البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح
زيادة الراسي
مقدمة
البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح تأليف: زيادة بن يحيى الراسي تحقيق: سعود بن عبد العزيز الخلف بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن الله أرسل نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. وجعل سبحانه وتعالى في هذا الدين بينات الهدى، ودلائل الرشاد ظاهرة واضحة لمن نظر إليها بعين بصيرة. وقد اهتدى بتلك الدلائل أمم من ورائها أمم، فتح الله بصائرهم على النور والهدى، فتركوا الغواية والضلالة، وسلكوا سبيل السعادة والفلاح. والمهتدون للحق طوائف، وأصناف شتى من الناس، فيهم الرئيس والمرؤوس، والعالم وغير العالم، والحر والعبد، والذكر والأنثى، حتى عم هذا النور والهدى أرجاء الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاًًًًًًًًً تلو أفواج. وكان من أولئك المهتدين من هو رأس في العلم في أهل ملته، وخاصة من اليهود والنصارى، ممن سلموا من الحسد والكبر، ممن كتب
ومن الملاحظ أن من ذكرناهم وغيرهم كثير لم يكونوا من عوام الناس، وإنما هم رؤوس أهل ملتهم السابقة، فلم تكن تنقصهم دنيا ولا مكانة اجتماعية، كما لا ينقصهم الذكاء والفهم، بل ربما بإسلامهم يفقدون كل الأمور الدنيوية، التي كانت محققة لهم أوضاعاً اجتماعية عالية، بل قد يعرضون أنفسهم للقتل، ومع كل هذا لم يتحملوا الاستمرار على تلك الحال فيغشوا أنفسهم ببقائهم على الباطل بعد أن اقتنعوا قناعة تامة بالإسلام، فأعلنوا إسلامهم متحملين في سبيل ذلك الضرر الجسدي والمادي الذي قد يتعرضون له، بل إنهم قاموا بالدفاع عن الإسلام والدعوة إليه، والهجوم على أديانهم السابقة الباطلة وفضحها، حتى يؤدوا بعض الواجب الملقى على عواتقهم بدخولهم في الإسلام. وهذا كله دليل واضح على أن الإسلام هو الدين الحق، وأن براهين صحته وشرفه وكماله متوفرة بكثرة في كتابه وتعاليمه، ولا يعمى عنها إلا أعمى البصيرة، فاقد الحس بسبب الهوى وحب الدنيا. وكان من هذه الطائفة المباركة، التي اهتدت إلى الإسلام، بتوفيق الله وهدايته ورحمته بعد نظر وتمحيص وبحث وتحقيق وتدقيق؛ الشيخ زيادة ابن يحيى النصب الراسي، الذي كان فيما يظهر من رجال دين النصارى وذوي العلم فيهم، ولكن الباطل لجلج، في ثناياه أدلة بطلانه وبراهين فساده وتهافته، ولا يحتاج إلا إلى قريحة صحيحة، ورغبة جادة في الحق، ليسطع
في قلب الإنسان النور والحق، يضيء له الظلمات، ويطفيء الشبهات والشهوات، ولا يحتاج إلا إلى عزيمة رجل يشتري الآخرة بالدنيا. وهذا ما كان من الشيخ زيادة بن يحي، الذي اتضح له الحق فأعلن إسلامه، وبدأ يدعو إلى هذا الدين بالقدر والطاقة التي مكنه الله منها، ووصل إلى علمنا من جهده في ذلك كتابان: "البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح"، وكتاب "الأجوبة الجلية في دحض الدعوات النصرانية". أما الكتاب الأول، وهو "البحث الصريح" فهو موضوع التحقيق في هذا الكتاب، وأما الكتاب الثاني، وهو "الأجوبة الجلية" فلم أقف له على أثر، وإنما وقفت على تلخيص له للشيخ "محمد بن عبد الرحمن الطيِّببي الدمشقي"1. وقد قسمت عملي في الكتاب إلى قسمين: القسم الأول: دراسة المؤلف والكتاب، وجعلته في فصلين: الفصل الأول؛ يتضمن التعريف بالمؤلف: اسمه ومولده ونشأته ووفاته، وإسلامه، وعلمه، ومصنفاته. الفصل الثاني: دراسة الكتاب، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في موضوع الكتاب.
المبحث الثاني: في وصف النسخ الخطية. المبحث الثالث: عملي في الكتاب. القسم الثاني: تحقيق النص. مما تجدر الإشارة إليه أن لغة الكتاب ركيكة جداً، وأخطاؤه اللغوية لا تكاد تحصر من كثرتها، وهذا أخذ مني جهداً كبيراً في تفهم مقصد المصنف وتصحيح عباراته، وكان ذلك من أكبر العقبات التي واجهتني في الكتاب. فآمل أن أجد لدى القارئ العذر فيما لو وقف على ركاكة في العبارة فاتت، أو خطأ لغوي لم أتنبه له، لكثرة ذلك، وحسبي أني اجتهدت. وكان الشيخ محمد الطيّّّّبي في تلخيصه لكتاب "البحث الصريح" قد عانى من ذلك، فقال -بعد أن ذكر نقل مصطفى بيك، ويوسف شاتيلا لكتابي المؤلف- "فلم يسلما من التحريف الذي يتعسر معه فهم المعنى في كثير من المواضع ... ، وقال: وربما لا تخلو رسالتي عن ركاكة في بعض المواضع سرت إلي من تحريف الأصل".1 هذا وأسأل الله عز وجل أن يجزي مؤلف الكتاب الشيخ زيادة بن يحيى خير الجزاء، بما أظهر في كتابه هذا من النصيحة الصادقة في هداية النصارى، والدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى الحق، وأن يتجاوز
الله لهم الهداية، فإذا اهتدوا إلى الإسلام شعروا بعظيم الضلالة التي كانوا عليها، فيجتهدون في نصرة دين الإسلام ودعوة بني جنسهم، فيصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" 1. فيصبح هؤلاء المهتدون خيار الذين أسلموا من اليهود والنصارى، ويبذلون في نصرة الإسلام مثل أو أكثر مما كانوا بذلوا في نصرة أديانهم الباطلة. ولا شك أن من أوسع المجالات أمام أهل العلم منهم هو فضح الباطل وأهله، والتركيز على نقاط الضلالة في أديانهم السابقة، وإبرازها لتحذير الناس ودعوتهم، ويكون أولئك المهتدون خير من يدعو إلى الإسلام، ويحذر من الأديان الباطلة بتلك الوسيلة، لأن أهل الدار أعرف بما فيها، فقد كانوا يهوداً أو نصارى فيعرفون ما لا يعرفه غيرهم بحكم علمهم المتعمق في الديانة، واحتكاكهم المباشر بأهل ملتهم، وخاصة في ديانة يدعي أصحابها بأنّها ذات أسرار مثل النصرانية، فيكون لدعوتهم وقع مؤثر يستجيب له العديد من أصحاب الملل الباطلة. كما أن تحول بعض أهل العلم من الأديان الباطلة إلى الإسلام ودخولهم فيه، ونصرتهم له، من الأدلة الظاهرة على أن الإسلام حق لا ريب
فيه، وأن التحول لم يتم إلا بعد القناعة التامة بصحة الإسلام، فيكون هذا المهتدي شاهداً على قومه وحجة عليهم. ومن المعلوم أن الاهتداء للإسلام من قبل بعض علماء اليهود والنصارى واكب ظهور الإسلام، واستمر وسيستمر إلى يوم القيامة، مادام في الأرض عقلاء يريدون الحق ويبحثون عنه. وكان من أوائل المهتدين عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وقد كان سيد اليهود وكبيرهم وابن كبيرهم في المدينة، وإسلامه حجة على جميع اليهود إلى يوم القيامة. وممن أسلم من كبار النصارى وملوكهم النجاشي ملك الحبشة، وذلك في العهد المكي، بعد أن اتصل بالإسلام عن طريق مهاجرة الحبشة من الصحابة رضي الله عنهم. ومنهم علي بن ربّن الطبري، الذي اهتدى للإسلام في عهد أبي جعفر المنصور، وكان قبل إسلامه نصرانياً ذا علم بالفلسفة والطب، وكتب في الدعوة إلى الإسلام كتابه "الدين والدولة"، و"الرد على أصناف النصارى". والسموأل بن يحيى المغربي المهتدي، كان من أحبار اليهود، عالماً بالطب، توفي سنة 570هـ، وله كتاب "إفحام اليهود".
ومنهم اللورد هدلي الفاروق، الذي كان عضواً في مجلس اللوردات البريطاني، وأعلن إسلامه عام 1913هـ، وتسمى برحمة الله الفاروق، وكتب كتاباً في الإسلام "رجل من الغرب يعتنق الإسلام". وناصر الدين دينيه الفرنسي، كان نصرانياً رساماً مبرزاً، أسلم عام 1927م، وكتب كتاباً سماه "أشعة خاصة بنور الإسلام"، وتوفي سنة 1929م. وعبد الأحد داود، الذي كان كاهناً كلدانياً، حصل على أستاذ في علم اللاهوت وزعيم طائفة الروم الكاثوليك لطائفة الكلدانيين، وكتب كتابيه "الإنجيل والصليب"، و"محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس ". والقس إبراهيم خليل الذي كان قساً في كنيسة "بافور" الإنجيلية بأسيوط مصر، وكان له نشاط تنصيري كبير، وأعلن إسلامه سنة 1959م، وله كتب عديدة في الدعوة إلى الإسلام، منها: "محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن"، و"المستشرقون والمبشرون في العالم الإسلامي" و"ومحاضرات في مقارنة الأديان"، و"المسيح في التوراة والإنجيل والقرآن" 1، وغيرها من الكتب. وغير هؤلاء كثير ممن لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل.
عن سيآته ويغفر له زلاته. كما أسأله أن يتقبل مني عملي في الكتاب، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، كما أسأله أن يجزي خيراًًً كل من أعانني على إنجازه وإتمامه بإعارة كتاب أو إرشاد إلى معلومة أو طباعة أو تصحيح، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتبه: سعود بن عبد العزيز الخلف. 1422/11/25هـ
القسم الدراسي
القسم الدراسي الفصل الأول: التعريف بالمؤلف ... الفصل الأول التعريف بالمؤلف لم أقف على ترجمة للمؤلف يمكن أن يستقي الباحث منها معلوماته، ولكن هناك إشارات عديدة في عدة مواطن من كتابه، وإشارات طفيفة لدى غيره، يمكن أن نكون منها بعض المعلومات عن المؤلف -رحمه الله-. أولاً - اسمه: ذكر المؤلف اسمه في مقدمة كتابه وهو حسب "النسخة الألمانية" زيادة بن يحيى النصب الراسي. وحسب النسخة المصرية: زيادة بن يحيى الشتل الراسي، وكتب في الهامش الأيمن أمام كلمة الشتل الراسي نسخة "النصب". وسماه إسماعيل باشا البغدادي في الذيل على كشف الظنون: زيادة الله المهتدي1. وسماه صاحب كتاب تلخيص الأجوبة الجلية ب "الشيخ زيادة". وفي كتاب الدعوة إلى الإسلام سماه "زيادة بن يحيى"2.
أما عبد المجيد الشَرَفي فقد ذكر اسمه في قائمة أسماء المؤلفين في الرد على النصارى ب "زيادة الله بن يحيى النصب الراسي المهتدي"1. وعندي أن أوثقها ما ورد في النسخة الألمانية من تسميته: زيادة بن يحيى النصب الراسي، لأن تاريخ نسخها هو 1263 هـ، أما النسخة المصرية فلم يظهر عليها أي تاريخ للنسخ، كما أن فيها تعديلات مبنية على ما في النسخة الألمانية. ولا يظهر لي صحة قولهم في اسمه "زيادة الله"، فإنها لم ترد إلا عند إسماعيل باشا في ذيل كشف الظنون، ويبدو أن عبد المجيد الشَرَفي أخذها عنه. أما تلقيبه بالمهتدي، فيبدو أنه أطلق عليه لاهتدائه إلى الإسلام بعد الضلالة. وأما نسبة الشتل الواردة في النسخة المصرية، فلم يتبين لي فيها وجه، سوى أن الزبيدي في تاج العروس ذكر أن الشتليون جماعة بريف مصر2. وفي نسبته بالنصب الراسي فإني لم أقف على من ذكر سبب هذه النسبة للشيخ. والذي يظهر لي -والعلم عند الله- أنها نسبة لمدينتين في الجزيرة
في الشام، وهما مدينة "نصيبين"1، ومدينة "رأس العين"2. والنسبة إلى نصيبين هي النصيبي كما ذكر السمعاني3، ولعلها تحرفت أو خففت، فقيل "النصب". أما النسبة إلى رأس العين فهي الراسي، والرسعني4. ويكون الشيخ زيادة بذلك قد قطن المدينتين فنسب إليهما، كما تقول: "المكي المدني"، وخاصة أن المدينتين كلتيهما من مدن الجزيرة وهما متجاورتان، والله أعلم. ثانياً: مولده، ونشأته، ووفاته: لم أقف على شيء من المعلومات التي تحدد بالضبط التاريخ الذي ولد أو توفي فيه الشيخ زيادة بن يحيى، وإنما تشير المعلومات أنه كان حياً خلال القرن الحادي عشر الهجري؛ يدل على هذا قول الشيخ محمد ابن
عبد الرحمن الطيِّبي1 في اختصاره لكتاب "الأجوبة الجلية لدحض الدعوات النصرانية" للشيخ زيادة بن يحيى، قال: "لما ألف المرحوم "الشيخ زيادة"كتابه المسمى ب "البحث الصريح" عندما تشرف بدين الإسلام في القرن الحادي عشر" 2. ومما يؤكد أن الشيخ زيادة بن يحيى كان حياً خلال منتصف القرن الحادي عشر الهجري، نقله عن كتاب السيرة الحلبية في كتابه "البحث الصريح"، حيث قال: "كما جاء هذا الخبر في أحاديثه الشريفة في سيرة حياته المنقولة في كتاب مؤلف من الشيخ علي برهان الدين الحلبي، ويسمى: "القصة الحلبية"3. والحلبي هو: علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي أبو الفرج نور الدين ابن برهان الدين الحلبي، مؤلف كتاب "السيرة الحلبية"، أصله من حلب، ومولده في مصر عام975هـ، وتوفي بها سنة 1044هـ4.
وفيما ذكرت رد واضح على عزو – المستشرق: توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" - الشيخ زيادة بن يحيى إلى القرن الثالث عشر الميلادي 1، وذلك لأن الثالث عشر الميلادي يوافق المنتصف الثاني من القرن السابع الهجري. وفيه رد على عبد المجيد الشرفي الذي أرخ للشيخ زيادة 661هـ/ 1263م2. ولا أدري من أين أخذ ذلك إلا أن يكون بناها على قول المستشرق أرنولد السابق. أما موطن نشأته فالذي يظهر أنه من أهل الشام، ومما يمكن أن يستأنس به في هذا ما سبق أن ذكرت من نسبته إن صح. كما يمكن أن يستأنس في ذلك بما ذكره "محمد بن علي الطيبي"في مقدمة "خلاصة الترجيح للدين الصحيح" بأن كتابي الشيخ زيادة بن يحيى "البحث الصريح" و"الأجوبة الجلية" وجدًا في مكتبة محمد باشا المعظم في دمشق الشام بتاريخ نحو 1265هـ، وقد تقطع ورقهما 3. ثالثاً: إسلامه: يتضح من كتاب "البحث الصريح" أن الشيخ زيادة بن يحيى كان نصرانياً، ثم هداه الله تعالى للإسلام، حيث يقول في مقدمة كتابه:
"أما بعد، فيقول العبد الفقير إلى ربه الغني، الشيخ زيادة بن يحيى النصب الراسي، المتشرف في الدين المحمدي: إنني لما كنت متفرغاً للبحث والمطالعة عن أيما هو الدين الصحيح، بكل جهد، وبغاية التنقيح، وغب الفحص والتفتيش في ذلك، قصدت أن أحرر ما قد حصلته من المقابلة في تلك المسالك، وأبينه لذوي البصائر القادحة". وقد جاء في حاشية الكتاب في النسخة الألمانية في أول المخطوط ما يلي: "اعلم أن هذا العالم المؤلف لهذا الكتاب النفيس، يشرح في هذه المقدمة اسمه، وأسباب دخوله في الدين، وأنه ما دخل إليه عن ترغيب دنيوي، ولا تخويف، ولا لغبن، ولا لحيف صار له، ولا لأسباب فساد، بل بالمطالعات بالكتب والتأملات، كما قد تراه مفنداً أمامك، وفيه يلاحظ أنه ما سبق له سابق في رفيع معانيه ودقتها" 1. وقد ذكر الشيخ "محمد بن علي الطيبي" ذلك عنه في مقدمة كتابه "خلاصة الترجيح"، حيث قال: "لما طالعت كتاب المرحوم الشيخ زيادة، الذي تشرف بدين الإسلام عامله الحي القيوم بالحسنى" 2. وذكر في بداية "تلخيص الأجوبة الجلية"، أن الشيخ زيادة تشرف بدين الإسلام في القرن الحادي عشر3.
كما عده المستشرق "توماس أرنولد" من المرتدين -يعني عن النصرانية- الذين كتبوا يبررون تغيير دينهم، ويدافعون عن العقيدة الإسلامية 1 هكذا زعم هذا المستشرق. ويتضح أيضاً أن سبب دخوله في الإسلام، هو مما تولد في نفسه من الشكوك في ديانته، مما جعله ينظر في الإسلام ويبحث ويقابل ويطالع، حتى تبين له أن الإسلام هو الحق، فهداه الله له ودخل فيه، ثم بدأ يحرر ما تبين له به بطلان ديانة النصارى وصحة الإسلام، وجعل ما حرره وسيلة لدعوة النصارى، كما سيتبين عند ذكر سبب تأليف هذا الكتاب. رابعاً: علمه: يتضح من النظر في كتاب الشيخ زيادة "البحث الصريح" أن معلومات مؤلفه عن النصرانية معلومات جيدة ومركزة، فاستدلالاته من العهد القديم والجديد متنوعة وعميقة، حيث يطالع ويقابل بين النسخ المتعددة والترجمات المتعددة من عربية ويونانية وعبرية وسريانية، ويظهر من هذا أنه يجيد كلاً من اللغة اليونانية2، والعبرية3، والسريانية4،
ويترجم منها إلى العربية، بل يطالع قواعد اللغتين اليونانية والعبرية، ويصحح ويرجح بعض الترجمات على بعض. ومن هذا يظهر لي أنه كان قبل إسلامه من علماء النصارى ورجال دينهم، لأن العلم بهذه الأمور من اختصاص رجال الدين، ولأن هذه اللغات: اليونانية والعبرية والسريانية هي لغات دينية، فقد يكون في الأصل نصرانياً سريانياً، فهو يجيد السريانية، وهي لغة نصارى سورية1 باعتباره من أهلها، أما اللغة اليونانية فإنها لغة العهد الجديد2، واللغة الدينية للنصارى الكاثوليك، أما اللغة العبرية فهي لغة العهد القديم بالنسبة للنصارى البروتستانت، ولا يستغني عنها رجال الدين النصارى. فهذا مما يوحي بأن الرجل كان من علمائهم، خاصة إذا علمنا أن عوام النصارى من أبعد الناس عن العلم الديني النصراني، بل هم في كثير من الأحيان خاصة في زمن المؤلف لا يستطيع أن يقف أحد منهم على شيء من كتب النصارى الدينية، سوى ما تأذن به الكنيسة من مقاطع مخصوصة يمكن تداولها بين العوام.
يقول موريس بوكاي: وفي عصور ليست بعيدة تماماً كانت أغلبية المسيحيين لا تعرف من الأناجيل إلا مقاطع مختارة من الأناجيل، ولم يكن هناك تداول للنص بأكمله، وفي أثناء دراساتي الثانوية بإحدى المدارس الكاثوليكية وقعت يدي على مؤلفات لفرجيل وأفلاطون، ولكن لم يحدث أبداً أن وقعت يدي على العهد الجديد1. كما يتضح من الكتاب أن لغة المؤلف العربية ضعيفة، ويظهر-والله أعلم- أنه تعلم اللغة العربية وهو كبير في السن، لأن الركاكة الشديدة ظاهرة في أسلوبه، وذلك شيء غير مستغرب على من كان نصرانياً، وخاصة رجال الدين منهم، فإنهم لا يهتمون بالعربية؛ لأن عنايتهم تكون منحصرة في لغتهم المحلية ولغة كتابهم، فلهذا يكون نطقه للعربية مثل نطق المتحدثين بها من غير أهلها، ممن تعلموها وهم كبار في السن2. خامساً - مصنفاته: صنف الشيخ زيادة بن يحيى كتابين: الأول: "البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح". وهو الكتاب المحقق في هذا العمل. وقد اختصر هذا الكتاب الشيخ محمد ابن
علي بن عبد الرحمن الطيبي في كتاب سماه "خلاصة الترجيح للدين الصحيح". وقد طبع هذا الاختصار على هامش كتاب "إظهار الحق" لرحمة الله الهندي، في طبع المطبعة المحمودية في القاهرة عام 1317هـ. الثاني: "الأجوبة الجلية في دحض الدعوات النصرانية" وهو الكتاب الثاني للشيخ زيادة بن يحيى -رحمه الله-. وهو مرتبط بالكتاب الأول، كما أفادنا بذلك الشيخ محمد بن علي الطيبي في مقدمة "تلخيص البحث الصريح" وبين أن سبب تأليف كتاب "الأجوبة الجليلة" إنما هو زيادة التوضيح لبعض الإشكالات لدى بعض مطالعي كتاب "البحث الصريح" فقال: "اعلم أن الشيخ زيادة المومأ إليه ألف أولاً "البحث الصريح"1، ثم أرسله إلى بعض محبيه2 من النصارى في محروسة مصر القاهرة، فطالعه وسلم جميع قضاياه، ثم أشكل عليه بعض آيات من القرآن العظيم، كالآيات التي تدل بظاهرها على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب خاصة، وكغيرها مما يؤيد قبل فهم معناه بعض ما تعتقده النصارى كوفاة سيدنا عيسى عليه السلام، وغير ذلك. فطلب منه أن يجيبه عنها ليسلم إسلاماً كاملاً، فألف لذلك كتاباً آخر سماه "الأجوبة الجلية لدحض
الدعوات النصرانية"، فصارت النتيجة الكاملة متوقفة على مطالعة هذين الكتابين، أعني: البحث الصريح، والأجوبة الجلية 1. وكان هذا الكتاب الأخير مع الأول سبباً -بعد هداية الله تعالى- في هداية ذلك الرجل المسمى "المنيع"، الذي أرسل له كتابه الأول، فأسلم إسلاماً صحيحاً، وطلب من الشيخ زيادة أن يلخص له الشهادات التوراتية والإنجيلية والزبورية، الدالة على نبوة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، ليتخذها ترنيمة يترنم بها كلما سبرها، فأجابه الشيخ لذلك، ثم أرسل المنيع رسالة إلى الشيخ زيادة يشكره على ما قدم له، وما وجهه إليه من النصح، وهذا نصها: "شكراً لمن وهبك هذه النعم الجسيمة، وحمداً لمن لا يبخل في أداء العطايا الثمينة، ومجداً للذي جعلك قارورة عطر تنعش قلوب ذوي العقول السليمة، إذ أنك صرت وسيطاً لانتعاش فؤادي، ونشلتني بعد موتي. يا عمدة العلماء المدققين العظام، وقدوة الجهابذة المحققين الفخام، وفضلك لا أنساه على الدوام أبداً، مورثاً إياه لمن يبغي الحياة بعدك سرمداً، ثم بعد ذلك قصدت أن أحرر لك ما قد وعيته من تعليمك، وأبسط لدى الملأ جميع ما تصببت به من تنغيمك، لكي يترنموا به شاكرين لعزته تعالى خير المنعمين، ويعلموا أن من أجله أسلمت إسلاماً حقيقياً قولياً، وفعلياً وفكرياً، وقد أقنعت ضميري بعشرة ضوابط شرعية، وتيقنت أن من يخالفها هو للحق جاحد ببراهين محكية - ثم
ذكر الضوابط العشرة، وهي حاصل البحث الصريح والأجوبة الجلية، فلا نطيل بها لعلمها من محالهاثم ختم بما نصه – والنتيجة من هذا جميعه أن هذه الضوابط العشرة التي شرحتها من خلاصة كتابيك، هي -بحمد الله- التي قادتني أن أكون مسلماً مؤمناً، وأحوجتني وألزمتني أن أقول بأعلى صوتي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله الكرام وأصحابه أجمعين".1 وهذا الكتاب لم أقف عليه، وقد قال الناسخ في آخر النسخة الألمانية من كتاب "البحث الصريح" تم هذا الكتاب الذي هو البحث الصريح في الدين الصحيح، وهو الكتاب الأول للمرحوم الشيخ زيادة بن يحيى الراسي، ويتلوه كتابه الثاني الذي هو "الأجوبة الجلية لدحض الدعوات النصرانية"، إلا أن المجلد الذي يوجد فيه البحث الصريح ينتهي هنا، ولا يوجد فيه ما ذكره الناسخ، فيبدو أنه منزوع منه، لأن المجلد لم يكن مخيطاً بل إن أوراقه مطلقة وغير مرتبطة ببعضها بخيط أو نحوه مما يسهل النزع منه، وهذا فيما يبدو ما حدث لكتاب "الأجوبة الجلية"، إلا أن الشيخ محمد بن علي الطيِّبي قد لخص هذا الكتاب أيضاً في رسالة سماها "مختصر الأجوبة الجلية لدحض الدعوات النصرانية ".
وقد طبعت بهامش: إظهار الحق. طبع المطبعة المحمودية في القاهرة سنة 1317هـ في نهاية المجلد 1/162-220. وانتهى الشيخ من اختصارها سنة 1279هـ في نحو نصف يوم، وقد طبع هذا المختصر أيضاً بتحقيق د. أحمد حجازي السقا، طبع مكتبة الإيمان بالمنصورة في القاهرة 1412هـ.
الفصل الثاني: دراسة الكتاب
الفصل الثاني: دراسة الكتاب المبحث الأول: موضوع الكتاب ... المبحث الأول: موضوع الكتاب، وفيه ثلاثة مطالب: أولاً: أهم المباحث التي اهتم المؤلف ببيانها. اهتم مؤلف الكتاب رحمه الله بإبراز النقاط، التي تدل على بطلان ديانة النصارى، كما أبرز أيضاً النقاط الأساسية التي تدل على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من كتبهم، مما تقوم به الحجة عليهم من كلامهم، فكانت مباحث الكتاب كما أفاد -رحمه الله- في مقدمة كتابه تشمل الحديث عن: أولاً: بطلان دعوى النصارى ألوهية المسيح عليه السلام، وإثبات أنه نبي كسائر الأنبياء قبله من بني إسرائيل. ثانياً: بطلان استدلال النصارى على ألوهية المسيح عليه السلام بالآيات التي كانت تظهر على يدي المسيح عليه السلام، وإثبات أن آياته ومعجزاته من جنس الآيات والمعجزات، التي أجراها الله على أيدي الأنبياء قبله، بل أجرى الله على أيديهم آيات تفوق آيات المسيح، ولم تدل عند تلك الأمم على ألوهية أولئك الأنبياء الذين ظهرت على أيديهم المعجزات، فكذلك عيسى بن مريم عليه السلام. ثالثاً: في رد مطاعن النصارى في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان بطلان كلامهم، وبيان أن الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقعت منهم أمور من جنس
ما نسب للنبي صلى الله عليه وسلم وأشد منها، ولم يطعن في أولئك الأنبياء بسببها، فكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. رابعاً: في الأدلة الدالة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل، وأنه المقصود بكثير من الوعود المذكورة في كتابي اليهود والنصارى. خامساً: في الأدلة الدالة على تحريف التوراة والإنجيل من نصوص الكتابين، مما يكون أصرح دليل على تحريفها. بعد ذلك ذكر المصنف -رحمه الله- خاتمة اشتملت على أهم النتائج التي توصل إليها من خلال بحثه. ثانياً: منهج المؤلف ومصادره. سلك المؤلف رحمه الله منهجاً استقرائياً، استعرض فيه الأدلة الدالة على بطلان دعاوى النصارى، سواء في دعوى ألوهية المسيح عليه السلام، أو دعوى صحة التوراة والإنجيل، وأبان عن بطلانها بما يقابلها وينقضها من المعلومات الواردة في التوراة والإنجيل. كما استعرض شبه القوم ودعاويهم في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأبان عن بطلانها بنصوص من كتبهم. كما استعرض العديد من الأدلة الدالة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل. وكان من أهم مصادر المؤلف الإسلامية: القرآن الكريم، واعتمد في الأمور التاريخية على كتاب "السيرة الحلبية"، وفي إثبات أسماء النبي صلى الله عليه وسلم على كتاب "دلائل الخيرات".
أما مصادره النصرانية، فكان من أهمها: كتابا العهد القديم والجديد، كما رجع في تاريخ الكنيسة إلى كتاب "سعيد بن البطريق"، ورجع أيضاً إلى تاريخ "يوسيفوس" وهو مؤرخ يهودي، ومؤرخ آخر أسماه "لافجانيوس"، كما أشار إلى أنه طالع بعض المختصرات في رد بعض أصحاب الملل بعضهم على بعض، وأفاد منها، إلا أنه لم يسم شيئا منها. كما رجع إلى قواميس وكتب لغة يونانية وعبرية، مما يشعر بمعرفته بكل من اللغتين اليونانية والعبرية كما سبق بيانه. ثالثاً: قيمة الكتاب العلمية. الكتاب كغيره من الكتب التي كتبها أصحابها من منطلق دعوى يقيمون بها الحجة على النصارى ببطلان ديانتهم، ووجوب الإيمان بنبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، والدخول في الإسلام، فجل الكتب في هذا المجال -إن لم يكن كلها- تعرضتللموضوعات التي تعرض لها المؤلف - رحمه الله -، بدءاً بصاحب كتاب "تخجيل من حرف الإنجيل" وغيره، ثم من جاء بعد ذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية، ومن جاء بعده كرحمة الله الهندي، والمهتدي عبد الأحد داود. وغيرهم ممن كتب في هذا المجال، لكن المصنف -رحمه الله- رجع إلى مراجع ذات قيمة في الموضوع خاصة من الناحية اللغوية، وذلك فيما يتعلق باللغة اليونانية واللغة العبرية.
الملاحظات على الكتاب: ما من كاتب يكتب إلا ويظهر في كتابته ما يعتري البشر من نقص، وما من أحد إلا يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام. ومؤلف الكتاب الشيخ زيادة بن يحيى -رحمه الله- عليه ملاحظات عديدة في كتابه هذا، من أهمها: 1: ركاكة الأسلوب. من الملاحظات الواضحة ركاكة أسلوب المؤلف -رحمه الله- مما يشعر أنه لم يتعلم العربية إلا وهو كبير السن، حتى أنه يصعب في بعض الأحيان فهم مراده، فمن ذلك: قوله في المقدمة "قصدت أن أحرر ما قد حصلته من المقابلة في تلك المسالك، وأبينه لدى ذوي البصائر القادحة، خواض بحور هذه المعاني الشاسعة، لكي يتفحصوه بكل جهد وتدقيق، ويمعنوا نظرهم فيه من دون غرض وتمحيق، ويفهموا أن الدين المحمدي هو الذي ترجحت عليه البينات، وأنه هو الدين الصحيح، ومن اتخذ سواه دينا فهو من الخاسرين" صريح. ص 53. وقوله في الباب الثاني "رد على الافتخار الذي يفتخرون به النصارى، أي: بسمو آيات عيسى وأنها فائقة، وقصدهم بذلك لكي يثبتوا بدعتهم منها أعني: الألوهية له". ص 55.
وقوله في الشهادة الثانية "أقول: إن قد تتضمن هذه الشهادة على أن الفريسيين علماء اليهود حتى إلى زمان مجيئ عيسى عليه السلام كان متداول بينهم عن آبائهم وأجدادهم، المتذاكرين في كلام النبي موسى، بأن الله تعالى يرسل نبياً وهم في استنظاره كالمسيح، ومن حيث علماء اليهود كانوا متحيرين في مجئ النبي المخبر عنه من موسى، ومعربسين في قصة يوحنا بن زكريا عليهما السلام" ص 144. وعلى هذا النحو الكتاب كله تقريباً. 2: كثرة الأخطاء اللغوية. مثال ذلك قوله ص55 "إن سيدنا عيسى ليس هو إلاه حقيقي ". قوله ص 80 "أن به يثبتوا الألوهية لعيسى". قوله ص 137 " أن إسحق أبو يعقوب وخلفه بني إسرائيل دعيو أخوة إسماعيل". قوله ص141 "وإن كان بني عيسو أخو يعقوب يسمون أيضاً إخوة لبني إسرائيل". قوله ص 264 "ومثله قد يوجد تناقضاً آخر في أرميا في الإصحاح الحادي والثلاثون". 3- عدم ترتيب المؤلف للبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك التناقضات الواردة في كتب النصارى حسب ترتيبهم في كتبهم. 4- بعض الأخطاء العلمية، منها:
زعمه أن الخلق خلقوا لأجل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفي هذا يقول ص88 "ونبينا السيد الأعظم قد ورد عنه بأنه لأجله خلق الوجود". قوله ص 194 "إن كتاب "دلائل الخيرات" جمع أسماء النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة" مع أن كثيراً من الأسماء الواردة ليس عليها دليل لا من الكتاب ولا من السنة. 5-أن الكتاب مليء بالحواشي، وبعض تلك الحواشي يتضح منها أنها ليست للمؤلف كما في الحاشية الأولى ص52، والحاشية ص137، والحاشية ص 140. وبعضها الآخر لم يتضح هل هو للمؤلف أم لغيره، كما أن هذه الحواشيمدخلة في صلب المتن، ويفصل بينها وبين المتن كلمة حاشية، إلا أن نسخة. ت لم يجعل فيها علامة على نهاية الحاشية، أما نسخة. د فيكتب في بدايتها "حاشية" ويضع لها رقماً تسلسلياً، وإذا انتهت كتب "النص" وهذا مما ساعد في تحديد بداية الحاشية ونهايتها، أما لغة الحواشي فهي ركيكة سواء ما كان منها للمؤلف أو لغيره. هذه على العموم أهم الملاحظات على الكتاب.
المبحث الثاني: وصف النسخ الخطية
المبحث الثاني: وصف النسخ الخطية: الكتاب له نسختان: النسخة الأولى: وهي نسخة مصورة عن نسخة موجودة في مكتبة جامعة توبنجن بألمانيا، وقد وقفت عليها في مكتبة الجامعة المذكورة، وأرمز لها بحرف (ت) . وخطها جيد مقروء، وعدد أوراقها: ثمان وخمسون ورقة، وتتراوح سطورها ما بين 19 سطراً و24 سطراً، وعدد كلماتها في السطر ما بين 10 كلمات إلى 12 كلمة، وقد تم نسخها في أواخر جمادى الآخر سنة 1263هـ، ولم أتمكن من معرفة ناسخها. وفي النسخة سقط يعادل خمس أوراق من بداية الشك الخامس والعشرين، إلى منتصف الشك الثامن والعشرين. وقد أفادنا الشيخ محمد بن عبد الرحمن الطيبي أن كتابي الشيخ زيادة: وهما: "البحث الصريح"، و"الأجوبة الجلية" وجدا في مكتبة محمد باشا المعظم في دمشق الشام، بتاريخ نحو 1265هـ، وقد تقطع ورقهما من الأرضة، فأخذهما مصطفى بيك بن ناصيف باشا، والشيخ يوسف شاتيلا، الذي تشرف بدين الإسلام سنة سبع وسبعين1، ونقلاهما بتكلف بسبب
اختلالهما بالأرضة، فلم يسلما من التحريف، الذي يتعسر معه فهم المعنى في كثير من المواضع، لذلك لخصت حاصل البحث الصريح"1. لعل هذا الكلام يلقي الضوء على سبب كثرة الارتباك في الجمل والخلل في عبارات الكتاب وصياغته، ويشرح سبب الفروق الكثيرة بين النسختين (ت) و (د) كما سيأتي. النسخة الثانية: وهي نسخة مصورة عن دار الكتب المصرية، عقائد تيمور برقم 413، وأرمز لها بحرف (د) . وعدد أوراقها 197 ورقة من الحجم المتوسط، وعدد أسطر الورقة 19 سطراً، وعدد الكلمات في السطر يتراوح ما بين 6 إلى 9 كلمات، وخطها جيد مقروء، وليس لها تاريخ نسخ، ولم يتبين لي من هو ناسخها. وتتميز هذه النسخة بأنهاكاملة ليس فيها سقط. وهناك خلافات كثيرة بين النسختين، منها: - أن نسخة (د) تهتم بذكر الصلاة والسلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أما نسخة (ت) قليل فإن ذلك لم يذكر فيها إلا في مواضع قليلة.
- أن نسخة (د) تحدد بداية الحاشية بكلمة "حاشية"، ووضع رقم تسلسلي للحواشي، كما تحدد نهاية الحاشية وبداية النص بكلمة "النص". كما يظهر فيها التصحيح اللغوي لكثير من الأخطاء النحوية، وفيها تعديل في العبارات، بحيث تختلف العبارة من ناحية الكلمات عن نسخة (ت) ، وتتفق من ناحية المعنى، كما أن بين النسختين اختلافات كثيرة في استخدام المفردات، فنسخة. د. تستخدم لفظة تختلف عن نسخة (ت) ، وإن كان المعنى واحداً.
المبحث الثالث: عملي في التحقيق والرموز المستخدمة
المبحث الثالث: عملي في التحقيق والرموز المستخدمة. انحصر عملي في التحقيق فيما يلي: 1- كتابة النص على طريقة الإملاء الحديثة، إلا أني لم اعتمد نص نسخة محددة، وذلك لأن النسختين تشتركان في ركاكة الأسلوب وكثرة الأخطاء النحوية، وإن كانت نسخة (د) أقل أخطاءً، ويظهر ليأن نسخة (د) معدلة على نسخة (ت) كما في قوله ص170 "وهو الذي نظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة ضيقة" هكذا في نسخة (ت) ، وقد عدلت نسخة (د) وفقها حيث أسقط كلمة " مظلمة " ثم أعاد كتابتها. وكذلك قوله ص 173 "وقرر لهم شريعته الفضلية"، كتبها في (د) "الفضيلة"، ثم عدلت فوقها بخط مختلف مثل (ت) ، فلذلك لم اعتمد نص إحداهما، وإنما آخذ من هذه وهذه حسب صحة العبارة، وأثبت الاختلافات المهمة في الحاشية. 2- عزو الآيات والأحاديث إلى أماكنها، وكذلك النصوص من العهد القديم والجديد. 3- الترجمة للأعلام، وأسماء الأماكن. 4- التعليق على النص بما يوضحه ولا يثقله. 5- بناءً على ركاكة أسلوب المؤلف، وكثرة الأخطاء النحوية، وكذلك كثرة الفروق بين النسختين، ووجود سقط بعض العبارات والجمل والكلمات، مرة من نسخة (ت) ، ومرة من نسخة (د) ، وكذلك وجود زيادات توضيحية في بعضها عن الأخرى -بناءً عليه سلكت في ذلك كله ما يلي:- بسبب كثرة الأساليب الركيكة في الكتاب، والتي لا
يمكن أن يستفاد من الكتاب مع وجودها وبقائها، فإني أصحح العبارات الركيكة بما هو أفصح منها، وأجتهد في أن أبقي الجملة أقرب ما تكون من صياغة المؤلف، هذا في حالة أن تكون النسختان اتفقتا على إيراد الجملة الركيكة، وأضع الجملة المصححة بين قوسين معكوفين هكذا () . وقد أشير إلى عبارة المصنف في الهامش، وقد لا أشير إلى ذلك؛ حتى لا أثقل الحواشي بالهوامش. - استخدم المؤلف كلمات زائدة لا معنى لها، مثل كلمة "قد"، و"حيث"، و"أيضاً" في مواطن تربك الجمل، كما استخدم حروف جر استخداماً غير صحيح، مثل "إلى"، "من"، "حرف الباء"، وكثيراً ما كان يقول كلمة "أعني" من أجل شرح شيء من غامض الكلام، ويكون صوابها "يعني". أضف إلى ذلك خطؤه في الضمائر، مثل "واو الجمع"، و"هن"، و"هو"، و"التذكير والتأنيث" فيضع بعضها مكان بعض، أو يزيدها بما لا معنى له، كذلك أخطاؤه النحوية. فهذه الأشياء كلها أعدلها وأصوبها دون أن أضع لذلك أقواساً لكثرتها، ويكون التصويب إما من نسخة (د) ، أو مني، وهو الأغلب. - في نسخة (ت) زيادات عن نسخة (د) فأضعها بين قوسين هكذا {} ، ويكون في ذلك إشارة إلى نقص الجملة من (د) . - في نسخة (د) زيادات غير موجودة في (ت) ، أو تكون عبارة (د) أصوب أو أكمل، وفي بعض الأماكن تكون عبارة (ت) مختصرة اختصاراً شديداً، وتكون أوضح في (د) ، أو تكون الكلمة المستخدمة في
(د) أصوب مما في (ت) ، فأثبت ما في (د) ، وأضعه بين حاصرتين هكذا [] ، وأشير في الغالب في الهامش إذا كان الخلاف في جملة مختصرة، أو في كلمة وذلك حتى لا أثقل الهوامش. 6- وضعت الآيات القرآنية بين هلالين هكذا {} . 7- وضعت علامات التنصيص للنصوص المنقولة سواء من الحديث الشريف، أو كتاب العهد القديم والجديد. 8 - أثبت الحواشي الموجودة أصلاً في صلب الكتاب كلها في الهامش، وأجعل الإحالة إليها بعلامة هكذا (*) . ولا أعلق على الحواشي، وإنما أثبتها فقط، وأصحح ما فيها من خلل شديد في التركيب، أو خطأ لغوي. 9- عملت الفهارس الفنية الآتية: - فهرساً للآيات. - فهرساً للأعلام. - فهرساً للكتب. - فهرساً للأماكن. - فهرساً للأمم والطوائف. - قائمة للمراجع. وأخيراً فهرساً للموضوعات. 1- استخدمت الرموز التالية طلباً للاختصار: ت: نسخة توبنجن الألمانية. د: نسخة دار الكتب المصرية. ن. ع: النسخة العربية البروتستانتية لكتابي العهد القديم والجديد.
قسم التحقيق
قسم التحقيق مقدمة الكتاب ... مقدمة الكتاب 1 الحمدلله الذي جعل الدين دَيناً على البشر وصيره كرأس مال، لنربح به عبادة ذاته العليّة الفائقة كل طهر وبر2، المنزهة عن التجسيم3 والتثليث والتجسد المبتدع، ممن لا يرهبون سقر، ليقابلنا بجزاء أثماره يوم القيامة والنشر، بجنة يعلو سموها على الأوهام والفكر، أثماره4 [صلاح نابت] 5 من الأفئدة والفطر، يجمعه بعادٌ عن ضر القريب، وعن الشرك بالله الحذر، فارجوك ربي تسقه من سلسال جودك المطر، ومعه فأنعم بإزالة الكفر، كما يعلم عن حنوك ويشتهر، وأضف عليه صلاة
وسلاماً على حبيبك ورسولك سيد الخلق والبشر، وعلى آله وأصحابه السادات [القادة] الغرر. أما بعد: فيقول العبد الفقير إلى ربه الغني الشيخ زيادة بن يحيى النصب الراسي [المهتدي] ، المتشرف في الدين المحمدي1 إنني لما كنت متفرغاً للبحث {والمطالعة} عن أيما هوالدين الصحيح، بكل جهدٍ وبغاية التنقيح، فنظرت إلى أصحاب الملل، التي من دأبها أن تفخر على بعضها بسمو اعتقادها، وكل منهم يتصور أن ماذهبت اليه آل ملته هو الدين الصحيح، وسواه على كل فهو قبيح، وقد رأيت أيضاً أن بعضهم راضٍ بدينه من دون فحص ولا معرفة، والبعض مباشر الفحص في قواعد ديانته {فقط} ، من دون أن يقابلها على غيرها، والنادرمنهم من يقابلها على غيرها مع أوليائها. ففي الوجهين الأولين رأيت أن فيهما يدخل التعصب المذهبي والغرض، بحيث لا يمكن للإنسان أن يميز فيما بين الحق والباطل، أعني: {أنه} لا يعود يقدر أن يميز إلا أن دينه الموجود فيه هو [الدين] الحق {الحقيقي} ، وإن كان بالخلاف2.
فحمدت أنا الرأي الأخير، وحددته حالا من دون تأخير، وبدأت أن أقابل كتابي ومعتقدي على كتابي المعتقد الشهيرين1 وأراجعهما على أولي العلم، من دون تعصب مذهبي بكل مكنتي، من دون مين2، {وغب3 الفحص والتفتيش في ذلك} ، قصدت أن أحرر ما قد حصلته من المقابلة في تلك المسالك، وأبينه لدى ذوي البصائر القادحة، خواض بحور هذه المعاني الشاسعة، لكي يتفحصوه بكل جهد وتدقيق، ويمعنوا نظرهم فيه من دون غرض وتمحيق4، ويفهموا أن الدين المحمدي هو الذي ترجحت عليه البينات، وأنه هو الدين الصحيح، ومن اتخذ سواه دينا فهو من الخاسرين صريح. وحيث قد تيسر لي بعد مطالعتي في كتب القواعد وتفاسيرهم، أني وجدت [أيضاً] ملخصات أجوبة [في رد] الملل على بعضهم بأقوال مختصرة صريحة، فضممت إلى كتابي هذا مايناسب منها،
وسميته كتاب: البحث الصريح في {أيما هو} الدين الصحيح. وقسمته إلى خمسة أبواب وخاتمة. فأرجو من المطالعين فيه بأن يكرروا [عبارته و] قراءته بكل جهد وإمعان، ويتوسلوا معي إلى الرحيم الرحمن بجاه نبيه1الهادي، سيد الأكوان، أن يكشف لهم المعاني، إذ هو الكريم المنان، [المفيض على عباده الإحسان] .
الفهرس 1 الباب الاول يفيد أن سيدنا عيسى عليه السلام ليس هو بإله حقيقي بالذات، وغير مساوٍ لله تعالى في الجوهر، وأن تسميته إلها [هو نعت ووصف] 2 كحسب عادة كتب العهدين أعني: التوراة والإنجيل، اللذين كانا يسميان أشراف الشعب وأفاضلهم آلهة، فهو أي المسيح عليه السلام كان من أشراف الأنبياء وأكابرهم، وكانت تحق له هذه التسمية بنوع خصوصي. الباب الثاني رد على الافتخار الذي يفتخر به النصارى، {أي} بسمو آيات عيسى عليه السلام وأنها فائقة، وقصدهم بذلك لكي يثبتوا بدعتهم منها أعني: الألوهية له، وقد قابلت3 آياته فإذا هي آيات خارقة للعادة، إلا أن الأنبياء الذين سبقوه قد عملوا مثلها [وما] يعلوها ويفوقها أيضاً، ثم إن آل زمانهم وأتباعهم لم يعتقدوا فيهم أنهم آلهة بالذات، ولا مساوون4 لله تعالى في الجوهر.
الباب الثالث رد على [ما تدعيه] 1 النصارى ضد الله تعالى ويتوهمونه، بأن نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم قد حصل منه [أمور] منافية وغير حسنة، ومنقولة عن القرآن الشريف المعجز، مع كون أن مثل هذه الدعاوى والأمور الملحوظة قد وجدت من 2 الأنبياء الذين سبقوه وأبلغ منها، كما [تشهد] بذلك كتبهم، ولم تحسب منافية ولا غير حسنة. الباب الرابع نورد فيه بينات من كتب العهدين أعني: [من] التوراة والإنجيل على أن نبيِّنا {محمداً} صلى الله عليه وسلم هو النبي الموعود به أيضاً، والمشار [إليه] 3 والمنبأ عنه – كعيسى عليه السلام -بالأدلة الواضحة والبراهين المكينة، كما قد تراها صريحة.
الباب الخامس في الشكوك الناتجة من القضايا [المتناقضة] ، والقصور الحاصل من ركاكة الجمل الغير مرتبطة، الموجودة في كتب العهدين، المفيدة بأن التوراة والإنجيل مزوران وذلك بأصرح عبارة وأجلى بيان. الخاتمة جمعت نتائج هذه الخمسة أبواب بوجه الاختصار، وبعض ملحقات لها [مفيدات] . {تم
الباب الأول: الرد على النصارى في دعوة ألوهية المسيح عليه السلام
الباب الأول: الرد على النصارى في دعوة ألوهية المسيح عليه السلام ... الباب الأول: الرد على النصارى في دعوى ألوهية المسيح عليه السلام [يفيد] 1 أن سيدنا عيسىعليه السلام ليس هو [بإله] 2 حقيقي بالذات، وغير مساوٍ لله تعالى في الجوهر، وأن تسميته إلهاً هو نعت ووصف3 كحسب عادة كتب العهدين؛ أعني: التوراة والإنجيل، اللذين كانا يسميان أشراف الشعب وأكابرهم آلهة، فهو أي المسيح عليه السلام كان من أشراف الأنبياء وأفاضلهم، وكانت تحق له هذه التسمية بنوع خصوصي. فأقول أولاً: إن هذا الاعتقاد الذي هو: أن سيدنا عيسى عليه السلام [إله] بالذات ومساوٍ لله تعالى في الجوهر 4 هو بدعة حديثة مستجدة في الديانة النصرانية. ثانيا: (إن هذا الرأي) لم يقبل عندما ابتدع [في الابتداء في] الجيل الرابع5 عند (عموم) النصارى، الذين كانوا في تلك
الأعصار، إذ أنهم قد اعتلوا1 [واحتجوا] على من ابتدعوه بأن هذه الزيادة، أعني: (أن) الابن (أي عيسى) مساوٍ لله تعالى في الجوهر ليست موجودة في التوراة (ولا) في الإنجيل حرفيا، بل هي [منكم] جملة استنباطية اختراعية 2، وقد ختم على رأيهم هذا جملة مجامع، منها3 مجمع مادلي4، والمجمع الملتئم في سيرمة5، نحو سنة 360 من تاريخ
عيسى عليه السلام، وكان حاضرا فيه وراضيا به وخاتما عليه فيليكس1، [ومرة أخرى] ليباريوس2 [أسقفي] روما، الذين يسمون في العصور المتأخرة باباوات3، وأساقفة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس، الذين يسمونهم في الأزمنة المتأخرة بطاركة مع قساوسهم، ورهبانهم ووعاظهم (ونواب ملوكهم) ، الذين من رأيهم موجود جملة ملايين4 إلى يومنا هذا في بلاد أوستريا5، و (ليبا) 6،وأميريكا7،
والإنكليز وغيرها، ويسمون الموحدين 1 2
ثالثاً: إن بعضاً من النصارى القدماء قد كان يعتقد بأن اللاهوت هو مصاحب الناسوت مصاحبة، أوكما يقال إن الله يحل في الصالحين، وأن سيدنا عيسىكان إنساناً خالصاً1 كالأنبياء وليس إلهاً وإنسانا2،
الذين قد يوجد من هؤلاء جملة ألوف وكرات1 في بلاد المشرق، في الهند والصين والعجم، وبين النهرين: بغداد وما يحوطها، وغير محلات، ويسمون نساطرة 2.
رابعاً: وبالإجمال أقول: إن الذي أورده أولئك النصارى القدماء، المار ذكرهم، وخلفهم من بعدهم، من الرد والمجاوبة على مخترعي مساواة عيسى لله (تعالى) في الجوهر، لما أرادوا أن يبحثوا رأيهم في تلك السندات الضعيفة، والبيانات السخيفة1، التي نحن الآن سنورد أقواها وجوابها في هذا الباب، (لكي) 2 يحصل منها إنتاج أيما هو الدين الصحيح. وهي قد تشتمل على ستة بيانات أصولية3 البيان الأول عن قول يوحنا الإنجيليفي الإصحاح العاشر: "أنا والأب واحد"4. فمن قوله أنا والأب واحد، المنسوب إلى عيسىعليه السلام، قد استنبطوا مساواة الابن (أي عيسى) [الأب] في الجوهر. فأجابهم الغير قابلين5 هذه الزيادة: نعم إن يوحنا [الإنجيلي] قال هذا6، إلا أن هذا القول لايفيد المساواة، لأنه (هو) أيضاً يقول
في الإصحاح السابع عشر في طلب السيد المسيح ودعائه: كما أنت يا ابتاه فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحدا فينا1، (هكذا) صلى ودعا (لأجل) حوارييه. فإن كان معناه2أن قوله "أنا والأب واحد" يفيد المساواة في الجوهر، فيلزم أن يكون التلاميذ الذين قال عنهم ليكونوا واحداً فينا هم أيضاً مساوين3 للأب والابن في الجوهر، وهذا رأي4 شنيع5. وأيضاً: أن يوحنا (هذا نفسه قد) استعمل لفظة واحد في رسالته الأولى الكلية في قوله:"ثلاثة شهود في السماء الأب والكلمة والروح والثلاثة هم واحد، وثلاثة شهود على الأرض الروح والماء والدم والثلاثة هم واحد"6. فنرى 7 أنهم ثلاثة جواهر وليس هم جوهراً واحداً، لأن الروح جوهر، والماء جوهر، والدم جوهر8 9
وأيضا قد أوضحوا لهم؛ أعني النصارى القدماء للمبتدعين: أن التوراة والإنجيل يعلمان بوحدانية الله تعالى الواحد الأحد [مراراً] كقوله: إن الله واحد1، و [قوله] "أن لا إله غير الإله الواحد"2، و [قوله] "إله واحد الذي يفعل كل شئ"3، و [قوله] "إله واحد أبو الكل"4، و [قوله] "أنت تؤمن أن الله واحد"5،"ولكي يكون إله سيدنا يسوع المسيح أبوالمجد"6،"وإني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"7
و"يعرفوك أنك أنت إله الحق وحدك"1. وماسمعوا من كتابهم حرفيا أن الله تعالى وحاشاه ثلاثة أقانيم ثلاثة أشخاص، ولا قرأوا في التوراة والإنجيل أن عيسى مساوٍ للأب في الجوهر. وكما قرر صابليوس 2 في [نحو] القرن الثالث أن المقول في الإنجيل "عمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس"3 هي أوصاف ونعوت لطبائع مختلفة، وليست أقانيم وأشخاص متساوية بالحق، [وهي] كما يقال مثال ذلك في الاستعمال "عن غير الأب الحقيقي" والابن الحقيقي: هذا أبي وهذا ابني وهذا روحي4 5.
وهي نعوت شريفة للتبجيل أعني:؛ إضافة تبجيل1، وفي الكتاب مثل ذلك وسيأتي بيانه2.
وهكذا كان اعتقاد النصارى المعاصرين له في الدهور الأولى1، المطابق لقوله تعالى في القرآن الشريف: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 2 البيان الثاني استدل النصارى على أن عيسىعليه السلام سمي في الإنجيل إلهاً وابن إله، كقوله: أنت ابن الله3، وإلهاً كان الكلمة4، وإذا كنت أنا الرب والمعلم غسلت أقدامكم5، وهذا ابني الحبيب6.
ومن هذه الجملة وأمثالها يستنتجون: مساواة الابن (أي عيسى) للأب في الجوهر، وأنه إله بالذات [ورب] . فأجابهم نصارى تلك الأزمنة الحقيقيون1، بلسان مجمعهم قائلين: نعم إن هذه الكلمات هي موجودة في الإنجيل مع أمثالها، إلا أنها لاتفيد المساواة في الجوهر؛ لأن موسى الكليم دعي بهذه التسمية بقوله [له] في سفر الخروج، في الإصحاح السابع: قد أقمتك إلهاًلفرعون2. و [كذلك] سليمان دعي ابن الله في سفر صموئيل الثاني3، في الفصل السابع بقوله: وأنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً. و [كذلك] يوسف، في سفر التكوين، في الإصحاح الحادي والأربعين، [والسابع والأربعين] سمي رباً، ورزق أباه يعقوب بقوله: والمنادي ينادي قدامه أنت رب ومسلط4، وبقوله: وارزق يوسف أباه وإخوته5، وقيل [أيضاً] في المزمور إلى [أئمة] 6 اليهود: إذا قلت إنكم آلهة وبنوا العلي كلكم7،والله قام في مجمع الآلهة8.
(وفي المزمور المائة والرابع والثلاثين قد قيل فيه: لأن الرب عظيم وربنا أفضل من جميع الآلهة) 1، والملائكةفي سفر أيوب دعيوا أبناء الله 2. والشعب الإسرائيلي بوجه العموم دعي ابن الله حين قال الله لفرعون في سفرالخروج: إن اسرائيل ابني البكر أطلقه حتى يعبدني3، وحتى إني لأقول: إن لفظة إله التي بينا، أنها كانت ينعت بها البشر نعتاً ووصفاً وإضافة قد وجدت في التوراة في اللغة العبرانية اسماً أيضاً يستعمله (كل) من يريد [لنفسه] ، كلفظة ايلياه التي إذا ترجمت إلى اللغة العربية حرفا بحرف تراها اسماً مركباً من اسمين: ايل ياه4، أي: إله أبدي كائن5، و [لفظة] اليشع أيضاً إذا ترجم اسمه يكون إله مخلص طايق 6.
ومثل هذه (الكلمات) قد وجدت كثيرا في الكتب [القديمة] ، وما كان أحد يتصور أو يعتقد في موسىأو في خلافه المنعوتين بهذه النعوت، أنهم آلهة بالذات، أو مساوون لله تعالى في الجوهر، مع أن الآيات الخارقة المفعولة على أيديهم كان لها الأولوية أن تعطيهم ماتدعونه لعيسى1؛ أعني: الألوهية بالذات. وعدا ذلك 2 أن هذه النعوت أعني: لفظة البنوة لله، والولادة من الله، قد تسمت بها النصارى في تلك الأزمنة في الكتاب؛ لأنهم سموا أبناء الله، ومولودين من الله، والله أبوهم، حيث يقال في إنجيل متّى: وأبوكم السماوي هو كامل3، وقوله: وليس لكم أجر عند أبيكم السماوي4، وكم بالحري أبوكم يعطي الخيرات5، وقوله: ومن دون إرادة أبيكم6، وإن أباكم واحد الذي هو في السماوات 7.
وفي إنجيل لوقا يقول: وبنوا الله من أجل أنهم بنوا القيامة 1، وفي إنجيل يوحنا يقول: وأن يجمع أبناء الله المتفرقين 2. وفي رسالة قرنيته يقول: وأنا أكون لكم أبا وأنتم تكونون لي بنين وبنات 3، وفي رسالة غلاطية يقول: وأنتم كلكم أبناء الله بالإيمان4. ويعقوب الحواري يقول: وحسب رحمته ولدنا ثانية5، ويوحنا الحواري في رسالته يقول: وكل من ولده الله فما يخطئ 6، وكل محب فهو مولود من الله7. فهذه الشهادات وأمثالها لم يعتبرها آل السنين (والأجيال) الأولى8، إلا إنها مثل [المقول] على المسيح [عيسى] ، وكانوا يعتقدون9 أن عيسى يمتاز عنهم بالبكورية10، كما قيل
عنه إنه بكر كل خليقة1، وأن الله تعالى كان يظهر الآيات على يديه2، كما [هو] محرر في الإنجيل3، وفي أعمال الرسل 4، ولكونه هو الشفيع5 والوسيط 6، وكما يفضل نبي عن نبي وصالح عن صالح، فهوفي الأولوية أحق، من كونه [مقدماً ورأساً وأخاً] ، كما قال عن نفسه: ها أنا والبنون الذين أعطانيهم الله7، وقول بولس للعبرية: إنه مااستحى (أي عيسى) أن يسميهم8.
وفي رسالته إلى أفسس قال: إنه هو رأس جسد الكنيسة، وكما [أن] الرجل هو رأس المرأة1، فكذلك المسيح هو رأس الكنيسة 2، أعني: أن بولس يريد3 ويستنتج من كلامه أنه كما [أن] المرأة والرجل من جوهر واحد، (فالمسيح والكنيسة من جوهر واحد) ، وكما يمتاز الرأس عن الجسد، هكذا يمتاز المسيح ويتشرفعن الكنيسة، التي هي جماعة النصارى.4 [وبالإيجاز أقول: إن هذه التسميات قد جاءت على موجب اصطلاح اللغة اليونانية والعبرانية استعمالاً وأصولاً، لا العربية، وقد قادت النصارى إلى أن استنتجوا منها، أنّّ عيسى هو ابن بالذات لله تعالى، ومساو له في الجوهر -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وهذه الصيغة قد حرمها القرآن الشريف5، لأن في قطع الأسباب تنقطع المسببات] .
البيان الثالث الذي [يظن] 1 النصارى أن به يثبتون2 الألوهية لعيسى وهي أوصاف القدم المقولة عليه، حيث نقل عنه في إنجيل يوحنا في الإصحاح الثامن أنه قال: إني قبل إبراهيم كنت3. وفي الإصحاح الأول قال: وهذا كان في البدء عند الله4، وأمثاله. فنجيب: أن هذه لا يفهم منها عند النصارى (القدماء) ،الذين كانوا في القرون الأولى، أنه إله بالذات ومساولله تعالى في الجوهر، بل كانوا يفهمونها من قول سليمان، إنه قديم ومخلوق ومولود قبل صنع الجبال والآكام، لأنه أي سيدنا سليمان أنبأ عن سيدنا عيسى5 بقوله بلسان حاله: الرب خلقني ابتداء طرقه لأعماله وقبل جميع الآكام ولدني 6.
وأيضا نبينا [السيد] الأعظم1 قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: بأنه مخلوق قبل الكون، وظهوره كان ضمن حساب التاريخ 2. فإذاً: من قول سليمان الذي يرمز به إلى عيسىعلى زعمكم بأن الرب خلقه قبل أن يبدع اللجج والآكام، نعلم أنّ عيسى ليس هو فوق الأزمان ولا هو أزلي، ويتبع ذلك أنه ليس بإله (حقيقي) . وإن قلنا: إن النبوءة كانت مقولة من سليمان على جسد عيسى المخلوق، فجسدهقد كان ظهوره تحت حساب التاريخ، وليس مخلوقاً قبل الآكام كما تزعمون.3 وأيضا داودفي هذا المعنى [في زبوره] يقول: يا رب ملجأً كنت لنا في جيل وجيل من قبل أن تكون الجبال وتخلق الأرض 4. [وهذا يدل على أن أرواحنا مخلوقة قبل أن تخلق الأرض] ولا يفيد أننا آلهة5أزليين، أو أنه
كما قيل في الرؤيا (في معنى ذلك) فيما زعموا عن يوحنا أنه سمى (المسيح) - في الإصحاح الثالث عشر- خروفاً، بقوله: الذي للخروف الذي ذبح منذ إنشاء العالم 1. وقد يعلم من هذه أيضاً أنها تفيد قصد الشئ لاوجوده، ولأن المسيح على زعمكم (الباطل) ذبح في عهد بيلاطوس2، وليس منذ إنشاء العالم كما [زعمتم من] قول يوحنا في رؤياه? (وأيضا أقول: نعم إن سليمان قد تكلم على أن الحكمة في الله أزلية، يقول عنها من الأزل أسست، والنصارى فسروا هذه الحكمة أنها عيسى، فنحن لا نعارضهم بهذا التفسير، وأن سليمان يذكرها مراراً على معان كثيرة بعيدة عن فرضهم، حتى وفي هذه الجملة يشير أنها أسست أي مفعولة، بل نجاوبهم بأن الحكمة ليست وحدها في الله أزلية، بل جميع
صفاته كالقدرة والرحمة والمعرفة والسمع والبصر وما شابه ذلك، فإذا فسرت النصارى الحكمة وأنها أقنوم عيسى، فيلزم أن يكون في الإلهية أقانيم كثيرة على عدد صفاته، لأن سليمان ذاته قال: إن الله بالحكمة أسس الأرض وبالفطنة أتقن السموات، وبالمعرفة شقق اللجج 1 كما في العبراني، فهاهنا يستنتج أربعة أقانيم في إلههم وهم: الله والحكمة والفطنة والمعرفة، وقد يظهر أيضاً أن الفطنة 2 هي أعظم من الحكمة؛ لأن بها أتقنت السماوات وبالحكمة أسست الأرض) .
البيان الرابع أنّ النصارى المتأخرين يستندون على أوصاف السيادة المقولة على عيسى، مستنبطين له منها الإلهية، مثل قوله في يوحنا: إن الأب لا يدين أحدًا بل أعطى الحكم كله للابن 1، و [قوله] كل شئ أعطيت من أبي 2. [وأمثال ذلك كثير] . فأجيب: والحال أن مثل هذه الأوصاف وما يتبعها لاينبغي أن تقبل3 (أدنى) شبهة بأن الابن غير مساو للأب في الجوهر، ولأنه يقول أعطى الحكم كله للابن و (كل شئ أعطيت من أبي) ، فيكون الأب هو المعطي والابن هو الآخذ، والأخذ للحكم ليس هومن شيم الألوهية ورتبتها، لأن رتبة الألوهية تعطي الحكم، والمسيح نفسه قد فسر ذلك لما أتبع كلامه إذ قال: لأنه ابن البشر 4. فهذه الأوصاف (كما قررنا) لا تثبت الألوهية (بالذات) لعيسى؛ لأنه في الأول قال: إن الله تعالى أعطى له الحكم، وفي الثاني قد كشف عن الحق (كله) بقوله: لأنه ابن البشر، ولم يقل عنه: إنه يدين ويحكم بحسب طبيعته الخالقة، أو لأنه ابن الله بالطبيعة.
وأما قوله: (إن) من يكرم الابن فقد يكرم الأب (وقوله: ويكرمون الابن كما يكرمون الأب) 1 فهي مثل قوله: من أهانكم فقد أهانني ومن أهانني فقد أهان الذي أرسلني2،ومن سمع منكم فقد سمع مني3،ومن يرحم مسكينا يقرض الله 4، وأمثال ذلك كثير.5
البيان الخامس [يستند] النصارى على ماورد عن عيسى من قول بولس في العبرية1 بأنه: أي عيسى شعاع مجده وصورة جوهره 2؛ [يعني مجد الأب] (وهذا الضمير عائد إلى لفظة الله) ، ويستنبطون من قوله شعاع مجده وصورة جوهره 3، مساواته لله تعالى في الجوهر. فأجيب: أن هذا السند هو كالذي قبله، إذ (أنه) لا يفيد المساواة في الجوهر، لأنه قيل في سفر التكوين ما يحل هذا الإشكال فقد قال عن الإنسان أنه خلق على صورة الله، وذلك في الإصحاح الأول إذ قال: وخلق الله الإنسان كصورته 4.
ثم إن بولس كتب أيضاً لقرنيته1 في الإصحاح الحادي عشر: إن الانسان صورة الله ومجده2. وحيث إنّ لفظة صورة الله ومجده قيلت على المسيح وعلى الإنسان أيضاً، فلا تفيد مساواة عيسى لله تعالى في الجوهر، (وكما تجد أقوالا كثيرة من بولس) إلى كولوسي3 في الإصحاح الأول عن عيسى: أنه ابن (محبته4، أي ابن) محبة الله، وأنه صورة الله ومجده، وأنه بكر كل خليقة5، فيلزم أيضاً أن نعرف معانيها، لأنه (على) معنى قوله: إنه ابن محبة الله، فمعلوم وظاهر جداً أن ابن المحبة غير الابن الطبيعي، حسبما أكد ذلك بولس نفسه في رسالته إلى الروم، إذ أنه سمى عيسى ابن الله بالقوة، ولم يقل بالطبيعة، وأتبع ذلك6 بقوله: حسب روح التقديس7، أي بحيث هو مقدس سمي
ابن الله بالقوة، وبقوله: إنه صورة الله ومجده، وآدم أيضاً صورة الله ومجده، وبقوله: إنه بكر كل خليقة، فيكون معناه أن (المسيح) قديم ومخلوق وليس بخالق. وأما قوله الذي يتلوه: إنه به خلقت البرايا1 أعني: لأجله أو بواسطته، وقد كتب قدها 2 للعبرانيين3 في الإصحاح الأول: لأن به خلق العالمين 4، لأن هذه الباء (في اليوناني) هي باء السببية الواسطية. ونبينِّا السيد الأعظم صلى الله عليه وسلم قد ورد عنه أنه5 لأجله خلقالوجود6. وأثبت7 قولي وأختمه بما أورده يوحنا (في رؤياه) ، في الإصحاح الثالث بقوله عن عيسى: إنه رأس خليقة الله 8، أي
أنه أول المخلوقين، هذا على زعم كتابكم المطابق قول بولس: إنه بكركل خليقة. والنتيجة لهذا القول جميعه هوكيف أن عيسى قيل عنه1 [في كتبكم] إنه أول المخلوقات، وإنه بكر كل خليقة، وأنتم تدعون أنه خالق؟ 2
البيان السادس أنّ بولس قد كتب إلى فيلبي قائلاً عن عيسى: الذي إذا كان له صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون عديل الله1، فعلى هذا يستندون أن عيسى عديل الله في الجوهر- تعالى شأنه-. فأجيب: أنّ هذه الجملة 2غير كافية في اللفظ والمعنى، لأننا إذا تعقلنا جملتها فنراها3أنها لاتفيد مساواة عيسى لله تعالى في الجوهر، بل إنها تظهر المعادلة في الصورة وليس في الجوهر؛ لأنه قال عنه: إذا كان له صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون عديل الله؛ يعني بالصورة. فهذه المعادلة [من القرائن] قد علمت بهذا الوجه المشروح، وأما بالجوهر فلم يقال عنه إنه عديل الله بالجوهر ومساويه4. وهكذا لفظة
المعادلة في الاستعمال في كامل قواعد اللغات، وأنها لاتفيد إلاالوجه المقصود فقط من القرائن1، لأن بطرس الحواري أيضاً يقول في رسالته الثانية في الإصحاح الأول قولا أبلغ من المعادلة في الصورة عن الناس المؤمنين بعيسى: إنهم صاروا شركاء الطبع الإلهي2، ويعقوب أبوالإسرائيليين3 في سفر التكوين في الإصحاح الثالث والثلاثين يقول إلى العيص أخيه: إني نظرت وجهك كوجه الله 4، وسيدنا داودقيل عنه إنه نظير قلب الله بقوله: إني نظرت داود بن يسى رجلا نظير قلبي؛ يعني نظير قلب الله (تعالى) . وفي الإصحاح الثالث من [نبوة] إرميا (النبي) 5 يقول [عن الله تعالى] : وأعطيكم رعاة كقلبي6، [يعني نظير قلب الله] ، ولم يُقَل عن المقول
عنهم هذه الأقوال إنهم آلهة بالذات ومساوين لله تعالى في الجوهر، وكما (أنه) إذا قلنا: إن زيداً له صورة القمر فهو عديل القمر، ولا يفهم منها أن زيداًً عديل القمر بالجوهر، بل المعادلة له في الصورة1. (وعلى هذا المثال تفهم تلك الجملة التي هي2 قوله الذي إذا كان له صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون عديل الله، ويستفاد منها أن المعادلة بالصورة وليس بالجوهر)
(وأيضاً نقول: وإن فسروا ذلك بالناسوت1 فلا ينطبق معهم هذا التفسير؛ إذ أنّ الناسوت كان مأخوذا على زعمهم وليس آخذاً، وبولس عزا2 الإعطاء إلى الآخذ لا إلى المأخوذ، أي أن الذي أفرغ ذاته وأخذ صورة عبد هو الذي رفعه الله ووهبه اسماً يفوق كل اسم3) 4.
(فإذاً ينتج من كل ماشرحناه: أن يسوع الإنسان السيد الشريف الآخذ صورة عبد، أعني المتصف1بالذل والتواضع، هو الذي أعلاه الله إعلاءً.2 (تنبيه) 3: اعلم أنّ الذين تنصروا في [ابتداء] الديانة النصرانية كانوا مركبين من يهود ومن عبدة الأصنام، فالبعض من علماء عبدة الأصنام [من] المتنصرين إذا سمعوا4 الإنجيل يقول عن المسيح: إنه إله وابن إله، فكانوا
يتصورون1 أنه إله [بالذات] كالزهرة والمشتري 2، كما ظنوا3 في بولس وبرنابا أنهم آلهة، ولقبوا بولس بهرمس4 وبرنابا بالمشتري5، كما خبرهم شاع في [كتاب] الابركسيس 6. وأما علماء اليهود المتنصرين إذا سمعوا7 الإنجيل يقول عن المسيح في الإنجيل: إنه إله وابن إله، فكانوا يعتقدون فيه كموسى وكباقي المسميين آلهة 8، وأنهم مخلوقون وليسو بخالقين9، لأنهم لم يسمعوا في الإنجيل في أسمائه المكتوبة [والمنبئة] عنه، ولا في التوراة اسماً (صريحاً) من
الأسماء المختصة بذات الله عز وجل، مثل [اسم] ياهوفا1 مفردة?، [واسم] اهيه اشيراهيه2 الذي لم يطلقا إلا على الله تعالى بالذات، بل كانوا [يرون] أنه من الأسماء المشتركة التي كانت تقال على الخالق وعلى المخلوقين كألوهيم 3 [وأدوناي] 4 وأيلواه 5، وأمثالهما.
ولما تنصر الملك قسطنطين1 في ابتداء الجيل الرابع وجد خلفاً في الديانة النصرانية، وآراء مشكلة2، فقصد الفحص هو وخلفه من بعده، وجمعوا [مجامع] عامة، كما حرر [ذلك] سعيد البطريق3 في تاريخه، وغيره من المؤرخين، فكان تارة يثبت رأي اليهود المتنصرين بأن عيسى ليس [بإله] 4 بالذات، [بل بالتسمية] ، وتارة كان يثبت بأنه إله بالذات [أعوذ بالله] ، كرأي عبدة الأصنام المتنصرين،5 الذين منهم
قسطنطين (نفسه) 1، (وخلفه) ، [ونيكولاوس] 2، و (اسبيردولوس) 3، الذين ليس عندهم معرفة في اصطلاح و [قواعد] 4التوراة. وهذا هو الأصل. [والسبب] 5 لهذه الواقعة، مع أنّ هذه السلالة الملكية كان بعضهم يعقل ويميل إلى الرأي بعدم المساواة، و [كان] بعضهم يفضله6، حتى إن الغربيين (مع) أتباع البابا [والبروتستانيين] إلى حد هذا الزمان يعتقدون بأن قسطنطين الملك قد توفي بالمذهب، الذي هو عدم المساواة.
الباب الثاني: الرد على النصارى في استدلالهم على ألوهية المسيح بالمعجزات التي أظهرها الله على يديه
الباب الثاني: الرد على النصارى في استدلالهم على ألوهية المسيح بالمعجزات التي أظهرها الله على يديه رد على الافتخار الذي [يفتخر] 1 به النصارى، [المبتدعون بسمو] 2 آيات عيسى وعجائبه وأنها فائقة، وقصدهم بذلك لكي يثبتوا بدعتهم منها؛ أعني [الألوهية] 3 لعيسى، وقد [قابلت] 4 آياته وإذا هي [في الواقع] آيات خارقة للعادة، إلا أن الأنبياء الذين سبقوه قد عملوا مثلها وما يعلوها ويفوقها أيضاً5، ثم إن آل زمانهم وأتباعهم لم يعتقدوا {فيهم} أنهم آلهة ولا مساوون لله تعالى في الجوهر.
أقول: إن الافتخار الذي [يفتخربه] النصارى بآيات عيسى لكي يثبتوا بها أنه إله ومساوٍ لله تعالى في الجوهر، ذلك لايفيدهم شيئاً؛ لأننا مع اعترافنا أن آيات سيدنا عيسى عليه السلام خارقة، إلا إنها إذا تقابلت [آياته بآيات] 1 سيِّدنا موسى والأنبياء عليهم السلام، فيظهر أن بعضها متساوية وبعضها أقل رتبة منها، فسيدنا عيسى نعم: إنه أطعم خمسة آلاف2 وأربعة آلاف من خبز قليل لما صلى لله تعالى3، إلا أن سيدنا موسى عال جملة ألوف بلواحقهم، ليس يوماً ولا شهراً، بل سنين عديدة في التيه في البرية4، وعيسىعليه السلامبنوع عجيب صام أربعين يوماً فيالبرية5، إلا أن إلياس النبي صام مثله6 وموسى النبي عليه السلام ضاعف الأربعين7.
ثم إذا قلنا إن سيدنا عيسى صعد وعرج1، فإيليا أيضاً صعد بهولة2 عظيمة، وبمركبة نارية3، وعيسى انتهر البحر (والريح) فهدءا4، ويشوع بن نون أوقف الشمس والقمر5 6. نعم إن عيسى مشى على الماء7، وأيضاً تابوت العهد8 مع كهنة
اليهود جازوا في نهر الأردن بأقدام غير مبلولة1. سيدنا عيسى أقام بصلاته أمواتا2، وأيضا إيليا واليشع أقاما أمواتا في حياتهما3، بل إن عظام اليشع من بعد موته وفنائه حينما وضعوا عليها ذاك الميت للحال قام ناهضا4. مرض البرص شفاه المسيح5، واليشعشفى6 نعمان السرياني من البرص أيضاً7 8. [نعم إن] الأعمى9 برئ بسيدنا عيسى10، وبرئ سابقاً من مرارة حوت طوبيا، ومن بخوركبده أخرجت الشياطين11، وماء
بركة المرسلة 1 كان يشفي [المخلعين] 2، {وسيدنا المسيح كان يبرئ المخلعين} . سيدنا المسيح هو حي للآن، وإيليا3 وأخنوخ4 لم يموتا، بل هما باقيين أحياء. [نعم] عيسى أحال شجرة التين المورقة وجعلها يابسة 5، وموسى
تحولت عصاته اليابسة إلى حية1 2 [نعم] عيسى حين3 اليهود أرادوا قتله على زعمهم صارت ظلمة على الأرض من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة4، وربما يكون انكسافاً طبيعياً. وأما الظلمة التي صارت بمصر على يد موسىعليه السلام فقد استقامت ثلاثة أيام5. [نعم] أن عيسى حينما اعتمدشهد له صوت6 من السماء (قائلاً) : هذا هو ابني الحبيب 7، وأما موسى حسبما ورد عنه بأن الله تعالى ناجاه مخاطباً وقائلاً: قد أقمتك إلهاً لفرعون 8.
[نعم] سيدنا عيسى1 لما تجلي عليه لمعت ثيابه كالثلج2، ولكن موسى حينما نزل من الجبل [من مناجاة الله سبحانه له] كان يضع على وجهه برقعا ليغطي به ذاك البهاء الذي كان فيه، وذلك (البهاء) لم يكن3 وجوده (ساعة) كالتجلي بل بقي زماناً طويلاً4. فهذه المقولات والمقابلات قد أوردتها ليس لأن عندي أن سيِّدنا عيسى هو دون [سيدنا] موسى عليهما السلام حاشا وكلا، وإنما ليعلم أن المسيح ليسبزائد عن موسى ولا هو إلهاً له كما [يزعم] النصارى. وبقي علينا أن نشرح ونبين الآيات والعجائب التي فعلهاموسى ولم يفعل سيدنا عيسى مثلها5 ولم يرد على يديه مثل
أصغرها1، كتحويل بحار المصريين إلى دم، وإيجاد الضفادع الكثيرة2، والوباء المهلك [والجرب] والجراد، والبرد، وموت الأبكار3 وشق البحر الأحمر بعصاته، وإدخال الشعب على الأرض اليابسة في [وسط] البحر4، وعامود الغمام 5، وإنباع الماء من الصخرة التي كانت تتبع الشعب أينما مشى لتسقيه6، وحية النحاس، التي كانت
تمنع الموت عن الناظرين إليها من الذين كانت تلدغهم الحيات1 كما كتب وشرح ذلكبالافراد في سفر الخروج، وفي غير محل من التوراة تجد آيات أخر فائقة لم تعمل من عيسى عليه السلام كنجاة دانيال من جب السباع2، وحفظ الثلاثة فتية، الذين طرحهم الملك في [أتون النار] 3، ولم تمسهم، [ولم تحرق ثيابهم] نار ذلك الأتون (المتوقد) سبعة أضعاف4، وشق نهر الأردن من أثواب إيليا حينما ضربه اليشع بتلك المخملة 5. فهذه جميعها ماعمل مثلهاالمسيح عليه السلام، مع أن الواجب حيث إنّ عيسى (حسبما يزعمون) ، عنه أنه إله ومساو لله تعالى في الجوهر أن تكون آياته وعجائبه أكثر خرقاً للعادة6 وأعلى وأسمى وأغرب من آيات موسى والأنبياء، ولم يقع مثلها في الوجود7 من كونه كما نوهوا عنه أنه خالق الأنبياء وإلههم - أعوذ بالله من ذلك - وعندما
ينحصر المبتدعون لألوهية عيسى1 من هذه التقارير والمقابلات، ربما يقولون: إن أفعال المسيح الخارقة هي عقلية روحانية، مثلما أنه خلص آدم من خطيئته التي لحقتهم2، وأنه صيرهم أبناء الله بالنعمة، وأنه (أنقذهم) 3 من يد الشيطان الرجيم. أقول: إن هذه الدعوى المتضمنة أن عيسى عليه السلام خلص آدم من الخطيئة ونسله أيضاً [معه] هي دعوى لا دليل عليها4، ويكذبها الحس ومنافية للعدل. أما قولي لادليل عليها ويكذبها الحس فلأن آدم لما أخطأ5 على زعمهم مات نفسا وجسداً في الحال: مات بالنفس6، وبالاستقبال
مات بالجسم، وهذين؛ أعني [موت] 1 النفس والجسم قد لحق ذريته بأجمعها، كما حرر [ذلك] بولس [عن موت الجسم لاالنفس] : أن بآدم دخل الموت وعم على الجنس البشري2. ولم نر في كل هذه الدهور من حين جاء عيسى وعمل الخلاص –على زعمهم- لآدم وذريته حتى الآن أن البشر تخلصوا أو أي فرد3 منهم من الموت الجسدي، الذي تبع الموت النفساني [على زعمكم4 حتى نستدل على أن سيِّدنا عيسى
خلص البشر من الموت النفساني، بل إننا] نراهم يموتون على السواء، حتىالطفل المعمد الذي تخلص من خطيئة آدم وصار ابناً لله على زعمهم الباطل، ولم يعمل خطيئة واحدة، فإننا نراه يمرض ويموت. ثم نرى1 أيضاً أن جميع القصاصات الواردة على البشر بواسطة خطيئة أبيهم2 آدم، المشروحة [في التوراة] ، في الإصحاح الثالث من سفر التكوين، كالإتعاب وأكل الخبز بعرق الوجه، وإخراج الأرض الأشواك التي تفسر بالغموم والهموم، وولادة المرأة بالأوجاع، ولعنة الأرض كلها باقية غير منحلة ولا ناقصة ولا نابها تغير ولا تحويل3.
وحيث لايثبت صحة المدلول إلا بالدليل1، والدليل هنا بقاء القصاصات (التي شرحناها هو ظاهر بين، فينتج إذاً من كون القصاصات) باقية:2 أن المسيح ما عمل خلاصاً كما يزعمون، وهذا هو المدلول الصحيح الذي لا شك فيه، لأن بهذا الميزان انتقض مدلولهم3.
وأما قولي: عن دعواهم إنها منافية للعدل: فلأن الوصية [في التوراة] تجتزيء1 ذنوب الآباء من الأبناء إلى ثلاثة وإلى أربعة أجيال، حسبما جاء في {الوصية الثانية} من الوصايا العشر2، وهذه [الوصية] يحتسبها العقل ظلماً؛ إذ أنه يسمع العدل الحقيقي الإلهي من فم نبي آخر يقول: إن النفس التي تأكل الحصرم هي تدرس3، وقوله: لا يموت الابن بخطيئة الأب4. فكيف يسلم العقل ههنا بأن خطيئة آدم وقصاصه يتسلسل جيلاً بعد جيل وشخصاً بعد شخص، حتى يجيء عيسى ليخلص جنس البشر؟ وأنّ الله تعالى العادل سبحانه يترك البشر تحت هذا الظلم القسري!؛ أعني: أنّ آدم يخطئ وتهلك ذريته معه بسبب خطئه إلى أجيال عديدة، [حتى] يرسل عيسى لكي يخلصهم، وما يرى في الناس خلاص، لأنه كما سبقالقول بأنه لا يوجد قصاص واحد من المترتب على آدم انحل وتلاشى بواسطة الخلاص، الذي يدعون أنه تحقق بعيسى، حتى يمكن أن نستدل به عليه إن كان حقاً.
فإذاً: حيث إننا لم نر انحلالا لقصاص من المترتب على آدم، والمتسلسل إلى ذريته حتى الآن، فيلزم أنه لا دليل على الخلاص الذي يعتقده النصارى المتأخرون ولا إثبات1. وإذا كانت خطيئة آدم لزمت البشر جميعهم على زعمهم الباطل، فكيف الله سيحانه وتعالى العادل يحبس بعضهم في الجحيم تحت يد إبليس وسلطانه نحو خمسة آلاف سنة، وبعضهم الذين جاؤا من بعد عيسى يخلصهم بعيسى2 بلا حبس ولا دقيقة واحدة، مع أنّ الكل أخطأوا بآدم فأين عدل الله بذلك.؟ 3.
مع أنّ عيسى عليه السلام الذي نسبوا إليه هذه الدعوى لم يتكلم ولا تعرض لذكر هذه القضية في جميع تعاليمه على الإطلاق1، لا بل إنه تكلم بما يضاد هذا الاعتقاد عن لعازر: أن الملائكة نقلته إلى حضن إبراهيم، وإبراهيم قد أفاد عنه عيسى ههنا بأنه هو نفس النعيم2.
ويظهر من هذا الكلام على خلاص واقع قبل الفداء الموهوم. وإن قيل إن ذلك [القول في الإنجيل من سيدنا عيسى] كان مثالاً: فنجيب: أن المثل لابد من أن يكون له رابط فيما بينه وبين الممثل به، فكيفسيدنا عيسى يمثل إبراهيم بالنعيم، ويكون يومئذ إبراهيم على رأيكم في جوف الجحيم.؟ وما هو الرابط فيما بين المثل والممثل به؟ [وغلاقة هذا المبحث تراه في كتاب الأجوبة الجلية1 أصول وخصوم، أي ردودهم وجواباتها] ، مع قوله الصريح: بأني لم آت لأدعو صديقين، بل خطاة إلى التوبة 2. فإذاً ينتج: أنه يوجد صديقين وما أتى ليدعوهم؛ لأنه في مقدم هذه الجملة قد أورد سنداً قوياً لها وهو قوله: إن الأصحاء لا يحتاجون إلى طبيب لكن المرضى 3. والبيان الأخير؛ أن هذا الرأي، أي: بأن الخطيئة موروثة من آدم، والمسيح خلّص البشر منها هو رأي [منكر] الآن عند النصارى الموحدين4، ومن ذلك يظهر أنه تزوير محدث.
ونختم هذا الباب بقول مختصر1. ونقول: إن النصارى يقولون: إنهم هم أبناء الله بواسطة الإيمان والمعمودية، وقد ورد عندهم في كتابهم بأن من ولده فما يخطئ2، وأننا نرى إلى الآن الخطايا جميعها التي يدعو إليها إبليس والشهوات [يفعلها] النصارى، وقد ظهرت فيهم واستحوذت عليهم ليس بأقل من الخارجين عن معتقدهم، بل أكثر وأبلغ، ولم نر لهم ميزة تميزهم عن غيرهم في شئ، فلا يخلو إما أن يكون هؤلاء النصارى [لا يخطئون] من حيث إنهم أبناء الله، ومولودين من الروح الصالح، وخلصهم المسيح من الخطيئة ومن يد إبليس، كما ورد عنهم في كتابهم وهو صدق وحق، وإما أنهم أي النصارى إذا كانوا يخطئون دائماً، مثل الذين هم خارجون عن اعتقادهم، كما يرى ظاهراً فيهم، فليسو هم أبناء الله كما يزعم كتابهم عنهم ولا خلصهم المسيح من يد إبليس، ويكون كتابهم في هذا الباب متقول 3.
الباب الثالث: الرد على مطاعن النصارى في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
الباب الثالث: الرد على مطاعن النصارى في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رد على ما يدعيه النصارى1 ويتوهمونه، بأن نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم قد حصل منه أمور منافية، وغير حسنة، منقولة من القرآن الشريف، مع كون أن مثل هذه الدعاوى، والأمور الملحوظة فيه، قد وجدت مفعولة من الأنبياء الذين سبقوه وأبلغ منها، كما تشهد بذلك كتبهم، ولم تحسب منافية ولا غير حسنة. أقول: إن دعوى النصارى على نبينا صلى الله عليه وسلم، بأنه قد حصل منه أمور منافية، وغير حسنة، هي دعوى غير صحيحة [لأنهم] : أولاً: يدعون بأن نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم كان قصده فيما ادعاه ليس روحانياً، بل كان يقصد (غاية جسدية) ؛ (وهذه الغاية هي التي لأجلها ادعى) 2 النبوة، مثل اتخاذ امرأة زيد، (ومثل تزوجه بعدة نساء) 3، وأنه كان يميل إلى الملاذ الجسدية.
والحال أن الأخذ من النساء أكثر من واحدة (لم يكن) ممنوعاً في قبيلته وبني جنسه، حتى (يدعي النبوة) 1، لأجل أن يأخذ أكثر من واحدة، لاسيما وأن سيدنا إبراهيم عليه السلام وأولاده قد [ورد] عنهم في التوراة أنهم أخذوا نساءً كثيرات، حتى (إني) لأقول إن سيدنا سليمان2، وأباه داود قد أخذا نساءً بعدد وافر، ولم يحسب لهما ذلك ذنباً. (وفي ابتداء النصرانية قد كتب بولس إلى تيطس "بأن ينتخب الأسقف رجل امرأة واحدة"3. ويظهر من ذلك أن النصارى مباح لهم (أخذ) أكثر من امرأة واحدة) . وثانيا: عن اتخاذه امرأة زيد (زوجة) ، وأنه قد جاء عليه الأمر (بتزوجها) ، وعلى زعمهم أن هذا الشئ غير لائق. والحال أنّ هذه عادة كانت جارية عند العرب وعند اليهود أيضاً، أن يأخذوا نساء غيرهم بعد أن يتركوا من رجالهم، وهذا الترك هو
المسمى طلاقاً، ومن فحوى آية الأحزاب 1 ترى هذا الجواب. * (قالت توراتكم في سفر الملوك الثاني2 في الإصحاح الثالث عن داود عليه السلام، وأنه أخذ ابنة شاؤل، التي كان اسمها ميكال من زوجها
"فليطال بن ليش"1، من دون أن تطلق من زوجها، وما حسبت التوراة ذلك ذنباً على داود} ، كما قررنا أن هذه العادة المستمرة عند اليهود والعرب، أي الطلاق قد جاء به الأمرفي التوراة2، ومثبت في القرآن الشريف3. وقد تزورون أن عيسى منعه، وقد استجازه في الزنا4 فقط، وأنه قال: "في البدء خلقهما ذكراً وأنثى والذي زوجه الله5.... " إلى آخره.
والحال إن كان هذا (القول قاله) عيسى، فيلزمه أن يتزوج هو أيضاً، لأن هذا القول يلزم منه مع منع الطلاق وجوب الزواج له وللرهبان1. وعلى أي حال كان لم يحسب ذلك ذنباً، لأن رجال الله الصالحين الذين سبقوا نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم قد تتهمونهم بأنهم عملوا أموراً منافية للشريعة وللطبيعة، ولم يخطئهم كتابكم، وذلك كتزوج سيّدنا إبراهيم للسيدةسارة، التي كانت أخته من أبيه، وليست من أمه، الموجود شرحها في الإصحاح العشرين، والعدد الثاني عشر من سفر التكوين2
وكيعقوب عليه السلام الذي تزوج الأختين معاً 1، وكيهوذا ابن سيدنا يعقوب الزاني بكنته2 ومن ذريته منها بالزنا كان المسيح، كما هو مصرح في التوراة والإنجيل3، وسيدنا لوط المقول [عنه] عندكم إنه سكر وزنى بابنتيه وحبلتا منه، كما هو مصرح في التوراة 4. وسكر سيّدنا نوح5، وأمثال ذلك كثير،
ولم يذكرفي مفعولاتهم هذه أنهم أخطأوا فيها، وحاشا أنبياء الله من ذلك 1. وثالثاً: قال النصارى بأن دعواه للنبوة كانت لأجل أنه كان يميل إلى الملاذ الجسدية، والحال أن ملاذ الجسد ليست من الأشياء المحرمة بذاتها والمذمومة، لأنها مخلوقة من الله سبحانه وتعالى، لأجل أن الإنسان إذا تمتع بها بالعدل يبتهج ويشكر الخالق، لأنه تبارك وتعالى خلق المخلوقات على أقسام منها، للنظر: المنظورات البهية، وللشم: المشمومات الزكية، ولحاسة الذوق: الأطعمة الشهية، ولحاسة السمع: الأخبار والأنغام المفرّحة، ولحاسة اللمس: الملموسات الناعمة الرهية2. فهذه بالدليل العقلي، فضلاً عن الدليل النقلي أن الله سبحانه ماخلقها للإنسان إلا لكي يتمتع بها، ولو كان الأخذ من النساء أكثر من
واحدة شيئاً ردياً ومذموماً لما (كان) الأنبياء والصالحون باشروه كإبراهيم1 وداود وسليمان 2 وغيرهم. ومحبة الملاذ لوكانت غير حسنة لما كانت الأفاضل استعملوها، لأنه مذكور في الإنجيل عمل ولائم كثيرة كقوله: "إنساناً صنع عرساً لابنه"3. وقوله: "وعجوله المعلوفة قد ذبحت"4*، وعرس قانا الجليل الذي كان سيدنا عيسى فيه5، ويزورون عليه بأنه (حول الماء إلى الخمر حتى يسكروا، ولو كان كذلك لما ذم بولس) 6 المانعين لها، إذ قال إنه في الأيام الأخيرة " يمرق قوما يحرّمون الأطعمة التي خلقها الله" 7. ورابعاً: يدَّعون على نبينا الأعظمصلى الله عليه وسلمدعوى أخرى، وهو أنه قتل أناساً 8 في أيام دعوته، وهذا شئ غير حسن على دعواهم الباطلة.
أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نعم إنه قتل أناساً في مغازيه الشريفة، إلا أن قتله كان لذوي التعصب عليه المحاربين له، العاصين لشريعته الغرّاء السامية، المريدين إبطال دينه الحق، المخاتلين له، الجاعلين عليه الفتن غير هادئة، كما يوجد شرح ذلك (بالتفصيل) في القرآن الشريف عن سبب نزول الآيات الواردة بحق ذلك، وكما (نراه ينصحهم المرات العديدة) قبل قتاله لهم، ويتهددهم ويتوعدهم ويوعدهم، لكي يميلهم عن كفرهم وشرهم (وإلحاق الضرر به وبدينه الحق) 1، وحينما لم (يقبلوا قوله) 2، ولم يرجعوا عما هم عليه من الكفر والضلال والشرك، كانت تنزل
تلك الآيات الشريفة عليه حسب مقتضى الحال، تارة بأن يجادلهم بالرفق*، [بقوله {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1، وتارة بأن يأخذ الجزية منهم* [لتصغيرهم] ، وتارة برفع الشفقة عنهم**. بقوله تعالى له {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّم} 2 وقوله تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 3، ومثل ذلك في القرآن العظيم كثير.
وعدا ذلك: أن سيدنا موسى كليم الله، ويشوع بن نون خلفه، كانا قد قتلا ألوفاً كثيرة1، ولكن مع ذلك (لم يكن) قتلهما إياهم بهذه الوجوه المذكورة2 لأنهم، أي المقتولين ما (بادروهما بالشر) 3، كما تخبر توراتهم ولا عصوا شريعتهما، لأنهما لم ينذروهم بدينهما، بل لأن سكان تلك الأرض الموعود بها موسى المقتول منهم ألوفاً بليغة، لما سمعوا بقدوم بني إسرائيل ليأخذوا تلك الأرض من أيديهم ويستعبدوهم ويطردوهم منها، للحال نهضوا للمحاماة عن أوطانهم وأنفسهم، وكان موسىعليه السلام ونوابه (لا يقتلون في حروبهم الرجال) فقط [كماكان يفعل نبينا صلى الله عليه وسلم] ، بل النساء والأولاد والأطفال، ويحرقون بعض بلدانهم وحيواناتهم وكامل أمتعتهم 4. وكل ذلك إذا فحصنا أسبابه (إنما كان) خوفاً من استعبادهم
إياهم، فكانوا يمارونهم ويحاربونهم خوفاً على أنفسهم 1 *. وأما نبيّنا السيد الأعظم صلى الله عليه وسلم مع كون توجهه على من عصى دينه الشريف كان بأمر الله تعالى، إلا أنه مع ذلك تراه بريئاً من مثل تلك الوجوه المشروحة والمنقولة عن موسى وخلفائه.
الباب الرابع: البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل
الباب الرابع: البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل نورد فيه بينات من كتب العهدين، أعني من التوراة والإنجيل على أن نبينا الأعظم محمداً صلى الله عليه وسلم هو النبي الموعود به أيضاً والمشار إليه، والمنبأ عنه [من الأنبياء] كعيسى عليه السلام، بالأدلة الواضحة والبراهين المتينة كما قد تراها صريحة 1.
الشهادة الأولى هو ما ورد عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سفر تثنية الاشتراع في الإصحاح الثامن عشر والعدد الخامس عشر من قول سيدنا موسى، إذ قال لقومه بني إسرائيل: "إن نبياً من بينك ومن اخوتك مثلي يقيمه الرب"1، ولم يقل من شعبك كما ترجمت إلى اللغة العربية، بل من بينك لأنها في اللغة العبرانية (مقربيخا) أي: من بينك، وفي العدد الثامن عشر أيضاً، قال: "إن الرب
إلهكم سيقيم نبياً من إخوتكم مثلي، فاسمعوا له وكل نفس لا تسمع لذلك النبي وتطيعه تستأصل تلك النفس من شعبها"1. أقول: إن هذه الشهادة هي بلا ريب (منطبقة) على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، من حيث إن إسماعيل وخلفه الذين منهم نبينا كانوا يسمون إخوة لبني إبراهيم، [أعني: إسحاق وخلفه عليهما السلام] ، لأن الله تعالى قال لهاجر رضي الله عنها امرأة سيدنا إبراهيم عن إسماعيل ابنها: "بأن قبالة إخوته ينصب المضارب2، ومن حيث إن إسحاق أبا يعقوب، (وذريته) بني إسرائيل دعواإخوة لإسماعيل3، فإسماعيل هو أخوهم بلا شك، فمن ههنا (ألغز) 4 النبي موسى عليه السلام بكلامه، وأشار إشارة خفية غير صريحة في النسق، حسب عادة الأنبياء بإخفاء بعض مقاصدهم وتكلمهم بالرموز عن أن الله تعالى سيقيم نبياً5 بينهم من إخوتهم* أي من بني إسماعيل
المباينين لهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لكونه نبياً، ومن ولد إسماعيل، لأن من عادة الكتب المنزلة أن تسمي أولاد الأعمام عن بعدٍ بعيدٍ: إخوة، ومثل ذلك قد ورد في القرآن الشريف، إذ أنه دعى النبيين اللذين هما هود وصالح، إخوة لعاد وثمود1، وهما على بعدٍ بعيدٍ من أولاد الأعمام أيضاً. وفي سفر العدد في الإصحاح العشرين [في العدد الرابع] يقول: "وأرسل موسى من قادش إلى ملك أدوم2 قائلاً: هكذا يقول أخوك إسرائيل"3. مع أن الآخرين هم من بني الأعمام عن بعدٍ بعيدٍ.
وأما قولنا: إن هذه الشهادة (منطبقة) على نبينا صلى الله عليه وسلم (بسبب أنه لايشاركه غيره فيها) ، لأنه إن ادعت اليهود أن هذه الشهادة قيلت عن يشوع بن نون [وليست عن] نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، (فنرى أنها لا تتفق مع دعواهم بل تنفرعنها نفوراً) 1 ظاهراً، لأن يشوع كان حاضراً معهم وعند موسى مقيماً بخدمته، وقد أشار عنه بعبارة صريحة قبل هذه في الإصحاح الثالث2 من التثنية بقوله: "فليكن يشوع بن نون خادمك فهو يدخل عوضك وهو يقسم الأرض لإسرائيل"3. فما (ينبغي) أن يذكره لهم باسم نكرة بعد [إشهاره] لهم باسمه العلم. وثانياً: إذا ادعت النصارى أن هذه الشهادة قيلت عن المسيح، فيقال لهم هذا الجواب؛ وهو: أن موسى قال "نبياً مثلي الذي يقيمه الله"، وهم: أعني النصارى، يدعون أن عيسى هو (إله وإنسان) ، فإذاً: ليس هو كموسى، من كون أن موسى إنسان فقط، وعيسى على زعمهم إله لموسى حتى، ولا ناسوت عيسى مثل ناسوت موسى، لأن ناسوت موسى هو من زرع بشري، وناسوت عيسى من غير زرع بشري، بل ناسوت عيسى من بتول فقط، (وموسى كان من امرأة مثل بقية النساء مفضوضة) 4، فما يكون
المسيح مثل موسى، لأن موسى قال عن النبي الذي وعد به: "إنه نبي مثلي"، حتى ولا شريعته مثل شريعته، لأن شريعة عيسى فضلية، وشريعة موسى عدلية1، ولا إنذاره مثل إنذاره، لأن موسى كان لبني إسرائيل حاكما وغنياً وبالسيف، وعيسى كان فقيراً ومحكوما عليه هذا على موجب زعمهم ولا كان لعيسى سيف مثل موسى ولا حكم. وأيضاً [أقول] إنه لم [يُقَل في الإنجيل عن] عيسى2 (على التغليب) اسم 3 نبي على الحقيقة بالاسم والفعل*.
ويشوع بن نون كان نبياً أيضاً، ولكنه الآخرلم يغلب عليه اسم النبي، أعني: أنه لم يُقَل عنهما: يشوع النبي أو المسيح النبي في الغالب مثلما يقال: موسى النبي أو النبي محمد عليهم الصلاة والسلام. وفي القرآن الشريف ترى هذه اللفظة، أي: اسم النبي مكررة مرات على نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فتكون النبوءة من سيدنا موسىصادقة عليه، كما صدقت عليه لفظة "من إخوتكم"، من كونه من بني إسماعيل المبارك1 إخوة بني سيدنا إبراهيم الذين منهم بني إسرائيل، الذين رمز لهم موسىعليه السلام أن من إخوتهم يقام النبي الموعود به. وإن كان بنو2 عيسو أخو يعقوب، يسمون أيضاً إخوة لبني إسرائيل عن بعدٍ بعيدٍ، كما جاء عنهم في سفر تثنية الاشتراع في الإصحاح الثاني3، إلا أنه ماقام منهم نبي مثل محمد صلى الله عليه وسلم حتى نستدل عليه من شهادة الحال، مع أن عيسو تزوج (محلة) 4 ابنة إسماعيل.
فينتج إذاً: أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو المشار إليه من موسى دون (شك) ، ومع ذلك فإن موسى بيّن بما أضاف من قولٍ مقصوده1، وهو: "بأن كل نفس لاتسمع لذلك النبي وتطيعه تستأصل تلك النفس من شعبها"، فلفظة استئصال يستدل منها على أنها كانت نبوءة من موسى على نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه يستأصل كل من لايسمع له (بسيفه البتار) ، وأن هذه الوصية هي صادقة عليه بهذا الوجه المشروح، ولا تصدق على المسيح؛ لأن المسيح قال: إنه ماجاء ليميت أنفس الناس، وذلك يقول: تستأصل، وليست كما تصور النصارى: أنها مقولة على الخراب الذي عمله تيطس ملك روما2، الذي خرب بيت المقدس الشريف، وقتل اليهود الذين كانوا فيها3، وعلى ظنهم أن ذلك كان بسبب عيسى، مع أن تيطس كان غير مؤمن
ولا (مطيع) لعيسى*، وكان قتله لهم بسبب (عصيانهم) له بالأمور (الملكية) ، لا لأجل الأمور الدينية، أي (لم يكن قتله لهم) لأنهم (لم يتبعوا) عيسى (ولم يطيعوه) ، لأنه هو أيضاً كان (مضطهداً لأتباع عيسى) 1. وربما كان يوجد نصارى (كثيرون) مختبئين، وقد قتلهم تيطس نفسه أيضاً مع اليهود، لأن حربه وقعت بعد أربعين سنة من عيسى2 وكان قد (تنصركثيرون) 3 في تلك الأراضي. (وبالاختصار أن) هذه الشهادة من موسى عليه السلام، أي لفظة "تستأصل" هي وحدها كافية بأنها مقولة على نبيناصلى الله عليه وسلم، [وظهر (تحقيقها) ] منه (ومن صحابته) وليس [من] غيره*، لأنه كان المنتقم [والمستأصل] من قبل الله للذين لم يسمعوا له.
الشهادة الثانية في إنجيل يوحنا في الإصحاح الأول [في العدد الحادي والعشرين] يقول: "وأرسل [الفريسيون] يسألون يوحنا المعمداني قائلين له: ألنبي أنت؟ فأجابهم: كلاّ. فأجابوه: ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ "1. أقول: إن هذه الشهادة (تتضمن) أن الفريسيين علماء اليهودإلى زمن مجئ عيسى عليه السلام، كان متداولاً بينهم عن آبائهم وأجدادهم (المتناقلين) لكلام النبي موسى عليه السلام، بأن الله –تعالى- (سيرسل) نبياً، وهم في انتظاره كالمسيح عليه السلام، وحيث إن علماء اليهود كانوا متحيرين في مجئ النبي المخبر عنه من موسى، ومعربسين2 قصة يوحنا ابن زكريا عليهما السلام، من أنه كان يسكن البراري كولد إسماعيل3، فأرسلوا يسألونه: ماتقول عن نفسك؟ فلما جاوبهم بأنه ليس هو المسيح ولا إيليا ولا النبي، اعترضوا وقالوا له: مابالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟.
فيظهر من (مضمون) كلامهم أنهم في (انتظار) ثلاثة أنفار عظام، قد كان الأنبياء السابقون أخبروا1 بمجيئهم وأسمائهم، وهم: المسيح وإيليا والنبي. فمن ههنا ينتج أن المسيح (شخص) ، وإيليا (شخص) ، والنبي (شخص) آخر2، وحيث إن الانتظار كان للنبي أيضاً، الذي هو غير المسيح، واسمه وارد بالسؤال بعد المسيح، فنبينا صلى الله عليه وسلم كان وروده بعد المسيح، وهو خاتمة المطلوب3. فمن هذه الشهادة سقطت: أولاً: دعوى اليهود الزاعمين أن شهادة موسى السابقة هي مقولة عن يشوع بن نون، (لأنها لو كانت مقولة عن يشوع بن نون) لما كان علماء اليهود لحد زمان عيسى يسألون (المعمداني) عن النبي قائلين: ألنبي أنت؟ أجابهم: كلاّ. وثانياً: تسقط دعوى النصارى القائلين: إن النبي المقول عنه من موسى هو المسيح، لأنه ظهر من سؤال الفريسيين علماء اليهود القائلين: "إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي" أن النبي غير المسيح.
فإذا المسيح هو المطلوب الأول (لهم) 1، والنبي هو المطلوب الأخير لقولهم: "إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي". و (لو) كان النبي (هو) المسيح كما فسره النصارى، لكان ينبغي ليوحنا بن زكريا عندما سأله علماء اليهود عن المسيح وإيليا والنبي أن يجاوبهم: إن سؤالكم هذا هو جهل مبين، لأن المسيح هو (نفسه) النبي، فصمته عن مجاوبتهم، ونفيه بأنه ليس هو النبي هومصادقة كلية شرعية على أن الموعود به نبي آخر غير المسيح، وهو سيد الكائنات الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم.
الشهادة الثالثة في إنجيل يوحنا في الإصحاح الخامس عشر يقول: "وإذا جاء البارقليط1 الذي أرسله إليكم من عند الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق هو يشهد لي وأنتم أيضاً شاهدون" 2 *. أقول: إن هذه الشهادة (المقصود بها) نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أولاً: من اسم "بارقليط". ثانياً: من قوله: "هو يشهد لي". ثالثاً: من تسميته له: "روح الحق".
رابعاً: من قوله عنه إنه: "من الأب ينبثق". أما عن قوله: "إنه ينبثق من الأب"؛ فهو بمعنى يخرج ويرسل، كما هو (مصرح به) في قواميس اللغة اليونانية، والكنائس الغربية هكذا تفسرها أيضاً، وهذا الإرسال (جاء) مصرحاً به عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 1،وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ} 2. وأما تسميته له صلى الله عليه وسلم بأنه "روح الحق"، فنرى هذا الاسم من جملة أسمائه الشريفة المندرجة في كتاب دلائل الخيرات3، (المجموعة) من الكتاب والسنة4. أما5 اسم "بارقليط" (فهي لفظة) يونانية، من معانيها في القواميس: المعزي6 والناصر، والمنذر، والداعي، {والاسم المطابق
هو الداعي} *. فالنصارى الذين آمنوا وأسلموا في العصور القديمة قد فهموا (أن معنى هذه اللفظة) منصرف إلى القرآن الشريف، وإلى سيد المرسلين الأعظم صلى الله عليه وسلم. فأما (انصرافها إلى) النبي الأعظمصلى الله عليه وسلمفمن كونه قد وصف بمثل هذه الأوصاف في الكتاب المنزل، كقوله تعالى في سورة النساء
{وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} 1. وفي سورة الاحزاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 2. أما النصارى الذين في الدهور المتأخرة، (المتناسلين) 3 من أولئك، فلم يفهموها إلا عن الروح الذي حل على الحواريين4، مع أن الروح الذي (يدّعون) أنه حل عليهم (لم يسم) "بارقليطاً" من الذين حل عليهم، ولا سمي روح الحق، ولا دعي المنبثق من الأب مثلما سماه عيسى لما وعد به، بل إنه سمي من الحواريين روح، وقوة، وألسنة كالنار*. وأما قوله: "إن البارقليط يشهد لي": فأقول: إنه يظهر من معناه بأن سيدنا عيسى (يقصد) 5 شخصاً آخر غير شخصه، يشهد له بالحق، وغير الحواريين6. وإثباتاً لهذا الدليلئ
هو تعمد إشارته في نسق هذه الجملة1 الواحدة، القائلة عن البارقليط: هو يشهد لي وأنتم أيضاً شاهدون. فبقوله هذا يظهر أن المزمع والعتيد أن يأتي ويشهد له، هو غير الشاهدين الحاليين، ولو كانا واحداً لما قال: هو يشهد لي، بصيغة الزمان المستقبل البعيدكما في اليوناني*، وأنتم أيضاً شاهدون بصيغة الزمان الحال*. وأيضاً أقول: إنه لوكان معناه بأن البارقليط الحال يتكلم في المحلول فيهم2 لكان قال: إذا جاء البارقليط الذي أرسله إليكم هو يشهد لي بواسطة ألسنتكم، مثلما قال في موضع آخر عن الروح الذي حل عليهم "بأن روح أبيكم يتكلم فيكم"3، وحيث أن ههنا ثنى موضوع كلامه بقوله: يشهد لي وأنتم أيضاً شاهدون وغيّر أزمنة الشهادة، فيظهر أن الشاهدين له هم غير الشاهد الفريد الذي هو نبينا الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما اسم بارقليط: فيحمل معناه أيضاً على القرآن الشريف، لأنه أي القرآن قد ورد من الله تعالى منبثقاً وخارجاً من لدن عنايته، مُعَزياً1 بلفظه المحكم لرسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ولخواصه أيضاً. فأما ما أورده تعالى من التعزيةلرسوله، فمثل قوله {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} 2، وقوله تعالى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} 3، وقوله {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِر} 4. وأما ما قاله تعالى من التعزية (لأصحابه) فقوله {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} 5، وقوله تعالى {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 6. وبالإجمال أقول: إذا أمعنت النظر في القرآن الشريف ترى أكثر معانيه منصرفة إلى التعزية وأجناسها7.
وإن قيل: إن البارقليط كان الوعد (فيه للحواريين) ، لأن سيدنا عيسى قال لهم: إنه يرسله إليهم. والقرآن جاء بعد الحواريين بستمائة سنة. فأجيب: إن قوله: أرسله إليكم مثل1 قوله لهم: "وها أنا معكم كل الأيام وإلى إنقضاء الدهر"2. فالحواريون لم يبقوا إلى انقضاء الدهر، بل خلفهم الذين بقوا إلى انقضاء عالم عيسى عليه السلام3. انتهى*. والحال (أن قوله) : "سيقيم لكم" مثل قول عيسى ههنا: "إنه يرسله إليكم"، فالضمير في اللفظتين متساوي للمخاطبين.
الشهادة الرابعة إن سيدنا داود عليه السلام في المزمور الخامس والأربعين، المعنون في العبراني: من بني قورح من أجل الحبيب قد ترنم به1. أشار إشارة مطابقة لسيد الخلق نبينا الأعظم حبيب الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "فاض قلبي كلمة صالحة، أقول أنا أعمالي للملك، لساني قلم كاتب سريع الكتابة، بهي في الحسن، أفضل من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الدهر، تقلدْ سيفك على فخذك أيها القوي بحسنك وجمالك، استله وانجحْ، واملكْ من أجل الحق، ورأفة العدل، وتهديك بالعجب يمينك، نبلك مسنونة أيها القوي، الشعوب تحتك يسقطون في قلب أعداء الملك2، كرسيك يا ألوهيم إلى دهر الداهرين، عصا الاستقامة عصا ملكك، أحببتَ العدل وأبغضتَ الإثم، من أجل ذلك مسحك ألوهيم إلهك3 بدهن البهجة، أفضل من رفقائك،
المر1 والميعة2 السليخة3 من ثيابك4، من منازلك الشريفة العاج التي أبهجتك". أقول: والحق أن [سيدنا] رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم يفيض من قلبه كلمة
صالحة، وهي كلمة الشهادة بالتوحيد، التي هي "لا إله إلا الله"1، وأعماله كانت متجهة نحو: الملك المتعال2، ولسانه قلم كاتب سريع الكتابة3، بهي في الحسن4، أفضل من بني البشر5، لأنه لما كانت النعمة تنسكب على شفتيه الشريفتين كان يباركه الله، وتهبه تلك الفصاحة التي
تدل عليها كتب الحديث التي تكلم بها1، وهو القوي الذي كان سيفه على فخذه2، وصاحب الحسن والجمال، الذي استله ونجح وملك، وأجرى الحق (والعدل مع الرأفة) 3، التي هي شريعة الفضل والإحسان، الممتزجة بالعدل4، وهو القوي الذي نباله مسنونة، الذي تساقطت تحته الشعوب، الذي كرسيّ ملكه يدوم إلى دهر الداهرين5،
الذي عصا الاستقامة عصا ملكه، الذي أحب العدل وأبغض الإثم1، الذي مسحه الله بدهن الابتهاج أفضل من رفقائه الأنبياء2 عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام جميعاً. فالنصارى الغير منورين3 يفسرون هذا المزمور على سيدنا عيسى بنوع من المجاز، حيث إنه لم (تنطبق عليه) الحقيقة اللفظية، ولم يدركوا أنه إذا [وجدت] حقيقة للكلام فلا محل للمجاز، لأنه إذا وجد (نبي قد سل) 4 سيفاً حقيقياً (فلا يجوز) الالتفات إلى نبي استل سيفاً مجازياً، وهم إلى الآن يقولون: إن هذا المزمور مقول عن عيسى عليه السلام.
وأما النصارى القدماء فقد فهموه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هو واضح (الدلالة) عليه، لأن عيسى عليه السلام (لم يعرف له فصاحة في كلامه) ، بل كان كلامه بالبساطة، (بناءً) على دعوى النصارى، ولا تقلد سيفاً على فخذه، ولا نعت بالقوة، ولا كان شهيراً بالحسن والجمال، ولا استل سيفاً من أجل أن يحكم بالحق ورأفة العدل، بل إن أحد حوارييه {الذي هو بطرس} حين استل سيفاً منعه قائلاً: "اردد سيفك إلى غمده"1، مع أنه ما نجح ولا ملك في حياته، بل لما جاؤا ليصيروه ملكاً هرب2، {ولا كان له عصا الاستقامة الذي هو الرمح} ، ولا جاء بالشريعة العدلية على زعم إنجيلهم، بل كان يبدله بالقول: "من ضربك على خدك الايمن حوّل له الآخر"3، الشئ الذي ما قبلته الطبيعة، ولا صار شريعة [دائمة أو عامة] ، ولا كانت له نبال مسنونة {ولا غير مسنونة} ، ولا تساقطت تحته الشعوب، ولا كان ذا عيش رغد وابتهاج، وأنه ماكان يتعاطى العطورات في ثيابه ومنازله إلا مرة أو مرتين، من امرأة
في أواخر ظهوره1*. ولا كان له منازل شريفة العاج ولا حقيرة، لأنه هو قال عن نفسه: "إن ابن البشر ليس له موضع يسند إليه رأسه"2. فإذاًً: هذه الشهادة هي بالحق دالة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من كونها منطبقة عليه من كل جهاتها، لأنه كما قلنا عنه: إنه هو الذي كان يفيض قلبه كلمة صالحة، كلمة الشهادة بالتوحيد، وكانت شفتاه ولسانه متحركين بالفصاحة، أفضل من بني البشر، وهذا دليل أفضليته على الخلق ولذلك باركه الله، وهو الذي كانت أعماله متجهة نحو الملك المتعال، سبحانه وتعالى، وهو الذي كان قوياً وتقلد سيفه على فخذه ونجح وملك، وملكه إلى الآن باق، وإلى يوم القيامة، يجري في شرائعه الحق، ويحنو بالعدل، أي إن أحكامه تبتدئ بالحق (وترغب) بالرأفة3 [وتثيب عليها] ، وهو صاحب الوجه المنير بالحسن والجمال، وهو الذي رشق الكفار الذين عصوا دينه الشريف بعد نصحه لهم بنبال مسنونة، وقوته {مع تلك العصا الذي هو رمحه المستقيم تصدق نبوءة داود هذه} 4، وتساقطت تحته شعوبهم، وهو الذي مسحه الله بدهن البهجة، [أفضل من
رفقائه الأنبياء] وثيابه الشريفة بالمرّ والميعة والسليخة، وهذه الروائح الطيبة التي كانت تصدر من منازله [السامية] ، ومن [أقصى] ثيابه الشريفة هي مخلوقة بجسمه الشريف1، تفضلاً من الله تعالى الذي مسحه وأرسله رحمة للعالمين2، وكان صحابته الكرام -رضي الله عنهم- إذا صافحوه تبقى رائحة المسك في أيديهم المدة الطويلة3، وإذا توجه إلى محل وأرادوا (اللحاق به) يستدلون في الأزقة من الروائح الطيبة ويعرفوا أين توجه4، وهذه كانت من أقل معجزاته الشريفة.
وبالاختصار إن هذه العلامة تكفي للشهادة عليه* صلى الله عليه وسلم، وأما باقي المزمورفقد (يؤول) على زوجته، وباقي نسائه الفخام، رضي الله عنهنّ وعلى جواريه، (ويؤول) أيضاً على سمو ديانته ومركزها التي شبهها داود بالملك1. تنبيه2: (اعلم أنّ لفظة ألوهيم المرقومة في أصل الشهادة في المزمور الخامس والأربعين في جملة "كرسيك يا ألوهيم"، وفي قوله "مسحك يا ألوهيم" فلفظة ألوهيم هي عبرانية، وتترجم إلى اللغة العربية "إله" ويقال لها معربة، وتترجم أيضاً إلى معناها العربي "طايق"3 لكون لفظة ألوهيم هي مشتقة من "إيل" بفتح الياء، وتعريبها: "طايق" كقولنا: مالي طاقة أي
ما لي قوة1، فهذه لفظة ألوهيم التي تترجم إله معربة وتترجم: طايق (على) معناها [العربي] تقال وتطلق على أفاضل [المخلوقين] الناطقين، وتقال على الخالق جل وعلا، وهكذا وجدت في التوراة والإنجيل، ومن القرائن تعرف كما قررنا عنها في الباب الأول من هذا الكتاب2. ثم إن لفظة ألوهيم هنا (في قوله) : "مسحك يا ألوهيم إلهك بدهن البهجة أفضل من رفقائك"، تفيد من القرائن المشروحة أنها مقولة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لكونه من أشرف الناطقين، مثلما سمى بها عيسى وموسى عليهما السلام بلفظة تعريبها "إله"، وأما نحن بهذا المزمور لم نعربها ولا نكتبها إله، لعدم استعمالها عند العرب في هذا الشرع الطاهر على الخلق، بل أبقيناها على أصلها العبراني " ألوهيم "3.
الشهادة الخامسة إن "إشعيا" النبي1 في التوراة في الإصحاح الخامس عندما أنهى كلامه (عن قصاص) الذين تركوا شريعة الرب رب الجنود، وأنه اشتد غضبه على شعبه، وألقى يده عليهم، وصارت جثثهم في الشوارع، ومع هذا كله2 لم يرتد غضبه ويده عالية، أضاف إلى قوله هذه العبارة والرمز على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله يرفعه، وينصبه علامة للأمم، ودليلاً ليهديهم به، قد تكلم في العدد السادس والعشرين وقال: "ويرفع علامة للأمم من بعيد ويصفر به من أقصى الأرض، وهو ذا يأتي سريعاً بخفة [ليس] (فيهم) تاعب ولا عائي] 3 لا ينعس ولا ينام، ولا تنحل منطقة حقويه، ولا ينقطع سير حذائه، سهامه حادة، وجميع قسيه موتورة، حوافر خيله مثل الصوان، وبكراته [أي نوقه] مثل العاصف، زئيره4 كالأسد، وبنهم يدرك الفريسة ويحوزها5، وليس من ينجى، ويهر عليه في ذلك اليوم
كهدير البحر1، وينظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة ضيقة، والنور اعتم لضبابها. أقول: وبالحق إن هذه الشهادة (منطبقة) على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قلنا، ومن كل جهاتها لأن قوله: "ويرفع علامة للأمم"؛ يعني أنه هو العلامة المرفوعة للأمم*، والدليل الهادي، ليقودهم إلى نور دين الله الحق، وهو الذي رفع للأمم أولاً، كما عيسى رفع لليهود أولا، وبعده (عمموا) نبوته2.
وقوله: "من بعيد" مشيراً على أن هذه العلامة ليست هي من أرض إسرائيل1 التي تكلم فيها إشعيا هذه الإشارة، أي [قوله] "ويرفع علامة للأمم" بل من أرض بعيدة، وإيضاح ذلك قد يظهر من العدد الذي يتلوه، حيث يكشف هذا الرمز بقوله: "ويصفر به من أقصى الأرض"، فقوله: "من أقصى الأرض"، يكشف أنه ليس من أرض إسرائيل ترفع العلامة، بل إنها ترفع من بعيد من أقصى الأرض، حيث رمز عنها بهذا الكلام، فكأنه يقول: إن نهاية وأقصى أرض إسرائيل هي الأرض التي خرج منها نبينا صلى الله عليه وسلم، أعني: مكة المشرفة، التي هي عند أقصىأرض إسرائيل، لأن إقليم العرب لا فاصل بينه وبين أرض الموعد2.
ثم إن هذه الجملة قد تضمنت دليلاً رمزياً آخر، لئلا تجهل العلامة، وأنه عربي بقوله: "ويصفر به"؛ يعني ينادى به، لأن في اللغة العبرانية يقول: ويصفر به، أي أن الله تعالى نادى به الناس كالصفير1، كعادة العرب لكونه صلى الله عليه وسلم عربياً، لأن العرب ينادون بالصفير عند كمائنهم وأغراضهم الخفية2. وقوله: "يأتي سريعاً بخفة، ليس (فيهم) تاعب ولا عائي، لا ينعس ولا ينام، ولا تنحل منطقة حِقْويه، ولا ينقطع سيرحذائه، سهامه حادة، وجميع قِسِيِّه موتورة".
فالحق أنه صلى الله عليه وسلم أتى بجيوشه بخفة، وما كان في أعوانه تاعب*، ولا كان ينعس، بل إنه سهران في عبادة الله سبحانه وتعالى، و (نشر) دينه الشريف، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل كله حتى ترم قدماه الشريفتان1، فأمره تعالى في القرآن العظيم شفقة عليه وحباً وتعظيماً له بقوله له {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} 2.
و"لا انحلت منطقة حقويه"، يعني أن عزيمته نشيطة، و"غير منقطع سير حذائه"، يعني أن قدميه الكريمتين1 غير فاترة عن السعي بالخير والعبادة، و"سهامه حادة"، يعني بما أنه (لا يوجد) من يساويه ممن كان يضرب بالسهام من قبل الله لأعدائه المعاندين بتلك القسي الموتورة، ويؤكد2 هذه المعاني غلاقة3 القول، بأن "حوافر خيله مثل الصوان"، كما وصفت تلك الخيل في القرآن الشريف في قوله تعالى {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} 4. ثم إن ههنا إشعيا قد أظهر بنبوءته أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو المقول عنه هذه الأقوال وليس سواه، (لأن) عيسى عليه السلاملم تكن عنده خيل، وإنما نبينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الذي كانت تقدح حوافر خيله، مثل الصوان المطابق لقوله تعالى {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} . [ثم قال إشعيا "وبكراته" أي نوقه، مثل العاصفة. فلفظة نوقه هي أعظم دليل على المصطفى صلى الله عليه وسلم، من حيث أن عيسى ما كان عنده نوق ولاجمال، "وزئيره كالأسد، وكان يدرك الفريسة ويحوزها، وما كان أحد يتخلص منه"، ههنا سمى إشعيا] "زئيره كالأسد". وفي الإصحاح الحادي
والعشرين قال: "فصرخ الأسد"1. ونعم هذا التشبيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان سلطان البشر، كما أن الأسد سلطان الحيوانات بالفروسية والشجاعة. وآخر الأدلة من إشعيا على نبينا صلى الله عليه وسلم: "يدوي عليه في ذلك اليوم دَوِيَّ البحر وينظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة ضيقة والنور اعتم بضبابها"2. وقد صدق الدليل الأخير على أن نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم هو الذي كان ينادي؛ كان يزعق على الكفر كدَوِيّ البحر، وانتهره وزجره وروعه؛ أي الكفر، وهوالذي نظر إلى الأرض وإذا هي مظلمة بالكفر ضيقة، وبالحقيقة كانت الأرض مظلمة بالكفر عابدةللمخلوقات. وقوله: "والنور أظلم بضبابها" يعني أن نور الاعتقاد بالله الذي كان موجوداً على الأرض عند النصارى واليهود القدماء3 قد غطّاه ضباب الإلحاد والجحود حينما ضلّوا4 عما تسلموه من موسى وعيسى عليهما السلام، وهذا بالحقيقة هو النور الذي أظلم بضبابها، [أعني بالأمكنة المشرفة مثل مكة والقدس وغيرهما وهؤلاء أركان القدس] .
الشهادة السادسة إن متّى الإنجيلي قد كتب [عما] رمز به سيدنا عيسى عليه السلام في الإصحاح الحادي والعشرين بقوله: ذلك المثل بعدما قتل الفعلة أولئك العبيد المرسلين من عند صاحب الكرم حتى وابنه بالنية1 *. قال: "وإذا جاء رب الكرم ماذا يصنع بأولئك الفعلة؟ فقالوا له: الأرديا بالردى يهلكهم ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته. ثم قال أيضاً يسوع: أما قرأتم قط في الكتب أن الحجر الذي رذله2. البناؤون هذا صار رأساً
للزاوية، من قبل الرب كانت هذه، وهي عجيبة في أعيننا، من أجل هذا أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لآخرين لأمة يصنعون ثمرته1، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط عليه فإنه يطحنه". أقول: وبالحق إن سيدنا عيسىعليه السلامأعطى هذا المثال نبوءة منه، رامزاً به عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من دون شك، لأنه بعدما (ذكر) الكرم: الذي هو الشريعة الموسوية2، والفَعَلَة هم: بنو إسرائيل، وأن صاحب الكرم (أرسل) عبيده: الأنبياء عليهم السلام، الذين كانوا (يحضونهم) على عمل الثمار فكانوا، أي الفعلة يقتلونهم، أي عبيد رب الكرم عوضاً عن عملهم الصلاح3، وأكمل4 بابنه الذي كان بيده إتمام شريعة موسى، كما قال هو عن نفسه: "ما أتيت لكي أحل الشريعة لكن لأكملها"5، {وكملها بالفضل} ، فهو: أي عيسى عليه السلام بعدما ذكر هذه الأفعال6، وقرر
لهم شريعته الفضلية ولم (يقبلوها منه) 1، لا بل إنهم كانوا (قدهموا) بقتله لولا (أن الله تعالى) رفعه إليه، وحوارييه عليهم السلام كانوا (مجتهدين) 2 بتنفيذها، ولأجل ذلك كانوا يحاربون ويقتلون وتزور كتبهم3، ويترك أكثرها ويقل زمان حسنها4. أفاد عليه السلام إذ قال – (لتأكيد) العبارة ـ: "فاذا جاء رب الكرم ماذا يفعل بأولئك الفعلة؟ فأجابوه: الأرديا بالردى يهلكهم، ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين، ليعطوه ثمرته في حينها". هنا انكشف مجيئ صاحب الكرم، وأنه يهلكهم*. وظهر أيضاً أن
صاحب الكرم الموعود به من عيسى، هو غير عيسى الواعد به، ومن المحقق أنه من بعد مجئ عيسى عليه السلام ما جاء غير نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب الشريعة الغرّاء. ومن قوله: "إذا جاء" أن المسيح يقصد شخصاً آخر غير شخصه، ومجيئه مستقبلاً، وحيث إن الله تعالى بحسب ذاته العلية لا ينتقل من مكان إلى مكان من كونه حاضراً في كل مكان1، فلزم أن يكون المجيئ [المقول
عنه] من عيسى: " إذا جاء رب الكرم"، يقصد به رسوله وحبيبه محمداًصلى الله عليه وسلم 1، أعظم الرسل من الله سبحانه {ويشهد بمثل ذلك القرآن الشريف بقوله في سورة (الفتح) {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} 2، وسمي رب الكرم على وجه الاستعارة للمسند إليه، لأن له أُعطيت الأحكام والشريعة،
وقد تأخر مجيئه حتى يكمل شر اليهود بقتلهم التابعين لعيسى، بل (وكذلك) الكافرين وغيرهم، من الذين غلوا بعيسى عليه السلام، حتى إنهم تجاوزوا به حدّه (وجعلوه) إلهاً، فلما جاء صلى الله عليه وسلم، بعد سيدنا عيسى عليه السلام كان الله تعالى معه معاضداً ومساعداً، لكونه له رسولاً ونذيراً، لأنهعليه السلام أهلك الأرديا {الذين أشار عنهم عيسى} ، وأما سيدنا عيسى فما جاء مرة أخرى حتى يستدل عليه به، ولا غيره أتى بعده وأهلك الأرديا، الذين أشار عنهم هو، و"دفع الكَرْم"، أي: الشريعة، إلى خلافهم، (وإنما) الذي جاء وأهلك الأرديا هو نبينا الكامل صلى الله عليه وسلم * وأن الذين عملوا (مفاسد) من عهد عيسى [وماتوا من العصاة إلى زمان نبينا كثيرون] ، وأما سيدنا عيسى فلم يقصدهم ولا كانوا كالمرسلين1، بل إنه قصد رجلاً رب كرم، يدفع الكَرْم إلى فعلة آخرين،
أعني دفع الكرم الذي هو الشريعة الطاهرة إلى آخرين، الذين هم (ذرية) إسماعيل عوضاً عن بني إسحاق ويعقوب1 عليهم السلام، الذين كانت الشريعة عندهم، وحواريي سيدنا عيسى هم (من نسلهم) ، وأما الفعلة الآخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لمطابقة قوله: "إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة لكي يصنعوا ثمرتها"، ولم يقل ههنا لأمم، بل قال: لأمة، لكونه (قصد هنا) الأمة الإسماعيلية، التي أخذت البركة قبل إسحاق عليه السلام2، التي إمامها ونبيها هو محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ومنها3 تنبث إلى غيرها*. فمن هنا يتضح أن الجملتين أعني قوله: "ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين"، وقوله إذ سمى الكَرْم "ملكوت"، وأنه ينزع منكم ويعطى لأمة يصنعون ثمرته، هما مقولتان من عيسى عليه السلام على نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته
الطاهرة، وليس على غيره، ولكي يتأكد أن [هذا] الإعطاء هو لهذه الأمة؛ أضاف إلى ذلك إشعاره بحقارتها من نسب الحجر لها، إذ قد شبهها بحجر مهمل*. [والحق أن (ذرية إسماعيل كانوا) عند بني إسرائيل كحجر مهمل ومرذول عند البنائين، لأن (ذرية إسماعيل كانت متناسلة من أمة، وأبناؤه عند) 1 اخوته إسحاق ويعقوب وخلفه كحجر مرذول عند البنائين] 2. ولهذا أورده سيدنا عيسى بهذا القول الذي تنبأ عنه داود سابقاً إذ قال: "الحجر الذي رذله البناؤون هذا صار رأساً للزاوية" 3. أعني أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الحجر الذي كان ثميناً وكريماً في طبيعته، إلا أنه كان عربياً4 غريباً عن بني إسرائيل، وكان غير معدود مع الحجارة الذين هم خلف إسحاق ويعقوب. (*) حاشية: ليست في. ت "اعلم أن بطرس أحد حواري سيدنا عيسى عليه السلام نظراً (لشدة محبته) لعيسى عليه السلام سماه حجراً، إذ إن التسمية بالحجر مفرداً هي صفة محمودة".
فهذا هو المصطفى المكرم الذي اختاره الله سبحانه أن يكون رأساً للزاوية، لأن [الزاوية من جملة أشكالها] الشكل المثلث للرؤوس المتساوية الجهات، ومعناه أن عيسى وموسى هما رأسان للزاوية شهيران، وحبيبه المصطفىصلى الله عليه وسلم هو الرأس الثالث لهذه الزاوية المشار إليها من عيسى في هذه العبارة، التي هي قوله: "وهذا صار رأساً للزاوية"، لمطابقة كلام النبي داود الذي أوردناه آنفاً. وأقول أيضاً إن عيسى عليه السلام دُعي من إشعيا: "حجر زاوية"1 كما تراه مصوراً أمامك:- ... محمد صلى الله عليه وسلم ... موسى عليه السلام ... عيسى عليه السلام وأشار عنه2 إشارة أخرى غير الإشارة التي أشارها {داود} وعيسى عليهما السلام عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنه أي عيسى ممتحناً وكريماً وأساساً مطروحاً في صهيون"3، ولم يقل عنه مثلما قيل من داود وعيسى عن نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، بأنه "الحجر الذي رذله البناؤون هذا صار رأساً للزاوية". فإذاً قد وضح أن سيدينا عيسى ومحمداً عليهما السلام هما رأسان للزاوية متميزان.
فعيسى عليه السلام قد تميز من إشعيا إذ وصفه بأنه أساسٌ للزاوية، بمعنى أنه متقدم في الزمان كالبناء، لأن الأساس يتقدم الرأس. ومحمد رسولنا صلى الله عليه وسلم قد تميز، إذ إنه وصف من داود وعيسى عليهما السلام بأنه رأس للزاوية، بمعنى أنه متأخر في الزمان كالخاتمة. وذاك في صهيون وكريم وممتحن. وهذا مرذول عند البنّائين، وعجيب في أعيننا. وقول عيسى ههنا عن الحجر (الممثل به عن) 1 المصطفىصلى الله عليه وسلم، "وأنه عجيب" يطابق قول إشعيا عنه صلى الله عليه وسلم أن اسمه عجيب، وسوف ترى شرح ذلك في الشهادة التي تتلو هذه. وفي هذه الشهادة نكمل الشرح ونقول: إن عيسى عليه السلام قال: "إن من قبل الرب كانت هذه وهو عجيب في أعيننا". فهاهنا أوضح سيدنا عيسى أن نبينا المختارصلى الله عليه وسلم هو رسول الله، ووارد من قبله تعالى حقاً وصدقاً لقوله: "هذا كان من قبل الرب". وبين أيضاً أنه عجيب في أعيننا، فلو كان هذا الكلام (الذي تنبأ به) داود (وكرره) عيسى عليهما السلام مقصوداً به عيسى عليه السلام، كما (ظنّه) النصارى (المتأخرون) ، لكان واجب [على سيدنا عيسى عندما كرر تلاوته] أن يقول: إنه عجيب في أعينكم، لا أن يقول: إنه عجيب في
أعيننا، لأن قوله: عجيب في أعيننا، قد أوضح أنه يقول عن سيد الأنام إنه عجيب في عينيّ أنا عيسى أيضاً، كما هو عجيب في أعينكم. وخاتمة الشهادة هي قوله: "من سقط على هذا الحجر يترضض ومن يسقط عليه يطحنه"، وهذا هو الدليل الأخير*. (الظاهرة عبارته جداً، أعني نبينا صلى الله عليه وسلم هو المشبه بالحجر الذي رض وطحن المخالفين لدينه السامي دون غيره) .
الشهادة السابعة إن النبي زكريا1 يقول في الإصحاح الثامن عبارة (دالة دلالة واضحة) 2 على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى صحابته العشرة الكرام رضي الله عنهم: كرآمار ياهواه صيباوت ((هكذا يقول الله رب الجنود)) فيايله هاهيما اشير عسوة اناسيم ((في تلك الأيام يجتمع عشرة رجال)) ماكول لوشونوت هكوييم ((من كل ألسنة الشعوب)) واها حازيقي بختان ايش يااودي
((ويتمسكون بذيل رجل حميد 1)) 2. ليامور تيلا خا عماخيم ((ويقولون لنذهب معك)) كه شامسنو ألوهيم عماخيم ((لأننا سمعنا أن الله معك)) 3*. أقول: إن هذه الشهادة التي رقمناها العبراني (بالحبر الأحمر والعربي بالحبر الأسود) حذراً من التزوير، تبين لنا بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو الموضوع الوحيد، (والمؤكد إطلاق) هذه الشهادة عليه من كل جهاته،
لأنه أي زكريا قد أفصح بكلامه في هذه النبوءة عن الصحابة الكرام وأن عددهم عشرة، وأنهم من ألسنة ووجوه الشعوب أصحاب القول1، وليسوا من سفاسفها، وأنهم شعوبيون من الأمم، وليسو من اليهود، وعن اسم النبي الكريم ذاته، إذ قال: ((هكذا يقول الله رب الأجناد في تلك الأيام يجتمع عشرة رجال من كل ألسنة الشعوب)) . أقول: يا ترى من هم هؤلاء العشرة رجال، الذين وجدوا في العالم، وتبعوا رجلاً، وكانوا هم وهو مشهورين سوى هؤلاء العشرة الصحابة الكرام الأقمار العظام2، الذين كان نورهم مستفاداً من نور
شمس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتمسكوا به وذهبوا معه ونادوه بلسان حالهم؛ فلنذهب معك يارسول الله، لأننا علمنا أن الله معك1. فهذا المعنى مكشوف وظاهر من عين ذاته ومطابق للنبوءة جداً، من كون أن زكريا تنبأ عن ظهور عشرة رجال يتمسكون بذيل رجل، والصحابة كانوا عشرة في العدد، وتبعوا نبينا محمداً (صلى الله عليه وسلم) ، واعترفوا بأن الله [تعالى] معه، وهؤلاء ما وجد غيرهم من عهد آدم إلى الآن، ولا سُمع
بأن عشرة رجال تمسكوا في ذيل رجل وتبعوه سوى أولئك العشرة من الصحابةرضي الله عنهم. وبلا شك أن هذه الشهادة هي منطبقة عليهم على كل حال. وأما قوله عن العشرة رجال: إنهم يتجمعون من كل ألسنة الشعوب: أقول: إن الشعوب هم القبائل الخارجون عن بني إسرائيل، لأنه إلى هذا الزمان يسمون عند اليهود ((هكوييم)) (أي الشعوبيين الأممين) ، وأما ألسنة الشعوب، فهم المتكلمون في الشعوب، أصحاب القول وذوي الرأي السديد، كما جاء معنى ((لوشونوت)) في القاموس العبراني الذي يسمى ((شوراشيم)) . وأما قوله عن العشرة رجال يتمسكون بذيل رجل [اسمه] 1 حَمِيد: فلفظة حميد هي: اسم نبينا محمد، وهي في العبراني على وزن فَعِيل، وهذا الفعل بهذا الوزن يقصد فيه (معنيين: اسم فاعل، واسم مفعول) 2، أي أنه يشتق من اسم حميد اسمان: اسم حامد واسم محمود. وهذه المشتقات هي من أسمائه الشريفة، لأنه أي المصطفى كان يسمى
في زمان (صباه) 1: حميداً2، وذلك للتنويع، كما تنبأ عنه زكريا مع تسميته ((أحمد محمداً)) ، وذلك بوجه التفضيل والمبالغة، كقولك عن الكبير أكبر، وعن الحميد أحمد، وبالحق إنه حميد، لأن الله تعالى قد سبق وهيأ له هذا الاسم الكريم، الذي هو من جملة أسمائه تعالى السنية *. وحيث إن هذا الاسم الشريف هو مكتوب من زكريا باللغة العبرانية، ومضمونه عن النبي الهادي، [فكان] علماء اليهود يترجمونه بلفظه العبراني، ويقرأونه عبراني في اللغة العربية معرباً [كلفظة إبراهيم وإسحاق وباقي الأسماء الغريبة، ويسمى علم أعجمي] ، ويشرحون معناه على ما هو عليه في الاصطلاح النسبي، لا على ما هو عليه من أصول اللغة العبرانية إذا ترجمت إلى أصول اللغة العربية، بل كانوا يبقونه بلفظه العبراني، وكذا قد ترجمت هذه اللفظة إلى اليوناني واللاّتيني وغيرهما من اللغات بلفظها العبراني كما إلى العربي. فالنصارى الذين ترجمت إلى لغاتهم هذه الكلمة بلفظها العبراني، كانوا يفهمونها عن اليهود مثل اليهود، على ما هي عليه بالاصطلاح
النسبي، لا على ما هي عليه من أصول اللغة العبرانية كما قررنا، ولا أدركوا من أين اشتقت هذه الكلمة، وأنها اسم لنبينا الأعظم، حتى أني أنا الفقير أيضاً كنت قرأتها جملة سنين وأتسلمها وأفهمها، كما يفهمها اليهود والنصارى لحد الآن على موجب الاصطلاح النسبي، لا على أصول اللغة العبرانية المنزلة فيها، بحيث إنها لا تقبل الوجهين إلا بمفردها لا بقرائنها1. ولما حصلت2 على كتب قواعد اللغة العبرانية التي كانت معدومة عند النصارى المتقدمين عنا في الزمان، ووجودها نادر أيضاً عند اليهود، بسبب أن المطابع لم تكن وجدت بعد، وقفت على هذه الأصول السنية عن جملة علماء من علماء الكتابين، وفهمت معنى هذه اللفظة، وأنها تقبل الوجهين إذا كانت بمفردها*. (عدا أن في جميع النسخ السريانية قد وجد عوض هذا، أي عوض لفظة ((يااودي)) لفظة ((يهوذا)) ، وهذه أعني:
لفظة يهوذا، إذا ترجمت إلى اللغة العربية حرفاً بحرف هي أحمد1، وهو اسم نبينا الشهير والعلم، وقد نقل بالتأكيد أن زكريا كتب نبوءته التي فيها هذه الشهادة بالسرياني لما كان مسبياً في بابل2. وبهذا الوجه لا حاجة إلى شهود) . (وهذه الشهادة إذا فهمها أحدهم مصادفة) كنت (أراه) يفكر في أيما نبي من الأنبياء (قصد) بها، مع أنها اسم لنبينا المصطفى، وذلك لأنه لا يعرف إلا اسم نبينا الذي هو أحمد أو محمد فقط على ظاهر الأمر، ولم يدرك أن أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم محمد أو أحمد هما مشتقان من اسم حميد، وأن اسم حميد هو نفس اسم أحمد. و (بسبب) هذه الوجوه المشروحة، مع خبث بعض حاخاميم اليهود قد بقي اسم نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم مخبأً تحت هذه الستور، والذي يريد أن يحقق ذلك فليراجع هذه اللفظة في القاموس العبراني المسمى ((شوراش)) ، وفي كتاب الصرف والنحو المسمى عندهم ((دودوق)) في تصاريف اسم يهوذا واشتقاقاته، وليزيل عنه ظلمة
الغشاوة*، وليعلم أن هذه النبوءة هي منطبقة على النبي المختار صلى الله عليه وسلم (من أربعة أوجه) :ـ أولاً: من عدد صحابته العشرة الكرام [رضي الله تعالى عنهم] . ثانياً: أنهم كانوا من الأمم ((هكوييم)) ، وليس هم من بني إسرائيل. ثالثاً: (أنهم) كانوا من ألسنة ووجوه الشعوب، وليس هم صيادي سمك. رابعاً: إن الذي تبعوه كان اسمه حميداً أحمد، وهو النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فعيسى عليه السلام ماكان اسمه حميداً أحمد، والذين تبعوه كانوا صيادي سمك فقراء، [وليسو من ألسنة الناس، ووجوه الشعوب، وكانوا يهودا] ، وليسو هم من الأمم شعوبيين، وكان عددهم اثني عشر نفراً، وليسو عشرة، كما تنبأ عنهم زكريا، وبهذا كفاية، لأن التعويل على شهادة
الحال، أي الشئ المنظور الواقع هو (المساعد الأكبر على تحقيق) شهادة المقال، وهذه الشهادة هي المطابقة لقوله تعالى في سورة الأعراف: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيل} 1 وقوله تعالى أيضاً عن أن عيسى عليه السلام قال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 2. ثم مرادي الآن أن أسمي هذه الشهادة (التوأم) 3، بإضافتي لها شهادة أخرى تجانسها من إشعيا النبي. أقول: إن إشعيا قد قال في الإصحاح التاسع في العدد السادس: كه يلد بلاد لانوبين نتان. ((إن ولداً انولد لنا، ابناً انعطى لنا)) . ويتهى هم اسراه على شيخيمو رنيتاراسيموبيله. ((وتكون سيادته على كتفه*، ويدعى اسمه عجيباً)) . يوعموايل فبورا باعاد سار شلوم. ((طايقاً جباراً، أبا الأخير سيد سلام)) .
ليماريه هم سراه ولشلوم ابن قيس. ((ليكثر سلطانه ولسلام ليس قياس)) . علكسه دافيد وعلى مملكته ليهاحيم. ((على كرسي داود وعلى مملكته يجلس)) . اوتاه ولساعداه به شناط وبمصداقاه. ((يرتبها وليساعدها بالعدل وبالصدقة التي هي الفضل)) والحقيقة أن هذه الشهادة يرى العقل السليم أن فيها مطابقة كلية على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، إذ إن إشعيا يقول فيها: أولاً: إنه قد انولد لنا ولد، وأن سيادته على كتفه، فنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الذي كانت سيادته على كتفه، متعلقة في ذراعه وسيفه، ولم يأخذها بالميراث، وذراعه وسيفه هما متعلقان في كتفه وفي فروسيته2، كما أخبر عنه إشعيا. [هذا على وجه المجاز، وأما على وجه الحقيقة، فنبينا
صلى الله عليه وسلم كان على كتفه علامة، وهي شامة كبيرة شهيرة1 و (مكشوفة) 2. ولا يلزم لها برهان، لكونها شائعة وصلت إلينا بالتواتر وسطرت في أخباره الشريفة، واسمها ختم النبوة، أي علامة] وثانياً: يقول إشعيا إنه ((يدعى اسمه عجيباً)) ، [ولفظة العجيب هي من جملة أسمائه الشريفة] ، (لأنه مامن أحد من الأنبياء سلفاً، ولا من جميع بني إسرائيل تسمى باسمه الشريف، أي أنه تسمى أحمد، محمداً، حميداً، محموداً، والعجب الأخير أيضاً من كونه من سلالة إسماعيل العربي، الذي ماقام منهم سواه واحداً وحيداً) . وعدا ذلك أن لفظة ((عجيباً)) قد وجدت في التوراة اليونانية ((رسولاً)) 3، ولفظة ((رسول)) يستحقها أيضاً، لأنها هي الاسم (الغالب)
عليه، والشهير به، والمختص به دون غيره من الأنبياء، ومكرراً عليه كرات عديدة كلفظ نبي1، ثم أيضاً سماه إشعيا ((مشاوراً)) ، وذلك مطابق لما سماه الله تعالى في القرآن الشريف بقوله له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْر} 2 فهو مشاور، ثم دعاه إشعيا أيضاً ((جباراً طايقاً)) ، وهذه الأسماء مع ما تقدمها هي من أسمائه الشريفة، وقد تجدها حرفياً في كتاب ((دلائل الخيرات)) 3 مجمعة من الكتاب والسنة.
وثالثاً: أن إشعيا قد قال عنه بأنه ((أب الأخير)) وفي الحقيقة أنه صار أباً، واستولى على الدهر الأخير، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، لأنه لم يقم بعده صلى الله عليه وسلم نبي1. ورابعاً: قد قال عنه إشعيا أنه ((سيد السلام)) ، أعني أنه رئيس الإسلام والمسلمين، الذين هم الأمة المخلصة الدين، والحب لله تعالى، وأهل الوداد والعهود، أعني السلام والتسليم، وأشار إشعيا بلفظة ((سلام))
من كون لفظة ((سلام)) هي كقطب دائرة، تجمع إليها من خطوطها سائر تصاريف السلام مع اشتقاقاته، من كونها مصدراً لتفريع معانيه، ونبينا المختار دعي رئيساً لهذا القطب، أي أنه رئيس ليس لدين الإسلام والمسلمين فقط، بل هو رئيس لجميع فروع السلام، كما نعت بها في القرآن الشريف مراراً 1، مثلما قال عنه إشعيا.
وخامساً: قد قال عنه إشعيا ((ليكثر سلطانه)) 1، وهذا القول قد ورد في سفر التكوين إلى سيدنا إبراهيم وللسيدة هاجر عن رئاسة نسل سيدنا إسماعيل، الذي منه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم 2*. وسادساً: قد أفادنا إشعيا عن دوام دين الإسلام بقوله: ((ولسلام ليس له حد وقياس)) . وهذه نبوءة صريحة بأن دين الإسلام [يبقى] إلى انتهاء (العالم) . وسابعاً: قد قال إشعيا بأن نبينا يجلس على كرسي داود، وعلى مملكته، ليرتبها ويساعدها بالعدل والاحسان، الذي هو الحنو، وحيث إن كرسي داود وسلالة ملكه قد فنوا قبل مجئ عيسى بزمان طويل3 *، واستولى عليها
الرومانيون قبل زمان عيسى، وفي زمانه، وبعد زمانه، فلزم أن يكون هذا الجلوس على وجه الاستعارة، أي أنه يقصد منه الجلوس والترتيب والمساعدة من رجل صالح مؤمن بالله، وصاحب شريعة يجري في شريعته العدل والفضل، وليس معناه أن يكون كطيباريوس الروماني1، أو كأوغسطس قيصر الوثني2، الذَيْن كانا متملكين على كرسي داود فعلياً، في زمان عيسى، وكانا بعيدين من شريعة عيسى وموسى، لأن كلام إشعيا إنما هو عن مجئ رجل يجمع الشريعتين، أعني: شريعة موسى العدلية، وشريعة عيسى الفضلية، ويجعل لكل منهما مركزاً، بحيث أن كل واحدة منهما مفتقرة إلى الأخرى.
ونرى ذلك الترتيب عياناً في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المرتبة من العدل والفضل، كما جاء في قوله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} 1. فهنا في قوله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قد استعمل الشريعة العدلية، وأمافي قوله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فقد أفادنا عن الشريعة الفضلية المفوضة إلى إرادة الإنسان، ومن قوله تعالى {الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ 2 وَالسِّنَّ بِالسِّن} ، وباقي غلاقة القول العدلي قد أضاف إليه القول التصدقي أي الفضلي بقوله تعالى غِبْ ذلك3 {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 4. وهذا القول الشريف المركب من العدل والاحسان، أي التصدق الجامع بين الشريعتين السابقتين (الذي كان في أصل شريعة موسى
وانمحى) 1 ينطبق على نبوءة إشعيا هذه، القائلة عن المتنبأ عنه: إن إتيانه يكون بالعدل وبالصدقة*. وهذه المعاني هكذا كان يفهمها النصارى واليهود القدماء، وكانوا يسلمونها اسلاماً خالصاً2. وأما النصارى المتأخرون (فيصرفونها إلى) 3 عيسى عليه السلام، والحال أنها لا تنطبق عليه. أولاً: لأنه ماكان لعيسى رئاسة مرتبطة في قوة كتفه المتعلق فيه ذراعه وسيفه، بل إنه كان خالياً من الرئاسة مطلقاً [ولا كان له في كتفه
علامة شامة كبيرة (مكشوفة) كالمصطفى صلى الله عليه وسلم] 1، وكان دائماً يتخوف ويتهرب، كما يخبر عنه إنجيلهم2، ومحكوماً عليه. ثانياً: أن سيدنا عيسى المسمى عندهم ((يسوع)) لم يكن اسمه ((عجيباً)) ، لأنه قد سبقه من كان باسمه (من الأنبياء) ، وهو يشوع بن نون*، وخلافه كثيرون3، ومع ذلك فنرى أن لفظة ((اسمه عجيباً)) قد انطبقت على نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم من كل جهاتها، لأنه من عهد آدم إلى الآن ما خرج نبي من الأنبياء اسمه أحمد، محمد، وأعجب من ذلك خروج هذا النبي الكريم من بني إسماعيل، في قبيلة معدومة الأنبياء4، عدا أن هذا الاسم الذي هو ((عجيباً)) هو من جملة أسمائه، وتراه مندرجاً في ((دلائل
الخيرات)) 1، ولهذا قد دعى إشعيا اسمه ((عجيباً)) ، وقد صادق على ذلك، أي على قوله: ((عجيباً)) عيسى بقوله: ((وهو عجيب في أعيننا)) 2، وما كان عيسى جباراً مثل المصطفى، بل إنه كان يتظاهر دائماً بأنه كان ضعيفاً فقيراً. وإن قيل عنه من النصارى إنه كان جباراً بلاهوته وليس بناسوته: فأقول: إننا نقضنا هذا الوجه نقضاً كافياً فيما سلف، وأنه ليس فيه لاهوت3، والآن نقول أيضاً: إن كان سيدنا عيسى جباراً بحسب لاهوته المتحد فيه ناسوته، فلماذا عندما تضيق وتحزن وبضجيج توسل وبخوار صوت وأظهر ضعف الإنسانية انحدر ملاك من السماء مقوياً له4؟ كما أخبر إنجيلهم، وأين كان جبروت لاهوته، ولماذا ماصبّر لاهوته ناسوته على التضييق وقواه؟ بل إنه افتقر إلى ملاك ليقويه، مع أن هذا الافتقار والمساعدة
خلاف افتقاراته الطبيعية ومساعداتها. وأيضاً مادعي عيسى ((مشاوراً)) ولا تسمى بهذا الاسم على الإطلاق. ثالثاً: أن عيسى ما كان أبا الأخير1، بل كان متوسطاً فيما بين موسى ونبينا عليهما السلام وعليه البركات. رابعاً: أن عيسى ما كان رئيس سلام كما قال إشعيا، بل كان رئيس الأمة المسيحية2، وأما رئيس سلام أي رئيس الإسلام فقد كان محمداً المصطفى صلى الله عليه وسلم. خامساً: أن عيسى لم يكثر سلطانه كما تنبأ عنه إشعيا، بل إنه ما كان له ملك أبداً، لأن اليهود لما أرادوا أن يخطفوه ويصيروه ملكاً هرب3 *.
سادساً: أن سيدنا عيسى ما كانت شريعته عدلية وفضلية، كما تنبأ إشعيا في هذه النبوءة، بل كانت شريعته فضلية فقط، وأما الذي انطبقت عليه هذه النبوءة وجاء بالشريعة المرتبة بالعدل والإحسان هو أبو القاسم محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم. فإذا كان إشعيا تنبأ عن رجل يكون إتيانه بهذه الصفات المشروحة، أي إنه يكون صاحب شريعة ممتزجة من العدل والفضل، وصاحب حكم وتملك1 [والأب] الأخير الذي لم يعقبه نبي آخر غيره، ورئيس سلام، أعني: رئيس الإسلام والمسلمين، ومشاوراً، وجباراً، [وطائقاً] وعجيباً اسمه، [وصاحب علامة على كتفه المتعلقة برئاسته الدالة عليه دون غيره، الذي إما على وجه المجاز
-على مذهب أصحاب علم المعاني والبيان هي رئاسته بسيفه، الذي كان يعلقه على كتفه، كعادة العرب إلى الآن*،- وإما على وجه الحقيقة تكون الشامة الكبيرة المكتوبة هي العلامة التي كانت على كتفه، التي لا تقبل أدنى شبهة] 1. وهذه الصفات قد وجدت فيه حقيقية ظاهرة، أي في النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وليست مجازية، (وإذا وجدت) الحقيقة فلامحل للمجاز، فكيف يسلّم العقل قبولها على سيدنا عيسى عليه السلام، الذي لم تنطبق عليه، مع أنه ليس مفتقراً إلى سرقة الشهادات التي قيلت عن المختار صلى الله عليه وسلم، إذ أنه قيل عنه من إشعيا ومن الأنبياء شهادات أخر كثيرات، التي لم تنطبق على غيره، حتى ولا على نبينا المصطفى صلى الله عليهما وسلم أفضل الصلاة وأتم السلام.
الشهادة الثامنة إن النبي إشعيا قد أورد في الإصحاح الحادي والعشرين كله ألغازاً أخر (تنبيء) عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال من العدد الأول مبتكراً فيه وقائلاً: ((ثقل البحر البري)) 1. إن إشعيا النبي القائل: ((ثقل البحر البري)) ، قد أشار به عن نبينا، وأخذ فيه وجه الاستعارة التشبيهية بأنه بحر بري، أعني أن خروجه ومشيه وفعله في البر مميزاً إياه من البحر المائي، وإضافته إلى قوله: ((ثقل البحر)) ، أعني أمواجه صلى الله عليه وسلم البليغة التي كانت تهيج فيه، وتكسر سنن2 الكفر مع أصنامها، وأردف إذ قال عن [وجوه] وروده: ((إنه مثلما تأتي الزوابع من الجنوب يأتي إلينا من البر من بلد مخيف)) ؛ يعني أن هذا البحر مع ثقله وأمواجه، يأتي إلينا من البر، من بلد مخيف كالزوابع، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان مجيئه كالزوابع الجنوبية، وكالأمواج الثقيلة، وكان يلاطم ويهدم البروج الكفرية، التي كانت يومئذ مشيدة عند الأعم من البشر، وأضاف إلى قوله: ((إنني أخبرت ببيان صعب العاصي يعصي والناهب ينهب)) . ففي هذا النبي إشعيا قد أظهر ثقل فعل البحر البري، [وكيف نهب العصاة لله كموسى، وهذا النهب هو من خصال العرب، وقد تعجب منه
إشعيا إذ قال: إني أخبرت ببيان صعب الناهب ينهب، وأما على وجه المجاز فنقول بأنهصلى الله عليه وسلم نهب العصاة] 1. وأكد2 المعنى إذ أشار عن نفسه بلسان الحال: ((امتلأ حقوي وجعاً، ومغصاً في قلبي، وارتعاشاً، والظلمة أزعجتني)) ؛ يعني أن ظلمة الكفر التي كانت معششة في البشر* كانت مورثة على رسوله الانزعاج والمغص، ثم قال: ((ابسط المائدة اطلع من المطلع إلى الآكلين والشاربين قوموا أيها القواد ودربوا بالأترسة)) 3. كأنه يتكلم بلسان حال نبينا صلى الله عليه وسلم الناظر إلى الآكلين والشاربين، والمنادي إلى صحابته الكرام، ((قوموا أيها القواد ودربوا بالأترسة)) ، لأنه هكذا قال لي الرب: ((اذهب وأقِمْ الديدبان4 ليخبر مايرى، فرأى فارسين5 أحدهما راكب حمار، والآخر
راكب جمل)) . فالراكب على الحمار هو سيدنا عيسى بدخوله عليه1 القدس الشريف، وأما الراكب على الجمل فهو دليل كاف على نبيناصلى الله عليه وسلم. فهذه العبارة هي على موجب التوراة العربية المترجمة عن اللاتينية، وأما على موجب التوراة العبرانية فالمعنى فيها أجلى من هذا لأنها تقول: (قاري ريخيب صيميد فاراشيم ريخيب حاسود ريخيب كامال) وترجمتها إلى العربي: ((فرأى ركب رديف خيل ركب حمار ركب جمل)) ، وهذه كانت جيوش نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، خلاف عساكر الملوك المقاتلين، لأن الملوك لا تركب جيوشها مراديف، ولا يركبون حميراً ولا جمالاً، وهذه عادة العرب فقط على وجه التغلب، وأن إشعيا على هذا المنوال أبصر في رؤياه جيوش نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ركب رديف2 خيل ركب حمار ركب جمل*.
((فصرخ الأسد)) ، أي نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهذا نوع من الالتفات، ((على مطلع1 الرب أنا واقف بالليل وبالنهار)) . وبالحق إنه كالأسد، وأنه على أوامر الرب كان واقفاً، وبها عارفاً2. يقول إشعيا: ((وإذا برجل راكب أزواجاً من الفرسان)) ، وقال: ((سقطت بابل3 مع أصنامها)) ، وهذا التفات ثان. أقول: فكأن الله سبحانه قد كشف لإشعيا أعمال4 رسوله محمدصلى الله عليه وسلم مكرراً عليه المعاني لأجل التأكيد، مخبراً له عن رديف الفرسان أزواجاً أزواجاً ومعهم رجل. وبلا شك أنه هو صلى الله عليه وسلم الذي كانت جيوشه
مراديف1 أزواجاً، (وأبان) عن السقوط الكائن من فتح بابل2 وإسقاط أصنامها3. وختم4 إشعيا كلامه: ((إن هذا من عند رب الأجناد)) . ثم أفصح بنبوءته عن الأمكنة والأشخاص، أما عن الأمكنة فقال: ((دومة5 تصرخ إليّ من ساعير6 ياحارس فقال الحارس: ارجعوا وأقبلوا)) *.
أقول: إن ((ساعير)) اسم إيالة1، و ((دوما)) اسم بلد في ساعير2 قد كانت مثقلة بالضلال، وأهلها بلسان الحال قد استغاثوا بالحارس، أي بالنبي اليقظان فجاوبهم: ((إلى الله ارجعوا واقبلوا)) 3. وأما عن الأشخاص فقال: ((ثقل على العرب حسبتم تبيتون في الغاب)) 4. والمعنى الذي أورده في أول الإصحاح، أي ثقل البحر البري قد أورد توجيهه هنا: بأنه يكون على العرب، لقوله: ((ثقل على العرب)) ، أعني: أن أول توجيهه وإنذاره كان إلى العرب ثم إنه جمع بقوله: ((تلاقون العطشان بالماء ياسكان التيمن5 واخرجوا بالخبز للقاء المنهزم)) . إن هذه النبوءة من إشعيا قد انطبقت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من دون شك ولا مراجعة، إذ إن إشعيا المشار إليه ماترك مقطعاً من هذا الإصحاح
خالياً من إشارة، ورمز على نبينا صلى الله عليه وسلم، فكأنه في هذا العدد الذي هو الخامس عشر يقول: ياسكان التيمن –أي القبلة1- اخرجوا بالخبز والماء للقاء المنهزم، فبقوله: المنهزم كأنه يتعمد شخصه السامي الشريف، لأنه في أول نبوته حينما انهزم2 وهاجر من وطنه، أي من مكة المشرفة وجاء إلى المدينة المنورة، فعلى الطريق قدم له الخبز والماء من سكان التيمن3*.
ولفظة التيمن مع لفظة العرب السابقة عليها هما من أكبر الأدلة على ظهوره من تلك المحلات لا من سواها، وفي المقطع الذي يتلوه قد عطف إشعيا بضمير الجمع إذ قال: ((لأنهم منهزمون من قبل السيوف، من وجه السيف الحاضر، من وجه القوس الموترة، ومن وجه الحرب الشديدة)) ؛ يعني أن خصومه ينهزمون في عودته ورجوعه عليهم من قبل السيوف من وجه السيف، كما جاء الأمر عليه بقوله تعالى له {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 1، وكذلك جرى ذلك الانهزام على أعدائه، أعني: من جراء سيفه وقوسه الموترة والحرب الشديدة، وكلام إشعيا ((بأنهم منهزمون)) متوجه علىالعرب وعائد ضميره إليهم، (والدليل) على ذلك هو قوله: ((ثقل على العرب)) . وترى هذه المعاني موضحة2 في محلاتها، إذ أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي كان وروده كثقل البحر، وكان هو بحراً برياً وليس مائياً، وهو الذي أتى لنا من البر من بلد مخيف، مثلما تأتي الزوابع من الجنوب، ونهب العصاة*.
وهو الذي قد نادى صحابته: قوموا ياأيها القواد ودربوا (بالأتراس) 1، وكان صلى الله عليه وسلم فارساً، وجيوشه المراديف الراكبين الِجمال والخيل، والحمير*. وهو الأسد الذي صرخ ((على مطلع الرب: أنا واقف)) ، أي على مناظر الرب وأوامره، أنا واقف نهاراً وليلاً، وهو الرجل الراكب أزواجاً من الفرسان، العارف سقوط بابل (قبل كونه) 2 مع أصنامها، الصائر3 فيما بعد من أمته وخلفه، وهو الذي نادته دوما من ساعير: يا حارس، وأجا بها: ((إن طلبتم فاطلبوا ارجعوا إلى الله واقبلوا)) *. وهو الثقل الذي كان4 على العرب العصاة الذين انهزم منهم وهاجر، وقد لاقوه سكان التيمن أي القبلة بالخبز والماء، وفيما بعد عند
رجوعه غدت أعداؤه (منهزمين) من وجهه ومن سيفه وقوسه من وجه حربه الشديد. وبالاختصار أقول: إن إشعيا قد ختم كلامه بهذه الجملة الحاملة تلك الإشارة الوافية المعنى بقوله: ((بأن هكذا قال لي الرب في انقضاء سنة كسنة الأجير يفني كرامة قيدار وبقية عدد أصحاب القسي الجبابرة من بني قيدار يتقللون فإن الرب إله إسرائيل تكلم)) . أقول: إن معنى قوله في انقضاء سنة كسنة الأجير؛ أراد به حولاً طويلاً وثقيلاً، إذ إن الأجير المستأجر قد يحسب سنة استئجاره أنها طويلة ثقيلة. ونبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المشبه بالبحر البري من بعد انتهاء هذه السنة الطويلة التي جاهد فيها، التي شبهها إشعيا كسنة الأجير قد أفنى فيها جميع كرامة قيدار، لأن ((قيدار)) قبيلة وهي (سلالة) 1 من ثاني ولد من أولاد سيدنا إسماعيل، التي كانت تحارب رسول الله محمداًصلى الله عليه وسلم لما عصت دينه الشريف2، وأنشأت عليه الحروب الردية، فسحق قِسِي جبابرتهم وتقللوا
كما تنبأ عليهم إشعيا بقوله: ((يفني جميع كرامة قيدار وبقية أصحاب القسي الجبابرة، من بني قيدار يتقللون، فإن الرب إله إسرائيل تكلم)) . وهذه [النبوءة مربوطة بجملة علامات] ومنطبقة على نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم (دون) سواه.
الشهادة التاسعة إنه في الإصحاح الثالث والثلاثين من تثنية الاشتراع قد أفادنا سيدنا موسى نبوءة، وإشارة عن الأرض، التي منها خرجت شريعة وأنوار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو جبل فاران، الذي في أرضه موجود مكة المشرفة بقوله: ((جاء الرب من سيناء، وأشرق لنا من ساعير، واستعلن من جبل فاران)) 1. أقول: أما قول سيدنا موسى بأنه ((جاء الرب من سيناء)) ، أي أنه تعالى أورد شريعته بكتاب التوراة في سيناء، وأما قوله: ((وأشرق لنا من ساعير)) ، فهي نبوءة عن شريعة عيسى، لأن ((ساعير)) كما كتب عنها في سفر التكوين، وفي كتب الجغرافيا هي معلومة، بأن فيها أشرقت البشارة والإنذار في الديانة النصرانية، لأنها كانت من حظ سبط يهوذا، وعيسى كان من سلالة سبط يهوذا2.
.....................................................................................................
وأما قوله: ((واستعلن من جبل فاران)) ، فمعناه أنه من هناك ظهرت شريعة الله تعالى وناموسه العظيم، الذي هو القرآن الشريف الذي أنزل على المصطفى الكريم، لأن جبل فاران وأرضه هو ظرف لمكة المشرفة، حيث كان يتردد صلى الله عليه وسلم، وولادته كانت هناك، وله فيها أحاديث كثيرة وعجيبة. ولفظة فاران لها معان كثيرة في ((شوراش)) العبراني، أي القاموس، منها الجبل الظليل، ومنها الجبل الذي فيه مغر مجوف من داخله، كما ترجمت هذه اللفظة من اللغة اليونانية.
وجبل مكة الذي شرحنا عنه، الذي موقعه بقربها مسافة ثلاثة أميال، واسمه الآن ((غار حراء)) 1، بمعنى المغور، الذي كان صلى الله عليه وسلم يختلي فيه في مغارة ثمان سنوات2، معتزلاً لفراغ القلب بالذكر، وفيه أوحى الله تعالى3 إليه بواسطة جبرائيل عليه السلام4، والذي يؤكد ذلك ظهور أنوار سيدنا محمدصلى الله عليه وسلم منه وشريعته الغرّاء وليس سواها، كما قد يثبت هذا
الباب حبقوق النبي1 في الشهادة التي تتلو هذه، إذ إنه مع ذكره اسم فاران، يعين أيضاً جهتها، التي هي القبلة لئلاّ تجهل وتلتبس*. وأيضاً أقول: إن لفظة فاران مشتقة من فاران في اللغة العبرانية، وتعريبها المتجِّمل المتزين، وكأن حبقوق مع موسى عليهما السلام يقولان عن نبينا: إنه يأتي من الجبل المتزيِّن. وجبل مكة يصدق عليه هذا الاسم
أيضاً، بحيث هو المتجمل بوجود بيت الله، الحرم الأعظم المبني فيه من دهور عديدة، قبل ظهور النبي الكريم من سيدنا إبراهيم، المتردد على تلك الأمكنة، كما هو محرر في سفر التكوين في الإصحاح الثاني عشر1. وقيل من قبله وعاد فتجدد، ومن هذا الجبل ظهر نبينا محمد الأعظم، وكانت صحابته عشرة، كما تنبأ عنهم زكريا في الشهادة السابقة وشهادة الحال، أعني ظهوره صلى الله عليه وسلم من ذلك الجبل المتزين، الذي هو بالعبراني فاران، هو الإثبات الجاذب لشهادة المقال. وإن قيل: إن سيدنا موسى تكلم بهذه الاشارة بصيغة الماضي، لأنه قال: ((استعلن)) ، ولم يقل يستعلن بصيغة المضارع. فأجيب: أنه من عادة الكتب أن تستعمل صيغة الماضي بمعنى المستقبل في بعض محلات، ومن واقع الحال قد يعلم ذلك، كما أنه قد قيل من سيدنا داود عن عيسى: ((بأن إلهاً قام في مجمع الآلهة)) 2، على صيغة الماضي، وهو وقتئذ لم يكن قام، وقوله: ((والرؤساء اجتمعوا
جميعا)) 1، ولم يكن بعد اجتمعوا، وأمثاله فهي في الماضي، والنصارى تفسرها بالمستقبل.
الشهادة العاشرة إن حبقوق يقول في الإصحاح الثالث: ((ايلواه من التيمن يأتي، والمقدس من جبل فاران يدعس، غطّى السماء ببهجته، ومن شكرانه امتلأت الأرض، بهاؤه يكون كالنور، قرون من يده، هناك مختفية قوته، قدامه يمشي الوبا، ويخرج الشرار لعند قدميه وقف ومسح الأرض، نظر وحل الأمم وتبدد1 جبال العالم وانحنت آكام الدنيا2، العالم هو له)) 3. أقول: إن هذه الشهادة قد حلت وكشفت أولاً نبوة سيدنا موسى عليه السلام، التي سبقت في الشهادة التاسعة، وهي قوله: ((استعلن من جبل فاران)) . فههنا قد كشفت، وعيّن حبقوق أن جبل فاران هو الذي موقعه في التيمن، التي هي القبلة4، وليس هو البرية التي هي مجاورة سيناء5 بقوله: ((ايلواه من القبلة يأتي، والمقدس من جبل فاران يدعس)) 6،وسماه حبقوق ايلواه أي إله.
وكما قررنا عن لفظة إله أنها بالعبراني مشتقة من ((إيل)) ، التي ترجمتها إلى اللغة العربية طايق1 (مكين) 2، فكأن حبقوق قد عيّن مكان خروج نبينا صلى الله عليه وسلم ونعته بقوله ((الطايق3 من القبلة يأتي ومن جبل فاران يدعس)) . أي جبل فاران، الذي هو في لصيق الأرض التي فيها مكة المشرفة، وهو في القبلة أيضاً، وليس في حدود سيناء، لأن التي في حدود سيناء هي برية كما قلنا، وههنا حبقوق يذكر جبلاً مثلما يذكره موسى، مع أن برية فاران أيضاً مسكناً لإسماعيل وخلفه، وهناك تزوج (بالمرأة) المصرية. راجع سفر التكوين في الإصحاح الحادي والعشرين4.
فهذا النبي الكريم الذي سماه حبقوق ايلواه، وأنه يأتي من القبلة من جبل فاران، قد أشار عنه بأوصاف أخر وهي قوله: ((غطّى السماء ببهجته، ومن مدحه امتلأت الأرض، وبهاؤه يكون كالنور)) . فكل هذه الأوصاف تراها منطبقة على سيد المرسلين، بحيث لم يشترك معه غيره فيها، لأنه [ماوجد في الكون نبيٌّ أبهج منه وأبهى] ، ولا وجد سواه من يمدح في المنائروالمنابر في المساجد والأزقة، من العلماء والفقهاء من الأغنياء والفقراء، وقد ترى جميع ألسنتهم غير هادئة من مدحه وشكرانه وأداء الصلاة والسلام عليه وأنواع البركات، التي لم يكن لغيره صائر مثلها مثل موسى وعيسى عليهما السلام، وذلك تطبيق لنبوءة حبقوق القائلة: ((ومن مدحه1 امتلأت الأرض)) . وأثبت ((حبقوق)) نبوءته عليه صلى الله عليه وسلم بإشارته إلى القرون التي كانت من يده، وهم الصحابة الكرام، التي كانت قوته مختفية فيهم، [لأن حبقوق على بسيط القول تنبأ على أن قروناً في يده، هناك مختفية قوته] ، أي في القرون. أعني القوة التي ظهرت بالفتوحات، (وانتشار الدين) 2 من صحابته النجباء رضي الله عنهم، الذين قد سماهم ههنا حبقوق ((بالقرون)) ، وأضاف
إلى ذلك بأن ((قدامه يمشي الوبا)) ، وهذا هو وجه الاستعارة التشبيهية، أي أنه شبه موت السيف العجول1 (الذي عمله) بالوبا، [وأما على وجه الحقيقة، فنرى هنا ((حبقوق)) كأنه كان ينظر بعينيه ماقد حدث من أمر الوباء، وكيف أنه أطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم لما حضر لديه الوباء مع جبريل عليه السلام فأرسله إلى بلدة سكانها يهود، واسمها الجحفة 2، التي منها الآن تبتديء أعمال الحج المصري في القعدة، لأن يهودها في تلك الأيام كانوا كامنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضر، وهذا الوباء هو الذي أرسله ومشى
قدامه، وهو مطابق لنبوءة حبقوق هذه حرفياً، كما جاء هذا الخبر في أحاديثه الشريفة في سيرة حياته المنقولة في كتاب مؤلف من الشيخ علي برهان الدين الحلبي، ويسمى القصة الحلبية1. وقد نقل عنه في حديث آخر "بأنه صلى الله عليه وسلم أرسل قدامه الوباء إلى الشام، وهي بلد من بلد حوران" 2] . ((ويخرج الشرار لعند قدميه)) 3، إن الشرار الذي أفادنا عنه حبقوق هو الذي قال عنه إشعيا في الشهادة الخامسة: ((بأن حوافرخيله مثل الصوان الذي منه ينبعث الشرار)) 4، ويخرج لعند قدميه حينما كان يمشي قدامه الوبا ويحارب ويميت أعداء دينه السامي، الموردين الضر عليه، بعد نصحه لهم صلى الله عليه وسلم كإيليا الذي قتل كهنة باعال5 بالسيف، وبدد جبال
العالم، أعني: أنه قد شتت ذوي الاقتدار، وانحنت1 آكام الدنيا له (أعني الممالك، لأن العالم هو له) ، بحيث إنه هو سيد الأولين والآخرين. وبالاختصار: أن سيدنا عيسى ماجاء من التيمن، أي من القبلة كما قال حبقوق، ولا من جبل فاران دعس، وكل هذه الأوصاف المشروحة لم تنطبق عليه* [كانطباقها على المصطفى صلى الله عليه وسلم] **.
الشهادة الحادية عشر إن سيدنا عيسى عليه السلام قد أفاد عن ورود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعده، وأنه أعظم من كل الأنبياء بقوله في بشارة لوقا في الإصحاح السابع، وفي بشارة متّى الإصحاح الحادي عشر: ((إنه لم يقم في مواليد النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان وأما الأصغر الذي هو في ملكوت السماء فأعظم منه)) 1. أقول: ياترى2 ومن هو هذا النبي الأصغر الذي هو في ملكوت السماء، الذي أفاد وأشار عنه عيسى عليه السلام، وأنه أعظم من يوحنا المعمداني، الذي هو أعظم من كل الأنبياء3، (فلننظر) إلى الوسط من تفاسير علماء النصارى لهذه الآية، ونقول: إن قوماً منهم قالوا: إنها من
يوحنا الإنجيلي –أحد حواريي سيدنا عيسى–، وقوماً منهم قالوا: [إن هذه الآية مقولة] عن (عيسى نفسه) 1. فأجيب: إن هذين القولين منقوضان، لأن يوحنا الإنجيلي ماتسمى نبياً على الإطلاق، ولا نعت بأنه أعظم من كل الأنبياء، إذ إن بعضاً من النصارى قالوا: إن بطرس الحواري أعظم منه، وقوماً قالوا: إنه مساو لبطرس2، (ومع ذلك فإنه ليس يوحنا الإنجيلي فقط الذي لم يكن نبياً، بل لم يكن بعد عيسى من قومه نبي، فضلاً عن أن يدعى أنه أعظم الأنبياء) 3، وصريح الآية تشهد عن الأصغر بأنه نبي، وأنه أعظم من كل الأنبياء. وأما الذين فسروا هذه الآية على شخص عيسى فنقول لهم: إن سيدنا عيسى ليس هو من مواليد النساء الطبيعية المعتادة، كمثل المعمداني،
أو كباقي1 الأنبياء، حتى يستدل بأن هذه الآية مشيرة عليه، لأنه عليه السلام مولود من آنسة2بتولٍ3 عذراء، ولم يولد بالأوجاع والزرع النكاحي، والعامل النسائي المألوف، كالمعمداني أو كباقي الأنبياء. فبإبطال هذين [القولين] 4، وعدم احتمال المعنى (لهما) 5، وإسقاط الدعوى: ما يوجب أن يكون المضمون منصرفاً ومقولاً عن نبي آخر شهير عظيم خلافهما تنطبق عليه الآية: فيكون النبي6 الموعود به من عيسى هو من مواليد النساء الطبيعية المألوفة مثل يوحنا وباقي الأنبياء، ومنعوتاً وشهيراً بالعظمة. ونرى أنه لم يقم نبي بعد المعمداني بهذه الصفة، (بل لم يوجد من تسمى) 7 أصغراً وعظيماً وموجوداً في عالم الأرواح، تطبيقاً لإشارة سيدنا عيسى، سوى سيد المرسلين الأولين والآخرين، [وهو الذي قيلت
عنه هذه النعوت صلى الله عليه وسلم] ، الذي قال عنه موسى الكليم في الشهادة الأولى: ((إن الرب إلهكم سيقيم نبياً من إخوتكم مثلي ... )) . وأيضاً نقول: إن لفظة الأصغر المقولة بهذه الآية الإنجيلية هي في اللغة اليونانية ((اوميكرتيروس)) ، وهذه اللفظة عند علماء الغراماتيك1 والنحو يونانياً وعربياً تفيد المبالغة بالصغر، كما أن لفظة ((ميغاليتوروس)) [التي هي أعظم] ، وهذه المبالغة بالصغر تصدق على المختار من كونه هو الأصغر في كل الأنبياء، إذ إنه آخرهم جميعاً وأتباعه، وبأن هذا الأصغر هو الأعظم بالمجد والشرف، وقد علم منه بأنه أي: نبينا هو الأصغر بالتأخير، وهو الأعظم بالمجد والشرف والكبير (في رتبة النبوة، انتهت الشهادات) .
الباب الخامس: التناقضات في التوراة والإنجيل الدالة على تحريفهما
الباب الخامس: (التناقضات في التوراة والإنجيل الدالة على تحريفهما) في الشكوك الناتجة من القضايا المتناقضة، والقصور الحاصل من ركاكة الجمل الغير مرتبطة، الموجودة في كتب العهدين، المفيدة بأن التوراة والإنجيل مزوران، وذلك بأصرح عبارة وأجلى بيان. الشك الأول متّى الإنجيلي في الإصحاح الأول يقول: "إن يورام أولد عوزيا"1، ويناقضه سفر الأيام الأول في التوراة في الإصحاح الثالث حيث يقول إن: "ابن يورام أخزياهو وابن أخزياهو يواش وابن يواش امصيا وابن امصيا عوزيا" 2.*
شرح صورة التناقض إن الفرق ههنا يظهر أن متّى قد نقص ثلاثة ملوك من هذه السلسلة عن سفر الأيام الأول، وهم "أخزياهو، ويواش، وامصيا"، لأن متّى ذكر أن يورام ولد عزيا، والحال أن في سفر الأيام الأول يذكر خلاف ذلك، وهو أن عوزيا هو ابن امصيا، وليس هو ابناً ليورام كما ذكره متّى، بل إن يورام هو جد جد عوزيا1. وإن قيل في حل هذا الشك الذي هو الشك الأول: إنه مكتوب في سفر أستير، التي كان أخذها ابن عمها مردخاي من بعد موت أبيها ورباها، وصارت كابنة له2، وعلى هذا المنوال صار عوزيا ابناً ليورام. فأقول: نعم إن "أستير" صارت بحسب التربية كابنة لمردخاي، ولكن هنا عوزيا لم يذكر عنه أن يورام ربّاه حتى إنه كان يدعى ابناً ليورام، لأن يورام كان قد مات قبل ثلاثة أجيال من ولادة عوزيا، ثم أستير لم يُقَل عنها
إن [مردخاي ولدها كما قال ههنا متى: إن] يورام ولد عوزيا، بل قال: إن أستير قد صارت كابنة لمردخاي. وأيضاً أقول: إن متّى (ثنى) 1 بتأكيد سلسلته إذ قال: "إن من داود إلى سبي بابل أربعة عشر جيلاً 2، فيظهر أن كلامه (مرتباً محدداً) 3، يريد به أن يورام ولد عوزيا بالفعل، (وليس عنده علم بنقص ثلاثة أنفار) 4 من سلسلته، الذين لو حسبهم متّى لكان ينبغي أن يكون عدد الأجيال من داود إلى سبي بابل سبعة عشر جيلاً. وإن قيل: إن متّى قد ترك هؤلاء الثلاثة أنفار من سلسلته من أجل أنهم خطاة. فأجيب: وعساه أن يترك الكثير من السلسلة لأنه يوجد من هو (أكثر خطأً) منهم بكثير، مع أنه لم يكن قصده أن يعد [الصالحين فقط، بل] (أراد ذكر) سلسلة ولادتهم، سواءً كانوا صالحين أم طالحين،
بحيث إنه ذكر أشقى منهم بكثير. فمن هذه الأدلة [الأربعة] يثبت النقص والتزوير1 في إنجيل متّى. وإن قيل: إن كتاب التوراة قد جرت (فيه العادة) مثل هذا النقص كما ورد في الشك التاسع والعشرين عن سلسلة هارون. فأجيب: إن كان متّى يقتفي آثار التوراة (التي كتب فيها) 2 سلسلة هارون بالنقص، ويستند على العادة، فالنقص المكتوب في التوراة على من تسند عادته. وأيضاً أقول: إن الابن إذا ثبت عليه (عمل فاسد أخذه) 3 عن أبيه فلا يخلصه الاعتذار بأن يقول: هذا العمل هو عادة أخذتها عن أبي، بل إن الحق يعطى للخصم، وأن يُخطأ الاثنان كلاهما معاً.
الشك الثاني في إنجيل متّى في الإصحاح الأول يقول: "إن يوشيا ولد يوخانيا، ويوخانيا ولد شألتئيل، وشألتئيل ولد زروبابل1، وزروبابل ولد أبيهود"2. ويناقضه سفر الأيام الأول في الإصحاح الثالث إذ إنه يسحب هذه السلسلة (مخالفاً) 3 لمتّى، لأنه يقول: إن يوشيا، ولد يهواقيم ويهواقيم، ولد يوخانيا، ويوخانيا ولد شألتئيل وأخوه فدايا، وفدايا ولد زروبابل، وزروبابل ولد سبعة أولاد وهم: مشولاهم، وحنانيا، واحشديا، واوهيل، وبارخيا، وحسديا، ويوشحشد، واشموميت، أختهم*.
(إن زروبايل ولد سبعة أولاد ذكور وابنة، ولا ترى واحداً منهم اسمه أبيهود كما ذكر متّى) . صورة التناقض أقول: إن ههنا ثلاث مشاكل: أولاً: إن متّى يقول: إن يوشيا ولد يوخانيا، وفي سفر الأيام الأول يقول: إن يوشيا ولد يهواقيمويهواقيم هو الذي ولد يوخانيا1، فيكون يوخانيا ابن ابن يوشيا، وليس هو ابن يوشيا كما في سلسلة متّى. ثانياً: إن متّى يقول: "إن يوخانيا ولد شألتئيل، وشألتئيل ولد زروبابل"، وفي سفر الأيام الأول قال ضد ذلك: "إن يوخانيا ولد شألتئيل وأخوه فدايا، وفدايا هو الذي ولد زروبابل"2 فيكون شألتئيل عم زروبابل أخا أبيه، وليس هو أباه كما غلط متّى. (وإن قيل: إن سفر عزرا3 ونحميا 4 ذكرا أن زروبابل هو ابن شألتئيل كما ذكره متّى.
فنقول: إن الفرق صار فيما بين نحميا وعزرا وبين سفر الأيام الأول) .1 ثالثاً: إن متّى ذكر أن زروبابل ولد أبيهود، وفي سفر الأيام الأول قال عكس ذلك: إن أولاد زروبابل كانوا بالعدد سبعة، وابنة اسمها اشمونيت2، انظرهم [مسطرين في السلسلة المشروحة تجاهك لاترى واحداً منهم اسمه أبيهود، بل إن أسماءهم متباعدة عما كتبهم متّى الإنجيلي، عدا أن باقي هذه السلسلة من زروبابل إلى عدد ستة أسماء تنتهي بهم سلسلة التوراة المدونة في سفر الأيام الأول جميعهم متغيرون في إنجيل متّى، لأن متى كتب "أن زروبابل ولد أبيهود، وأبيهود ولد ألياقيم، وألياقيم ولد عازر، وعازر ولد صادوق، وصادوق ولد آخين3". وأما في التوراة في سفر الأيام الأول فيعدد أناساً خلافاً للذين عدهم متى، وهم: زروبابل ولد حنانيا، وحنانيا ولد شيخينا4، وشيخينا ولد تعريا5، وتعريا ولد اليوعينا، واليوعينا ولد يوحانان.
ويظهر من هذه الاختلافات والتحريفات واحد من ثلاثة وجوه: إما أن متّى الإنجيلي جاهل لايعرف هذه السلسلة، أو أن قلماً آخر غريباً زوّر عليه أو أن التوراة مزورة والله أعلم] 1.
الشك الثالث في الابركسيس1 في الإصحاح السابع ذكر أن إبراهيم عليه السلام كان قد اشترى المغارة من بني حمور بن شخيم 2، وأما في سفر التكوين في الإصحاح الثالث والعشرين فيقول خلاف ذلك وهو أن: إبراهيم اشترى المغارة من عفرون بن صاحر من بني حث (في حبرون) 3. صورة التناقض يظهر لنا من هذا اختلاف 4: أولاً: اسم ومكان المغارة. وثانياً: تغير أسماء البائعين لها والمشتري هو واحد، لأن في الابركسيس يذكر أن إبراهيم اشترى المغارة من بني حمور بن شخيم [والبلد باسمه -أعني شخيم-] ، وفي سفر التكوين قال: إن إبراهيم اشترى المغارة من عفرون بن صاحر من بني حث. فمن هذين القولين يتبين لنا التناقض عياناً بحيث إنه قد تغير فيهما مكان المغارة، وتغير أيضاً أسماء البائعين لها.
(فعلى العالم النحرير1 أن يحدد باختياروإرادة حرة مكان التزوير إن كان يريد أن يحدده) 2: التوراة القائلة عن البائع إنه كان من عفرون بن صاحر، أو أن يحدده في لوقا الإنجيلي كاتب الابركسيس، والقائل فيه بأن البائع كان من بني حمور بن شخيم. [فعلى كل حال التحريف واقع] .
الشك الرابع في إنجيل لوقا أيضاً كتب في الإصحاح الثالث أن شالح بن قينان ابن أرفخشد بن سام بن نوح بن لامك بن متوشالح بن اخنوخ بن يارد بن مهللئيل بن قينان، بن انوش1، وأما في سفر التكوين في الإصحاح الخامس2 والعاشر3 فأنقص من ذلك قينان واحد إذ قال فيه: إن آنوش ولد قينان وأرفخشد ولد شالح.*
صورة التناقض: إن التوراة العبرانية الموجودة عند اليهود تضادُّ إنجيل لوقا لأن لوقا يكتب في إنجيله قينانين اثنين: الواحد ابن أرفخشد، والآخر ابن آنوش. وأما التوراة العبرانية فتقول قينان واحد، وهو ابن آنوش ولم تذكر قينان الآخر، الذي هو ابن أرفخشدبل تذكرأن ابن ارفخشد هو شالح، وهذا هو التزوير 1 الظاهر.*
الشك الخامس في التوراة العبرانية الموجودة عند اليهود في الإصحاح الخامس من سفر التكوين ذكر أن: شيث لما كان عمره مائة وخمس سنين ولد أنوش1، وأما في التوراة اليونانية السبعينية فيقال ضد ذلك: أن شيث لما كان عمره مائتين وخمس سنين ولد انوش. صورة التناقض إن التوراة العبرانية أنقصت مائة سنة من عمر "شيث" عن التوراة اليونانية السبعينية، وهذه التوراة العبرانية التى هي الأصل والمستعملة عند اليهود مقبولة عند الكنائس الغربية2 أيضاً، كما سبق القول وليس سواها، وأما التوراة السبعينية فهي المقبولة عند طائفة الروم3 الملكية وليس سواها، ومن جرّاء ذلك لا نعلم أيما هي التوراة الكاملة أو الناقصة المزوّرة4، وتبع ذلك الفرق وهو نقص السنين5 وزيادتها من عمر
"شيث" إلى عمر سيدنا نوح، أي نقص أعمار الأشخاص مع نقص عمر قينان الزائد الذي ذكرناه سابقاً فرق بين التوراتين1، هو ألف وأربعمائة وسبع وخمسون سنة*. وهذا النقص والتزوير فيما بين التوراتين لايلزمه إثبات2، لكونه مشهوراً عندهم بالتاريخ الذي لأبينا آدم عليه السلام لأنك إذا سألتهم: كم التاريخ الذي من أبينا آدم إلى سيدنا عيسى عليهما السلام؟ فالروم3 تقول: خمسة آلاف وخمسمائة وثمان سنوات، [والكنائس الغربية] 4 (الإنجيلية) تقول: أربعة آلاف وواحد وخمسين سنة، فيكون الفرق كما
حررنا أعلاه قبله: ألفاً وأربعمائة وسبعة وخمسين سنة لا غير، وهذا تزوير ظاهر.*
الشك السادس في إنجيل لوقا في اللغة اللاّتينية في الإصحاح العاشر يذكر أن من بعد ذلك رسم الرب اثنين وسبعين تلميذاً، وأما في النسخة اليونانية فيذكرأنه رسم سبعين1. صورة التناقض إن حواريي سيدنا عيسى غير الاثنى عشر في أناجيل الغرب2 في اللغات الموجودة فيها: أن عددهم اثنان وسبعون تلميذاً، وأما في كنائس اليونان فموجود في إنجيلهم بأن عددهم سبعون، وهذا تناقض ظاهر، إذ إن أناساً من النصارى تعتقد بأن النسخة اليونانية هي الصادقة، وأن عدد الحواريين سبعون، وأناساً يعتقدون بخلافهم بأن النسخة اللاّتينية هي أصدق، وأنهم اثنان وسبعون، فلا يخلو صدق الواحدة من بطلان الأخرى، (وهذا هو المطلوب لبيان التزوير) .
الشك السابع في إنجيل مرقص في الإصحاح الخامس عشر قال عن موت المسيح على زعمهم: إنه كان نهار الجمعة بعد الساعة التاسعة بقوله: "فأما يسوع فصرخ بصوت عظيم وأسلم الروح، ولما كانت الجمعة التي قبل السبت"1. وأما لوقا في الإصحاح الرابع والعشرين فيذكر عنه قيامته فيقول: "وفي أحد السبوت باكراً جداً أتين إلى القبر فلم يجدن جسد يسوع"2. فأما متّى في الإصحاح الثاني عشر فيقول عن كلام عيسى إنه قال: "كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالي، هكذا يكون ابن البشر في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالي"3.
صورة التناقض إن ههنا حصل التناقض في الزمان بحيث إن معنى (كلام) مرقص والإنجيليين (الآخرين) أن عيسى مات نهار الجمعة بعد الساعة التاسعة، ويوافق (على ذلك) أيضاً لوقا معهم [عن] قيامته، وأنها كانت نهار الأحد باكراً جداً، فتكون إقامته في القبر ساعة واحدة من آخر نهار الجمعة1، وليل السبت ونهاره، أربعاً وعشرين ساعة، وليل الأحد إلاجزءاً لحين الغلس، فلنفرضها إحدى عشرة ساعة، فتكون جملة الساعات التي مكث فيها بالقبر ستاً وثلاثين ساعة. ومتّى الإنجيلي قال عن عيسى2 إنه قال: إنه يكون في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال جمعها اثنتان وسبعون ساعة، فهذا هو الفرق الأول الواقع فيما بين ست وثلاثين ساعة، وبين اثنتين وسبعين ساعة. والفرق الثاني هو مخالفته في ثلاثة أيام وثلاث ليال، لأن بقاءه في الأرض لو حسبنا الساعة من آخر نهار الجمعة [سميناها] يوماً بلا ليلة،
وليلة السبت ونهاره سميناه يوماً كاملاً، وليل الأحد الناقص سميناه ليلة بغير نهار، فتكون الجملة يوماً واحداً كاملاً، ونهاراً وليلة ناقصين، فمن أين يكمل قوله: ثلاثة أيام وثلاث ليال. وإن قيل في حل هذا الشك (الذي هو الشك السابع) : إن الظلمة التي ذكرها مرقص الإنجيلي التي كانت نهار الجمعة من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة1 قد تحسب ليلة ونهارها يسبقها 2 فأجيب: إنه في وقت الظلمة لم يكن المسيح مات بعد، ولا قُبِرَ في بطن الأرض على زعمكم، [ومع ذلك أننا إذا حسبنا الظلمة بالتقدير المحال، فلا تكفي لتكميل الحساب المطلوب] . وإن قيل أيضاً إنه من حين أعطى جسده لتلاميذه مساء الخميس
(وأكلوه1 يمسك الحساب) على رأي الذهبي2 [مفسر الإنجيل] ، ويعتبر بالجواب أنه دفن في بطونهم بواسطة الخبز مجازاً. فأجيب: إن هذا الجواب هو أعقم من الذي قبله، لأن الذي دفن في بطونهم بواسطة الخبز لم يقم في اليوم الثالث، كما قال: إنه في اليوم الثالث يقوم (فعلا) ، ولا كان تألم فعلاً، [ولا دفن حقيقة على زعمكم، كما قال إنه قبل دفنه يتألم فعلاً] 3. وثانياً: إن رأيكم هذا يجوز لو كان لم يتألم فعلاً، ولم يدفن حقيقة على زعمكم (الباطل) في بطن الأرض، وكان يمكن أن يقبل تفسيركم بأنه دفن في بطون التلاميذ مجازاً، (معبراً عن ذلك بأكل) 4 الخبز والخمر، ولكن حيث دفن جسده حقيقة في بطن الأرض، فلا محل
للمجاز مطلقاً، وهذا تزوير. (ويدل على) أنه ما مات بل شُبِّه لهم [كما أخبرت الآية الشريفة] 1.*
الشك الثامن في إنجيل متّى ذكر عن عيسى في الإصحاح العاشر أنه قال: "لا تملكوا فضة ولا ذهباً ولا نحاساً في مناطقكم ولا همياناً في الطريق، ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا"1. وأما مرقص في الإصحاح السادس فيقول ضد ذلك: فقد أمرهم يسوع أن لا يأخذوا شيئاً في الطريق غير عصا فقط لا خرجاً ولا نحاساً في مناطقكم إلا نعالاً2.* صورة التناقض إن متّى كتب كل الوصايا التي ذكرناها بالسلب بقوله: "لا تملكوا ذهباً ولا فضةً ولا نحاساً [في مناطقكم] ولا أحذية ولا عصا"، وأما مرقص فيقول مثلما قال متّى بالسلب، لكن ليس كل الوصايا، بل إنه استثنى (الأحذية والعصا، مضاداً لمتّى لأنه يقول: غير عصا إلا نعالاً،
يعني أنهم يأخذون أحذية وعصا وذلك خلافاً لمتى كما قلنا) 1. وهذا تناقض ظاهر2.
الشك التاسع في إنجيل يوحنا في الإصحاح الثاني كتب أنه "في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل"1 أي هيكل سليمان. وأما في سفر الملوك [الثالث] في الإصحاح السادس قال ضد ذلك وهو: "فمن هذا كمال2 البيت في جميع أموره وزينته وبناه في سبع سنين"3. صورة (النقض بالزمان) في إنجيل يوحنا في الإصحاح الثاني قال: إن عمارة الهيكل كانت في ست وأربعين سنة إلى انتهائها، وفي سفر الملوك ينقض هذا القول بأن كمال البيت كان في سبع سنين، فهذا مع أنه تناقض، إلا أن الفرق بين السبعة والست والأربعين كبير5. وإن قيل في حل هذا الشك: إن مقصد يوحنا في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل، من حيث إنه بعد عمارته الأولى التي ذكر عنها في سفر الملوك الثالث: إنها تمت في سبع سنوات، (ثم) عاد انهدم وعمر مرة
أخرى أيضاً. فلربما تكون جملة السنين الأولى والثانية في كلام يوحنا ستاً وأربعين سنة فأجيب: كلاّ، لأنه في سفر عزرا كتب أن ابتداء تعميره الثاني، الذي حصل بعد الانهدام كان في السنة الثانية من ملك داريوس1، ولما انتهى زمان العمارة كان في السنة السادسة2 [من ملكه] ، (فتكون العمارة الثانية تمت في أربع سنوات) 3، فإذا أضفنا هذه الأربع سنوات إلى السبع التي عمر بها سليمان البيت فتكون إحدى عشرة سنة، فلا تكمل الست وأربعين سنة المذكورة في يوحنا. وإذا قيل: إن قبل داريوس ابتدأ اليهود في وضع الأساس، (وذلك) في زمان قورش4 ومنعوا كما ذكر عزرا، وبعده في زمان داريوس5 أكملوه، فلربما تكون هذه المدة مكمّلة لما قاله يوحنا. فأجيب: أنه إذا حسبنا من حين وضع الأساس بأمر قورش، إلى حين بدء تعميره ثانية في السنة الثانية من ملك
داريوس لا تجمع [جملة] المطلوب، لأن جملة هذه المدة تجمع أربع عشرة سنة، كما ذكر في سفر عزرا، (ومدة) تعميره الثاني أربع سنين التي أولها كان السنة الثانية من ملك داريوس، (وانتهى في السنة السادسة من ملكه) كما ذكرنا، فإذا أضفنا السبع سنين الأخرى التي عَمّره فيها سليمان، فيكون الفرق الباقي المظهر للتناقض والتزوير إحدى وعشرين سنة. وهذا المعدل فيه الكفاية عند أرباب علم الحساب وذوي العقول السليمة أن يدركوا أنه تناقض بالحقيقة، إذ إنه في سبع سنين تمت عمارته الأولى وأربع سنوات أخرى التي تم بها عمارته الثانية وأربع عشرة سنة فاصل فيما بين وضع الأساس وبين البناء وإن فرضنا1 هذه الأربع عشرة سنة تقدير محال، فتكون الجملة خمساً وعشرين سنة، فلنخرجها من أصل الست والأربعين التي ذكرها يوحنا، فيكون الفرق إحدى وعشرين سنة. ومنها (يظهر) ظاهراً التناقض والتزوير2.
الشك العاشر في سفر تثنية الاشتراع في الإصحاح الرابع والعشرين قالوا: "لا تقتل الآباء عوض البنين ولا البنون عوض الآباء"1. وأما في سفر الخروج في الإصحاح العشرين فقال ضد ذلك وهو قوله: "اجتزي ذنوب الآباء من الأبناء إلى ثلاثة وأربعة أجيال"2. صورة التناقض هذا الاشكال مع كونه تناقض ظاهرإلا أنه ظلم محض3، إذ إنه في موضع قال: إنه يقتص4 من الشخص (البرئ) عن غيره، وهو الظلم الذي ذكرناه، وفي موضع آخر يناقض كلامه السابق: بأن لايقتص من البنين عوض آبائهم. (ومثله يوجد تناقض آخر في إرميا في الإصحاح الحادي والثلاثين) : "ولكن كل واحد يموت بإثمه"5، ويقول هو نفسه في الإصحاح الثاني والثلاثين: "وتروا إثم الآباء على حضن أبنائهم"6
فأولاً: إن هذين النصين عدا أنهما متنافران، إلا أن أحدهما أعني قصاص شخص غير مذنب 1 عن شخص آخر مذنب مباين للعدل مباينة كلية. وثانياً: يؤكد (إجراء) هذه الشريعة الظالمة بوجه أبلغ بولص بقوله إلى أهل رومية 2: "وكما أن بذنب إنسان واحد صار إلى جميع الناس الشجب"3، يعني أن البشر كلهم بقوا تحت الخطيئة التي لآدم*،
فكيف يقبل العقل مثل هذا الظلم (القسري) ، ويسلم بمثل هذا التناقض، أذ إن هذا الشك مع أنه ظلم محض، فهو تناقض 1.
الشك الحادي عشر في سفر الأيام الثاني في الإصحاح الحادي والعشرين ذكر أن يورام لما كان عمره اثنتين وثلاثين سنة نصبوه ملكاً، وقد تملك ثمان سنين ومات1، وأقيم بعده ابنه أخزياهو عوضه، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وملك سنة واحدة 2. صورة التناقض إن ههنا أخبرت التوراة أن يورام لما كان عمره أربعين سنة مات، وملك ابنه أخزياهو عوضه، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، فكأن أخزياهو قد خلق قبل أبيه بسنتين، وما أدري كيف أن الابن يخلق قبل الأب بسنتين، وهذا لايتكلم به عاقل. وإن3 [قيل في حله: بأن في سفر الملوك الرابع مذكورة هذه القصة، (وفيها) أنه لما مات يورام كان ابن أربعين سنة، (فجعلوا) ابنه أخزياهو عوضه، وكان عمره اثنتين وعشرين سنة 4 وهذا هو الحق.
فأجيب: نعم، ولكن هذا الجواب لاينفي التحريف بل يؤكده، بحيث قد بقي الفرق فيما بين سفر الأيام الثاني وبين سفر الملوك الرابع. وهذا هو المطلوب لبيان التحريف، لأن في التوراة اليونانية أيضاً مذكوراً في السفرين، بأن أخزياهو كان ابن اثنتين وعشرين سنة لما ملك.
(الشك) الثاني عشر في الإصحاح العشرين في سفر الخروج قال "وإن عملت لي مذبحاً من حجارة فلا تبنه لي من حجارة يصيبها الحديد، لأن ما أصابه الحديد يتنجس".1 صورة الركاكة إن هذا القول نسبوه لله تعالى، وحاشاه من أن يتكلم بمثل هذا الكلام الذي لا يقبله العقل، لأن من يقول: إن المذبح الذي يعمل لايكون من حجارة معمولة بالحديد، لأن ماأصابه الحديد يتنجس، أما ينظر إلى الذباح على المذبح ذاته كيف يذبح بالحديد، وأعمال البشر جميعها من القبة والألواح المنحوتة وبناء الهيكل وعمل الأواني، أما يفطن إليها كلها مصنوعة من البشر بواسطة الحديد!! وماورد لها تطهير في الشريعة، فلا يخلو إما أن يكون البشر وأعمالهم، والقبة وأوانيها، والهيكل والذبائح، كلها تنجست بواسطة الحديد، أو أن الآية فيها تزوير على الله.*
(الشك) الثالث عشر في إنجيل متى في الإصحاح التاسع يقال للأعميين اللذين شفاهما المسيح، "فانفتحت أعينهما فانتهرهما يسوع قائلاً: لا يعلم أحد".1 (الشك) الرابع عشر في إنجيل مرقس في الإصحاح الثامن قال للأعمى الذي شفاه وأرسله إلى بيته قائلاً: "اذهب إلى بيتك وإن دخلت القرية فلا تقل لأحد".2
(الشك) الخامس عشر في مرقص في الإصحاح الخامس قال: "إن المسيح لما أقام الميتة أمرهم كثيراً بأن لايعلم أحد".1 (الشك) السادس عشر في إنجيل مرقس في الإصحاح السابع يقول عن شفاء الأخرس والأطرش "وللوقت انفتحت أذناه وانحل رباط لسانه وتكلم حسناً، وأوصاهم ألا يقولوا لأحد شيئا، فأما هم بقدر ماكان يأمرهم بقدر ماكانوا يزدادون مكررين".2 (صورة التحريف) إن المقول في هذا الشك والمقول في الثلاثة شكوك (السابقة) بمعنى واحد، إذ إنها محتوية على الركاكة، لأنه كيف يمكن للأعميين أن يخفيا أعينهما لكي لايعلم أحد، وكيف الميتة التي أقامها بين أنفار كثيرين أن ينكتم أمرها، أو الأخرس والأطرش الذي صار له سنوات قد نظروه
صار يسمع ويتكلم، وذاك الأعمى الوحيد كيف يجوز العقل أن يخفى أمرهم! فالموصي في إخفاء مثل ذلك هو غير مدرك أن وصيته ممتنع أن تأخذ مفعولها، وهذه الركاكة الكلية حاشا سيدنا عيسى منها، ومن أن يتكلم في مثل هذه الوصايا، التي لايمكن أن تجري*.
(الشك) السابع عشر في إنجيل لوقا في الإصحاح الثاني عشر قال بعد قوله: "لا تهتموا بأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون، بأن من منكم إذا هم يقدر أن يزيد على قامته ذراعاً واحداً، فإن كنتم لا تستطيعون ولا ماهو صغير فكيف تهتمون بالبواقي".1 صورة الركاكة إن معناه ههنا: لا تهتم بالغد ماذا تأكل؟ أو ماذا تلبس، وضرب مثلاً بأنه: إن كنتم لاتقدرون أن تزيدوا على قامتكم ذراعاً واحداً فكيف تهتمون بالبواقي. فكأنه يقول: إن الحصول على مؤونة الغد شاق وصعب، أما التطويل للقامة فهو ممكن الحصول. والحال أن الأمر (بالعكس) ، لأن الاهتمام بالغد يقع مع الأكثر ويفعلونه، وأما التطويل للقامة ما وجد على الإطلاق، ولا قدر على فعله إنسان.
فكيف عيسى عليه السلام يصعب الممكن صنعه، وبجعل الهين المصنوع ممتنعاً* (والمستحيل الغير ممكن صنعه يجعله هيناً) 1، فهذا الأمر لا يتصوره عاقل. والذي يؤكد تزوير هذا المثال شرح صورته الصحيحة في إنجيل متى الإصحاح السادس2، حيث (ذكره بدون الجملة المزورة) ، التي هي "فإن كنتم لا تقدرون ولا ماهو صغير كيف تهتمون بالبواقي".3
(الشك) الثامن عشر في الإصحاح الثامن من إنجيل يوحنا يقول عيسى لليهود "قد كتب في ناموسكم أن شهادة رجلين حق هي فأنا أشهد لنفسي وأبي الذي أرسلني يشهد لي" 1. صورة الركاكة فأقول حاشا سيدنا عيسى أن يذكر مثل هذا الكلام السخيف، لأنه هو المدعي وهو الشاهد لنفسه، كأنه غير عارف معنى الشريعة التي ذكرها، أن المدعي يقتضي أن يستشهد اثنين خلاف شخصه، فالمسيح كيف يقول عن ذاته: إنه هو يشهد لنفسه، وأبوه هو الشاهد الثاني، الكلام الذي هو مضاد للعقل، ومضاد أيضاً لنقله، الذي هو استند عليه بقوله "كتب في ناموسكم أن شهادة رجلين حق"، مع أنه كان يكفي عن قوله "كتب في ناموسكم أن شهادة رجلين حق "أن يقول أبي يشهد لي فقط، فالمؤمن يصدق، وغير المؤمن لا يصدق، ففي الوجهين أولى من ورود هذه الدعوى2، التي يظهر أنها مزورة عليه وهو بريء منها، لكونه له معرفة تامة بالشريعة.
(الشك) التاسع عشر في الإصحاح السابع والعشرين من إنجيل متى قال "حينئذ تم ما قيل في إرميا النبي وأخذوا الثلاثين الفضة ثمن المثمن الذي أثمنه بنو إسرائيل وجعلوها في حقل الفخار كما أمرني الرب".1 صورة التزوير هذه الشهادة التي ذكرها، وأنها من نبوة إرميا ليس لها وجود في نبوة إرميا، بل هي موجودة في نبوة زكريا في الإصحاح الحادي عشر2. فالحاكم العاقل له أن يحكم في أحد ثلاثة وجوه: إما بعدم معرفة متى الإنجيلي، وأنه ما أدرك إن كان إرميا كتبها أو زكريا، أو بتحريف هذه الشهادة في إنجيله، وإما أن قلماً آخر غير موضعها في التوراة.
الشك العشرون في إنجيل يوحنا في الإصحاح التاسع يقول: "بينما يسوع كان مجتازاً رأى رجلاً أعمى مولوداً فسأله تلاميذه قائلين: من أخطأ أهذا أم أبواه حتى أنه ولد أعمى؟ أجاب يسوع وقال: لا هذا أخطأ ولا أبواه، ولكن لتظهر أعمال الله فيه".1 صورة التحريف إن هذا الرجل الذي ولد وهو أعمى: متى أخطأ، حتى أنهم سألوا سيدنا عيسى: من أخطأ أهذا أم أبواه، حتى أنه ولد أعمى2؟ فلابد أن يظهر من سؤالهم هذا أنه كان في الدنيا قبل هذه المرة ومات، [وقد بقي عليه خطايا كما تزعم اليهود إلى الآن] ، ولما رجع إلى الدنيا ثانية؛ أعني في زمان عيسى اقتص منه بالعمى في جوف أمه عن خطئه السابق قبل موته الأول. وهذا المعنى الوارد منهم، أعني أن الإنسان يوجد في العالم ويموت ثم بعده يرجع ويعيش، لا يخلو: إما أن يكون عيسى قد سلم به واستصوبه، بحيث أنه لم ينقضه عليهم ويقول لهم: أيا جهال متى أخطأ هذا؟ أقبل ولادته؟ وإما أنه ما فهم منهم قوة معنى كلامهم، ولا أدرك قوة مصادقة كلامه الذي أورده لجواب كلامهم أي قوله: لا هذا المخطئ ولا أبواه. وعلى الحالتين الركاكة والقصور في الاعتقاد موجودان.
الشك الحادي والعشرون في سفر التكوين في الإصحاح التاسع يقول: فلما نظرحام أبو كنعان عرية أبيه أنها مكشّفة أخبّر إخوته خارجاً، فلما استيقظ نوح من الخمر وعلم ماعمل به ابنه الأصغر فقال: ملعونٌ كنعان بن حام ويكون عبداً لعبيد إخوته 1. صورة ظلم كنعان إن حاماً أبا كنعان هو الذي نظر عرية أبيه نوحا، وأما اللعنة من نوح فكانت على كنعان بن حام، عوضاً عن أن تكون على حام، الذي نظر عرية أبيه، وهذا الوجه ظلم لامناص منه مطلقاً، بحيث إنه حسب تقرير التوراة أن حاماً هو الذي أخطأ، واللّعنة صارت على ابنه كنعان*.
(الشك) الثاني والعشرين في إنجيل متّى في الإصحاح السادس عشر العدد الحادي والعشرين1 قال: "وبدأ من ذلك الزمان يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يمضي إلى أورشلم ويقبل آلاماً كثيرة من المشيخة والكتبة ورؤساء الكهنة ويقتل ثم يقوم في اليوم الثالث، فاتخذه بطرس وبدأ ينهاه قائلاً: حاشاك يارب أن يكون لك هذا، فالتفت يسوع وقال لبطرس: اذهب خلفي يا شيطان لأنك أنت لي شكٌ لأنك لا تفكر فيما لله بل فيما للناس".
(صورة) ظلم بطرس: فأقول: إنه إذا كان سيدنا عيسى يعلم بأن من قال لأخيه: يا أحمق، وجبت عليه نار جهنم، فكيف يجعل من يستعطفه شيطاناً، الذي قال له: "حاشاك يارب" -وبالحق حاشاه - كان الجواب له: اذهب خلفي ياشيطان. ففي (تلك) المشاكل السابقة كنا ننظر قصاصاً بليغاً على خطايا جزئية، وقلنا إنها ظلم بلا شك، فهذا الذم الوارد على من يستعطف المسيح، مع أنه لا يليق إذلاله، (والحط من) شأنه، وتوجيه اللوم (إليه، مع أنه خال) 1 من كل وجه من وجوه الخطأ، ويقال له من نبي مثل هذا2 "ياشيطان"، فماذا يحكم العقل فيه؟ أليس تزويراً كما الحكاية كلها3. والدليل على أنه تزوير هو من الجملة التي كتبها لوقا في الإصحاح التاسع في هذا المعنى فقط، الخالية من قوله: اذهب خلفي يا شيطان4 *.
[وإن قيل: إن أفكار بطرس كانت منصرفة إلى روح العالم، وليست هي متعلقة بالله، لأن يسوع عليه السلام قال له "إنك يابطرس لاتفكر فيما لله بل فيما للناس". فأجيب: إن هذه الجملة اللاحقة التي هي قوله "لا تفكر فيما لله" يظهر أنها محرفة أيضاً، لأن كلام بطرس السابق يدل على أن أفكاره متعلقة بالله سبحانه وتعالى، وتراه فكر تفكيراً صائباً، وهو أن الله لايليق بأحكامه أن يترك رجلاً حاوياً مثل هذه المناقب الحميدة والأفعال الصالحة يأخذه اليهود ويهينونه، ويقتلونه ظلماً وجوراً. فهذا الفكر الذي هو: أن الله ليس بظالم، هو الظاهر معناه من مضمون كلام بطرس، وليس فكراً متعلقاً فيما للناس، كما ظنه بعض المفسرين من النصارى، بل هو فكر متعلق فيما لله سبحانه وتعالى] .
(الشك) الثالث والعشرون في إنجيل مرقص في الإصحاح الحادي عشر يقول: "ونظر يسوع إلى تينة من بعيد ذات ورق فجاء (إليها) لعله يجد فيها شيئاً، فلما جاء إليهالم يجد إلا ورقاً فقط لأنه لم يكن زمان التين، (فقال) : لايأكل أحد منك ثمراً إلى الأبد، ولما جازوا في الغد فرأوا التينة يابسة من أصلها، فتقدم بطرس وقال: يا معلم ها التينة التي لعنت قد يبست"1. (صورة) ظلم التينة (فأقول) إن مرقص ههنا شهد أنه لم يكن زمان التين، فكيف يغضب عليها سيدنا عيسى عليه السلام إذا كان لا يوجد فيها ثمر في غير زمان (التين) والثمار؟،لأن جميع النبات2 لا يثمر في غير حينه، فإذاً يظهرأن هذا الفعل هو مباين للعدل، فكيف ينسب فعله إلى المسيح، وحاشاه من أن يفعل مثل هذا الفعل في هذا الوجه، وهذا النص الوارد من مرقص كان (واقعة حقيقية) 3؛ أعني: أنها شجرة تين صريحة لا تقبل
التأويل1، لأن بطرس يؤكد حقيقة هذا الكلام بقوله: "يا معلم ها التينة التي لعنت قد يبست". فهذا المشكل يجب أن يحكم فيه العقلاء الخالون من الغرض، ويميزوا إن كان المسيح تكلم بمثل ذلك، أو أن ذلك تزوير عليه كباقي التزاوير2.
(الشك) الرابع والعشرون في إنجيل متّى في الإصحاح الثامن عشر يقول للذي كان مديوناً إلى سيده فأمر سيده أن يباع هو وامرأته وبنوه وكل ماله حتى يوفي، وذلك إذ ليس له مايوفي 1. (صورة) ظلم المديون إن هذا ظلم مبين: أن مديوناً ليس عنده شئ يوفي؛ يحكم عليه بأن يباع هو وامرأته وبنوه وكل ماله حتى يوفي (الدين) . أقول: إن كان هذا الأمر (جرى) وصدر لأنه عبده فيكون أمره بأن يباع العبد هو وامرأته وبنوه وكل ماله، فليس هو من وجوه الاستيفاء لكون العبد وما ملكت يداه لسيده إذ إنه إن باعه وإن لم يبعه فهو تحت ملكه وحوزة تصرفه، ولا ينبغي له أن يقول حتى يوفي. وإن كان هذا العبد في الوقت الذي أمر به أن يباع هو وامرأته وبنوه كان مطلقاً من العبودية وحراً فالقصاص عليه بأن يباع هو وامرأته وبنوه وكل ماله هو مضاد لشرائع الله تعالى ومناف للعدل بل هو مناف لشريعته الفضلية*.
(الشك) الخامس والعشرون 1 في رسالة بولس إلى كولوسي في الإصحاح الرابع يقول: "واقرأوا أنتم الرسالة التي من لاودكية" 2، وفي سفر الملوك الثالث يقول: إن عدد الأمثال التي إلى سليمان ثلاثة آلاف مثل، وتسابيحه ألف وخمسة تسابيح3 ونبوة أخنوخ4. صورة النقض أقول: إنك أيها العالم النحرير تجد تأكيد التزوير في التوراة والإنجيل ليس مما شرحناه لك في الشكوك الماضية فقط، بل إنك هنا
تتأكد من نقص وانعدام رسالة لاودكية، ونقص أمثال سليمان، وتسابيحه التي لم يبق منها ولا ثلثها، ونقص نبوة أخنوخ التي ذكر جملة منها يهوذا الحواري1 في رسالته الجامعة. وهذا وحده يكفي للبيان. ويوجد نقص آخركثير قد أعرضنا عنه، كما يخبرنا بذلك يوسيفوس المؤرخ في كتابه2، وفي كتاب لافجانيوس3 المبتدي فيه من المائة سنة الأولى4، المسلم عند النصارى، التي ذكر بها: أن الأناجيل التي كانت موجودة في ابتداء الديانة النصرانية كان عددها أكثر من نحو ثلاثين إنجيلاً، التي تعدد أسماء كاتبيها وقد أشار إليهم لوقا إجمالاً في أول إنجيله: بأن كثيرين باشروا كتابة قصص الأمور التي كانت كملت فينا5، التي
وصل إلينا منها إلى حد زماننا هذا أربع مقالات من متى ومرقس ولوقا ويوحنا وتسمى أناجيلاً فقط. وهذا النقص يدلنا على نقص شهادات أخر كثيرة في التوراة والإنجيل ذكر فيها1 اسم نبينا صلى الله عليه وسلم حرفياً، غير التي أوردناها لصدق القرآن العظيم القائل و"اسمه أحمد"، وأنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل2.
(الشك) السادس والعشرون في نبوة حزقيال في الإصحاح الرابع يقول: إن الله تعالى شأنه قال لحزقيال "وخبز ملة من شعير تأكله وتلطخه بزبل يخرج من الإنسان" ولما اعتذر حزقيال واستعفى من أكل الخبز الملوث بزبل الإنسان، كما يخبر عنه في الفصل ذاته، فبدله بخبز ملوث بزبل البقر، بقوله في العدد الخامس عشر فقال له: "أعطيتك زبل البقر عوضاً عن رجيع الإنسان وتصنع خبزك فيه"1. صورة أكل زبل الإنسان: إن هذه النبوءة قد صيرت عقلي مذهولاً، كيف أن الله تعالى وحاشاه يأمر النبي بأكل خبز ملطخ بزبل الإنسان، ولا أقدر أن أتصور كيف أن الغائط يؤكل، وكيف أن الله سبحانه وتعالى ما أهلك الناسبين له هذا الأمر وأنه من أمره2، وحاشاه.
(الشك) السابع والعشرون في سفر الخروج في الإصحاح الثاني عشر قال: "فكان جميع ماسكنه بنو إسرائيل في أرض مصر أربعمائة وثلاثون سنة، وبعد أن كملت الأربعمائة وثلاثون سنة في ذلك اليوم خرج جنود الرب جميعهم من أرض مصر".1 وفي الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين قال خلاف ذلك، حيث قال لإبراهيم: "اعلم عالما أن نسلك سيكون ساكناً في أرض غريبة ويستعبدونهم ويضيقون عليهم أربعمائة سنة ومن بعدها يخرجون بمال جزيل".2 صورة التناقض فأقول: في سفر التكوين قال أربعمائة سنة، وفي سفر الخروج قال أربعمائة وثلاثون سنة، وأيضاً فإن بني إسرائيل لم يبقوا في مصر حتى ولاأربعمائة سنة التي ذكر الله عز وجل لسيدنا إبراهيم، لأن قاهت جد سيدنا موسى كان قد نزل إلى مصر مع أبيه لاوي، فقاهت هذا إذا كان تزوج على التقدير ابن خمسة وستين سنة، وولد عمران أبا موسى، وعمران لما تزوج فلنفرض عمره خمسة وستين سنة أخر، وولد سيدنا موسى، وهذا
موسى عليه السلام لما خرج بنو إسرائيل من مصر كان عمره ثمانين سنة، فتكون جملة السنين المجموعة مائتين وعشرة سنين. وهذا التقدير يطابق حسب دفاتر اليهود الموجودة عندهم في التلمود. فأين غلاقة الأربعمائة وثلاثين سنة المكتوبة في سفر الخروج، لأن الفرق ههنا مائتا سنة وعشرون سنة. *
ونتيجة الأمر أن الشك يجمع (ثلاثة تحريفات) : أولاً - الفرق بين الأربعمائة وبين الأربعمائة وثلاثين. ثانياً - أن التوراة العبرانية تذكر أن إقامة بني إسرائيل كانت في أرض مصر، واليونانية تقول في أرض مصر وأرض كنعان. ثالثاً - أن الزمانين على حساب دفاتر اليهود غير صحيحين، لأن بني إسرائيل لم يقيموا في مصر غير مائتين وعشرة سنين مأسورين تحت العبودية والضيق، وبهذا كفاية لإثبات التحريف. وأيضاً نقول: إنه لو قدرنا المحال وحسبنا حساباً آخر، وهو أن قاهت عند انقضاء حياته التي هي مائة وثلاثين سنة ولد عمران، وعمران
عند انقضاء حياته، أيضاً التي هي مائة وسبعة وثلاثين سنة ولد موسى*، وموسى حينما خرج من أرض مصر كان عمره ثمانين سنة، كما قالت التوراة، فإذاً على جميع الوجوه المشروحة التغيير واقع وموجود، عدا ضعف قولهم المستند على التوراة اليونانية: إن أرض كنعان الشريفة والموهوبة لإبراهيم عليه السلام ولنسله هي أرض أسر وعبودية. والنهاية إذا كانت أرض كنعان، التي هي أرض موعدهم هي أرض أسر وعبودية، والله سبحانه وعدهم بأن يخرجهم من أرض الأسر والعبودية بمال جزيل، فإلى أين خرج بنو إسرائيل من أرض كنعان؟؟، وأين سكنوا خلافها؟؟.
(الشك) الثامن والعشرون في الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج قال "وارتحل بنو إسرائيل من أرض رعمسيس1 إلى (سكوت) 2 نحو ستمائة ألف مقاتل غير الأطفال، ولفيف عظيم أيضاً بغير عدد"3، ثم في سفر العدد في الإصحاح الثاني قال "فهذا عدد بنو إسرائيل لبيوت آبائهم وأفواجهم المتفرقين في العسكر ستمائة ألف وخمسمائة وخمسين رجلاً عدا سبط بني لاوي هؤلاء كانوا رجالاً مقاتلين "4، (ونراهم) في مجموع أسباطهم بالعدد ذاته. صورة التحريف يلزم أن نعمل معدلاً لهذه الكثرة والألوف من أين وجدت وولدت؟ لأنه أولاً: أن هؤلاء الست كرات5 من الرجال يقتضي أن ينضاف إليهم أربع كرات أخر من أولاد دون البلوغ وكهول، فتصير
الجملة عشرة كرات من الذكور، ولنضيف لهم سبط لاوي، وبالفرض نحسبه كرة أخرى، بحيث هو واحد من الاثنى عشر سبطاً، فتكون جملة عدد بني إسرائيل الذين خرجوا من مصر إحدى عشرة كرة من الذكور، أعني: أحد عشر مائة ألف من الذكور، ثم ولنضيف لهم قدرهم، أي إحدى عشرة مائة ألف أنثى حسب القاعدة الطبيعية، فتصير جملتهم اثنتين وعشرين مائة ألف نفس (2200000) ، أي اثنتين وعشرين كرة 1. فإذا كان حسب أخبار التوراة نفسها المذكور في سفر التكوين: أن يعقوب أبا الأسباط، الذي هو ابن البركة عندما نزل إلى مصر هو وبنيه وبني بنيه، ثلاثة أجيال جمعت عيلته من الثلاثة أجيال، أي المتوالدين من بنيه وبني بنيه فكان عددهم سبعين نفراً2 وفي مكوثهم في مصر توالد هؤلاء السبعون نفساً أولاد سيدنا يعقوب خلال ثلاثة أجيال أخر مثل أبيهم وجدهم يعقوب، وفي الجيل الثالث خرجوا من مصر. وهذا شيء ظاهر أمره ومصرح به في الإصحاح السادس والأربعين من سفر التكوين، وفي الإصحاح السادس من سفر الخروج 3. أما الثلاثة أجيال المذكورة في سفر التكوين فهم: يعقوب ولاوي وقاهت، وأما الثلاثة أجيال المذكورين في سفر الخروج فهم: قاهت
المذكور في سفر التكوين، وعمران أبو موسى، وموسى هذا الذي خرج ببني إسرائيل من أرض مصر، فإذا كان يعقوب الذي كانت البركة له، كان عدد أهله وبني بنيه على ثلاثة أجيال، سبعين نفساً، فيقتضي1 على هذا المنوال أن هؤلاء السبعين نفساً على ثلاثة أجيال أخر، الذين هم: قاهت وعمران وموسى أن يولدوا سبعين سبعيناً، وإذا انضرب في الحساب سبعين في سبعين يكون أربعة آلاف وتسعمائة نفس، فمن أين توجد اثنتان وعشرون كرة، الذين ذكرناهم بناءً على كلام التوراة2.
وإن قيل في حل هذا المشكل: إنه موجود في تلمود اليهود تفسيراً أن بني إسرائيل بحيث هم مباركون، فكانوا يتوالدون كل خمسة أولاد في بطن واحد مشكوكين مثل حب المسبحة، بخلاف الطبيعة: فأجيب: إن كان بنوا إسرائيل يتوالدون بخلاف الطبيعة، فلماذا (لم تذكر) التوراة عنهم ذلك، (ولم تقل) إن بني إسرائيل لما كانوا بمصر، وقبل نزولهم إلى مصر كانت المرأة منهم تلد في بطن واحد خمسة أولاد؟!، ولماذا يعقوب الجد ذكرت عنه أنه في ثلاثة أجيال خلف سبعين نفساً؟!، وذكرت أيضاً مواليد يوسف وأنه أولد منسى، وبعده أفرام، وعن قاهت ابن لاوي أنه أولد عمران ويصهر وحبرون وعوزيل، وأن عمران أولد مريم [بعدها] وهارون، وبعد ثلاث سنوات أولد موسى، وموسى أولد جرشون واليعازر، وأمثال ذلك كثير (ممن) قد ذكرتهم التوراة، وكلهم توالدوا على (مألوف) العادة الطبيعية، (ولم تذكر) عن واحد منهم أنه أولد ثلاثة أولاد أو أربعة في بطن واحد، عدا يهوذا ابن يعقوب الزاني بكنته، فمنها أولد توأماً ذكوراً، وهما فارص الذي من سلسلته ولد عيسى على زعمهم، والولد الثاني هو زارخ. لاحظ هذه المعاني في سفر الخروج1، وفي سفر العدد2، وفي سفر الأيام الأول 3
ثم نعود إذاً إلى ما ذكرناه: أنه ينبغي (أن) السبعين الذين توالدوا من يعقوب في ثلاثة أجيال أن يولد لكل واحد من السبعين سبعين نفساً على ثلاثة أجيال أخر، وإذا ضربت كما قررنا السبعين في سبعين (تكون) أربعة آلاف وتسعمائة، فمن أين يكون (تكميل) الاثنتين وعشرين كرة1 *
[وأيضاً أقول: إن الواحد الذي هو يعقوب إذا كان خلف سبعين نفساً في ثلاثة أجيال، والسبعين خلفوا في تكميل الخمسة أجيال أربعة آلاف وتسعمائة، فهذا أيضاً من أعجب العجائب، لأنك إذا] ضربت معدل رجل واحد من باقي طوائف العالم صالحاً كان أم طالحاً، من قديم الزمان إلى الآن، وحسبت (ذريته) إلى خمسة أجيال، لا تجد الباقي من سلسلته إلا أقل من مائة نفر، وذلك على وجه المبالغة، فإذاً كان يعقوب عليه السلام خالف هذا الحد المذكور، وأولد من الخمسة أجيال، الذين هم يعقوب نفسه، ولاوي، وقاهت، وعمران، وموسى، عوض المائة [نفر تسعة وأربعين] ومائة [نفس] ، أما يكفي أن تكون هذه الكثرة الغير مألوفة أن تعد من أعجب العجائب! ثم أيضاً نقول: إن [المقول] في سفر الخروج في الإصحاح الأول عن فرعون أنه قال عن بني إسرائيل: إنهم قد صاروا أكثر منا1، فهذا القول على موجب ماشرحناه يقتضي أن يكون مبنياً على ثلاثة أوجه: إما
أن يكون تزويراً وتكميلاً لهذه التزاوير، أو أنه قيل على طريق المبالغة كمثل القول: إني أجعل نسلك كرمل البحر، أو أن فرعون كان كملك من ملوك [الأرض الموجودين في] تلك الأيام الذين ذكرتهم التوراة1 في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين، الذين منهم خمسة ملوك كان غلبهم سيدنا إبراهيم، واستخلص لوطاً ابن أخيه، وذلك بواسطة ثلثمائة وثمانية عشر نفراً أو أكبر2. وهذا الرأي الأخير ربما هو الأرجح، [عدا أن لفظة أكبر منا هي في اللغة العبرانية أعظم منا] . *
(الشك) التاسع والعشرون في سفر الأيام الأول في الإصحاح السادس يذكر أن: مربوث أولد أمريا، وأمريا أولد أخيطوب، وأخيطوب أولد صادوق، وصادوق أولد أخيماعص، وأخيماعص أولد عزريا1، [وعزريا أولد يوحانان، ويوحانان أولد عزريا] ، وأما في الإصحاح السابع يقول عزرا في سفره أن
ابن مريوث هو عزريا1*. صورة النقض: إن من ههنا يعلم [أن] عدد الأنفار الموجودين في سفر الأيام الأول أزيد من الموجودين في سفر عزرا بستة أنفار، (كما تراهم أمامك
في الجدول) ، وهم: أمريا، وأخيطوب، وصادوق، وأخيماعص، وعزريا، ويوحانان، فبواسطة نقص هؤلاء الستة أنفار يثبت التزوير بالتوراة*.
الشك الثلاثون إن النصارى (المبتدعين) ، الذين ابتدعوا الألوهية لعيسى عليه السلام، التي ليس لها ذكر في كتابهم كما قررنا ذلك في أول الكتاب، قد ابتدعوا أشياء أخرى في (ديانتهم) ، من جملتها أنهم زعموا أن الله -تعالى شأنه (وتنزه عما يقولون) –ثلاثة أقانيم، أعني ثلاثة أشخاص، وهذا الاعتقاد ما وجد بهذا اللفظ حرفياً لا في التوراة، (ولا في الأنبياء) ، ولا في إنجيلهم*، حتى ولا خطر لأحد على بال، وبحيث أن لفظة أقنوم قد
حدها العلماء والمنطقيون: هو الشئ القائم بذاته من جوهر وعرض1، وله ست جهات، فلكي يتخلصوا من هذه الحدود التي تفيد الحصر، ابتدعوا للفظة أقنوم حداً آخر جديداً، وهو الشئ القائم من جوهر وخاصة جوهرية، ولكنهم لم يتخلصوا من هذا (التشويش بهذا الحد الذي ذكروه للأقنوم) ، فلنسألهم عن أقنوم الابن القائم من جوهر، (وله) خاصة جوهرية: هل هو موجود في كل مكان، كما (أن) أقنومي الأب والروح موجودان في كل مكان، من حيث (أنهما) إله واحد؟. فإن كان2 أقنوم الابن موجوداً في كل مكان مع أقنومي الأب والروح، (لزم أنه) مع وجود أقنوم الابن في ناسوت3 (عيسى) ، أن يوجد أيضاً أقنومي الأب والروح معه، وتكون [الثلاثة] أقانيم: (الأب والابن والروح) تجسدوا في جسد عيسى، وليس أقنوم الابن وحده تجسد
في جسد عيسى، وإذا اعتقدوا بهذا فيكونوا اعتقدوا ضد ديانتهم، وضد الله تعالى أيضاً1. وإن قالوا: إن أقنوم الابن وحده تجسد، فيكونوا (قد) خالفوا معتقدهم الذي اعتقدوه، وهو أن الله تعالى موجود في كل مكان (بأقانيمه، ويفهم أنهم أنكروا أن الأقانيم موجودة2 في كل مكان) ، ويكون أقنوم الابن، الذي تجسد في جسد عيسى هو وحده موجود في جسد عيسى، وجسد عيسى خال من أقنومي الأب والروح، وينتج من ذلك انقسام الأقانيم وانفصالهم وحصرهم. وهذا الرأي أيضاً يضاد معتقدهم وهو ضد الله تعالى شأنه، مع أن الكلام الذي ألفوه في حدود بدعتهم هذه يفيد بأن: الأب والابن والروح ثالوث متساوي الجوهر، غير منقسم ولا منفصل3، وقد يلزم من هذا
الحد أيضاً أن التجسد هو للأقانيم الثلاثة معاً، لأنهم على زعمهم غير منقسمين ولا منفصلين، بل هم معاً في كل حالاتهم، في أفعالهم وحلولهم ووجودهم في كل مكان، الثلاثة متساوون في ذلك [على زعمهم] . والنتيجة من هذا جميعه: إن قالوا: بأن الأقانيم هي متحدة مع بعضها وغير منفصلة، يلزمهم أن يعتقدوا تجسد الأقانيم الثلاثة معاً، لأنهم غير منقسمين ولا منفصلين، وإن قالوا: إن الأقانيم منفصلة عن بعضها ومنقسمة، فيلزمهم أن يعتقدوا بالخلو، أي أن الأقانيم ليست موجودة في كل مكان معاً1. وعلى الحالتين: إن هذه القضية (ممتنعة في جميع الحالات) 2، لا بل معدومة لا يمكن وجودها.
الخاتمة وهي في نتائج هذه الخمسة أبواب، بوجه الاختصار، وبعض ملحقات لها مفيدة. أقول: إنني أكتفي الآن بما قد كتبته في مؤلفي هذا، حيث إن نتائجه صريحة، ويقبلها العلماء والفقهاء، وذوي العقول السليمة، إذ أني (ابتدأت فيه بالاستدلال) من الإنجيل والتوراة على (نقض) 1 ما ابتدعه النصارى من ألوهية عيسى عليه السلام، وبينت عدم مساواته لله تعالى في الجوهر، وأن النعوت المقولة عنه ووصفه: بأنه إله وابن الإله ورب قد وصف بها في التوراة والإنجيل غيره من الأنبياء والملائكة ومن العلماء الصالحين، وعلى أن آياته وعجائبه لا تثبت مساواته لله عز وجل، المشروحة في مذهبهم، لأن الأنبياء عليهم السلام سلفاً قد عملوا مثلها، (وما يعلوها ويفوقها) 2. ثم (بينت) تنزيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مما ظنوا به أنه عمل أموراً منافية وقاصرة غير حسنة، وبينت أن الأنبياء سلفاً قد عملوا مثلها، ولم تحسب عليهم بأنها غير حسنة.
وقد أقمت البينات [والأدلة] بالشهادات المنطبقة والواردة على نبينا صلى الله عليه وسلممن التوراة والإنجيل والزبور، أنه هو النبي الموعود به، والمشار إليه كعيسى المسيح عليه السلام، مصداقاً لقوله تعالى {اسْمُهُ أَحْمَد} 1، {مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} 2. وبنوع خصوصي أظهرت في الباب الخامس تلك الشكوك المشتملة على التناقض والنقص والظلم والقصور والركاكة، التي جمعتها من كتاب التوراة والإنجيل تطبيقاً لقوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 3، وقوله {كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} 4، مختصراً إياها حذراً من ملل القارئ، إذ أني أعرف جيداً أن الرجل الفهيم يقنع بالقليل، وإذا قابل صحة الشهادات المشروحة يستدل منها (أيضاً) بأني قد جمعتها بسنين كثيرة وعرق غزير5.
فيا أيها الغافلون التفتوا من كتابي هذا إلى كتاب الله السامي المنيف، الذي هو القرآن الشريف، الذي أنزل على المصطفى، ذو اللّب الحصيف، وانظروا هل يوجد فيه مثل هذه التزاوير والشكوك والركاكة والقصور والظلم المباين لعدل الله تعالى، واعلموا أيها الأحباب أن الذي حملني على جمعها ثلاثة أسباب: الأول: هو محبتي لأصحاب الكتابين1، من كونهم مشاركين لي في الطبيعة. والثاني: أن هذه الشكوك موجودة عندهم2، وهي متفرقة، فلا يكترث فيها [ولا تعتبر أنها تحريف] . والثالث: أني قصدت راحة مطالعيها، وأن يقرؤوها من دون تعب ولا عناء، إذ أني عينت محل الشهادات ومواضعها3، لأن القارئ إذا قرأ
في هذه الكتب1، ويمر عليه مشكل من هذه التزاوير2، فإنه يظن أنه مشكل مثل باقي المشاكل التي يحلها المفسرون فيتركه ويجوزه، وبعد مدة من الزمان إذا وقع في شك آخر غيره يكون قد نسي الشك الأول فيتركه ويقنع ضميره بأن علماء ديانته يعرفون حلّه، وهكذا يقع بين كل مدة ومدة في (شك آخر) 3 من الشكوك فيتكلم فيه مثل تكلمه في الأول والثاني بتلك الإقناعات البسيطة، وبهذه الوجوه المشروحة (لا يتحرك شيء من ضميره ينبهه) 4 أن كتبه مزورة ومحرفة من قديم الزمان. وأيضاً أقول عن القارئ لهذه الكتب، واعتذاره أن هذه الكتب هي كتب ديانته، وتربى فيها، وصاحبها منذ صباه، فهي على كل محبوبة، والمحب لا يتبصر في غلطات محبوبه، إذا كانت متفرقة، لأنه مثلاً إذا درس محب الإنجيل في سلسلة متّى الإنجيلي وقرأ أن فلاناً أولد فلاناً، فلا {يظن) أن في التوراة موجودة هذه السلسلة، وأنها (تناقض) 5 أقوال متّى، فضلاً
عن أن الكثير من علمائهم لايعرف في أسفار التوراة أين يوجد هذا التناقض*. حتى أنك ترى كبار1 مفسريهم كرجل يقال له ((الذهبي)) -الذي يسمونه سلطان المفسرين- قد أعرض عن ذكربعض هذه الشكوك، لأنه لم يذكر الشك الثاني مطلقاً في تفسيره، ولا تعرض له (بوجه من الوجوه) ، وتارة كان يذكر البعض، لكنه لم يشرحها لأنه لم يجد لها شرحاً، كما (فعل) بالشك الأول الذي ذكره (وأنه نقص، إلا أنه تركه لغيره وجازه) 2، وغيرها من الشكوك قد ذكرها وأخذ في شرح معناها، (إلا أنه لم يتنبه للتزوير والغلط فيها) ، كالشك السابع عشر الذي فيه ذمّ الاهتمام3، (حيث أنه) لم يتبصر في أن المزوّر لهذه الجملة (قد جعل)
الممكن ممتنعاً والممتنع ممكناً، وباقي الشكوك تراها على هذه الوجوه مصنوعة ومزورة (*) . ثم إني أقول: وإذا وجد في النادر رجل من هؤلاء القوم، وكان خبيراً، وجمع بعضها من هذه التزاوير في فكره، وفهم عجز المفسرين لها، فقد يمنعه عن إظهارها، ورفض كتبها موانع كثيرة، وأخصها الذي هو المانع الأعظم، أنه لا يعرف شرف الدين المحمدي، ولا فهم شرائعه، ولا طالع في كتابه، الذي هو القرآن الشريف، وفهم معاني آياته1، حتى يستنير به، ويتبع طريقة الهادي، ولا يعلم أن الأنبياء في التوراة والإنجيل قد تنبؤا عن نبيه الهادي محمد صلى الله عليه وسلم، وأشاروا عنه، كما (أنهم) أشاروا عن عيسىعليه السلام، وإنما يعرف القذف والشتيمة عليه من المتعصبين في دينهم، ومن جرّاء ذلك قد يبقى في تيار هذه (الأمور) والمشاكل غارقاً، وانسداد هذه الطرقات قد عرفته وتحققته من معاشرتي لأفراد منهم، لأني رأيتهم (واقفين) عند أبواب هذه الشكوك ومبهوتين، لا يمكنهم الدخول فيها ولا الخروج منها. فهذا وأمثاله هو الذي حركني -كما قررت- على تأليف هذا الكتاب، الذي سميته (البحث الصريح في (أيما هو) الدين الصحيح) ،
لكي يطالعه العلماء فيهم والفقهاء، حتى إذا صار فرصة لأحدهم، وتحرك الحق في قلبه، (ونظر تورط نفسه) ، ينفر من هذا الشرك نفور الغزال، وينصح غيره إن أمكنه ذلك، ويؤمن ويشهد: بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، الإيمان الذي لا يعتري العقول فيه شكّ، ولا لذوي الأفكار الثاقبة بهت، وليس هو متطرفاً (ومعرضاً) للسقوط، كتطرف مذاهب بعض الهنود والنصارى. أما مذهب بعض الهنود (فهو التطرف باعتقاد خالق) موجود فائق الأوصاف، ولكنه قد ترك اعتناءه بمخلوقاته وانعزل وسلمها إلى بعض مخلوقاته كالشمس والقمر (والكواكب) وباقي الأفلاك والعناصر، ولذلك يقدمون لها العبادة والإكرام كأنها الله، وتتوجه ضمائرهم إلى ترك العبادة والإكرام للخالق سبحانه وتعالى، حتى إنهم مع تداول الأزمنة قد نسوا عبادة الله، التي هي الأصل لديانتهم، وصاروا يعبدون المخلوقات، واعتبروها خالقة وليست مخلوقة، وهذه الملة تسمى ((سينتو)) 1 وكثير منها في جزائر آسيا.
وأما بعض النصارى (فقد تطرفوا حيث) بالغوا في اعتنائه [تعالى] بالبشر، وغلوا، حتى إنهم (قد قعدوا قاعدة) لهذه المبالغة والغلو1، وأخذوها عن رجل عندهم اسمه بولص2، [مؤولين كلامه ومفسرينه] أن جميع البشر هالكين بخطيئة جدهم آدم، حتى سيدنا إبراهيم، وسيدنا موسى، وباقي النبيين عليهم السلام هم في الأسر تحت يد إبليس وسلطانه، وأنهم مفتقرون لإله يخلصهم، حتى غلوا في دينهم3، لأنهم لما
سمعوا من كتابهم: أن عيسى إله وابن الإله لم يدركوا أن هذه أسماء ونعوت، وقد تسمى بها غيره من الأنبياء والملائكة والصالحين، بل اعتقدوا أن هذه النعوت حقيقية وليست مجازية، وأن عيسى ابن الله بالطبيعة ومساوٍ له في الجوهر –تعالى الله عن ذلك–، حتى ألجأه الحال إلى أنه أنزله من السماء، وأسكنه في (رحم) 1 مريم تسعة أشهر، وأخرجه من [باب رحمها] 2 -تعالى الله عن ذلك [علواً كبيراً]- وأعوذ به من هذا
الاعتقاد، وليس ناسوتاً من دمها وأنه صلب ومات ونزل إلى جهنم، حتى يخلص إبراهيم وموسى والأنبياء مع جنس البشر الهالكين. 1 فهذان الرأيان المتطرفان المهلكان قد نفر منهما الدين المحمدي2، واعتقد بما قد أوحى له الله تعالى في (الكيفيات التي تجب العبادة وفقها) ، والمصحوب بشرائع مهندمة، منزلة على نبيه الهادي، بكتاب سامٍ ترى فيه كلما تطلب من الصالحات، مشروحاً بتلك الألفاظ اللطيفة، والجمل
الظريفة، والمعاني الفائقة المنيفة، والأخبار بالأمثال الشريفة، والأحكام العادلة اللطيفة. وقولي عن أحكام القرآن إنها [عادلة] لطيفة، لأنك لا ترى فيها قساوة، كما حكمت التوراة بالموت على من قرب قرباناً خارج المذبح والهيكل، ولا رخاوة كما وجد في الإنجيل، إذ أنه ترك الزانية من غير قصاص ولا نصيحة وارتداد إلى معرفة طريق التوبة، لأنه قال لها: أين هم الذين دانوك؟ اذهبي ولا أنا أدينك -يعني إنهم ما رجموك بحيث أنهم نظروا أنفسهم خطاة- وأنا أيضاً مثلهم اذهبي1. وينتج من هذا الجواب إبطال الشرائع والأحكام، لأنه لا يوجد أحد من البشر بغير خطيئة، فلا يطبق شيئاً من الأحكام، وكذلك إباحته السكر في عرس قانا الجليل [عند] تحويل الماء خمراً للسكرانين 2، وذلك مما يثبت التزوير في التوراة والإنجيل. وغلاقة هذه الخاتمة أقول: إن سيدنا عيسى عليه السلام قد أعطى (على صحة الانتساب إلى) 3 دينه الشريف دلالتين محكمتين صريحتين لا تقبلان تحريفاً ولا تصحيفاً4،
وهاتان الدلالتان قد وجدتا في الأزمنة الأولى فعلياً حسياً، وبسببهما قامت الديانة النصرانية (ونمت) ، (وحيث يوجد الدليل يوجد مدلوله معه) والدلالتان هما: الأولى: هي فعل العجائب والآيات المعجزات (بالتتابع) ، خلفاً عن سلفٍ من المؤمنين بالله، الواردة في إنجيل مرقص، في أواخر إنجيله [على لسان عيسى عليه السلام] عن أن الآيات تتبع المؤمنين بقوله: وهذه الآيات تتبع المؤمنين باسمي، يخرجون الشياطين، ويتكلمون بألسنٍ جديدة ويحملون الحيات بأيديهم وإن شربوا شيئاً مميتاً فلا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون1. والثانية: هي شرف الطريقة الممتلئة هدىً ونوراً، لتصديق قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُور} 2، مثل محبة الأعداء، وعدم مقاومة الشر بالشر، ورفض الاهتمام (للدنيا) ، والقناعة بثوب واحد، المبني على قوله: ((حبوا أعدائكم ولا تقاوموا الشر ولا تهتموا بالغد ولا تكنزوا لكم كنوزاً في الأرض ولا تقتنوا ثوبين)) 3. وأمثال ذلك كثير مما تفيده هذه المعاني،
المطابقة لدلالته الثانية بقوله: ((بهذه يعرف الناس أنكم تلاميذي إن عملتم وصاياي)) 1. فلنفحص الآن هاتين الدلالتين أقلّه عند خلف الحواريين في كامل طوائف النصارى من البابوات والبطاريك والمطارين والمبشرين، هل يوجد فيهم من يعمل آية أو أعجوبة معجزة واحدة كبيرة أم صغيرة من الذين ذكرهم مرقص في إنجيله؟. وهل يوجد رئيس من الرؤساء المذكورين المدعى أنه سليل الحواريين محباً لأعدائه وغير مقاوم الشر، وإذا ضرب على الخد الأيمن يحول له الآخر، أو غير مهتم بالغد، أو أنه لا يوجد عنده ثوبان؟. وهل يوجد قاض في كامل (ملل وطوائف) 2 النصارى يجري هذه الشرائع؟. نعم أقول: إنه لم يوجد شيء من كل ما ذكرت، بل يوجد (عكسه) 3 عوض الثوبين أثواب، وتحف من أموال الناس جمعوها بعلة
تطويل صلواتهم، وكنوز بليغة، وموائد منمقة بالأطعمة اللذيذة، ومنازل مزوقة بالألوان الظريفة * (وفضة كثيرة) ، وكذلك مقاومة الشر بالشر، وهذه وأمثالها تنظر علانية، غير قابلة الإنكار والجحود**. فإذاً ينتج أن هذه الدلالات الدالة على1 دين عيسى الصحيح المشار إليها (فيما سبق) من عيسى نفسه عليه السلام غير موجودة2، أعني
الشرائع والآيات، فيقتضي أن يكون مدلولها غير موجود؛ لأنه إذا كان الدالّ باطلا فيبطل بالضرورة مدلوله. ويجب قبل ختم القول أن نعلم بأن الله سبحانه وتعالى بعد انتهاء هذه الدلالات التي ذكرناها، وإبطال مدلولها، لم يترك خليقته بغير مرشدٍ ولا هادٍ، لكنه أرسل الدلالة العظمى والآية الكبرى، التي هي ظهور وإشراق أنوار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الهادي، (الأمين) الصادق، الذي تنبأت عن وروده الأنبياء سلفا عليهم السلام، واتساع بهجة دينه، ودوام سيادته وسلطانه، وتعميم شريعته حتى وفي الممالك الأجنبية؛ هو من الدلالات الدالّة على صدق نبوته. وعدا أن كتابه السامي، الذي ليس له في الوجود مماثل، والذي قد جمع فيه كل كمال، وضم إليه أخص ما ورد في التوراة والإنجيل يشهد له بذلك، وقد انتشرت أحكامه في البسيطة، وأكد على الشرف والذكر الحميد لعيسى وموسى وإبراهيم وباقي النبيين، وكان نزوله على سيد الأولين والآخرين، فعليه وعليهم الصلاة والسلام أجمعين آمين. (تمّ هذا الكتاب الذي هو: ((البحث الصريح في الدين الصحيح)) وهو الكتاب الأول للمرحوم الشيخ زيادة بن الراسي، ويتلوه
كتابه الثاني الذي هو: ((الأجوبة الجلية لدحض الدعوات النصرانية)) 1، وقد تمت نساخته في أواخر جماد الآخر سنة ألف ومائتين وثلاث وستين) .
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... قائمة المراجع القرآن الكريم. أديان العالم. حبيب سعيد. دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية. القاهرة. 1977م. الاستيعاب في معرفة الأصحاب (بهامش الإصابة) . ابن عبد البر يوسف بن عبد الله. ط1. القاهرة. مكتبة الكليات الأزهرية. الأسفار المقدسة. علي وافي. القاهرة. دار نهضة مصر. الإصابة في تمييز الصحابة. ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني. ط1. القاهرة. مكتبة الكليات الأزهرية. إظهار الحق. رحمة الله الهندي. تحقيق: محمد ملكاوي. القاهرة. دار الحديث. الأعلام. الزركلي خير الدين. ط8. بيروت. دار العلم.1989 م. الأنساب. السمعاني أبو سعيد عبد الكريم بن محمد التميمي. اعتنى بنشره المستشرق د. س مرجليوت. أعادت طبعه بالأوفست مكتبة المثنى ببغداد. إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون. إسماعيل باشا البغدادي. بيروت. دار الكتب. 1413هـ. البداية والنهاية. ابن كثير عماد الدين. تحقيق: محمد عبد العزيز النجار. الرياض. مطبعة السعادة.
تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم. محمد عزة دروزة. بيروت. المكتبة العصرية. 1389. تاريخ الطبري. ابن جرير أبو جعفر الطبري. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة دار المعارف. تاريخ الفكر المسيحي. القس حنا الخضري. القاهرة. دار الثقافة المسيحية. تاريخ الكنيسة. جون لوريمر. ترجمة عزرا مرجان. القاهرة. دار الثقافة المسيحية. تفسير العهد الجديد. وليم باركلي. ط1. القاهرة. دار الثقافة. تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) . أبو الفداء إسماعيل ابن كثير. القاهرة. دار إحياء الكتب العربية. جهود من أسلم من النصارى في كشف فضائح النصرانية. مامادو كارامبيري. رسالة دكتوراة. الجامعة الإسلامية. المدينة المنورة. 1417هـ. حقائق أساسية في الإيمان المسيحي. القس فايز فارس. دار الثقافة المسيحية. مطبعة القاهرة الجديدة. خلاصة الترجيح للدين الصحيح. الشيخ محمد بن علي الطيبي. بهامش إظهار الحق. مصر.
لدعوة إلى الإسلام. توماس أرنولد. ترجمة حسن إبراهيم حسن، عبد المجيد عابدين. ط3.القاهرة. مكتبة النهضة المصرية. 1970. دلائل الخيرات. محمد بن سليمان الجزولي. دلائل النبوة. البيهقي أبو بكر بن الحسين. ط1. بيروت. دار الفكر. 1389. السنة. عمرو ابن أبي عاصم. ط2. بيروت. المكتب الإسلامي. 1405. سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي للمباركفوري. بيروت. دار الفكر. سلسلة الأحاديث الضعيفة. محمد ناصر الدين الألباني. ط4. بيروت. المكتب الإسلامي. 1389هـ. سيرة ابن هشام. أبو محمد عبد الملك بن هشام المعافري. ط3. القاهرة. مكتبة الكليات الأزهرية. 1398. شرح العقيدة الطحاوية. ابن أبي العز الحنفي. تحقيق: عبد الله التركي، شعيب الأرنؤوط. ط2. بيروت. مؤسسة الرسالة. 1413هـ. الشمائل. الترمذي محمد بن سورة. ط2.بيروت. دار الحديث.1405
صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري لابن حجر العسقلاني. الرياض. نشر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء. صحيح مسلم. مسلم بن الحجاج. عناية محمد فؤاد عبد الباقي. ط. دار إحياء الكتب. 1374. طائفة الموحدين من المسيحيين عبر القرون. أحمد عبد الوهاب. ط1. القاهرة. مكتبة وهبة 1400هـ. فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية. لويس جارديه، جورج قنواتي. ترجمة صبحي الصالح، فريد جبر. ط2. بيروت. دار العلم. 1978. الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. الشوكاني محمد بن علي. تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي. مصر. مطبعة السنة المحمدية. 1398 قاموس الكتاب المقدس. نخبة من الأساتذة النصارى. ط2. القاهرة. دار الثقافة المسيحية. القاموس المحيط. الفيروزآبادي مجد الدين محمد. ط2. بيروت. مؤسسة الرسالة. 1407هـ. القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم. موريس بوكاي. ط2. المكتب الإسلامي. 1407.
الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد) .دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط. الكفاية. الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي. القاهرة. دار الكتب الحديثة. لسان العرب. ابن منظور. مصر. دار المعارف. مجلة إسلاميات مسيحيات. إصدار المعهد البابوي للدراسات العربية. روما. 1978. مجموعة الشرع الكنسي. جمع وترجمة وتنسيق: حنانيا إلياس كساب. بيروت. منشورات النور. 1975. محاضرات في النصرانية. محمد أبو زهرة. القاهرة. دار الفكر العربي. المسيحية. أحمد شلبي. ط8. القاهرة. مكتبة النهضة المصرية.1984. محمد (في الكتاب المقدس. عبد الأحد داوود. ط1. ترجمة فهمي شما. قطر. مطبوعات المحاكم الشرعية. 1405. مختصر الأجوبة الجلية في دحض الدعوات النصرانية (بهامش إظهار الحق) . الشيخ محمد بن علي الطيبي. مصر. المسند. أحمد بن حنبل. بيروت. دار صادر. مختصر تاريخ الكنيسة. أندروملر. ط3. مصر. مكتبة كنيسة الأخوة. 1993.
معجم البلدان. ياقوت الحموي الرومي البغدادي. ط1. بيروت. دار الكتب 1410هـ. معجم الحضارات السامية. هنري عبودي. ط2. لبنان. جرورس. 1411هـ. المعجم الوسيط. جماعة من العلماء. ط2. المنجد في اللغة والأعلام. ط22. بيروت. دار المشرق.