيره أنه من باب فعل يفعل "بفتح فكسر". 6- كذلك من يتتبع معاجم المتأخرين يجدها تعتمد إلى حد كبير على معاجم المتقدمين، سواء من ناحية المادة أو النظام. ومنها ما يتجوز مرحلة الاعتماد إلى مرحلة التقليد الأعمى. ويحضرني من أمثلة التقليد الأعمى نموذجان:

_ 1 وانظر أمثلة أخرى في المعجم العربي لعدنان الخطيب ص 76 وما بعدها.

أ- اتباع ابن دريد نظام التقليبات تقليدًا للخيل بن أحمد مع طرح ابن دريد للترتيب الصوتي. ونظام التقليبات لا يحقق هدفه إلا مقترنًا بالترتيب الصوتي الذي يكشف عن خصائص "النسج الصوتي" للكلمات العربية، ويميز التجمعات المسموحة والأخرى الممنوعة. ب- استخدام ابن فارس نظم الدائرة في ترتيب ثواني الكلمات وثوالثها أي: بدؤه الثاني مما يلي الأول والثالث مما يلي الثاني. وهذه نقطة حاكى فيها معاجم التقليبات دون أن يتنبه إلى الحكمة منها. فمعاجم التقليبات تبدأ الثاني مما يلي الأول، لأن ما قبل الأول قد سبق في مكانه. ولكن بعد أن طرح ابن فارس نظام التقليبات لم تعد هناك حكمة في بدء الثاني مما يلي الأول لأن ما قبل الأول لم يسبق ذكره. أما الاعتماد من ناحية المادة فظاهرة متفشية في جميع المعاجم العربية. فكتاب الجمهرة يصفه "نفطويه" قائلًا: وهو كتاب العين إلا أنه قد غيَّره ويصرح ابن فارس بالأخذ عن كتب السابقين والاعتماد عليها وعلى خمسة منها بالذات ... فهذه الخمسة معتمدنا فيما استنبطاه من مقاييس اللغة". ويفصح ابن منظور في لسان العرب أنه نقل معجمه عن سابقيه نقلًا تامًّا. فبعد أن يذكر "التهذيب" للأزهري و"المحكم" لابن سيده ... يقول: "وليس لي في هذا الكتاب فضيلة أمت بها ... سوى أني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب ... " ومثل هذا ينطبق على تهذيب اللغة والعباب والصحاح والقاموس ... وغيرها 1.

_ 1 تفصيل ذلك في: المعاجم اللغوية للدكتور محمد أحمد أبو الفرج ص 27 وما بعدها.

7- ويرتبط بهذا المأخذ مأخذ آخر وهو وقوف المعاجم عند فترة زمنية لم تتجاوزها وهي القرن الثاني بالنسبة لعرب الحواضر والرابع بالنسبة لعرب البوادي، مما أصاب اللغة بالجمود وعاقها عن التطور. وخيرًا فعل واضعوا "المعجم الوسيط" حين لم يعترفوا بانقطاع سلامة اللغة العربيةعند عصر معين ولا مكان معين، وأثبتوا "في متن المعجم ما دعت الضرورة إلى إدخاله من الألفاظ المولدة أو المحدثة أو المعربة أو الدخيلة التي أقرها المجمع وارتضاها الأدباء فتحركت بها ألسنتهم وجرت بها أقلامهم"1. وقد استهدوا في ذلك بقرارات المجمع اللغوي التي من أهمها: أ- فتح باب الوضع للمحدثين بوسائله المعروفة من اشتقاق وتجوز وارتجال. ب- إطلاقه القياس ليشمل ما قيس من قبل وما لم يقس. جـ- تحرير السماع من قيود الزمان والمكان. د- الاعتداد بالألفاظ المولدة وتسويتها بالألفاظ المأثورة عن القدماء2. 8- خرجت معظم المعاجم العربية عن وظيفتها وبعدت عن حقل اختصاصها حين خلط أصحابها بين المعاجم والموسوعات ودوائر المعارف وحشوا معاجمهم بمواد غريبة عنها. وربما كان معجما "القاموس المحيط" للفيروزآبادي و"شمس العلوم" لنشوان بن سعيد3 من خير الأمثلة على ذلك.

_ 1 مقدمة المعجم الوسيط "ط ثانية" ص 13. 2 المرجع السابق ص 12. وانظر محمد أبو الفرج ص 38، 39. 3 إذا كان هناك من عذر لنشوان -كما يفهم من عنوان معجمه- فما عذر الفيروزآبادي؟

9- وإذا كان المعجم العربي قد مر بعصره الذهبي خلال القرون الأربعة الأولى من الهجرة فهو يمر الآن بحالة من الجمود جعلته يتخلف عن حركة التأليف المعجمي العالمية، ويعود ذلك إلى جملة أسباب منها: أ- أنه لا توجد هيئة دائمة أو مؤسسة متخصصة "حكومية أو غير حكومية" تتولى إصدار المعاجم العربية في أي بلد عربي، والأمر متروك للناشر يقيسه بمقاييس الربح والخسارة وتحقيق النفع المادي. والأمر يحتاج إلى مؤسسة على نمط "دار أكسفورد للنشر" التي أصدرت عشرات المعاجم الإنلجيزية، منها معجم أكسفورد الكبير الذي يعتبر المرجع الأعلى والأخير في اللغة الإنجليزية، واستغرق إخراجه سبعين عامًا. ومنذ صدوره عام 1928 وتعديلات المعجم مستمرة سواء بالحذف والتنقيح أو -وهو الأهم- بإضافة الألفاظ الجديدة التي استعملها الكتاب والشعراء المحدثون أو عثر عليها في الصحف والمجلات المعاصرة، ولذا فالمعجم في نمو مستمر، وهو يزود دائمًا بالملاحق والمستدركات. ومن أهم المعاجم الأخرى التي صدرت عن دار أكسفورد: المعجم اللاتيني الإنجليزي الذي يعد أعظم معجم من نوعه صدر حتى الآن، واستغرق إعداده وإخراجه نحوًا من نصف قرن، ويضم مفردات اللاتينية منذ ظهورها -رغم أن اللغة اللاتينية- كما نعلم جميعًا - لغة ميتة1. ب- أنه لا يوجد سجل شامل لمفردات أي عصر من عصور اللغة العربية حتى الآن. وما يتم إنجازه من دراسات معجمية لدواوين بعض الشعراء في أقسام اللغة العربية بجامعاتنا، لا يمثل إلا قطرة في بحر من ناحية، وهو جهد مبعثر لا يتم ضمن إطار عام أو خطة شاملة من ناحية ثانية. كما لا يمكن الوثوق به أو الاطمئنان إليه من حيث الدقة والصحة اللفظية من ناحية ثالثة.

_ 1 انظر: خلوصي ص 102 وما بعدها والسيد في مواقع متفرقة.

وقد كان -وما يزال- المعجم التاريخي حلمًا راود خيال الكثيرين. ولكن تكلفة المشروع، وضخامة الجهد البشري المطلوب لتنفيذه، وغياب الوعي بأهمية هذا المعجم. حال بينه وبين الظهور. فليت أي جهة مسئولة أو دار نشر غنية تتنبه إلى قيمة هذا العمل الضخم وتتبناه. ولعل جمعية المعجمية العربية بتونس التي أعلنت عن بدئها العمل في هذا المشروع تكون جادة في التنفيذ، ولكن من أين لها التمويل الضخم المطلوب والكفايات البشرية اللازمة؟. ولو تم هذا يكون لدينا أساس قوي لرصيدنا اللغوي يتم تزويده كل لحظة بما يجد من ألفاظ على ألسنة الشعراء وبأقلام الكتاب، وما يرد في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المختلفة من كلمات وتعبيرات وتراكيب. جـ- إننا ما زلنا نعش في عصر المعاجم الفردية، وهو عصر قد انتهى بالنسبة للمعاجم، وحل محله عصر "المعاجم الجماعية" بعد اتساع مجالات اللغة وتعدد استخداماتها العلمية والفنية. إن إخراج معجم في القديم كان يعتمد على لغة الشعر والأدب وهي لغة يمكن للمعجمي أن يدعي معرفته بها، ولكن إخراج معجم في الحديث يعتمد على لغة العلوم والآداب والمعارف المختلفة لا يمكن لباحث واحد أو مجموعة صغيرة من الباحثين الإلمام بها فضلًا عن الإفتاء فيها، ولم يعد المعجم الحديث في حاجة إلى لغويين فقط ولكن يجب أن ينضم إليهم متخصصون ومستشارون في شتى فروع المعرفة وأمامنا معجم "ويستر" الأمريكي كنموذج لهذا التحول الكبير. فقد ضم الفريق الذي قام بالإشراف على طبعته الثالثة: رئيس تحرير، وثلاثة عشر محررًا مشاركًا، وستة وستين محررًا مساعدًا وكلهم من أساتذة الجامعات، وحملة الدكتوراه في التخصصات المختلفة كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان والديانات والآداب والتاريخ والمكتبات والفلسفة

والنظريات السياسية ... إلخ. كما ضم مائتي مستشار خارجي وعددًا غير محدود من الخبراء يعملون في تخصصات مختلفة قد لا تخطر لنا على بال مثل معسكرات السمر، والتسويق، وصناعة الساعات ورصف الشوارع، وإنتاج الزجاج، والطيور المائية، والحشرات الديدان ... إلخ، مما جعل هذه اللجنة التي أخرجت المعجم أشبه بجامعة حديثة مصغرة. د- إن صناعة المعجم دخلت عالميًّا عصر الحاسبات الآلية، ونحن ما زلنا نستعمل الجمع والتصنيف اليدويين. لقد استخدمت الآلة في اختزان المادة اللغوية حين يكون حجمها كبيرًا، وما أظن أن لغة أخرى -على وجه الأرض- تنافس لغتنا العربية في ضخامة مادتها، وامتداد تاريخها لبضعة عشر قرنًا. وقد أمكن عن طريق الآلة حصر المادة بكل دقة، والتصرف في ترتيبها بطرق مختلفة، وضبط الإحالات، والقيام بالتصنيفات النحوية والصرفية المختلفة وغيرها. هـ- وإلى جانب هذه المشكلات فقد تطورت صناعة المعجم عالميًّا من حيث الترتيب واختيار المداخل، وكيفية عرض المادة، وصارت له تقنيات وأسس محددة من حيث الشكل والموضوع. ومع ذلك فما زال معجم حديث تشدهم تجربة العرب الموغلة في الممقدم، مما يبعدهم عن الاتجاهات الحديثة في صناعة المعاجم.

أهم المحاولات لوضع معجم حديث

4- أهم المحاولات لوضع معجم حديث: بذلت محاولات متعددة للتغلب على مشاكل المعجم العربي، كما قدم كثيرون صورة للمعجم الحديث في نظرهم. وهناك محاولات نظرية أو تطبيقية قدمها بعض الأفراد، كما أن هناك محاولات قامت بها بعض المجامع اللغوية. وسنبدأ بمحاولات الأفراد ثم نثني بمحاولات المجامع اللغوية. أولا: محاولات الأفراد أخذت هذه المحاولات أشكالًا متعددة ربما كان أهمها: 1- وضع منهجية جديدة للمعجم العربي. 2- تأليف المعاجم الميسرة. 3- إعادة ترتيب المعاجم القديمة ترتيبًا سهلًا. 4- معاجم المستشرقين. وسنتناول كل محاولة من هذه المحاولات بالعرض السريع: 1- أما وضع المنهجية الجديدة للمعجم العربي فقد قام بعبئه أحمد فارس الشدياق "1804 - 1887" الذي شغل نفسه بالعمل المعجمي منذ نعومة أظفاره. ومعظم آرائه عن المنهجية المعجمية تجدها في مقدمة كتابه "الجاسوس على القاموس" وفي ثنايا نقداته للقاموس المحيط. كما أنه أشار إلى بعضها في كتابه "سير الليال في القلب والإبدال". ومن هذا وذاك يمكن أن نستخلص الأسس الآتية: أ- ترتيب المادة اللغوية: يختار الشدياق ترتيب المادة اللغوية على الترتيب الهجائي العادي، ثم يوازن بين طريقتي الصحاح وأساس البلاغة ويختار الثانية "فالأولى عندي ترتيب الأساس للزمخشري والمصباح المنير للفيومي، أعني مراعاة

أوائل الألفاظ دون أواخرها". ويرد على من يفضل طريقة الصحاح قائلًا: "فإن قيل: إن الترتيب على الأوائل لا يعين الشاعر على جمع الألفاظ التي تأتي على روي واحد، فالأولى ترتيب الصحاح - قلت: الخطب هين. فعلى اللغويين أن يبينوا سر الوضع وعلى الشعراء أن يؤلفوا كتابًا في القوافي"1. ب- الترتيب الداخلي للمادة: أكثر ما ضايق الشدياق في المعاجم العربية غياب النسق في عرض مفردات اللغة تحت المادة الواحدة. فما دامت المعاجم العربية قد اختارت طريقة الجذور في ترتيب الكلمات، وكانت هذه الطريقة نقتضي سرق العديد من الفروع والاشتقاقات تحت المدخل الواحد فقد كان من المنطقي أن تتفطن هذه المعاجم إلى طريقة لترتيب هذه الفروع وهو ما لم تفعله. وقد سبق أن عرضنا أمثلة لغياب الترتيب الداخلي من مادتي "عرض" و"ظفر". واقترح الشدياق للخروج من هذه الفوضى منهجًا يقوم على أساسين هما: 1- مراعاة جانب اللفظ بتقديم الثلاثي على الرباعي والرباعي على الخماسي. وفي كل حالة يقدم المجرد على المزيد، ويبدأ بالفعل، تليه مشتقاته. 2- مراعاة جانب المعنى عن طريق البدء بالحسي قبل المعنوي، والحقيقي قبل المجازي، واستيفاء معاني الكلمة قبل الانتقال إلى كلمة أخرى2. جـ- صحة التعاريف: يشترط الشدياق لصحة التعاريف شروطًا ثلاثًا هي:

_ 1 الجاسوس على القاموس ص 26، 27. 2 الجاسوس ص 10، 11، 107، 108، وسير الليال س 11، 12، 61.

وضوحها وعدم إيقاعها في لبس. وقد عد من عدم الوضوح غموض عبارة الشرح، ولذات قسا على الفيروزآبادي في مقدمة جاسوسه لأنه يبدل عبارة المعاجم الواضحة إلى عبارة غامضة مبهمة. كما عد منه إيراد ألفاظ في التعاريف لا ترد في مظانها مع توقف المعنى عليها، كقول الجوهري في "ربح". "ربح في تجارته أي استشف" ولم يذكر استشف في بابها. وعد منه كذلك ذكر اللفظ دون تفسيره، كقول الفيروزآبادي في "صيف". "صيف الأرض كمعنى فهي مصيفة ومصيوفة".قال الشدياق: ولم يفسره. وعبارة الصحاح: "صيفت الأرض فهي مصيفة ومصيوفة إذا أصابها مطر الصيف1. 2- تعدد طرقها عن طريق ذكر المرادف والمضاد، ووضع الكلمة في سياقاتها المختلفة، ومن أمثلة ذلك ذكره كلمات الألوان التي تأتي وصفًا للفظ الموت مثل: الموت الأحمر: وهو أن يتغير بصر الرجل من الهول فيرى الدنيا في عينيه حمراء وسوداء. الموت الأغبر: وهو الموت جوعًا، لأنه يغبر في عينيه كل شيء. الموت الأسود: وهو الموت في غمة الماء. الموت الأبيض: وهو موت العافية أو موت الفجأة لأنه يأخذ الإنسان ببياض لونه2. 3- خلوها من الدور والتسلسل. وقد سبق أن ضربنا أمثلة على ذلك من ديوان الأدب والقاموس المحيط.

_ 1 الجاسوس ص 3، 14، 57، 59، وسير الليال ص 55، 260. 2 سير الليال ص 337.

د- الوقوف عند اختصاص المعجم: يرى الشدياق أن على المعجمي أن يقصر مادته على ألفاظ اللغة غير القياسية ولذلك اعتبر من قبيل التجاوز لوظيفة المعجم ما يأتي: 1- ذكر المعلومات الموسوعية كخواص الأشياء ومنافعها مما حرص عليه صاحب القاموس كل الحرص مع أن موضعها كتب الطب لا كتب اللغة. وكذلك المعلومات الجغرافية والأعلام.... 2- ذكر المشتقات القياسية كإيراد المبني للمجهول بعد المبني للمعلوم مع أنه من المعروف أنه حيثما وجد المعلوم المتعدي وجد المجهول. وكذلك ذكر مصدر غير الثلاثي، والنص على اسم المرة أو الهيئة أو الزمان أو المكان ... 3- ذكر ما هو من باب الفضول أو الاستطراد الذي لا فائدة فيه. وقد أخذ الشدياق معظم أمثلته من القاموس المحيط الذي بلغ الغاية في ذلك حتى تجاوز كل حد. ومن ذلك ذكره ما كان من قبيل الخرافات مثل خرافة الرخ والجزائر الخالدات وذكره أسماء أصحاب الكهف، وحديثه عن النسطورية والبطريق والإسكندر وغيرهم1. هـ- وضع اللفظ المشتبه أصله في مظانه المختلفة: هناك كلمات كثيرة في اللغة العربية يشتبه أصلها ومعرفة جذرها على اللغوي المتخصص فضلًا عن ابن اللغة العادي. وقد كان هذا النوع من الكلمات محل خلاف بين المعجميين، ولذا اختلفت مواضعه في المعاجم. وكان رأي الشدياق وضع أمثلة هذه الكلمات حسب احتمالاتها.

_ 1 الجاسوس 32، 80، 81، 241، 317، 396، 403 وسر الليال ص 46، 57، 607.

الممكنة في مظانها المختلفة مع الربط بين هذه المظان. ومن أمثلة ما رأى وضعه في أكثر من موضع الكلمات الآتية: * كلمة "أثفية" التي توضع في "أنف" و"ثفي". * كلمة "مكان" التي توضع في "مكن" و"كون". * كلمة "ترجمان" التي توضع في "ترجم" و"رجم". * كلمة "كبريت" التي توضع في "كبرت" و"كبر". * كلمة "عفريت" التي توضع في "عفرت" و"عفر"1. "وانظر كذلك كلمات: أول - است - آنق - ذرية - بذيء - دكان - بستان - ربان - اللات - هات - لدة - حاش "لله" وغيرها"2. ويحدد الشدياق أصولًا معينة يكثر الخلط فيها، وهي المشتملة على علة يصعب ردها إلى الواو أو الياء" "انظر أبي، وذري، وروح، ورنا، وشكا" أو المشتملة على همزة أو نون "فمزلقة الهمزة أن بعضهم يراها أصلية وبعضهم يراها منقلبة عن حرف علة. ومزلقة النون أطم وأعم فإنها تلتبس في أوائل اللألفاظ وأواسطها وأواخرها مثال الأول لفظ نرجس، ومثال الثاني العنصر ومثال الثالث الربان والدكان والبرهان ... وما لا يحصى من نظائرها"3. و وضع المعرب تحت لفظه: يرى الشدياق ضرورة وضع الكلمات المعربة تحت لفظها على اعتبار أن حروفها كلها أصلية. ولذا فهو ينتقد الفيروزآبادي في وضعه كلمة "استبرق" في "برق" و "أرجوان" في "رجو" ويذكر الشدياق

_ 1 الجاسوس ص 29، 32، 33. 2 الجاسوس ص 372 وما بعدها. 3 الجاسوس 33، 38، 286، 372.

أن حكم "سألتمونيها" لا يجري على الألفاظ الأعجمية؛ لأن حروفها كلها أصلية1. "ز" بيان درجة اللفظ في الاستعمال: يرى الشدياق أن من وظيفة المعجم النص على درجة اللفظ في الاستعمال فيقول: "من عادة المحققين من اللغويين أن ينبهوا على الفصيح من الكلام، وعلى غير الفصيح، وعلى الغريب، والحوشي، والمتروك، والمهمل، والمذموم واللثغة. نحو ذلك" لذا عاب على صاحب القاموس إيراده بالالفاظ إيرادًا مطلقًا من دون أن ينبه على درجتها2. 2- وأما محاولة تأليف المعاجم الميسرة فقد قام بعبئها أول الأمر اللبنانيين. وقد كان للنهضة المباركة التي هزت العالم العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأدت إلى انتشار المعاجم المطبوعة بين الناس3، وقيام بعض العلماء بنقدها4، أو الموازنة بينها، الدعوة إلى تأليف معجم حديث - كان لكل أولئك أثر حميد في إيقاظ حمية بعض العلماء فتصدى نفر منهم لتحمل عبء وضع معجم حديث سهل.

_ 1 الجاسوس ص 27 - 30. 2 الجاسوس 130 - 135. 3 انظر عدنان الخطيب ص 45، 46، 50، وقد ذكر في ص 45، 46 أن أول طبعة لصحاح الجوهري ظهرت عام 1865م، ولكتاب الرازي مختار الصحاح عام 1870م، ولكتاب الفيروزآبادي القاموس المحيط عام 1872، ولكتاب الفيومي المصباح عام 1876م ولكتاب ابن منظور لسان العرب، وكتاب الزمخشري أساس البلاغة عام 1882م، ولكتاب الزبيدي تاج العروس عام 1889 م، وبعد محاولة استمرت ما يقرب من عشرين سنة. 4 قبل مرور عشر سنوات على طبع القاموس المحيط مثلًا أخرج أحمد فارس الشدياق كتابه الجاسوس على القاموس وذلك عام 1881م.

ويلاحظ أن جميع الذين تصدوا لإخراج هذه المعاجم قد اختاروا الترتيب الهجائي العادي بحسب أوائل الكلمات، ولكن رأى بعضهم -وهم قلة- أن يبقوا على الكلمات بدون تجريد. ويلاحظ كذلك أن كل هؤلاء جميعًا قد اتجهوا نحو الاختصار والتركيز، وحاولوا ترتيب المادة ترتيبًا داخليًّا وتجنبوا عيوب المعاجم القديمة. ومنهم من زود معجمه. بصور ورسوم وزيادة في الإيضاح. ومن أشهر هذه المعاجم: أ- "محيط المحيط" للعالم اللغوي بطرس البستاني، وهو يعتمد أساسًا على القاموس المحيط، ولكن مع حذف وإضافة، ومع تغيير نظامه إلى الترتيب الهجائي العادي. وقد ظهر في جزءين كبيرين وطبع عام 1869 م. ب- "قطر المحيط" للمؤلف السابق. وقد ذكر أن هدفه من تأليفه "أن نضع فيها هذا المؤلف على وجه هين المراس سهل المأخذ ليكون للطلبة مصباحًا يكشف لهم عما أشكل عليهم من مفردات اللغة ... وقد سميناه بقطر المحيط، لأن نسبته إلى كتابنا المطول في هذه الصناعة المسمى بمحيط المحيط توشك أن تكون كنسبة قطر الدائرة إلى محيطها ... ". جـ- "أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد" لسعيد الخوري الشرتوني وقد أخرجه أول الأمر في جزءين عام 1890 م، ثم أضاف إليه فيما بعد جزءًا ثالثًا بمثابة الذيل. وبرغم الجهود التي بذلها الشرتوني ليكون معجمه سليمًا من الأخطاء من العيوب لم يتحقق الكمال له. وقد أحصى الشيخ أحمد رضا هناته التي عثر عليها ونشرها في ثلثمائة صفحة في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق. د- وفي عام 1809 أخرج الأب لويس معلوف اليسوعي "توفي 1946 م" كتابه "المنجد" بقصد خدمة الناشئين. ولقد جاءت مادة الكتاب قريبة المأخذ، سهلة التناول، مع إيجاز غير مخل. وأعيد طبع المعجم عدة مرات مع زيادات واستدراكات في كل مرة.

ومع ذلك لم يسلم المعجم من المأخذ فتصدى بعض الغيورين على العربية إلى بيان أوهامه وأخطائه اللغوية والتاريخية. ومما نشر في ذلك مقالات لمنير العماري في مجلة المعرفة الدمشقية، وبحث بعنوان نظر في المجد للأمير مصطفى الشهابي. وفي طبعة عام 1956 ألحق به الأب فردينان توتل اليسوعي قسمًا بعنوان "المنجد في الأدب والعلوم" عني فيه بالترجمة لأعلام الشرق والغرب وزينه بكثير من الصور والرسوم والخرائط1. هـ- "البستان"، "وفاكهة البستان وكلاهما لعبد الله البستاني، وثانيهما اختصار لأولهما. وقد ظهر الأول في مجلدين وطبع في بيروت عام 1930 م. و وفي سنة 1958 طبع "متن اللغة" للشيخ أحمد رضا في خمسة أجزاء كبيرة ومقدمة طويلة بحث فيها من مولد اللغة وتطور اللغات إجمالًا، وعن نشأة اللغة العربية وتطورها واختلاف لهجاتها، وعن أوهام الأعلام وأغلاط أئمة اللغة. وألحق بمقدمة معجمه جداول متعددة للموازين والمقاييس والمكاييل وللكلمات المعربة حديثًا2. ز- الرائد لجبران مسعود، وقد صدرت أول طبعة منه عام 1965 م. وأهم ما يتميز به ترتيب الكلمات تحت حروفها المنطوقة بدون تفريق بين أصلي وزائد. وقد وضعه المؤلف وفي ذهنه خدمة الطلاب، فهو أشبه بمعجم مدرسي منه بمرجع لغوي يمكن الاعتماد عليه والإشارة إليه في المصادر. ح- "المساعد" للأب انستاس ماري الكرملي، وقد ظهر الجزء

_ 1 عدنان الخطيب، ص52، وعبد السميع محمد: المعاجم العربية ص 179 - 185 بالإضافة إلى معجم المنجد نفسه. 2 عدنان الخطيب، ص 52، 54.

الأول منه بعد وفاة مؤلفه بربع قرن بتحقيق كوركيس عواد وعبد الحميد العلوجي "1972". ويعد الكرملي أحد اللغويين المعاصرين القلائل الذين نافحوا عن اللغة العربية وبذلوا قصارى جهدهم في إظهار فضلها، وله في ذلك ما يزيد على ألف مقالة. وقد بدأ عمله في معجمه عام 1883 وظل يواصل العمل فيه حتى عام 1946. وقد سماه أولًا "ذيل لسان العرب" ثم عدل عن هذه التسمية وسماه "المساعد". ومما ذكره الكرملي في مقدمة المعجم نعلم أن الذي دفعه إلى تأليفه ما لاحظه من خلو معاجم الأقدمين والمولدين العصريين من كثير من الألفاظ الواردة في دواوين الشعراء وكتب الأدب "فأخذنا منذ ذلك الحين بسد تلك الثغرة مدونين ما لا نجده في كتب لساننا". وقد بنى معجمه على جملة أسس منها: 1- ذكر مصدر الكلمة إن كانت دخيلة، وأصلها الثنائي إن كانت عربية. 2- إذا أثبت لفظة لم ترد في المعاجم أرفقها بمحل ورودها. 3- التنبيه إلى الأغلاط التى انسلت إلى لغتنا. وقد توفي المؤلف بعد أن ترك المعجم مسودة مخطوطة بخطه في خمسة مجلدات ضخام. ومن الجديد في هذا المعجم. 1- تفسيره "الآبدة" في اصطلاح عهد العباسيين بالداهية التي تفسد الدين أو المعتقد. واستشهاده على هذا بما جاء في "نهاية الأرب" للنويري و"صبح الأعشى" القلقشندي. 2- تصحيح استعمال "أبدًا" مع الفعل الماضي بدلًا من "قط" استشهادًا بقول أبي الهندي:

أَبا الوَليد أمَا وَاللَهِ لَو عَمِلَت ... فيكَ الشَمولُ لما حَرَّمتَها أَبَدا وليس أدل على ضخامة هذا المعجم من أن الجزء الأول منه قد انتهى بجزء من حرف الهمزة فقط. 3- وأما إعادة ترتيب المعاجم القديمة أو اختصارها فيدخل تحتها: أ- "ترتيب القاموس المحيط" للشيخ الطاهر أحمد الزاوي، وقد رتبه على ترتيب "المصباح المنير" و"أساس البلاغة"، وأخرجه في أجزاء. وقد التزم فيه ترتيبالكلمات تحت أوائلها بدون تجريدها من الزوائد. يقول المؤلف في مقدمته: "وقد ظهر لي أن القاموس يكون أكثر فائدة لطلاب العلم، ويكون إقبالهم عليه أشد إذا أزيلت عنه هذه الصعوبة، وقدم إليهم في ثوب جديد بحيث يرتب على حروف أوائل الكلمات ... واعتبار حروف الكلمة المنطوق بها، لا فرق بين زائد وأصلي. وبذلك يسهل عليهم الوصول إلى ما قصدوا"1. ب- "مختار القاموس" للشيخ الزاوي كذلك. وقد رتبه على طريقة "مختار الصحاح" و"المصباح المنير"، وقال عن هدفه فيه: "وقد جعلت نصب عيني أن أختصر من أجزاء القاموس الأربعة جزءًا واحدًا يسهل على الطالب استصحابه إلى المدرسة أو الجامعة أو حيث يريد". وقال عن منهجه: "وقد الجأتني ضرورة الاختصار إلى الاستغناء عن ذكر كثير من المواد التي لم يألفها المجتمع العام ولا تدعو الحاجة إلى استعمالها. كما حذفت أسماء الأشخاص والبلدان والأماكن والحيوانات وصفاتها.... وحذفت أسماء النباتات - إلا في القليل النادر - وخصائصها...."2.

_ 1 مقدمة ترتيب القاموس صفحة "د". وقد سبق الحديث عن إعادة ترتيب لسان العرب. 2- مقدمة مختار والقاموس، ص 6.

جـ- "المختار من صحاح اللغة" تأليف الأستاذين محمد محيى الدين عبد الحميد، ومحمد عبد اللطيف السبكي. وندع المؤلفين يشرحان مهمتهما، وما يتميز به معجمهما: 1- "يشتمل كتابنا هذا إذن على جميع المواد التي يشتمل عليها كتاب "مختار الصحاح" الذي ألفه الإمام الرازي ولم نحذف منه شيئًا كما فعل الذين قاموا على ترتيبه من رجال وزارة المعارف المصرية". 2- "ضبطنا مفرداته ضبطًا لا يبقى معه تردد لقارئ ولا مجال لبس على مبتدئ". 3- "يشتمل على زيادة كثيرة هامة تبلغ مقدار نصف المختار". 4- "رأينا أن نرتبه ترتيب الزمخشري في "الأساس" والفيومي في "المصباح"، لأنه أقرب إلى الناشئة وأسهل عليهم"1. د- "الإفصاح في فقه اللغة" للأستاذين حسن يوسف موسى وعبد الفتاح الصعيدي. وهو المعجم الوحيد من بين المعاجم الحديثة الذي اتبع نظام الموضوعات في ترتيبه. ولا غرابة في هذا فهو مبني على كتاب "المخصص" لابن سيده، ويعد في جملته اختصارًا له. وقد ذكر الأستاذ العقاد في تقديم هذا الكتاب أن "الإفصاح سيرحب به المحافظون؛ لأنه تراث قديم يضن عليه بأن يهجر في زوايا النسيان، وسيرحب به المجددون؛ لأنه يختصر لهم طريق التنقيب عن المفردات، وسيرحب به كل مشتغل بالترجمة في علم أو أدب أو صناعة". أما المؤلفان فقد ذكرا السبب في تأليف هذا المعجم، كما بينا جهدهما في تأليفه، ويتلخص هذا وذاك فيما يأتي:

_ 1 مقدمة الطبعة الثانية صفحات و، ز، ح.

1- من عيوب المخصص طوله واتساعه وكثرة شواهده المنظومة والمنثورة واستطراداته النحوية والصرفية، مما جعله وقفًا على الخواص، ولذلك قاما باختصاره. 2- المعجم مبوب بحسب ما في الكون كله من آثار في الأرض، وآيات في السماء وبكل ما تحمل الدنيا ويدب فيها من إنسان أو حيوان أو طير أو نبات، وما تحفل به بطنها من معدن، أو ينتأ فوقها من صخر وكل ما يعمله الناس من صناعة أو زراعة أو تجارة أو فنون1. 3- قرأ المؤلفان "القاموس المحيط" و"فقه اللغة" للثعالبي و"اللسان" والأساس وغيرها واستخلصا منها ما ند عن المخصص مما تمس الحاجة إليه. 4- التحلية بالصور للحيوان والنبات والشجر والطيور والسمك والحشرات والأدوات. 5- ألحق المؤلفان بالكتاب معجمًا للألفاظ مرتبًا ترتيبًا هجائيًّا على الحروف ليسهل الرجوع إلى مادته2. ونلاحظ على عمل المؤلفين ما يأتي: 1- أنهما لم يفصلا بين ما هو من كلام ابن سيده وما هو من إضافاتهما، ولم يذكرا المرجع مع كل إضافة. ولو فعلا لأمكن توثيق المادة المضافة، ولتبين مقدار ما أخذاه من كتب اللغة الأخرى. 2- برغم أن الكتاب يقع في جزءين ضخمين مجموع صفحاتهما

_ 1 وقد قسم المؤلفان مادته إلى ثلاثة وعشرين بابًا بدأت بباب خلق الإنسان وانتهت بباب في الخلق والعالم وأصناف الأشياء وأحوالها. 2- وانظر مقدمة العقاد، ومقدمة الطبعة الأولى والطبعة الثانية للمؤلفين.

1396 صفحة فلم أجد في الجزء الأول كله ويقع في 664 صفحة إلا بضعًا وعشرين صورة. ومعنى هذا أن ما ذكره المؤلفان عن التحلية بالصور مبالغ فيه جدًّا بل يكاد يكون عديم القيمة. 4- أما معاجم المستشرقين فمن أشهرها: أ- محاولة فيشر المعجمية: وقد كان فيشر أحد كبار المستشرقين الألمان، وحجة في اللغات الشرقية من عربية وعبرية وسريانية وحبشية وفارسية وغيرها. وقد شغل كرسي الدراسات العربية بليزج منذ عام 1899. 1. وقد عني فيشر بالمعجم العربي منذ أخريات القرن الماضي وعاش معه نحو خمسين سنة. ويظهر أن محاولته عمل معجم تاريخي للغة العربية قد تأثر فيها بمعجم أكسفورد التاريخي الذي نشر قبل مولده بقليل. ولقد قضى نحو أربعين سنة في جمع مادته وتنسيقها، وحين عرضها على مجمع اللغة العربية في مصر رحب بالفكرة، وقد قررت الحكومة المصرية عام 1936 السماح بإتمام عمله المعجمي في القاهرة، ووعدته بأن تتحمل نفقات طبعه، وأمدته بمساعدين شبان لمعاونته في القراءة والنسخ. ولكن الحرب العالمية الثانية قد اندلعت واضطر فيشر إلى العودة إلى وطنه. وتوزعت مواد معجمه بين مصر وألمانيا. وكان الأمل أن يعود فيشر بعد الحرب إلى مصر ليتم ما بدأ إلا أن المرض أقعده ثم عاجلته المنية، وتوفي عام 1949. 2. وقد حدثنا فيشر أنه عرض فكرة تأليف هذا المعجم أولًا في مؤتمر المستشرقين الألمان في باسل Easel عام 1907، ثم في مؤتمرين آخرين

_ 1 المجمعيون، ص 145. 2 مقدمة مدكور لمعجم فيشر صفحة "هـ"، ومقدمة فيشر ص 21، والمجمعيون، ص 145.

عالميين أحدهما عقد في كوبنهاجن سنة 1908 والآخر في أثينا عام 1912. كما حدثنا عن الصعوبات المادية الكثيرة التي كانت تواجهه فتوقفه عن العمل أو تصيبه بالفتور، وعن عدم وجود ناشر ينفق على طبعه1. وحاول المجمع أن يلم ما تفرق من جذاذات فيشر فلم يستطع الحصول على ما نقل منها إلى ألمانيا، ولاحظ أن ما بقي منها غير مكتمل، ولم يجد ما يصلح النشر منها سوى مقدمة أعدها المؤلف، ونموذج من حرف الهمزة فطبعهما المجمع. وقد شرح فيشر في مقدمته النقص الظاهر في المعجمات العربية السابقة الذي يرجى لأجله تأليف معجم جديد كبير، ورآه يتركز في أن "المعجمات التي صنفها العرب لم تجمع كل كلمات اللغة العربية بل جمعت الفصيح منها فقط" ثم ذكر أن "منتهى الكمال لمعجم عصري أن يكون معجمًا تاريخيًّا، ويجب أن يحتوي المعجم التاريخي على كل كلمة تدوولت في اللغة. فإن جميع الكلمات المتداولة في لغة ما لها حقوق متساوية فيها ... ولكن المعجمات العربية بعيدة كل البعد عن وجهة النظر هذه، إذ إنها لا تعالج الناحية التاريخية لمفردات اللغة". واعتبر ذلك من عيوب المعاجم القديمة إغفالها كثيرًا من الآداب النثرية مثل "قصص البطولة لأيام العرب وكتاب السيرة لابن هشام، وكتاب المغازي للواقدي، وكتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري وغيرها من كتب الأدب القديمة. وقد حوى هذا الأدب المنثور كلمات وتراكيب كثيرة لا أثر لها في القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو الشعر القديم، وهو من بعض النواحي يقدم لنا صورة من اللغة العربية القديمة أحسن مما يقدمه الشعر". أما المنهج الذي رسمه فيشر لمعجمه فيتلخص فيما يأتي: 1- الرجوع إلى الواقع اللغوي المسجل، والمحدد بعصور معينة

_ 1 مقدمة فيشر، ص 29 - 31.

مع البدء بالكتابة المنقوشة المعروفة بنقوش النمارة من القرن الرابع الميلادي والانتهاء بنهاية القرن الثالث الهجري، وهو القرن الذي اعتبره المجمع اللغوي منتهى ما وصلت إليه اللغة العربية الفصحى من كمال. 2- اشتمال المعجم على كل كلمة -بلا استثناء- وجدت في اللغة. 3- ضرورة معالجة الكلمات من النواحي السبع التالية: التاريخية، والاشتقاقية1، والتصريفية2، والتعبيرية3، والنحوية، والبينية، والأسلوبية4. وأهمية التداول التاريخي تبدو من أن اللغة دائمة التطور، ولكل كلمة تطورها التاريخي الخاص. ولهذا يجب أن يوضح هذا التطور التاريخي بمقتضى ما لدينا من وسائل وإن كانت وسائل قاصرة. والأهمية العظمى يجب أن تعطى للموضوع الذي وردت فيه الكلمة لأول مرة في آداب اللغة. وكما يجب أن يعني ببدء تطور الكلمة يجب أن يعنى بآخر تطورها، وهل لاقت موتًا في الزمن القديم أو الحديث، أو اندثر معنى من معانيها.... 4- مراعاة ترتيب المعاني المتعددة للكلمة بتقديم المعنى العام على الخاص والحسي على العقلي والحقيقي على المجازي ونحو ذلك. 5- تحديد المحيط اللغوي الذي تستعمل فيه الكلمة أو التعبير أو

_ 1 وتتناول توليد الكلمات وبحث أصول الكلمات وأنسابها. 2 وتتناول تصريف الأفعال والأسماء. 3 وتتناول تحقيق معنى الكلمة أو معانيها مع ترتيب المعاني والتفريق بين الحقيقي والمجازي منها. 4- وتحدد المحيط اللغوي الذي تستعمل فيه الكلمة أو التعبير أو التركيب.

التركيب، كلغة القرآن ولغة الحديث وأسلوب الشعر والنثر، والأسلوب التاريخي وأسلوب الفنون وغيرها. 6- محاولة إتباع الشرح باللغة العربية بالترجمة المختصرة الإنجليزية أو الفرنسية زيادة في الإيضاح، وحتى تعين المستشرقين الذين لم يتمكنوا من اللغة العربية غاية التمكن. ولكن إذا رجعنا إلى النموذج الذي طبعه مجمع اللغة العربية نلاحظ أن المؤلف لم يلتزم أن يطبق في هذا النموذج المنهج التاريخي الذي ادعاه ولا التسلسل الزمني لتطور كلمة، سواء من ناحية النطق أو الدلالة، وإنما كل ما يزيده على المعاجم الأخرى "القديمة منها لا الحديثة" ترتيب مادة الكلمة ترتيبًا داخليًّا، وذكر المصادر التي تعرضت لعلاج هذه الكلمة. نعم ذكر فيشر عند علاجه لكلمة الأوابد أنها وردت بمعنى المضحكات في كشاف الزمخشري من علماء القرن السادس الهجري1. ولكن هل الزمخشري حقًّا أول من استعملها؟ وإذا كان كذلك، أفلا يتناقض هذا مع ما سبق ذكره من الوقوف عند القرن الثالث؟ كذلك يرد في أول المادة مقارنة الكلمة بنظائرها الساميات كالأثيوبية والأكدية والعبرية والآرامية، وهو جهد قيم يسجل للمؤلف بالتقدير. ب- معجم لين: أما اسم المؤلف فهو إدوارد وليم لين، وقد ولد عام 1801 وتوفي عام 1876 م. وأما الاسم الذي اختاره لمعجمه فهو "مد القاموس" وهو معجم عربي إنجليزي ضخم في ثمانية أجزاء، نشر خمسة منها في حياة المؤلف وثلاثة بعد مماته. وهو ليس كسائر المعاجم المزدوجة اللغة تعطى الكلمة ومعناها، وإنما هو أشبه بمعجم عربي مرفقة به ترجمة لمادته باللغة الإنجليزية. ويقول الأستاذ نجيب العقيقي عن هذا المعجم: "ومد القاموس

_ 1 وانظر: درويش: المعاجم العربية، ص 146.

جمع لأول مرة في تاريخ اللغة العربية المفردات من أمهات كتب الأدب، مما لم يرد في المعاجم القديمة أو معجمي جوليوس وفرايتاج، ومنتخبات من القرآن الكريم، بحيث أصبح قاعدة بنيت عليها معظم المعاجم العربية الأحدث عهدًا باللغات الأوروبية، وما زال من أجود المعاجم المتداولة"1. ويقول الأستاذ آربري: "الرئيس السابق لقسم الدراسات الشرقية بجامعةكمبردج":"إن هذا المعجم يعد أكثر خدمة قدمها أوروبي للغة العربية"2. ووصف فيشر المؤلف بقوله: "لين أعلم المستشرقين بالمعجمات العربية"3. أما عن مصادر لين فكانت المعجمات العربية التي ألفها العرب سواء المطبوعة منها والمخطوطة مما اتفق له الحصول عليها، واعتمد أكثر ما اعتمد منها على تاج العروس للزبيدي4. وأهم نقص في هذا المعجم أن مؤلفه مات قبل أن يتمه، إذ لم يصل فيه إلا إلى حرف القاف. وقد طرح في اجتماع دولي للمستشرقين أمر إكماله واعتبر ذلك أمرًا ذا أهمية خاصة، حتى إن كريمر "توفي عام 1961" بدأ معجمه العربي - الألماني - الإنجليزي من حرف القاف من أجل ذلك، وظهر في أربعة أجزاء5. ولكن يكفي لتصوير جهد المؤلف في هذا أن نعلم أنه قصد مصر خصيصي من أجله، وكان يعمل فيه بين اثنتى عشرة أربعة ساعة وأربع عشرة ساعة يوميًّا، وأفرغ الخمس والعشرين سنة الأخيرة من حياته في

_ 1 2/ 481. 2 الأعلام مادة إدوارد وليم لين. 3 المعجم التاريخي ص 18. 4 المرجع ص 19 ودائرة المعارف البريطانية مادة "Lane". 5 دائرة المعارف البريطانية، مادة "Lane". والمشترقون للعقيقي 2/ 787.

إنجازه. وقد كان لين إلى جانب ذلك ممن يتقنون اللغة العربية كتابة وخطابة، وقصد مصر أكثر من مرة، وأعلن إسلامه، وتسمى باسم منصور أفندي، وتردد على الأزهر وسائر المساجد للصلاة وطلب العلم1. جـ- معجم دوزي أو تكملة المعاجم العربية: وهذا المعجم في الحقيقة يعد ذيلًا على المعاجم العربية، ذكر فيه ما لم يجد له ذكرًا فيها. وقد طبع المعجم في مجلدين ضخمين بالعربية والفرنسية "ليدن 1877- 1881" م وليدن - باريس 1927، ثم أعادت مكتبة لبنان طبعه مصورًا بالأوفست في بيروت "1968". وأخيرًا قام بترجمة قسم كبير منه الدكتور النعيمي. ودوزي هو اسم الأسرة أما الاسم الشخصي فهو رينهارت، وقد تعلم مبادئ العربية في منزله، فقد كان من أسرة تحب الاستشراق ثم واصل دراستها بعد بجامعة ليدن، وتعمق في فهمها، ودرس الشعر الجاهلي. وبرغم أن دوزي عاش في هولندا فأصله فرنسي هاجر أسلافه من فرنسا إلى هولندا في منتصف القرن السابع عشر. وقد كان مولده عام 1820 م ووفاته عام 1883م. وقد تولى إدارة مخطوطات مكتبة ليدن الشرقية ووضع فهرسين لها، كما عين أستاذًا للعربية بجامعة ليدن "1850 - 1878" وكان عضوًا في عديد من المجامع العلمية2.

_ 1 العقيقي 2/ 480. 2 المرجع السابق 2/ 685- 660، الأعلام، مادة رينهارت دوزي، وفيشر ص6. وانظر ترجمة وافية له في مقدمة الترجمة للدكتور محمد سليم النعيمي.

ثانيًا: محاولات المجامع اللغوية انتوت كثير من المجامع اللغوية إخراج أنواع مختلفة من المعاجم تخدم أغراضًا خاصة، وقد تحقق بعضها وظهر فعلًا، ولكن بعضًا آخر منها ما يزال فكرة أو مشروعًا لم يخرج إلى حيز الوجود. وأهم هذه المجامع: مجمع اللغة العربية في مصر، والمكتب الدائم لتنسيق التعريب التابع لجامعة الدول العربية، والذي يتخذ المغرب مقرًّا له، والمجمع العلمي العربي بدمشق1، وأخيرًا مجمع اللغة العربية بالأردن. أما مجمع اللغة العربية بالقاهرة فقد نص في مرسومه على أن من أهم أغراضه "أن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية" وقد أخذ نفسه بذلك منذ البداية وكون في دروته الأولى "لجنة المعجم" من كبار اللغوين العرب والمستعربين. كذلك جاء في قانون إنشاء مجمع العربية "افتتح عام 1934" أن من أهدافه وضع معجمات ثلاثة. 1- معجم وجيز يقتصر على الألفاظ الكثيرة الدوران بمقدار ما يناسب الدراسات الأولى. 2- معجم وسيط يتوسع فيه، مع الاقتصار على الألفاظ المستعملة في فصيح الكلام تأليفًا وإنشاء بمقدار ما يناسب الدراسات الوسطى. 3- معجم بسيط يكون ديوانًا عامًّا للغة، جامعًا شواردها وغريبها، مبينًا أطوار كلماتها وما طرأ على بعضها من توسع في الاستعمال، أو تغير في المعنى في عصور اللغة المختلفة. كذلك جاء في هذا القانون أن من أهدافه وضع معجمات صغيرة لمصطلحات العلوم والفنون وغيرها.

_ 1 تغير اسمه الآن إلى مجمع اللغة العربية بدمشق.

ولم ينفذ المجمع بعد كل مشروعاته وإنما نفذ منها ما يأتي: 1- المعجم الوسيط: وقد طبع ثلاث طبعات حتى الآن ظهرت أولاها عام 1961 في جزءين كبيرين يحتويان على نحو 1100 صفحة من ثلاثة أعمدة ومن القطع الكبير، ويشتمل على نحو 30 ألف مادة، ومليون كلمة وستمائة صورة. وظهرت طبعته الأخيرة عام 1985. وقد كان الغرض من تأليفه تدارك أخطاء السابقين في تأليفهم، وقصورهم في الشرح والترتيب. فقد كان مما يعيب المعاجم القديمة -على غزارة مادتها وتنوع أساليبها- أنها لم تعد تواجه العصر ولا مقتضياته، لأن في شروحها غموضًا، وفي بعض تعاريفها خطأ، وفي تبويبها لبسًا. وقد وقف أصحاب المعاجم إلى جانب ذلك عند حدود زمنية ضيقة ففقدت معاجمهم كثيرًا من معالم الحياة والتطور. كذلك من شروط المعجم الحديث أن يكون سهل المأخذ واضحًا دقيقًا مصورًا ما أمكن، محكم التبويب، وهذا ما حاول المجمع تطبيقه بالفعل. كما يمتاز باشتماله على مصطلحات العلوم والفنون، وضمه كثيرًا من ألفاظ الحياة العامة، واحتوائه على عديد من الألفاظ المولدة والمعربة حديثًا. كما راعى المعجم قرارات المجمع المختلفة في دوراته مثل قياسية صوغ المصدر الصناعي، وقياسية تعدية الفعل الثلاثي بالهمزة، وقياسية صوغ مطاوع فعل على تفعل وهكذا1. وفي سبيل الترتيب الداخلي روعي في ترتيب الكلمات تقديم الأفعال على الأسماء. والمجرد على المزيد، والمعنى الحسي على العقلي، والحقيقي على المجازي، والفعل اللازم على المتعدي ... وهكذا.

_ 1 من الكلمات التي أقرها المجمع اللغوي ووردت في الوسيط: كلمة قيم ومصدرها التقييم، وكلمة فنان للشاعر والأديب والرسام. وكلمة قاموس بمعنى معجم. وهناك كلمات كثيرة ورد بعدها الرمز "مج" وهو يعني أنها كلمات مجميعة أقرها مجمع اللغة العربية.

وقد اكتشف المجمع بعض هنات في معجمه تداركها في طبعتيه الثانية والثالثة. 2- المعجم الكبير: ظهر منه جزءان فقط، يشمل الأول منهما قسمًا من حرف الهمزة. وقد ظهر لأول مرة عام 1956. وهو يسير على الترتيب الهجائي العادي بعد تجريد الكلمة من الزوائد. ويدل على الحجم الذي ينتظر أن يظهر فيه المعجم ذلك الجزء الذي يقع في نحو 428 صفحة "عدا الفهارس التي تقع في 90 صفحة والمقدمة التي تقع في 8 صفحات"، ولم يصل إلا إلى مادة "أخى" من حرف الهمزة. وقد التزم المعجم ما يأتي: 1- تصدير كل مادة بمعانيها الرئيسية إجمالًا ثم يتناول كلًّا منها تفصيلًا. 2- ذكر أصل المادة أو أصولها في الساميات إن وجد ذلك. 3 رد الكلمات المأخوذة من لغات أجنبية إلى أصولها. 4- ترتيب المادة بحسب المعاني الكبرى، مع التدرج من المدلولات المادية إلى المعنوية. 5- الاستشهاد بالشعر والنثر مع اختلاف العصور، ومع الترتيب الزمني بقدر الإمكان. 6- ذكر ما لا بد من ذكره من الأعلام والتعريف بها في إيجاز، وكذلك أسماء الأمكنة. 7- الإشارة إلى المرجع حين يكون ذلك مفيدًا. 8- العناية بالضبط بالشكل1.

_ 1 راجع: مجمع اللغة العربية في خمسين عامًا ص 156، وعبد السميع، ص 187 وما بعدها، ودرويش ص 147 وما بعدها، والجزء الأول من المعجم.

وقد أعيد طبع الجزء الأول مؤخرًا ونشرته دار المعارف بالقاهرة مع بعض تعديلات، ومحاولة لتدارك أخطاء الطبعة الأولى. 3- معجم ألفاظ القرآن الكريم: وقد بدأ المجمع في إخراجه تباعًا منذ عام 1953 حيث أصدر الجزء الأول منه ثم في سنة 1959 ظهر الجزء الثاني، وفي سنة 1961 ظهر الجزء الثالث ووصل إلى آخر حرف السين وقد انتهى طبع المعجم عام 1970، وأعادت دار الشروق طبعه في مجلد واحد. ويعد المجمع الآن لطبعة جديدة، وألف لجنة لتعيد النظر في تنسيق المعجم واستدراك ما فات في الطبعات الأولى. وهو مرتب على الترتيب الهجائي العادي ويشرح ألفاظ القرآن شرحًا لغويًّا مع بيان المزيد والمجرد والمصدر والمشتقات، وإذا كان للفظ معان مختلفة قدمت الحسية على المعنوية، ورتبت الأخيرة بحسب أهميتها وكثرة ورودها في القرآن 1. 4- مصطلحات العلوم والفنون: يقف المجمع نحو 70% من نشاطه في جمع المصطلحات ومناقشتها وإقرارها. وقد أخرج قديمًا كراسات في مصطلحات بعض العلوم ومنذ سنة 1942 وهو يوالي إخراج مجموعات كبيرة كل عام تضم مصطلحاته التي يقرها المؤتمر السنوي وهي في حدود الألفين تقريبًا2، وقد ظهرت مجموعات كبيرة من هذه المصطلحات تضم كل مجموعة مصطلحات علم أو فن معين، كما يحرص المجمع على نشرها في مجلته الدورية. 5- المعجم الوجيز: وقد صدرت طبعته الأولى عام 1980، وهو معجم مدرسي كتب بروح العصر ولغته ويتلاءم مع مراحل التعليم العام. وأضيف فيه إلى المادة اللغوية التقليدية ما دعت إليه الضرورة من

_ 1 مجمع اللغة العربية في خمسين عامًا ص 148 وما بعدها مع المعجم نفسه. 2 المرجع، ص 122 وما بعدها.

الألفاظ المولدة أو المستحدثة أو المعربة أو الدخيلة، كما أورد طائفة من المصطلحات الشائعة التي يستعملها التلاميذ. وقد رتب المعجم على حسب أصول الكلمات. ورتبت الأصول على حسب أوائلها. واختارت لجنة الوجيز من مادة الوسيط ما رأت فيه الوفاء بحاجة الطالب. وجاء مجموع ما حواه زهاء خمسة آلاف مادة، صور منها ما يحتاج توضيحه إلى تصوير من نحو نبات أو حيوان أو آلة، فاشتمل على أكثر من 600 صورة. وراعت اللجنة جملة من القواعد تحقق الاختصار والترتيب الداخلي للمواد، وظهر في 687 صفحة تحوي كل صفحة ثلاثة أعمدة1. وأما المكتب الدائم لتنسيق التعريب2 فلم يوجه اهتمامه للمعاجم الشاملة، وإنما لمعاجم المصطلحات، وقام بمهمة التنسيق بين جهود العلماء في التعريب. وقد تأسس المكتب عام 1969 وألحق بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1972. ومنذ ذلك الحين وهو يصدر دورية منظمة باسم "اللسان العربي" يخصص من بين أجزائها جزءًا لمشاريع المعاجم المنسقة إلى جانب ما يطبعه طبعات مستقلة. وقد نشر المكتب من هذا القبيل عشرات من المعاجم المتخصصة معظمها ثلاثي اللغة "عربي - انجليزي - فرنسي" تسهيلًا لعمل الباحثين وتيسيرًا لنشر المصطلحات التقنية والعلمية في الوطن العربي.

_ 1 انظر تصدير الدكتور مدكور ومقدمته الأستاذ مصطفى حجازي للمعجم. 2 انظر مجلة اللسان العربي "العدد 17، الجزء الأول" الصفحات 324 وما بعدها ففيها تعريف واف بمكتب تنسيق التعريب.

ولدى المكتب مشروعات كثيرة منها: 1- إعداد معجم للألفاظ المنحدرة من أصل فصيح إلى اللهجات العامية في البلاد العربية. 2- إعداد معجم أحادي للغة للتعابير السياقية والاصطلاحية. 3- إنشاء بنك مركزي عربي للمصطلحات العلمية والتقنية. 4- إعداد معجم الألفاظ الفصيحة التي دخلت عربية العصر الحديث وهي عامية الأصل. 5- إعداد معجم للمعاني يجمع الحصيلة اللغوية في كل علم وفن، مما يمده به الكتاب والهيئات بقصد نشرها في كتاب مستقل على الترتيب الموضوعي، وقد أوصى مؤتمر التعريب المنعقد بالرباط من 3- 7 إبريل سنة 1961 بوضع هذا المعجم ليكون عونًا لأبناء العربية على العثور على الألفاظ الدقيقة لما يجول في أذهانهم من المعاني والصور. وقد عرضت على مؤتمر التعريب الرابع "1980" مجموعات من مصطلحات التعليم المهني والتقني فأقرها. 6- عمل معجم حي يجمع في صورة مبسطة ومحددة المفردات العربية الجارية في الاستعمال العربي السليم اليوم ومعانيها الراهنة تختار من الكتب الدراسية والجامعية والمؤلفات العلمية الحديثة وقوائم المصطلحات التي تنشرها المجامع اللغوية ومن الصحف والمجلات السائرة والقصص الجارية. 7- عمل معاجم ثنائية اللغة للمصطلحات العلمية والفنية والحضارية والمعربة. وقد أنجز المكتب الدائم كثيرًا من هذه المشروعات وبخاصة معاجم المصطلحات التي بدأ في إنجازها ونشرها مثل معجم الفيزياء والرياضيات

"فرنسي - إنجليزي - عربي" والمعجم السياحي، "فرنسي - إنجليزي - عربي"1، وعشرات غيرها. أما المجمع العلمي العربي بدمشق: فقد اتسعت أهدافه لتشمل مختلف العلوم الحديثة والقديمة، واتجهت معظم جهوده المعجمية إلى وضع المصطلحات العربية لكي تحل محل الألفاظ الأعجمية، وإصدار قوائم لنقد لغة الصحافة والكتابة والمحادثة وتنقيتها من الشوائب. وله اتصال بالمجامع اللغوية الأخرى لتوحيد الجهود ولا سيما في مجال المصطلحات2.

_ 1 انظر مجلة "اللسان العربي" وهي مجلة يصدرها المكتب الدائم لتنسيق التعريب بالمغرب وقد ظهر منها أكثر من عشرين مجلدًا، يحتوي على جزءين أو ثلاثة أجزاء. 2 راجع مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق مجلد 32، ج1، سنة 1957 م. صفحات 72، 77.

5- قائمة بكلمات يصعب معرفة أصلها "*". ائتلي = ألو - ألى آدم = أدم آل = أول آلاء = ألى آية = أيا إبليس = بلس ابن = بنو اتبع = تبع اتخذ = أخذ اتزر = أزر اتسم = وسم اتقى = وقى اثاقل = ثقل اثنان = ثنى أجم = جمم أخت = أخو أخ = أخو ادارك = درك ادخر = ذخر ادكر = ذكر ارائك = أرك أرجاء = رجو ازدهر = زهر اضطرب = ضرب اطرد = طرد اطير = طير أقت = وقت أكمة = أكم أكمه = كمه الله = أله أُمة = أمم أَمة = أمو أمهات = أمم أنبوب = نبب أودية = ودي

_ * الكلمات مرتبة بحسب نطقها لا أصلها. والهمزة مقدمة فيها على الألف.

أولي = ولى أولى = وول - أول أول = وول - وأل بال "اسم" = بول برية = برأ بلبل = بلل بنو = بني - بنو بيهق = بهق تارة = تور - تير تترى = وتر تجاه = وجه تخمة = وخم تراث - ورث ترقوة = رقو - رقي - ترق تعالى "الله" = علو تقوى = وقى تكلة = وكل ثُبات = ثبو ثَبات = ثبت ثري = "يائية". ثقات = وثق جبروت = جبر جدّة = جدد جدَة = وجد جمجمة = جمم جوهر = جهر حادي "عدد" = وحد حادي "الإبل" = حدو حانوت = حنو حسان = حسس - حسن حصاة = "يائية" حماة = "واوية". حواء = حوا خنزير = خزر - خنزر داء = دوأ دم = دمي دواء = دوا دويّ = دوا ديمومة = ديم = دمم دية = ودي ذر "أمر" = وذر ذر: ذرر ربان = ربب رحموت = رحم رحى = "يائية" رمان = رمم - رمن رياح = روح زكاة = واوية زن "أمر من زان" = زين زن "أمر من وزن" = وزن سام = سوم سام = سمم سنا = "واوية".

سواء = سوى سواسية = سوى سية "القوس" = سيا سيّان = سوى شتان - شتت شتى "متفرقة" = شتت شتى "من الشتاء" = شتي شجي = "يائية". شذا = واوية". شفا = شفه - شفو شكاة = "واوية". شيطان = شيط - شطن عمار "يصور" = صور صار "يصير" = صير صبا = "واوية". صدى = "يائية". صفا = "واوية". طلا = "واوية". طوبى = طيب عصا = "واوية". عفان = عفن - عفف عيد = عود. غداة = "واوية" غضا = واوية" فد "أمر من فاد" = فيد فد "أمر من وفد" = وفد فراء "جمع فراء: حمار الوحش " = فرأ فراء "جمع فروط = فرو فلاة = "واوية". قائل "من القول" = قول قائل "من القيلولة" = قيل قذاة = "يائية" قرنفل = قرفل - قرنفل قضاة = قضي قفا = "واوية" قلا "أ- إنضاج الطعام على المقلاة = قلو "ب- البغض والهجر" = قلى قناة = "واوية". كرة = كرو كلتا = كلو - كلت كوكب = ككب - كوكب لا سيما = سوى لثه = لثه - لثي - لوث لدة = ولد لظى = "يائية" لغة = لغو - لغي لهاة = "واوية". مآب = أوب مئات = مأو - مأي ماء = موه

محيص "فعيل" = محص محيص "مفعل" - حيص مداك = دوك مدينة "فعيلة" مدن مدينة "مفعلة" = دين مسيح "مفعل" = سيح مسيح "فعيل" = مسح مشكاة = شكو مصير "مفرد مصران" = مصر - صير معين "ماء" = معن - عين مقلات = قلت مقلاة = قلي ملائكة = ملك _ ألك - لأك ملكوت = ملك مهاة = "واوية" مَوَات = موت مُوَات = وتى ميعاد = وعد ميناء = وني نار = نور نبي = نبو نجاة = "واوية". نرجس = رجس - نرجس نسا "عرق" = "واوية". نيران = نور هب "أمر من وهب" = وهب هب "أمر من هيب" = هيب هب "أمر بمعنى احسب" = وهب يحموم = حمم

الفصل الخامس: الدراسة المقارنة

الفصل الخامس: الدراسة المقارنة من المشهور بين الباحثين أن الدراسة اللغوية المقارنة لم توجد إلا في العصر الحديث، وبعد اكتشاف اللغة السنسكريتية. يقول محمد الأنطاكي: "لم يفطن أحد إلى وجود القرابة بين كل هذه الألسن، ولم يظهر المنهج المقارن إلا بعد العثور على اللسان السنسكريتي". وهذه المقولة برغم شيوعها ليست صحيحة، على الأقل بالنسبة للدراسات العربية. فقد وجدت منذ القرن العاشر الميلادي "الرابع الهجري" دراسات مقارنة قام بها لغويون متخصصون، ومعظمها تم في المغرب والأندلس على يد لغويين يهود سجلوها باللغة العربية. وأشهر عملين تما في هذا الخصوص عملا ابن بارون وجودة بن قريش. وإن وجدت أعمال أخرى أقل قيمة كتلك التي قام بها أبو يوسف القرقساني وداود بن إبراهيم1، ودوناش بن تميم2. أما ابن بارون فقد كان من يهود إسبانيا، واسمه بالكامل أبو إبراهيم إسحاق بن بارون، وقد كتب في أواخر القرن الحادي عشر كتابه العظيم "كتاب الموازنة بين اللغة العبرية والعربية"3. وقد خصص الكتاب للدراسة المقارنة بين اللغتين من جانبي اللغة والنحو، واهتم ببيان أوجه الشبه والخلاف.

_ 1 انظر: Literary History of Hebrew ص 16، 23. 2 انظر: Ibn Barun's Arabic Works ص 3. 3 المراجع السابق، مقدمة.

والكتاب مقسم إلى قسمين. فالقسم الأول مخصص للنحو المقارن، وأما القسم الثاني فيضم معجمًا مرتبًا ألفبائيًّا لجذور الكلمات الواردة في الكتاب المقدس والتي لها مقابل عربي. وتبعًا لعهده رتب ابن بارون القسم المعجمي "التالي لقسم النحو" ألفبائيًّا. وقد بدأه بقوله: "إن الجزء الأول من هذا الكتاب إذا كان قد خصص لمناقشة "رتبة التشارك" بين اللغتين من نواحي "النحو" "وتصرف الأفعال"، وما اتصل بهما، فإن الجزء الثاني سوف يحوي معجمًا يجمع كل الجذور التي نطقها ومعناها يتفقان في كلتا اللغتنين1. وذكر ابن بارون أن هناك "ضروبًا متقاربة بين اللغتين تشمل: 1- التشابه في الخط واللفظ والمعنى. 2- التشابه نتيجة لتعاور الحروف المتشابهة المخارج. 3- التشابه نتيجة لتعاور الحروف المتجاورة. 4 التشابه نتيجة التصحيف"2. إلخ ... إلخ ... وقد أشار ابن بارون إلى بعض المعجميين العرب ومؤلفاتهم مثل العين للخليل بن أحمد، والجمهرة لابن دريد، والمجرد لكراع. كما أشار إلى بعض النحاة العرب مثل المبرد، والزجاج، وابن الأنباري. ومن أمثلة المقارنة في القسم النحوي ذكره:

_ 1 المرجع السابق، ص 54. 2 المرجع السابق، ص 54 - 56.

أ- أن علامة التثنية والجمع في العبرية بإضافة الميم، وفي العربية بإضافة النون. ب- وأن العربية يوجد فيها تغيير إعرابي بخلاف العبرية. جـ- وأن العربية يوجد فيها جمع تكسير بخلاف العبرية. ومن عناون هذا القسم: القول على مرتبة الاسم - القول على التثنية والجمع وما اتفق عليه اللغتان في ذلك - القول في التذكير والتأنيث - القول على الخواص التي تلحق الفعل ورتبة تصرف أبنيته المذكورة- القول على الأفعال المعتلة ورتبة تجانس اللغتين فيها - القول على أقسام الأفعال في التعدي1. وقد أعطى ابن بارون حكمًا عامًّا على اللغتين - وضم إليهما السريانية - فقال: "نرى اليوم اللغة العبرانية والعبرانية والسريانية متقاربات الاشتقاق والتصريف واللفظ لقرب مزاج أهلها، لقربهم في الإقليم.. فإني أذكر منها ما وقع التوافق فيه خاصة" 2. وقد نشر المستشرق الروسي "P. k Kokovtsov" "1861- 1942" "في سنة 1893 القطع التي عثر عليها من هذا الكتاب في مكتبة لننجراد الوطنية. وقدم للطبعة بمقدمة وملاحظات باللغة الروسية، كما ألحق بها ترجمة روسية. وفي عام 1916 أعاد المستشرق السابق طبع كتاب.

_ 1 Ibn Bartun's Arabic Works ص 3، 15، 25، 28، 32، 33، 38، 43 وغيرها. 2 كتب الموازنة لابن بارون - تحقيق وتقديم "P. K. Kokoovstov" ص 22، 23.

ابن بارون مع إضافة بعض القطع الجديدة التي عثر عليها، ومع ترجمة كاملة باللغة الإنجليزية. وأما جودة بن قريش التاهرتي فقد كان أسبق من ابن بارون بنحو قرن من الزمن، وكان أول أمره طبيبًا ازدهر في منتصف القرن العاشر الميلادي "الرابع الهجري". وقد ترك ابن قريش عملًا مكتوبًا بالعربية قسمه إلى ثلاثة أقسام، وعالج في قسم منه العلاقة بين العبرية والآرامية، وفي قسم آخر العلاقة بين العبرية والعربية. وشبه العلاقة بين العبرية والآرامية "بفروع الشجرة الواحدة أو بعروق الجسد الواحد". كما صرح بأن العربية والآرامية ليسا أجنبيين. وذكر أن العربية والعبرية نتجا عن أصل واحد وتفرعا نتيجة الخروج إلى أماكن مختلفة والاختلاط بلغات أخرى، والافتراضي منها. وأصدر حكمة على اللغة الثلاثة بقوله: "العبرية والآرامية والعربية قد صيغت - بالطبيعة - بطريقة واحدة". ومن أهم القضايا التي تناولها ابن قريش إلى جانب ذلك. 1- شرحه لتقابلات الأصوات الساكنة في كل من العبرية والآرامية والعربية، سواء وقعت في أوائل الكلمات، أو في أواخرها. وقد وضع كل ذلك في ترتيب ألفبائي حتى يمكن لمن أراد حرفًا معينًا أن يجده في مكانه. 2- تناوله للأصوات الصفيرية، وذكر السبب في تعرضها الواسع للتبادل. 3- تخصيصه بابًا لعلاج الجذور العربية والعبرية التي تتطابق أو تتشارك في أصل أو أصلين ساكنين.

4- إظهاره الملامح المشتركة بين العربية والعبرية والآرامية في تصريف الأفعال. ولهذا يقول بعض الباحثين: "لا يعد مبالغة أن نزعم أن ابن قريش يعد بحق أبًا للدراسات اللغوية السامية المقارنة على الرغم من أن ملاحظاته كانت عرضية، أكثر منها مؤسسة على دراسة مستفيضة لتركيب كل من اللغات الثلاث" 1.

_ 1 انظر: Literary History of Hebrew الصفحات 17 - 19.

الباب الثالث: قضية التأثير والتأثر

الباب الثالث: قضية التأثير والتأثر مدخل ... الباب الثالث: قضية التأثير والتأثر تمهيد: ليس من السهل ونحن نبحث قضية التأثير والتأثر أن نصل إلى نتائج قطعية حاسمة، لأن مشكلة التأثير والتأثر من المشكلات الشائكة التي يصعب علاجها، وخصوصًا إذا كانت تتناول موضوعًا مضى عليه مئات السنين. وربما كانت قضية التأثر الأجنبي بالدرس اللغوي عند العرب أسهل تناولًا من قضية التأثير الأجنبي وأقوى أدلة، لأن التأثر قد تم في فترة متأخرة نسبيًّا، ولأن الأمثلة والشواهد على وجود هذا التأثر كثيرة وشبه قطعية. ويجب أولًا وقبل أن نبدأ دراستنا لهذه القضية أن ننبه إلى أمرين: 1- أنه لا يصح -حين يجد الباحث تشابهًا بين عملين- أن يعول على مجرد السبق الزمني ويتخذه دليلًا على تأثير السابق في اللاحق. فالعقل البشري هو العقل البشري في أي بقعة من أنحاء العالم. وما يهتدي إليه المرء في بلد قد يهتدي إليه آخر في بلد آخر دون أن يطلع على ما انتهى إليه غيره. وقد يتشابه العملان أو يتطابقان ويظل كل منهما أصلًا في ذاته1. 2- أن كثيرًا من الأحكام التي أطلقت حول قضية التأثير والتأثر قد أثبتت الأيام خطأها -أو على الأقل قدمت ما يشك فيها. ومن ذلك ما كان يظن من أسبقية الهنود في علم الفلك، وقد قال غرستاف

_ 1 من ذلك ما لاحظه العلماء في مجال الفلك من وجود تطابق بين الهنود والعرب في تقسيم منازل القمر. وقد نفيى وليم جونز أي صلة بين العملين ورأى اتفاقهما بمحض الصدفة. "انظر: on the Indian and Arabian Division of the zediac ص 281 - 283".

لوبون في ذلك: "ما كان يقال حول قدم علم الفلك الهندوسي ودقته من الأفكار، قد أهمل تجاه الدراسات التامة، فأصبحت هذه الأفكار غير جديرة بعناية أحد"1 بل أكثر من هذا يرى غوستاف لوبون أن القضية بالعكس وأن هناك قسمًا كبيرًا من المعارف العلمية قد نقله المسلمون إلى الهند أو الصين ثم عده الأوربيون فيما بعد من أصل هندوسي أو صيني2.

_ 1 حضارة الهند، ص 547. 2 حضارة العرب، ص 564.

الفصل الأول: احتمالات التأثير الأجنبي

الفصل الأول: احتمالات التأثير الأجنبي ليس هناك احتمال لوجود تأثير هندي على فن المعاجم العربية، بل العكس هو الاحتمال القائم يقول Haywood: "ومن العدل أن نقول: إن فترة النشاط المعجمي الكبير في الهند كانت في القرن الثاني عشر، وهو وقت كان العرب فيه قد أنتجوا بعضًا من معاجمهم العظيمة. والنظام المثالي لم يوجد مطلقًا في معاجم الهنود. ربما بسبب الصياغة الشعرية، أو ربما لأن المعاجم كانت تهدف عندهم إلى تيسير حفظها عن ظهر قلب"1. ولا ندري كيف يكون الهنود - كما يزعم الدكتور محمد إسماعيل الندوي - قد أثروا "في وضع المناهج للقواميس العربية"3، ولم يكن لديهم هم أنفسهم مناهج للقواميس الهندية؟ بل لم يكن أي من معاجمهم قد حقق النموذج الذي يجدر احتذاؤه. يقول Haywood: "هل الأعمال المعجمية عند الهنود تسمى معاجم؟ هذه نقطة محل مناقشة"3. ويقول weber: "إن المعاجم السنسكريتية بالمعنى العلمي لم تظهر إلا في وقت متأخر"4. وليست أسبقية العرب في مجال المعاجم مقررة بالنسبة للهنود وحدهم بل بالنسبة للعالم أجمعه، يقول Haywood: ونحن نصر على أن نستشهد

_ 1 Arabic lexicography ص 7 وانظر winternitz في تاريخ الأدب الهندي ص 455. 2- تاريخ الصلات بين الهند والبلاد العربية - ص 114. 3 Arabic lexicography ص 4. 4 The History of Indian literature ص 227.

برأي غير العرب حتى لا يتهم العالم بالتعصب إن كان عربية، يقول: "الحقيقة أن العرب في مجال المعاجم يحتلون مكان المركز سواء في الزمان أو المكان بالنسبة للعالم القديم والحديث وبالنسبة للشرق والغرب"1. ويذكر المؤلف نفسه فرقًا أساسيًّا بين المعجم العربي وما سبقه من معاجم بقوله: "المعجم العربي منذ نشأته كان يهدف إلى تسجيل المادة اللغوية بطريقة منظمة، وهو بهذا يختلف عن كل المعاجم الأولى للأمم الأخرى، التي كان هدفها شرح الكلمات النادرة أو الصعبة"2. ولكن هناك احتمال -مجرد احتمال- بوجود تأثير هندي صوتي على الخليل لا يتجاوز الترتيب الصوتي للحروف الهجائية مع البدء بأعمقها مخرجًا، ولا يصح أن يبالغ في مدى هذا التأثير على نحو ما، فيقال مثلًا: إن هناك تأثيرًا صوتيًّا بوجه عام على اللغويين العرب للأسباب الآتية: أ- أن الترتيب الصوتي عند الخليل -وغيره من اللغويين العرب- يختلف اختلافًا كبيرًا عن ترتيب الهنود- فقد ضمت الألفباء الهندية 51 حرفًا وبدأت بالعلل "بدأ الخليل بالسواكن"، واشتملت على رموز للعلل القصيرة "لا توجد في الألفباء العربية". وعلى رموز للعلل البسيطة والمركبة "لا رموز للمركبة في العربية"، ووضعت أصوات الصفير في آخر الحروف الساكنة "ما يقابلها في العربية وهو ص - س - ز قد وضع في مكان وسط"، واعتبرت الأصوات ي - ر - ل من أشباه أصوات العلة ووضعتها متتالية بالترتيب السابق "في حين أن الياء وضعت مع أحرف العلة في ترتيب الخليل وفصلت الياء عن اللام والراء وبالضاد في ترتيب ابن جني"3.

_ 1 صفحة 2. 2 ص 2. 3 on the origin of the Indian Brahman Alphabet ص 28.

ومعنى هذا أن الخليل وإن كان من المحتمل أن يكون قد سمع بالترتيب الصوتي الهندي؛ فقد خالفه حين التطبيق. ويبدو أنه اهتدى بذوقه وحسه الفطري إلى الترتيب الذي توصل إليه. ويؤيد ذلك ما جاء في مقدمة العين عن كيفية اهتداء الخليل إلى هذا النظام، ونصه: "فدبر ونظر إلى الحروف كلها وذاقها فصير أولاها بالابتداء أدخل حرف منها في الحلق. وإنما كان ذواقه إياها أنه كان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف نحو: أب - أت - أح - أع - أغ فوجد العين أدخل الحروف في الحلق فجعلها في أول الكتاب، ثم قرب منها الأرفع فالأرفع حتى أتى على آخرها وهو الميم"1. كما يشرح الليث كيف وردت الفكرة إلى ذهن الخليل، وكيف قلب النظر فيها حتى انتهى إليها وأخرجها إلى حيز الوجود فيقول إن الخليل حين ورد عليه خراسان فاتحة في تلك الفكرة التي كان من الصعب على العقل العادي إدراكها "فجعلت أستفهمه ويصف لي ولا أقف على ما يصف، فاختلفت إليه في هذا المعنى أيامًا، ثم اعتل وحججت، فرجعت من الحج فإذا هو قد ألف الحروف كلها على ما في صدر هذا الكتاب"2. ومما يدل على أن العرب لم يكونوا ناقلين بل مجتهدين ما نراه من خلافات بينهم فيترتيب الأحرف العربية، فترتيب الخليل غير ترتيب سيبويه، وترتيب ابن جني يختلف قليلًا عن ترتيب سيبويه3. ب- أن دراسة الهنود للأصوات قد تميزت بوضع مقاييس محددة لأصوات اللين، وتحديد وظيفة التجويف الحنجري، ودور الأوتار الصوتية في إحداث الجهر والهمس. كما تميزت بدراسة المقطع ومواضع النبر. ولا نجد لهذا نظيرًا عند اللغويين العرب.

_ 1 العين 1/ 52. 2 المعاجم العربية لدرويش ص 74. 3 العين 1/ 52، سر صناعة الأعراب لابن جني 1/ 50، 51.

جـ- أن الهنود كانوا ينظرون إلى الدراسة الصوتية على أنها فرع مستقل من فروع علم اللغة في حين أن اللغويين العرب اعتبروها دراسة تابعة. وأول مؤلف مستقل في الأصوات عند العرب لم يظهر إلا على يد ابن جني في القرن الرابع الهجري. كما لا يصح أن يقلل من جهد الخليل في معجمه "العين". فعلى فرض أخذه الأساس الصوتي عن الهنود فله فضل تطبيقه في لغة أخرى، كما أن أصالته تظهر فيما يأتي: أ- جمعه المادة اللغوية بالطريقة الإحصائية التي سبق ذكرها، مع حرصه على الشمول. ب- التقسيم الكمي الذي اتبعه وتفريقه بين الصحاح والعلل. جـ- شرحه الكلمات شرحًا دقيقًا، والاستشهاد عليها بالقرآن والحديث والشعر. ثم إن عملية الترتيب الهجائي في حد ذاتها لم تكن شيئًا جديدًا على العقلية العربية، فقد كان العرب يستخدمون الترتيب الأبجدي: أبجد هوز إلى أن استخدموا الترتيب الألفبائي الذي وضعه نصر بن عاصم ورتب الحروف فيه ترتيبًا جديدًا اقتضاه وضع الحروف المتشابهة في الصورة متجاورة، والبدء بالثلاثيات ثم الثنائيات ثم المفردات التي لا أشباه لها، وتركت الهمزة أولًا كما كانت في النظام القديم. أما في مجال النحو فهناك تشابه في بعض الجزئيات بين الهنود والعرب مثل: أ- تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف. ب- التمييز بين الحروف الأصلية "الجذر أو الأصل" والحروف المزيدة.

جـ- الاهتداء إلى نوع من الأسماء يجمع خصائص الاسم والفعل وتسميته "اسم الفعل". د- الاختلاف حول الحروف وهل لها معنى في ذاتها أو في غيرها1. ولكن أمثال هذه الجزئيات موجودة في لغات كثيرة، وبعضها تفرضه طبيعة اللغات موضوع الدراسة. أما ما يحاول الدكتور أيوب إثباته من وجود تأثير هندي في المنهج والتبويب على كتاب سيبويه، وأن ذلك يتمثل في العناية بدراسة الأصوات ومخارجها، وعدم الاهتمامات بالنظريات والتقسيمات العقلية2 - فمن الممكن مناقشته بما يأتي: أ- أن هذه الدعوى مبنية على أساس وجود مدرسة نحوية هندية واحدة، أو اتجاه نحوي هندي واحد، وهذا خلاف الواقع. فالمدارس النحوية الهندية متعددة، ومناهجها مختلفة. وقد أحصينا نحو عشر مدارس هندية في الفترة التي سبقت أو عاصرت نشأة الدراسة اللغوية عند العرب في مؤلفنا "البحث اللغوي عند الهنود" فارجع إليها. ب- وحتى إذا كان الدكتور أيوب حين تحدث عن مميزات الدراسة النحوية الهندية يعني خصائص المدرسة البانينية التي كتبت لها الشهرة على سائر المدارس الهندية، فليس هناك وجه شبه بين منهج هذه المدرسة ومنهج سيبويه في الكتاب، أو منهج أي نحوي عربي جاء بعد سيبويه حتى يومنا الحاضر. وأمامنا كتاب بانيني المشهور المسمى Ashtadhyayi ينطق بذلك:

_ 1 تفصيل ذلك عند الهنود في بحثنا بعنوان "البحث اللغوي عند الهنود" فصلى علم النحو وعلم الاشتقاق. 2 راجع محاضراته على طلبة الليسانس بكلية دار العلوم، عام 67/ 1968.

1- فالكتاب مقسم إلى ثمانية أقسام، وكل قسم إلى أربعة فصول، وقدم الكتاب في شكل قواعد مختصرة، أو قوانين موجزة يبلغ مجموعها أربعة آلاف قاعدة. 2- يقدم القسم الأول من الكتاب تعريفات عامة وقواعد للشرح كما يعالج مشكلات صوتية متنوعة. أما القسم الثاني فيعالج موضوع الإبدال وهدف التصريف، وقواعد الجنس Gender والعدد. ويتناول القسم الثالث موضوع اللواحق الأساسية، أما القسمان الرابع والخامس فيتعرضان للواحق التي يمكن إضافتها للأصل غير الفعلى مكونة جذرا غير أساسي ولواحق تصريفية. ويتناول القسمان السادس والسابع بحوثا صرفية صوتية morphophonemie أما القسم الثامن فيتناول موضوعات متعددة. 3- لاقى الجانب الصوتي اهتماما من بانيني حتى صدر به كتابه. ففي الفصل الأول من القسم الاول "ص3 - 68" يعالج أطوال الأصوات - الأصوات الأنفية - أنفية أصوات العلة إذا تسرب الهواء من الأنف - مخارج الأصوات في الفم - كيفية إحداث الصوت عن طريق الاتصال الكامال لأعضاء النطق أو الاتصال البسيط، أو للفتح الكامل أو الفتح البسيط - تقسيم الأصوات باعتبارات مختلفة - أشكال العلة وحصرها في 18 صوتا - العلة المركبة - المقارنة بين العلل والسواكن - الإبجال وشروطه. وهذا ما نفتقده في كتاب سيبويه. جـ- أن النحو الهندي لم يتخلص من سلطان الفلسفة كما صرح الدكتور أيوب، واعتبر ذلك فرقا أساسيا بين الهنود واليونانيين. يقول Chakravarti: "إن النحو السنسكريتي يعتبر نظاما قائما يعتمد إلى حد كبير على المباديء الفلسفية". ويقول عن Bhartrhari إنه كان لديه "المقدرة على شرح النحو من نقطة فلسفية محضة. وعلى يديه أصبح النحو يعالج على أنه نظام مطرد من الفلسفة". ويقول: "يعد باتنجالي

وبهارتر هاري من أعظم النحاة الهنود. ويستحقان احترامنا باعتبارهما مؤسسي فرع "فلسفة النحو" إن ما فعلاه يعد أهم مما قام به أفلاطون وأرسطو لعلم الفلسفة الخاص"1. ولا أفهم كيف يظن ظانّ خلو النحو الهندي من تأثير المنطق، ويفترض أن الصبغة المنطقية في نحو المتأخرين جاءت عن طريق الإغريق؟ إن المنطق -كما يقال-: علم كل العلوم Science of all Sciences وللمنطق قضاياه المسلمة التي لا تخص علم المنطق وحده، وإنما تصلح للتطبيق كذلك في فروع أخرى من العلم، لما لها من قيمة لا تقبل الجدل. ومن يرجع إلى بعض المناقشات النحوية عند الهنود يجدها فلسفة صرفًا، كخلافهم حول ما إذا كان هناك ما يمكن أن يُسمى بالزمن الحاضر. كما أن من يرجع إلى آرائهم حول أنواع الدلالات للكلمة يرى بوضوح سلطان الفلسفة والمنطق عليهم. د- ولست أخيرًا مع الدكتور أيوب في قوله: إن كتاب سيبويه يخالف المتأخرين من ناحية عدم تأثره بالمنطق، وعدم اهتمامه بالنظريات والتقسيمات العقلية؟ ماذا يبقى في أي كتاب للنحو إذن لو جردناه من النظريات، ونحينا جانبًا ما فيه من تقسيمات عقلية؟ أليس المنطق هو المسئول عن إعراب الخليل وسيبويه الفعل المضارع بعد فاء السببية وواو المعية منصوبًا بأن مضمرة؟ ألم يكن الخليل يثير كثيرًا من المناقشات اللفظية ويطبق قواعده على أمثلة لم ترد عن العرب؟ أليس منع سيبويه العطف على معمولي عاملين مختلفين من آثار الفلسفة، ونتيجة لتحرجه من القول بتسلط عاملين مختلفين على معمول واحد، لئلا يلزم أن يكون المعمول منصوبًا مرفوعًا مثلًا، مع أنه لا يجتمع الضدان في محل؟ أو

_ 1 The philosophy of Sanskrit grammar ص 13، 30، 38.

ليس رفض سيبويه العبارة "قام ومضى المحمودون" مع ورودها عن العرب -حتى لا يكون الفاعل الواحد فاعلًا لفعلين- تغليبًا للقاعدة الفلسفية التي تمنع اجتماع مؤثرين على أثر واحد؟ اليونان: ليس هناك مجال للقول بتأثير يوناني على العرب في مجال الأصوات والمعجم. وما يقال عن تأثير يوناني مقصور على مجال النحو فقط. وتتلخص الآراء حول هذه القضية فيما يأتي: 1- وجود تأثير يوناني مباشر على النحو العربي منذ نشأته. 2- وجود تأثير يوناني غير مباشر -عن طريق السريان- على النحو العربي منذ نشأته. 3- وجود تأثير يوناني -سواء كان مباشرًا أو غير مباشر- على النحو العربي في مرحلة متأخرة لا تشمل مرحلة النشأة. 4- نفي التأثير اليوناني كلية. وقد لخص ليتمان معظم هذه الآراء في قوله: "اختلف العلماء الأورباويون في أصل هذا العلم، فمنهم من قال: إنه نقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون: نبت في أرض العرب ... ورأينا مذهب وسط، وهو أنه أبدع العرب علم النحو في الابتداء، وأنه لا يوجد في كتاب سيبويه إلا ما اخترعه هو والذين تقدموه، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان ... تعلموا استنباط النحو"1.

_ 1 ضحى الإسلام 2/ 293.

ولم يتحدث أحد من الباحثين قبل Vestteegh بصورة علمية عن التأثير اليوناني في مرحلة النشأة. ويتلخص رأيه في وجود تأثير يوناني مباشر على العرب في الفترة المبكرة يتمثل في النحو اليوناني السائد والفكر الرواقي نتيجة الاتصال المباشر بالثقافة الهيلينية. كما قال بوجود ارتباط بين أصول النحو العربي وأصول الطيب اليوناني العلاجي1. وأغلب الباحثين يذهبون إلى القول بتأثير يوناني في فترة متأخرة من فترات النحو العربي سواء كان التأثير مباشرًا أو غير مباشر، وسواء كان التأثير عن طريق النحو اليوناني أو المنطق اليوناني. ويعد من أشد المتحمسين لإثبات التأثير اليوناني بشقيه النحوي والفلسفي الدكتور إبراهيم بيومي مدكور الذي نشر بحثًا بمجلة الأزهر بعنوان "منطق أرسطو والنحو العربي"2، ذهب فيه إلى تأثر النحو "بالمنطق الأرسطى من جانبين أحدهما موضوعي والآخر منهجي" ويمثل للموضوعي بتقسيم أرسطو الكلمة في مقدمة كتاب "العبارة" إلى اسم وفعل، واشارته في كتاب آخر له إلى قسم ثالث هو الأداة. وإذا انتقلنا إلى كتاب سيبويه نجده يبدأ بتقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، ويعرفها تعريفًا يحاكي من بعض النواحي التعريف الأوسطي. أما التأثير المنهجي فقد رآه في اهتمام العرب بالقياس النحوي، ومحاولة فلسفته والبحث عن أركانه وتحديد شرائطه. كما رآه في مبدأ العلة الذي كان له شأن في النحو العربي، وفي المنطق الأرسطي، وفي نظرية العامل النحوية التي هي وليدة مبدأ العلية الفلسفي.

_ 1 انظر: Greek Elements وبخاصة الفصول الأول إلى الرابع. وانظر عرضًا لهذا الكتاب في مجلة الحصاد، كلية الآداب، جامعة الكويت، العدد الأول. 2 المجلد 23، الجزء التاسع والعاشر، رمضان وشوال 1371 هـ.

ونحن وإن كنا نسلم بتأثير المنطق والفلسفة "بوجه عام ولا نقصرهما على اليونانيين، فقد كان للهنود كذلك منطق وفلسفة وكان لغير الهنود منطق وفلسفة" على النحو العربي، فإننا نتردد كثيرًا في قبول الرأي القائل بوقوع النحو العربي تحت سيطرة الفلسفة اليونانية. ومجرد التشابه في تقسيم أو أكثر، أو في بعض المصطلحات لا ينهض دليلًا لإثبات مثل هذه الدعوى العريضة. وقد سبق أن رأينا مثلًا أن أقسام اللام موجودة كذلك عند الهنود، ولا شك أنها موجودة أيضًا عند شعوب أخرى. والأمر قد لا يخرج عن مجرد التشابه بطريق المصادفة، أو عن التأثر الجزئي ابتداء من أواخر القرن الثالث حيث ظهرت الترجمات الأولى للأعمال الفلسفية اليونانية، ولا يصح أن نغفل في هذا المقام التأثير المعتزلي على المناهج النحوية العربية وبخاصة على نظرية العامل1. وتبقى قضية التأثير اليوناني عن طريق السريان، وهي ما سنبحثها في الفقرة التالية: السريان: يثبت الكثيرون وجود تأثير سرياني على النحو العربي، سواء بطريق غير مباشر عن طريق الترجمات اليونانية التي تمت باللغة السريانية، أو عن طريق الكتب النحوية التي وضعها السريان للغتهم.

_ 1 لمزيد بيان عن قضية التأثير اليوناني راجع: إلى جانب ما سبق ذكره -الدكتور مهدي المخزومي في كتابه "الخليل بن أحمد الفراهيدي"، والدكتور مازن المبارك في كتابه "النحو العربي"، ودائرة المعارف الإسلامية- مادة نحو، وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان، الجزء الثاني، وتاريخ الفلسفة في الإسلام تأليف دي بور وترجمة أبو ريدة، ومدرسة البصرة النحوية للدكتور عبد الرحمن السيد. وانظر كذلك كتاب Versteegh السابق ذكره وبخاصة في الفصل السادس "نفوذ المنطق اليوناني" والسابع "استخدام المنطق في النحو" والثامن الذي خصصه للمعتزلة وأثرهم على الفكر النحوي.

وقد سبق في الفصل الثاني من الباب الأول أن عرضنا أهم جهود السريان اللغوية، فليرجع القارئ إليها ليكون على ذكر بها. وممن يثبت التأثير السرياني الدكتور إبراهيم مدكور في مقاله السابق الإشارة إليه وفيه يقول: "من الثابت أن كتب أرسطو المنطقية ... كانت معروفة لدى السريان، وقد ترجمت إلى لغتهم قبل الإسلام. والمهم أنها ترجمت إلى اللغة العربية منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري ... فهي إذن ثروة جديدة نقلت إلى العالم العربي. ولا بد أنها قوبلت بما تستحق من تقديره إن من سيبويه أو من سبقه ممن اشتغلوا بالمسائل النحوية ... على أن هناك عملًا مشابهًا تم على مقربة من نحاة العرب الأول وهو وضع النحو السرياني.. في القرن السادس الميلادي ولا شك في أن هذا النحو قد تأثر بالنحو اليوناني ومنطق أرسطو. ومن بين واضعيه والمشتغلين به مترجمون اتصلوا بالعرب ونحاتهم وعاشوا معهم. فيعقوب الرهاوي لها شأنه في وضع النحو السرياني، وهو معروف في الأوساط العربية، وحنين بن إسحاق مترجم آخر معاصر للخليل وسيبويه ... ومن اليسير أن نتصور أنه قد تبادل.. مع الخليل بعض القواعد النحوية"1. ويرى جورجي زيدان نفس الرأي إذ يقول: "والعرب يغلب على ظننا أنهم نسجوا في تبويب النحو على منوال السريان لأن السريان دونوا نحوهم، وألفوا فيه الكتب في أواسط القرن الخامس الميلادي على يد يعقوب الرهاوي ... ويؤيد ذلك أن العرب بدءوا في وضع النحو وهم بالعراق بين السريان والكلدان. وأقسام الكلام في العربية هي نفس أقسامه في السريانية"2.

_ 1 المجلد 23 من مجلة الأزهر، ص 42. 2 تاريخ آداب اللغة العربية 1/ 251.

وعلى الرغم من وجود هذا الاحتمال بتأثير سرياني على النحو العربي، فلا يكفي -في نظرنا- أن يتخذ مجرد السبق الزمني، أو التجاور المكاني، أو التشابه الجزئي دليلًا على وجود تأثير وتأثر. ويبدو أن أولئك المولعين برد كل ما هو عربي إلى أصل أجنبي هم من تلك الفئة من الباحثين التي تستكثر على العقلية العربية الاستقلال الفكري، وتنفي عنها الأصالة العلمية، ويبدو أيضًا أن أولئك الباحثين قد ظنوا أن النحو العربي قد ولد ناضجًا. لأنه جاءنا ناضجًا، فاتخذوا من ذلك دليلًا على نقله من نحو أمة أخرى. وقد سبق أن رأينا أن النحو العربي قد مر بمراحل تطويرية كثيرة قبل أن يصل إلى مرحلة النضج، وأن الفترة الزمنية بين نشأة النحو وكتاب سيبويه تزيد على المائة عام. وهي كافية جدًّا لخلق نحو عربي ناضج متطور بدون النقل الحرفي من نحو آخر. وإذا كنا قد ترددنا في إثبات الأثر السرياني على النحو العربي فيبدو أن هناك نقطتين لا مجال لإنكار أثر السريان فيهما على العرب وهما: 1- أقدم مثل لتأثير السريانية على العربية هو الأبجدية النبطية التي استعارها العرب لكتابتهم. والخط النبطي مشتق من الآرامي. والإملاء العربي القديم قريب من الإملاء الآرامي، ويظهر ذلك في الخط الكوفي. 2- نشأة الحركات الأعرابية في فجر الإسلام، التي ينسب وضعها إلى أبي الأسود الدؤلي، وهي في الحقيقة مأخذوة عن السريان. فقد استخدم أبو الأسود طريقة الشكل بالنقط وكانت إحدى طرق الشكل عند السريان، وهي الطريقة التي اتبعها النساطرة1.

_ 1 تاريخ اللغة السريانية لزاكية رشدي، ص 268، 269.

العبرانيون: المجال الوحيد لاحتمال التأثير العبري على العرب في مجال الدراسات اللغوية هو الترتيب المعجمي بحسب القافية أو الباب والفصل. وقد سبق أن ذكرنا أن سعيدًا الفيومي "ولد عام 892 = 279 هـ وتوفي عام 942 م = 331 هـ" قد وضع عملًا معجميًّا أسماه Agron رتبة أو رتب قسمًا منه - إذا أردنا الدقة - على الأواخر. وأول من عرفناه من المعجميين العرب يرتب على الأواخر هو أبو بشر اليمان بن أبي اليمان "200 - 284 هـ" ثم أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي "المتوفي 350 أو 370 هـ" فهل استفاد الفارابي من سعيد الفيومي؟ أو هل ألف كل منهما معجمه بدون اتصال بالآخر، وخصوصًا أنهما قد تعاصرا لفترة طويلة؟ أو هل هما متأثران بمعجم اليمان أو بمعجم أقدم منهما لم يصلنا أو تصلنا معلومات عنه؟ احتمالات ليس في إمكاننا ترجيح أحدها على الآخر1.

_ 1 يبقى الصينيون وقد قال في ذلك "Haywood": "لا نظن أن الصينيين كان لهم تأثير على العرب" "ص 6 - 7".

الفصل الثاني: احتمالات التأثير العربي

الفصل الثاني: احتمالات التأثير العربي كما أن العرب قد تأثروا بغيرهم ممن سبقهم، فقد أثروا في غيرهم بعد أن تمثلوا الثقافات الأجنبية المتنوعة. وقد امتد تأثيرهم -أو احتمالات تأثيرهم على الأقل- إلى شعوب كانت أسبق منهم في الدرس اللغوي مثل الهنود، والسريان، والمصريين. وهناك جانبان بارزان أثر فيهما العرب على غيرهم وهما: النحو والمعجم. أولًا - النحو يبدو أثر العرب واضحًا في الدراسات النحوية الآتية: 1- النحو السرياني: بعد أن اتصل السريان بالعرب عندما دخل العرب بلادهم فاتحين، وعدت اللغة العربية على لغتهم أثر ذلك على السريان فوضعوا نحوهم على نمط النحو العربي، لأنه أقرب إلى لغتهم من النحو اليوناني. وكان النحاة السريان في القرن الثاني عشر وما بعده يعكسون مناهج المدارس العربية الشهيرة في البصرة والكوفة. وقد وضع ابن العبري "ولد 1226 م وتوفي 1286 م" كتابًا كبيرًا في النحو سماه "كتاب الأشعة" على غرار كتاب "المفصل" للزمخشري "توفي عام 538 هـ = 1143 م". ويلاحظ أن ابن العبري في كتابه كان يتبع تقسيمات النحاة العرب1.

_ 1 تاريخ اللغة السريانية الزاكية رشدي، ص 268، 270.

2- النحو القبطي: تأثر النحاة الأقباط في كتبهم النحوية بمجهودات العرب في ذلك وأنت تخرج بهذه النتيجة بعد تصفحك لكتب النحو القبطية المتقدمة، حيث تجد تشابهًا عجيبًا بين المنهجين. فالكلمة عند "ابن كاتب قيصر" تنقسم إلى اسم وفعل وحرف. والاسم هو الذي يخبر به أو يخبر عنه. وهو ما دخله أحد1 أدوات التعريف أو التفكير أو التذكير أو التأنيث أو الجمع أو ما أشبه ذلك ... والحرف ما دل على معنى في غيره ولم يستقل بنفسه ولا يخبر به ولا يخبر عنه ... ومنها الحروف التي تدخل على المبتدأ والخبر وهي إن وأخواتها ... إلخ. فهل تصدق أنك تقرأ في كتاب يعالج نحو اللغة القبطية؟ ولم يكن هذا سبيل ابن كاتب قيصر وحده بل كان سبيل النحاة جميعًا حتى ضاق بهم مؤلف قبطي آخر اسمه الشيخ الوجيه القليوبي فقال في مقدمة كتابه المسمى "الكفاية": "وقد وضع في ذلك النحو القبطي" مقدمات، إلا أن المفسرين لغلبة أحكام تصريف اللغة العربية عليهم قاسوا أكثر أحكام القبطي عليها. وليس الأمر كذلك، بل من شرط المخرج من لغة إلى أخرى أن يجرد ذهنه عن اللغة الغالبة، ويذهل عنها ثم يذوق اللغة المخرجة ويستحضر جميع أجزائها، ويستقري مواضع استعمال أدواتها"2. 3-النحو العبري: نشير في هذا المقام إلى ما سبق أن ذكرناه في الفصل الثاني من الباب الأول وملخصه: أ- ازدهار الدراسات اللغوية العبرية بعد ظهور الإسلام، وكان النموذج العربي هو الذي احتذاه العبرانيون ثم طوروه.

_ 1 كذا وصحتها إحدى. 2 تاريخ اللغة العربية في مصر للمؤلف، ص 154، 155.

ب- وجود شواهد مؤكدة أن النفوذ العربي كان موجودًا حتى منذ اللحظة الأولى للنشاط اللغوي العبري، ويبدو ذلك في أسماء الحركات الثلاث. جـ- ظهور الثقافة العربية في مؤلفات أبو يوسف القرقساني النحوية الذي تتلمذ على مدارس بغداد. د- تأثير الثقافة العربية على مؤلفات يهوذا بن حيوج النحوية. هـ- تأليف أبو الوليد بن جناح لكتاب نحوي عبري أسماه "اللمع" يسير على النمط العربي. ثانيًا- المعجم: 1- الهنود: بالنسبة للهنود نشير إلى ما سبق أن ذكرناه1 من أن العرب يحتلون مكان المركز سواء في الزمان أو المكان، بالنسبة للعالمين القديم والحديث، وبالنسبة للشرق والغرب. وما ذكرناه من أن فترة النشاط المعجمي الكبير في الهند لم توجد إلا في القرن الثاني عشر بعد إنتاج بعض المعاجم العربية العظيمة. 2- الترك: هناك نوعان من التأثير يدخلان تحت هذا العنوان هما: 1- ترجمة بعض المعاجم العربية إلى التركية مثل ترجمة "الصحاح" التي قام بها قرة بيري المتوفي عام 886 هـ أو 866 هـ والتي سماها "الترجمان" ومثل ترجمة المولى محمد بن مصطفى الكوراني المتوفي سنة 1000 هـ 2.

_ 1 صفحة 344. 2 مقدمة الصحاح ص 208.

2- تأليف بعض المعاجم التركية على نمط المعاجم العربية، وأكتفي بأن أمثل بما يأتي: أ- ديوان لغات الترك: للكاشغري الذي سار على نمط ديوان الأدب للفارابي. ومؤلفه هو محمود بن الحسين بن محمد الكاشغري من أهل كاشغر على حدود الصين، وقد توفي عام 466 هـ 1. والكتاب معجم يشرح الألفاظ التركية بعبارات عربية. ووجه الشبه واضح كل الوضوح بينه وبين ديوان الأدب سواء في المقدمة أو ترتيب المادة، وإن لم يشر الكاشغري إلى ذلك، ولم يذكر اسم الفارابي. والموازنة التالية تكشف عن مدى التشابه بين الكتابين:

_ 1 الأعلام للزركلي.

المقدمة: ديوان الأدب قال الفارابي: رتبت كل كلمة فجعلتها أولى بموضعها مما يقدمها أو يعقبها ليجدها المرتاد لها في بقعة بعينها رابضة من غير نص مطية أو إدآب نفس. قال الفارابي: جعلت كل كتاب من هذه الكتب شطرين أسماء وأفعالًا وقدمت الأسماء في أمثلتها وأبوابها على الأفعال ثم تلوتها بالأفعال مبوبة على مراتبها ومدارجها مقدمًا الأحق فالأحق منها. نتبدئ بالأسماء التي في أواخرها الباء ثم نتجاوزها إلى ما بعدها حتى نأتي على حروف المعجم. لم نذهب في ذلك مذهب الخليل بن أحمد ولم نرتب ترتيبه ميلًا إلى الأشهر لقرب متناوله وسهولة مأخذه على الخاصة والعامة. قال الفارابي: مشتملًا على تأليف لم أسبق إليه وسابقًا بتصنيف لم أزاحم عليه. ديوان لغات الترك قال الكاشغري: أنخت كل كلمة في محلها، وأنهضتها من عدوائها ليصادفها في مبركها طالبها، ويرصدها في مسلكها رابعها. وقال الكاشغري: جعلت كل كتاب من هذه الكتب شريحين أسماء وأفعالًا، وقدمت الأسماء على الأفعال، ثم قفوتها بالأفعال مبوبة على مراتبها الأولى فالأولى. وضعته مرتبًا على ولاء حروف المعجم. ولقد تخالج في صدري أن أبني الكتاب كما بنى الخليل بن أحمد كتاب "العين" وأذكر المستعمل والمهمل ... إلا أن هذا البناء أصوب لأن مأخذه أقرب. قال الكاشغري: برزت بتصنيف لم أسبق إليه وتأليف لم يوقف عليه.

ديوان الأدب: قال الفارابي: القول في تقديم الحروف بعضها على بعض: نبتدئ بالأسماء التي في آخرها الياء ثم نتجاوزها إلى ما بعدها حتى نأتي على حروف المعجم. قال الفارابي: قول آخر فيما ذكر في الكتاب وفيما لم يذكر غير ذلك مما لاغنى عنه: كل ما كان من أسماء البلدان والأودية والجبال.. ديوان لغات الترك: وقال الكاشغري: القول في تقديم الحروف بعضها على بعض: نبتدئ بالأسماء التي في أعجازها الباء ثم نمر إلى ما بعدها حتى نستوفي في حروف المعجم كل اقتداء بأئمة الأدب، وتشبيهًا في البناء بلغات العرب. قال الكاشغري، قول آخر فيما ذكر في الكتاب أو لم يذكر: ما كان من أسماء الجبال والمهامه والأودية والمياه ... ذكرت التي في بلاد الإسلام. وكما نلاحظ هذا التشابه -الذي يدل على التأثر- في مقدمتي المعجمين نلاحظه في نظامهما. وجزء من هذا النظام قد شرحته المقدمة ونضيف إلى ذلك. أ- تقسيم الفارابي معجمه إلى ستة كتب هي السالم والمضاعف والمثال، وذوات الثلاثة وذوات الأربعة والمهموز. وقد تبع الكاشغري الفارابي في التقسيم، وفي استخدام المصطلحات حتى ذوات الثلاثة وذوات الأربعة، وإن زاد عليه كتاب الغنة وكتاب الجمع بين الساكنين وهي زيادة اقتضتها طبيعة اللغة التركية. ب- التقسيم لكل كتاب إلى شطرين، شطر للأسماء وشطر للأفعال موجود في كلا المعجمين. جـ- تقسيم كل شطر بحسب التجرد والزيادة موجود في كلا المعجمين.

د- تذييل بعض الأبواب بأحكام تصريفية نجده عند الفارابي وعند الكاشغري كذلك. وعلى الرغم من أن الكاشغري أهمل ذكر الفارابي فقد تنبه بروكلمان إلى التشابه بين العملين وكانت إشارته هي السبب في عقدنا هذه المقارنة1. ب- قاموس الأروام في نظام الكلام: لمؤلفه شيخ الإسلام ملا صالح أفندي من علماء القرن الحادي عشر. وقد سار فيه على نظام للصحاح وجمع فيه الألفاظ التركية وفسرها بالعربية2. 2- الفرس: قام الفرس بترجمة بعض المعاجم العربية ووضع معاجم فارسية عربية على نمط بعض آخر. 1- فمن المعاجم العربية المترجمة: "الصراح من الصحاح" وهو ترجمة لصحاح الجوهري مع إبقاء الآيات والأحاديث والشعر والأمثال باللغة العربية، وقام بهذه الترجمة أبو الفضل محمد بن خالد القرشي عام 681 هـ. 2- أما المعاجم العربية التي نسج على منوالها فأشهرها معجما الصحاح وديوان الأدب. أ- فقد ألف هندوشاه بن سنجر الكيزاني "كان حيا سنة 730 هـ".

_ 1 يقول بروكلمان: "كان ديوان الأدب مثالًا للكتاب الذي ألفه الكاشغري وسماه ديوان لغات الترك". "s, 1, 195". 2 مقدمة الصحاح، ص 210، 211.

"صحاح العجم" على ترتيب صحاح الجوهري وقال: "سميته بهذا الاسم لكونه على أسلوب صحاح العربية"1. ب- مصادر الزوزني وهو معجم للمصادر مرتبة بحسب أبواب أفعالها ألفه القاضي أبو عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني المتوفي سنة 486هـ وهو معجم عربي فارسي بدأ بمقدمة موجزة تحدث فيها المؤلف عن منهجه وذكر أنه تأثر "بديوان الأدب". جـ- تاج المصادر لبو جعفرك المتوفى عام 544 هـ. وهو معجم عربي فارسي يبدأ بذكر المصدر العربي ثم يذكر معناه باللغة الفارسية. والمصادر فيه مرتبة على أبواب أفعالها على النحو الذي فعاه ديوان الأدب2. وأخيرًا يجب ألا ننسى جانبين آخرين يظهر فيهما التأثير العربي بوضوح وهما: 1- جانب الكتابة أو الحروف الهجائية العربية التي استعارتها كثير من الشعوب التي دخلت في حكم الإسلام مثل الفرس والأتراك وما يزال الفرس يكتبون بها لغتهم، أما الأتراك فقد تركوها على مصطفى كامل أتاتورك واستبدلوا بها الحروف اللاتينية. 2- جانب العروض أو موسيقى الشعر وقوالبه. وقد ظهر التأثير العربي بوضوح في الشعر الفارسي والسرياني يقول الدكتور على الشابي

_ 1 المرجع ص 207، 210. 2- راجع "الفارابي اللغوي"، رسالة ماجستير للمؤلف ص 345 وما بعدها.

"نشأ الشعر الفارسي متأثرًا بالشعر العربي شكلًا وموضوعًا" ويقول عن "منو جهري" الشاعر الفارسي الغنائي " كان للقصيدة العربية بمفهومها الفني أثر واضح في نشأة القصيدة الفارسية...."، ويقول بعد أن عرض نماذج لشعره: "إنها تعتبر أنموذجًا حيًّا للقصيدة الفارسية من حيث تأثرها بالقصيدة العربية شكلًا وموضوعًا" 1. أما تأثر السريان فقد تمثل في شكل محاكاتهم للعرب في القوافي. وأول من أدخلها في شعرهم يوحنا بن خلدون في القرن الحادي عشر الميلادي2.

_ 1 الأدب الفارسي في العصر الغزنوي ص 220، 221. 2 تاريخ اللغة السريانية لزاكية رشدي ص 268 - 270.

المراجع

المراجع: أولًا: المراجع العربية 1- الآداب السامية لمحمد عطية الإبراشي - ط أولى 1946. 2- ابن الطيب الفاسي وأثره في المعجم العربي - رسالة دكتوراه إعداد علي حسين البواب "مخطوطة" 1978. 2- أبنية الأسماء والمصادر لابن القطاع - مصورة دار الكتب المصرية 6111 هـ. 4- أبو بكر الزبيدي وآثاره في النحو واللغة - نعمة رحيم العزاوي - بغداد 1975. 5- أبو علي الفارسي للدكتور عبد الفتاح شلبي - رسالة دكتوراه بمكتبة كلية دار العلوم. 6- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي - مصر - 1306. 7- إحصاءات جذور معجم لسان العرب - د. علي حلمي موسى - جامعة الكويت. 8- إحياء النحو لإبراهيم مصطفى - مصر 1951. 9- أخبار النحويين البصريين للسيرافي - نشر كرينكو. 10- الأدب الفارسي في العصر الغزنوي للدكتور علي الشابي - تونس 1965 11- أساس البلاغة للزمخشري. 12- أسباب حدوث الحروف لابن سينا تحقيق محمد حسان الطيان ويحيى مسير عام - دمشق 1983. 13- الاستدراك على سيبويه للزبيدي - روما 1890. 14- أسطورة الأبيات الخمسين في كتاب سيبويه - للدكتور رمضان عبد التواب - مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق جـ2 م 49. 15- الأصوات اللغوية للدكتور إبراهيم أنيس - ط ثالثة.

16- أصوات اللغة عند ابن سينا للدكتور إبراهيم أنيس - مؤتمر مجمع اللغة العربية 17 يناير 1963. 17- إضاءة الراموس للفاسي - مخطوطة دار الكتب المصرية 500 لفة. 18- الأضداد للأصمعي - بيروت 1913. 19- الأضداد لابن السكيت ولأبي حاتم - مخطوطة دار الكتب المصرية 332 لغة تيمور. 20- إعجاز القرآن للباقلاني - تحقيق السيد أحمد صقر - دار المعارف. 21- إعراب القرآن للنحاس - مخطوطة دار الكتب المصرية 48 تفسير، وتحقيق الدكتور زهير غازي. 22- الإفصاح في فقه اللغة لعبد الفتاح الصعيدي وحسن يوسف موسى - ط ثانية. 23- الاقتراح في علم أصول النحو للسيوطي - حيدر آباد 1310، ومخطوطة دار الكتب المصرية. 24- أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد للشرتوني. 25- إنباه الرواة للقنطي - تحقيق أبو الفضل. 26- الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري. 27- الانتصار لسيبويه من المبرد - مخطوط 605 نحو تيمور بدار الكتب المصرية. 28- الانتصار لسيبويه من المبرد- مقال للدكتور أحمد مختار عمر بمجلة كلية المعلمين - الجامعة الليبية - العدد الأول. 29- البارع في اللغة لأبي علي القالي - تحقيق هاشم الطعان - بيروت 1975. 30- البحث اللغوي عند الهنود - للدكتور أحمد مختار عمر - دار الثقافة ببيروت.

31- البحر المحيط لأبي حيان - القاهرة 1328. 32- البديع في الشواذ لابن خالويه - القاهرة 1934. 33- البرهان في علوم القرآن للزركشي - تحقيق أبو الفضل إبراهيم. 34- البستان لعبد الله البستاني. 35- بعض البحوث اللغوية عند الجاحظ - مازن الوعر - مجلة المعرفة الدمشقية العدد 234 - أغسطس 1981. 36- بغية الوعاة للسيوطي. 37- بقايا اللهجات العربية - أنولتمان - مجلة كلية الآداب - مايو 1948. 38- البيان والتبيين للجاحظ - تحقيق عبد السلام هارون. 39- تاج المصادر أبو جعفرك - الهند 1320. 40- تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان - الهلال 1957. 41- تاريخ الأدب العربي لبروكلمان - ترجمة عبد الحليم النجار، إلى جانب الأصل الألماني. 42- تاريخ الصلات بين الهند والبلاد العربية لمحمد إسماعيل الندوى - بيروت - ط أولى. 43- تاريخ اللغة السريانية - د. زاكية رشدي - مثال بمجلة كلية الآداب جامعة القاهرة. 44- تاريخ اللغة العربية في مصر - د. أحمد مختار عمر - القاهرة 1970. 45- تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب لأبي حيان - تحقيق د. أحمد مطلوب وخديجة الحديثي - العراق 1977. 46- التذييل والتكميل في شرح التسهيل لأبي حيان - مخطوطة دار الكتب المصرية 6017 هـ. 47- ترتيب القاموس المحيط للشيخ الطاهر أحمد الزاوي. 48- التطور النحوي للغة العربية لبرجشتراسر - القاهرة 1981.

49- تعليق الفرائد لابن الدماميني - مخطوطة دار الكتب المصرية 1009 نحو. 50- التفاحة في النحو لأبي جعفر النحاس - مخطوطة دار الكتب المصرية 6802 هـ. 51- التفكير الصوتي عند العرب لهنري فليش - ترجمة د. عبد الصبور شاهين - مجلة مجمع اللغة العربية 1968. 52- التقفية في اللغة لأبي بشر اليمان بن أبي اليمان - تحقيق د. خليل العطية - العراق 1976. 53- التكملة والذيل والصلة للزبيدي تحقيق مصطفى حجازي - القاهرة 1986. 54- التكملة والذيل والصلة للصغاني تحقيق مجموعة من الأساتذة - مجمع اللغة العربية بالقاهرة. 55- تكملة المعاجم العربية - رينهارت دوزي - ترجمة محمد سليم النعيمي - العراق 1978. 56- تكملة المعاجم العربية - رينهارت دوزي - ترجمة محمد سليم النعيمي - العراق 1978. 56- تنقيح الألباب في شرح غوامش الكتاب لابن خروف - مخطوطة دار الكتب المصرية 530 نحو تيمور. 57- تهذيب الصحاح للزنجاني - تحقيق عبد السلام هارون وأحمد عبد الغفور العطار. 58- تهذيب اللغة للأزهري - تحقيق مجموعة من العلماء - ط القاهرة. 59- ثلاث رسائل في أعجاز القرآن للرماني والخطابي والجرجاني - دار المعارف. 60- الجاسوس على القاموس لأحمد فارس الشدياق - القسطنطينية 1299. 61- الجمهرة بن دريد، نشر كرنكو وآخر - حيدر آباد.

62- جهود ابن سينا في اللغة والأصوات - د. أحمد مختار عمر - مجلة البحث العلمي والتراث - مكة 1402 هـ. 63- حاشية ابن الدماميني على المغني - مخطوطة دار الكتب المصرية 1757 نحو. 64- الحجة لأبي على الفارسي - مصورة دار الكتب المصرية 462 قراءات. 65- الحجة لابن خالويه - مخطوطة دار الكتب المصرية 19523 ب. 66- حضارة العرب لغوستاف أوبون - ترجمة عادل زعيتر - 1964. 67- حضارة الهند لغوستاف لوبون - ترجمة عادل زعيتر 1948. 68- الحيوان للجاحظ - تحقيق عبد السلام هارون. 69- خزانة الأدب للبغدادي - ط بولاق. 70- الخط العربي وتطوره لسهيلة الجبوري - بغداد 1962. 71- الخليل بن أحمد للدكتور مهدي المخزومي - بغداد 1960. 72- دائرة المعارف الإسلامية - الأصل الانجليزي والترجمة العربية. 73- دار المعاجم بأكسفورد - د. صفاء خلوصي - مجلة العربي - مايو 1979. 74- الدراسات النحوية واللغوية عند الزمخشري - د. فاضل السامرائي - العراق 1971. 75- دراسات في القاموس المحيط - د. محمد مصطفى رضوان - ليبيا 1973. 76- دراسة السمع والكلام - د. سعد مصلوح - عالم الكتب بالقاهرة 1980. 77- دروس في علم أصوات العربية - جان كانتينو - ترجمة صالح القرمادي - تونس 1966. 78- دعوات الإصلاح للنحو العربي قبل ابن مضاء للدكتور أحمد مختار عمر - مجلة الأزهر - مجلة الأزهر، شعبان 1387. 79- دلالة الألفاظ للدكتور ابراهيم أنيس. 80- ديوان الأدب للفارابي "الأجزاء 1 - 4 " - تحقيق د. أحمد مختار عمر - مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

81- ديوان لغات الترك للكاشغري - دار الخلافة العلية 1333. 82- ديوان النابغة الذبياني - تحقيق د. شكري فيصل - دار الفكر. 83- رأي في بعض الأصول اللغوية والنحوية للأستاذ عباس حسن. 84- الرد على النحاة لابن مضاء، تحقيق د. شوقي ضيف 1947. 85- رسالة الغفران للمعري، تحقيق د. بنت الشاطئ 1950. 86- رسالة الملائكة للمعري، تحقيق سليم الجندي، دمشق 1944. 87- سر صناعة الإعراب لابن جني- تحقيق مصطفى السقا وآخرين 1954. 88- سر الليال في القلب والإبدال لأحمد فارس الشدياق. 89- سيبويه إمام النحاة - على النجدي ناصف 1953. 90- الشافية لابن الحاجب. 91- شذا العرف في فن الصرف للحملاوي. 92- شرح الاقتراح لابن علان، مخطوطة دار الكتب المصرية 666 نحو تيمور. 93- شرح الألفية لابن عقيل. 94- شرح الألفية للأشموني. 95- شرح ألفية ابن معطي لابن الخباز، مصورة دار الكتب المصرية 1823 نحو. 96- شرح الجمل لابن عصفور، مخطوط دار الكتب المصرية 332 نحو تيمور. 97- شرح الجمل لابن الضائع، مخطوط دار الكتب المصرية 19 نحو. 98- شرح ديوان الحماسة للمعري، مخطوط دار الكتب المصرية 308 أدب. 99- شرح شذور الذهب لابن هشام، بحاشية الأمير. 100- شرح كفاية المتحفظ لابن الطيب الفاسي، مخطوط دار الكتب المصرية 14 لغة ش. 101- شرح المعلقات لأبي جعفر النحاس مخطوطة المتحف البريطاني. 102- شرح مفصل الزمخشري لابن يعيش.

103- الشفاء - في النفس لابن سينا - لندن 1959. 104- شمس العلوم لنشوان بن سعيد، طبعتا ليدن والحلبي. 105- الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس، القاهرة 1910. 106- صبح الأعشى للقلقشندي. 107- الصحاح للجوهري بطبعتيه. 108- صحيح مسلم بشرح النووي - القاهرة 1347. 109- ضحى الإسلام لأحمد أمين، ط سابعة. 110- الضرائر وما يجوز للشاعر دون الناثر للألوسي، السلفية 1341 111- طبقات النحويين واللغويين للزبيدي، تحقيق أبو الفضل إبراهيم. 112- العباب الزاخر واللباب الفاخر للصغاتي "حرف الغين " تحقيق محمد حسن آل ياسين - العراق 1980. 113- عبث الوليد للمعري، دمشق 1936. 114- العربية ليوهان فك. ترجمة د. عبد الحليم النجار، دار الكتاب العربي 1951. 115- علم اللغة للدكتور محمود السعران، دار المعارف 1962. 116- علم اللغة العام، القسم الثاني: الأصوات للدكتور كمال بشر - دار المعارف 1970. 117- العمدة لابن رشيق، القاهرة 1344. 118- العمدة في الجراحة - يعقوب بن اسحاق المعروف بابن القف - حيدر آباد - الجزء الأول - ط أولى. 119- العين للخليل بن أحمد، تحقيق د. عبد الله درويش ط بغداد. وتحقيق د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي ط ثانية. 120- الغريب المصنف لأبي عبيد، مخطوطة دار الكتب المصرية 121 لغة. 121- الفارابي اللغوي وتحقيق مقدمة معجمه ديوان الأدب للدكتور أحمد مختار عمر، مجلة معهد المخطوطات نوفمبر 1961. 122- الفهرست لابن النديم.

123- في أصول النحو لسعيد الأفغاني، بيروت 1963. 124- في اللهجات العربية للدكتور إبراهيم أنيس، ط ثانية. 125- القانون في الطب لابن سينا - ط روما. 126- القراءات واللهجات لعبد الوهاب حمودة، ط أولى 1948. 127- قصة الكتابة العربية لإبراهيم جمعه - سلسلة اقرأ. 128- القلب والإبدال لابن السكيت، بيروت 1903. 129- القواعد النحوية مادتها وطريقتها لعبد الحميد حسن، القاهرة 1946. 130- القياس في اللغة لمحمد الخضر حسين - السافية 1353. 131- الكافية لابن الحاجب. 132- كتاب التنبيه والإيضاح لابن بري - الجزء الأول - تحقيق مصطفى حجازي - القاهرة 1980. 133- كتاب الجيم لأبي عمرو الشيباني -تحقيق مجموعة من العلماء- مجمع اللغة العربية بالقاهرة. 134- كتاب الجيم لأبي عمرو الشيباني - فرنر ديم - الرياض 1980. 135- الكتاب لسيبويه طبعة بولاق والطبعة التي حققها الاستاذ عبد السلام هارون. 136- كتاب في أصول اللغة، مجمع اللغة العربية في مصر 1969. 137- كتاب ليس لابن خالويه - تحقيق العطار، دار مصر للطباعة. 138- كتاب الموازنة بين اللغة العبرانية والعربية لابن بارون - تحقيق وتقديم وتعليق P K Kokovtsov. 139- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة. 140- كفاية المتحفظ لابن الأجدابي، طبعات متعددة. 141- لحن العامة في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة للدكتور عبد العزيز مطر 1966. 142- لسان العرب لابن منظور، طبعتا بولاق وبيروت.

142- اللسان العربي، مجلة المكتب الدائم لتنسيق التعريب بالمغرب "حتى المجلد 17". 144- اللغة والنحو بين القديم والحديث للأستاذ عباس حسن، القاهرة. 145- اللغة والنحو للدكتور حسن عون - ط أولى 1952. 146- متخير الألفاظ - ابن فارس - تحقيق هلال ناجي - طبعة الرباط. 147- مجلس ثعلب، تحقيق عبد السلام هارون - ط المعارف. 148- مجلة مجمع اللغة العربية بمصر. 149- مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، مجلد 32 جزء 1 عام 1957. 150- مجمع اللغة العربية في ثلاثين عامًا: ماضيه وحاضره، القاهرة 1964. 151- مجمع اللغة العربية في ثلاثين عامًا: المجمعيون، القاهرة 1966. 152- مجمع اللغة العربية في خمسين عامًا - د. شوقي ضيف - 1984. 153- مجمل اللغة لابن فارس - تحقيق هادي حسن حمودي - الكويت 1985. 154- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات لابن جني، مخطوطة دار الكتب المصرية 252 قراءات. 155- المحيط للصاحب بن عباد، مخطوطة دار الكتب المصرية 42 لغة، والقسم الذي حققه الشيخ محمد حسن آل ياسين "الجزء الأول والثاني". 156- مختار القاموسي للزاوي. 157- المختار من صحاح اللغة لمحمد محيى الدين وآخر - القاهرة. 158- المخصص لابن سيده - ط بولاق. 159- المدارس النحوية للدكتور شوقي ضيف - ط المعارف. 160- المدخل إلى دراسة النحو العربي - عبد المجيد عابدين - ط أولى 1951. 161- مدرسة البصرة النحوية - د. عبد الرحمن السيد - دكتوراه بدار العلوم.

162- مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو للدكتور مهدي المخزومي. 163- مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي. 164- المزهر للسيوطي. تحقيق جاد المولى وآخرين. 165- المسائل والأجوبة لابن قتيبة - مخطوطة دار الكتب المصرية 331 لغة تيمور. 166- المساعد - الأب أنستاس ماري الكرملي - بغداد 1972. 167- المستشرقون لنجيب العقيقي. دار المعارف 1964. 168- المصادر للزوزني. مخطوطة دار الكتب المصرية 58 مجاميع. 169- المعاجم العربية للدكتور عبد الله درويش - القاهرة 1969. 171- المعاجم اللغوية - دكتور محمد أحمد أبو الفرج - القاهرة 1966. 172- معاني القرآن للنحاس - مخطوطة دار الكتب المصرية 385 تفسير. 173- معاني القرآن للفراء - مخطوطة دار الكتب المصرية 10 تفسير ش. 174- معجم الأدباء لياقوت الحموي. 175- المعجم الإنجليزي بين الماضي والحاضر - د. داود حلمي السيد - الكويت 1978. 176- المعجم العربي بين الماضي والحاضر - د. عدنان الخطيب 1966 - 1967. 177- المعجم العربي للدكتور محمد سالم الجرح "محاضرات غير مطبوعة". 178- المعجم العربي للدكتور حسين نصار - دار مصر بالفجالة. 179- المعجم الكبير - مجمع اللغة العربية. 180- المعجم اللغوي التاريخي لفيشر مجمع اللغة العربية بالقاهرة 1967. 181- معجم مقاييس اللغة لابن فارس. تحقيق عبد السلام هارون. 182- المعجم الوجيز - مجمع اللغة العربية بالقاهرة - ط أولى. 183- المعجم الوسيط - مجمع اللغة العربية بالقاهرة - ط أولى وثانية.

184- المقتضب للمبرد، مخطوطة دار الكتب المصرية 909: نحو. 185- مقدمة الأدب للزمخشري - مخطوطات دار الكتب المصرية. 186- مقدمة الصحاح لأحمد عبد الغفور العطار. 187- مقدمة في النحو لخلف الأحمر - دمشق 1961. 188- مناهج البحث في اللغة - د. تمام حسان. 189- من أسرار اللغة - د. ابراهيم أنيس. 190- من تاريخ النحو لسعيد الأفغاني - دار الفكر. 191- من قضايا اللغة والنحو للدكتور - أحمد مختار عمر - ط أولى - القاهرة 1974. 192- المنجد في اللغة للأب لويس معلوف. 193- المنصف لابن جني- تحقيق إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين - الحلبي - أولى. 194- منطق أرسطو والنحو العربي للدكتور إبراهيم مدكور - مجلة الأزهر رمضان وشوال 1371. 195- منهج السالك لأبي حيان. 196- المهرجان الألفي لأبي العلاء - المجمع العلمي العربي - دمشق 1945 197- الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء للمرزباني. 198- موطئة الفصيح لابن الطيب الفاسي - مخطوطة دار الكتب المصرية 179 لغة. 199- النحو العربي للدكتور مازن المبارك - ط أولى 1965. 200- نشأة النحو لمحمد الطنطاوي. 201- نشأة النحو عند السريان وتاريخ نحاتهم للدكتورة زاكية رشدي. 202- النشاط الثقافي في ليبيا للدكتور أحمد مختار عمر - مطبعة دار الكتب بيروت 1971. 202- النشر في القراءات العشر لابن الجزري.

204- نظرات في اللغة عند ابن حزم - سعيد الأفغاني - بيروت 1969. 205- نظرات في المعجم الوسيط - د. عدنان الخطيب مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق 1963 - 1967. 206- نظرة في النحو لطه الراوي. 207- نظرية الحقول الدلالية - مقال للدكتور أحمد مختار عمر - مجلة كلية الآداب - جامعة الكويت - العدد 13. 208- همع الهوامع شرح جمع الجوامع للسيوطي. 209- وفيات الأعيان لابن خلكان - تحقيق محيى الدين. 210- يونس - د. حسين نصار - سلسلة أعلام العرب.

ثانيا: المراجع الأجنبية

ثانيا: المراجع الأجنبية اسكانر

اسكانر

كتب أخرى للمؤلف

كتب أخرى للمؤلف: * تاريخ اللغة العربية في مصر - الهيئة العامة للتأليف والنشر - القاهرة 1970. * النشاط الثقافي في ليبيا من الفتح الإسلامي حتى بداية العصر التركي منشورات الجامعة الليبية 1971. * البحث اللغوي عند الهنود وأثره على اللغويين العرب - دار الثقافة ببيروت 1972. * أسس علم اللغة - ترجمة عن الإنجليزية - طبعتان 1973، 1983 - عالم الكتب بالقاهرة. * من قضايا اللغة والنحو - عالم الكتب بالقاهرة 1974. * ديوان الأدب للفارابي - تحقيق ودراسة - مطبوعات مجمع اللغة العربية بالقاهرة - خمسة أجزاء 1974 - 1979. * المنجد في اللغة لكراع - تحقيق بالاشتراك - عالم الكتب بالقاهرة 1976. * دراسة الصوت اللغوي - ثلاث طبعات من 1976 - 1986 - عالم الكتب بالقاهرة. * العربية الصحيحة - عالم الكتب بالقاهرة 1981. * اللغة واللون - دار البحوث العلمية بالكويت 1982. * علم الدلالة - دار العروبة بالكويت 1982. * معجم القراءات القرآنية - ثمانية أجزاء - تأليف بالاشتراك - جامعة الكويت 1982 - 1985. * النحو الأساسي - تأليف بالاشتراك - ذات السلاسل بالكويت 1984. * المعجم العربي الأساسي - تأليف بالاشتراك - المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم - تحت الطبع.

§1/1