الانتصار لسيبويه على المبرد

ابن ولاد

الانتصار لسيبويه على المبرد لأبي العباس أحمد بن محمد بن ولاد التميمي النحوي المتوفى 332 هـ دراسة وتحقيق الدكتور زهير عبد المحسن سلطان مؤسسة الرسالة

الطبعة الأولى 1416 هـ - 1996 م

مسألة [1]

كتاب الانتصار، أو كتاب نقض ابن ولاد على المبرد في رده على سيبويه "في الكتاب" بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو العباس أحمد بن محمد بن ولاد النحوي: هذا كتاب نذكر فيه المسائل التي زعم أبو العباس محمد بن يزيد أن سيبويه غلط فيها، ونبينها، ونرد الشبه التي لحقت فيها، ولعل بعض من يقرأ كتابنا هذا ينكر ردنا على أبي العباس، وليس ردنا عليه بأشنع من رده على سيبويه، فإنه رد عليه برأي نفسه ورأي من دون سيبويه، ومع ردنا عليه فنحن معترفون بالانتفاع به لأنه نبه على وجوه السؤال ومواضع الشك، إلا أنه إذا تبين الحق كان أولى بنا وأعود بالنفع علينا، وبالله التوفيق. مسألة [1] قال محمد بن يزيد: من ذلك قوله في باب مجاري أواخر الكلم: قال سيبويه: (وإنما ذكرت ثمانية مجار لا فرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة لما يحدث فيه العامل- وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه- وبين ما يبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل. قال محمد بن يزيد: هذا تمثيل رديء، وذلك أن الذي يدخله ضرب من هذه الأربعة هو الحرف، نحو الدال من زيد، والذي يبنى عليه الحرف هو الحركة، نحو الضمة التي يبنى عليها ثاء (حيث)، والفتحة التي يبنى عليها نون (أين)، فعدل حركة بحرف، وإنما كان ينبغي أن يعدل الحركة بالحركة والحرف بالحرف.

قال أحمد بن محمد: هذا الرد يحكى عن المازني، وقد رد أيضا مسألة أخرى في هذا الباب، إلا أنا نقتصر على المسائل التي جمعها محمد بن يزيد وألفها في كتابه، وأما الحكايات فنحن نذكرها في مواضع من تفاسير الكتاب. أما قوله: عدل بين حركة وحرف، فهذا جائز في اللفظ من غير وجه، أحدها، يكون أراد لأفرق بين حركة ما يدخله ضرب من هذه الأربعة وبين ما يبنى عليه الحرف بناء، فحذف/3/ المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، واجتزأ بذلك لعلم المخاطب بما يعني، وهذا شائع، ومنه قول الله عز وجل: {إنه عمل غير صالح}، {وسئل القرية}، وما أشبه ذلك، وقولك: الفرق بين الحجاز وأهل الشرق كيت وكيت، تحذف أهل من أول الكلام، لأن المخاطب (قد) علم أنك مفرق بين الأهلين، وكذلك إذا قلت: الفرق بين الفرات وماء دجلة، وبين الفرات وطعم دجلة كذا وكذا، علم أنك مفرق بين الطعمين، ولا نعلم أحدا منع من إجازة ذلك ما لم يكن لبس في الحذف، فهذا على وجه المجاز. ووجه آخر على غير هذا الطريق، وهو أن يكون سمى الحركة حرفا في قوله: (يبنى عليه الحرف)، يريد بالحرف الحركة كما قال النحويون: العربية على أربعة أحرف: على الرفع والنصب فجعلوا وجوه الإعراب حروفا، وكذلك: هو يقرأ بحرف فلان، فأما الحركة

فهي حرف على الحقيقة، لأن الضمة واو صغرى، كأنه قال: لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة يعني الدال من زيد، وبين ما يبنى عليه الحرف، يعني الثاء من (حيث)، فهي التي يبنى عليها الحرف، والحرف الضمة، هذا على حقيقة اللفظ لا على وجه المجاز، لأنه عدل بين حرف الإعراب وحرف البناء في اللفظ وفي المعنى، وفي التأويل الأول فرق بين الحركتين، وحذف أحدهما) من اللفظ. ووجه آخر، [وهو] أن يكون فرق بين الاسم المعرب والاسم المبني، فكأنه قال: لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة، يعني زيداً، وما أشبهه من الأسماء المتمكنة، وبين ما يبنى عليه الحرف، يعني (حيث) وما أشبهه من الأسماء المبنية كما في الثاء بنيت بضمتها على حيث. فهذه ثلاثة أوجه: أولها، أنه فرق بين حركة الإعراب وحركة البناء، وحذف (حركة) من الأول واجتزأ بذكر الثانية، والوجه الثاني، فرق (فيه) بين حرف الإعراب وحرف البناء، كالدال من زيد والثاء من (حيث) على التأويل الذي ذكرناه، والوجه الثالث، فرق فيه بين الاسم المعرب والاسم المبني، وكل هذه الوجوه إلى معنى واحد ترجع، لأن الذي قصده في هذا القول معنى تؤدي هذه الوجوه إليه. مسألة [2] ومن ذلك قوله في هذا الباب: (واعلم أنك إذا ثنيت الواحد لحقته زائدتان: الأولى /4/ منهما حرف المد واللين، وهو حرف الإعراب). قال محمد بن يزيد: فزعم أن الألف والياء في الاثنين، والواو والياء في الجميع حروف

مسألة [3]

الإعراب، وهذا محال، لأنها لو كانت حروف الإعراب كان الإعراب لازما لها وهو غيرها، نحو دال زيد، لما كانت حرف الإعراب هي وما أشبهها، كان ما يعتورها من الضم والكسر والفتح هو الإعراب، وليست الألف في التثنية وما ذكرنا معها إعرابا، لأن الإعراب حركة في حرف إعراب، ولكنها دلائل على الإعراب، وهذا قول أبي الحسن الأخفش وأبي عثمان المازني، وكذلك تاء مسلمات [ ... ]. مسألة [3] [ ... ] إلا بحرف جر، كما أن ذهبت أصله ألا يتعدى إلا بحرف، ويدل على ذلك أن مصدره مصدر ما لا يتعدى، وهو فعلو، تقول: دخل دخولا كما تقول: قعد قعودا، وجلس جلوسا، وذهب ذهوبا، ففعول مصدر ما لا يتعدى من الأفعال، ألا ترى أن سيبويه قال في باب بناء الأفعال التي هي أعمال تعداك إلى غيرك ومصادرها: إن فعولا إنما يكون لما لا يتعدى نحو: قعد قعودا، وجلس جلوسا، وثبت ثبوتا، وذهب ذهوبا، وقد قالوا: الذهاب

والثبات، قال: وأما قولهم: دخلته دخولا، وولجته ولوجا، فكان الأصل ولجت فيه ودخلت فيه، إلا أنهم حذفوا (في) كما قالوا: نبئت زيدا، يريدون عن زيد، فحذفوا (عن) ها هنا. هذا معني قول سيبويه: إن ذهبت الشام مثل دخلت البيت، أراد به أن حرف الجر حذفت مع ذهبت كما أنه حذف مع دخلت، وليس بين واحد من الأمرين وغيره فرق في الأصل، إلا أن العرب ربما استعملت الحذف في بعض الأشياء أكثر من بعض، فيتوهم بذلك المتوهم أن ما استعمل فيه الحذف أكثر أصله التعدي، وليس الأمر كذلك، وإنما يكون كثرة الحذف على قدر كثرة الاستعمال، وربما استعمل الشيء محذوفا، ولم يتكلم بالأصل البتة، فأما ذهب ودخل فقد استعمل معهما الوجهان، أعني حذف حرف الجر وإثباته كقولهم: دخلت في الدار، [ودخلت الدار]، وذهبت إلى الشام، وذهبت الشام واستعمالهم /5/ حرف الجر في جميع المواضع مع فعلت وأنه غير ممتنع معها على حال يدل على أنه الأصل وأن الحذف فرع. وأما قوله: إن كل ما كان مثل البيت فهو بيت، وليس كل ما كان مثل الشام فهو شام، فلا وجه له، لأن تعدي الفعل يأتي في النكرة والمعرفة سواء بكرف أو بغير حرف، تقول: دخلت مكة، ودخلت في مكة، ودخلت بيتا حسنا، ودخلت في بيت حسن،

مسألة [4]

وكذلك ما كان مثله. مسألة [4] قال: ومن ذلك قوله في باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين ويقتصر على أحدهما إن شاء، قال: ومما حذف فيه حرف الجر قول المتلمس: آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس قال: يريد، على حب العراق) قال محمد بن يزيد: وهذا خطأ، إنما هو آليت أطعم حب العراق، أي لا أطعم حب العراق، كما تقول: والله أبرح من هنا، أي: لا أبرح. وقال في هذا الموضع: (نبئت زيدا، أي: عن زيد)، وليس كذلك، لأن نبأت زيدا معناه أعلمت زيدا ونبئت زيدا أعلمت زيدا، وإن قال قائل: نبئت عن زيد قائما، وضع موضع حدثت، فمبني على ضربين لا يحمل الكلام إلا على وجهه. قال أحمد بن محمد بن ولاد، آليت وحلفت وأقسمت أفعال تتعدى إلى المحلوف عليه بحرف الجر، فتقول: حلفت على زيد لا أكلمه، وإن شئت قلت: حلفت على زيد، ولم

تأت بجواب، لأن حلفت جملة مكتفى بها غير محتاجة إلى سواها، وإذا قلت: حلفت لا أفعل، فهو كقولك: والله لا أفعل، إلا أنك إذا قلت: والله، فلا بد من جواب القسم، وإلا لم يكن كلاما، فلو جاز أن تقول: إذا حذفنا حرف الجر من حلفت وآليت وما أشبههما، إن الاسم الذي يليهما انتصب أو ارتفع بفعل يفسره جواب القسم، وجواب القسم مع هذه الأفعال لا يلزم الإتيان به، لأنه جملة تامة غير الجملة الأولى، لأن الكلام قد تم دونه، لكان الإضمار مع ما يلزم الكلام أوجب، فيلزمه على هذا في المجازاة أن نقول إذا حذف حرف الجر للضرورة: إن تمرر أخوك يكرمك/6/. فرفع الأخ بفعل يفسره جواب المجازاة، كأنه قال: إن تمرر يكرمك أخوك، ويكون يكرمك مفسرا، وهو يريد (معنى) إن تمرر بأخيك يكرمك، فيبطل عمل يمرر ومفعوله يليه، ويرفع مفعوله بفعل مضمر. ويلزمه أن يقول فيما يتعدى بغير حرف كما يلزمه فيما يتعدى بحرف، فيجوز، إن تضرب زيد ينته، وإن تزر عمرو يكرمك، فيبطل عمل تضرب وتزور، ولا تعملها في مفعوليهما وهما يليانهما بغير حائل، وتضمر لهما فعلين يرفعانهما، لأن لهما في آخر الكلام ضميرين فاعلين، وهذا لا يجوز من قول آخر. ويجوز أيضا على قوله، رأيت زيد يضرب، على أن ترفع زيدا بفعل يفسره (يضرب)، ولا تنصبه برأيت، وتبطل عمل (رأيت) كما أبطل عمل (آليت)، ونصب (حب العراق) بفعل يفسره لا أطعم، ولا فرق بينهما، إلا أن هذا فعل يتعدى بحرف، وذاك بلا حرف، فإذا حذفنا الحرف استويا جميعا وتعدى الفعل، فنصب ما كان مجرورا. وكذلك لو اضطر شاعر إلى أن يقول مثل: مررت زيدا يضربه عمرو للزم على قوله أن ينصب زيدا بفعل مضمر يفسره (يضرب)، فإن قال: ليس بمنساغ في اللفظ أن تقول: مررت يضرب زيدا عمرو، قيل له: وهو منساغ في المجازاة أن تقول: في مثل: إن تمرر بزيد يكرمك، أن تقول: إن تمرر يكرمك زيد، فأجز إن تمرر زيد يكرمك، على أن ترفع

زيدا بفعل يفسره (يكرمك)، لأنه منساغ. وجميع ما يجوز من هذا الباب فيما ينتصب ويرتفع على إضمار فعل يفسره الظاهر مبني من جملة واحدة، كقولك: أزيدا ضربته؟ فول حذفت الهاء لتسلط الفعل فعمل فقلت: أزيدا ضربت؟ ولا يكون ذلك من جملتين، ولو جاز إعمار الاسم الآخر في الاسم المعرض للفعل الأول لجاز إدخال عامل على عامل، ولجاز على هذا أن تقول: حلفت بزيد لأمرن، على أن تكون "الباء" معلقة بـ (لأمرن) وهذا خطأ من غير وجه، ولا يكون حينئذ ها هنا فرق بين المحلوف به والمحلوف عليه، لأن الباء يحتمل أن تكون متعلقة بحلفت، فيكون /7/ ما يليها مقسما به لا عليه، ألا ترى أنك تقول: حلفت على زيد وحلفت بزيد، فيختلف المعنى. ومن الدليل على أن الباء متعلقة بحلفت لا بمررت، قولك: حلفت بزيد (لأمرن به)، وحلفت على زيد لأمرن به، فلو كانت الباء معلقة بمررت لم تقل: به، لأن الفعل لا يتعدى بباءين، ألا ترى أنك إذا قلت: بزيد مررت، استغنيت عن أن تقول: به، وكذلك إذا قلت: أزيدا مررت به؟ لم تأت بالباء في زيد. قال أحمد: وأما قول أبي العباس: إن معنى نبئت عن زيد غير معنى نبئت زيدا، وقال: لأن نبأت زيدا معناه أعلمت زيدا. (قال أحمد): فهذا المفعول إذا رد الفعل إلى ما لم يسم فاعله قام مقام الفاعل، وتعدى عن أن يدخل في المفعول الثاني إذا سميت الفاعل، وفي المفعول الأول إذا لم يسم الفاعل، فتقول: نبأت زيدا عن عمرو وبكذا وكذا، ونبئت عن زيد بكذا وكذا.

مسألة [5]

وكذلك إذا عديتها، وحذفت (عن) قلت: نبئت زيدا كذا وكذا، ونبأت زيدا عمرا يفعل كذا وكذا، وأعلمت زيدا يفعل كذا وكذا. فإن كان دخول الحرف مع أعلمت يجعل لها وجها غير وجهها إذا تعددت بغير حف، كان الأمر كذلك في نبئت، لأنه قد زعم أن معناها واحد، وإن كان معناهما واحدا في وجهيهما، أعني في دخول الحرف وخروجه منهما، فكذلك هو في نبئت، فلا تجد لها معنى غير ما ذكره سيبويه، لأن الإنباء هو الإخبار ونحوه، ولم يوجدنا محمد غير قوله في معنى حدثت إذا جئت بالحرف، أعني حرف الجر، فهل حدثت وأخبرت وخبرت وأنبئت وأعلمت، إلا متقاربة المعاني، وإن كانت العرب قد خالفت بين ألفاظها، وعدت بعضها بغير حرف وبعضها بحرف، وكيفما صرفت هذه الكلمة، أعني نبئت، فلا وجه للإنباء غير الإخبار والإعلام، فقولك: نبئت زيدا يفعل، ونبئت عن زيد أ، هـ يفعل، واحدا في المعنى وإن اختلف اللفظ والتقدير، وكذلك أعلمت عن زيد أن يفعل /8/ وأعلمت زيدا يفعل. مسألة [5] [قال محمد: ] ومن ذلك قوله في باب كان وأخواتها، قال سيبويه: (وقد يكون لكان موضع آخر يقتصر فيه على الاسم، فتقول: قد كان عبد الله، أي: خلق، وقد كان الأمر، أي: وقع. قال محمد بن يزيد: واحتج بقوله: بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا

ولا حجة له في هذا لو رفع، لأن أشنعا يكون خبرا، وتكون (كان) متعدية. قال أحمد: روى سيبويه هذا البيت على وجهين: إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا أضمر اليوم في (كان)، كأنه قال: إذا كان اليوم يوما ذا كواكب، وزعم أ، بعضهم يرويه: إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا ومعنى (كان) في الوجهين معنى وقع، و (يوما) منصوب على الحال، لأن الاسم المنكور لما كان يجوز أن يكون حالا صلح أ، يقع في موضع الحال، تقول: جاء زيد رجلا صالحا، ومثله قول الله عز وجل: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم}، التقدير، كبرت الكلمة كلمة خارجة. والوجه الآخر الذي وقع فيه يوم ذو كواكب، فهو أيضا على وقع، وأشنع حال. فأما قول محمد: إنه ينصب (أشنع) على [أنه] خبر كان فهو غلط، لأنه لم يخبر بكان ها هنا عن أمر ثابت مستقر به، ألا ترى أنك إذا قلت: كان اليوم الذي تعلم عظيما، فقد أخبرت عن يوم (واقع) معلوم، قال: والشاعر لم يرد هذا، إنما أراد به، إذا وقع يوم هذه حاله فعل وصنع، ولم يخبرنا عن أمر واقع، لأن (إذا) في معنى الجزاء، ويوم زمان يحدث. ولم يخالفه محمد في أن هذا الوجه قسم من أقسام كان، ولا في أن الشاهد يحتمل ذلك، وإنما فسر البيت على ما رآه محتملا غيره، وعلى أنه ليس بشاهد قاطع على المعنى الذي أراده سيبويه دون غيره، لما رأى (أشنعا) منصوبا، وكان غيره محتملا أن يكون خبرا

مسألة [6]

لا حالا، ولعمري لو أخبر به عن أمر مستقر ثابت، ولكنه أخبر به عن أمر يمكن حدوثه وفيه حرف الشركة، فمن ها هنا جعله سيبويه حالا ولم يجعله خبرا. مسألة [6] ومن ذلك قوله في باب ما يخبر فيه عن النكرة بالنكرة، قال سيبويه: (ولا يجوز لأحد أن تضعه في موضع واجب، لأن وقع /9/ في كلامهم نفيا عاما. قال محمد: وليس كما قال، إنما خلا أحد أن يقع موقع الجميع، فإن كان في الإيجاب موضع يكون الواحد فيه على معنى الجميع وقع أحد فيه كما يقع في النفي نحو قولك: جاءني اليوم كل أحد، وأول أحد لقيت زيد، وعلى هذا قال الأخطل: حتى بهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف القمرا قال أحمد: قول محمد: إن أحدا يقع في الإيجاب إذا كان واحدا في معنى جميع يلزمه أن يقول: جاءني مئة أحد، ولقيت عشرين أحدا، فهذا واحد في معنى جميع، وليس يجيزه أحد، فقد دل (ذلك) على فساد قوله. فأما ما استشهد به في الجوار، وهو أول أحد لقيت زيد، فلا يجوز هذا الكلام إلا أن يجعل أحدا في معنى واحد كما قال الله: {قل هو الله أحد} وليس أحد ها هنا هو

مسألة [7]

الذي يقع في النفي، وإن كان اشتقاقهما واحدا، لأن العرب وضعتهما وضعا مختلفا لمعنى، وكذلك قول الأخطل، معناه إلا على واحد لا يعرف القمر. هذا الوجه الجيد، وقد يجوز فيه وجه آخر، وهو أن يضع لفظ الإيجاب على لفظ النفي، لأنه إيجاب لذلك المنفي، وهذا تقابل اللفظ، ولو ابتدأه موجبا على غير نفي يقدمه لم يجز، ألا ترى أنه لو قال: خفيت على أحد لا يعرف القمر لم يجز. وكذلك المسألة الأخرى، جاءني اليوم كل أحد، لا يجوز هذا الكلام إلا أن يكون جوابا لقول قائل: ما جاءني اليوم أحد، فيقول المخبر: بل جاءني اليوم كل أحد، فيفسر القائل لفظه، والتفسير الأول الذي جاء به القرآن أجود. مسألة [7] ومن ذلك قوله في باب (ما): إن الخبر جاء في التقديم منصوبا في قول الفرزدق: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش وإذا ما مثلهم بشر قال محمد: وليس هذا موضع ضرورة، والفرزدق لغته الرفع في التأخير، ومن نصب الخبر مؤخرا رفعه مقدما، ولكنه نصبه على قوله: فيها قائما رجل، وهو قول أبي عثمان المازني، والخبر مضمر. قال أحمد: قول محمد: (وليس هذا موضع ضرورة)، لا حجة فيه على سيبويه، إنما هي رواية عن العرب، والمحاجة في [مثل] هذا على العرب، أن يقول لهم /10/: لم أعربتم

الكلام هكذا من غير ضرورة لحقتكم؟ أو يكذب سيبويه في روايته، وهو عنده بخلاف هذه الحال، وإذا كان غير مكذب عنده فيما يرويه، وكانت العرب غير مدفوعة عما تقوله مضطرة بالوزن أو غير مضطرة، فعلى النحوي أن ينظر في علته وقياسه، فإن وافق قياسه وإلا رواه على أنه شاذ عن القياس، ولم يكن للاحتجاج بالضرورة وغيرها معنى، إذا كان الناقل ثقة. فأما قوله: والفرزدق لغته رفع الخبر مؤخرا فكيف ينصب مقدما؟ فليس ذلك بحجة، لأن الرواة عن الفرزدق وغيره من الشعراء قد تغير البيت على لغتها، وترويه على مذاهبها مما يوافق لغة الشاعر ويخالفها، ولذلك كثرت الروايات في البيت الواحد، ألا ترى أن سيبويه قد يستشهد ببيت واحد لوجوه شتى، وإنما كذلك على حسب ما غيرته العرب بلغاتها، لأن لغة الراوي من العرب شاهد كما أن قول الشاعر شاهد إذا كانا فصيحين، فمن ذلك ما أنشده سيبويه لزهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا ورواه أيضا، ولا سابقا شيئا، في مواضع أخر، وكذلك أنشد قول الأعور الثني: فليس بآتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها

بالرفع والجر، وهذا كثير. وأما قول أبي عثمان، إنه على الحال المقدمة على النكرة، فلا يجوز، والذي ذهب إليه شر مما هرب منه، لأنه ليس بجائز عند النحويين: قائما رجل، على إضمار الخبر، ولأن يكون الخبر منصوبا مقدما كما كان مؤخرا أقرب إلى الجواز على ضعفه مما قال المازني، لأنه أتى بحال ولم يأت بعامل فيها، وأتى بمبتدأ ولم يأت بخبر له، وحذف في موضع لا يعلم المخاطب به ما حذف منه، ولا دلالة فيه على المحذوف، وهذا لا يجوز، لأن فيه إلباسا، وذلك وإن كان ضعيفا فلا إلباس فيه، أعني تقدم الخبر منصوبا، وما كان (ضعيفا) ولا لبس فيه فهو أجود مما جمع الضعف والإلباس. قال محمد بن يزيد: واحتج أبو الحسن الأخفش في هذا الباب في /11/ جواز العطف على عاملين بآيتين ليس في واحدة منهما عطف على عاملين، وذلك قوله عز وجل: {وفي خلقكم وما يبث من دابة} وقوله: {لعلي هدى أو في ضلال مبين}، قال فعطف على (في) وعلى اللام، واللام ليست عاملة، ولكن قرأ بعض القراء: {واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات} فنصب آيات، وعطف على عاملين. قال أحمد: القول في هاتين الآيتين ما قال محمد بن يزيد، ليس فيهما عطف على

مسألة [8]

عاملين، ولكن الشاهد في الآية التي جاء بها محمد بن يزيد، وهو قوله عز وجل: {وتصريف الرياح آيات}، لأن (آيات) عطف على اسم إن، وتصريف عطف على ما عملت فيه (في) وهو مخفوض، فقد عطف بالواو على منصوب ومخفوض، والعاملان (إن) و (في)، والمعطوفان (تصريف) و (آيات). فأما قول الأخفش: إنه عطف على (في) وعلى اللام في قوله عز وجل {لعلى هدى أو في ضلال مبين} فظاهر الفساد، لأن (في) لم يعطف علها شيء يلي حرف العطف، وهي معطوفة على ما قبلها. مسألة [8] ومن ذلك قول سيبويه في باب ما يجرى مما يكون ظرفا مجرى زيد ضربته، قال: ويجوز في الشعر، زيد ضربت، وهو ضعيف، ثم احتج بأبيات ليس في واحد منها ضرورة، والجواز فيها بمنزلته في الكلام، لأنه لا يكسر الشعر، وذكر في الكلام مثل ذلك ووثقه، على أن الشعر في هذا والكلام واحد، والأبيات: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع وقوله: فأقبلت زحفا على الركبتين ... فثوبا نسيت وثوبا أجر وقوله:

ثلاث كلهن قتلت عمدا ... فأخزى الله رابعة تعود وفي الكلام، شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى، وخبرنا أبو عمر الجرمي بهذا كله منصوبا، وسمعنا بعض ذلك منصوبا من الرواة. قال أحمد: لم يزد محمد في هذه /12/ المسألة على أن حكى قول سيبويه، وجعل حكايته لقوله ردا عليه، ذلك أن سيبويه قال في إثر بيت أبي النجم: (وهو ضعيف، وهو بمنزلته في غير الشعر، لأن النصب لا يكسر البيت، ولا يخل به ترك إظهار الهاء). وهذا الذي قاله محمد ورأى أنه رد عليه إذ قال: وليس في هذه الأبيات ضرورة، وإنها في الكلام والشعر واحد، هو قول سيبويه، وإنما زعم سيبويه أنه سمع ذلك مرفوعا في الشعر، ولم يقل: إنه لا يجوز إلا في الشعر، وسماعه إياه مرفوعا في الشعر من الرواة كسماعه شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى، مرفوعا في الكلام الذي جاء مثلا، وإنما يحتج لمثل هذا الشاذ بمثل مشهور أو شعر مروي، ولو جاء به مسألة محكية لم تقبل، بل قد رد عليه محمد بن يزيد ومعه هذه الشواهد المشهورة، والشعر قبيح به في الضرورة وغير الضرورة.

مسألة [9]

وأما قول محمد بن زيد: إن الجرمي سمع ذلك نصبا، فقد قال سيبويه: إن النصب أكثر وأعرف، وأغنى بذلك عن الاحتجاج عليه بقول الجرمي، ألا ترى إلى قوله: إن الرفع ضعيف، إلا أنه سمعه من العرب، شبهوه بالذي رأيت زيد، في حذف الهاء من الصلة، وحذفها من الصلة أجود، ويتلوها في الجودة حذفها من الصفة كقولك: الناس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت، وحذفها من الخبر وهي تنوي أضعف الوجوه، وقد روى أهل الكوفة والبصرة هذه الشواهد رفعا كما رواها سيبويه، فهذا وجه الرواية. وأما طريق المقايسة، فإذا أجازت العرب أن تنصب المفعول إذا تقدم وقد شغلت الفعل عنه بالهاء كقولهم: زيدا ضربته، فعديل هذا في الحاشية الأخرى أن تجيز زيد ضربت، فترفعه ولم تشغل الفعل عنه بالهاء في اللفظ كما نصبته وقد شغلت الفعل بالهاء، لأنهما حاشيتان متحاذيتان في الجواز، وإن كانت إحداهما أكثر في كلام العرب من الأخرى. فأما في المقايسة فهما سواء، لأن سبيل الكلام ووجهه أن يرفع المفعول إذا تقدم وقد شغلت عنه الفعل، ونصبه ليس بالوجه، وكذلك وجه /13/ الكلام أن تنصب المفعول المقدم إذا لم تشغل عنه الفعل، ورفعه ضعيف على نية الهاء. مسألة [9] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب يحمل فيه الاسم على اسم يبنى عليه الفعل

مرة ويحمل مرة أخرى على اسم مبني على الفعل، قال: تقول: زيد ضربته وعمرو كلمته، إن حملت عمرا على زيد، وإن حملته على الهاء نصبته، قال: وعلى هذا يقول: القائل: من رأيت؟ فتقول: زيدا رأيته، تحمله على كلام المبتدئ ليكون العمل من وجه واحد، واحتج بأن القائل يقول: من رأيت؟ فتقول: زيدا، على كلامه، فهذا ها هنا نظير العطف فيما صدر به، وزعم أن القائل إذا قال: من رأيته؟ لم يجز أن تقول في الجواب إلا بالرفع، فتقول: زيد رأيته، إلا في قول من قال في الابتداء: زيدا رأيته، وقد نقض قوله في العطف: إن حملته على الهاء نصبت، والقول إن حملته على الهاء أن تقول: زيدا رأيته كما قلت: زيد ضربته وعمرا كلمته حين حملته على الهاء، وهذا قول أبي الحسن الأخفش، وهذا قياس قول سيبويه في العطف. وقال سيبويه: قولك: من رأيته؟ إنما هو بمنزلة قولك: من منطلق؟ ومن رسول؟ فلذلك أجري ما بعده مجرى ما ليس قبله مفعول، وهذا يلزمه في الأول، لأن قولك: زيد ضربته وعمرو كلمته، ضربته في موضع منطلق وما أشبهه، وقد طعن في هذا الموضع أبو إسحاق الزيادي وأبو الحسن الأخفش، وزعما أنه لا يجوز زيد ضربته وعمرا كلمته، ولا يكون في عمرو إلا الرفع، لأن قوله: زيد ضربته جملة لها موضع، ويريد إذا أضمر قبل عمرو فعلا أن يعطفه، وهي جملة لا موضع لها على تلك، وإنما صار لقولك: ضربته موضع، لأنها في موضع خبر الابتداء، فموضعها الرفع، والمعطوف لا موضع له، لأنه بمنزلة زيد لقيته، ولا موضع للجملة، والقياس الذي لا يجوز غيره ما قالا، لأنه لا يجوز أن تعطف جملة لا

موضع لها على جملة لها موضع، والمعطوف على الشيء في مثل حاله. قال أحمد: أما قول محمد: إنه لا يجوز أن تعطف جملة لا موضع لها فهذه دعوى لم يأت معها /14/ بحجة تبينها، وليس الأمر في ذلك على ما ذكر، ونحن نجد في الكلام جملة لا موضع لها معطوفة على جملة لها موضع، يجمع النحويون على إجازتها، ولا يمتنع الراد من ذلك فيها، وهو قولك: مررت برجل قام أبوه وقعد عمرو، فقام أبوه جملة في موضع جر لأنها نعت لرجل، وقد عمرو معطوفة عليها وليست في موضع جر، لأنك لا تقول: مررت برجل قعد عمرو، إذ ليس في الجملة الثانية ضمير يعود على رجل فيكون نعتا له، وكذلك، إذا قلت: زيد يضرب غلامه فيغضب عمرو، فيضرب غلامه رفع لأنه خبر المبتدأ، ويغضب عمرو معطوف عليه، وليس في موضع رفع، لأنه لا عائد فيه على المبتدأ، وليس سبيل عطف الجمل أن يكون الثاني محمولا على الأول في لفظ ولا موضع بالواجب على كل حال، ألا ترى أن الجملتين قد تختلفان فتكون إحداهما مبنية من اسمين والأخرى "مبنية" من اسم وفعل، فتقول: أخطأ زيد والله المستعان، فالأولى من اسم وفعل، والثانية من اسمين، وتعطف المبني على المعرب والمعرب على المبني في الجمل، فتقول: قم وليقم زيد، وتقول: ليقم زيد وقم وتعطف الأمر على الخبر والخبر على الأمر كقولك: قام زيد فقم، وقم فقد قام زيد. فالجمل تعطف على الجمل مع اختلاف أحوالها وتباين مجاريها في معانيها، فكيف لا تعطف مع اختلاف مواضعها، وإذا كانت الجملة لا يلزم فيها أن تتبعها الجملة في لفظها، كذلك لا يلزم في كل حال أن تتبعها في موضعها، ألا ترى أنك تقول: إن زيدا قائم وعمرا جالس، فتأتي بلفظ الجملة الثانية كلفظ الأولى وتحملها عليها، وإن شئت لم تفعل ذلك، فتقول: إن زيدا قائم وعمرو جالس، فأنت فيما ينساغ لك أن تحمله على الأول، مخير في حمله عليه،

أو ترك ذلك، فكيف فيما لا ينساغ لك البتة أن تحمله على الأول، فقياس ما تحمله من الجمل على الموضع كقياس ما تحمله على اللفظ، فتكون مخيرا فيما يجوز وينساغ حمله على الموضع أو ترك ذلك، نحو قولك: زيد ضربت أباه ثم ضربت عمرا، فهذا معطوف على ضربت، ولا يجوز حمله على موضعه في الإعراب، فأما /15/ ما يجوز فقولك: زيد ضربت أباه ثم ضربت أخاه، فقولك: ضربت أخاه، فيجوز أن تحمله على موضع زيد ضربت أباه ثم ضربت أخاه، فقولك: ضربت يجوز أن تحمله على موضع ضربت أباه في الإعراب، وقد اتفقوا جميعا- والراد معهم- على أنه يجوز زيد ضربته وعمرا كلمته، فينصبون عمرا على ما كان يجوز في الابتداء، والذي يضمرونه في العطف هو الذي يضمرونه في الابتداء، وليس يذهب سيبويه إلى أن يعطف عمرا على الهاء، وإنما مذهبه أن يكون بناء الجملة الثانية كبناء الجملة التي قبلها، فهم منفقون على جواز ذلك، وإنما الفرق بينهم قول سيبويه: إن جواز النصب فيها إذا كانت معطوفة أحسن من جوازه في الابتداء، ولم يرد أن يحمل اسما على اسم ولا إعرابا على إعراب، ألا ترى أنه يقول: قام زيد وعمرا كلمته، أحسن في الإعراب، لأنه يجعل الاسم محمولا على الفعل في الجملة الثانية كما جعله في الأولى، وإن كان الفعل الأول رافعا والثاني ناصبا. وأما إلزامه في قولك: من رأيته؟ أن تحمل الجواب مرة على (من) فترفع وتقول: زيد، ومرة على الهاء، فننصب وتقول: زيدا، فإن هذا [وإن لم يكن] قياس قوله في العطف، فهو لعمري يشبه العطف في حال ويخالفه في أخرى، وكذلك جعله سيبويه شبه العطف، فلأنك تحمل الجواب على ما حمل عليه السائل كلامه كما تحمل المعطوف (على المعطوف) عليه، وذلك قول سيبويه: إذا قال القائل: من رأيت؟ قلت: زيداً رأيته، فحملت زيدا على

إعراب (من)، لأنه جواب عنها. وأما مخالفته لباب العطف، فإنك إذا قلت: زيد ضربته وعمرو كلمته، فأنت مخير في الحمل على أي الجملتين شئت، فجاز الوجهان، والمجيب فإنما يجتهد في إعراب ما بنى عليه المبتدئ كلامه، فالسائل مانع له من أن يكون مخيرا. فإن قال: فإذا قال السائل: من رأيته؟ فقد أتى بجملتين: إحداهما محمول فيها الاسم على الفعل، وهي الهاء في رأيته، والأخرى محمول فيها الفعل على الاسم، لأن (من) هو الاسم المبتدأ، والفعل خبر عنه. قيل له: سبيل الاسم الذي في الجواب أن يكون إعرابه كإعراب الاسم المستفهم به /16/، فإن قال السائل: من قام؟ قلت في الجواب: زيد، وإن قال: من ضربت؟ قلت في الجواب: زيدا، وكذلك إذا قال: من رأيته وأيهم رأيته؟ قلت: زيد في الجواب، فتحمله على إعراب (من) لا إعراب الهاء، لأن زيدا مفسر لـ (من)، فهذا وجه الكلام. وكذلك إذا قلت: أي الرجلين لقيته أزيدا أم عمرو؟ وأي الرجلين لقيت أزيدا أم عمرا؟ فها هنا جملتان لعمري كالعطف في المسألة الأولى، إلا أن الحمل على إحداهما أولى من [الحمل على] الأخرى، بسبب ما ذكرنا من أن الجواب والتفسير محمول على الاسم المستفهم به، وهو أولى من الهاء، وإن كانت الهاء عائدة عليه، فأما العطف على الجملتين فليست إحداهما أولى من الأخرى بحال تزيد بها عليها. وأما قول الأخفش: إن الهاء هي (من) في المعني، فلم تكن بهذا تستوجب الحمل عليها دون (من) يستفهم بها والجواب عنها، والهاء لا يستفهم بها، ومع هذا فقد يجوز النصب في قول سيبويه على ما كان يجوز في الابتداء، فهو حمل ما ذكره الأخفش وليس بالوجه عنده ولا عند غيره.

مسألة [10]

مسألة [10] ومن ذلك قوله في باب الاستفهام: أأنت زيد ضربته؟ فيختار في زيد الرفع، ولا يجوز النصب إلا على قول من قال: زيدا ضربته. قال محمد: وهذا خلاف قوله أجمع في هذا الباب، لأنه إنما يستفهم عن الفعل، فينبغي له ها هنا أن يضمر فعلا يرتفع (أنت) عليه، وهو الذي ينصب زيدا كأنه قال: أضربت أنت زيدا؟ وكذلك تقول: أأنت تقول زيدا منطلقا؟ كما تقول: أتقول زيدا منطلقا؟ وكذلك ما أنت زيد ضربت في باب النفي، وهذا قول أبي الحس الأخفش وغيره. قال أحمد: قوله: قد كان ينبغي له ها هنا أن يضمر فعلا يرتفع به (أنت) ويكون ناصبا لزيد، فليس يلزمه هذا، لأن الكلام مبني من جملتين، والجملة الأخرى مبنية من اسم وفعل، والأولى التي فيها حرف الاستفهام ليست مبنية من اسم وفعل، وإنما يكون ما قال في الجملة إذا كانت من اسم وفعل، /17/ نحو قولك: زيد ضربته، وإذا أتيت بحرف الاستفهام كان أولى أن يليه الفعل، فإذا قلت: لزيد أبوه قائم، أو زيد قائم أبوه، ثم أتيت بحرف الاستفهام، لم يكن ها هنا شيء هو أولى بأن يلي حرف الاستفهام، "وكذلك إذا قلت: هند أبوها ضربته، ثم أتيت بحرف الاستفهام" في الجملة الأولى، وإنما هو خبر في الجملة الأخيرة، لم يكن لك أن تضمر فعلا بعد الألف. ومثل ذلك أأنت زيد ضربته؟ لأن (أنت) ابتداء وخبره الجملة، وهي الابتداء الثاني وخبره، فلم يقع الفعل مبنيا على (أنت)، فيكون الألف بالفعل أولى، إنما يكون به أولى إذا كان خبرا عن الاسم الذي يليها، فأما إذا كان خبرا عن اسم آخر وفي جملة أخرى فليس الأمر على ذلك، وإلى هذا ذهب سيبويه، وكذلك ما أنت زيد ضربته، القول فيه كالقول فيما قدمناه ذكره.

مسألة [11]

"وأما" أأنت تقول زيدا منطلقا؟ فزعم سيبويه أن القياس في (تقول) ألا تعمل، وأن يكون ما بعدها محكيا، ولم تدخل في باب ظننت بأكثر مما ذكر من عملها في المخاطبة والاستفهام، وشبهها بـ (ما) إذا لم تقو قوة (ليس) في كل مواضعها، فلما فصل بين ألف الاستفهام وبينها تغيرت وعادت إلى أصلها في القياس كما أن (ما) لما قدم خبرها رفع، وكذلك إذا كان الخبر موجبا كقولك: ما زيد إلا ظريف، فهذا هو القياس، ومن أجاز غير ما في القياس لزمه أن يأتي بحجة من كلام لاسيما وقد اجتمع لسيبويه أن العرب ترفع ما بعد القول من الكلام على كل حال في كل المواضع، وإنما ينصب به بعضهم في بعض المواضع وأنه القياس، ومن خالف القياس وأكثر الكلام العرب فعليه أن يأتي بحجة فيما خالف فيه. مسألة [11] ومن ذلك قوله في هذا الباب: والرفع بعد إذا وحيث جائز في مثل، حيث زيد لقيته فأكرمه، وإذا زيد تلقاه فأكرمه. قال محمد: أما حيث فلا بأس بابتداء الاسم بعدها، لأنك قد تقول: جلست حيث عبد الله جالس، وأما (إذا) هذه فابتداء الاسم بعدها محال، وذلك أنك [لا] تقول: اجلس إذا عبد الله جالس، وقد نقض هذا قوله: إذا كانت لظروف الزمان في معنى الماضي فأضفها إلى الفعل إن شئت، وإن شئت /18/ فإلى الابتداء والخبر، لأنها في معنى إذ، وإذ تضاف إلى

ما ذكرت، وإذا كانت في معنى (إذا) فلا تضفها إلا إلى الفعل، لأن (إذا) لا تضاف إلا إليه. فأما (إذا) التي تكون للمفاجأة فتلك تقع بعدها الأسماء، وهي وهي غير هذه وذلك قولك: خرجت فإذا عبد الله قائم، وإن شئت قلت: فإذا عبد الله، وتسكت ولا تحتاج إلى جواب، لأنها للمفاجأة لا التي وصف، وقد أجاز في غير هذا الباب الرفع في هذا البيت: إذا ابن أبي موسى بلال بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر ولا يجوز الرفع على ما ذكر، لأنه يرفعه بالابتداء، ولكن يجوز على أن تضمر بلغ، وتفسيره بقوله: بلغته، ومثل إجازته الرفع في (إن) قوله: لا تجزعي إن منفسا أهلكته ... فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي والقول فيه متى رفع أن يكون على إضمارك هلك، أي: إن هلك منفس، وتفسيره بقوله: أهلكته، ، وهذا التفسير في البيتين قول أبي عثمان. قال أحمد: قوله: ابتداء الاسم بعد (إذا) محال، لأنك لا تقول: اجلس إذا عبد الله جالس، فهذا لا يجوز بهذا اللفظ، ولا هو الذي أجازه سيبويه، وإنما يجيز مثل قولك: اجلس إذا عبد الله جلس، فتكون الجملة بعد (إذا) مبنية من اسم وفعل، إلا أنه قدم الاسم على الفعل، فقبح من جهة الترتيب، فأما أن يكون محالا فلا، ولكنه عند سيبويه

في قياسه من باب المستقيم القبيح، فاستقامته من جهة معناه ولفظه، وقبحه من جهة ترتيبه، لأنه أولا قدم الاسم وأخر الفعل، وهذا مثل قوله: ................. وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم وحكم (قلما) أن يليها الفعل. فأما قوله: إنه ناقض، لأنه ذكر أن ظروف الزمان إذا كانت في معنى الاستقبال لم تضفها [إلا] إلى الفعل، لأن الفعل لا يضاف إلا إليه، فلم تضف (إذا) إلا إلى الفعل في المسألة التي ردها، وهي قوله: إذا عبد الله تلقاه فأكرمه، لأن الإضافة إلى الفعل إنما هي إضافة إلى الجملة، والمعنى سواء قدمت الاسم على الفعل أو [الفعل] على الاسم، فالمعنى في ذلك واحد غير متغير ولا منتقض، وإنما يقبح تقديم /19/ الاسم من جهة الترتيب لا أن المعنى مختلف، فهو إذا قدم الاسم أو أخره، إنما يضيف إلى تلك الجملة بعينها، لأنه لا فرق بين قولنا في المعنى: زيد قام، وقام زيد، وكذلك إذا زيد تلقاه، وإذا تلقى زيدا، هما واحد في المعنى، ولو كانت (إذا) مضافة إلى الفعل دون الفاعل لكنا إذا قدمنا الاسم وأضفنا إليه دون الفعل أيضا خفضنا الاسم، ولما لم يكن ذلك كذلك كانت الإضافة إلى الجملة المبنية من اسم وفعل، وكان المعنى في الوجهين- أعني تقديم الاسم وتقديم الفعل

مسألة [12]

لأنهما قبل دخولهما (إذا) متساويان في جودة المعنى والترتيب- وبعد دخول (إذا) متساويان في المعنى غير متساويين في جودة الترتيب. فأما ما حكاه عن أبي عثمان في تأويل البيتين على قول من رفعهما: إذا ابن أبي موسى بلال بلغته لا تجزعي إن منفس أهلكته من أنه يضمر إذا بلغ ابن أبي موسى، وإن هلك منفس، فهذا الذي تأوله قبيح، لأنه أضمر ما يرفع وفسره بما ينصب، وإنما يضمر مثل ما يظهر ليكون ما ظهر مفسرا لما أضمر، وهذا قول جميعهم، ولو جاز ما ذكره للزمه أن يضمر فعلا ناصبا ويفسره بفعل رافع، فيقول: أزيدا ضرب أبوه، على معنى أهنت زيدا ضرب أبوه، فإن أجاز ذلك فهو نقض لجميع مذهبهم ولهذه الأبواب التي وافقوه عليها وسلموها إليه وعملوا مسائلهم بها. مسألة [12] ومن ذلك قول سيبويه في باب ما جرى من أسماء الفاعلين (في الاستفهام) مجرى الفعل، احتج في تعدي (فعل) بقوله: أو مسحل شنج عضادة سمحج ... بسرائه ندب لها وكلوم وعضادة سمحج إنما هي منتصبة انتصاب هو حسن وجه عبد، وكان أبو عمرو بن العلاء يزعم أن عضادة سمحج ظرف، واحتج بقوله:

حتى شآها كليل موهنا عمل ... باتت طرابا وبات الليل لم ينم وأما موهن فهو ظرف. ومن ذلك قوله في هذا الباب: فعيل يتعدى، مثل رحيم وعليم، فيجيز هذا رحيم زيدا وسميع كلامك، ويذكر أنه إنما وضع للمبالغة /20/، ولم يأت فيه بحجة من شعر ولا غيره، والدليل على أنه غير متعد أن باب فعيل في الأصل إنما هو للفعل غير المتعدي نحو: كرم وملح وظرف، فلما بنوه هذا البناء ضارعوا به مالا يتعدى إذا أرادوا ألا يتعدى. فإن قال قائل: فأنت لا تقول: رحيم، إلا لمن كثر ذلك منه، وكذلك عليم. قيل له: نظيره كريم، لا يقال إلا لمن استقر ذلك فيه، وقد يوجب الاسم تكثير الفعل ولا يجري مجرى الفاعل، لأنه ليس باسمه، ولكنه مشتق، فمن ذلك قولك: رجل صديق وشريب وفسيق، وأنت لا تقول: هو شريب الخمر، ولكنك تقول: للخمر، كما تقول: عليم بالناس، ورحيم بهم، فمن أجاز تعدي (فعيل) فليجز تعدي (فعيل)، وإنما لم يتعد هذا أجمع، لأنه مستقر فيه، فمعناه ما قد مضى من الأفعال وصار اسما لازما كاليد والرجل، وباب (فعيل) أجمع إنما هو للكثرة والمبالغة. وقد ذكر في هذا الباب بعينه، أزيد أنت له عديل، وأزيد أنت له جليس، ويقول: لأن جليسا وعديلا اسمان، ولو أراد اسم الفاعل لقال: جالس، فيقال له: وكذلك اسم الفاعل، إنما هو في باب فعل، إنما هو عالم وراحم، وفعيل في باب فاعل أيضا كثير "نحو": عادلته فأنا عديل، وجالسته فأنا جليس، وعاشرته فأنا عشير، وخالطته فأنا خليط، وشاركته فأنا

شريك، وذا أكر من أن يحصى، وإذا لم نجره "في هذا" مع هذا الاطراد على فعل، فنحو رحم أولى ألا يجوز. قال أحمد: أما قول محمد: إن عضادة سمحج منتصب انتصاب هو حسن وجه عبد فليس مثله، لأن هذا الوصف إنما يعمل فيما كان من سبب الأول، نكرة أو معرفا بالألف واللام كقولك: هو حسن وجها، وحسن الوجه، بعد علم أن الوجه للأول، وكذلك إذا قلت: هو فاره عبدا، علم أن العبد له، فإن قلت: هو حسن وجه عبد، على هذا جاز، ولو قلت: [هو] حسن وجه رجل، أو حسن رجلا، وأنت تريد رجلا من الرجال، لم يجز، وكذلك شنج عضادة سمحج بمنزلة قولك إذا تؤول على ما قال: هو حسن وجه طويله، لأن السمحج الطويل على وجه الأرض، /21/ فلو جاز هذا لقلت: هو حسن وجه ظريفه أو طويله، ومع هذا فهو في النعت أقبح. وأما ما قاله في موهن، وأنه بعد ساعة من الليل، فهو ظرف، فإن العرب استعملته استعمال الأسماء، وليس كل ما كان من الأسماء الأوقات فهو مستعمل ظرفا، كما أنه ليس كل ما كان من أسماء الأماكن فهو مستعمل ظرفا، كالجبل لا تقول: زيد الجبل وإن كان مكانا، ولا تقول: زيد مكة وإن كانت مكانا، وكذلك الأوقات، منها ما لم يستعمل ظرفا، ولو لم يأت بشاهد في (فعل) لم يحتج إلى ذلك، لأن فعلا اسم جار على (فعل) نحو: حذر فهو حذر، وهو مع ذلك للمبالغة، فقد اجتمع فيه العلتان اللتان هما أصل الباب في التعدي، ولو انفردت إحداها لعدي بسببها، فكيف إذا اجتمعتا؟ ألا ترى أن مفعالا ليس بجار على فعل، وهو يتعدى لأنه للمبالغة، قالوا: إنه لمنحارٌ بوائكها، فلما وجد سيبويه العرب قد عدت ما هو للمبالغة من أسماء الفاعلين وإن لم يكن جاريا على الفعل، وعدت ما هو جار على

الفعل، حمل الفعل على النحوين اللذين وجدهما في كلام العرب، وإذ كان محمد وغيره قد وافقه على هذا في أصل الباب، نظرنا فيما ذكره من تعدي فعل وفعيل، فوجدنا اللغتين جميعا فيهما. فأما قوله: إن فعيلا أصله لما لا يتعدى نحو: ظرف وكرم، فلو سلم هذا إليه لكان في المبالغة التي عدي من أجلها كفاية، فكيف وقد اجتمع إلى ذلك أنه اسم لفعل جار عليه نحو: رحم وعلم، فهو رحيم وعليم؟ وإذا كان فعيل من فعل (نحو): كرم فهو كريم لم يتعد كما لم يتعد "الفعل"، وإذا كان من فعل متعد تعدى اسم الفاعل كما يتعدى الفعل، ألا ترى أن ضاربا يتعدى لتعدي ضرب، وجالس لا يتعدى كما لا يتعدى جلس، ففاعل يجري مجرى فعله الذي أجري عليه، وكذلك فعيل يجري مجرى فعله الذي أجرى عليه، فتقول: هو رحيم زيدا كما تقول: رحم زيدا، ولا تقول في كريم وظريف (مثل) ذلك، لأن ظرف وكرم لا يتعديان، فلم يتعدى ما جرى عليها مشتقا منهما. /22/ وأما قوله: إن إدخال اللام في قولك: رحيم لزيد، دليل على أنه لا يتعدى، فليس بشيء، لأن اللام قد تدخل مع ضارب فتقول: هو ضارب لزيد، بل قد أدخلت مع الفعل في قوله عز وجل: {إن كنتم للرؤيا تعبرون} فليس دخول اللام ها هنا حجة، لأن فعيلا لا يتعدى.

مسألة [13]

وأما إلزامه من عدى فعيلا لأجل المبالغة أن يعدي فعيلا نحو: شريب الخمر فهو لازم، وشريب يتعدى، إذا كان للمبالغة وكان اسم الفاعل مشتقا من فعل يتعدى وإن لم يكن جاريا "عليه" كما لم يكن منحار بوائكها (جاريا). وأما احتجاجه "عليه" في قوله: أزيد أنت له عديل، فعديل ليست للمبالغة ولا هو الأصل في فاعل ولا الاسم الجاري عليه، فليست فيه، واحدة من العلتين. وأما قوله: فاعل فهو فعيل، نحو عادل فهو عديل، وجالس فهو جليس، فليس هذا بالاسم الجاري على فاعل، وإنما جاء في حروف محفوظة، وليس ذلك بأعرف من فعل فهو فاعل نحو: فره العبد فهو فاره، ونضر النبت فهو ناضر، فهذه شواذ كلها، وليس يعمل على الشاذ، على أن قد قلنا: إن فعيلا وفعلا لو لم يكونا جاريين على الفعل لكانت المبالغة فيهما موجبة لتعديهما. مسألة [13] ومن ذلك قوله في باب ما يستعمل ويلغى من الأفعال قال: تقول في الاستفهام: أتقول زيدا منطلقا؟ ومتى تقول عمرا خارجا؟ ثم قال: (وإن شئت رفعت بما نصبت). قال محمد: وهذا خطأ، من قبل أنه إنما ينصب بتقول، وإذا رفع فإنما يرفع ما بعد تقول بالابتداء، ويحكيه لا أن يقول أحدثت شيئا.

مسألة [14]

قال أحمد: لعمري إن ما بعدها يرتفع بالابتداء من قول سيبويه، علمنا ذلك وعلمه محمد بن يزيد، وهو مثل قوله في باب "ما" على لغة تميم: إذا رفعت فبالابتداء، وعلى لغة أهل الحجاز إذا نصبت الخبر فبما، وليس هذا مما يذهب على سيبويه، وعنه أخذ البصريون صغيرهم وكبيرهم ممن أتى بعده. فأما معنى قوله: رفعت بما نصبت به، فإنما أراد رفعت مع الكلمة التي نصبت بها، وهذا تسمح يقع في اللفظ مما يجوز للقائل أن يقوله، وليس يعد مثل هذا خطأ مع علمه بمذهب قائلة /23/ إلا متحامل، ألا ترى أن جماعة من أهل النحو- منهم سعيد الأخفش وغيره- يقولون في كتبهم: باب الحروف التي ترفع الأسماء والأخبار نحو قولك: هل زيد منطلق، و (هل) ليست برافعة، ولا أين إذا قلت: أين زيد ذاهب؟ وإنما أراد أن الكلام كذا. مسألة [14] ومن ذلك قوله في باب الأفعال التي تستعمل وتلغى، ذكر أنه إذا أخر ظننت وما أشبهها بعد المفعولين أو بعد أحدهما فهو مخير، إن شاء أعمل وإن شاء ألغى، وذلك أنه إن قدرها مؤخرة مثلها مقدمة لم يكن من الإعمال بد، وإن تكلم وهو يريد بالاسم الابتداء فقال: زيد، وهو متيقن ثم أدركه الشك بعد فقال: أظن منطلق، لم يعمل ظننت وقد عمل الابتداء، لأن عاملا لا يدخل على عامل، وهذا قول جميع من يوثق بعلمه، وكذلك إن قال: أين تظن زيدا؟ إذا جعل (أين) مستقرا، وإن شاء نصب، وإن قال: أين تظن زيدا قائما؟ وجعل المفعولين زيدا وقائما، "فلا بد من النصب"، لأنه ابتدأ بالفعل قبل أن يعمل بالابتداء، وأجاز سيبويه متى تظن زيد منطلق، وقال: أجيزه، لأن قبله كلاما، فألغى

بين كلامين، وهذا نقض جميع هذا الباب. قال أحمد: ليس هذا بنقض شيء من الباب، لأن سيبويه إنما يبدأ بجيد الكلام ووجهه، ثم يأتي بما يجوز بعد ذلك، والدليل على جواز إلغاء ظننت وهي متقدمة في الكلام قول العرب: ظننت إنك لقائم- بكسر إن- ودخولها ها هنا على إن المكسورة كدخولها على المبتدأ، فإن قال: مجيئهم باللام معها منعها العمل، قيل: فإذا جاز أن يأتوا باللام "أخيرا" فيمنعوها العمل وقد بنوا صدر الكلام على الشك، جاز أن يبنوا الابتداء والخبر في آخر الكلام وقد مضى صدره على الشك، ومع ذلك إن هذه الأفعال غير مؤثرة، فاستعملوا ذلك "فيها" وألغوها في مواضع كثيرة من الكلام ولم يعملوها، ألا ترى أنها تلغى مع الأسماء المستفهم بها إذا وقعت قبلها في مثل قولهم: قد عملت أين زيد، وقد ظننت ومع اللام إذا قلت: قد علمت لزيد خير منك، والذي ظنه /24/ محمد من تأويل قول سيبويه: إنه لا يجيز إلغاءها إلا أن يمضي صدر الكلام على اليقين ثم يدرك المتكلم الشك غلظ، وليس كما ظن، بل هو يجيز إلغاءها وإن ابتدأ شاكا. والذي رده أحد وجهيها، والدليل على ذلك قول سيبويه في هذا الباب: (وإنما كان التأخير أقوى)، يعني في الإلغاء، (لأنه يجيء بالشك بعدما يمضي كلامه على اليقين، أو بعدما يبتدئ وهو يريد اليقين ثم يدركه الشك) فقول سيبويه: (يجيء بالشك بعدما يمضي كلامه على اليقين)، عند السامعين لا عند المتكلم، ولو أراد عند المتكلم لم يقل: (أو بعدما يبتدئ وهو يريد "اليقين" ثم يدركه الشك) فقوله ها هنا: وهو يريد اليقين، غير قوله في الوجه الأول: بعدما يمضي كلامه على اليقين، فهو ها هنا غير مريد لليقين، وإنما خرج كلامه على اليقين عند السامعين، وقد بناه في نيته على الشك، لأن الشك إرادته.

مسألة [15]

ولو تأمل محمد هذه المسألة لم ينسبه في المسألة التي أجازها إلى نقض الباب، وقد أجاز النحويون ومحمد معهم- أين تظن زيد؟ لا اختلاف بينهم في يذلك، إذا جاء عن العرب في قول الشاعر: أبالأراجيز يا ابن اللؤم توعدني ... وفي الأراجيز خلت اللؤم والخور فـ (أين) كلام مضى قبل الظن على اليقين ها هنا، وإن لم يذكر المخبر عنه غلا بعد الظن، وإنما أوقعت حرف الاستفهام على الظن قبل مجيئك بزيد فالكلام مبني على الشك وهو ملغى. وسيبويه يذهب إلى أن إعمالها في التأخير وهي مؤخرة عن المفعولين ضعيف، وكذلك إلغاؤها وهي مقدمة ضعيف، وإلغاؤها في التقديم كإعمالها في التأخير، فأما إجازة سيبويه، متى تظن زيد منطلق؟ على الإلغاء، لأنه قد تقدم بعض الخبر، فجيد بالغ، لأن تقدم بعض الخبر كتقدم الخبر، وذلك أن تقدم الخبر لا يوجب الكلام يقينا، وكذلك تقدم بعضه. مسألة [15] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب من الاستفهام يكون الاسم فيه رفعا، ذكر أن قولك: الضارب والشاتم وما أشبه ذلك لا تدخله الألف واللام إلا على معنى الذي

فعل /25/، [ولا اختلاف بين النحويين في أنه تدخله على الوجهين جميعا، على الذي فعل] وعلى الذي يفعل، ألا ترى أنك تقول: الضارب زيدا غدا عبد الله كما تقول: الضارب زيدا أمس عبد الله، قال جرير: فبت والهم تغشاني طوارقه ... من خوف رحلة بين الظاعنين غدا وهذا أفشى وأوكد من أن يحتج له. قال أحمد: الأصل في الضارب ما قاله سيبويه: وإنما يعرض له أن يأتي على معنى (يفعل) على حسب الأفعال التي يقع الكلام فيها، وقد وافقه محمد على أنه إذا قال: زيد ضارب عمرو أمس، فهو معرفة لا يعمل في زيد، وإنما كان معرفة لأنه قد وجب وعرف، وليس المستقبل كذلك، لأنه نكرة إذ لم يقع ويجب فيعرف، فإذا أدخلت الألف واللام على ضارب كان أوكد أن يكون معرفة وأولى، إذ كنا ننوي فيه ذلك وليست فيه ألف ولام، فلما دخلت الألف واللام التي للتعريف صار الحدُّ فيه أن يكون معرفة لدخول علم التعريف، وقبل دخوله [كان محتملا للأمرين جميعا بلفظه، فلما دخل علم التعريف، وقبل دخوله] كان المعرفة أولى به، واحتمل الوجه الآخر على حسب ما يعرض في الكلام من المعاني والمجازات والأحوال التي يتخاطب الناس بها، وليس قول سيبويه هذا بقاطع على أنه لا يمكن دخول هذا المعنى فيه على وجه من الوجوه، ألا ترى إلى قول سيبويه في باب "كان": ولو قلت: ما كان مثلُك أحدا كنت ناقضا، لأنه لا يكون مثله إلا من الناس، فأتى بالكلام على وجهه وحدِّه وأصله، وذكر أن القائل هذا ناقض، ثم أجازه بعد ذلك على التحقير لشأنه والتصغير لأمره. وأما البيت الذي أنشده لجرير بأن ما يجوز وأمثاله على معنى الذي قد رأيتهم يظعنون

مسألة [16]

غدا والذي ظن أنهم يظعنون غدا، فإنما هو على تقدير فعل محذوف قد وجب، لأن الظن بظعنهم قد سلف قبله لتهيئتهم له وتأهبهم له، فصار مقدرا أو مظنونا، وصار ذلك واقعا، أعني التقدير والظن. ومن الدلالة على أن ما قاله سيبويه في الضارب أنه الأصل- أعني أن يكون الذي فعل- قولك: هذا الذي يزورنا ويكرمنا، فيأتي في صلة الذي بالفعل المستقبل وأنت تريد المضيء، كأنك تريد هذا الذي زارنا /26/ وأكرمنا، ولا يجوز أن تتأول بالماضي المستقبل فنقول: هذا الذي زارنا، على معنى الذي يزورنا، فلما كان المستقبل ها هنا ينوى به الماضي والماضي لا ينوى به المستقبل، وكان أكثر الكلام على ذلك، علم أنه الأصل وأن غيره داخل عليه لما يعرض فيه. ومثل ذلك المجازاة، الأصل فيها أن تكون الأفعال مستقبلة، فإن جئت معها بفعل ماض فقلت: إن فعلت فعلت، كان معناه الاستقبال، فالماضي فيها يرجع معناه إلى الاستقبال، والمستقبل لا يرجع معناه إلى الماضي، لأنه الأصل وقد جاء على لفظه. مسألة [16] ومن ذلك قوله في باب الأمر والنهي: زيدا فاضربه، قال: كأنه قال: اضرب زيدا، ثم جعل هذا تفسيره، أو يكون أراد عليك زيدا فاضربه. قال محمد: أما التفسير الآخر فلا يرفع، وأما الأول فلا أرى فيه لإدخال الفاء معنى، لأن المفسر لما حذفت لا يكون معطوفا، ألا ترى أنك لو قلت: أزيدا فضربته لم يجز، وإذا قلت: عليك زيدا فاضربه، فالمعنى لـ (عليك) وليست المضمرة، لأنها ليست مما يضمر، ولكنك

أضمرت (انظر زيدا) وأشباهه في معنى الإغراء، وأبو عثمان والأخفش يزعمان أن الفاء في هذا الموضع تستعمل زائدة. وقال أبو الحسن في الكتاب في هذا الباب: إذا قلت: زيدا فاضرب، فالعامل هذا الفعل الذي أضمرت بعينه، والدليل على ذلك قولك: بزيد فامرر، فالعامل امرر، والفاء معلقة، أي: تعلق الفعل بالاسم الذي قبله. قال محمد: جملة القول في هذا الباب أن الفاء زائدة في الأمر والنهي لمضارعتها الجزاء. قال أحمد: قد رجع محمد في آخر كلامه عما ابتدأ به في أوله، لأنه رأى في أول القول أن إدخالها خطأ، ثم ركن إلى قول الأخفش في أنها زائدة، وكأنه رأى بذلك أنه قد رجع إلى مذهب سيبويه وليس برجوع إليه، والذي رآه من أنها زائدة غلط، وذلك أنها لو كانت زائدة، والفعل فهو لا محالة عامل في الاسم الذي قبله على ما قاله الأخفش، /27/ لجاز أن تقول: فاضرب زيدا في الابتداء، لأن (فاضرب) هي العاملة في زيد كما كنا نقول: زيدا اضرب واضرب زيدا، وبزيد امرر، وامرر بزيد، فلو كانت الفاء زائدة كان دخولها كخروجها، وابتدئ بالفعل معها قبل الاسم. والقول في ذلك عندي -وهو مذهب سيبويه- أن الفاء معلقة بكلام تقدم أو بحال أُبصِرت، كرجل رئي متهيئا للمرور فقيل له: بزيد فامرر، ولو ابتدئ بالفاء على هذا لكان جائزا، لأن معنى الكلام إن كنت لا بد مارا فامرر بزيد، وكذلك إن سمع قائلا يذكر المرور أو الضرب قال له فاضرب زيدا، أي: إن كنت لا بد ضاربا فاضرب زيدا. وأما قول الأخفش: إن الفاء معلقة في قولك: بزيد فامرر بهذا الفعل فصحيح، وإنما أنكرنا قوله: إن الفاء زائدة.

مسألة [17]

وأما قول محمد: إن المفسر لا يكون معطوفا في قولك: زيدا فاضربه، فالمفسر إنما يكون تفسير ما هو مثله، وإذا كنا نقدر أن الفاء جائزة في الابتداء على التأويل الذي ذكرناه والمعني الذي قدمنا أن نجعلها معلقة بحال نشاهدها أو كلمة نسمعها، فهي مقدرة في الفعل المضمر كما كانت في الفعل المظهر، وقد ذكر سيبويه أمثال هذه [المسألة] على النحو الذي تأولناه فيما يضمر. مسألة [17] ومن ذلك قوله في باب البدل: رأيت قومك أكثرهم، وضربت وجوهها أولها، ومثل ذلك قول الله جل ثناؤه: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} وأنشد: وذكرت تقتد برد مائها قال محمد: وليس هذا نظير ضربت قومك أكثرهم، لأن أكثرهم بعضهم، وليس القتال بعض الشهر، ولا برد مائها منها، ولكن القول في ذلك أنه لما قال: {يسألونك عن الشهر الحرام} اشتمل المعنى على ما في الشهر، فالمسألة في المعنى عن القتال، والذكر لبرد ماء هذا البلد، ونظيره سلب زيد ثوبه، لأن السلب في المعنى للثوب، ولا يجوز على هذا، ضرب زيد أبوه قائم، لأنه إذا قال: ضرب زيد، لم يشتمل المعنى على أن أباه ناله من ذلك

شيء، ونظير ما ذكرت [لك] /28/ قول الأعشى: لقد كان في حول ثواء ثويته لأن المعنى مشتمل على الثواء فلذلك أبدله. قال أحمد: ليس هذا الذي ذكره محمد غلطا ولا موضع ردن لأنه يزعم أن المسألة جائزة على البدل كما قال سيبويه، وإنما قال: ليس هذا نظير قومك أكثرهم، فإن كان أراد أنه ليس نظيره في البدل في البدل كذلك، وقد فسرها على أنها بدل مع أي باب كان سيبويه يجعلها، وقد اتفقا جميعا "على" أنها من باب البدل وإن وقع في اللفظ خلاف، وإنما بنى هذا الباب سيبويه على أن يبدل الشيء من الشيء وهو هو أو منه، ولا يكون البدل على غير ذلك إلا أن يكون على الغلط، فهل لهذه المسألة باب أو وجه غير ما ذكره سيبويه؟ ولا يخالفه محمد ولا غيره في أن هذا بابها وان تأويلها هو تأويل إعرابها، وإن اختلفت المسائل بمعان أخر فيها فإنه لا يخرج من الوجهين اللذين ذكر سيبويه، وهو أن يكون البدل هو الأول أو منه، والاشتمال الذي فسره محمد تفسير لقول سيبويه من حيث ظن أنه أوهنه به، لأنه إذا قال: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه}، فالشهر قد اشتمل على جميع ما فيه، ودل عليه كما دل قولك: ضربت قومك على القليل والكثير منهم، فهو يوافقه في هذا المعنى، وبهذه الموافقة جاز إبدال القتال من الشهر، لأن الشهر قد تضمن معنى ما فيه كما تضمن الكل معنى البعض. وأما قوله: فليس برد مائها منها، فهذا نقض لقوله: إن المعنى مشتمل على الماء إذا ذكر البلد والشهر إذا ذكر القتال، ولو لم يكن منه لما جاز البدل، ولسنا نقول: إن القتال من الشهر، على أنه يوم من أيامه، ولا هذا مما يظنه أحد، ولكنه من الأشياء الكائنة فيه، التي قد صارت كحال من أحواله، وكذلك ماء البلد من البلد، وبرد مائه منه، وقد يبدل الشيء من

مسألة [18]

الشيء "لا" على المعنى الذي ذهب إليه محمد، ولكن أنحاءه تختلف، ولو وجب أن يكون على هذا القول بالسبب الذي ذكره لكان بالظن /29/ على البيت الذي أتى به سيبويه أولى، وهو قول الشاعر: إن علي الله أن تبايعها تؤخذ كرها أو تجيء طائعا لأن هذا إبدال فعل من فعل، وأولى بأن يقول: ليس نظير الأول، وإنما كان يكون طاعنا لو قال: إن هذا ليس بنظير للأول، وهو من غير باب البدل، فأما وباب البدل جامع له فكل مسألة تخالف الأخرى بلفظ أو معنى، والبدل يجمعها كلها، فليس هذا بخلاف في الباب، وكذلك جميع أبواب النحو. مسألة [18] ومن ذلك قوله في دخلت البيت: إنه حذف منه حرف الجر، وإنما البيت ها هنا مفعول صحيح كما قال الله جل ثناؤه: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} وقد مضى تفسير هذا فيما مضى من قبل، فلذلك أمسكنا عنه ها هنا. قال أحمد: قد ذكرنا في هذه المسألة ما فيه كفاية فيما تقدم، ولم يأت بزيادة فيها غير ما ذكره متقدما فترد أو تقبل إن كانت حقا. مسألة [19] ومن ذلك قوله في آخر هذا الباب في مسألة يقول فيها: جعلت متاعك بعضه أحسن

مسألة [20]

من بعض في معنى ظننت، وذلك غير معروف في شيء من الكلام. قال أحمد: إن كان محمد أراد بقوله: وذلك غير معروف، في أن (جعلت) تجري مجرى ظننت في الشك، فلعمري إن هذا غير معروف، وإن كان أراد أنها لا تتعدى إلى مفعولين كما تتعدى ظننت، فهذا غلط منه. وجعلت على ضربين في الكلام، تكون على معنى صيرت، وتكون بمعنى الاختراع، وذلك قولك: جعلت زيدا عالما وجعلته أميرا، فلم ترد أنك عملت زيدا في نفسه، ولا اخترعته، ذلك لله عز وجل وحده، وإنما أردت أنك صيرته إلى هذه الحال فلا بد من مفعولين معها كما أنه لا بد من مفعولين مع ظننت، وهذا سبيل علمت في بعض الكلام، تتعدى إلى مفعولين فتكون كظننت في تعديها لا في معناها، لأن ظننت شك وعلمت يقين، فليس معناها كمعناها وإنما أشبهتها في التعدي، وكذلك جعلت، تقول: جعل الله /30/ عز وجل الخلق، أي: خلقهم فلا تجاوز مفعولا واحدا، وإن أردت الوجه الآخر تعدت إلى مفعولين كظننت، وهذا [مما] لا يخالف فيه أحد من النحويين. مسألة [20] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما جرى مجرى الفاعل الذي يتعدى فعله إلى مفعولين، في اللفظ لا في المعنى، وضع فيما فصل فيه بين الجار والمجرور بالظرف في الشعر نحو قوله: كما خُطّ الكتابُ بكفّ يوما ... يهوديٍّ يقاربُ أو يُزيلُ ونحو:

.......... ... لله درُّ اليومَ مَن لامها وقول الأعشى: إلا عُلالةَ أو بُدا ... هةَ قارحٍ نَهْدِ الجُزارهْ وقول الفرزدق: يا من رأى عارضًا أُسَرُّ به ... بين ذراعَيْ وجبهةِ الأسدِ أي: بين ذراعي الأسد وجبهته، وكذلك بيت الأعشى، وكذلك ما ذكر أنه يجوز في الشعر، وهو مررت بخيرِ وأفضلِ مَن ثَمَّ، ولم يقل: بخير وأفضلهم من ثم وهذا معطوف والأول ظرف، ولكنه مر في القياس من باب العطف، بمنزلة: يا تيمَ تيمَ عدي أضاف الثاني وحذف المضاف إليه الأول، وكذلك: يا بؤسَ للحربِ وما أشبهه. قال أحمد: أما قوله: إن المعطوف الذي فصل [به] بين الجار والمجرور مثل: يا تيم تيم عدي ....... .... .............................

و: ....................... ... يا بؤس للحرب .............. فـ (يا تيم عدي) جائز في الكلام، وليست التفرقة بالمعطوف جائزة إلا في الشعر، لأن الاسم الثاني في (يا تيم تيم عدي) هو الأول بعينه، وكأنه قال: (يا تيم تيم عدي)، ولم يزد بذكر الثاني معنى في الكلام، فكأنه لم يذكره، وصار هذا مُشبِها لـ (ما) إذا دخلت زائدة ولم توجب في الكلام معنى، فهو في (ما) أحسن، لأنه حرف، ويتلوه (يا تيم تيم عدي)، وكذلك لا أبالك إذا جئت باللام، فهو كمعنى قولك: لا أباك <لو قيل>. فأما المعطوف في نحو قول الشاعر: ..................... .... بين ذراعي وجبهة الأسد فقد أوجب في الكلام "معنى" وزيادة لم تكن فيه قبل دخولها، فصار أقبح من (يا تيم تيم عدي) ولم يجز إلا في الشعر، لأنها فصل في اللفظ والمعنى، وذلك فصل في اللفظ دون المعنى، وكان حق الكلام، بين ذراعي /31/ الأسد وجبهته، فيكون الأول مضافا إلى الاسم الظاهر، والثاني إلى مضمره، ويكون مع كل واحد منهما اسم مضاف إليه في اللفظ، فلما كانا في المعنى مضافين إلى شيء واحد، ولم تكن إضافتهما جميعا إليه في اللفظ بمحيل للمعنى، أجازوه في الشعر، وإنما قبح من جهة لفظه لا من استحالة معناه، ولو كانا مضافين إلى شيئين في المعنى لم يجز الحذف للالتباس. وأما قوله: ولو أراد التفرقة لقال: بين ذراعي وجبهته الأسد، فهو مفرِّق قال ذلك أو لم يقله، لأن المعنى قد علم أنه يريد إضافتهما إلى الأسد، والأول هو أولى بالإضافة إلى الاسم الظاهر من الآخر، ألا ترى أنه إذا قدر قيل: ذراعي الأسد وجبهته، فإن قال: إنه حذف الأسد من الاسم الأول، وكان التقدير بين ذراعي الأسد وجبهة الأسد، قيل له:

مسألة [21]

إنما يتأول للوجه حتى يخرج من القبح إلى الحسن، فإذا كان التأويل يخرجه إلى الأقبح سقط ولم يكن له وجه، ولو جاز ما قلت لجاز أن تأتي بمضاف وتسقط المضاف إليه فتقول: عجبت من يَدَيْ، تريد زيد: إذا علم ذلك بضرب من الاستدلال على زيد، وهذا أقبح من التفرقة بين المضاف والمضاف إليه، لأن ذلك كثير في أشعار العرب، وهذا لا يكاد يُعرف، أعني عجبت مِن يَدَيْ، ورأيت غلامَيْ. مسألة [21] ومن ذلك قول الأخفش في باب ترجمته: هذا باب صار فيه الفاعل بمنزلة الذي فعل في المعنى، زعم أن الكاف في الضارباك لا يكون إلا في موضع نصب، لأن المضمر لا يجوز أن تدخل النون بينه وبين ما قبله لأنه لا ينفصل، وهذا غلط، لأن المضر إنما يعتبر بالظاهر، وأنت متى كففت النون والتنوين في الظاهر لم يكن إلا جرا، ولكن القول كما قال سيبويه في أن الوجه فيه أن يكون جرا، ويجوز أن يكون نصبا في قول من قال: الحافظو عورة العشيرة ... ................................. والقول ما قال محمد بن يزيد، وهو مذهب سيبويه مسألة [22] ومن ذلك قول سيبويه في باب /32/ ترجمته: [هذا] باب الصفة المشبهة "بالفاعل"

زعم أنه لا يقول هنا: شحما تفقأت، ولا عرقا تصببت على حد قوله: تصببت عرقا، وتفقأت شحما، وأنه لا يجيز التقديم في شيء من التمييز البتة، وقد أجاز في الحال التقديم إذا كان العامل فعلا، وإنما الحال عنده وعند غيره بمنزلة التمييز، فيلزمه على هذا أن يجيز تقديم التمييز إذا كان العامل فعلا، وإلا ترك قوله في الحال، وأبو عثمان يجيز التقديم إذا كان العامل فعلا، وجاء في الشعر تصديق هذا القياس، وهو قوله: أتهجر ليلى للفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق تطيب قال أحمد: وإنما منع سيبويه تقديم التمييز في هذه المسألة وأشباهها، لأن لفظها جاء على غير معناها، وذلك أن اللفظ لفظ المفعول، وهو في المعنى فاعل، لأنك إذا قلت: زيد حسن وجها، فالحسن في المعنى للوجه، وكذلك تصببت عرقا، إنما التصبب في المعنى للعرق، فلما كان معناه على غير لفظه لم يجز تصرفه وكان أصعب مما لفظه على معناه، ولم يمنع سيبويه من إجازة ذلك في الشعر فيكون هذا البيت حجة عليه، بل ليس يوجد كثيرا في الشعر. وأما قوله "إنه" ترك قياسه في الحال، لأنه شبه الحال بالتمييز، فليست الحال مشبهة للتمييز في كل حال، وإنما شبهها به في أن الحال لا تكون إلا نكرة كما أن التمييز لا يكون إلا نكرة، وإلا فالحال مخالف للتمييز في معان كثيرة: أحدها ما ذكرناه من أن معناها على الفظها، والفعل العامل فيها لفاعله لا لها، وليس هو في التمييز كذلك، فعمل الفعل فيها أقوى

مسألة [23]

من ذلك، فجاز تقدمها، ولو كان الفعل المتعدي إلى التمييز يجري مجرى الأفعال التي تعمل في الحال والمفعولين في القوى والتصرف لجاز أن تقدمه مع أسماء الفاعلين منها وهي الصفات كما قدمنا المفعول مع أسماء الفاعلين في الباب الآخر، فنقول: هو وجها حسن، وهو عرقا تصبب، إذ كنا نقول: هو زيدا ضارب، وهو مسرعا راكب. مسألة [23] ومن ذلك /33 قوله في باب ترجمته: هذا باب وقوع الأسماء ظروفا وتصحيح اللفظ بها على المعنى، قال: إذا قلت: سير عليه شهر كذا وكذا نصب أو رفع، قال: يكون على متى وعلى كم، وزعم أن جميع ما يكون جوابا فقد يكون جوابا لـ (كم)، وقد يكون في كم ما لا يكون في متى، لأن كم هو الأول. قال محمد: أما إصابة اللفظ فكما قال في المسألة، ولكن العلة ليست من ها هنا، إنما دخلت كم على الظروف من الزمان التي يستفهم عنها بـ (متى) من قبل أن الظروف إنما هي أسماء أيام وليال، و (كم) إنما هي للعدد، فدخلت على عدة الأيام والليالي كما تدخل على غير ذلك مما يُعد، تقول: كم يوما سير عليه، كما تقول: كم فرسخا سير عليه؟ وكم مكانا قمت فيه؟ فهذه ظروف من المكان، وهي لـ (أين) كظروف الزمان لـ (متى)، وكم درهما لك وكم غلاما لك في التمييز بهذه المنزلة، إنما هو أجمع من طريق العدد. قال أحمد: يقال له: ذكرت أن كم تدخل على الأيام والليالي كلها لأنها عدد، وهذا ما لا يجهل، فهلا ذكرت لم امتنعت متى من الدخول على جميعها، لأن جميعها أوقات ومتى للوقت كما كان جميعها عددا وكم للعدد. فإن قال <لأن> متى إنما هي للوقت الخاص، يستفهم بها على المعرفة أو ما قارب المعرفة، وكم يستفهم بها عن المعرفة والنكرة، قيل له: فقد صارت كم بذلك أعم من متى،

مسألة [24]

والعام قبل الخاص، هذا كقول سيبويه في موضع آخر: إن المعرفة بعد النكرة، وهو معنى قوله في كم. فلو فسرنا لنا محمد معنى قول سيبويه: إن كم هو الأول لاستغنى عن ذكر العلة التي أتى بها، وكم إنما هي للعدد والمقادير، والعدد معنى في نفس الشيء المعدود، وزمانه غيره، فهي في الرتبة الأولى. وأما قوله: إن الأزمنة أسماء أيام وليال فلذلك دخلت عليها كم، فنحن نوجده من الأزمنة ما لا ينقسم في تسمية العرب إلى أوقات وكم داخلة عليه، وذلك قولك: كم سرت؟ فتقول: الساعة، والساعة عند العرب /34 أقل الأوقات في التسمية، وليست تجزئها إلى أقل منها بأسماء كما تجزئ اليوم بالساعات والشهر وبالأيام والسنة بالشهور، ولذلك لا يجوز أن يقول القائل: لقيته من الساعة كما يقول: لقيته من اليوم، لأنه إذا قال: لقيته من اليوم، فإنما يريد من أول ساعة في اليوم إلى الوقت الذي فيه هذا القول، لأن اليوم يجزأ إلى الساعات، ولما لم تكن الساعة تجري عندهم هذا المجرى لم يجيزوا فيها هذا القول، فأما ما يذهب إليه أهل التنجيم من تقسيم الساعة إلى دقائق معلومة فإن العرب لا تذهب فيها إلى ذلك المذهب، وإنما تضعها على أقل الأوقات منها، ولو ذهبت في الساعة إلى مذهبهم لجعلت للجزء منها اسما كما جعلت للجزء من اليوم اسما. مسألة [24] ومن ذلك: زعم سيبويه في هذا الباب أنه يقال: مما سمع من العرب الفصحاء متى سير عليه؟ فيقال: الصيف، كما قال:

فقصرن الشتاء بعد عليه ... وهو للذود أن يقسمن جار قال: أجروه على جواب متى، لأنه لم يرد العدد وجواب كم، ولو أراد جواب كم لم يكن "له" مانع من أن يقال: كم سرت؟ فتقول: الصيف، إذ كان ذلك يجمع أياما كما كان الشهر، وقد أجازه سيبويه في البيت الذي ذكرناه، قال: فقصرن الشتاء بعد عليه ... ............................. يجوز أن يكون جوابا لمتى ولكم. قال أبو العباس أحمد: هذا الفصل الذي حكاه محمد عن سيبويه قد غير منه شيئين: اللفظ والترتيب، ولفظ سيبويه على غير ما قال: وذلك أنه قال في هذه المسألة: (وسمعنا العرب الفصحاء يقولون: انطلقت الصيف، أجروه على جواب متى، لأنه أراد أن يقول: في ذلك الوقت، ولم يرد العدد وجواب كم) وأنشد: فقصرن الشتاء بعد عليه ... .................. بعد هذا، وذكر أنه يجوز على كم وعلى متى ظرفين، فذكر المسألة الأولى بلفظ انطلقت وغيرها محمد إلى سير، وبين اللفظين فرق في المعنى، ومع ذلك فلم يمنع سيبويه من إجازتها على كم، وإنما ذكر أن المتكلم من العرب أراد جواب متى، وهو بمعنى الكلمة أشبه، /35/ لأن كم جوابها يستوعب الوقت كله بالانطلاق، ولذلك عدل محمد عنها إلى سير، لأن السير يحسن معه استيعاب هذا الزمان ولا يحسن مع الانطلاق إلا على استكراه وخروج عن العرب في القول. ألا ترى أنك لو قلت: سقط زيد عن دابته الصيف، لم يكن إلا على جواب متى، هذا المتعارف فيه، فإن استكرهت الكلام وأردت أنه لم يزل يسقط في جميع أوقات الصيف كلها كان على هذا. وأما البيت فهو على كم وعلى متى منساغ حسن، لأنك لو قلت: أقمت الصيف كقولك: قصرن الصيف، لحسن أن يكون أقمت الصيف كله فيكون ذلك على جواب

مسألة [25]

كم، ويصلح أن يكون أقمت بعضه فيكون على جواب متى. مسألة [25] قال: ومما أصبناه في الجزء الرابع في باب ترجمته: هذا باب [من] الفعل سمي الفعل فيه بأسماء مضافة ليست من أمثلة الفعل الحادث، قال: أما ما تعدى المأمور إلى مأمور به فقولك: عليك زيدا ودونك زيدا، وأما ما تعدى المنهي إلى منهي عنه فقولك: حذرك زيدا، وحذارك زيدا. قال محمد: فقد ترك في هذا القياس من وجهين: أما أحدهما فإن قوله: حذرك إنما معناه احذر، وهذا أمر، فإن قال قائل: معنى احذر لا تدن منه، فكذلك عليه معناه لا يفوتنك، وكل أمر أمرت به فأنت في المعنى ناه عن خلافه، لأن قول: اضرب زيدا، نهي عن ترك ضربه، فإذا نهيت عن الشيء فقد أمرت بخلافه، وذلك أن قولك: لا تشتم زيدا، إنما أمرته بترك شتمه، فالمعنى ما رصفت لك، وبينهما في اللفظ ما تفهمه، فإن حمله على المعنى فهو والأول والباب كله سواء. والوجه الآخر، أنه إنما وضع في هذا الباب ما لم يؤخذ من أمثلة الفعل، وحذرك من أمثلة الفعل، وحذرك مأخوذ من احذر، فهو خارج عن هذا الباب، لأن هذا باب عليك ودونك وإليك وأمامك وصه ومه وما أشبه ذلك. قال أحمد: الذي يبين فساد ما أتى به محمد أن نبين أولا ما معنى الأمر؟ وما معنى النهي؟ محاولتك أن يترك فعلا، والدليل على ذلك انك إذا قلت آمرا: اضرب أو قم، كان

الجواب من المأمور إذا انطاع لأمرك أن يقول: أنا أفعل، وإذا نهيت عن شيء كقولك: لا تفعل، فالجواب عن ذلك، أن يقول: لست أفعل، فجواب الأمر بالإيجاب، وجواب النهي بالنفي. وإذا كان الأمر على ذلك نظرنا فيما أتى به سيبويه مما أنكره محمد، فقلنا: لا يخلو قوله: حذرك من أن يكون حمله على أمر يفعله أو على نهي يتركه، فإن كان حمله على الترك فهو نهي لا محالة، وهذا معنى التحذير فأما ما تأتي به العرب على لفظ الأمر وهو في معنى النهي، وعلى لفظ النهي وهو في معنى الأمر فكثير، وإنما قرب الشيء إلى حقيقة معناه، وذلك نحو قولهم: انته عن كذا، قال الله عز وجل: {انتهوا خيرا لكم}، فهذا على الحقيقة نهي وإن كان على بناء الأمر، فلا وجه لقولك: إن حذرك في معنى احذر، فهو لو قال: احذر، لكان ناهيا في المعنى. فأما قوله: وكل أمر أمرت به فأنت في المعنى ناه عن خلافه، فليس كما قال، قد يخرج الأمر مخرج التخيير كقوله جل وعز: {وإذا حللتم فاصطادوا} ولم ينهوا عن ترك الصيد إذا أمروا بالصيد، وليس الأمر نهيا من حيث كان أمرا، ولا النهي أمرا من حيث كان نهيا، وإذا أمرنا بالشيء فإنما نعلم أنا نهينا عن خلافه باستدلال لا بنفس لفظ الأمر، ولو جاز أن يكون الأمر نهيا والنهي أمرا لكان المأمور به هو المنهي عنه والمأمور هو المنهي، هذا خطأ. وأما قوله: والوجه الآخر، أن هذا الباب إنما وضع لما لم يؤخذ من أمثلة الفعل، وحذرك مأخوذ من احذرن فهو خارج عن أمثلة الفعل، فلس كما ظن، لأن سيبويه قال في ترجمة هذا الباب: هذا باب سمي الفعل فيه بأسماء مضافة ليست من أمثلة الفعل، وحذرك ليست من أمثلة الفعل، لأن أمثلة الفعل في الأمر والنهي افعل ولا تفعل وما كان في معناها من سائر أبنية الفعل، والباب الذي قبله ترجمته كما ذكر محمد، وليس من هذا الذي /37/ رده، لأنه قال في الباب الأول: هذا باب من الفعل سمي الفعل فيه بأسماء لم تؤخذ من

مسألة [26]

أمثلة الفعل، يعني هلم وحيهل وما أشبه ذلك، فجعل محمد ترجمة هذا الباب للباب الذي بعده، وجازف في اللفظ نفسه، لأن الباب الأول لم يؤخذ من أمثلة الفعل، والثاني ليس من أمثلة الفعل، وبينهما فرق. مسألة [26] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما جرى من الأمر والنهي على إضمار الفعل المستعمل إظهاره، قال: (واعلم أنه لا يجوز أن تقول: زيد، وأنت تريد ليضرب زيد، أو ليضرب زيد إذا كان فاعلا، ولا يجوز زيد عمرا، إذا كانت لا تخاطب زيدا، إذا أردت ليضرب زيد عمرا، وأنت تخاطبني، فإنما تريد أن أبلغه أنا عنك) قال محمد: فاعتل في منع هذا بعلتين: إحداهما مخافة الالتباس، قال: يرى المخاطب أنك تعنيه بالأمر، وإنما الأمر للغائب، وهذا لا يتوهمه المخاطب، من قبل أن المخاطب، إذا أمر فإنما يقال له: زيدا وما أشبهه، فإذا قيل له: زيد عمرا، علم أن هذا المرتفع ليس "مما" يؤمر هو فيه ولا له إليه سبيل، فإما يكون اللبس إذا استوى فيهما اللفظان، ولكن الحجة في منع هذا ما قال في الباب الذي بعد هذا الباب، وهو قوله: إنك متى قلت: زيد عمرا، فإنما أردت مره وقل له: ليضرب زيد عمرا، فلم يحتمل الضمير أن يضمر فيه فعل للمخاطب وفعل للغائب فيضمر فعلين، وإنما جاز إضمار أحدهما حيث كان في الكلام ما دل عليه فكان بمنزلة المضمر. قال أحمد: أما قوله: اعتل في منع هذا بعلتين: إحداهما الالتباس، فليس الأمر كما

مسألة [27]

ذهب إليه ولا القول ما حكاه، وإنما اعتل بالالتباس لمسألة ذكرها بعقب هذه المسألة، وحذفها محمد وجعل العلتين للمسألة الأولى، فمن ها هنا غلط، وذلك أن سيبويه قال في إثر هذه المسألة: (وكذلك لا يجوز زيدا، وأنت تريد أن أبلغه أنا عنك أن يضرب زيدا، لأنك إذا أضمرت الغائب ظن السامع الشاهد أنك تأمره هو بزيد، فكرهوا الالتباس ها هنا، فهذا نص قول سيبويه، وإنما أراد بالالتباس في هذه المسألة التي تنصب فيها زيدا، لأنك إذا قلت: زيدا، ظن /38 المخاطب أنك تأمره، واستوى لفظه ولفظ الغائب إذا أمرت المخاطب أن يبلغه عنك الأمر بضرب زيد، لأنك إذا أضمرت فعل المخاطب فالاسم لا محالة منصوب، وإذا أضمرت فعل الغائب فالاسم بعده يكون مرفوعا ومنصوبا، والعلة "في ذلك" أنك إذا أضمرت فعل المخاطب فالفاعل مضمر معه على كل حال، ولم يكن الاسم المذكور إلا مفعولا، وفعل الغائب فقد تضمره دون الفاعل وتذكر الفاعل مرفوعا. مسألة [27] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف، زعم أن قوله: سقته الرواعد من صيف ... وإن من خريف فلن يعدما قال: يرد "به" وإما من خريف فلن يعدم السقي، فيقال له: (ما) لا يجوز إلغاؤها من (إن) إلا في غاية الضرورة، و (إما) يلزمها أن تكون مكررة، وإنما جاءت ها هنا مرة واحدة،

ولا ينبغي أن يحمل الكلام على الضرورة وأنت تجد إلى غيرها سبيلا، ولكن الوجه في "ذلك" ما قال الأصمعي، هي (إن) الجزاء، وإنما أراد إن سقته من خريف فلن يعدم الري، ولم يحتج إلى ذكر (سقته) لقوله أولا: سقته الرواعد من صيف، وقد أضمر ما لم يذكر أولا في قوله: العباد مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فأضمر (كان) وليست في الكلام. قال أحمد: هذا الوجه الذي حكاه محمد عن الأصمعي، وهو أن تجعل (إن) في البيت بمعنى الجزاء قد أجازه سيبويه بعقب البيت، وذل قوله في إثره: وإن أراد إن الجزاء فهو جائز، لأنه يضمر فيها الفعل، إلا أنه أخره لأنه لم يكن الوجه عنده ولا مراد الشاعر عليه، إلا تراه قال في تفسير البيت: (وإنما يريد وإما من خريف) فحمل معنى البيت على إرادة الشاعر، وذلك أن الشاعر ذكر وعلا يرد هذا الماء متى شاء، وأنه غزير موجود فقال: إذا شاء طالع مسجورة ... ترى حولها النبع والساسحا فقال: مسجورة، أي: مملوءة من صيف أو خريف فلن يعدم الوعل ريا على كل حال فأعلم أن ذلك ثابت له، وليس للجزاء في هذا البيت معنى يحسن في الشعر ويليق بمراد الشاعر، لأنه إذا حملها على الجزاء فإنما يريد إن سقته لم يعدم الري، وإن لم تسقه /39/ عدم الري، ولا فائدة في هذا يحسن معها الشعر ولا يشبه قوله: إذا شاء طالع

مسجورة، فقد جعل ذلك له متى شاء وجعلها مملوءة، فلذلك أخر سيبويه معنى الجزاء ولم يرد أن الجزاء مراد الشاعر، وإنما أراد أن مثل هذا لو وقع في كلام غير هذا البيت لجاز فيه هذا التأويل، لا أنه مراد الشاعر، لأنه قد قال: وإنما يريد وإما، يعني الشاعر. وأما قوله: لا يجوز إلقاء (ما) من (إما) إلا في غاية الضرورة، فكذا قال سيبويه: إنه لا يجوز إلا في الشعر للضرورة، وقد وافقه على ذلك، وليس بين القولين فرق غير زيادة (غاية)، ومع ذلك فالعرب تحذف من نفس الكلمة للضرورة مع زوال اللبس، فما بالها لا تحذف الزائد للضرورة مع زواله؟ و (ما)، وقد دل على صحة ذلك وجوازه في الشعر بالبيت الذي قبله، "وهو قول الشعر: " لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... فإن جزعا وإن إجمال صبر فهذه إما، كأنه قال: فإما جزعا وإما صبرا جميلا. وأما قوله: إن التكرير يلزمها، فليس الأمر على ذلك، لأن الأولى إنما هي زائدة ليبادر إلى المخاطب بأن الكلام مبني على الشك أو التخيير. والعمل على الثانية، والأولى زائدة وليست توجب في الكلام معنى غير معنى الثانية، وسبيلها في ذلك سبيل (لا) إذا قلت: ما قدم لا زيد ولا عمرو، وإن شئت قلت: ما قام زيد ولا عمرو، فإن شئت أكدت النفي، وزدت (لا) أولا، وإن شئت حذفتها، إلا أن الحذف في (لا) الأولى أكثر في كلامهم منه في (إما)، ولا أعلم أحدا من النحويين المتقدمين يمتنع من إجازة حذفها في قولك: خذ الدرهم وإما الدينار، وجالس زيدا وإما عمرا، فقياسها

مسألة [28]

ما ذكرت لك في (لا)، والكلام لا يلتبس بطرحها، ومعناه بنقصانها كمعناه بزيادتها، فما الذي منع مع هذا كله من تجويز طرحها؟ وقد يطرح من الكلام ما هو الأولى بالإثبات منها، ومعناه يؤول إلى معنى (أو)، و (أو) لا تأتي مكررة، فإذا قلت: جالس إما زيدا وإما عمرا، فمعناه كمعنى جالس زيدا، أو عمرا، وكذلك إذا كانت شكا. وأما قوله: وقد أضمر ما لم يذكر أولا/40/ في قوله: العباد مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فقد ذكرنا أنه لا يمتنع من إجازتها على الجزاء فيما حكيناه من نص قوله، وفي ذكر ذلك ما أغنى عن رد هذا القول، وفي إجازته في أول الباب أن يضمر الفعل بعد حروف الجزاء ما أغناه أيضا عن ذكر هذه المسألة، لأن هذا إنما هو جواب لمن امتنع من إضمار الفعل بعد حرف الجزاء، وسيبويه فإنما بني الباب عليه، فهو غير محتاج إلى ما قاله. مسألة [28] ومن ذلك إجازته في هذا الباب في (إن) الجزاء أن تقول: مررت برجل إن صالح وإن طالع، على قولك: إن مررت برجل صالح وإن مررت "برجل" طالح. قال محمد: وقد قبحه في الباب الذي قبله، وأجازه من قول يونس، وزعم أنه يجوز كما جاز (وبلد)، فأضمر حرف الجر، وليس كما قال، لأن رب قد عوضت الواو

منها في هذا الموضع، ونقض قوله: إن حرف الجر لا يضمر، وليس أحد من أهل العلم إلا وهو راد عليه، إن صالح وإن طالح وكذل ما أجازه وزعم أنه مثل هذا في القبح وهو قوله: ائتني بدابة ولو حمار، لا يجوز عند أحد يوثق بعلمه. قال أحمد: ولو قبحه في الباب الذي قبله وأجازه من قول يونس غير منكر ولا نقض، لأن الرجل قد تكون المسألة على مذهبه قبيحة وجائزة على مذهب غيره، وليس إجازة غيره إياها بمزيل لقبحها عند من استقبحها، ولذا ذكر مذهبه في هذه المسألة، ثم ذكر مذهب يونس، وقد قرن استقباحه لها عند حكايته لقول يونس فيها وأعاد ذلك معها، ونص قوله: (وزعم يونس أن من العرب من يقول: مررت برجل إلا صلح فطالح، على إن لا أكن مررت بصالح فبطالح، وهذا قبيح ضعيف)، واعتل لضعفه بعلة قد ذكرها ليس هذا موضع إعادتها وقال: (شبهوه بغيره) يعني قوله وبلد [ولو كان عده مثله لما قبحه ولما قال شبهوه، واستجازته لقولهم: وبلد] وترك تقبيحه يدل على أنه أقوى عنده، وكل ما أتى به من هذه المسائل من نحو هذه المسألة فهو على قياس قول يونس، وهو في القبح عنده والضعف على ما ذكر، وهذا غير تناقض. وأما قوله: إن حروف الجر لا تضمر فإنما كلامه على الوجه الأجود والأكثر، وكلهم قد أجاز إضماره في مواضع /41/ يسيرة من الكلام، منها ما قد وقع فيه التعويض كقولهم: وبلد ومنها ما ليس فيه "تعويض" كقولك: زرتك أن تكرمني، على أنه قد ذكر نحوا من

مسألة [29]

العوض في قول يونس، وهو ذكر (مررت) في أول الكلام إذا قلت: مررت برجل إلا صالح فطالح، لأن ذكره (مررت) قد قام مقام الفعل المضمر ودل عليه، وليست الواو في قوله: وبلد بأدل على (رب) من (مررت) في هذا الكلام على إضمار مثلها. مسألة [29] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل "المتروك" إظهاره في غير الأمر والنهي، زعم أن قوله أما أنت منطلقا انطلقت معك، غنما هي (أن) ضمت إليها (ما) وهي (ما) الزائدة للتوكيد، وكرهوا أن يتركوا (ما) ليجحفوا بـ (أن) إذا حذفوا منها الفعل، وكان الأصل أن كنت منطلقا انطلقت، أي لانطلاقك، فألزموها (ما) إذ حذفوا الفعل ليكون عوضا منه، وهو فيما زعم لهذه العلة من المضمر المتروك إظهاره، حتى صار ساقطا بمنزلة تركهم ذلك في النداء. وقال: إن آثرت أن يظهر الفعل قلت: إما كنت منطلقا انطلقت بكسر همزة (إن)، تريد إن كنت منطلقا انطلقت، فحذف الفعل فيما ذكر لا يجوز في (إن) المكسورة كما لا يجوز إظهاره مع المفتوحة، ولست أرى وقوع الفعل بعد المفتوحة ممتنعا، وتحذف (ما) فتقول: أن كنت منطلقا انطلقت، وإن شئت أدخلت (ما) زائدة، فيجوز معها ما كان يجوز قبلها، ولو امتنع شيء لدخول (ما) لكان ما معه حرف الجر لضعف حرف الجر، وذلك قوله عز وجل: {فبما رحمه من الله} وقال: {فبما نقضهم ميثاقهم}، وأنت إذا قلت: أما كنت منطلقا انطلقت، فالمعنى لأن كنت منطلقا، أي:

لانطلاقك، فذا غير ممتنع في القياس. قال أحمد: ذكر محمد في هذه المسألة أشياء منها ما وافق نص سيبويه، ومنها ما خالف نصه، حملها على ظنه وتأويله، فمنها قوله: إن سيبويه إلى أن ما ذكره علة لترك إظهار الفعل، وليس هذا نصه ولا قوله ولا جعل ذلك علة لتركهم الإظهار، غير أنه وجد الفعل متروكا في كلام العرب /42/، وهذه المسألة ونحوها مع أشياء خاصة إذا زادوها يحكى ما سمع من العرب، ولو كان زائدا عليه ولا طاعنا على قوله بحقيقة لا رادا إظهار الفعل مع (أما) في شيء من كلام العرب إما في شعر أو مثل، فأما أن يأتي برأيه وقياسه فهذا لا يعد على أحد أن يأتي بمثله طاعنا "بذلك" على أمثال العرب وشواذ كلامها وما ليس بشاذ أيضا، وإنما ذهب سيبويه إلى أن الفعل لا يظهر مع (ما) إذا زيدت على (أن) المفتوحة، لا تقول العرب: أما كنت منطلقا انطلقت بالفتح، فأما ما جاء به محمد من إظهار الفعل مع إسقاط (ما) فليس هو الذي أراد سيبويه. وإما قوله: إنه لو امتنع شيء لدخول "ما" لكان ذلك فيما فيه حرف الجر، فإذا كانت (ما) عنده لا تمنع من دخول الفعل ها هنا، فهلا أدخلها مع (ما) في نظائر هذه المسألة، فأدخلها مع قولهم: افعل ذلك إما لا، فيقول على افعل ذلك، إما كنت لا تفعل غيره، لأن معناه افعل هذا إن كنت لا تفعل غيره، ولا فرق في المسألتين، لأن الفعل حذف مع (إن) في (إما لا) وجعلت (ما) عوضا، وقد التزم هذا محمد ولم يطعن عليه بشيء، والقياس بوجب إظهار الفعل، فإن كان يحمل الباب على القياس ويترك ما سمع من العرب فليظهر الفعل مع (إما) المكسورة التي للجواب، فتقول: إما تأتني آتك، وإن تأتني آتك، وحذفت الفعل في هذا الكلام، أعني قولهم: إما لا، ولم تظهره وألزمت الكلام العوض فكان هذا أولى بالرد إلى القياس، لان العرب قد حذفت منه (ما) في أكثر كلامها، أعني في باب الجزاء، إلا أن سيبويه لما أظهر الفعل بعدها كسرها وحملها على المجازاة فقال: إما كنت

مسألة [30]

منطلقا انطلقت، وهذه هي التي في قولهم: افعل هذا إما لا، أي: إن كنت لا تفعل غيره، فلم يظهروا الفعل في (إما لا) مع (ما) خاصة، وأظهروه في أكثر الكلام مع (ما). وزعم سيبويه أن (أما) المفتوحة كثرت في كلامهم واستعملت حتى صارت كالمثل المستعمل، وليس كل حرف هكذا، كما أنه ليس كل حرف بمنزلة لم أبل ولم أك، ولكنهم حذفوا هذه لكثرة /43/ الاستعمال، ومثله قولهم: إما لا، حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه حتى استغنوا عنه بهذا، فهذه الأشياء جرت في كلامهم مجرى الأمثال، ولم يحملوها على القياس، وإنما سبيل المراد لها أن يأتي من كلام العرب بما يدل على أنها قد حملتها على القياس في معنى الكلام من شعر أو مثل، وإن كان إنما رد ذلك من جهة أنه منساغ له في القول والقياس، فالباب كله منساغ فيه ذلك نحو النداء، ومرحبا وأهلا وإما لا، وكل ما ترك فيه إظهار الفعل، لأنه غير ممتنع في القياس أن يذكر الأفعال التي ترك ذكرها، فتقول أتيت مرحبا، وأتيت أهلا، أو صادفت وما أشبه ذلك من القول. مسألة [30] ومن ذلك قوله في باب يلي هذا الباب قال: إذا قلت: ما أنت وزيدا؟ فإنما معناه ما كنت، فإذا قلت: كيف أنت وزيدا؟ فإنما معناه كيف تكون، فذكر أن (ما) لا يكون بعدها في النية إلا الفعل الواجب، ولا يكون بعد (كيف) في النية إلا ما لم يقع. قال محمد؟ ولا أرى هذا في القياس إلا سواء، لأن حروف الاستفهام إذا كن للفعل فإنما يضمر فيهن على قدر ما كان ظاهرا، وأنت قد تقول: ما تكون وزيدا وما تصنع وزيدا؟

مسألة [31]

كما أقول: ما صنعت وزيدا وما كنت ويدا؟ وأقول: كيف كنت وزيدا؟ كما أقول كيف تكون وزيدا؟ فالماضي والمستقبل فيهما سواء في القياس. قال أحمد: أما تمثيله الفعل في الماضي والاستقبال مع حروف الاستفهام إذا كانت استفهاما على الباب مجردة، فهو كما قال يقع بعدها الماضي والمستقبل، وإنما وقع عليه الغلط لأن هذه الحروف وإن كانت في الأصل للاستفهام، فقد تدخلها معان غير استفهام نحو ما ذكر سيبويه في هذه المسألة، "أما" إذا قلت: ما أنت وزيدا؟ فهذا كلام قد دخل معناه الإنكار وإن كان على لفظ الاستفهام، وإنما ينكر عليه ما قد فعل، ولذلك قال سيبويه: إن معنى ما أنت وزيدا: ما كنت، فأنكر "عليه" ما قد فعل، ولا يجوز إذا دخله هذا المعنى من الإنكار أن يتأول على الاستقبال، وإذا قلت: كيف أنت وزيدا؟ وأنت مستفهم، فإنما تسأله /44/ عن أمر لم يستقر عندك، فهو مستأنف محمول على يكون، وسبيل الكلام إذا أدخلته معاني ليست من أصله، فهذا معنى قول سيبويه في: ما أنت وزيدا، بمعنى الماضي. مسألة [31] قال محمد بن يزيد: ومما أصبناه في الجزء الخامس من ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدأة مبنيا عليها ما بعدها، زعم أنه لا يجيز السقيُ لك والرعيُ لك، ولا فصل في القياس بين هذا وبين الحمدُ الله والعجبُ لزيد، وأجاز رفعهما أبو عمر الجرمي. قال أحمد: أما قوله: لا فصل بينهما في القياس، فلعمري إن الأمر كذلك، إلا أن العرب لم تتكلم بهذين الحرفين مع الألف واللام، وكان سبيله في البرد عليه أن يأتي بشاهد

مسألة [32]

من كلام العرب يدل على خلاف قوله، لأن سيبويه لم يمنع الألف واللام في هذين الحرفين من طريق القياس، وإنما منعهما كما منع أن يقال: ودع [في الماضي من يدع]، وذلك أسوغ في القياس وأولى إن كانت المراعاة في هذا لما ينساغ في القياس فقط دون ما تتكلم به العرب، ولكنهم يمتنعون من التكلم بالشيء وإن كان القياس يوجبه، ويتكلمون بالشيء وإن كان القياس يمنعه كقولهم: لم أبل، ويتبعون في الحالين لأن القصد اتباعهم وسلوك سبيلهم في كلامهم. وأما قوله: إن أبا عمر الجرمي أجاز ذلك، فإجازة أبي عمر بغير حجة من كلام العرب كإجازة محمد بن يزيد، ولا فرق بين إجازة هذا وهذا إلا أن يأتيا بحجة، فأما باب القياس فما قلناه كاف فيه. مسألة [32] ومن ذلك قوله في هذا الباب: إن قول العرب: أمت في حجر لا فيك، إنهم ابتدأوا بالنكرة على غير معنى المنصوب، وإنما هو شاذ ليس مثل سلام عليك، الذي فيه معنى الدعاء. قال محمد: وهذا خلاف مذهب العرب، لأن المعنى جعل الله العوج في الحجر لا فيك، فهو على القياس وعلى معنى المنصوب المدعو به. قال أحمد: ليس هذا على معنى الدعاء، لأن الدعاء لا وجه له في هذا الكلام، وذلك أنه نفى عنه العيب والسوء وجعله للحجر الذي هو أولى /45/ بالعيب، ولو كان يدعو له بأن لا يجعل الله فيه العوج وأن يجعله للحجر لما كان مادحا له، وذلك أن الرجل إنما يمدح بما ثبت له، والدعاء فإنما هو للمستأنف لا لما ثبت. ومعنى هذا المثل، أعني قولهم: أمت في حجر لا فيك، كمعنى قول القائل: العيب لغيرك لا لك، وهذا كقولهم: العوج للحجر لا

مسألة [33]

لك، فالعوج ثابت للحجر على كل حال ومنتف عن الرجل على وجه المدح لا على معنى الدعاء على الحجر بأن يعوج، وهو كذلك لا محالة، ولو كان على الدعاء لكان كلاما غير بليغ، ولا وجه له على ما ذكرنا، وإنما هو على المدح والتنزيه للرجل من العيب، فنفاه عنه تنزيها له، وجعله للحجر الذي هو موضعه. مسألة [33] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ينتصب فيه المصدر المشبه به على إضمار الفعل المتروك إظهاره زعم أن قوله: ناجٍ طواه الأينُ مما وَجَفا طيَّ الليالي زلفا فزلفا سماوةَ الهلالِ حتى احقوقفا قال محمد: ذهب إلى أن قوله: طواه الأين، معناه أضمره وأنحفه فجعله سماوةَ الهلال، مثل سماوة الهلال، كما أنه حين قال: ما إن يمس الأرضَ إلا منكب ... منه وحرفُ الساق طيَّ المِحمَل عُلم أنه طيان، فقال: طي المحمل، لأن الكلام الذي قبله صار بدلا من قوله طُوي، فكأنه قال: طوي طي المحمل، وإنما انتصب سماوة الهلال بقوله: طي الليالي سماوة الهلال، فهي مفعولة الليالي، فهذا قول أبي عثمان، وهو قول كل نحوي يرجع إلى معرفة.

قال أحمد من قوله: ذهب إلى قوله: طواه إلى البيت الآخر [من] تأويل محمد بن يزيد والمازني وليس من قول سيبويه، وإنما أخطأ في التأويل عليه، وردا تأويلهما في الحقيقة، وليس ما ذهب إليه سيبويه هو ما ظنا، والدليل على ذلك أن سماوة الهلال اسم وليس بمصدر، والباب مبني على المصادر، ألا ترى أن ترجمته: هذا باب ينتصب فيه /46/ المصدر المشبه به، وسماوة الهلال ليس بمصدر، وإنما هو اسم. المصدر المشبه به في هذه الأبيات طي الليالي، وسماوة الهلال منصوبة بـ (طي) كما قالا لا كما ادعيا على سيبويه، ألا ترى أنه لما قال: ناج طواه الأين، أراد كطي الليالي سماوة الهلال، وطي الليالي مصدر مشبه به، لأن كاف التشبيه تدخل فيه، والذي أوقع لهما الغلط أن المصدر أعني طي الليالي- جاء على لفظ الفعل، (فظنا بذلك) أنه لم يرده، وإنما أراد سماوة الهلال، وسماوة الهلال اسم وليست بمصدر، وإنما جاء بهذه الأبيات مستشهدا بها لما يكون على الفعل لا على الحال، وذلك أنه تأول هذا الباب على وجهين، قال: إذا قلت: له صوت صوت حمار، إن شئت جعلته حالا ومثالا يخرج عليه الصوت، وإن شئت كان مصدرا، ثم قال بعد: (ومما لا يكون حالا ويكون على الفعل)، فجاء بهذه الأبيات التي أضيفت مصادرها إلى المعارف نحو قوله: تضميرك السابقَ يُطوى للسَبَقْ ونحو [قوله]: طي الليالي زلفا فزلفا وإنما جاء بهذا ليدل على أنه لا يكون حالا، إذ كان مضافا إلى معرفة، فمنه ما جاء مصدره على لفظ الفعل، ومنه ما جاء على غير لفظ الفعل، فغلط من ها هنا، والدليل على

مسألة [34]

أن الأمر على خلاف ظنه قول سيبويه في هذا الباب: (وقد يجوز أن تضمر فعلا آخر كما أضمرت بعد: له صوت، يدلك عليه أنك إن أظهرت فعلا لا يجوز أن يكون المصدرُ مفعولا عليه بمنزلة: له صوت) وقال في موضع آخر: (لا يكون المصدر منه)، أراد لا يكون المصدر من لفظ الفعل، فأعلمك أن الباب يكون المصدر فيه مرة من لفظ الفعل، ومرة من غير لفظ الفعل، وإذا كان من غير لفظ الفعل احتجت إلى إضمار فعل آخر يعمل في المقدر لا محالة، وإن كان من لفظه أعملته فيه. مسألة [34] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما يختار فيه الرفع إذا ذكرت المصدر الذي يكون علاجا، زعم حيث مثَّل أن قولك: له صوت صوت حمار، إنما اختير النصب لأن الثاني غير الأول بمنزلة قولك ما أنت إلا سيرا، /47/ لأن السير غيره، ومن رفع فهو أبعد لأنه مثل ما أنت إلا سيرٌ. قال محمد: ولا أرى هذا كما قال، وذلك أنه إذا قال: له صوتٌ صوتَ حمار، فإنما أراد مثل صوت حمار، ومثل هو الأول، فلما حذف قام ما أضاف إليه (مثل) مقام (مثل) كقوله: {واسأل القرية}، والسير لم يحذف منه شيء كان مضافا إليه، فهو في النصب أمكن، ولأنه لا يكون إلا فعلا له، وإنما الرفع مجاز بعيد، والوجه عندي في قوله: ما أنت إلا سيرٌ أن يكون ما أنت إلا صاحبُ سير ثم حذف. قال أحمد: ما زاد محمد بهذا الكلام على أن حكى نص سيبويه، ولم يأت برد عليه ولا

قدح في مذهبه، وذلك أن سيبويه قال في هذا الباب نصا: (له صوت أيما صوتٍ، وله صوت مثلُ صوت الحمار) بالرفع، (لأن أيًّا المثلَ صفةٌ) وهما الأول، فالرفع في هذا أحسن، ثم قال: (وقد علمت أن صوت حمار ليس بالصوت الأول)، فهل يقول محمد ابن يزيد: إن صوت حمار هو صوت الرجل فيكون رادا على سيبويه؟ ويقول [: إن (مثل) ليس بالأول فيكون مخالفا له أيضا، وهو لا يقول ذلك، ومذهب سيبويه إذا رفع على ما ذكر في قولهم: له صوتٌ صوتُ حمار، أنه على سعة الكلام وعلى إرادة مثل، وهو نظير {واسئل القرية} في حذف الأهل وإقامة المضاف إليه مقام المضاف، وكذلك ما أنت إلا سيرٌ على سعة الكلام أيضا إذا رفع، ومعناه ما أنت إلا ذو سير، على سعة الكلام حملها سيبويه، ولم يأت في هذه المسألة بخلاف ولا رد، وإنما رأى سيبويه- وقد ترك التمثيل- لأن هذا <مما> لا يلبس، فظن أن قوله: ما أنت إلا سيرٌ قول من ذهب إلى أنه لم يحذف منه شيء، فأضاف هذا التأويل إلى نفسه وجعله مذهبا ظفر به. وقول سيبويه: (إن رفعه على سعة الكلام كما جاز لك أن تقول: ما أنت إلا سير)، دليل على الحذف، لأن المجاز وسعة الكلام كله محذوف منه، لأنك إنما تسند الوصف أو الخبر إلى شيء في اللفظ وهو في المعنى لسواه إذا ان ذلك غير ملبس على المخاطب نحو قولهم: /48/ بنو فلان تطؤهم الطريق: فأسندوا هذا الفعل إلى الطريق في اللفظ وهو في المعنى لأهل الطريق، وكذلك سائر هذا الباب، إنما هو على الحذف والاختصار إذا زال اللبسُ وأُمِن.

مسألة [35]

مسألة [35] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما ينتصب لأنه حال وقع فيه الخبر وهو اسم، زعم أن كلهم وجميعهم أجمعين وعامتهم وأنفسهم لا يكن إلا صفة. قال محمد: أما عامتهم عندي فلا يجوز أن يكون صفة البتة، لأنك إذا قلت: مررت بقومك أو بهم ثم قلت: عامتهم، فإنما حررته على البدل كما تقول: مررت بهم بعضهم، ولا يكون صفة، لأن الصفة هي الأول وعامتهم إنما هو بعضهم، ولا يوصف الشيء ببعضه. قال أحمد: عامتهم مشتق من عممت الشيء، فظاهره واشتقاقه على العموم، فهو كجميعهم وكلهم، إلا [أن] منهم من يستعمله على البعض، يريد به الأكثر، وهذا على غير أصل الكلمة، وقد استعمل ذلك في (كل) تقول: جاءني كل الناس، تريد وجوههم وأكثرهم، وجاءني أهل الدنيا، وإنما تريد بعضهم، فهذا توسع في الكلام، والأصل غير ذلك، واشتقاق الكلمة يدل على خلاف ما قاله، لأنها على التعميم، وإنما تستعمل للبعض توسعا كما استعملت كل، ألا ترى إلى قول الله تبارك "وتعالى": {فسجد الملائكة كلهم أجمعون}، فذكر (أجمعون) ليزول احتمال التوسع من كل، لأن كلهم يجوز أن تكون بمعنى أكثرهم، فلما قال: أجمعون، زال هذا الاحتمال ووقعت الإحاطة على الحقيقة. وقال محمد بن يزيد في هذه الآية: إن أجمعين إنما جيء به ليدل على أن سجود الجميع كان في وقت واحد، لأنه لما قال: فسجد الملائكة كلهم، احتمل أن يكون السجود

مسألة [36]

قد وقع في أوقات متفرقة وإن كان قد عمهم فيها، فلما قال: أجمعون، علم أن ذلك كان في وقت واحد على حال اجتماع، وليس كما ذكر، لأن أجمعين معرفة، ولا تقع في موضع الحال، ولا تكون أبدا إلا توكيدا لمعرفة، ولو أراد [الله] ذلك لقال: فسجد الملائكة كلهم مجتمعين، أي: في حال /49/ اجتماع، ولو قال قائل: جاءني القوم أجمعون، لجاز أن يكون مجيئهم في وقت بعد وقت كما جاز ذلك في كلهم، والتأويل فيهما المشبه لكلام العرب هو الأول، لأن كلا قد استعملت على وجهين: على "معنى" الإحاطة، وإزالة احتمال التكثير. مسألة [36] ومن ذلك قوله في باب متقدم ترجمته: هذا باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء، وذلك قولهم: سلام عليك، ولبيك وخير بين يديك، فذكر هذا في باب الابتداء فرفعه وأدخل معه لبيك، وقد ذكر أنه اسم مثنى في قول الخليل، وخطأ يونس في قوله: إنه بمنزلة عليك، وأنشد: فلبي قلبي يدي مسور ... ليوضح أنه مثنى، ثم ترك ذلك في إدخاله إياه في الابتداء، وكان يجب على قوله أن يكون: لباك، فيدخل الألف للرفع، والقول عندي إن لبيك مما لا يقع إلا منصوبا كما ذكر في غير هذا الباب، وذكره إياه في هذا الباب خطأ. قال أحمد: (هذا الكلام جرى) من محمد بن يزيد مجرى السهو، ومحله في هذه الصناعة فوق ذلك، وذلك أن سيبويه ذكر في هذا الباب المصادر التي ترفع على الابتداء، وهي نكرة تجري مجرى ما فيه الألف واللام، فذكر قولهم: سلام عليك، وقولهم وخير بين

مسألة [37]

يديك، إلا أن الناس لا يكادون يستعملون هذه الكلمة إلا بعد لبيك، فيقولون: لبيك وخير بين يديك، كأنهم يستعملونها مع الإجابة، فأتي بالكلام كله والشاهد في بعضه، كما يؤتى بالشعر كله والشاهد في بعضه، ذلك يؤتى بالمثل والشاهد كلمة منه، فلبيك في قوله نصب وليس هذا بابه، وهو مع ذلك معرفة، وليس هذا الباب للمعرفة ولا للمنصوب، وإنما اعترض به لما بعده إذا كان كلاما ما يذكره الناس جملة، فجاء به على ما يعرفونه ويجري في كلامهم، وهذا أظهر وأبين من أن يحتج له أو يدل عليه بأكثر من هذا. مسألة [37] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور، زعم أن قوله: أما صديقا مصافيا فليس بصديق مصاف، وأما عالما /50/ فهو عالم، أن هذا ينتصب على الحال، وإذا مثل هذا على ما قال لم يصح له معنى، ألا ترى أنك لو قلت: أما هو فعالم عالما، وأما هو فليس بصديق مصاف صديقا مصافيا، ولكن نصبه على كان، لأنها تقع ها هنا ولا ينتقض المعنى عليها، لأنه قد ذكر قبل رجلا، فكأنه قال: أما أن يكون طاهرا فهو طاهر، أي: كينونة طهارته فصحيحة، ولذلك لم يجز في هذا الرفع، وهذا التفسير مذهب أبي الحسن، وليس مذهب أبي الحسن أيضا بشيء في هذا، وقد فسرنا القول في هذا في غير هذا الكتاب. قال أحمد بن محمد: أما قوله: إن هذا إذا مثل لم يصح على الوجه الذي مثله وهو يصح على غيره، لأنه مثله بإعمال ما بعده فيه، وقد زعم سيبويه في هذا الباب أن المصادر والصفات التي تقع بعد (أما) تنتصب بما بعدها أو ما قبلها، ألا ترى أنك لو قلت: أما علما فلا علم عنده، إن هذا لا ينتصب بما بعده، وإنما ينتصب بما تقدره قبل، وإذا قلت: أما علما فعالم، جاز أن تنصبه بما بعده، وكذلك الصفات، إذا قلت: أما صديقا فصديق، والتقدير إذا نصبته بما قبله أن تضمر، أما المذكور صديقا فهو صديق، يدل على ذلك قول سيبويه في

ترجمة الباب: هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور، ألا ترى انك إذا قلت: أما علما فعالم، إن هذا الكلام إنما تكلمت به بعد شيء جرى وأوصاف تقدمت لموصوف مذكور، فكأنك قلت: مما صح له من هذه الأوصاف فكذا وكذا، وكأن رجلا ذكر بعلم وعقل ونبل، فقلت: أما نبلا فنبيل، أي: أما المذكور نبيلا فنبيل، والدليل على ذلك ما فسره الخليل بتمثيله أن هذا الباب كقولهم: أنت الرجل علما وفهما وأدبا، أي: أنت الرجل في هذه الحال، وكذلك إن قدرته على الوجه الآخر الذي ذكره سيبويه، وهو أن ينتصب المصدر لأنه مفعول من أجله، فكأنه قال: أما المذكور من أجل العلم فعالم، فهو ينساغ على الوجهين جميعا، والمصادر والصفات على /51/ هذا التمثيل تصح إذا أعملت ما قبله. فأما ما حكاه محمد عن الأخفش من أنه يضمر (أن يكون) فقد رجع عنه في آخر الكلام ولسنا نقتصر على رجوعه دون تبيين مذهب الأخفش فيه وإفساده، وذلك أن المصادر في هذا الباب إذا وليت (أما) فالأكثر فيها النصب، فإذا أضمرت (أن يكون) وهو مصدر ونصبته على مذهب من ينصب بإضمار ناصب فقد لزمه على قوله أن يكون المضمر مصدرا أيضا، ويكون منصوبا بمصدر آخر، فيتصل هذا بما لا غاية له، وهذا فاسد. وأما قول سيبويه في أول الباب: إن المصدر ينتصب بما قبله وما بعده، فلم يرد به أنه منصوب بهما جميعا في حال، وإنما أراد معنى (أو)، وقد بين ذلك في آخر الباب بإعادة هذا القول فقال: ينتصب بما بعده أو ما قبله، وجاء بلفظ (أو)، ولو لم يرد ذلك

مسألة [38]

لكان الكلام فاسدا، لأنه لا ينتصب بشيئين، وإنما جاز إضمار المذكور بعد (أما) لتقدم ذكره. مسألة [38] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوال تقع فيها الأمور قال: (وأما عبد الله أحسن ما يكون قائما، فلا يكون فيه إلا النصب، لأنه لا يجوز لك أن تجعل أحسن أحواله قائما على وجه من الوجوه). قال محمد: أما قوله: ولا يجوز فيه إلا النصب، فليس بين أحد في هذا اختلاف، وأما تفسيره هذا على أن معناه أحسن أحواله، فقد ينبغي له أن يقول على ما فسر: عبد الله أحسن أحواله القيام، لأنه خبر، أن يقول: عبد الله أحسن أحواله القيام، وهذا لا يقوله أحد، وإنما معنى عبد الله أحسن ما يكون قائما، عبد الله إذا كان قائما أحسن منه إذا كان غير قائم، فأحسن لعبد الله ليس للقيام ولا لثيء من الأفعال، ولكنه "هو" إذا فعل هذا فضل نفسه إذا فعل غيره وكذلك جميع هذا الباب. قال أحمد: هذه مسألة قد اعترف محمد بصحتها ولم يخالفنا، ولا في الاعتلال "لها"، وإنما لحقه شك في إلزام ألزمه [نفسه] /52/ فيها ومعارضة عورض بها، وقد رام أن يبين ذلك في كتاب الشرح، فلم يأت فيه بشيء، ونحن نبينه إن شاء الله [تعالى]. زعم أنه يلزم من قال: عبد الله أحسن أحواله القيام أن يقول: عبد الله أحسن ما يكون القيام، لأن سيبويه امتنع من أن يقول: عبد الله أحسن ما يكون قائم برفع قائم، لأنه لا يقول: عبد الله أحسن أحواله قائم فالجواب في ذلك أن أحوال عبد الله إنما هي قيام وقعود وحسن وقبح وما أشبه هذا، ومحال أن يخبر عن هذه الأحوال بأسماء الفاعلين، لا تقول:

حسن عبد الله جالس ولا قعوده منطلق، هذا كله محال غير منساغ، وأحسن أحوال عبد الله حال من أحوال عبد الله، وكذلك أحسن ما يكون، أحسن كينونة، فلما امتنع قائم وجميع أسماء الفاعلين من أن يكون خبرا بحال من الأحوال، امتنع أن يكون خبرا للكينونة، لأنها من الأحوال، فهذا صحيح لا يجوز غيره ولا يخالف النحويون فيه. ثم نذكر المسألة التي ألزم القول "بها" ولحقه الغلط فيها، وهي أن تجعل المصدر خبرا عن الكينونة كما جعله خبرا عن الأحوال، إذ كانت الكينونة حالا من الأحوال، فألزم أن يقال: عبد الله أحسن ما يكون القيام، على حد قولنا: "عبد الله" أحسن أحواله القيام، فالقيام حال من أحواله، فصار بمنزلة قولك: عبد الله حاله القيام، فحاله اسم مبهم يحسن أن يكون قياما وغير قيام، فخبرت أنه قيام، وإذا قلت: عبد الله أحسن ما يكون القيام، لم يجز لأن الكينونة ليست بقيام فتخبر عنها به، وذلك أنك إنما تخبر عن الشيء بما هو أولى به ذكره، وسواء هذا أو إلزام من ألزمنا أن يقول: عبد الله أحسن ما يجلس القيام، لأننا نقول: أحسن أحواله القيام، وإنما امتنع هذا من أجل أن الجلوس غير القيام، ولو قلت: أحسن ما يجلس القرفصاء لجاز، لأن القرفصاء نوع من الجلوس، وإنما امتنعت الكينونة من أن يخبر عنها بمصدر من هذه المصادر الواقعة، لأن الكينونة عبارة مصدر وليست بحدث واقع في المعنى كالضرب والقيام والقعود، /53/ ألا ترى أن الفعل الذي صدر عنه هذا المصدر وهو (كان) كذلك، إنما هو عبارة دالة على زمان وليس بدال على حدث، وضرب وما أشبهه دال على الزمان والحدث جميعا، ولو جاء في الكلام مصدر في معنى الكينونة يكون عبارة لا حدثا واقعا لجاز أن تخبر به عنها، كأنه في معنى أحسن ما يكون أن يكون قائما، ومثال هذا الإلزام أن يقول قائل: إذا أبيتم أن يكون قائم خبرا عن شيء من المصادر، ووجب بذلك ألا يكون خبرا عن الكينونة، فنظيره إذا أوجبتم أن يكون المصدر خبرا عن شيء، وجب أن

مسألة [39]

يكون خبرا عن كل شيء، وهذا لا يلزم، لأنه إنما يكون خبرا عما هو في معناه، لو قلت: فعلك الضرب لكان مستقيما، ولو قلت: قعودك الضرب لم يجز، لان الضرب ليس بقعود على وجه. مسألة [39] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما شبه من الأماكن المختصة بالمكان غير المختص، زعم أن قوله: داري خلف دارك فرسخا، قال: لما قال: داري خلف دارك، أبهم فلم يدر ما قدر ذلك، فلما قال: فرسخا أو ميلا، أراد أن يبين ما عمل فيه كما أعمل في قوله: عشرون درهما، كما كان أفضلهم رجلا. قال محمد: والدليل على أن هذا غير منتصب على التمييز أن التمييز لا يكون أبدا إلا ومعناه من كذا وكذا، إن قولك: عشرون درهما، إنما هو من الدراهم، وكذلك قولهم: أفضلهم رجلا، قد كان يستقيم أن تقول: أفضلهم فارسا، وأفضلهم حرا، وغير ذلك، فلما قلت: رجلا، كان التفضيل من الرجال كلهم، ولكن لما قال: داري خلف دارك، لم تدر على أي حال هي منها من البعد، فلما قال: فرسخا، علم أنها تباعدت على هذه الحال، لأن الحال قد تكون اسما غير صفة نحو قولك: مررت بقومك عشرة. قال أحمد: أما قوله: إن التمييز لا يكون أبدا إلا ومعناه من [كذا] فقد رجع عن هذا القول في الكتاب الذي وضعه لشرح ما أغفل سيبويه شرحه، وقال: إن منه ما يكون بمن، ومنه ما يكون بغير من، وذلك أنك تقول: زيد أحسن منك وجها وأنظف /54/ ثوبا، ولا يحسن دخول من في هذا المنصوب، ويحسن من علة تذكر في غير هذا الكتاب، لأن قصدنا ها هنا دفع هذه الشبهة التي أتى بها محمد. وأما قوله: إن فرسخا ينتصب في هذه المسألة على الحال فهو خطأ من جهة المعنى، لأنه يجعل الدار حينئذ فرسخا في مقدارا، وذلك أن الحال هي الأولى في المعنى، ألا ترى أنك إذا قلت: جاء زيد راكبا، فالراكب هو زيد، وكذلك جميع الحالات هي في المعنى الأول

مسألة [40]

الذي جرت عليه وكانت حالا له، فهذا التأويل الذي تأوله يوجب أن يكون الدار فرسخا في مقدارها وقياسها، وإنما معنى الكلام المراد فيه أن بين الدارين فرسخا. وأما تمثيله تباعدت، كأنك قال: تباعدت فرسخا، فنحن لو قلنا هذا لما كان الفرسخ أيضا حالا للعلة التي ذكرنا، ولا فرق بين قولنا: سرت فرسخا، وتباعدت فرسخا، إن شئت أن يكون ظرفا وإن شئت أن يكون مفعولا، ولو جعلته حالا كان هو الأولى. وأما قوله: إن الحال قد تكون اسما غير صفة نحو قولك: مررت بخاتمك حديدا، ومررت بقومك عشرة فهذا مما ييسر قولنا ويعسر قوله، وذلك أن العشرة هم قومه والخاتم هو حديد، فيلزمه أن يكون الفرسخ هو الدار، والتأويل ما ذهب إليه سيبويه، وإنما كان التقدير، داري خلف فرسخ أو بعد فرسخ من دارك، فلما أضاف الخلف إلى دارك وحال بالمضاف إليه بين الخلف وبين الفرسخ انتصب الفرسخ على التمييز كما حالت النون بين العشرين وبين الدرهم، وكما حالت الهاء والميم في قولهم: أفضلهم رجلا بين الصفة وبين رجل، وكما حال الفاعل بين الفعل والمفعول وانتصب المفعول، وهذا كله مطرد. مسألة [40] ومن ذلك قوله في هذا الباب: (واعلم أن ظروف الزمان أشد تمكنا في الأسماء، لأنها تكون فاعلة ومفعولة، تقول: أهلكك الليل والنهار، واستوفيت أيامك). قال محمد: والأمكنة كذلك، تقول: أنصبك الطريق، وبعد عليك الفرسخان وسرت الميلين، فإن قال: الطريق لا ينصبك على /55/ الحقيقة، إنما أنت سرت فنصبت، وسرت الميلين إنما هما مفعولان على السعة، قيل: فكذلك الدهر، لأن الليل والنهار إنما يتلف الله [سبحانه الناس] فيهما كما يتلفهما، ويفنى الناس كما يفنيهما، وذلك استوفيت أيامك،

"أنت لم تفعل شيئا" إنما ذهبت كما ذهبت الأمكنة، والأمكنة أولى بأن تكون فاعلة ومفعولة، لأنها جثث كالناس وقد قال سيبويه: والأماكن إلى الناس وغيرهم أقرب. قال أحمد: أما قوله: إن الأمكنة كذلك، فليس هذا الذي ذكر يعم جميع الأمكنة، لأن منها ما لا يستعمل إلا ظرفا إلا في الشعر أو ضعف من الكلام، وأسماء الزمان ليست كذلك، لأنها تستعمل أسماء كثيرا وليس منها ما يلزم الظرف كما ألزموا بعض الأمكنة، فلذلك جعلها سيبويه أشد تمكنا. وأما قوله: إن الأمكنة أولى بأن تكون فاعلة ومفعولة لأنها جثث، فهذا كلام ضعيف، لأنه إن كان أراد بقوله: (أولى) أنها أولى في كلام العرب فلم توجد في كلام العرب كذلك، وإن كان أراد بها أولى في القياس فأي قياس يوجب هذا لها دون غيرها؟ وقد يكون الفاعل والمفعول جثة وغير جثة، وليست الجثث مخصوصة بذلك دون غيرها من الأسماء التي ليست بجثث نحو القيام والقعود إذا قلت: رأيت قيامك حسنا، وأعجبني قيامك، وكذلك أعجبني عقلك، وليست هذه جثثا. وأما قول سيبويه: إن الأماكن إلى الناس وغيرهم أقرب، فلم يذكر ذلك المعنى الذي ذهب إليه محمد بن يزيد، وإنما زعم أن الأزمنة أقرب إلى الفعل، لأنها ماضية ومستقبلة، والأماكن ليست كذلك، فلهذا ذكره، ولم يجب بذلك أن تكون الأمكنة أشد تمكنا في الأسماء من الأزمنة، بل الأزمنة أمكن لأنها لم تستعمل ظروفا غير أسماء، والأمكنة قد استعمل منها ظروف غير أسماء، وهذا ما ذهب إليه سيبويه.

مسألة [41] قال: ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب مجرى النعت على المنعوت، قال: ومما جاء في الشعر قد جمع الاسم وفرق النعت وصار مجرورا قوله /56/ بكيت وما بكا رجل حزين ... على ربعين مسلوب وبال كذلك سمعناه من العرب تنشده، والقوافي مجرورة. [قال محمد: ولا معنى لهذا الكلام، أعني قوله: والقوافي مجرورة]، لأنها لو كانت مرفوعة لم تكن القافية إلا هكذا. قال أحمد: قوله: لو كانت مرفوعة لم تكن القافية إلا هكذا، قول خطأ على الإرسال، وذلك أنها لو كانت مرفوعة من غير ما اعتلت لامه أو أضيف لم يجز أن يكون معه (بال) وذلك أنه كأن يكون نحو حال ومال، ولو كانت القوافي كذلك لم يكن معها (بال)، وإذا لم يكن معها (بال) وكان في موضعه قافيه يمكن رفعها نحو ما ذكرنا لم يجز في مسلوب أن يكون إلا مرفوعا، وإذا كانت القوافي مجرورة وكان معها (بال) أمكن "فيه" أن يكون مرفوعا بلفظ مجرور. وأمكن أن يكون مجرورا، وإذا أمكن ذلك فيه أمكن في مسلوب مثله، فأراد بقوله: إن القوافي مجرورة إزالة امتناع الجر عن مسلوب، وبقيت (بال) بهذا اللفظ لئلا يدعي مدع رواية قافية في موضع (بال) مرفوعة نحو قولنا: حالي في موضع حائل ومالي في موضع مائل، وما أشبه ذلك مما

يمكن رفعه فيجب بذلك رفع مسلوب. مسألة [42] قال: ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما أشرك بين الاسمين في الحرف الجار فجريا عليه، قال: (وقد تقول مررت بزيد وعمرو، يعني أنك مررت بهما مرورين وليس في ذلك دليل على المرور المبدوء به، كأنه يقول: ومررت أيضا بعمرو، فنفي هذا، ما مررت بزيد وما مررت بعمرو. قال محمد بن يزيد: ليس كما ذكر، لأن النفي إنما يكون على قدر الإيجاب، وإنما نفي هذا، ما مررت بزيد وعمره، أدخلت الحرف النافي على كلام المبتدئ، وهو قول أبي عثمان. قال أحمد: لو كان نفيه على ما ذكر محمد وأبو عثمان لاحتمل الكلام إذا قال: مررت بزيد وعمرو أن يكون قد مر بأحدهما، وإنما ينبغي أن يأتي بكلام فيه نفي المرور عنهما جميعا لا عن أحداهما، كما أن الموجب "إنما" أوجب المرور لهما جميعا، وإنما النفي رفع ما أوجب المتكلم، فالمتكلم قد أوجب أن يكون مر بهما في حال أو حالين، /57/ فالسبيل أن ينفي ذلك أجمع بكلام لا يحتمل غير هذا المعنى، فإن احتمل نفي المرور عن أحدهما دون الآخر لم يكن ذلك بنفي لما أوجب المتكلم.

مسألة [43] قال: ومن ذلك قوله في هذا الباب، قال: جواب (أو) إذا قلت: مررت بزيد أو عمرو، أن تقول: ما مررت بواحد منهما. قال محمد: وإنما هذا جوابها على المعنى، وجوابها على اللفظ ما مررت بزيد أو عمرو، وهذا قول أبي عثمان المازني. قال أحمد: هذا قول عجيب من مثلهما، بعيد عن الصواب، وذلك أن القائل إذا قال: مررت بزيد أو عمرو، فإنما أثبت المرور لأحدهما، ولا يدري من هو منهما، فكأنه قال: قد مررت بأحدهما ولا أدري من هو منهما، فإن نفي ناف على ما قاله أبو عثمان هذا الكلام فقال: ما مررت بزيد أو عمرو، كان النافي بهذا اللفظ شاكا فيمن انتفى عنه المرور منهما، كما كان الموجب شاكا فيمن وجب له المرور منهما، فكأنك قلت: لا أدري أيهما لم يمرر به، كما كان الموجب كأنه قال: لا أدري بأيهما مررت، فهذا لم يدر بأيهما مر، وهذا لم يدر بأيهما لم يمرر، فهو في المعنى موافق له، لأنه إذا لم يعلم من الذي مر به فليس يعلم من الذي لم يمرر به، وإذا لم يعلم النافي من الذي لم يمرر به يعلم الذي مر به لأن العلم قد استوي فيهما عند الشاك موجبا كان أو نافيا، فليس هذا بنفي لهذا، بل هو متابع له في المعنى، ونفيه في الحقيقة ما قاله سيبويه، لأن الموجب قد ادعى المرور بواحد منهما، وصار شائعا فيهما بالشك، واستوي العلم في زيد وعمرو، فوجب أن يكون المعنى دفعا لذلك كله، فتقول: ما مررت بواحد منهما، فإن قال (فالموجب إنما ادعى أن المرور لأحدهما، فكيف يجوز أن ينفيه عنهما؟ قيل له: المرور وإن كان لأحدهما في الحقيقة التي ليست معلومة، فهو لهما جميعا في الظن، لأنهما قد استويا فيه، وظن بكل واحد منهما أنه

الممرور به، فوقع النفي على ذلك لا على الحقيقة التي هي غير معلومة عند المتكلم، لأن المتكلم جعل ظنه شائعا فيهما مشتركا لهما النفي على ذلك مسألة [44] [قال: ] ومما أصبناه في السابع من ذلك قوله /58/ في باب ترجمته: هذا باب مجرى نعت المعرفة عليها، قال: (والمضاف إلى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء: بما أضيف كإضافته، أو بالألف واللام، والأسماء المبهمة). قال محمد: أصل ما ذكر في الصفات أن الأخص يوصف بالأعم، وما كان معرفة بالألف واللام والأسماء المبهمة فهو أخص مما أضيف إلى الألف واللام، فلا ينبغي على هذا القياس أن يقول: رأيت غلام الرجل الظريف إلا على البدل. قال أحمد: إن أصل ما ذكر في الصفات أن الأخص يوصف بالأعم، فهو يوصف بالأعم كما ذكر ويوصف بما كان مثله، ألا ترى أنك تقول: مررت بالرجل الظريف، فليس الظريف بأعم من الرجل، لكنه مثله، فإذا قلت: مررت بزيد الظريف فقد وصفته بما هو أعم منه، فالصفة تكون على نحوين: تكون أعم من الموصوف وتكون (مثل الموصوف)، ولا تكون أخص من الموصوف، ولذلك قال سيبويه: والمضاف إلى المعرفة يوصف بما أضيف كإضافته أي بما هو مساو له، وبالألف واللام، أي: بما هو أعم منه. وأما قوله: إن ما كان معرفة بالألف واللام أخص مما أضيف إلى الألف واللام كما ذكر، لأن ما أضيف إلى الألف واللام إنما يعرف ويخصص من حيث يعرف ما فيه الألف واللام وليس أحدهما بأخص من الآخر، لأن الألف واللام عرفتهما جميعا، فهما

متساويان، فلذلك تقول: رأيت غلام الرجل الظريف، فيكون كقولك: رأيت الرجل الظريف، لا ترى بينهما فرقا، وكذلك نعم الرجل فلان، فما أضفته إلى ما فيه الألف واللام فهو بمنزلة ما فيه الألف واللام. مسألة [45] قال: ومن ذلك قوله في هذا الباب في قول ذي الرمة: ترى خلقها نصفا قناة قويمة ... ونصفا نقا برتج أو يتمرمر قال: (وبعضهم ينصبه على البدل، وإن شئت جعلته بمنزلة قائما) أي: حالا. قال محمد: وهذا عندي خطأ- أعني الحال-، وذلك لأن نصفا لا ينبغي أن يكون هنا إلا معرفة، لأن معناه الإضافة، والعلة التي أدعاها في بعض وكل من الإضافة هي في نصف، /59/ لأن المعنى نصفه، كما أنه إذا قال: مررت ببعض قائما أو بكل جالسا، فإنما يريد بعضهم وكلهم. قال أحمد: إنما جاز أن يكون ها هنا حالا لأن في الكلام ما يسيغ ذلك فيه، ولأن المعنى كأنه نصف قويم ونصف يرتج، وإذا وصف الشيء بما يجوز أن يكون حالا جعل في موضع الحال، وتقول في مثله: رأيت القوم رجلا جالسا ورجلا قائما، فتجعل رجلا حالا وهو اسم لأنه وصف بما يكون حالا. فأما قوله: إن نصفا معرفة، فهذا ليس بحتم فيه، لأنه قد يراد به المعرفة و [قد] يراد به

النكرة، وكلاهما يقدر فيه جائز غير ممنوع، ولو كان هذا كما ذكر محمد في كل مضاف لوجب عليه أن يقول: إن أخا معرفة لأنه يتضمن معنى أخيه، وأبا كذلك لأنه يتضمن معنى الأب، وأب لا يتضمن معنى الأب وكذلك فوق وتحت وكل اسم يقتضي إضافة تلزمه فيه مثل ذلك، وهذا لا يقوله أحد، إلا أن العرب قد استعملت بعض هذه الأسماء التي تتضمن معنى الإضافة استعمالا كثيرا، على أنها معرفة محذوف منها ما أضيفت إليه، وألزمتها ذلك في أكثر الكلام، ولم يطرد ذلك القياس في غيرها مما هو في معناها وذلك نحو كل وبعض. مسألة [46] قال: ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة مجرى الأسماء التي لا تكون صفة، قال وزعم يونس أن ناسا يقولون: مررت برجل خير منه أبوه، ومررت برجل أفضل منه أبوه، فيجرونه على الأول كما يجرون برجل خز صفته. قال محمد: ورواه سيبويه على القبول، وهذا غلط، لأن مررت برجل خز صفته رديء جدا، وما كان مثله وخير منك وأفضل منك مأخوذ من خار يخير، وفضله يفضله، وكذلك جميع بابه يتصرف منه فعل ويكون منه للأول أبدا، نحو مررت برجل خير منك وأفضل منك، ومررت بصفة خز لا يجوز إلا مستكرها، فبينهما إذا أردت بهما الآخر ما بينهما إذا خلصا للأول.

وأخطأ سيبويه في وضعه في هذا الباب مثلك وأيما رجل، لأن هذا غير مأخوذ من فعل/60/ ولا يكون بمنزلة ما أخذ من الفعل وكان فاعلا في الاشتقاق، ولكن مررت برجل أيما رجل أبوه، ومررت برجل مثلك أبوه، أجود من مررت برجل خز صفته بكثير، لأن خزا لا يكون صفة إلا رديئا مخرجا من بابه، ومثله وأيما رجل لا يكونان إلا صفة، فبينهما كثير. قال أحمد: قوله: رواه سيبويه على القبول وهذا غلط، فليت شعري في أي شيء غلط؟ أفي تركه تكذيب يونس في الرواية أم في تركه محاجة العرب إذا صدق يونس في روايته، ولا أحسبه أراد أنه غلط إلا في قبول قول يونس. وأما قوله: لأن مررت برجل خز صفته رديء جدا، فهو مع رداءته قد أجازه، وإنما أراد أن العرب أجازت، مررت برجل خير منك أبوه، كما أجازت الذي هو صفة، إذ أجازوا ما هو أردأ منه، فإنما أتى بخز صفته تحسينا لإجازتهم، مررت برجل خير منك أبوه، لأنهم أجازوا ذلك فيما ليس بصفة. وأما قوله: إن أفضل وخيرا وما أشبهما أخذا من الفعل فلا فائدة في هذا، مع قول سيبويه في ترجمة الباب: (وهذا باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة مجرى الأسماء التي لا تكون صفة)، فقد أعلمنا بهذا القول أنها أوصاف وأن خزا وما أشبهه ليس بصفة، إلا أن العرب لما قدمتها على الموصوفات في هذا الباب رفعتها وأجرتها مجرى الأسماء، إذ كانت أوصافا غير جارية على الفعل وإن كانت (مشتقة منه).

وأما قوله: إنه أخطأ في وضعه مثلك وأيما رجل في هذا الباب، فكيف يكون مخطئا في ذلك وقد اعترف له في آخر الباب؟ لأن الوجه فيهما الرفع إذا كان للآخر كما كان خير منك كذلك، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت برجل خير منك أبوه، فالرفع الوجه في مذهب الجماعة ومذهب محمد بن يزيد، وإذا قلت: مررت برجل أيما رجل أبوه، فالرفع فيه الوجه كما كان في خير، ولو كان هذا الذي ذكره غلطا لوجب أن يخالفهم في الرفع، ويزعم أن إجراء مثل هذا على الأول /61/ أجود، وهو لا يقول ذلك، والذي أوقع له هذا الشك ذكر سيبويه لقولهم: مررت برجل خز صفته، فظن بذكر هذا أن سيبويه أنزلهما منزلة واحدة، وإنما جاء بهذا عذرا لمن أجرى الصفة على الأول وهي للآخر، إذ كان يجيز ذلك فيما ليس بصفة "وهو أردأ". مسألة [47] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما جرى من الأسماء التي هي من الأفعال وما أشبهها من الصفات التي ليست بفعل نحو الحسن والكريم، قال وقال بعض العرب: قال فلانة، وهو فيما ذكر قليل في الحيوان والآدميين خاصة. قال محمد: [بن يزيد] وهذا خطأ، لم يوجد في قرآن ولا كلام فصيح ولا شعر، ولكنه يجوز في الموات أن تقول: أعجبني دارك، لأن الدار ليس تحتها معنى تأنيث ولا تذكير، وإنما يجري على اسمها، ولا فصل بينها وبين قولك: منزل، فمن ذلك قوله جل وعز: {فمن جاءه موعظة من ربه} لأن الموعظة والوعظ واحد، وكذلك {وقال نسوة} لأنه تأنيث الجماعة "والجماعة" والجميع سواء، ولم يجز هذا في الحيوان لأن معناه التأنيث، ولو سميت امرأة أو شاة أو كلبة باسم مذكر (قلبته إلى التأنيث) لمعناهن، ألا ترى

أنك لو سميت امرأة بـ (قاسم) و (جعفر) لقلت جاءتني قاسم، وجاءتني جعفر، وكذلك جميع الحيوان لتأنيث المعنى، وقال جرير: لقد ولد الأخيطل أم سوء ... .......... لأن الأم في الأصل صفة، ولأنه قد فصل بينهما وبين الفعل. قال أحمد: [بن محمد] هذا كلام ظاهر الفساد بين الاختلال، وذلك أنه حكى عن سيبويه أنه روى عن بعض العرب، قال فلانة، ثم خطأه في ذلك، وهذا موضع التكذيب فيه أشبه من التخطئة، لأنه ليس بقياس قاسه فيرد عليه ويخطأ فيه، وإنما ذكر أن بعض العرب قال ذلك، فإن كانت التخطئة لمن قال ذلك من العرب فهذا رجل يجعل كلامه في النحو أصلا وكلام العرب فرعا، فاستجاز أن يخطئها إذا تكلمت بفرع يخالف أصله، وذكر عن سيبويه أن قال فلانة قليل، ثم قال: وهذا لا يجوز، لأنه لم يوجد في قرآن ولا شعر ولا /62/ كلام فصيح، فلو وجد مثله في قرآن أو كلام فصيح لما نسبه إلى الضعف "والقلة"، فأما الشعر فهو قد أنشد بيت جرير، وقد مثل سيبويه حذف التاء من فعل المؤنث في مذهب من أجاز ذلك بأحسن تمثيل، وهذا الذي للنحوي أن يفعله، وهو أن يمثل ويعتل لما جاء عن العرب، فأما أن يرده فليس ذلك له، وزعم أن حذفهم التاء من فعل المؤنث كحذفهم علامة التثنية من فعل الاثنين، وكذلك الجميع إذا قلت: قام أخواك، وقام إخوتك، فلما كان ذكر اسم الاثنين يغني عن إلحاق الفعل علامة التثنية، كذلك كان ذكره اسم المؤنث يغني عن إلحاق علامة التأنيث في الفعل.

فإن قال قائل: إن العرب قد تسمي المذكر باسم المؤنث والمؤنث بالمذكر، قيل له: وقد تسمي الواحد باسم الاثنين واسم المجتمع كقولهم: أبانان وعرفات لموضع. مسألة [48] قال: ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب إجراء الصفة فيه في بعض المواضع أحسن، وقد يستوي إجراء الصفة على الاسم وأن تجعله خبرا فتنصبه، ذكر النحويون الذين قالوا: مررت بامرأة آخذة عبدها فضاربته، فقالوا: انتصب لأن القلب لا يجوز. قال محمد: وهذا لعب من قول النحويين، ولكنه أحتج عليهم يبيت لا حجة فيه، وهو قول حسان: ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم ... وفينا نبي عنده الوحي واضعه ذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم- عنده الوحي واضع الوحي عنده، وإنما المعنى، وفينا نبي الوحي واضع عنده ما صنعتم، أي: لا يخفى صنيعكم لأن الوحي، قد خبر به النبي صلى الله عليه وسلم. قال أحمد: الذي ذهب إليه محمد بن يزيد في هذا البيت هو الوجه الجيد، فأما ما ذهب إليه سيبويه فإنما يكون البيت حجة عليه لا على المعنى الأجود، وليس يمتنع، ألا ترى أن المسألة التي استشهد بها تحتمل أيضا وجهين، وهي قوله في إثر هذا البيت: (ومما يبطل القلب زيد (أبو قائم أخو) عبد الله مجنون به، إذا جعلت الأخ صفة والجنون من زيد

بأخيه، فهذا نص قوله، وهو دليل على أنه لم يذهب عليه الوجه الآخر، لأنك قد ترفع الأخ بالابتداء، وتجعل مجنونا خبرا، والهاء /63/ عائدة على زيد، وكذلك البيت يحتمل هذا الوجه إذا أراد به الشاهد لهذا المعنى جعله على هذا التأويل، وليس هذا بشاهد قاطع ولا مقصور على معنى واحد. والتأويل الذي ذهب إليه سيبويه يؤول في المعنى إلى ما تأوله محمد، إلا أن قول محمد أبين وأوضح، لأنه يجيز ولم يضطره الاستشهاد إلى شر الوجهين، وإنما قولنا: إنه يؤول في المعنى إلى التأويل الآخر، لأنه إذا وضع الوحي عنده، وما صنعتم منه، يعني من الوحي، فقد وضع ما صنعوا عنده، وإذا رد عليه مثل هذا وهو يحتمل (التأويل وينساغ) في التفسير وجب أن يرد عليه البيتان اللذان استشهد بهما في باب (ما) وهما قول الأعور "الشني". هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها فليس يآتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها لأنه استشهد بهذين البيتين لمسألة لا تجوز البتة، وهي قولك: ما أبو زينب ذاهبا ولا مقيمة أمها، فجعل الضمير عائدا على زينب، ولم يجعله عائدا على الأب الذي هو اسم (ما)، فلذلك لم يجز تصب الخبر المقدم. لأن (ما) تقدم خبرها ارتفع، وليس بجائز تقديم خبرها ونصبه، وسيبويه علمنا ذلك في هذا الباب بعينه، فلم يجهل هذا وإنما أتى به تمثيلا، كأنه أرانا المعنى الذي لا يجوز فيما جاء جائزا في ليس.

مسألة [49] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما ينتصب لأنه خبر لمعروف يرتفع، زعم أنك إذا قلت في الدار عبد الله، وما أشبه ذلك من الظروف، إن عبد الله قدم أو أخر إنما يرتفع بالابتداء، والدليل- فيما زعم- على ذلك أنك تقول: إن في الدار عبد الله. قال محمد: والقول في هذا أنك إذا قلت: في الدار عبد الله، فأردت بعبد الله التقديم، رفعته بالابتداء كما قال: والدليل على ذلك أنك تقول: في داره عبد الله، وفي بيته يؤتى الحكم، أضمرت لأنك أردت التقديم وأضمرت فيه التأخير، وكذلك حيث قلت: في الدار عبد الله، أضمرت في قولك: /64/ في الدار) اسما مرفوعا يرجع إلى عبد الله، لأنه خبره فلا يكون خبره ولا صفته إلا شيئا هو هو أو فيه ما يرجع إليه، ألا ترى أنك تقول: رأيت رجلا في الدار، فيكون (في الدار) وصفا لـ (رجل)، وتقول: زيد في الدار، فيكون خبرا عن زيد، وإن لم ترد بزيد التقديم كان رفع زيد بقولك: في الدار، لأن معناه استقر وحل محل المضمر، فرفعه ما كان يرفع المضمر. وأما قوله: إن في الدار زيدا، فإنما هذا على مذهب من جعل في قوله: (في الدار) ضميرا كما وصفت لك، فإن لم تفعل فينبغي أن تقول: إنه في الدار زيد، فترفع زيدا بقولك: في الدار، وتشغل (إن) بضمير شيء هو القصة كما تقول: إنه قام زيد، "وأنه تعالى جد ربنا" وهذا قول أبي الحسن الأخفش الذي لا يجوز غيره، وأنشد عمارة

لنفسه حين اضطر: كأنهن الفتيات اللعس كأن في أظلالهن الشمس رفع الشمس بالظرف، وأراد في كأن الهاء كما أجاز الخليل: إن زيدا ضربت في الضرورة، فتنصب زيدا بضربت، وتضمر في (إن) الهاء. وأما أبو عثمان المازني فيقول: إن الظروف ترفع المضمر ولا ترفع الظاهر، وهذا قول مرغوب عنه، لأن العوامل إنما وقوعها على المضمر من حيث تقع على المظهر. قال أحمد [بن محمد] هذه مسألة فيها خلاف بين أهل الكوفة والبصرة، وقد خالف الأخفش فيها "أيضا" سيبويه، وهي تقتضي الكلام في بعض أحوال العربية ومبانيها لينكشف وجه الصواب فيها. فأما الأخفش ومحمد فقد وافقا سيبويه في جواز الرفع بالابتداء إذا قلت: في الدار زيد، وادعيا جواز الرفع بالظرف وجعلا هذا وجها ثانيا في المسألة، فيقال لمن ادعى ذلك، خبرنا عن هذه العوامل التي جعلتها العرب توجب وجوب الإعراب كالفعل وما يبنى منه واشتق وشبه به، وإن وأسماء العدد، وحروف الجر، وعوامل الأفعال الجازمة والناصبة، من أين علم النحويون علل هذه الضروب من الإعراب؟ والعرب لم تخبرنا عن ضمائرها ولا أنبأتنا عن إرادتها. فإذا قال: علمنا /65/ ذلك من جهة الاستقراء لكلامها والمراعاة لألفاظها، فلما رأيناها تأتي بعد كل عامل من هذه العوامل بنوع من الإعراب تلزمه معه وجها واحدا وصورة لا تتغير مع ذلك العامل، علمنا أنه الموجب لذل الضرب من الإعراب، وهذا من أكبر أصول النحويون في استخراج العلل التي تجمع هذه الأشياء قطعة قطعة، وتحيط بها بابا بابا.

قيل له: فهل يجوز أن يدخل بعض هذه العوامل الملفوظ بها على بعض؟ فإذا قال: لا، قيل له: فمن أين علمت أن ذلك لا يجوز؟ فإذا قال: من جهة أنها استقرئت في كلام العرب فلم يوجد ذلك في شيء من كلامها، قيل له: فإذا رفعت الاسم بالظرف فقد نقضت ما قدمته من هذه الأصول المجتمع عليها، وذلك أنك زعمت أنا إنما نعلم أن العامل هو علة للإعراب الواقع في المعمول فيه إذا ألزم في الكلام وجها واحدا مع عامله، ولسنا نرى الاسم مع الظرف يلزم وجها واحدا، لأنا نجده مرفوعا مرة ومنصوبا أخرى في التقديم والتأخير جميعا، ألا ترى أنك تقول: في الدار أخوك، وإن في الدار أخاك، وأخوك في الدار وإن أخاك في لدار، فلا أرى الظرف ألزمه وجها واحدا فيعلم أنه العامل فيه من حيث علمنا سائر العوامل، فأعطيت العوامل وصفا واحدا رفعته عنها ها هنا بجعلك الظرف عاملا وهو بغير ذلك الوصف، ونفيت عن العوامل أيضا وصفا آخر، وهو أنه لا يدخل عامل على عامل، ثم أوجبت لها هذا الوصف المنفي عنها هناك بجعلك الظرف عاملا وإدخالك (إن) والعامل عليه، فنقضت الوصفين جميعا، وأوجبت من أوصاف العوامل ما كان منفيا ونفيت ما كان موجبا، وهذا فساد لمباني الصناعة وأصولها، وهذا الإلزام بعينه يلزم من زعم أن المبتدأ يرتفع بالخبر والخبر بالمبتدأ، وذلك أنهما عاملا لفظ فيما يزعم أهل الكوفة، فينبغي أن "لا" يلحقهما شيء من العوامل نحو أن والفعل وغير ذلك، إذ /66/ ليس يدخل عامل على عامل، (لأنا قد نرى) خذا الخبر الذي كان مرفوعا بالمبتدأ على ما قالوا منصوبا، ورافعه في الكلام موجود، ألا ترى أنك تقول: زيد قائم، فإن كان زيد هو الرافع لقائم فينبغي ألا تقول: كان زيد قائما، ونحن إنما نعلم أن زيدا هو الرافع لقائم إذا ألزم قائما الرفع مع وجود زيد معه، وإلا فمن أين يعلم ذلك والعرب لم تخبرنا باعتقادها فيه، وإنما دلنا عليه الاستقراء، وهذا ظن لا دليل معه وتحكم لا حجة تصحبه.

فأما ما ذهب إليه سيبويه فعلى الأصول المجمع عليها، وذلك أنه يرفع بالابتداء، والابتداء معنى وليس بلفظ، فيكون قد أدخل عاملا على عامل مثله، ويكونان معا موجودين، فلا يلزمه ما لزم هؤلاء، وإذا أتيت بعامل لفظ فقد ارتفع بالابتداء، وهو قوله: (ولا تصل إلى الابتداء مع ما ذكرت لك). ومع هذا فإنا لا نجد في كلامهم "أبدا" مبتدأ مرفوعا، فقد نجد مع قائم زيدا وهو غير مرفوع بالوصف الذي يوجب أن يكون الشيء عاملا، هو لازم للابتداء وليس بلازم لزيد ولا قائم، لأنك تجد زيدا وقائما وهما مرفوعان ومنصوبان، وأحدهما مرفوع والآخر منصوب، فلو كانا هما العلة في رفع كل واحد منهما لصاحبه لما وجدا إلا وإعرابهما كذلك، وإنما وقع الخلاف بين البصريين والكوفيين في المبتدأ وفي الفعل المضارع لعدم عوامل اللفظ فسلك الكوفيون طريق الظن ولزم البصريون الأصول، وإلا فما يختلفون في أكثر عوامل اللفظ، ألا ترى أنهم لا يختلفون في باب إن ولا كان ولا الفعل ولا اسم الفاعل ولا المصدر ولا أسماء العدد ولا حروف الجر ولا عوامل الجزم والنصب في الأفعال، وهم مجتمعون على هذه، وإنما يختلفون فيها في فرع أو عبارة أو مسألة مركبة، وهذه التي عددناها هي العوامل المتفق عليها، ولو كان المبتدأ يرفع الخبر كما ذكروا لكان زيد وعمرو وما أشبههما من العوامل، وكانت الأسماء كلها كذلك عاملة /67/ ومعمولا فيها، ولو كان هذا إنما يعمل فيه لما ينساغ للإنسان من القول دون ما توجبه الأصول ولغة القوم لانساغ لنا أن نقول: إن الفعل يعمل في الفعل، فنعتقد في: جاء زيد يسرع، وكان عمرو يذهب، أن يذهب ويسرع مرفوعان بالفعل الأول، ولا يلتفت إلى ما يدخل عليهما من العوامل بعد ذلك.

وأما ما تعلق به محمد بن يزيد من الضمير الذي يتضمنه معنى الظرف فنقول: نرفع زيدا بما كنا نرفع به ضميره إذا تأخر الظرف، فالضمير ها هنا إنما "هو" متعلق بفعل دل عليه المعنى، وذلك أن الظروف فيها معنى في ومن أشبههما من حروف الجر، فلا تكون إلا متشبثة بفعل ملفوظ [به] أو متشبثة بمعناه وإن لم يلفظ به. فإن قال: أرفع الاسم بالفعل الذي رفع الضمير في المعنى، قيل له: لا يجوز ذلك، من أجل أن الظرف إنما هو دليل على الفعل، من أجل أنه مفعول فيه، وليس لفظه مبنيا على الفعل ولا مشتقا منه كضارب وحسن، ونحن إذا قدمنا ضاربنا وهو جار على الفعل محتمل للضمير مثنى تثنية الاسم مجموع بجمعه، لم يكن الوجه فيه إذا قدمناه في قولنا: قائم زيد، أن نرفع زيدا به إلا أن يكون قبله ما يعتمد عليه، وإذا كان الفعل بهذا ضعيفا وهو جار على الفعل ومشتق منه كان أجدر ألا يجوز فيما ليس جاريا على الفعل ولا مشتقا منه، وهو أيضا فلا يجوز على مذهبه إذا قال: خير منك زيد، أن ترفع زيدا بخير وفي خير ضمير وإنما ينوي به التأخير، تريد زيدذ خير منك، فخير مشتق من الفعل، وهذا لا يجوز فيه، فما لم يكن مشتقا كان أحرى بألا يجوز. وأما البيت الذي (استشهد به) من شعر عمارة: "كأن في أظلالهن الشمس" فهو ضعيف، وتأويله على مذهب سيبويه فيما يجوز في الشعر سهل، وهو أن يجعل الضمير من كأن محذوفا وتقديره كأنه في أظلالهن "الشمس"، وتحذف الهاء وتكون الشمس مرفوعة بالابتداء وهذا منساغ في

الشعر، (وجاء أمثاله). مسألة [50] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب من المعرفة يكون /68/ الاسم الخاص فيه شائعا في الأمة، زعم أن قولهم لضرب من الكمأة: هذا نبات أوبر، معرفة، وإنما حجته في تعريف هذا الضرب وتنكيره ترك صرف ما ينصرف منه في النكرة ولا ينصرف في المعرفة، فإذا رآه لا ينصرف علم أنه "يراد به" المعرفة، لأنه لو كان نكرة انصرف، أو يراه منع من حرفي التعريف فعلم أنه لو كان نكرة دخلا عليه كما دخلا على ابن المخاض وابن اللبون، فأما بنات أوبر فلا دليل فيه بترك صرفه، لأن أوبر أفعل الذي هو صفة، وهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، وقد دخل عليه حرفا التعريف فدلا على أنه كان قبل دخولهما نكرة، قال: ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر فأما الأصمعي فزعم أنهم أدخلوا الألف واللام مضطرين، وذهب إلى مثل ما قاله سيبويه أنه معرفة ولكنهم اضطروا كما اضطر الذي قال: باعد أم العمرو من أسيرها

فهذا بمنزلة الحارث والعباس، يجريه كما كان صفة وما أرى بهذا بأسا. قال أحمد: أما قوله: إن بنات الأوبر لا دليل فيه بترك الصرف، لأن أوبر أفعل الذي هو صفة، وهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فلم ينسبه إلى سيبويه في بنات أوبر على أنه معرفة بترك الصرف، ولكنه وجده في كلام العرب الفصحاء بغير ألف ولام، وإنما دخلت فيه الألف واللام في الشعر، فلما رآه ممتنعا من الألف واللام في معظم كلامهم وعند الفصحاء منهم حكم عليه بأنه معرفة، إذ كان ذلك أحد دليليه في الباب وهو الامتناع من الصرف فيما ينصرف مثلا في النكرة، والامتناع من الألف واللام، والدليل على إرادته هذا الوجه الأخير قوله بعد ذلك في آخر الباب: (وقال ناس: كل ابن أفعل معرفة لأنه لا ينصرف، وهذا خطأ لأن أفعل لا ينصرف وهو نكرة، ألا ترى أنك تقول: هذا أحمر قمد، فترفعه إذا جعلته صفة لأحمر، ولو كان معرفة كان نصبا) فقد أنكر على هؤلاء إذ أحتجوا بالامتناع من الصرف في كل موضع، لأن بعض /69/ النكرات قد لا ينصرف لأنه صفة، وقد رد عليه أيضا محمد بن يزيد "هذه" العبارة. مسألة [51] ومن ذلك قوله في هذا الباب: وكل أفعل نكرة، وأما قولهم: إنه معرفة لأنه لا ينصرف فليس بشيء، لأن أفعل لا ينصرف في النكرة.

قال محمد: أما قصده فمصيب، ولكن الكلام على غير استواء إنما ينبغي أن يقول: ما كان منه غير وصف أو كان مثالا انصرف في النكرة، وما كان وصفا لم ينصرف وإن كان نكرة كما قال: كأنا على أولاد أحقب لاحها ... ورمي السفا أنفاسها بسهام جنوب ذوت عنها التناهي وأنزلت ... بها يوم ذباب السبيب صيام قال أحمد: أما قوله: إنه كان ينبغي أن يقول: ما كان منه غير وصف أو كان مثالا انصرف في النكرة، فهذا على الحقيقة غير مستو، لأنه لا معنى لذكر المثال في باب بنات أوبر، وإنما يذكر هذا المثال في باب ما ينصرف وما لا ينصرف من الأمثلة، وليس له ها هنا حقيقة موضع، وإنما يذكر في هذا الباب أسماء غير أمثلة، والأمثلة تذكر هناك، والقول المصيب في اللفظ والمعنى ما قال سيبويه، لأن القوم الذين رد عليهم إنما ادعوا أن ابن افعل في هذا الباب على الإطلاق والعموم معرفة لأنه لا ينصرف، فقال سيبويه رادا عليهم: هذا خطأ لأن أفعل قد لا ينصرف وهو نكرة، فجعل استدلالهم على أنه معرفة بترك الصرف خطأ من أجل أن أفعل قد يقع في الكلام نكرة وهو لا ينصرف، يعني إذا كان وصفا، فأي فساد في هذا اللفظ؟ مسألة [52] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب [ما] ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده، زعم أنه يقول: هذا قائما رجل، فينصب قائما على الحال لأنه لا يجوز أن يجعل رجلا صفة لقائم، فينصب على جواز هذا رجل قائما، إلا أنه الوجه لما قدمه، وكذلك فيها قائما رجل، وصدق هذا القياس ولكنه أجاز مع هذا أن تقول: هو قائما رجل، وهذا محال،

وقد ناقض فيه، لأنه لا يجوز هو رجل قائما وهو يرد هذا وجميع الناس. قال أحمد: لم أره جعل بين الرد /70/ وبين كلام صاحبه غير زيادة حرف النفي، وذل أنه قال: لا يجوز، فزاد (ولا) فقط، ولم يبين من أين امتنع ذلك، وأدعى أن سيبويه يرد قول نفسه وجميع الناس كذلك، وليس الأمر كما قال وبيان ذلك أن الكوفيين بأسرهم يجيزون هذا الباب، ولا يفرقونه، وإنما سيبويه حكى عن الخليل في المعارف إذا وقعت بعد المضمرات في مثل قولك: هو زيد منطلق أنه لا يجوز، وليس هذا من ذلك، لأنه ليس كل الناس يعرف زيدا، إنما يعرفه بعض ويجهله بعض، وليس رجل كذلك، وما أشبهه من النكرات، وإنما صار الكلام محالا في زيد ونظائره، لأنك إذا قلت هو زيد [قائما] فإنما تعرف المخاطب في نفسه إذا كان لا يعرفه إذا حل عندك محل من لا يعرفه، ولم ترد تنبيهه على فعل من أفعاله أو وصف من أوصافه، ولم يجز أن تأتي بالحال وأنت تريد هذا المعنى. ولو أتيت بالحال وأنت تريد هذا المعنى لعرفته في نفسه فقلت: هو زيد منطلقا، لكنت كأنك قلت: هو زيد في هذه الحال، فأوهمت أنه ليس زيدا، إذ لم يكن مبهما، فإذا قلت: أخبر أنه زيد وأنه منطلق بالرفع في منطلق إذا أردت ذلك، لأنك جعلته خبرا ثانيا أو مبنيا على مبتدأ محذوف فتقول: هو زيد منطلق، أعلمت أنه زيد وأنه منطلق وهذا جائز، وإذا قلت: هذا زيد منطلقا، فإنما تنبهه على زيد وقد تقدمت معرفة المخاطب به، كأنك قلت: هذا الذي تعرف منطلقا، ولم ترد أن تفيده زيدا، ولو أردت ذلك لكان سبيله في

رفع منطلق سبيل المسألة الأولى، وسبيل رجل كسبيل زيد مع هذا إذا قلت: هو رجل يفعل كذا وفاعل كذا، فلم ترد أن تفيده رجلا وإنما أردت أن تفيده فعله، فجاز أن تصف به الأول وأن تجعله حالا، ولا فرق بين قولك: هذا رجل صالح وهو رجل صالح في هذا المعنى الذي ذكرناه لأن الرجل معلوم عند المخاطب في المسألتين وإنما أفدته الصلاح، فإن شئت جعلت صالحا نعتا، وإن شئت حالا، لأن معنى الكلام لا يستحيل كما يستحيل في قولك: هو عمرو منطلقا إذا أردت أن تعرفه عمرا وهو لا يعرفه. وسألت أبا إسحاق عن هذه المسألة فأجاب بأنها لا تجوز /71/ إلا "على" أن تجعل رجلا في معنى الرجلة وفي الشجاعة، وهذا الذي ذهب إليه قد جاء به سيبويه في المعرفة لأنه قال: "إذا قال" الرجل: أنا فلان وهو يريد الافتخار حسنت الحال بعده، وكذلك إذا قال: أنا عبد الله وهو يريد التذلل والتصغير لشأنه قال بعده: آكلا كما يأكل العبيد وهذا التأويل منساغ في المعرفة والنكرة. مسألة [53] قال: ومما أصبناه في التاسع من ذلك في باب الابتداء: (واعلم أن المبتدأ لابد له من أن يكون المبنى عليه شيئا هو هو أو يكون في زمان أو مكان) وأنت قد تقول: زيد ضربته والفعل خير عنه وليس به ولا هو من الزمان والمكان، وكذلك إذا قلت: زيد عمرو

ضارب أباه، وزيد أبوه منطلق، وإنما كان ينبغي أن يقول: لابد من أن يكون المبني عليه شيئا هو هو أو شيئا فيه ذكره، فيجمع هذا أجمع. قال أحمد: أما اعتراضه بقوله: زيد ضربته وأنه خارج عن هذا، فهو شيء "قد" ابتدأ به في صدر كتابه، واستغنى عن إعادته هنا، وجعله في باب الفاعل والمفعول به لأن الابتداء عارض فيه، ألا ترى أنك، إذا قلت: زيد ضربته، جاز النصب في زيد وإن شغلت عنه الفعل، لأنه في المعنى مفعول به على كل حال وإن كان مبتدأ، ألا ترى أنك لو أتيت بالحروف والمعاني التي هي بالفعل أولى لكان النصب أجود، وذلك في الاستفهام والأمر والنهي والنفي، وإنما تعلق بظاهر كلامه لأنه أجرى الكلام في ظاهره على العموم وهو يريد التخصيص، وذلك أنه قال: إن المبتدأ لابد أن يكون المبني عليه شيئا هو هو، وإنما أراد المبتدأ المحض الذي يكون الخبر عنه شيئا واحدا لا جملة، وليس هذا يعيبه في الكلام، لأنه كثير في كلام العرب، وقد جاء في القرآن العام في موضع الخاص والخاص في موضع العام، ومن العجب أنه رد هذا النوع من الكلام بمثله ودخل فيه، وذلك أنه لما قال: وإنما كان ينبغي أن يقول: لابد من أن يكون المبني عليه شيئا هو هو أو شيئا فيه ذكره فيقال له: فهل يجوز أن تقول: زيد أبوه، لأن فيه ذكره؟ فإذا قال: لا يجوز ذلك، لأن أباه ليست جملة /72/ يتم بها الكلام، قيل له: فقد كان ينبغي أن تزيد هذا في وصف كلامك وتخصصه فتقول: لابد من أن يكون المبني عليه شيئا هو هو أو شيئا فيه ذكره مما يتم كلاما، فإذا قلت هذا فقد بقي عليك بعد ما يصحح الكلام بأن يقال: فنحن نقول: زيد عندك، وليس في عندك ذكر لزيد، فإن قال: هو في المعنى وإن لم يكن ملفوظا به، قيل: فعندك لا

تتم وحدها كلاما، فقد صار في عند أحد المعنيين، وهو أن فيها ذكرا وليس فيها المعنى الآخر، وهو أن يكون كلاما [تاما]، فإذا قال أي الوجهين شاء فسد عليه لفظه، وليس بصحيح غير ما قال سيبويه، وقد أتى بمسائل عدة ردها على هذا النحو في العموم والخصوص، وهو ضعيف جدا، فيه تجامل، ويتلو هذه المسألة مسائل ذهب فيها إلى هذا المعنى، ونحن ذاكروها إن شاء الله. مسألة [54] [قال]: ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما يكون محمولا على إن فشارك فيه الاسم الذي وليها ويكون محمولا على الابتداء قال: ولكن المثقلة في جميع الكلام بمنزلة إن. قال محمد: فلو قال: في العطف والابتداء والقطع لم ينكر، ولكنه قال: في جميع الكلام وليس كما قال: لأن اللام تدخل في خبر إن ولا تدخل في خبر لكن، وذلك [قولك: إن زيدا لمنطلق، ولا يجوز لكن زيدا لمنطلق، وذلك] أن معنى إن الابتداء من غير تقدمة كلام، واللام للقسم، فإذا قلت: والله لزيد خير منك، قلت: والله إن زيدا لخير منك، ولكن إنما توجب بها بعد النفي، يقول القائل، ما زيد أخاك فتقول: لكن عمرا أبوك، ولا يجوز والله لكن عمرا لقائم، لأن اللام لام الابتداء على غير مقدمة، ولكن لا تكون إلا بعد كلام. قال أحمد: في هذه المسألة جوابان: أحدهما يشبه الجواب الذي في المسألة الأولى من

العموم والخصوص، فيكون أراد بقوله: في جميع الكلام، أي: في جميع الكلام الذي نحن في ذكره ووصفه، وهو العطف والقطع والابتداء، لأنه قال هذا بعقب المسائل في هذا الكلام وإياه عني، الجواب الآخر أن يكون أراد بقوله: إن لكن المثقلة في جميع الكلام بمنزلة إن، أي: بمنزلتها ومعناها /73/ في الإيجاب، لأن ليت ولعل وأخوات إن يفارقنها في الإيجاب، وهذه موافقة لها في الإيجاب في جميع الكلام، يعني أنها يوجب بها كما يوجب بإن، فاتفقا في معنى الإيجاب فقط. وأما قوله: إن لكن إنما يوجب بها بعد كلام متقدم فليس ذلك بمخرج لها من معنى الإيجاب الذي وافقت به إن، ولا يجوز اللام في جواب إن لفرق بينهما في الإيجاب أيضا. مسألة [55] قال: ومما أصبناه في العاشر من ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة، قال: وقال الخليل: إن من أفضلهم كان زيدا، على إلغاء كان، وشبهه بقول الفرزدق: فكيف إذا رأيت دبار قومي ... وجيران لنا كانوا كرام قال محمد: ولا حجة له في هذا البيت، لأنه يجوز أن يكون (لنا) خبر كان، [كأنه] قال: وجيران كانوا لنا كرام.

مسألة [56]

قال أحمد: إذا كانت (لنا) من صلة جيران معلقة بها فليس يجوز أن يكون خبرا لكان، مثال ذلك أنك لو قلت: مررت برجل راغب فينا كان، لم يجز أن تجعل فينا وهو معلق براغب خبرا عن كان، وكذلك مررت برجل نازل علينا كان [فإن جعلت علينا، وفينا، ولنا خبرا عن كان] فهو سوى ذلك المعنى، ولم تكن الرغبة فينا، ولا النزول علينا، ولا المجاورة لنا، وكأنك قلت: مررت برجل راغب ولا تذكر فيمن رغب، ثم قلت: كان فينا كما تقول: كان معنا، وكذلك نازل وما أشبهه مما يقتضي حرفا من الحروف، وكأنه قال في البيت: وجيران، ولم يبين لمن هم جيران، ثم قال: كانوا لنا، أي: كانوا نملكهم، وهذا المعنى غير ما ذهب إليه الشاعر، وهو متكلف. مسألة [56] قال: ومن ذلك قوله في باب نعم: هذا باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمرا لأنهم شرطوا التفسير ثم قال في موضع آخر من هذا الباب: (ولا يكون في موضع الإضمار مظهر) ثم نقض جميع ذلك بقوله في هذا الباب: (وأما قولهم: نعم الرجل زيد، فهو بمنزلة قولهم: ] ذهب أخوه زيد، عمل نعم في الرجل ولم يعمل في عبد الله، وإذا قال عبد الله نعم الرجل فهو بمنزلة عبد الله ذهب أخوه .. فنعم تكون مرة عاملة في مضمر يفسره ما بعده /74/ .. وتكون مرة أخرى تعمل في مظهر لا تجاوزه) وهذا الذي حكيناه عنه أقبح ما يكون من النقض، إذ زعم أنها لا تعمل إلا [في] مضمر، ثم أطلق لها الإعمال في المظهر، وإنما كان حد [هذا] الكلام أن يقول: هذا باب ما يقع ثناء عاما ويعمل في مضمر على شريطة التفسير، أو مظهر يحتاج إلى تسمية من يعني به وجرى هذا المظهر مجرى المضمر في الاحتياج إلى المعنى بالمدح والذم، وذلك أنك إذا قلت: نعم رجلا عبد الله، ففي نعم

ضمير ورجل تفسير، كأنك قلت: محمود من الرجال أو في الرجال بقولك: نعم رجلا، فإذا قلت: عبد الله، أوضحت من تعني بالمدح <أو الذم> وإنما احتجت إلى ذكرك رجلا بعد نعم لأن نعم مبهمة تقع على كل شيء فإذا قلت: رجلا أو دابة أو دارا، أوضحت النوع الذي كان ممدوحك <أو مذمومك> منه، وكذلك إذا قلت: نعم الرجل وبئس الرجل، احتجت إلى أن تقول: زيد أو ما أشبهه، وكان الرجل غير مخصوص ولكنه واحد من جنس يدل على جميع جنسه بديًّا حتى تختص ذكر من إليه تقصد لأن معناه من الرجال وهو قولك: أهلك الناس الدينار والدرهم، وكثر الشاة والبعير، أي: هذا النوع، وفلان يملك العبد الفاره أبدا والدابة الجواد، ومن ذلك قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} ثم قال جل وعز: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ومن [ذلك] قولك: رأيت الأسد، لست تعني أسدا بعينه ولكنك تقول: الواحد من النوع الذي سمعت به. قال أحمد: لو تأمل محمد هذا الفصل الذي حكاه عن سيبويه لأغناه عن الرد عليه، وهو قوله (فنعم تكون مرة عاملة في مضمر يفسره ما بعده وتكون مرة أخرى تعمل في مظهر لا تجاوزه)، فلو أنعم النظر في هذا الفصل لعلم أنه لم يناقض كما ذكر، وإنما اشتبه عليه قوله في موضع: إنها لا تعمل في المعروف إلا مضمرا، ثم ذكر أنها تعمل في المظهر في قولك: نعم الرجل عبد الله، وهذا الموضع غير ذلك الموضع لأنك إذا عديتها إلى نكرة تبين بها الضعف في قولك: نعم رجلا عبد الله، فلا يجوز في هذا البتة أن تعمل في المعروف إلا مضمرا، ألا ترى أنك لو أتيت مع رجل /75/ باسم فيه الألف واللام لم يجز، وإذا قلت: نعم الرجل عبد الله لم تجاوز الرجل إلى نكرة منصوبة، فهذا تأويل قوله: وتكون مرة أخرى تعمل في مظهر لا تجاوزه، أي: لا تجاوزه إلى منصوب، فالمنصوب لا يكون معه إلا المضمر،

مسألة [57]

والمظهر لا يكون معه منصوب، فقوله في ذلك الوجه، إنها لا تعمل في المعروف إلا مضمرا حق وليس عملها في موضع آخر في المظهر بناقض لذلك [القول] لأنهما موضعان، ومسألتان، ولو كانا موضعا واحدا أو في مسألة واحدة لكان الكلام متناقضا. وأما حكايته عنه في الرد أنه زعم أنها لا تعمل أبدا إلا في مضمر فليس هذا في نص قوله الذي صدر به الباب، على أنه لو قال ذلك لكان له وجه حسن يرجع إلى ما قلنا، فكأنه أراد أنه لا يعمل مع تعديها إلى النكرة أبدا إلا في مضمر، فهو صحيح على هذا المعنى لو قاله. وجملة القول في ذلك أن الموضع الذي تعمل فيه المظهر غير الموضع الذي لا تعمل فيه إلا في مضمر، والفصل الذي حكيناه عنه هو شاهد لما احتججنا به له، ومن قوله نعبِّر عنه ونحتج له، لأنه لما رأيناه قال: فنعم تكون مرة عاملة في مضمر يفسره ما بعده وتكون مرة أخرى تعمل فيها هو مظهر لا تجاوزه، علمنا بذلك أنه جعل لها وجهين في الكلام، وجها تتجاوز فيه إلى المفسر، ووجها لا تتجاوز المظهر فيه، فهي في أحد الوجهين عاملة في مضمر، ولا يجوز في تلك الحال أن تعمل في مظهر، وذلك إذا كان معها المفسر المنصوب، وإذا لم يكن معها عملت في المظهر، فهذان وجهان لها. مسألة [57] قال: ومن ذلك قوله في باب نعم، "قال": وإما أحد وأرم وكتيع وعريب وكراب وما أشبه ذلك فلا يقعن واجبات ولا حالا ولا استثناء). قال محمد: وهذا خطأ، لأنا نقول: قد جاءني كل أحد، ومررت اليوم بكل أحد من بني فلان، وإنما القول في أحد وما أشبهه أن تقول: لا يقعن إلا في موضع يقع فيه الجميع

والواحد الذي في معنى الجميع، تقول: كل أحد جاءني وكل الرجال، وما جاءني اليوم رجل، وما جاءني اليوم رجال والرجال، ولا تقول: عندي عشرون أحدا لأنك لا تقول: عندي عشرون رجالا /76/ على هذا الحد، ولو قلت: جاءني أول أحد منهم كان عندي جائزا، لأنك تقول: أول رجل وأول الرجال، وإنما كان لأحد هذا الموضع خاصة لأن له لفظ الواحد ومعنى الجميع، فلذلك كان موضعها الموضع الذي يجمع بين هذين المعنيين، فإن قيل: فرجل في قولك: عشرون رجل لفظه واحد ومعناه جمع، قلنا: إن رجلا إنما كان كذلك لأنه وقع بعد عشرين، ولولا ما قبله لم يجاوز الواحد، ألا ترى أنك تقول: ضربت رجلا وكلمني رجل، فيكون المعنى واقعا على واحد في العدد، وقد ذكر سيبويه مثل ذلك في الجزء الأول في قوله: أتاني رجل، فيقول المجيب: ما أتاك رجل، مما يغني عن إعادته. قال أحمد: قد تقدم ذكر هذه المسألة، وهي ها هنا مكررة، لأن سيبويه أعاد ذكرها بشيء اقتضى ذلك، فأعاد محمد الرد، وقد أوضحناها بما فيه كفاية، غير أنا نذكر ها هنا نبذا من القول لمن جاء به لم يكن تقدم، زعم أن أحدا إنما يقع في موضع يكون مشتركا للواحد والجميع، ولو كان الأمر على ما زعم لجاز أن تقول: زيد أفضل أحد، لأنك تقول: زيد أفضل رجل، وأفضل الرجال، وهذا ما لا يجوز ولا ينساغ، وأما قوله: إنه يجوز أتاني كل أحد، ومررت "اليوم" بكل أحد، فقد مضى القول والجواب على ذلك مستقصى فيما تقدم. مسألة [58] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب لا يكون الوصف المفرد فيه إلا رفعا، قال: (وتقول: يا أيها الرجل زيد أقبل، وإنما نونت لأنه موضع يرتفع فيه المضاف، وإنما يحذف

التنوين إذا كان في موضع ينصب فيه المضاف.) قال محمد: وقد ناقض، لأنه يقول: يا هذا زيد أقبل وزيدا على اللفظ وعلى الموضع فينون، وهذا موضع لا يقع فيه المضاف إلا نصبا، لا تقول إلا: يا هذا ذا المال أقبل، على ندائين، وقد كان قال في أول [باب] النداء: أقول: يا زيد الطويل والطويل على الموضع، والرفع فعلى أن زيدا وما أشبهه قد اطرد فيه النداء وصار بمنزلة ما يرفعه الفعل والابتداء ونحو ذلك. قيل: فلم لا تقول: يا زيد ذو الجمة؟ قال: من قبل أن ذا الجمة /77/ لو وقع موقع زيد لم يكن إلا نصبا، والطويل لو كان منادي كان كزيد، فجعل هذا أصل هذا، ثم قال في الباب الذي بعده: وهو الذي ذكرناه فوق هذا الفصل: (وتقول: يا زيد الحسن الوجه والحسن، ولا تلتفت فيه إلى الطول، لأنك لا تستطيع أن تناديه فتجعله وصفا مثله منادى)، وهذا نقض لذلك، وقد فسر في غير هذا الدفتر. قال أحمد: أما قول سيبويه في يا أيها الرجل زيد: إن زيدا منون لأنه في موضع يرتفع فيه المضاف، فليس يخالف محمد ولا غيره فيه، وإنما ألزمه على هذا القول "أن" لا ينون في الموضع الذي ينتصب فيه المضاف، إذ عارضه بقوله في موضع آخر: يا هذا زيد،

وهو يقول: يا هذا ذا الجمة، فينصب على النعت، لأن هذا لا ينعت بالمضاف، وليس يلزمه ذلك، لأنا إذا قلنا: إن الاسم المفرد يكون منونا في هذا الموضع على كل حال، لم يلزمنا بهذا القول أن نترك التنوين إذا كان في غير ذلك الموضع على كل حال، ولكن يحتمل إذا كان في غير ذلك الموضع أن ينصرف في أحوال يكون "في" بعضها منونا وفي بعضها غير منون، وإذا كان هذا كذا فقد اختلف الموضعان، فتنوين المفرد في الموضع الذي يرتفع فيه المضاف واجب مطرد متفق عليه، وليس حذفه في الموضع الذي ينتصب فيه المضاف مطردا، بل قد يحذف التنوين في حال ويثبت في أخرى، ألا ترى أن سيبويه يروي هذا البيت على وجوه: إني وأسطار سطرن سطرا لقائل يا نصر نصر نصرا ونصرا نصرا، وزعم أن بعضهم ينشد: ........ يا نصر نصر نصرا فيرفع الثاني وينونه، ومرة يدع التنوين فيه، وهذا موضع ينتصب فيه المضاف، فلم يكن حذف التنوين لازما في الموضع الذي يرتفع فيه المضاف، وقد قال سيبويه في غير هذا الفصل: وإنما يجوز في موضع ينتصب فيه المضاف، أي: إنما يجوز الحذف في هذا الموضوع وغير الحذف أيضا جائز، وكذلك إذا قال: يا هذا زيد، وهو ينوي الوقوف على هذا، فإن شاء رفع زيدا بتنوين وبغير تنوين، وأن شاء نصبه منونا. فأما قول محمد: "إن" /78/ يا هذا ذا المال على ندائين، فقد أكد به الحجة لسيبويه وأفسد المعارضة عليه، لأنه إذا كان على نداءين فقد صار على كلامين وليس أحدهما

محمولا على الآخر، ولا موضع زيد في قولك: يا هذا زيد بموضع يقع فيه المضاف، لأنه يقدر فيه المضاف منادى آخر، وليس من الأول ولا محمولا عليه، وإنما كل واحد منهما منادى على حياله، وإذا كان كذا فليس بمشبه لقولنا: يا أيها الرجل زيد، لأن زيدا محمول على الرجل، ويا أيها الرجل ذو الجمة نعت للرجل، وهما جميعا من الكلام الأول، وإذا قلت: يا هذا ذا الجمة وذو الجمة محمول على عطف البيان عند سيبويه، والمعارضة على أن يكون على نداءين متناقضة لا وجه لها لما ذكرنا. وأما قوله في المسألة الأخرى: إنه زعم في يا زيد ذا الجمة أن المضاف انتصب لأنه لو وقع موقع المفرد لم يكن إلا نصبا فهذا إلى هذا الموضع من كلام سيبويه صحيح متفق عليه، وزاد محمد متأولا والطويل لو كان مثله كان كزيد، فهذا ليس من كلام سيبويه وإنما جاء به على التأويل والظن فاتجه له الكلام وليس ينساغ، أما أن تجعل الطويل في موضع المفرد فتقول: يا ذا الجمة كما تقول: يا زيد، ولا تقول: يا الطويل كما قلنا، وكيف نقدر فيه ذلك ونحن إذا قلنا: يا زيد الطويل جاز لنا فيه وجهان: الرفع والنصب، وكذلك يا زيد الحسن الوجه، يرفع الحسن ولا يلتفت إلى الطويل، لأنك لا تستطيع أن تناديه فتجعل إعرابه في الوصف كإعرابه وهو منادى، فنحن نستطيع إذا قلنا: يا زيد ذا الجمة أن تقول: يا ذا الجمة، فنناديه، ولا نقول: يا الحسن الوجه، ولا يا الطويل، وإنما جاء بالطويل معارضا ليجعله نظير الحسن الوجه: فلم جاز لك أن تحتج في الحسن الوجه بالامتناع من النداء، ولم تفعل ذلك في الطويل وما أشبهه، ومجراهما واحد عند سيبويه ولم يفرق بينهما في هذا المعنى، وإنما ظن محمد ظنا وليس بنص. مسألة [59] قال: ولم نصب في الثاني عشر شيئا، ومما أصبناه في الثالث عشر ذكره في الثاني عشر أنك إذا أضفت غلاما إلى نفسك ثم ندبته فيمن قال: يا غلامي فأسكن الياء إنك تقول:

واغلامياه، /79/ فتحرك لالتقاء الساكنين، ثم قال في الثالث عشر في باب ترجمته: هذا باب تكون فيه ألف الندبة تابعة لما قبلها إن كان مكسورا فهي ياء وإن كان مضموما فهي واو، وذلك قولك: وأظهرهوه إذا أضفت الظهر إلى مذكر، وإنما جعلته واوا لتفصل بينها وبين المؤنث إذا قلت: واظهرهاه، ثم قاس ذلك في جميع هذا الباب فقال: وتقول واغلامكموه إذا عنيت الجماعة لتفصل بين ذلك وبين التثنية إذا قلت: واغلامكماه، وكذلك ما أشبه ذلك. مسألة [60] وقال في الباب الذي يلي هذا الباب: وإذا ندبت رجلا يسمى ضربوا قلت: واضربوه لتفصل بينه وبين رجل يسمى ضربا إذا قلت: واضرباه، وإنما تحذف الحرف الأول من هذا ومما قبله لأنه لا ينجزم حرفان. فيقال: قد علمت أن الياء بمنزلة الواو، وأنك تقول: غزوا للاثنين كما تقول: رميا، وتقول: لن يغزو للواحد كما تقول: لن يرمي، فإن كنت حيث قلت: يا غلامياه حركت الياء كما ذكرت لالتقاء الساكنين علما بأن حركتها لا تكون إلا فتحة، فقل: واظهرهواه، فحرك الواو لالتقاء الساكنين كما فعلت بالياء في يا غلامي، وقل: واضربواه في رجل يسمى ضربوا، فأما ضربا وظهرها فإن ألف هذا وما أشبهه يذهب كما يذهب ألف مثنى، فقد ترك قياسه في ضربوا وظهرهو.

والقول عندي في ذلك أن يقال: واو الجميع في غلامهموه وواو الإضمار في ظهرهو وواو ضربوا أصلها السكون، ولا يجوز أن تحرك إلا لالتقاء الساكنين، فتكون حركتها الضمة إذا انفتح ما قبلها "كما" في {اشتروا الضلالة} والكسر فيها جائز، وكذلك واو الواحد بالجواز فتنقلب ياء، فمن ثم يحركا وكانت الحركة ليس لها في الأصل، وكانت ألف الندبة زائدة، يجوز أن تخلو منها الكلمة فلذلك قلبت قبلها. وأما ياء غلامي فأصلها الفتحة، وإنما فتحت على أصلها، ألا ترى أنك تقول إن شئت: هذا غلامي قد جاء على الأصل كما قال الله عز وجل: {يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه} وكذلك حركتها بالفتح حيث سكن ما قبلها في قولك: هذا عنزي وهذه عصاي، فهذا فصل قوي بينها وبين واو الجمع [وإضمار الواحد. قال أحمد: هذا الفصل صحيح لا معدل عنه ولا جواب في هذا أحسن منه، ومع ما ذكر في الفصل بين ياء غلامي وواو الجميع]. / 80/ والواو التي تكون مع المضمر، أما لو حذفنا "الياء" من غلامي للندبة "لا" لالتقاء الساكنين لفتحت ألف الندبة ما قبلها والتبس المضاف بالمفرد، فكنا قد منعنا الياء حركة تحرك بها وتكون في الكلام لها، وحولنا حركة ما قبلها من الكسر إلى الفتح وأدخلنا في الكلام هذا اللبس. مسألة [61] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب الحروف التي ينبه بها المدعو، قال: ولا يجوز

أن تقول: هذا، ولا رجل، وأنت تريد يا، وذلك لأن الحرث الذي ينبه به لزم المبهم وصار كأنه بدل من (أي) حين حذفته فلم تقل: يا أيها الرجل ولا يا أيهذا، ولكنك تقول إن شئت: [من لا يزال] محسنا أقبل، لأنه لا يكون وصفا لأي. قال محمد: وهذا خطأ، لأن هذا اسم على حياله مبهم مثل أي، ورجل قد صار في النداء معرفة كغيره من المعارف، وليس ما تصف به إذا وضعته موضع الموصوف إلا بمنزلته نحو قولك: يا ذا الجمة أقبل كما تقول: عبد الله أقبل، فكيف الأسماء التي لا يجوز أن يوصف بها إلا المبهمة، ولكن القول في هذا لا يخلو من يا في النداء، لأنه اسم أصله أن يشير به الواحد إلى غيره، فلما ناديته ذهبت منه الإشارة فعوض التنبيه لما نقص، وهذا قول أبي عثمان. وأما رجل فإنه لما منع الألف واللام في النداء وهو معرفة عوض منها لزوم التنبيه كما كانت الهاء في زنادقة عوضا من الياء. وأما من لا يزال محسنا فإنه في النداء بصلته كما كان في سائر الكلام، فمن ثم لم يلزمه التنبيه لأنه لم ينقص فيعوض. قال أحمد بن محمد: قوله في هذا الاعتلال: إنه خطأ من أجل أن (من) اسم على حياله مبهم قول غير لازم، وذلك أن هذا أيضا اسم مبهم على حياله وقد وصفت به العرب أيا، وإنما أراد سيبويه أن من هذه الأسماء ما وصفت به العرب أيا وأجرته مجرى أي، ومنه ما لم تنعت به أيا فنعتت أيا بهذا فقالت: أيهذا الرجل ويا أيها الرجل، [فلما قالوا: يا

هذا، ويا رجل فكأنهم قالوا يا أي هذا ويا أي ها الرجل] لأنهما وصفان لأي، فأي كأنها موجودة إذا دعيا، فلما حذفت/ 81/ أي ألزموهما (يا) عوضا عن حذف أي، إلا أن سيبويه يجيز حذف (يا) من النكرة خاصة وإن كان ذلك ضعيفا عنده، ونحن نذكره بعد هذا الفصل. وإما الاعتلال الذي أتى به محمد بن يزيد عن المازني في أن (يا) إنما ألزمت هذا في النداء، لأنه اسم أصله أن يشير به الواحد إلى غيره، فلما ناديته ذهبت منه الإشارة، فعوض حذف التنبيه فخطأ، لأن باب النداء يحول الأسماء- أسماء الإشارة وغيرها- إلى الخطاب كتحويله أسماء الغيبة إلى المخاطبة إذا قلت: يا زيد، فلو كان التحويل عما عليه الاسم في الأصل إلى غيره يوجب له التعويض هاهنا لوجب ألا يحذف (يا) من اسم منادى البته، لأنها كلها قد تحولت إلى الخطاب وإن كانت في الأصل غير مخاطبة، والتعويض هاهنا من اللفظ "الذي" حذف أولى، أعني لفظ أي، وهو قول سيبويه، وإنما وقع الحذف من بعضها فعوض في الموضع الذي وقع الحذف، وأما التحويل إلى الخطاب فقام في الباب ولم تعوض منه العرب. وأما قوله في رجل: إنه لما منع الألف واللام في النداء عوض لزوم التنبيه، فمن قوله: "إن" يا رجل معناه يا أيها الرجل، وليست تدخله الألف واللام وهو منادى البتة، إنما تدخله وهو وصف لمنادى، والمنادى محذوف، فالتعويض منه أولى، لأن التعريف في النداء بغير ألف ولام وإنما هو بالإحساس، فكان التعويض مما يلفظ به في النداء ويحذف أعني أيا أولى من التعويض من شيء لا يكون في النداء مستعملا، وقد أدى عن معناه غيره كالألف واللام التي أدى عن معناها الاختصاص واستغنى عنها في النداء، فما الحاجة إلى التعويض من شيء لا يقع البتة وقد ناب عنه غيره وقام مقامه سواه؟

مسألة [62] ومن ذلك قوله في هذا الباب: (وقد يجوز حذف (يا) من النكرة نحو قوله: جاري لا تستنكري عذيري وقال: افتد مخنوق، وأصبح ليل، وأطرق كرا. قال محمد: قد أخطأ في هذا كله خطأ فاحشا، وذلك أن قولك: جاري لا تستنكري عذيري، جارية/ 82/ هنا معرفة، الدليل على ذلك الترخيم، ولو كانت نكرة لزمها في النداء والتنوين والنصب، فلم يجز ترخيمها في النكرة لأن المضاف لا يرخم في النداء، لأنه جاء على الأصل، وكذلك النكرة، ولو جاز ترخيمها في النكرة لجاز في غير النداء لأنه فيهما على الأصل، وقد وضع باب الترخيم ما فيه هاء التأنيث كله على أنه نكرة، وهذا خطأ، وتخطئته قول أبي عثمان، ويدل على ذلك أنه حذف (يا) من افتد مخنوق، وأصبح ليل، فضمهما، ولو كانا نكرتين نصبا ونونا. قال محمد: وقوله في باب الترخيم: يا شا ارجني، ويا ثب أقبلي، وما أشبه ذلك، إنما هو يا أيها الشاة، ويا أيتها الثبة، وما وضعه على النكرة خطأ لما ذكرت لك، فأصل الترخيم كله على ما وصفنا، فزعم أنه لا يرخم ما جاء على أصله في النداء، وقد قال:

ولا ترخم مضافا ولا اسما منونا. قال أحمد: أما تسميته هذا نكرة فصواب وليس بخطأ على ما ذكر، لأنه إنما يصير معرفة في حال ندائها إياه واختصاصه بذلك، وإلا فهو نكرة قبل النداء، فكأنه قال: وقد يجوز أن يحذف (يا) من النكرة إذا ناديتها، وإنما تصير هذه النكرة معرفة إذا اختصها بالنداء، وليست اسما غالبا مختصا قبل النداء كزيد وعمرو، لأن زيدا وما أشبهه معرفة قبل أن تناديه، وفي حال النداء كذلك. وأما قوله: إن يا شا ارجني على معنى يا أيتها الشاة فسيبويه ذكر ذلك وعنه أخذ هذا التفسير فإن سميناها نكرة فإنما أردنا أنها نكرة قبل أن تنادى، فإذا نوديت حدث لها التعريف بالنداء، فكأنه قال: إذا أردت أن تنادي اسما شائعا يقع على كل واحد من أمته ليس بمختص غالب وأردت اختصاصه بالنداء جاز لك فيه كذا وكذا، ولا أعرف لقوله: إنه أخطأ خطأ فاحشا معنى لأنه بين واضح. مسألة [63] قال: من ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب من الاختصاص يجري على ما جرى عليه في النداء، فيجيء لفظه على موضع النداء نصبا، (فأما قوله: نحن بنو أم البنين الأربعة

فلا ينشد إلا رفعا، لأنه لم يرد أن يجعلهم إذا افتخروا أن يعرفوا بأن عدتهم أربعة قال محمد: النصب فيه جيد على وجهين أحدهما أن أم البنين امرأة شريفة وبنوها الأربعة كلهم سيد، والخبر المطعمون الجفنة المدعدعه فينصب على الفخر لما ذكرت لك، فيكون بمنزلة ما تقدم وليبلغ منه أيضا، / 83/ والوجه الآخر أنه لو لم يرد معنى الفخر، نصبه على أعني بلا مدح ولا ذم أكثر من التسمية، وأنه قد جاء بخبر غيره كما قال: وما غرني حوز الرزامي محصنا ... عواشيها بالجو وهو خصيب وإنما محصن اسم الرزامي. قال أحمد: لم يقل سيبويه في هذه المسألة: إن النصب فيها لا يجوز البتة على حال، وإنما ذكر أنه ينشد رفعا، يعني أن الرواة ينشدونه كذلك، واعتل لاختيارهم الرفع بأنهم نعتوا الاسم بالأربعة ولا فخر بأن يكونوا أربعة، وإنما بعد النصب لأنهم أصبحوا الاسم هذا النعت الذي [ليس] فيه فخر ولا مدح، ولو أسقط هذا من الكلام لكان النصب جيدا بالغا ولكان بمنزلة [قول الشاعر]: إنا بني منقر قوم ذوو حسب ........

ولا فرق بينهما إلا المجيء بهذا النعت الذي ليس فيه معنى يحسن معه النصب. فأما الوجه الآخر الذي ذكره محمد وأنه يحمله على أعني فقد أتى به سيبويه بقول مطلق في جميع هذا الباب في غير المدح والذم، وأنه يحمله كله على أعني، وأنشد البيت الذي ذكره شاهدا: وما غرني حوز الرزامي محصنا ... عواشيها بالجو وهو خصيب فإنما كان يلزمه لو قال: إنه لا يجوز على كل حال غير الرفع، وهو إذا رفع لم يذهب منه معنى الفخر أيضا كما أنه إذا قال: سلام عليك فرفع لم يذهب منه معنى الدعاء. مسألة [64] ومن ذلك قوله في هذا الباب، زعم عن الخليل أن قوله: أيام جمل خليلا لو يخاف لها ... صرما لخولط منه الروح والجسد قال: هذا بمنزلة قولك: حسبك به رجلا، ولله دره فارسا. قال محمد: وإنما هذا كقولك: أتيته يوم عبد الله قائما، إذا عرف اليوم به، ولم تضفه إلى الابتداء والخبر.

قال أحمد: قوله يوجب أنه يذهب إلى أن نصبه على الحال، والحال غير جائزة هاهنا، والمسألة التي مثل بها غير جائزة على ما ذهب إليه، وإنما تجوز على وجه آخر، والحجة في فساد الحال هاهنا أنه لا يعمل في الحال إلا ما عمل في صاحب الحال كقولك: جاء زيد راكبا، فهذا الفعل عمل في زيد وفي حاله، ولو قلت: جاء غلام هند راكبة/ 84/ لم يجز لأن الفعل إنما عمل في الغلام ولم يعمل في هند، وكذلك هذا الذي ذكره، لأن الفعل عامل في أيام جمل وليس بعامل في جمل، وكذلك المسألة التي مثل بها، وهو قولك: لقيتك يوم عبد الله قائما، فإنما الفعل في اليوم ولم يعمل في عبد الله، ولو جعلت قائما حالا من الكاف أو التاء في لقيتك جاز، لأن الفعل قد عمل فيهما فحسن أن يعمل في حالهما، ولا يكون قائم حالا، من عبد الله في هذه المسألة، فإن أردت أن تجعله لعبد الله قلت: لقيتك يوم عبد الله قائم. مسألة [65] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: [هذا باب] ما إذا لحقته لا لم تغيره عن حاله التي كان عليها قبل أن تلحق، "قال": (وذلك قولك: لا مرحبا ولا أهلا ولا هنيئا ولا مريئا ولا سلام عليك، لأن (لا) لحقت ما قد عمل فيه غيرها، فلم تغيرها كما [لم] تغير الأفعال التي هي بدل منها، ولم يلزمك في هذا الباب تثنية (لا) كما لا تثني [لا] في الأفعال التي هي بدل منها)، يعني أن مرحبا بدل من رحبت بلادك، وسقيا بدل من سقاك الله، وكرامة بدل من أكرمك، وأنت تقول: لا سقاك الله، فلم تبن سقاك لمجيء (لا)، ولم يلزمك أن تثني كما تثني لا رجل في الدار ولا امرأة، وكذلك جميع هذا الباب. قال محمد بن يزيد: ولم يمتنع هذا عندي من حيث ذكر، لو كان هذا يجري في ترك النصب والتثنية مجرى الفعل الذي هو بدل منه لزمك أن تقول: زيد لا قائم كما كانت

تقول: زيد لا يقوم وما أشبه هذا، وكذلك هذا لا منطلق على حد قولك: هذا لا ينطلق، ولكن القول فيه عندي، لما كان دعاء لم تكن فيه قاصدا لنفي شيء عن المذكور، لأن معنى قولك: سقاك الله إنما هو اسأل الله أن يسقيك، فإذا قلت: لا سقيا، فإنما هو منتصب بقولك: سقاك الله، ثم أدخلت (لا) فصار "معناه" لا سقاك الله سقيا، فالناصب لقولك: سقيا إنما هو سقاك في النفي والإيجاب، وكذلك قولك: ولا كرامة ولا مسرة، إنما كان قولك في الإيجاب: أفعل ذلك وكرامة، إنما "كان" معناه وأكرمك كرامة، فدخلت (لا) على [ما] "قد" عمل فيه غيرها. وقولك: لا سلام عليك، سلام: ابتداء، وعليك خبره، وجاز الابتداء بالنكرة لأن معناه سلام الله عليك، ولم تضع سلام/ 85/ موضع قولك: رجل في دارك، لأنك لست تريد أن تخبر عن السلام بشيء، إنما دعوت له فدخلت (لا) على شيء عمل فيه الابتداء، ولم يلزمك في هذا الموضع تثنية لا، لأنه ليس جوابا لقولك: أذا عندك أم ذا؟ ولو أردت المعنى الذي تدخل عليه (لا) نافية لتخبر بها ولا تدعو لقلت: لا كرامة لزيد عند أحد، ولا سقي لزيد في ماله، فهذا سوى ذلك المعنى. وأما قول الله جل وعز: {سلام على إبراهيم} و {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} فلا يقال: الله تعالى دعا، ولكن معنى الكلام- والله أعلم- هؤلاء ممن وجب أن يقال لهم: سلام عليكم، ورحمكم الله، لأن هذا إنما يقال بالاستحقاق لأولياء الله، كما أن قوله {ويل يومئذ للمكذبين} لا يقال فيه: دعاء عليهم، ولكن معناه هم ممن استوجب أن يقال لهم ذلك، لأن هذا إنما يقال لصاحب الشر والهلكة. قال أحمد: قوله: إنه قد كان يلزمه أن يقول: زيد لا قائم كما يقول: زيد لا يقوم، وزيد لا منطلق كما يقول: زيد لا ينطلق، فليس منطلق بدلا من ينطلق، ولا قائم بدلا من يقوم

[ولا يقوم بدلا من قائم] ولا أسماء الفاعلين في هذا الموضع بدلا من الأفعال، وإنما هي في معناها. فأما سقيا لك، فبدل من سقاك الله، ألا ترى أنهما يتعاقبان، ولا تقول: سقاك الله سقيا لك، فتعيد الكلام كله مع الفعل إذا أظهرته، فجرى المصدر هاهنا مجرى فعله، إذ كان بدلا منه، وليس قوله: إن المصدر جاء في مثل فعله بعلة للباب، ألا ترى لو أن سائلا سأل فقال: ولم لم يثن الفعل؟ كان له أن يسأل عن ذلك، ودل هذا على أن سيبويه لم يأت في هذا الموضع بالاعتلال للباب لم لم يثن؟ وإنما قال: ولم تثن المصادر كما لم تثن أفعالها، فمثل ولم يبين هاهنا لم لم تثن أفعالها؟ ولكنه قد بينه في غير هذا الموضع، وهو الذي أتى به محمد بن يزيد، وأن المثنى من ذلك إنما هو جواب لسائل سأل عن أحد أمرين، فنقله أبو العباس إلى هذا الموضع. مسألة [66] ومن ذلك قوله في هذا الباب: (والرفع لا يكون في هذا الموضع، لأنه ليس بجواب لقوله: أذا عندك أم ذا؟ وليس في هذا الموضع معنى ليس)، يعني (لا) إذا لحقتها ألف الاستفهام لمعنى التمني نحو ألا ماء باردا، / 86/ قال: لا يجوز ألا ماء، ولو عمل لما ذكرنا عنه. قال محمد: ولو كان هذا لا يجوز من قبل أنه ليس جوابا لقولك: أذا عندك أم ذا؟ كان يلزمك أيضا ألا تجيز ألا ماء باردا، لأن هذا ليس جوابا لقولك: هل من ماء، إذ زعم

أن قولك: لا رجل في الدار جواب لقولك: هل من رجل؟ ولكن القول في هذا: إنه جاز فيه الرفع والنصب كما كان قبل دخول ألف الاستفهام عليه، وإجازة الرفع قول أبي عثمان، وذلك لأن هذا وقع في النفي جوابا كما ذكر سيبويه، ثم دخل عليه الاستفهام على هيأته في النفي، لأن الاستفهام لا يغير ما دخل عليه عن حاله قبل أن يكون استفهاما ودخله معنى التمني وله حظه من الإعراب، كما أن قولك: غفر الله لزيد لا يمتنع من إعراب الفعل والفاعل وإن دخل معنى الدعاء. قال أحمد: وذكر مسألة في معني هذه التي ردها، وهي في الباب تتلو الأولى ومن تمام الكلام، وجمعناهما لأن الكلام فيهما واحد. مسألة [67] ومن ذلك قوله في هذا الباب: (ومن قال: لا غلام أفضل منك، لم يقل ألا غلام أفضل منك إلا بالنصب، لأنه دخله معنى التمني وصار مستغنيا كاستغناء اللهم غلاما، ومعناه اللهم هب لي غلاما). قال محمد: وليس هذا كما قال، [لأنه] وإن كان فيه معنى التمني، فإنما قوله: ألا ماء في موضع اسم مرفوع وخبره مضمر، فإن أظهرته رفعته، وحكمه حكمه قبل أن يدخله ألف الاستفهام وإن يقع فيه معنى التمني، ونظير ذلك رحمة الله عليه، إعرابه إعراب زيد أخوك وإن كان فيه معنى الدعاء، وإجازة رفع الخبر قول أبي عثمان.

قال أحمد: أما قول سيبويه: إن الرفع امتنع في قولك: ألا ماء، لأنه ليس بجواب لما ذكر، فالمعنى عند جميع أصحابه أن الرفع مع (لا) إنما يكون من وجهين: إما أن تحمله على كلام مستفهم مبتدئ، أو على أن تجعل (لا) بمعنى ليس، وما عدا الوجهين فليس للرفع فيه معنى، وذلك أن المستفهم إذا قال: أزيد عندك أم عمرو؟ قلت: لا زيد ولا عمرو، فجعلت الجواب الذي هو خبر على ما حمل المستفهم عليه كلامه، وإن جعلتها بمعنى ليس فلست تحتاج فيها إلى التكرار كما لا تحتاج في ليس إلى ذلك، وإذا أدخلت ألف الاستفهام بمعنى التمني وأنت لا تجيب أحدا فتبنى كلامك على ما بنى/ 87/ كلامه عليه، وإنما أنت مبتد القول، ولا يجوز أن تحمله في الإعراب إلا على معناه، ومعناه الفعل، لأنك لا تتمنى إلا بفعل "كما لا تدعو إلا بفعل" ألا ترى إلى قول سيبويه: ألا غلام، معناه اللهم هب لي غلاما، وقول محمد بن يزيد: إنه في موضع مبتدأ كما كان لا رجل، وإن الخبر مضمر خطأ، لأن موضع التمني ليس بموضع ابتداء، ولا يحتاج فيه إلى خبر، ألا ترى أنك تقول: اللهم "غلاما فيستغني الكلام كما قال سيبويه، فليس هاهنا خبر كما قال: اللهم" ارزقني غلاما. والذي ألقى محمد بن يزيد في هذا الغلط قول العرب: رحمة الله عليه: إنه دعاء، والدعاء لا يكون إلا بفعل كالتمني، وقد جاز الرفع فيه، والفصل بينهما أن قولهم: رحمة الله عليه، جاء لفظه في كلام العرب على غير معناه، لأن معناه النصب إذ كان دعاء، فأما التمني فجاء لفظه على أصله ومعناه منصوبا، وافق اللفظ المعنى. فإن قال قائل: فارفع هذا كما رفعت العرب ذلك، قيل له: ليس رد الشيء إلى غير أصله ومعناه إذا جاء على أصله ومعناه بجائز ولا قياس، فكأن هذا القائل قال: قد جاء لفظ التمني على معناه فردوه إلى غير معناه وهو الرفع، وأبدوا فيه معناه وهو النصب، وهذا قياس فاسد ومذهب غير مستقيم. وأما قول سيبويه: ولا يكون في هذا، يعني في قولك: ألا رجل أفضل منك في التمني،

فإنه أراد أنك لو قلت: (ليس) هاهنا لصار معنى الكلام إلى التقرير، ألا ترى أنك إذا قرنت ألف الاستفهام بليس فقلت: أليس فلان أفضل منك، كان الكلام على معنى التقرير، فأبان بهذا أن الرفع غير منساغ فيه البتة، لأنه إذا لم يكن جوابا لمستفهم حمل كلامه على الابتداء، ولا يدخله معنى ليس، فقد امتنع فيه السببان اللذان يوجبان الرفع. وأما معارضته إياه في صدر كلامه بأن قال: هذا لا يجوز، من قبل أنه ليس جوابا لقولك: أذا عندك أم ذا؟ فكان يلزمه أيضا ألا يجيز ألا ماء باردا، لأن هذا ليس بجواب لقولك، إذ زعم أن قولك: لا رجل في الدار، إنما هو جواب لقوله: هل من رجل في الدار؟ ولو أمكنني انتزاع هذه/ 88/ المعارضة من جميع النسخ التي سيرها لانتزعتها وأمسكت عن ذكرها لضعفها وقبحها، ولو بلغتني عنه ولم تكن [في] كتابه لأنكرتها. قال أحمد: وذلك أن سيبويه زعم أنه لا رجل في الدار وهو خبر جواب للاستفهام إذا قلت: هل من رجل في الدار؟ فألزمه على هذا ألا يجيز الاستفهام، لأنه ليس بجواب للاستفهام، وذلك أنه قال: ينبغي ألا تجيز ألا ماء باردا، وهذا استفهام لأنه ليس جوابا لهل من ماء؟ وهذا أيضا استفهام، فألزمه إذا قال ما لا ينكره أحد، وهو أن يكون الاستفهام غير جائز، إذ ليس بجواب للاستفهام. وقد كان أبو عمر الجرمي يخالف المازني في هذه المسألة، واحتج ببعض ما ذكرنا، وهو معنى قول سيبويه، زعم أبو عمر أنه لم يجز في (ألا) التي للتمني ما جاز في (لا) من رفع الصفة على الموضع نحو: لا رجل أفضل منك، لأن موضع النفي الابتداء، ولما دخله معنى التمني زال الابتداء، لأنه قد تحول إلى معنى آخر، وصار في موضع نصب، كما لا يجوز في ليت ولعل وكأن من الحمل على الموضع ما جاز في إن ولكن، فلذلك زعم أنه لا

يجوز ألا ماء ولبن كما تقول في النفي، وقد أوضح هذا سيبويه فقال: هو بمنزلة اللهم غلاما، أي: هب لي غلاما. مسألة [68] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب [ما] لا يكون إلا على معنى ولكن، يعني في الابتداء، فأوجب ألا يكون فيه إلا النصب. قال محمد: وقد ذكر في هذا الباب أشياء كثيرة يجوز فيها الرفع، وهذا نقض لما صدر به الباب، من ذلك قوله. ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ينبغي "في غير" أن تكون في موضع رفع على "حد" قوله: ما جاءني أحد إلا حمار، أي: أحد الجائين حمار، ويكون عيبهم هذه الفضيلة، أي: هذا مكان ذلك، كما أجاز عتابك السيف، وعلى هذا يجوز أن يكون قول الله جل وعز: {أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله}، أي: الذي يقوم مقام ما يجب له الإخراج عند الكافرين أن يقولوا: ربنا الله، وقد ذكر أشياء كثيرة نحو هذا تركنا ذكرها لاستغنائنا ببعض عن بعض. وذهب إلى أن هذا البيت استثناء ليس من الأول، وليس كما قال، وهو قول الفرزذق: / 89/ وما سجنوني غير أني ابن غالب ... وأني من الأثرين غير الزعانف وإنما أراد، وما سجنوني إلا لكرمي أو حسدا منهم، أي: لأني ابن غالب أوذيت.

قال أحمد: ذكر سيبويه بابا قبل هذا، وزعم أن الاختيار أن يكون الاستثناء "فيه" على معنى ولكن، لأنه ليس من جنس الأول، وأجاز فيه سوى ذلك على غير الاختيار، وذلك نحو قولك: ماله عليه سلطان إلا التكلف، النصب الاختيار لأن التكلف ليس بسلطان على الحقيقة، والرفع جائز على أن تبدل التكلف من السلطان، وتجعل سلطانه التكلف على مجاز الكلام، وكذلك قوله جل ثناؤه: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن}، وكذلك قول الشاعر. ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرقاب من أنشد رفعا ذهب إلى أنه جعل عتابه الطعن، لأن العتاب يرده ويثنيه، وكذلك المحاربة وهي أبلغ في رده. ثم أتبعه هذا الباب الذي ذكر أنه لا يكون إلا على معنى ولكن، فزعم محمد أن منه مسائل تدخل في الباب الأول، وتهيأ أن يحمل على معناها في باب المجاز، وتكون الأسماء المسثناة بدلا من الأول، وأنه قد ناقض إذ قال في ترجمة الباب: إنه لا يكون إلا على معنى ولكن، قال: فمن ذلك قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ينبغي أن يجوز في غير أن تكون في موضع رفع ويكون عيبهم هذه الفضيلة كما أجاز "عتابك السيف". قال أحمد: وليس هذا مثل ذلك، لأن الفضيلة لا تكون [عيبا] ولا العيب فضيلة، ولا يتجه له في هذا من التأويل كما اتجه في قولهم: عتابك السيف، لأن السيف يثنيه ويرده،

والعتاب يثنيه، فجعل عتابا من هذا الوجه على المجاز، فأما الرذيلة فلا تكون فضيلة ولا الفضيلة رذيلة. وأما قوله في الآية: {اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله}، فإن الذي يقوم مقام ما يجب به الإخراج عند الكافرين هذا القول، وهذا التأويل خطأ في الإعراب والمعنى، لأن هذا استثناء بعد كلام موجب، والبدل لا يكون في/ 90/ الإيجاب، ألا ترى أنه لو قال: أخرج إلا زيد لم يجز. وأما قوله: الذي يقوم مقام ما يجب به الإخراج عند الكافرين هذا القول، فهو غلط في التأويل، لأن معنى الكلام ليس على هذا، وإنما أعلمنا الله جل وعز بحقيقة الإخراج عنده كيف كانت لا عند الكافرين، فأخبر أنهم- يعني المؤمنين- أخرجوا بغير حق، ثم أخبر خبرا ثانيا ذكر فيه السبب نفسه، وهو أنهم أخرجوا بقولهم: ربنا الله، فجاء سبب الإخراج في الخبر الأول عاما مبهما، وجاء في الثاني معينا. فأما قوله في بيت الفرزدق: وما سجنوني غير أني ابن غالب ... وأني من الأثرين غير الزعانف أي: ما سجنوني إلا لكرمي، وحمله على لام العلة، أي: ما سجنوني إلا لهذه العلة، فهو أيضا يمتنع من أجل أن (غير) إذا أضيف إلى (أن) بطل عمل لام العلة ومعناها، ألا ترى أنك تقول: ما جئت إلا لأنك تكرمني، وإن شئت حذفت اللام مع (إلا) وأنت تريدها فقلت: إلا أنك تكرمني، وإذا أضيف (غير) إلى (أن) زال ذلك المعنى، ولا يجوز إضافتها مع اللام،

لأنك تضيف إلى العامل والمعمول فيه، فتكون كإضافتك إلى جملة، وهذا لا يجوز، ألا ترى أنك إذا قلت: ما جاءني أحد إلا زيد خير منه، لم يحسن أن تأتي بغير هاهنا في موضع (إلا)، لأنك لا تضيفها إلى جملة، ولو قلت: ما جاءني أحد غير زيد خير منه لم يجز، وكذلك إذا قلت: والله لا أفعل إلا أن تفعل، لم يحسن أن تقول: والله لا أفعل غير أن تفعل وأنت تريد ذلك المعنى، لأن حرف الجر مقدر هاهنا كأنك قلت: إلا أن تفعل، ألا ترى أن سيبويه ضم هذه المسألة إلى باب ما يبتدأ بعد إلا. فإن قال: فإذا تأولت البيت على هذا وجب أنه لم يحسن، لأنه إذا قال: ما سجنوني لكن من حالتي كذا وكذا فلم يسجن، وإذا قال: ما سجنوني إلا لعلة كذا وكذا، فالعلة قد أوجبت السجن. قيل له: الأمر هكذا، وقد كان الفرزدق لعمري أفلت في بعض الأوقات فلم يظفر به، حكى ذلك أبو عبيدة في النقائض، أن لما هاجى جريرا وتوافقا بالمربد طلبهما الحارث بن أبي ربيعة المخزومي والي البصرة فهرب الفرزدق وأفلت وأخذ جرير والنوار امرأة الفرزدق فحبسا، وفي ذلك يقول جرير: فباتت نوار اليقين رخوا حقابها ... تنازع ساقي ساقها حلق الحجل / 91/ إلا أن القصيدة التي فيها "البيت" المتنازع فيه إنما خاطب بها خالد بن عبد الله

القسري وقد كان سجنه، فيكون تأويل قوله: وما سجنوني على هذا، وما أخملوا ذكري، ولا صغروا بحسبي وفضائلي بسجنهم إياي، ولكني ابن غالب المعروف على كل حال. وأما قوله: وقد ذكر أشياء كثيرة تركنا ذكرها لاستغنائها ببعض عن بعض، فما علمت "أن" في الباب مسألة إلا وسيبويه موافق عليها. لا تحتمل شيئا مما ذكره محمد غير أنه تأول فيها المعنى تأولا ضعيفا بعد أن اختار قول سيبويه وبنى التفسير عليه، وهو قوله جل وعز: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} فلا يجوز في قول أحد: إن من رحم يكون بدلا من عاصم، لأنه إن أبدل منه صار من رحم يعتصم [به] من الله، وهذا محال. وقد اتفق أهل اللغة جميعا أن تأويل (إلا) هاهنا الانقطاع، وأنه لا يجوز أن يكون مبدلا من الأول، "وكذلك" قال الفراء في كتاب المعاني، إلا أنه زعم في آخر كلامه بعد أن مضى صدره على ما ذكرنا، أنه تأول متأول أن عاصما في معنى معصوم جاز البدل كما كان في {عيشة راضية} بمعنى مرضية، و {ماء دافق} بمعنى مدفوق، وهذا تأويل فاسد، لأن مثل ذا إنما يجوز فيما لا يلبس، فأما ما ألبس فلا يجوز فيه ذلك، ألا ترى أنك لو قلت: لا ضارب في الدار، وأنت تريد مضروبا، لم يعلم المخاطب حقيقة ما أردت، وكذلك لو قلت: رأيت زيدا ضاربا، وأنت تريد مضروبا، لم يعلم ما نويت، وفي هذا اختلاط الكلام والتباسه وفساده.

فأما احتجاجه بـ {عيشة راضية} فإن العيشة لا تكون فاعلة من رضيت البتة، ولا تكون إلا مفعولة، فلما لم يحتمل غير وجه واحد لم يجز فيها لبس، وكذلك {ماء دافق}، لما كان الماء لا يفعل ذلك كان بمنزلة {عيشة راضية}، فأما عاصم وضارب وما أشبههما فلا يجوز فيه ذلك، ولا أن تضع مفعولا في موضع فاعل، ولا فاعلا في موضع مفعول، لأن الرجل قد يكون عاصما ومعصوما وضاربا ومضروبا بحقيقة المعنيين المختلفين، فلم يجز أن تضع أحدهما في موضع الآخر فيلتبس هذا بهذا، والعيشة راضية ومرضية بحقيقة المعنيين المختلفين وإنما اللفظان/ 92/ فيهما لمعنى واحد. قال أحمد: ووجدت بخط أبي- رحمه الله- قال: وجدت هذا الباب مضروبا عليه في كتابه، يعني كتاب محمد، وكان قد رجع عنه، إلا أنه لم تثبت الحجة التي أوجبت رجوعه فنضرب عما ذكرنا ونطويه. مسألة [69] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: (هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفا بمنزلة مثل وغير، وذلك قوله: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا، والدليل على أنه وصف أنك لو قلت: لو كان معنا إلا زيد لهلكنا وأنت تريد الاستثناء كنت قد أحلت. قال محمد: قولك في الاستثناء: لو كان إلا زيد، وما جاءني إلا زيد، أنك إذا قلت: لو كان معنا "أحد" إلا زيد لهلكنا، فزيد معك كما قال: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، والله جل وعز فيهما، وتقول: لو كان إلا زيدا أحد لهلكنا، كما تقول:

ما جاءني إلا زيد أحد، والدليل على جودة الاستثناء "أيضا" أنه لا يجوز أن تكون (إلا) وما بعدها وصفا إلا في موضع لو كانت فيه استثناء لجاز، ألا ترى أنك تقول: ما جاءني أحد إلا زيد على الوصف إن شئت، وكذلك جاءني القوم إلا زيد على ذلك، ولو قلت: جاءني رجل إلا زيد، تريد غير زيد على الوصف لم يجز، لأن الاستثناء هاهنا محال. قال أحمد: أما استدلاله على جواز ذلك وجودته بأنك إذا قلت: لو كان معنا أحد إلا زيد لهلكنا، فزيد معك، فليست هذه دلالة توجب جواز حذف المنعوت وإنما سبيل (إلا) في الاستثناء أن يكون ما بعدها داخلا فيما خرج منه الأول وخارجا مما دخل فيه الأول، فلما كان غير زيد- وهو الذي وقع عليه لفظ التمني- خارجا من الوصف غير كائن معهم وجب أن يكون زيد معهم، وليس الكلام بمنفي في اللفظ، وإنما يستدل على أن المتمني ليس بموجود فيمثل له، وإلا يلزم فيه بسبب ذلك ما يلزم في المنفي، ولو كان ذلك لجاز هذا الذي ذكره في كلام غير موجب، ولجاز أن يقال: إن يأتك إلا زيد آتك، على معنى إن يأتك أحد إلا زيد آتك. فإن أجاز هذا كما أجازه في المسألة الأولى، قيل له: فأجز ذلك في قول القائل: هل في

الدار رجل غير زيد؟ وإن/ 93/ تحذف رجلا فتقول: هل في الدار إلا زيد؟ على معنى الاستفهام، وأنت إذا قلت: هل في الدار أحد، فقد مضى ذلك المعنى وصار كلاما آخر، وخرج من معنى الاستفهام إلى معنى الخبر وإن كان لفظه استفهاما. وقد زعم سيبويه أن (إلا) إذا كانت وصفا لم يجز أن تكون إلا مع الموصوف، وهذا مما سلمه محمد بن يزيد، و (إلا) التي للتحقيق فلا تكون إلا مع النفي، وهي تدخل على ركني الكلام، إما على الخبر وإما على المخبر عنه نحو قولك: كان زيد إلا قائما، وما كان قائما إلا زيد، فقد دخلت مرة على خبر كان ومرة على اسمها، وكذلك ما زيد إلا أخوك. وسبيل (إلا) التي للاستثناء فقط أن تأتي بعد تمام الكلام، وليست تدخل على خبر ولا مخبر عنه، وهي نحو قولك: جاءني القوم إلا زيدا، ولا يجوز حذف المستثنى منه مع هذه كما جاز مع تلك، وهذا أصل متفق عليه، "به" يعتبر صحة ما قال من فساده، وإنما حذفوا في النفي لأنك إنما تنفي نفيا عاما، فليس يقع فيه لبس فتقول: ما أتاني إلا زيد، وما رأيت إلا زيدا، فالحذف لا يكون إلا مع هذه التي للتحقيق في النفي، ولو كان الحذف جائزا مع (لو) كما قال محمد بن يزيد وكان الكلام يجري مجرى النفي لجاز أن تجعلها في خبر كان بعد (لو) كما جعلناها في خبر كان بعد (ما) فتقول: لو كان زيد إلا قائما لقمنا، ولو كان عمرو إلا عندنا لذهبنا كما تقول: ما كان زيد إلا ذاهبا، وما كان هل في الدار إلا زيد على معنى استفهام، وأنت إذا قلت: هل في الدار إلا زيد، وهل عمرو إلا عندنا، فيستوي هذا والنفي كما زعم، وإنما جئنا بـ (لقمنا) و (لذهبنا) جوابا للو، و (ما) ليس يحتاج فيها إلى ذلك، وليس يجوز أن تدخل (إلا) هذه إلا مع حرف النفي أو في كلام فيه معنى حرف

النفي كقولك: هل زيد إلا قائم بمعنى ما زيد إلا قائم، ولو كان هذا استفهاما في المعنى لما جاز دخول (إلا)، ولكن لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الإخبار، ومن الدليل على أنها إنما تكون في النفي، أنا إذا أدخلناها في غير الخبر المنفي أحالته إلى معنى الخبر المنفي، ألا ترى أنك تقول: هل زيد قائم؟ فيكون استفهاما صحيحا، وإذا قلت: هل زيد إلا قائم/ 94/ بطل معنى الاستفهام وصار معنى الكلام إلى النفي، فكأنك قلت: ما زيد إلا قائم. وأما قوله: إنه لا يكون الوصف إلا في موضع لو كان فيه استثناء لجاز، فليس الأمر على ما ذكر، لأنا نقول: جاءني رجل غير زيد، فهذا وصف وليس باستثناء، لأنه [لا] تقول: جاءني رجل إلا زيد، فقد يجوز الوصف في موضع لا يجوز فيه الاستثناء كما جاز الاستثناء في موضع لا يجوز فيه الوصف. مسألة [70] [قال: ] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب لا يكون وليس وما أشبههما، زعم أن حاشا حرف جاء لمعنى فجر ما بعده وفيه معنى الاستثناء، وفصله من خلا إذا كانت "خلا" بمنزلة (في) إذا كانت حرف جر، ومخالفة (خلا) له إذا أردت بها الفعل. قال محمد: أما حاشا فبمنزلة خلا إذا أردت بها الفعل، إنما معناها جاوز، من قولك: خلا يخلو، كذلك حاشى يحاشي، وكذل قوله: أنت أحب الناس إلي ولا أحاشي أحدا، أي: ولا أستثني أحدا، وتصييرها فعلا بمنزلة خلا في الاستثناء قول أبي عمر الجرمي، وأنشد: ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد

وتقول: أتاني القوم حاشا زيدا، حق حاشا أن تكون في معنى المصدر كقولك: حاش لله وحاش الله كما تقول: براءة لله وبراءة الله، يدلك على ذلك دخولها على اللام في قولك: حاشى لله، ولو كانت حرفا لم تدخل على حرف. وحاشى يحاشي محاشاة المصدر، نقص كما تنقص الأسماء، حاش لله وحشي لله، مثل غد وغدو، ومه ومهلا، وعل وعلا، ولا يكون ذلك في الحرف، وكل قول سوى هذا باطل. قال أحمد بن محمد: لم ينكر سيبويه أن يكون حاشا فعلا في موضع من الكلام البتة، وإنما ذكرها في الاستثناء خاصة، فزعم أن العرب تجر بها في هذا الباب والفعل لا يجر، وقد يجيء مثل هذا في كلام العرب، فتجعل في موضع الكلمة اسما وفي موضع حرفا، كما فعلوا ذلك بـ (منذ) وبـ (ما) ونظيرهما، فأما أن يجروا بالفعل فلا يوجد ذلك ولا له وجه، ولم ينصبوا بها في الاستثناء، فيجرونها مجرى خلا في أنها/ 95/ تكون مرة فعلا ومرة حرفا، ولو وجدنا شاهدا في الاستثناء لكان ردا.

فأما قول النابغة . ولا أحاشي من الأقوام من أحد فلا يجري هذا مجرى الاستثناء، وليس يجوز أن ينصب بحاشا في الاستثناء قياسا على خلا، وقد لزمت العرب فيها أحد الوجهين في هذا الباب، فإن جعل ولا أحاشي من الأقوام استثناء فليجعل قول القائل: ولا يخلو من كيت وكيت فلان استثناء، وليس يجعل أحد من النحويين هذه الكلمة على تصرفها استثناء، وكذلك حاشا إذا صرفتها كانت في الكلام فعلا، أو غير فعل، وإذا جعلتها في الاستثناء لزمت وجها واحدا وطريقة واحدة. وأما احتجاجه بدخول حرف الجر معها في قولهم: حاش لله، فلم يدخلوا حرف الجر معها في الاستثناء، ألا ترى أنهم يقولون مستأنفين الكلام: حاش لله من كذا وكذا، فليس هذا باستثناء من شيء تقدم، وهذا يدل على صحة ما قاله سيبويه، وأما في غير الاستثناء فقد تكون فعلا كما قال الجرمي، ولا خلاف في ذلك بين أهل العربية. وأما رجوع محمد عن أن يكون فعلا إلى أن زعم أنها مصدر، فهذا ظن لم يأت معه بحجة، وهل وجد في الكلام مصدر من فاعل يفاعل على وزن فعله ولفظه؟ وليس في الكلام فاعل فاعلا، وإنما المصدر من فاعل مفاعلة وفعال مثل قاتل مقاتلة، وقتالا. وأما قوله: إن الحرف لا يدخل على الحرف، فليس حاشا بحرف إذا دخلت على الحرف، وليس يكون ذلك في الاستثناء، ولكنها إذا دخلت على الحرف في موضع من الكلام فعل، والفعل يدخل على الحرف وذلك في قولهم: حاش لزيد، ويكون أيضا اسما غير فعل ولا

مصدر، فيدخل على الحرف كقولك: غلام لزيد. مسألة [71] ومن ذلك قوله في باب أي: وتقول: أيها تشاء لك، على معنى قولك: الذي تشاء لك، قال: وإن شئت قلت: أيها تشأ لك، فتضمر الفاء. قال محمد: وهذا خطأ، وإنما يجوز في الشعر على ضعف كما ذكر في باب الجزاء [وهو] قوله: من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان / 96/ على أن الأصمعي ذكر أن البيت: من يفعل الخير فالرحمن يشكره ... وهذا في الشعر كما وصفت لك أيضا من الضعف. قال أحمد: أراد سيبويه بذلك أن يبين حال (يشاء) إذا كانت صلة للاسم، وأنه إذا جعلها جزاء ولم تكن صلة وأضمر الفاء، وهو وإن أجازه فهو ضعيف في الكلام، وهو أقوى من قولك، إن تأتني أنا كريم، لأن هذا ابتداء وخبر، وهو كلام تام، فلم يحسن أن تضعه في موضع الجواب: فيظن أنك استأنفت خبرا، وكان دخول الفاء لتربطه بالأول أولى وأحسن، وأيها تشأ لك ليست كذلك، لأن (لك) ليس بكلام تام، فهذا أقوى من الابتداء والخبر وإن كانا جميعا ضعيفين، وليس يمنعه ضعفه في الكلام من أن يذكر، وليس قوله في أن هذا

يجوز في الشعر في هذا الباب وغيره بمانع لجوازه في الكلام على ضعفه، ولكن لو قال: لا يجوز ذلك إلا في الشعر للزمه ما ذكر. فأما قول القائل: هذا يجوز في الشعر، فقد يعني به أنه منساغ في الشعر سهل، مستكره في الكلام ضعيف، لا أنه لا يجوز البتة في الكلام، والدليل على أنه أراد ما ذكرنا قوله في باب المجازاة بعد هذا البيت الذي رواه الأصمعي كما ذكر، (زعم أنه لا يحسن [في الكلام إن تأتني لأفعلن، من قبل أن لأفعلن يجيء مبتدأ فقوله: لا يحسن] يدل على إجازته إياه غير مستحسن، وهذا أبعد من حذف الفاء من قولهم: أيها تشأ لك. وأما قوله: إن الأصمعي روى البيت: من يفعل الخير فالرحمن يشكره .... فهذا أكثر من أن يحصى في الشعر، إذ مجيء الروايات في البيت الواحد، وكل رواية حجة إذا رواها فصيح، لأنه يغير البيت إلى ما في لغته، فيجعل ذلك أهل العربية حجة، وقد مضى نظائر لهذا. مسألة [72] قال: ومما أصبناه في الإحدى والعشرين "من ذلك" قوله في باب من أبواب حتى ترجمته: هذا باب الرفع فيما اتصل بالأول كاتصاله بالفاء، قال: (وتقول: أسرت حتى تدخلها؟ تنصب لأنك لم تثبت سيرا كان معه دخول) وأنه لا معنى له. قال محمد: وقولك: كان منه سير فدخول جيد بالغ، أو أكان منك سير فإنك تدخلها

الساعة، ممتنع، وهذا قول الأخفش. قال أحمد: قد اعتل سيبويه لامتناع هذه المسألة من الجواز، ولم يأت محمد بقول يدفع علته، ولا بكلام يكسر حجته أكثر من الوصف أن الكلام/ 97/ جيد بالغ، وليس هكذا قول العلماء، وأعاد المسألة بعينها، فذكر أن ما امتنع من إجازته جيد بالغ، وأنه قول الأخفش، ولم يزدنا على هذا شيئا، ولا أتى بشبهة توضحنا، ولا بحجة تتبعها، ونحن نزيد ما قاله سيبويه إيضاحا وتبيانا، وإن لم يأت الراد عليه بشبهة ولا بحجة، ولكن دعوى مثله قد يقبلها بعض الناس لمحله من هذه الصناعة. قال أحمد: لو جاز ما ذكره محمد في هذه المسألة لجاز أن يقال: أمرض حتى ما يرجونه وهذا فاسد، لأن المرض "هو" السبب الذي أداه إلى أن لا يرجى، وإذا كان السبب الذي يؤديه إلى هذه الحال لم يثبت عند السائل بطل المعلول، لأن علته لم تثبت ولم تصح، وقد بنى رفع الفعل في أول الباب على هذا، وأجريت عليه المسائل، وإجازة هذه المسألة نقض لما يبنى عليه الباب، وإبطال جميع المسائل التي ذكرها في هذا المعنى، وقد سلم له جميع ذلك، ولم يرد غير هذه المسألة. وأما النصب فليس بممتنع، لأنه لا يجعل الأول مؤديا للثاني ولا علة توجبه، وإنما أجري بمنزلة قولك: سرت حتى تطلع الشمس، أي: إلى هذا الوقت، فليس سيرك علة توجب الطلوع، وإنما هو غاية لانتهاء الفعل إليها، وكذلك إذا قلت على الوجه الآخر في النصب: جئت حتى تأمر لي بشيء "وإنما أخبر بغرضه في مجيئه، وليس المجيء علة توجب أن يأمر له بشيء" والاستفهام في هذين الوجهين جائز، فأما في الرفع فلا يجوز.

فإن قال قائل: أليس الفعلان مستفهما عنهما إذا لحقت علامة الاستفهام؟ قيل له: المستفهم عنه منهما إذا رفعت خاصة الأول، والثاني مبتدأ منفصل منه واجب. وجملة القول في هذا الباب أنك إذا رفعت بحتى فالفعل الثاني أيضا يقع بوقوع الأول، فإذا لم يقع الأول ولم يكن واجبا بطل الرفع، ألا ترى أنك إذا قلت: ما سرت حتى أدخلها لم يجز الرفع لأن السير لم يقع، وكذلك لا يجوز ما مرض حتى ما يرجونه لأنه لو قال: ما مرض حتى أنه في حال لا يرجى كان فاسدا، لأنه إنما يكون في هذه الحال بوقوع المرض، فإذا انتفى المرض انتفت هذه الحال. وقد منع سيبويه فيما هو أقرب من هذا، وسلمه الراد ولم يرفعه، وذلك أنه زعم/ 98/ أنك إذا قلت: إنما سرت حتى أدخلها وأنت محتقر لسيرك، لم يجز الرفع لأنك تجعله سيرا يوجب الدخول وأنت تستصغره، فهذا قد منع الرفع فيه، وقد كان سير يكون معه دخول إلا أنه محتقر فامتنع لذلك، فكيف ما انتفى وما استفهم عنه ولم يثبت، والرفع في هذا باتفاقهم إنما يكون الثاني فيه واقعا بوقوع الأول، وليسا الغايات كذلك، لأنك تقول: سرت حتى تطلع الشمس، فليس سيرك يؤدي "في" طلوع الشمس، وإنما هو غاية انتهاء السير إليها. مسألة [73] ومن ذلك قوله في باب (أو)، قال [الشاعر]: وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما

قال: (معناه إلا أن تستقيم، وإن شئت رفعت على الابتداء، لأنه لا سبيل إلى الإشراك) قال محمد: الإشراك ها هنا جيد بالغ على الوضع، وذلك في (إذا) حسن، لأن الماضي معناه الاستقبال، ألا ترى أنك تقول: إن تأتني أتيتك وأكرمك، جرى على موضع أتيتك كما قال عز وجل: {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك} ثم قال: {ويجعل لك قصورا} كذلك: ..... إذا غمزت قناة قوم ... كسرتك كعوبها أو تستقيم قال أحمد بن محمد: كلامه في هذه المسألة يجري مجرى السهو، لأن سيبويه لم يرد بقوله: لأنه لا سبيل إلى الإشراك، أو تستقيم الذي في البيت، وذلك بين في نص كلامه، وذلك أنه ذكر قبل البيت مسألتين في الأمر فقال: (الزمه أو يتقيك بحقك، واضربه أو يستقيم)، ثم جاء بالبيت في إثر هذا الكلام وليس فيه معنى أمر، ثم قال بعده: وإن شئت رفعت في الأمر على الابتداء، ولا سبيل إلى الاشتراك يعني في الأمر، لذكره المسألتين قبل البيت، وقد خبر بقوله: وإن شئت رفعت في الأمر، لأنه لا سبيل إلى الإشراك، فظن محمد أنه عني البيت، وليس في البيت معنى أمر، ولو أراد (أن تستقيم) الذي في البيت لم يقل: وإن شئت رفعت في الأمر، ولا يجوز في الأمر عنده ولا عند غيره أن يشرك بين الفعل المضارع وفعل الأمر في المواجهة، لأن هذا مبني وهذا معرب، وهذه بينة ليس فيها نظر ولا احتجاج غير ما ذكرنا من السهو الواقع فيها.

مسألة [74] ومن ذلك قوله في باب الجزاء: (وسألته عن قوله: إن تأتني أنا كريم، فقال: /99/ لا يكون هذا إلا أن يضطر شاعر، من قبل أن أنا كريم يكون كلاما مبتدأ، والفاء وإذا)، يعني التي للمفاجأة نحو {إذا هم يقنطون} (لا يكونان منقطعتين مما قبلهما). قال محمد: وهذا نقض إجازته أيها تشأ لك، على نية الفاء، لأن، (لك) لا تكون مبتدأة. قال أحمد: قد مضى من الجواب في هذه المسألة في باب (أي) ما أغنى عن الإعادة إذ كان كلامه مكررا. مسألة [75] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب يذهب فيه الجزاء من الأسماء كما ذهب في إن وكان، قال: (فمن ذلك قوله: أتذكر "إذ" من يأتينا نأتين ولم تجز المجازاة، ورغم أن هذين الحرفين في امتناع الجزاء بمنزلة إن وكان. قال محمد: وليس هذا كما ذكر، وذلك أن (إن) و (كان) يعملان في الابتداء، ولا سبيل أن يعملا في جواب الجزاء، إذ كان الجزاء عاملا فيه، فلا بد من أن يكون لها اسم حتى تكون هذه الجملة في موضع أخبارها، فتقول: كان زيد من يأته يكرمه ونظيره كان زيد أبوه منطلق، وكذلك إن، وليس، وما الحجازية وجميع العوامل، فأما التميمية فجائز أن تدخل على الجزاء ولا تغيرها عن حالها كما لم تغير الابتداء والخبر نحو قولك: ما زيد أخوك، وكذلك (إذ) تقول: أتذكر "إذ" من يأتنا نأته كما تقول: أتذكر إذ عبد الله صاحبك، فلا تغير، وكذلك أتذكر إذ يتكلم زيد في حاجتك.

وإنما المجازاة جملة منزلة الفعل والفاعل، وبمنزلة الابتداء والخبر، ألا تراها تقع صلة للذي كما يكون ما ذكرت لك نحو قولك: الذي إن تأته يأتك زيد، فلا فصل بين هذه الأخبار. وقال في هذا الباب: (وتقول: ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك، جاز هذا وحسن لأنك قد تضمر ها هنا كما تضمر في إذا، ألا ترى أنك تقول: ما رأيتك عاقلا ولكن أحمق). قال محمد: وهذا في المجازاة لا يحتاج إلى أن تضمر بعده، أعني لكن، وكذلك إذا، وما كان لا يغير الابتداء، والخبر عن حالهما، والعلة في جميع هذا العلة في إذ، وما التميمية، وكذلك هل. قال أحمد: أما قوله: إن (إن) و (كان) يعملان في الابتداء والخبر، وإنما امتنعا من دخولهما على الأسماء التي يجازى بها، من أجل أنها قد عملت في الجواب، فلم يكن سبيل إلى أن تعمل إن وكان فيه وقد عمل الجزاء، فهذا كلام مضطرب /100/ فاسد، وذلك أن جواب المجازاة لا يكون خبرا عن الأسماء التي يجازى بها إذا ابتدئت فتكون خبرا لـ (إن) و (كان)، ألا ترى أنك لو قلت: من يقم أقم إليه، كانت (من) مبتدأة، وكان الخبر يقم عنها، لأنه ليس بصلة لها كما يكون في الاستفهام، وأقم جواب وليس خبرا عن (من)، وسبيل هذا سبيل قولك: لولا زيد قائم لفعلت، فزيد مبتدأ، وقائم خبره، ولفعلت جواب لولا، وكذلك الاستفهام إن جئت له بجواب- لأن من الجوابات ما يلزم ومنها ما لا يلزم- لقلت: من يقوم أعطه درهما، فكان يقوم خبرا، وأعطه جوابا، فلا معنى لذكر جواب المجازاة وإن كان (إن) و (كان) لا يعملان فيه من أجل أن المجازاة قد عملت فيه، ولو جاز دخول إن وكان على الأسماء التي يجازى بها لكان التقدير أن يكون الفعل الأول هو الخبر.

وأما قوله: إنها استغنت من أجل أن الجزاء قد عمل فيها، فليس هذا بعلة، ولو كان كما ذكر لم يجز أن يكون الفعل في موضع أخبارها وقد عمل فيه غيرها، ألا ترى أنك تقول: كان زيد يقوم، وإن زيدا لم يقم، فيقوم مرفوع، وخبر كان منصوب، فهو مرفوع في [موضع] منصوب، ولم يقم مجزوم في موضع مرفوع، لأن خبر إن مرفوع، فلم يبطل دخول إن على الجملة من أجل أنه قد عمل في الخبر غيرها، وجواز ذلك يبطل علته في امتناع دخول إن على الأسماء التي يجازى بها. والعلة في امتناع ذلك من غير الوجه الذي ذكره "وذلك" أن امتناع دخول "إن" وكان على الأسماء التي يجازى بها كامتناع دخولهما على الأسماء المستفهم عنها، من قبل أن من وما أشبهها من الأسماء لا يكون اسما لـ (إن) ولا لـ (كان) إلا موصولة، لأنك مخبر عما تخبر به، فتصير إذا وصلتها بمعنى الذي. وأنت إذا استفهمت فإنما تبهم وتطلب الإبانة من غيرك، فلست تحتاج [مع الإبهام] إلى صلة لها لأن الصلة تبين، ألا ترى أنك إذا سألت فقلت: من قام؟ قيل لك: الذي من أمره كذا وكذا من فعل كذا وكذا، فكانت في الجواب موصولة، لأن المسؤول مبين والسائل ليس كذلك، إنما هو مستخبر، وفي المجازاة من الإبهام ضرب مما في الاستفهام، لأنك إذا قلت: من يأتنا نأته، فلست تقصد إلى شيء بعينه فتبينه بالصلة، فلما كانت الأسماء في الاستفهام والجزاء بلا صلة لم يجز أن تكون في موضع /101/ اسم إن ولا كان، لأنك حينئذ تخبر وتبين، فإن جعلت الفعل وصلا بطل الإبهام وذهب معنى الجزاء والاستفهام، وإن لم تجعله وصلا وجعلته خبرا صارت الأسماء المبهمة مع إن وكان بلا صلة، فكأنك قلت: إن من قام، فجعلت من

وحدها اسما بغير صلة، وجعلت قام خبرا، وهذا فاسد لا فائدة فيه. ومع هذا فإن الاستفهام والجزاء بحروف المعاني وهي الأصل، ألا ترى أن الألف هي أم الاستفهام و (إن) هي أم الجزاء، وزعم سيبويه أنه كان الأصل أن تكون ألف الاستفهام مع الأسماء المستفهم بها، ولكنهم استغنوا، فلو جاز أن تدخل كان وإن على هذه الأسماء لكنا كأنا أدخلناها على هذه الحروف، لأن الموضع لها والأسماء مستعارة مكانها، وإذا لم يجز أن توقع عاملا على ألف الاستفهام ولا على إن الجزاء، فكذلك لا يجوز أن توقعها على ما جاء منها في مواضعها وأدى عن معناها، وإلى هذه العلة أومأ سيبويه بقوله: (ألا ترى أنك لو جئت بإن ومتى فقلت: إن إن، وإن متى كان محالا). وأما الكلام في إذ وإذا وقبح دخولهما على حروف المجازاة، فان هذه وإن كانت أسماء "فهي" تجري مجرى حروف المعاني، فإذ لما مضى، وإذا للمستقبل، وفيه توقيت ليس في حروف المجازاة، وكل حرف من هذه الحروف فله معنى، فإذا أوقعته على كلام قد دخله معنى حرف آخر فربما أفسد الكلام دخوله وربما احتملها جميعا، وإنما قبح مع إذ وإذا لأن المجازاة قبل دخولهما أشد إبهاما منها، مع دخولهما، ألا ترى أنهم يقولون: آتيك إذا احمر البسر، ولا يحسن أن تقول: إن احمر البسر، فتجعل إن ها هنا مكان إذا، لأن إذا فيها توقيت، ووقت احمرار البسر معلوم، وإن مبهمة، فقبح دخولها ها هنا، فكذلك إذا أوقعت إذا وإذ على إن التي للجزاء أو على اسم يقوم مقام "إن"، فإنما يزيلها عن معناها في الإبهام ويقربها من التوقيت، فلذلك قبح دخولها عليها، وقد أجازه على استكراه، لأن في إذا ضربا من الجزاء. وأما احتجاج محمد بأنها تدخل على الجمل، فتقول: أتذكر إذا عبد الله صاحبك، فهذه

جملة لم يكن فيها حرف معنى، فدخلت إذ فصار المعنى لها، ولم تدخل على جملة فيها حرف غيرت /102/ معناه، لأن هذه جملة معراة من جميع حروف المعاني، ولم يحسن دخولها على جملة المجازاة لأنها جملة فيها حرف معنى يتغير بدخول غيره. وأما قوله: إن المجازاة جملة بمنزلة الفعل والفاعل والابتداء والخبر فقد صدق في هذا، لكن بقي عليه في وصف المجازاة نوع آخر من الصدق، ولو أتى به استغنى عن هذا الرد، وهو ما قلنا من أن المجازاة إنما كانت جملة بمنزلة الفعل والفاعل والابتداء والخبر كما ذكر، فهي جملة يصحبها حرف من حروف المعاني، فلا ينساغ أن يدخل عليها جميع ما يدخل على الجمل المعراة من الحروف، ولو كنا إنما نراعي أن تكون جملة فقط فيجوز لنا بذلك أن ندخل عليها جميع العوامل والحروف التي تدخل على الجمل لقلنا: أتذكر إذ هل زيد قائم، فإن قال: الاستفهام له صدر الكلام، قيل له: إذا كان في [غير] موضع تكون فيه الجملة صدر "الكلام"، لأنك قد تقول: زيد هل قام، فيجوز لأنه في موضع جملة هي خبر عن زيد. قال أحمد: وجملة القول في هذا كله أن الجملة المستفهم عنها والمجازي بها إذا جاءتا بعد حرف عامل أو غير عامل لم تقعا إلا جملة في موضع واحد كأنهما تكونان في موضع خبر [ولا تقعان بعد ما ذكر في موضع] لا يكون فيه إلا جملة، وبيان ذلك أن كان وإن لا تقع بعدها إلا جملة، وكذلك إذ، وإذا، وما، ولكن، فلم يجز وقوع الجزاء والاستفهام بعدها، فإن جعلتها في موضع الخبر جاز، لأن الخبر قد يكون واحدا فتقول: إن زيدا من يأته يعطه، لأنك تقول: إن زيدا أخوك، فقد وقع الجملة- أعني جملة المجازاة- في موضع الأخ وهو واحد، وكذلك ما، تقول: إن زيدا أخوك، ما زيد من يأته يعطه، فإن قلت: ما من يأته يعطه لم يجز، لأنك جعلتها في موضع لا يكون فيه إلا جملة وعرضتها لأن يدخل عليها ما يفسد معناها.

وأما تفريقه بين ما التميمية والحجازية في هذا الموضع فليس بشيء، لأن ما لا يعمل من الحروف وما يعمل ها هنا سواء، وإنما المراعاة في أن تكون الجملة بمحالها لم يتغير معناها في موضع خبر الأول عاملا كان أو غير عامل، لأن هذا كلام يقدر ويصح من جهة معناه والإبهام الذي ذكرناه /103/، ألا ترى أنه قال: في لكن: إنك تضمر اسما بعدها لتكون هذه الجملة في موضع خبر [فقال: ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك في موضع خبر] المضمر بعدها، ولا يحسن أن يكون في موضع الجملة التي بعد لكن، وتكون لكن داخلة عليها لما ذكرنا من تغير المعنى بهذه الدواخل عليها، إذ ليست جملة معراة، مجردة، فيجوز أن يكون بعدها كما يجوز زيد أخوك إذا قلت: لكن زيدا أخوك، وهذه الجملة إذا وقعت بعد لكن أحسن قليلا منها، إذا وقعت بعد غيرها، لأن ما غير المعنى أكثر كان أبعد من الجواز، ألا ترى أن ذلك لا يجوز مع إن وكان لأنهما عاملان مغيران، فبعد الجواز. مسألة [76] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب إذا لزمت فيه الأسماء التي يجازى بها حروف الجر لم تغيرها عن الجزاء، قال: (وقد يجوز أن تقول: على من تنزل أنزل، تريد معنى عليه). قال محمد: صدق هذا جائز، ولكنه أنشد. إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتكل

أراد من يتكل عليه. قال محمد: وهذا خلاف ما ذكر، لأن (على) الأولى الزائدة لا معنى لها، وهذا أيضا إنما يجوز في الموضع الذي تذكر فيه حروف الجر مرة فيكتفي به ويستغنى في الفعل الآخر، عن إعادته نحو: بمن تمرر أمرر، ولكن معنى هذا إن لم يجد يوما شيئا فحذف المفعول ثم قال مستفهما: على من يتكل وهذا قول الفراء. قال أحمد: إنما احتبس على محمد المعنى في هذا الشعر، من جهة أن الفعلين مختلفا اللفظ، وهما يعتمل من البيت الأول، ويتكل من الثاني، وكلاهما يصل إلى المفعول بـ (على)، فالمعنى: إن الكريم يعتمل على من يتكل عليه إن لم يجد، فـ (على) الأولى متعلقة بيعتمل، والثانية المحذوفة بيتكل، كأنه قال: إن الكريم يكتسب على من يتكل عليه، ويعتمل على من يتكل عليه إذا لم يجد، أي: إذا كان غير واجد أي: غير مستغن، اعتمل على أهله ومن يتكل عليه، وكانت المسألة بفعلين من لفظ واحد فكان الكلام فيها أبين، وسواء كان الفعلان من لفظين أو لفظ واحد، ألا ترى أنك لو قلت: أنزل على من أتكل، تريد أنزل على من أتكل عليه، كان جائزا: كما تقول: أنزل على /104/ من تنزل، وأمر بمن تمر سواء، وكذلك لو قلت: اقصد إلى من تذهب، تريد إليه، جاز، والشعر والمسألة سواء لا فرق بينهما غير اختلاف لفظ الفعلين، وإنما يمتنع مثل هذا إذا كان فعلا واحد كقولك: بزيد مررت به، فهذا قبيح لأنك تستغني بالباء الواحدة عن الأخرى، فأما إذا كانا فعلين فالأجود أن تأتي بالحرفين، وإن حذفت أحدهما جاز إذا كانا مثلين. فأما قول الفراء فضعيف لأنه إن جعل الثاني منقطعا من الأول وجعل كل واحد

منهما مكتفيا غير متعلق بالآخر فإنه يجعل الاستفهام جوابا للمجازاة، كأنه قال: إن لم يجد يوما فعلى من يتكل، فأضمر الفاء، وهذا ضعيف في الإعراب، والذي تأوله سيبويه أقوى لأنه يجوز في الكلام، فهذا بينهما في حسن الإعراب وقبحه، وبينهما في المعنى أيضا شيء آخر، لأن الاستفهام فيمن يتكل عليه الكريم وغير الكريم، ولا معنى لهذا في الكريم دون غيره، والمعنى في الأول أن الكريم يعتمل على أهله، فلا يعيبه ذلك إذا أعسر وهذا معنى حسن واضح. مسألة [77] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي، قال: (ولا يستفهم بكلما كما لا يستفهم بما تدوم). قال محمد: والاستفهام بكلما جائز، وذلك أن كلا بمنزلة غيرها مما انضاف إلى حروف الاستفهام، ألا ترى أن الرجل يقول: أخذت بعضه أو بعض ذلك، فلا يدرى ما هو فيقول: بعض ما أخذت؟ وكذلك لو قال: أخذت كل ذلك، فلم يدر ما هو، لقلت: كل ما أخذت؟ وكان بمنزلة قولك: غلام من ضربت؟ وإن شئت: كل م أخذت؟ مثل مجيء م جئت؟ وكذلك الأسماء يجوز معها الوجهان. قال أحمد: ذكر سيبويه ما بين المسألتين فقال: كلما تأتيني آتيك، وما تدوم لي أدوم لك، لا يجوز فيهما الجزاء ولا الاستفهام، لأن تدوم وتأتي صلتان لـ (ما) وهي في معنى

المصدر، لأنك لم تجعل الفعل عاملا في (ما) ولا تجعل فيه ضميرا يعود على (ما) فيجوز فيه الجزاء والاستفهام، ألا ترى أنك لو وضعت موضع /105/ تدوم تأخذ لجاز الجزاء والاستفهام جميعا فقلت: ما تأخذ آخذ، وكذلك كلما تأخذ آخذ، وإن استفهمت على هذا جاز، وكذلك إن أتيت بفعل يصلح أن يكون خبرا وفيه ضمير (ما) أو ضمير ما تضيفه إلى (ما)، جاز ذلك فقلت: ما يعجبك يعجبه، وكذلك إن استفهمت أو أضفت إلى (ما). وإنما أراد سيبويه بقوله: ولا تستفهم بكلما كما أراد بقوله: ولا تستفهم بما تدوم، أي: لا تستفهم بكلما تأتيني، يعني أنك لا تستفهم بكلما مع تأتيني كما لا تستفهم بها مع تدوم، والدليل على ذلك قوله: ولا تستفهم بما تدوم، فلو أراد (ما) لكان محالا، وإنما أراد بها إذا اقترنت مع هذا الفعل الذي ليس بخبر عنها ولا عامل فيها، لم يجز أن تستفهم بها ولا تجازي، وكذلك (كلما) إذا قرنها بفعل مثله لا تكون خبرا عنها، ولا عاملا فيها، وكذلك جميع الأفعال إذا جرت هذا المجرى، فإن عديتها إليها استفهمت وجازيت، لأنه قد خرج عن أن يكون صلة، فتقول: على ما تدم لي أدم لك، وإن شئت استفهمت فقلت: علام تدوم يا هذا؟ جاز لما عديت الفعل بعلى وصيرته عاملا في (ما)، فخرج عن أن يكون صلة، وكذلك لو قلت: بكل م تأتيني؟ مستفهما، لجاز إذا عديت الفعل بالباء كما تقول: بم تأتيني؟ وبما تأتني آتك. مسألة [78] ومن ذلك قوله في هذا الباب، قال: (وزعم أنه وجد رب لا جواب لها في أشعار العرب)، يعني الخليل، قال: (ومن ذلك قوله:

ودوية قفر تمشي نعامها كمشـ ... ــي النصارى في خفاف الأرندج فهذه القصيدة التي فيها هذا البيت لم يجئ فيها لرب بجواب لعلم المخاطب أنه يريد قطعتها). قال محمد: وإلى جانب هذا البيت في جميع الروايات: قطعت إلى معروفها منكراتها ... وقد خب آل الأمعز المتوهج قال أحمد: أما حذف الجواب فجائز في القرآن والكلام فضلا عن الشعر، ولا خلاف بين النحويين فيه، وأما الشهد فلعمري إنه في بعض النسخ، بل في أكثرها /106/ ما ذكر، وقد قرأت نسخة بخط بعض العلماء قديمة، والبيت الذي ذكره ساقط منها، ومحال أن يكون وجده فادعى أنه لم يجده، فليس هذا إلا من جهة ما يرويه بعض الناس ويسقطه بعض، فوقعت إليه نسخة لم يكن هذا البيت فيها نظير النسخة التي وجدناها، ولم يأت بهذا الشاهد لما احتاج إليه كثرة حذف الجواب في الكلام فعضلا عن الشعر، ومع هذا فقد زعم أن الجواب قطعتا، فكيف يجوز أن يحذف بيتا فيه (قطعت) ولا يذكره، وليس هذا من الغلط ولكنه سقط، ولا هي مسألة فيها خلاف. مسألة [79] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب الأفعال في القسم: (قال الله عز وجل: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} لأنه موضع ابتداء، ألا ترى أنك لو قلت: بدا لهم أيهم أفضل، لحسن كحسنه في عملت، كأنك قلت: ظهر لهم أهذا أفضل أم هذا).

قال محمد: وتفسيره خطأ، لأنه لم يجعل في (بدا) فاعلا، فقد أحال وناقض في قوله: ولا يخلو الفعل من فاعل، ولكنه- والله أعلم- على قوله: ثم بدا لهم بدو، ولكن حذف بدو من الكلام لأن (بدا) يدل عليه، ونظيره من كلام العرب من كذب كان شرا له، أي: الكذب، وكأنه- والله أعلم- ثم بدا لهم بدو قالوا: ليسجننه ولم يذكر (قالوا) لدلالة الكلام عليه كما قال: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} ومثله {والذين اتخذوا من دوله أولياء ما نعبدهم} يقولون، وليس ما وصف بمنزلة عملت، لأن في عملت الفاعل. قال أحمد: ما أقوله: لم يجعل في (بدا) فاعلا وأنه أحال وناقض فليس الأمر كذلك، لأن (ليسجننه) جملة في موضع الفاعل، وذلك أن أفعال العلم وما قاربها في معناها يجوز فيها مثل هذا، ألا ترى أنك تقول: قد بان لي أيهما أفضل، وقد بان لي أزيد أفضل أم عمرو، كقولك: قد بان لي ذلك، فهذه الجملة في موضع قولك: ذلك، وتقول: قد علمت أزيد أفضل أم عمرو، فتجعل هذه الجملة في موضع المفعول به، وإن شئت جعلتها في موضع الاسم الذي يقوم مقام الفاعل، فتقول: قد علم أزيد أفضل أم عمرو، ولذلك /107 قال سيبويه: إنه حسن كحسنه في علمت، لأن ظهر وتبين يجريان مجرى أفعال العلم والظن فهما يعملان فيه. وأما قوله: إنه يضمر فيه البدو، فإنما تضمر إذا كان الكلام محتاجا إلى الإضمار ناقصا عن التمام، فأما إذا كان الكلام تماما مفيدا غير مستحيل ولا ناقص فلا حاجة فيه إلى الإضمار، ولو كان الفاعل ها هنا هو البدو لجاز أن يحذف (ليسجننه) ويكون الكلام تاما، فتقول: قد ظهر وقد بدا، مبتدأين بالإخبار، ويضمر في البدا والظهور، ويكون الكلام تاما

على قوله، وهذا لا يجوز. وأما إضمار يقولون ليسجننه فلو كان هذا كما ذكر لكان من كلامين ولم يكن من كلام واحد، وليس مثل الآية التي ذكرها في قوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم}، فهذا إذا ظهر القول كان في موضع الحال، وهو من الجملة، كأنه- والله أعلم- يدخلون عليهم قائلين سلام عليكم، وليس يكون الحال في {ليسجننه} لأن الرأي لم يبد لهم في حال قولهم: ليسجننه، وإنما كان القول منهم بعد ظهور الرأي. وأما الآية الأخرى {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم} فكذلك ولو أظهر (البدو فقال: بدا لهم بدو ليسجننه لكان ليسجننه بدلا من البدو، ولا معنى لإضمار ما إذا ظهر كان هذا بدلا منه، وليس يكون الإضمار إلا مع نقص الكلام والحاجة إليه. مسألة [80] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب تكون فيه أن بدلا من شيء ليس بالآخر، قال: (ومما جاء بدلا من هذا الباب أيضا، قوله: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون}، فكأنه على: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم، وذلك أريد بها، ولكن قدمت (أن) الأولى ليعلم بعد أي شيء يكون الإخراج، ومثل ذلك: زعم أنه إذا أتاك أنه سيمضي، ولا يجوز أن تبتدئ إن ها هنا كما تبتدئ الأسماء والفعل إذا قلت: قد علمت زيد أبوه خير منك، وقد رأيت زيدا يقول أبوه ذلك، لأن إن لا تبتدأ في كل موضع، فهذا من تلك المواضع. قال محمد: أما الآية- والله أعلم- فإن تكرار أن فيها على وجهين: أحدهما،

أيعدكم /108/ أنكم إذا متم إخراجكم فأنكم مخرجون هذا الإخراج، وعمل الظرف وهو إذا، فمن ثم لم يجز الكسر كما لا يجوز يوم الجمعة إنك ذاهب، لأن معناه ذهابك، وهذا خلاف قوله في الظروف، وهو يقول أيضا، لا يجوز يوم الجمعة إنك ذاهب، وحجته قوله: لأن إن لا تبتدأ في كل موضع، وهذا كلام لا وجه له متى لم يحدد تلك المواضع بالعلل، والمعنى فيها ما قلناه من أن الظروف عاملة. والوجه الآخر أن يكون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما مخرجون، فلما تباعد مخرجون عن أن ردها توكيدا، ومثل هذا في القرآن كثير، من ذلك {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} رد إن ثانية، والمعنى- والله أعلم- قل إن الموت الذي تفرون منه ملاقيكم، ومثله {أفإن مت فهم الخالدون}، رد الفاء، والمعنى- والله أعلم- أفهم الخالدون إن مت، وكذلك {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها} وهذا أكثر من أن يحصى. وحكى عن الخليل، أن مثل ذلك قوله: {ألم يعلموا أنه من يحدد الله ورسوله فأن له نار جهنم} ولم يقل صوابا، لأن ما بعد الفاء لا يكون إلا مبتدأ، ولكنه إنما فتح على معنى فوجوب النار، هذا قول الأخفش، والصواب عندي "في" (أن) أن الأولى ردت على ما ذكرت لك قبل، وكذلك قول الجرمي.

قال أحمد: أما قوله: إن (إذا) عملت في (أن) فقد مضى رده والقول في أن الظروف لا يرفع، وأتينا في ذلك بما أغنى عن الإعادة إذ كانت فيه كفاية، ولكنا نخص هذا الموضع من الرد بما يشاكله، لو كان الأمر على ما ذهب إليه لجاز أن يكون الكلام مكتفيا بإذا والاسم الذي في تأويل المصدر، فتقول: إذا متم الإخراج، وإذا متم أنكم مخرجون، وهذا لا يجوز لأن الإخراج من صلة الكلام الأول الذي قبل إذا، وهو وجوب إذا، لأنها في تأويل الجزاء، ومن العرب من يجزم بها ومنهم من لا يجزم، وهي بمعنى الجزاء في الوجهين، وإنما استغنينا عن الفاء والفعل ها هنا لأن الفعل الذي يليها ماض، فحسن تقدم الجواب، وهذا كقولك: أنا إن شاء الله إزورك. وأن تمثيله هذا بيوم الجمعة فليس كذلك، لأن يوم الجمعة ليس فيه "معنى" جزاء، وإنما فتحت (أن) ولم تكسر إذا قلت: يوم الجمعة أنك ذاهب، لأن يوم الجمعة من صلة الخير، فلا /109/ يجوز أن تقدم ها هنا صلة الخبر على (أن) كما لا يجوز أن تقدم الخبر عليها، فلما لم يجز ذلك جعلت مصدرا وجعل اليوم خبرا مقدما. وأما قوله: إنه جعل حجته في ذلك قوله: إن (إن) لا تبتدأ في كل موضع، فالذي أنكره أنه لم يصحب هذه الدعوى تحديد المواضع وذكر العلل التي توجب فتحها أو كسرها، وقد ذكر ذلك وخطب به في أبواب كثيرة ومواضع بين فيها ما يوجب الكسر والفتح، وليس يصلح إعادتها عند كل دعوى فيطول بذلك الكتاب، ولا هي علة واحدة فيأتي بها في لفظ أو لفظات يسيرة، ولا كل قول يمكن فيه ذلك، فإن كان هذا ممكنا فقد كان بذكره أولى وبشرحه أحق من الطعن عليه، لأن هذا يدخل في باب الشرح لما قصر في كشفه والدلالة عليه لا في باب الرد فيما غلط فيه، إذا كانت دعواه صحيحة. وأما التوجه الآخر الذي ذكره في التكرار فهو الوجه الذي ذكره سيبويه في البدل، وهل

البدل إلا تكرار الاسم الأول مؤكدا بتكرره، ألا ترى إلى قول سيبويه في باب البدل: إن الاسم الثاني يثنى توكيدا، فقد جعله مثنى، وإنما سماه هذا مكررا لأنه يأتي على نوعين: منه ما يرد بلفظ الأول وهو واحد، وهو أقل الوجهين، ومنه ما يأتي بغير لفظ الأول كقولك: قام أخوك زيد، وهو أكثر الوجهين، فسمى ما كان مثنى بلفظ الأول مكررا، وهو بدل بأي اسم سماه، ألا ترى أنه لا بد "له" من أن يجعل لـ (أن) الثانية موضعا من الإعراب "وإن جعلها مكررة، وليس التكرر بمخرجها من الإعراب"، ولا بد له ضرورة من أن يقول: إنه يعرب الثانية بإعراب الأولى، وإلا جعل هذا الاسم في الكلام لا موضع له من الإعراب، ولو قلت: قام زيد زيد لكان إعرابه كإعراب قام أخوك زيد، كأنك ظننت أن المخاطب لم يفهم عنك فأعدت الاسم وكررته توكيدا. وأما الآيات التي استشهد بها في التكرار فليس ينكر أن يكون التكرار جائزا في الكلام، وقد أصاب في تأويل بعضها وأخطأ في بعض، فأما ما أخطأ فيه فهو تأويل قوله عز وجل: {أفإن مت فهم الخالدون} /110/، فجعل الفاء ها هنا مكرره، وليس كما ذكره، لأن الفاء الأولى عاطفة على كلام المتكلم، والثانية جواب المجازاة، ألا ترى أن الثانية لا يصلح الكلام إلا بها ولا يتم دونها، والأولى ليست كذلك، لأن المجيء بها في الكلام لا يلزم، ألا ترى أن قائلا لو قال لك: ما قام زيد، فأردت أن تعطف على كلامه لقلت أفقام عمرو، وإن شئت لم تأت بالفاء، ومن العجب أنه في هذا الكلام يجعل التكرار بالحرف الأول لا بالثاني، لأن الأول لا يجوز حذفه، والثاني جائز حذفه من الكلام. وأما تأويله في قوله تعالى: {ألم يعلموا أن من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم} وقوله: إن ما بعد الفاء لا يكون إلا مبتدأ، فهذا رد على القراء في قراءتهم بالفتح، ثم ناقض

بعد ذلك بأن قال: وإنما فتح على معنى فوجوب النار لهم، وهي إذا كانت مبتدأة فلا يجوز أن تكون مفتوحة، وحكى هذا القول عن الأخفش، ثم رغب عنه، وعدل إلى غيره، ولو لزم أن يفتح على معنى ما قال الأخفش فوجوب النار له، كأنه يجعلها مصدرا في موضع الابتداء فيفتحها ويضمر الخبر لوجب أن يفتحها مبتدئا وينوي ذلك فيقول: أن لزيد مالا بالفتح، وهذا لا يجيزه أحد ولا سمع في كلام عربي. وأما الذي رآه صوابا وعدل عن قول الأخفش إليه، وهو التكرار الذي ذكره في المسألة الأولى، فهو قول سيبويه في البدل، وإنما غير الكلام بقوله: التكرار، وإلا فلا بد من أن يجعل لـ (أن) الثانية موضعا من الإعراب، وذلك يلزمه أن يعربها بإعراب الأولى لا غير، وإنما التبس عليه ذلك من أجل أن الهاء الأولى كناية عن جملة، وهي الجملة التي بعد الهاء، فإذا أراد أن يضع أن الثانية موضع الأولى صار البدل على المعنى وتغير الفظ، لأنك تقول إذا وضعت الثانية موضع الأولى: ألم يعلموا أن لمن يحادد الله ورسوله نار جهنم، فبطل الجزاء من اللفظ، ومعناه موجود في (من) في هذه التي صارت بمعنى الذي ولم يتغير من المعنى شيء، ولما كانت اللام التي في (له) عاملة في الهاء العائدة على (من) التي للمجازاة جعلناها عاملة بعد (أن) في (من) التي قامت مقام حرف الجزاء، لأن الهاء هي هي في المعنى. مسألة [81] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب من أبواب إن، قال: وسألته- يعني الخليل- هل يجوز: كما أنك [ها هنا] على "قولك": كما أنت هنا فقال: لا، لأن إن لا تبتدأ في كل موضع.

قال محمد: /111/ وهذا كلام لا وجه له إذا لم يوضح الموضع الذي لا تبتدأ فيه بعلته و"ما" بقوله: كما أنك ها هنا فاسد، ذلك فيمن جعل (ما) والكاف بمنزلة شيء واحد، وهما ها هنا لوقوع الابتداء بعدهما بمنزلة إذا وما أشبهها. قال أحمد: ليس تركه تبيين العلة في هذا الموضع بدليل على فساد الكلام، لأن المدعي قد يكون صحيح الدعوى وإن لم يأت مع دعواه ببينة، ومع هذا فقد أتى بعلل إن وأن فيما تقدم من الأبواب مجملا ومفسرا، ونحن نشرح العلة في فتحها ها هنا وأنه لا يجوز الكسر، وذلك أن الشبه إنما يكون بين اسمين ولا يكون بين اسم وجملة قول، ألا ترى أنك تقول: زيد كعمرو، وزيد مثل عمرو "ولا تقول: زيد مثل قام عمرو"، ولا زيد كأنه قام عمرو، ولكن زيد كأنه عمرو، فأن المفتوحة وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد في موضع مصدر، ولو أتيت ها هنا بإن المكسورة لاحتجت لأن تتأولها بمعنى المصدر حتى يصح التشبيه ومعنى الكلام، وإذا جعلتها كذلك فتحها. فإن قال قائل: فلم جاز كما أنت ها هنا؟ [وكيف يصح المعنى؟ قيل له: تأولوه بمعنى المصدر، كأنهم قالوا: هو حق كاستقرارك ها هنا] لأن المفتوحة في كل موضع بتأويل المصدر، وإنما جعل المبتدأ ها هنا في موضع المصدر ليصح معنى الكلام، وليس هذا جائزا في كل موضع، فلو جعلوا إن المكسورة ها هنا لاضطروا أن يتأولوا بتأويل المصدر وعادوا بذلك إلى معنى المفتوحة، فلذلك كانت المفتوحة لازمة، ولم تجز المكسورة ها هنا. وتأويل الكلام: هو حق ككونك ها هنا: فالمصدر ها هنا واجب ليكون الاسم الأول

مشبها به، فإن أتيت بالمكسورة لم تكن في موضع المصدر، فإن قلت: أجعلها مكسورة في معنى المصدر، لم يجز ذلك واختلط الكلام، لأنك تضع المكسورة [في] موضع المفتوحة والمعنى للمفتوحة، وأنت تقدر على الإتيان بها. مسألة [82] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب من أبواب أن التي تكون مع الفعل بمنزلة مصدره، فال: (وسألت الخيل عن قوله: أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا ... جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم فقال: هي (إن) لأنه يقبح أن يفصل بين أن والفعل كما قبح ذلك في كي، فلما /112/ قبح حمل غلى إن، لأنه قد تقدم فيها الأسماء قبل الأفعال. قال محمد: وهذا خطأ، وذلك لأن (إن) إنما هي لما لم يقع، والشعر قيل بعد قتل قتيبة، ولكنه أراد أن المخففة من الثقيلة كأنه قال: أتغضب أنه أذنا قتيبة، أي: لأنه، وكسر أن ها هنا لا يجوز البتة كما قال جل وعز: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} أي: أنه. قال أحمد: قوله: إن هذا خطأ لأن (إن) لما لم يقع، فهذا كثير في الكلام، وهو أن يجعل المستقبل في موضع الماضي، والماضي في موضع المستقبل كقول الله جل وعز: {وإذ قال الله يا عيسى} فهذا ماض في موضع المستقبل، و {إذا جاءك المنافقون} فإذا تدل على الاستقبال وقد وضعت لي موضع الماضي، وكذلك (إن) قد توضع مع الماضي على الحقيقة وإن كان أصلها وذلك نحو قولك في رجل قد جربته: إن أحسنت إليك لم تشكر، بمعنى قد أحسنت إليك فلم تشكر أي: قد بلوت ذلك منك، فقد حمل الخيل هذه

المسألة على تأويل يجوز في الكلام وفي كتاب الله جل وعز، وهو حسن غير ممتنع. وأما تأويله (أن) المخففة من الثقيلة فلا يجوز ذلك، لأن الجملة التي بعدها مبنية، من اسم وفعل، وإذا كانت من اسم وفعل فالفعل أولى أن يلي (إن)، ولا يجوز أن تنوي بها الثقيلة إذا كان في الجملة فعل، لأن (إن) تطلب الفعل، فأما احتجاجه بالآية {وآخر دعواهم أن الحمد لله} على معنى أنه الحمد لله، فهذه الجملة لا فعل فيها فلذلك حسن أن تنوي بها الثقيلة. فإن قال قائل: فقد تأتي بالثقيلة وتأتي معها بجملة فيها فعل كقولك: أعجبني أنه قام زيد، وأعجبني أنه زيد قام، فهلا جاز إذا خففناها، قيل له: إنما يجوز ذلك إذا كانت على أصلها وتمامها، ولا يجوز إذا التبس لفظها بأن الخفيفة التي يكون الفعل معها ولا يعلم أهي هذه أم هذه؟ وأما أحب ألا تفعل، فقد لزمتها (لا) عوضا من التشديد، وألزم الفعل المستقبل ولم يجز الماضي ها هنا كما جاز في (أن) إذا قلت: أعجبني أن قام وأن يقوم، فتلك بعدها الماضي والمستقبل ولا يحتاج فيها إلى (لا)، لأنك لم تحذف منها شيئا فتحتاج إلى عوض. مسألة [83] /113/ ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما ينصرف من الأفعال إذا سميت به رجلا: (فإن سميت رجلا ضربوا فيمن قال: أكلوني البراغيث قلت: هذا ضربون ... ورأيت ضربين، وكذلك يضربون ... فإن جعلت الإعراب في النون فيمن قال: مسلمين،

صرفت وأبدلت مكان الواو ياء، لأنها قد صارت بمنزلة الأسماء، كأنك سميت بيبرين) قال محمد: وصرف يبرين لو لم يكن اسم بلدة، ولكن إذا سميت بها رجلا خطأ، وكذلك يضربين، لأن يبرين يرمين إذا أردت جماعة النساء، ويضربين بمنزلة تضربين إذا خاطبت امرأة، والياء والتاء في هذا واحد، ألا ترى أنك تقول: أنت تعد، ولا ترد الواو، وإنما استثقلت بين الياء والكسرة فطرحت، وإذا جاءت التاء وبعض حروف المضارعة كن متبعات للياء لئلا يختلفن، فكذلك هذا، وكذلك ما أمليح زيدا! وإنما صغر من الأفعال ما أوله الهمزة وجعل سائر حروف المضارعة كذلك، لو صغرت يزيد ويشكر وينضب لم تصرف، وأنت لا تجد فعلا مصغرا إلا ما أوله الهمزة في باب التعجب. قال أحمد: المسألة التي بني الكلام عليه وصدر القول بها ضربوا، وقال في التسمية به: هذا ضربون ورأيت ضربين، ثم اعترض بيضريون فقال: وكذلك يضربون، أي: يجعل مكان هذه الواو ياء في النصب كما فعلت ذلك في الفعل الماضي فتقول: رأيت يضربين كما تقول: رأيت ضربين، فسوى بينهما في هذا المعنى، ثم رجع إلى الكلام في ضربوا، قال: فإن جعلت الإعراب في النون صرفت، لأنها المسألة التي ابتدأ بالكلام عليها، ولم يرد الصرف في يضربون. وقوله: كأنك سميته يبرين، فشبهها بها في لزوم الياء وهو الوجه الثاني لا في الصرف، فظن أنه شبهها بها في الأمرين جميعا، وأجرى يضربون مجرى ضربون في بدل الواو خاصة، فإذا جعل حرف الإعراب في النون، من (ضربون) جعل مكان الواو ياء

وصرف، ولزمت الياء كما لزمت في يبرين "ولم يرد أنها انصرفت كما أنصرفت يبرين" وكذلك كلامه وهذا التأويل لظن الراد عليه. وأما اعتلاله بأن الياء والتاء واحد في باب يعد، وما أميلح زيدا! فقد أتى في غير موضعه، لأن الهمزة والتاء والياء والنون/ 114/ إذا جاءت في أوائل الأسماء التي على وزن الفعل المضارع فمجراها مجرى واحد، في منع الصرف إذا كن زوائد، لا يقال: إن بعضها أولى والثاني تابع ومشبه، وليس الأمر كذلك في باب يعد، وذلك أن الأصل في سقوط الواو مع الياء والكسرة إذا وقعت بينهما في قولك: يعد، وأسقطت مع الهمزة في أعد ومع التاء في تعد، والنون على الإتباع ليطرد الكلام، وليس في المجيء بهذا فائدة في هذا الموضع، لأنه لا خلاف في أن هذه الحروف إذا وقعت زوائد في أوائل الأسماء [التي] على وزن "الفعل" المضارع أن تلك الأسماء غير مصروفة. مسألة [84] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب أسماء القبائل والأحياء، احتج بمن جعل سبأ اسم الأب والحي فصرفه بقوله: أضحت ينفرها الولدان من سبأ ... كأنهم بين دفيها دحاريج قال محمد: فلا حجة في البيت، لأن الشاعر يصرف ما لا ينصرف. قال "أحمد" أما قوله في سبأ: إنه لا حجة في البيت الذي أنشده لأنه قد ينصرف في الشعر ما لا ينصرف في الكلام للضرورة، فلم يأت بالشعر إلا بعد تقديم الحجة بأنه ينصرف في الكلام والقرآن، وإذا كان ينصرف في الكلام فهو في الشعر أجوز، وإنما أتى بذلك

سيبويه لأنه ذكر أن ثمود وسبأ يكونان للقبيلتين وللحيين، وذكر أن كثرتهما في الكلام العرب بالصرف وترك الصرف سواء، واحتج أولا بالقرآن، وأن من القراء من يصرف، وأن أبا عمرو كان لا يصرف، ثم ذكر أنهما كذلك في الشعر يتساويان في الصرف وتركه، فأتى بشاهدين لهما ليدل على صحة ما أدعاه من استواء ذلك في الكلام والشعر، ولم يقتصر على الشعر دون الشاهد من القرآن، ولو أتانا شيء غير مصروف في شعر وفيه علة من العلل المانعة للصرف في الكلام لكان الأولى أن نحمله على بابه لا على الضرورة. مسألة [85] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما لم يفع إلا اسما للقبيلة، احتج في أن يهود اسم مؤنث للقبيلة بقوله: أولئك أولى من يهود بمدحة ... إذا أنت يوما قلتها لم تؤنب قال محمد: ولا حجة في هذا، وذلك أن يهود لا ينصرف لو أراد به الحي، لأن الياء زائدة/ 115/ بمنزلتها في يقول. قال أحمد: العرب تجري يهود مجرى مجوس في التأنيث، وهما نظيران، وإذا أنثتهما وجعلتهما معرفة فقد لزم ترك الصرف بهاتين العلتين، والراد معترف بهما، وجعل ادعاءه على ثالثة ردا، فإن صح ما قال: إن الياء زائدة وجعلت من هاد يهود، فهذه علة ثالثة، والعلتان

تكفيان في منع الصرف، وإذا جاء اسم أعجمي معرفة على وزن الفعل المضارع لمنعناه الصرف ولم نراع الوزن، وكذلك لو أن اسما مؤنثا معرفة وقع في الكلام على وزن الفعل المضارع لمنعناه الصرف بالتأنيث والتعريف، وألغينا العلة الثالثة، وكذلك لو وقع فيه أكثر من ذلك من العلل المانعة للصرف. مسألة [86] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب تسميتك الحروف بالظروف، زعم أن أحد ما يستدل به على أن (أين) مذكر أنه بمنزلة جوابه، وجوابه مذكر كخلف زيد ونحوه. قال محمد: وقد يكون جواب (أين) مؤنثا كقولك: ناحية عبد الله، وقبالة زيد ونحو ذلك، وذكر في هذا الباب في صرف قيل وقال إذا كانا اسمين قول الشاعر: أصبح الدهر وقد ألوى بهم ... غير تقوالك من قيل وقال قال: والقوافي مجرورة، قال محمد: وليس في هذا حجة، لأنه جائز أن تكون القوافي مقيدة وتكون (قيل) مفتوحا ولا ينكسر البيت. قال أحمد: لو قيل للراد: ما تقول في اسم لا نعلم أمؤنث هو أم مذكر؟ ما الأولى عندك فيه التأنيث أم التذكير؟ فإنه لا يجد بدا على حسب ما توجبه صناعته من أن يحمله على التذكير قبل التأنيث، ولأن التذكير أكثر من التأنيث، ولأنا نرد المؤنث إلى المذكر فنذكر ما كان مؤنثا مسموعا ولا نؤنث ما كان مذكرا، فجواب (أين) وإن وقع مؤنثا فليس بالأكثر، وإنما هي أسماء يسيرة من الظروف، وأكثر الظروف مذكر، وجوابها ظرف، والحمل على الأكثر أولى كما قال سيبويه في هذا الباب، وقد

بين لنا أن أكثر الظروف مذكر حيث حقرت، فهي على الأكثر، وهذا من أصولهم، فإن كان الحمل على الأكثر ليس بالأولى فليكن الحمل على الأقل عنده أولى، وقد وافقه على مثل ذلك في مواضع كثرة، منها أنه زعم أن الهمزة والياء إذا وقعتا في أول اسم على وزن/ 116/ الفعل المضارع أنه يحكم عليه بالزيادة، ويمنع الاسم الصرف وإن لم يعلم اشتقاقه لأن الأكثر الأغلب أن يقعا زائدتين في هذا الموضع. وأما "ما" ذكره من قول الشاعر: أصبح الدهر ... إلى آخره، وأنه لا حجة له في قوله: والقوافي مجرورة، لأنه يجوز في هذا الوزن أن تكون القوافي مقيدة، فالحجة لسيبويه فيه كالحجة للخليل عنده، إذ قبل ما أتى به في الرمل من هذا الوزن مطلقا ومقيدا، لأنه استشهد للمطلق بقول الشاعر: مثل سحق البرد عفى بعدك ... القطر مغناه وتأويب الشمال فهذا مطلق، وهو أن يكون مقيدا ويصح الوزن، والبيت الآخر المقيد قول الآخر: أبلغ النعمان عني مالكا ... أنه قد طال حبسي وانتظار فهذان البيتان جاء بهما الخليل والأخفش وأصحاب العروض شاهدين، وإنما رد سيبويه بما وقف عليه من جواز التقييد في الرمل، وقبول هذه البيتين يوجب عليه قبول

البيت الذي أتى به سيبويه أو رد الجميع، وذلك أن المقيد منهما يصلح أن يكون مطلقا، والمطلق يصلح أن يكون مقيدا، وإنما قبلناها على حسب ما يقبل خبر الواحد الموثوق به، وإنه سمع العرب تنشد هذا مطلقا وهذا مقيدا، وكذلك البيت الذي أنشده سيبويه إنما يقبل منه على أنه سمع العرب تطلق قوافيه، وإن كان احتمال تقييده يوجب تكذيبه فيما سمعه كان الأمر في هذين البيتين كذلك، وقد حكى النحويون أشياء كثيرة عن العرب بغير شاهد فقبلت عنهم كما يقبل خبر الواحد المظنون به خيرا. مسألة [87] ومن ذلك قوله في باب ما جاء معدولا عن حده من المؤنث، زعم أن قوله: يدعو بها ولدانهم عرعار وقوله: قالت له ريح الصبا قرقار أنهما معدولان من بنات الأربعة كما عدلت رقاش ونزال من بنات الثلاثة، وأن معنى قرقار الفعل مثل نزال، إنما أراد قرقر بالرعد، وأن عرعار بمنزلة خراج من الثلاثة، وهي لعبة مثلها، ومعنى خراج أخرج من اللعبة، فقد أخرجتك، وكذا زعم معنى عرعار. قال محمد بن يزيد: وليس هذا كما وصف، من قبل أن الشيء لا يحكم عليه بالعدل والخروج/ 117/ عن أصله حتى يتبين ذلك فلا يكون فيه مطعن، فأما عرعار فغنما هي لعبة للصبيان يقولون فيها: عرعار، وإنما حكى أصواتهم، وزعم أبو عثمان عن

الأصمعي عن أبي عمرو ما وصفنا أنه يقال: عرعر الصبي إذا قال: عار عار، بمنزلة دعدع بالغنم، وسبح وهلل، وأما قرقار فإنما هو حكاية صوت الريح في السحاب كما قال: البحر يدعو سيفما وسيفما إنما حكى صوته، وهذا قول أبي عثمان، لأن حذام معدول عن حاذمة، وعرعار ونحوه ليس له اسم معروف فيكون هذا معدولا عنه. قال أحمد: ليس في رد ما قاله شيء أقرب مما حكاه عن أبي عمرو بن العلاء في أنه يقال: عرعر الصبي فيبني منه فعلا، وإذا بنى منه فعلا كان الاسم معرعر، وجاز العدل، وحكى ذلك ثم قال بعده: وليس له اسم معروف فيكون هذا معدولا عنه كما كان حذام من حاذمة، وكذلك معرعر من عرعر، وعارعار ليس حكاية لقولهم: عار عار، لأن هذا بناء غير ذلك البناء، وكذلك قرقار معدول من مقرقر، لأنه يقال: قرقر، وإذا سمع الفعل واسم الفاعل جاز تأويل الفعل، على أن ذكر اسم الفاعل في هذه المسألة لا وجه له، لأن هذا معدول عن افعل كأنه قال: عرعر، وليس بمنزلة حذام، لأن ذلك عدل عن حاذمة، وهذا معدول عن افعل أمرا. مسألة [88] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب تغيير الأسماء المبهمة إذا صارت علامات، زعم أنه إذا سمى رجلا أمس وسحر وهو يريد المعدول عن الألف واللام الذي لا ينصرف وهو ظرف، وإذا سمي بها أو برباع وثلاث وما أشبه جميع هذا إنه يصرفه في المعرفة

والنكرة، وكذلك يلزمه في أخر. قال محمد: وهذا صواب، لأنه نقله عن الموضع الذي عدل منه، وزالت عنه العلل التي لها منع الصر والتمكن، فصار أمس كعمرو، وسحر كجبل، ورباع كغراب، وأخر كصرد، كما أنه حيث سمى الرجل ضرب الذي هو فعل أعربه، فصار كحجر، وصار ضارب الذي هو قول ضارب عبد الله زيد بمنزلة خاتم، وصار ضارب في الأمر بمنزلة ضارب الذي هو اسم، وهذا نقض قوله في أحمر وما أشبهه إنه إذا سمي به لم ينصرف في النكرة، ويلزمه أن يصرفه في النكرة كما قال أبو الحسن الأخفش./ 118/ وذلك لأن المانع له من الصرف في النكرة أنه وصف وإذا سمي به فقد أزال عنه ذلك المعنى وأدخله في باب أفعل، وذهبت دلالته على معنى الحمرة. فإن قال قائل: فأنت قد تقول: مررت بنسوة أربع، فينبغي ألا تصرف أربعا لأنك قد أخرجته من باب الأسماء ووصفت به كما أخرجت من باب الوصف وسميت به، فإن هذا لا يلزم، من قبل أن أربعا إنما كان في الأصل اسما للعدد، ثم توسعت فوصفت به ولم تخرجه عن أن يكون اسما للعدد ولا مفارقا لشيء من معناه، وأحمر حيث سميت به أخرجته من باب الحمرة ومن الشيء الذي كان يدل عليه وصار بمنزلة زيد وما أشبهه. وكان أبو الحسن لا يصرف أرمل في النكرة من قولك: مررت برجل أرمل يا فتى، ولا

يلتفت إلى قولهم: أرملة، وغيره يصرف في النكرة لأنه اسم نعت به، والدليل على ذلك تأنيثه على لفظه. قال أحمد: حجة سيبويه في ترك صرف (أحمر) إذا سمي به ما وحد عليه اجتماع العرب في ذلك، ألا ترى إلى قوله في باب ما كان من أفعل صفة في بعض اللغات واسما في أكثر الكلام، قال: (وأما أدهم إذا عنيت به القيد، وأسود إذا عنيت به الحية، وأرقم إذا عنيت الحية أيضا، لم تصرفه في معرفة ولا نكرة، لم تختلف في ذلك العرب، فهذا نص قوله، وسبيله وسبيل النحويين إتباع كلام العرب إذ) كانوا يقصدون إلى التكلم بلغتها، فأما أن يعلموا قياسا- وإن حسن- يؤدي إلى غير لغتها فليس لهم ذلك، وهو غير ما بنوا عليه صناعتهم، وقياس هذه الأشياء سهل كما قال سيبويه وإن وافق كلامهم. فأما اعتلاله بصرف المعدول إذا سمي به لأن العدل قد زال عنه بالتسمية، فهذا الذي قاس عليه باب أحمر أوقعه في مخالفة العرب فيما لم تختلف فيه، ولعمري لو لم يسمع من العرب ترك الصرف في أدهم وأرقم وأسود وما أشبه ذلك إذا سموا بها لكان ما ذكر قياسا سهلا، ولكن لابد من متابعتهم إذ كنا نريد التكلم بلغتهم دون ما يطرد لنا ويحسن في مقايسنا، وإذ وجدنا العرب تجعل للفعل المستقبل ماضيا من لفظه كقولهم من ضرب: يضرب، ومن يضرب ضرب، وهذا مطرد في أكثر الكلام، ثم ابتعناهم في (يدع) فلم نقس عليه (ودع) ونعمل منه ماضيا على حسب ما جاء مستقبلا، وكان قياس هذا سهلا، ولكنا/ 119/ اتبعناهم فتركنا من ذلك ما تركوا وتكلمنا بما تكلموا، وقالوا: عسى، فجاؤوا بالماضي ولم يقولوا: يعسي فيأتوا بالمستقبل، فتنكبناه إذ تنكبوه.

مسألة [89] قال: ومن ذلك قوله في باب الظروف المبهمة، قال: (ومن العرب من يقول: من فوق ومن تحت، يشبهه بقبل وبعد)، واحتج بقول الراجز: لا يحمل الفارس إلا الملبون ... المحض من أمامه ومن دون قال محمد: ولا حجة في هذا، لأن الشعر مقيد فيجوز أن تكون (دون) ها هنا مجرورة وإن كان ما ذكر من بنائها على الضم صوابا، إلا أن له في هذا أدنى مذهب، نقول: إذا كان أمامه معرفة بالإضافة فالأجود في (دون) أن تكون معرفة، لأنه عطف على معرفة، وإذا كان معرفة فوجهه أن يكون مضموما. قال أحمد: أما الوجه الذي تأوله فيه وجوز به قوله، وهو أنه عطف على معرفة، فلم يجز ذلك من أجله، والدليل على ما يقول أن النكرة قد تعطف على المعرفة، والمعرفة على النكرة، وأن الذي ذكر قد يجيء في غير العطف، وذلك قولك: نزلت من فوق الدار إلى أسفل، تريد إلى أسفلها، وإنما هذا لأنك أردت إلى أسفل دار بعينها قد ذرتها وأضفت أحد الطرفين إليها، وليس ها هنا عطف ولكنك أردت ما قلنا من التعريف، فلم يجز الجر والتنوين، لأنك تنوي الإضافة، فكذلك قول الراجز: المحض من أمامه ومن دون فليس يجوز أن يتأوله على أنه أراد: المحض من أمامه ومن دون غير ما أضاف الأمام إليه، كما أنك إذا قلت: نزلت من فوق الجبل إلى أسفل، فلست تريد أسفل من آخر غير الجبل، ولا يجوز في البيت على هذا غير ما ذهب إليه سيبويه.

مسألة [90] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب إرادة اللفظ بالحرف الواحد، قال: ولو سميت رجلا بالباء من اضرب لقلت: إب كما ترى، ولا يختل هذا كما ترى أن يكون في وصله على حرف، وشبهه بـ (اب) إذا خففت همزته. قال محمد: وهذا من الخطأ الفاحش، لأن ألف الوصل لا تلحق حرفا متحركا، لأنها إنما تدخل لسكون ما بعدها، وهذا نقض قوله وأقوال جميع النحويين. قال أحمد: أما قوله: إن هذا من الخطأ الفاحش، لأن ألف الوصل لا تلحق حرفا متحركا، فتوهم منه، لأن سيبويه إنما يلحق الألف هذه الباء/ 120/ في الوقف لا في الوصل، وهي في الوقف ساكنة، فم يلحقها حرفا متحركا، فإذا وصل الباء بما أسقط الألف، والدليل على ذلك ما حكاه عنه من قوله: ولا يختل هذا أن يكون في وصله على حرف واحد، لأنه يعتمد على ما بعده، وبتمثيله لقوله: ع كلاما وتشبيهه بـ (اب) إذا خففت همزته فقلت: من اب لك؟ فحذفت الهمزة، فألغيت حركتها على النون من (من)، بقوله: إذ كانت كينونته على حرف لا يلزم في الابتداء. وأما حكايته عنه أنه قال: لو سميت بالباء من اضرب لقلت: اب كما ترى، فليس ذلك في الكتاب على ما حكاه ولا هو النسخة التي رواها فضلا عما سواها، وإنما في الكتاب: هذا اب كما ترى، بإسقاط الهمزة التي للوصل، وإنما حكاه

على الظن لا على التحقيق. مسألة [91] ومن ذلك قوله في هذا الباب، قال: ولو سميت رجلا بالضاد من ضرب لقلت: ضاء، ومن ضحى لقلت: ضو، ومن ضراب لقلت: ضي، تلحق بعد كل حرف ما حركته منه، ثم تزيد على الذي يلحق مثله كما فعلت بقي ولو ولا. قال محمد: وهذا خطأ فاحش أيضا ونقض لما أصل عليه، لأنك إنما تتوهم ما حذف منه بالحركات والحروف إذا لم تدر ما أصله، فأما إذا عرفت أنها ضاد من ضرب لم ترد إلا راء ضرب وباءها، لأنه منها حذف، وقد عرفت ذلك، و (ما) و (في) و (لو) لم تدر ما حذف منهن، فرددت مثل ما فيهن، ألا ترى أنك تصغر حرا فتقول: حريح لقولك: أحراح، وتقول [في رجل] اسمه ذو: هذا ذوا قد جاء، لقولك: ذوات، وكذلك جميع ما يشبه هذا. قال أحمد: لم يرد الخليل بذكر الباء من ضرب هذه الجملة بعينها، وإنما جعل ضرب مثالا، والباء من ضرب ومن ذهب واحد، كما أنه لم يقصد إلى الباء بعينها دون الضاد ودون كل حرف مفتوح فجعله حرفا مفتوحا في مثال من الأمثلة، لأن حروف المعجم ليست لها حركات تستحقها في: أ، ب، ت، "ث" قبل تأليفها في أبنية الكلام، فلذلك مثلها في بناء من الأبنية لتراها متحركة أو ساكنة في بناء الكلمة، ولو قال: إذا سميت بباء مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة، والباء لا فتحة لها ولا كسرة ولا ضمة في الأصل إلا أن

تكون مبنية في كلمة، لكان كلاما غير محقق/ 121/ ولا محصل في الظاهر، وإنما يصح على وجه من التأويل، فترجع إلى ما قال: ولو سمينا بالباء من ضرب أو من ذهب لكان قياسهما واحدا، ويدل على أنه لم يرد الكلمة بعينها وأنه لم يأت بها إلا على سبيل المثال، أن المخاطب لا يعلم أنها الباء من ضرب، ولو وصلها "بحرف" آخر من حروف ضرب على قول الأخفش: ضب، وعلى قول غيره: رب، وكذلك لو سمي رجلا بالباء من عذب فقال: عب أو ذب كان الأمر كذلك في الإشكال "فإن كان الغرض تبيين الكلمة" فالإتيان بكل حروفها أبين لها، وإن كان الغرض التسمية بهذا فحذف فالقياس ما قال الخليل، ولم يلتفت إلى نفس الكلمة، لأن الحرف تشترك فيه كلمات كثيرة، فلا يعلم أهو من هذه أو من هذه؟ مسألة [92] ومن ذلك قوله في باب الحكاية، قال: (وإذا سميت رجلا: الذي رأيته، لم تغيره، ولم يجز أن تناديه) قال محمد: [بن يزيد] وهذا خطأ، من قبل أنه لو كان كذا خرج من حد الأسماء، لأن الاسم وقع ليقصد صاحبه به وقد صار اسما فخرج من أن تقول فيه: يا أيها، ولكن تقول: يا الذي رأيته كما تقول: يا الله أغفر لي. قال أحمد: أما قوله: لو كان كما وصف لخرج من حد الاسم، فقول غير مستقيم، وكيف يخرجه ترك النداء من حد الأسماء؟ والعرب قد سمت بالضحاك والحارث وأشباههما لوم تلحقها حرف النداء ولا أخرجها ذلك من حد الأسماء. وأما احتجاجه باسم الله تعالى وأنا نقول: يا ألله اغفر لي، فهذا اسم صارت الألف واللام

فيه كبعض حروفه، وحذف منه واختصر وكثر في الكلام والدعاء عند الحذف والرجاء وعند أكثر الأحوال وفي أكثر الأوقات، واختص إذا جرى هذا المجرى بحال لا تكون لسواه. مسألة [93] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب النسبة إلى فعيل وفعيل من بنات الياء والوا، زعم أنه إذا نسب إلي عدوة قال: عدوي، فحذف منها كما يحذف من حنيفة "الياء". قال محمد: وهذا غلط، إنما يفر من الياء لاجتماع الياءات، والواو لا تكره ها هنا، والدليل على ذلك اختلافهما في التذكير، ألا ترى أنك تقول في عدو: عدوي، لا اختلاف في ذلك، وفي عدي: /122/ عدوي فتحذف، وأما احتجاجه بقولهم: في شنوءة: شنئي، فإنما هو شاذ كقولهم: زباني في زبينة، وبصري وسهلي، ألا تراه يقول في شقرة: شقري، فرارا من الكسرة والياء، وتقول في سمرة: سمري، فلا تغير. قال أحمد: ليست علته في باب فعيلة وفعولة في الحذف ما ذكر محمد بن يزيد، وإنما وجد هذا قياسا مطردا فيما كانت فيه الهاء خاصة واعتل بأنهم لما وجدوا أواخر الكلمة تتغير لا محالة، فتكون هاء في الوقف وتاء في الوصل فحذفوه، وكان الحذف على ذلك أنهم قد يقولون في أمية: أميي وفي عدي: عديي فيجمعون بين أربع ياءات وكسرتين، وليس يجتمع مثل

هذا الثقل في حنيفة وربيعة. وحكى أن العرب تسوي بين ذوات الياء والواو، فتقول في شنوءة: شنئي كما تقول في ربيعة: ربعي، وهذا بالتكذيب لما حكاه أشبه منه بالرد والاحتجاج، لأنه إنما حكاه عن العرب، ولم يدع أنه استنبطه وقاسه. وأما عدو فليست في آخره الهاء فيلزمه التغيير في النسب بحذف الهاء، فإنما جاء به على الأصل لذلك، وإنما ذكر أن القياس المطرد في كلام العرب حذف ما في آخره الهاء وتغييره بحذف الياءات والواوات منه إذا حذفوا الياءات من آخره، وليس نظير ذلك فيما ليس في آخره هاء نحو فعول وفعيل، ألا ترى أن العرب لا تكاد تدعو ما في آخره الهاء إلا مرخما، لأن الهاء حرف تتغير في الوصل، وليست يا حارث تتغير فتكون مرة "ثاء" ومرة غير ثاء، فلذلك كان الترخيم لما في آخره الهاء في كلام العرب أكثر. مسألة [94] ومن ذلك قوله في باب الإضافة إلى ما ذهبت فاؤه من بنات الحرفين، قال: (وتقول في الإضافة إلى شية: وشوي، لم تسكن العين كما لم تسكن الميم، إذا قلت: دموي). قال محمد: هذا خطا من وجهين: أما واحد [الوجهين] فلذهابه إلى أن دما فعل، وإنما هي فعل، الدليل على ذلك أن الشاعر ما رد ما ذبه قال: فلو أنا على حجر ذبحنا ... جرى الدميان بالخبر اليقين

وتقول: دَمِيتُ، وأنا دمٍ، والمصدر من هذا إنما يكون على فَعَلٍ نحو: فرِقت فَرَقا، وجزِعت/ 123/ جَزَعا. وأما الوجه الثاني، فإنهم يقولون: هي مثل يد وإن كان فعلا يدوي، لأن الدال قد جرت عندهم حرف الإعراب فكرهوها متحركة وإن كان أصله السكون لمجراها في الكلام، وليست شية كذلك، لأن الشين إنما تحركت بحركة الواو، وحذفت الواو، ولم يجز أن يبتدأ بالشين ساكنة، فلما رجعت الواو ردت الشين إلى السكون، وهذا قول أبي الحسن الأخفش. قال أحمد: أما حكمه على دم أنه فعل محرك العين من أحل أن المصدر من دم يأتي على فعل، نحو: فرقت فرقا، فدم ليس بمصدر فتحمله على فعل، وإنما هو اسم، ليس في ذلك خلاف، وأما دليله الآخر في قول الشاعر: .... ... جرى الدميان .... فقولهم: دميان كقولهم: دموي، وتحريكه في التثنية كتحريكها في النسب، لأن التعويض من حركة الإعراب التي كانت في الميم إذا قلت: دم قد وجب لها في الموضعين جميعا، وكذلك لو أردنا في شعر أن نثني يدا على الأصل لقلنا: يديان كما نقول: يدوي بالتحريك، وقد أبان سيبويه عن هذا الفصل وأتى به في آخر باب الإضافة إلى ما فيه الزوائد من بنات الحرفين، قال: (فالحرف الأوسط ساكن على ذلك يبنى، إلا أن يستدل على حركته بشيء، وصار الإسكان أولى لأن الحركة زائدة، فلم يكونوا ليحركوا إلا بثبت، كما أنهم لم يكونوا ليجعلوا الذاهب من (لو) غير الواو بثبت، فجرت هذه الحروف على فعل وفعل و

فعل، هذا نص قوله، والأصل الذي بني عليه، فدم على السكون كيد إلا بثبت يدل على أنه محرك المبنى في الأصل. وأما قوله في شية: إنه إذا رد حركة الواو إليها أسكن الشين، فتحريك الشين أولى من تحريك الدال من يد، لأننا إنما حركنا في يد إذا قلنا: يدوي تعويضا من حركة الإعراب التي كانت في الدال، وحركة الإعراب ليست بلازمة على كل حال، إنما تدخل في الوصل وتحذف في الوقف، و (شية) حركتها حركة بناء لازمة للحرف، والتعويض من اللازم أولى، وليس كونها في الأصل للواو بمانع لأن يعوض منها، إذ لزمت الشين وجبت/ 124/ لها بعلة من العلل كما وجبت حركة الإعراب في حال من الأحوال، ولما لم يكن تركنا الإعراب في الوقف يوجب ترك التعويض في النسب إلى يد، لم يكن رد حركة الواو إليها من شية في النسب يوجب ترك التعويض، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم مع نظير لها دعا إلى ذكرها. مسألة [95] ومن ذلك قوله في باب الإضافة إلى الجميع، ذكر أنه إذا نسب إلى جماعة جعل النسب إلى واحدها. قال محمد: وهذا غير مردود عليه، ولكنه قال: ومن ذلك المسامعة والمهالبة، تقول: مسمعي ومهلبي، فجعل النسب إلى الواحد منها، ولا حجة له في هذا، لأن الأبوين المعلب ومسمع، وإنما ينسب الواحد منهم إلى أبيه لا إلى جماعة مهالبة ومسامعة. قال أحمد: ذكر في الأصل أنه غير مردود عليه، فوافقه فيه، ثم أنكر في المسامعة

والمهالبة أن يكون النسب إلى واحدها مسمعي ومهلبي، وقد كان يجب عليه إذ وافقه في أصل الباب وأن النسب إلى جماعة بلفظ الواحد منها، أن يبين النسبة إلى واحد المهالبة والمسامعة، ويكون رادا ردا صحيحا، ويبين ذلك خروجه عن الأصل الذي وافقه عليه، لأن المسامعة والمهالبة جمع وله واحد، وإنما التبس عليه الأمر لاشتباه اللفظ إذا نسب إلى الأب وإلى الواحد من المسامعة، وذلك أن واحد المسامعة والمهالبة مسمعي ومهلبي، لأن هذه الجماعة في معنى النسب، كأنك قلت: المسمعيون والمهلبيون، ألا ترى أن المهالبة ليس بجمع للمهلب، وإنما هو جمع منسوب إلى المهلب، فليس كل واحد من هذه الجماعة يقال [له]: مهلب، وإنما هو مهلبي، وإذا نسب إلى هذا الجمع، فإنما ينسب إلى واحده، ولما كان واحده (مهلبي) و (مسمعي) احتجت إلى حذف ياءي النسب، وإلحاق ياءين أخريين مكانهما، كما أنك إذا نسبت إلى بختي قلت: بختي، فكان لفظ المنسوب الأول كلفظ المنسوب إليه، وصار هذا نسبا إلى منسوب، فاشتبه لفظ النسب إلى مسمعي بلفظ النسب إلى مسمع الذي هو الأب، فلما رآه الراد كذلك قال: هذا نسب إلى الأب، وليس اشتباه هذا الأشياء واتفاق ألفاظها يمنع من قياسها، ألا ترى أنه لو سألنا سائل عن تصغير برد وتصغير برد أو برد لكان اللفظ بتصغيرها واحدا، /125/ ولم يكن الاشتباه بمانع من التصغير، لأن الكلام قد تبين بأنحاء مختلفة، منها ما بني المتخاطبان عليه كلامهما، وما يجري قبل ذلك من القول المشاكل لما يجيء بعد، وكذلك لو نسبت إلى مسجد لقلت: مسجدي، ولو نسبت إلى مساجد لقلت: مسجدي، ولا اختلاف في النسب إلى الجماعة وإلى الواحد. مسألة [96] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا بابا من الإضافة تحذف منه ياءي الإضافة، قال: ولا يقال هذا في كل شيء، قال: (ألا ترى أنك لا تقول لصاحب البر: برار.

قال محمد: [وكل من رأينا ممن ترضى عربيته يقول لصاحبه البر: برار]، حتى صار لكثرة استعماله لا يحتاج فيه إلى حجة من شعر ولا غيره. فال أحمد: ليس في هذه المسألة غير الدعوى، وليست ها هنا حجة، وذلك أنه رد دعوى بدعوى، لأن سيبويه قال: لا يقال هذا، كأنه لم يسمعه من العرب، فادعى محمد أنه يقال، ولم يأت بحجة، وادعى ذلك في زمن "من" لا ترضى لغته ولا يحتج بقوله، وأنكره سيبويه في زمن "من" يؤخذ بلغته، ويرجع إلى قوله، ويستشهد بلفظه، ويمتنع من التكلم بما امتنع منه، فالنفس إلى الدعوى الأولى أسكن فيها وبها أوثق، لاسيما إذا أضفنا ذلك إلى أنا لم نسمعه من عالم ولا من عربي. قال أحمد: ما سمعت أحدا مردود القول فضلا عن متبع القول نسب بائع البر فيقول: برار، ولو سمعته في هذا الوقت لما كان سماعه حجة، على أن قولي أيضا لم نسمعه دعوى كادعاء الراد والمردود عليه، ولعله أن يكون قد سمعه من عوام أهل مصر من الأمصار لا يؤخذ بلغتهم، وهذا نوع من الكلام لا فائدة فيه أكثر من أن تتلقى من عالم موثوق بقوله، فيؤخذ ذلك منه ويقبل تقليدا، وقد حكى سيبويه في هذا الباب أنه لا يقال لصاحب الفاكهة: فكاه، وهذا مستعمل في أكثر الأمصار التي شاهدناها، وليس ذلك بحجة، وأحسب أن محمدا سمع برارا على نحو من هذا، ولم يتعمد المخالفة، إلا أنه احتج بلغة من لا يحتج بمثله. مسألة [97] ومن ذلك قوله في باب "جمع الأسماء" التي آخرها هاء التأنيث، قال: (وإذا جمعت ورقاء اسم رجل قلت: ورقاورن، فلم تهمز.

قال محمد: /126/ والهمز في موضع الواو الأولى جائز، وذلك لأنها واو انضمت بمنزلة واو أدور جمع دار، فأنت في الهمز وتركه بالخيار، وهذا قول أبي عثمان المازني، إذا أردت همزت للضمة [لا] لأنك أثبت الهمزة التي كانت في الواحد. قال أحمد: في هذه المسألة جوابان: أحدهما يوافق فيه الراد، وهو أن يكون قوله: لم تهمز بالهمزة التي كانت في الواحد، ولم يحتج ها هنا إلى ذكر همزة الواو إذا انضمت، لأنه ليس بابه، وقد ذكره في مواضع أخر، والجواب الآخر: أنه لا يجوز همزها على ذلك، لأن الهمز إنما ترك فيها فرقا بينها وبين ما هي أصل أو مبدلة من الأصل كهمزة قراء ورداء وكساء، لأنك تقول في هذا: كساءان ورداءان، وفي النسب: كسائي وردائي، وإن سميت رجلا فجمعت قلت: كساؤون بالهمز، هذا الوجه فيها. فأما حمراء وورقاء فإنك تبدل مكان الهمزة واوا لأنها زائدة للتأنيث، وجعل ذلك فرقا بينها وبين ما هو من نفس الكلمة، أو عوض من حرف من نفس الكلمة، فأنت إذا همزته لانضمامه كان اللفظ بتركه على حاله "في الواحد" وبهمزة لانضمامه واحدا، وبطل ما أرادت العرب من الفرق، ألا ترى أنهم يقولون: حمراوي في النسب، وفي الاثنين، حمراوان، وفي الجميع: حمراوات، وإذا سميت رجلا حمراء قلت: حمراوون كما قلت: ورقاوون، ليس في ترك الهمز خلاف. مسألة [98] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما يحذف في التحقير من بنات الثلاثة من الزيادات، قال: (وإذا حقرت مقعسسا قلت: مقيعس، تحذف النون وإحدى السينين). قال محمد: وهذا خطأ، وهو نقض قوله فيما عليه أصل التغيير عنده، وذلك أن الملحق

عنده بمنزلة الأصلي، وعند جميع النحويين، وهو يعلم أن سين مقعنسس الزائدة ملحقة بميم محرنجم، ولذلك لم يدغم فيها الذي قبلها، وقد أوجب في تصغير محرنجم بحريجم، فحذف الميم إذا لم يكن بعدها إلا أصل، فكذلك يلزمه فيما كان بمنزلة الأصل أن يقول: قعيسس، وهو القياس اللازم. قال أحمد: قد زعم محمد في مسألة ذكرها [هو] بعد هذه المسألة ما ينقض ما ذكره ها هنا، وغلط في المسألتين جميعا، وذلك أنه زعم في عثول أن حذف الواو الملحقة أولى من حذف اللام المكررة/ 127/ عن الأصل، وقال في تصغيره: عثيل، وهو مع هذا يزعم أن واو عثول كشين قرشب، فترك اللام الزائدة التي هي مكررة عن الأصل، وحذف الواو التي "هي" في موضع شين قرشب، ورأى ذلك أولى بالحذف، وقال: هي زائدة، والزائد أولى بأن يحذف، فحصلنا عليه هذا القول ثم رأيناه قد وافق في أن حذف الدال من مقدم- وهي مكررة عن الأصل- أولى من حذف الميم، فقال فيه: مقيدم، لأن العرب قالت: مقادم، فأثبت الميم وحذفت الدال، ورأت أن إبقاء الميم أولى من إبقاء ما كان مكررا عن الأصل، لأن المكرر عن الأصل كالحشو، والميم زيدت في الأول لمعنى، فكان إبقاء ما زيد لمعنى أولى من إبقاء ما كان حشوا في الكلمة. فإذا كان يزعم أنه يحذف الملحق ويبقي المكرر فقد صار المكرر أولى وصارت الميم أولى من المكرر عنده وكذلك هي عند العرب، فكيف جاز أن يحذف الميم من مقعنسس ويبقي السين، وهو يحذف المكرر للميم ويحذف الملحق للمكرر؟ وهذا كلام متناقض بعيد من الصواب، والذي عليه كلام العرب مما لا يختلف أن الميم أولى من الملحق لأن فيها معنى، وليس في الملحق معنى "أكثر" من البناء، والملحق أولى من المضاعف الذي ليس بملحق، لأن ذلك جرى مجرى الأصلي "وإن كان زائدا، والمضاعف زائدا لم يجر مجرى الأصلي"، والأصلي لا يحذف إلا أن [لا] في الكلمة زائد البتة نحو سفيرج،

فإن كان فيها زائد كان أولى بالحذف، وإن كان الزائد لمعنى نحو ميم محرنجم تقول: حريجم، فإن كان فيها زائدان أحدهما لمعنى أبقي الزائد الذي له معنى وحذف الزائد الآخر، كان ملحقا أو غير ملحق. مسألة [99] ومن ذلك قوله في هذا الباب: (وإذا حقرت (عطود) قلت: عطيد، لأنك لو كسرته للجمع لقلت: عطاود، وإنما ثقلت الواو كما ثقلت باء عدبس ونون عجنس)، وذهب إلى أنه تحذف الواو الأولى كما تحذف [واو] فدوكس. قال محمد: ولا ينبغي ذلك، ولكن نثبت الأولى لأنها ملحقة، ونثبت الثانية لأنها كذلك./ 128/ وهي رابعة، والملحق بمنزلة الأصلي، فينبغي له أن يحذف واو مسرول لأنه ملحق بمدحرج كما فعل في عطود، ولكن القول فيها: مسيرل وعطيد، لأن الواوين يلزمهما السكون فيصير بمنزلة بهلول وجرموق. قال أحمد: يلزمه على هذا القول ألا يحذف التاء من مختار، لأن بعدها ألفا وهي رابعة، وإذا صغر على هذا اللفظ جاء على أمثلة التصغير، فيجب أن يقال فيه: مختير كما قال: عطيد، فإن قال: إن الواو في عطود للإلحاق، والتاء في مختار ليست كذلك، قيل له: هذا باب تحذف فيه الأصلي فضلا عن الملحق حتى ترده إلى أمثلة التصغير وقياسه والملحق فهو زائد، وإنما نقول: إنه يجري مجرى الأصلي في وزن الكلمة ومثالها، وكذلك يلزمه في منقاد.

فإن احتج بأن هذا الباب إنما يقاس على الجميع، فما حذف في الجمع حذف في التصغير كما قالوا في مقدم: مقادم، فصغر على مقيدم، وكذلك مفتعل حذفوا التاء في الجمع فقالوا في مغتلم: مغالم، فقيل في التصغير، مغيلم، فيقال له: فكذلك عود، لما كان في الجميع عطاود وحذفت الواو الساكنة بعد ألف الجميع، حذفت بعد ياء التصغير فقيل: عطيد، ولا يجوز أن تترك الواو مشددة بغير ألف الجميع كما كانت في الواحد فيخرج عن أمثلة الجمع. فإن قال: أجعله في الجميع عطاويد، فإن هذا لا يكون جمعا إلا لما كانت فيه لغير إلحاق نحو فعلول وفعليل "وفعلال"، فيصير كأنه جمع لعطواد على وزن جلواخ وقرواح، فيصير عطاود بمنزلة جلاويخ وقراويح، وتكون المدة لغير الألحاق، فإنما وار عطود كراء همرج ونون عجنس، وإذا سميت بشيء من هذا ثم جمعت قلت: همارج وعجانس وما ألحق بالشيء جرى مجراه في جمعه، لا خلاف في ذلك بين النحويين، ولو جمعه على غير هذا لأخرجه عن معنى الإلحاق. فأما قوله: فينبغي له أن يحذف واو مسرول، فإن مسرولا لو جمع لقيل: مساريل، ولم يكن ها هنا ما يوجب حذفها، والفرق بين واو مسرول وواو عطود يتبين إذا أجريت هذه الزيادة مجرى شبيهها وألحقت بنظائرها، /129/ وهذه الواو زائدة في موضع حرف أصلي، لأنها ملحقة، فإن أجريتها مجرى نظائرها من الزوائد فنظائرها من الزوائد- أعني حروف المد واللين- إذا وقعت رابعة في هذا المثال لم تحذف وإن أجريتها مجرى الحروف الأصلية لأنها ملحقة، والحرف الرابع الأصلي من الخماسي لا يحذف، وإنما يحذف الخامس-

فإلى أي الأصلين رددتها لم يجب الحذف فيها على حال من الأحوال، ثم نظرنا إلى واو عطود فرأيناها يجب حذفها، لأنها في موضع يحذف فيه الأصلي، وذلك أنها بمنزلة ياء عربيد، وأنت تحذف ياء عربيد في الجميع والتصغير، وكذلك واو فدوكس، فلما حذف الأصلي ها هنا حذف ما هو ملحق به وفي موضعه، فقد افترقت الواوان بأن وجب الحذف في هذه بوجوبها في نظائرها، ولم يجب في باب مسرول بامتناعه في نظائره. مسألة [100] وقال في هذا الباب: (إذا حقرت عثولا قلت: عثيل، لأنك لو جمعت قلت: عثاول)، ولم يجز غيره، وقال: هم بمنزلة قرشب، صارت اللام الزائدة بمنزلة الباء الزائدة كما قالوا: قراشب، فحذفوا ما هو بمنزلة الباء وتركوا ما هو بمنزلة الشين. قال محمد: وهذا غلط، من قبل أن الواو زائدة واللام مثلها، والواو أولى بالحذف لأنها من حروف الزيادة، واللام إنما هو من حروف التضعيف، وليس هكذا قرشب وأنت مخير في حذف أيهما شئتن إلا أن حذف الواو في قولك: عثيل أجود، وهذا قول أبي عثمان. قال أحمد: وهذا نقض لرده عليه في مقعنسس، لأنه جعل الميم أولى بالحذف من السين لأن السين عنده ملحقة، وهو يقول: إن الراء في محمر أولى بالحذف من الميم، فيقول في محمر: محيمر، وفي محمار، محيمير، وكذلك الدال في مقدم فهو يجعل الميم أولى

بأن يبقى في الكلمة "من" الحرف المضاعف، "ويجعل الحرف المضاعف من عثول أولى بأن يبقى من الحرف الملحق، فقد وجب على هذا أن تكن الميم أولى بأن تبقى لأنها قد يحذف لها المضاعف"، /130/ ويحذف الملحق للمضاعف، فينبغي أن يحذف الملحق للميم، لأنه يحذف لها ما هو أولى منه. وإما قوله: إنه مخير في حذف أيهما شاء، فليس الأمر كذلك، إنما يحذف أيهما شاء إذا استوت الزيادتان كزيادة قلنسوة، فأما إذا كانت إحداهما أولى من الأخرى أبقينا التي هي أولى، كزيادة توجب في الكلمة معنى وأخرى للحشو، فتكون التي توجب المعنى أولى بالإبقاء، والتي للحشو أولى بالإلقاء. مسألة [101] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب تحقير ما كان من ذي الثلاثة فيه زيادتان، وتكون فيه بالخيار في حذف إحداهما، قال: (فإذا صغرت برو كاء قلت: بريكاء)، لأن هذه الألف بمنزلة الهاء، يعني همزة التأنيث. قال محمد: وقوله هذا غلط بين، يلزمه أن يقول: بريكا، كما كان "قائلا" لو حقر بروكة: بريكة، واحتجاجه بألف مبارك ليس حجة لأن كاف مبارك من الكلمة، فلذلك حذف الألف، لأنه لا يصغر خمسة أحرف، وزعم تحقيقا لهذا القول أن من قال

في أسود: أسيود وبنى منه أفعلاء فإنه يقول: أسوداء فاعلم، ومن قال: أسيد فجعلها في اللفظ كواو عجوز قال: أسيداء، فخفف إذ أشبهت السواكن وصارت عنده بمنزلة ألف مبارك، وهذا توكيد لذلك الخطأ، لا يجوز على حال إلا أسيداء وأسيوداء، ولو كان مثل عجوز تلحقه ألف التأنيث الممدودة لم يجز إلا التثقيل كما قال في بروكاء، وهو مثله وفي وزنه. قال أحمد: إما إلزامه أن يجعل بروكاء في التحقير كبروكة فيثقل ويقول: بريكاء كما يقول: بريكة فليس بصحيح، لأنه وإن جعل الألف الممدودة للتأنيث بمنزلة الهاء في حال فليست في منزلتها في كل حال، ألا ترى أنه قد فرق بينهما في غير موضع وفي هذا الموضع بعينه فقال: إن الهمزة بمنزلة ما من الكلمة وليست كالهاء، لأن الهاء كاسم ضم إلى اسم، تقول: ضارب ثم تقول: ضاربة، فتدخل التأنيث بعد أن تتكلم بالاسم مذكرا، وليست الألف في حمراء كذلك، إنما هي مبنية مع الاسم وليست داخلة عليه بعد بنائه واستعماله خاليا منها، فجعلها بمنزلة كاف مبارك لهذه العلة، فهي كهاء التأنيث، لأنها للتأنيث كالهاء، ومتحركة كالهاء فتثبت في الاسم الخماسي مصغرا كما تثبت فيه الهاء لمشابهتها إياها في هذا المعنى، ولذلك زعم أنهم أجروها مجرى الهاء. يريد أنها تثبت في الخماسي كما تثبت الهاء/ 131/ في التحقير، وإنما فارقتها في أنها مبنية مع الاسم لا تفارقه، فشابهت بذلك كاف مبارك وراء عذافر، فحذف معها الزائد الثالث الذي في موضع ألف مبارك، كما حذفت ألف مبارك، وخالفت الهاء في هذا الموضع وأجروها مجرى الهاء في الموضع

الذي أشبهتها، فأعطوها حقها في الموضعين، وإنما قالوا: بريكة بالتثقيل ولم يحذفوا الساكن مع الهاء، لأن الهاء لا يعتد بها مع الاسم، فكأنك قلت: بروك، ثم حقرته، والهاء غير معتد بها، وكذلك عجوز. وليست همزة التأنيث كذلك، لأنها من بناء الكلمة، فحذفت معها الزائد لهذا الفرق الذي بينهما، ولأنها قد تحذف زوائد الكلمة في ترخيم التصغير لغير علة، فكيف إذا وقعت على توجب الحذف؟ فأما إذا وقع في موضع هذا الزاد حرف ملحق أو أصلي كقولك: فعولاء، فلو جاءت ملحقة في أسوداء لتكلم بها والواو فيها أصلية لم تحذف في التحقير وقالوا: فعيولاء وأسيوداء، ولم تجر هذا مجرى المدة الزائدة، وهذا في لغة من قال: أسيود في تحقير أسود، وجريول في تحقير جرول، ثم نظر فوجد بعض العرب يجري هذه الحروف مجرى الحروف السواكن في مثل عجوز فيقول: أسد كما يقول: عجيز، فلما أجروها مجرى السواكن في التغيير والقلب في هذه السواكن للخفة التي ذكرناها في الهمزة التي للتأنيث وأنها من بناء الكلمة، فوجب حذف السواكن معها كما تحذف من الخماسي، فجاء سيبويه بقياس اللغتين، فمن غيرها وأجراها مجرى الزائد الساكن حذفها في الموضع الذي يحذف فيه الساكن، و [من] لم يغيرها وجعلها كالأصلي أبقاها ولم يحذفها. وأما قوله: إن الكاف من مبارك أصلية، والهمزة من بروكاء زائدة، فالأصلي والزوائد إذا كان من بناء الكلمة يحذف في الخماسي، ويثبت الزائد والأصلي جميعا، إذا لم يخرج

عن المثال، فنون رعشن ثابتة في التحقير كثبات راء جعفر، ويحذف الأصلي في الخماسي فتقول: سفيرج في سفرجل، فليس لذكر الزائد والأصلي إذا وقع طرفا في الخماسي معنى لأنهما يستويان/ 132/ في الحذف. مسألة [102] ومن ذلك قوله في تمام الباب الذي قبله: زعم أنه إذا حقر ثلاثين قال: ثليثون، لأنه ليس بجمع، وتقول في [تحقير جدارين وظريفين]: جديران وظريفون، لا تثقل لأنه لا يريد أن يحقر جدارا ولا ظريفا ثم يزيد عليه، ولكن تقول ما قال في بروكاء، لأن النون والزيادة التي قبلها لم يدخلا على ثلاث وإنما بنيا مع ثلاث اسما لهذه العدة، فصارت كألفي التأنيث اللتين يبنى الاسم بهما ولم يدخلا على اسم مذكر قد تم بناؤه، وكذلك جداران وظريفون إذا سميت بهما ثم حقرت فهما يجريان هذا المجرى، تحذف منهما حرف اللين "الثالث" ولا تثقله كما ثقلت ذلك في بروكاء، لأنك قد أجريت الزيادتين مجرى ما هو من الاسم ومبني معه، ولم يكن كهاء التأنيث التي هي مضمومة إلى الاسم الذي بعده تمامه. مسألة [103] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما يحذف في التحقير من زوائد بنات الأربعة، زعم أنه إذا حقر إبراهيم وإسماعيل قال: بريهيهم وسميعيل، يذهب إلى أن الألف زائد [وهذا خطأ ونقض لقوله، لأنه قال: إن الألف لا تلحق بنات الأربعة زائدة] أولا وهذا صواب، ثم أدخلها عليهن في دعواه هذه، ولكن القول: أبيريه وأسيميع وهذا قول

أبي عثمان. قال أحمد: أما قوله: يذهب إلى أن الألف زائدة، وأنه قد ناقض، لأنه يزعم أن الألف لا تلحق بنات الأربعة زائدة، فهو ادعاء على ضميره، لأنه ليس ذلك في نص قوله، والدليل على أنه لم يذهب إلى ما ذكر أن إبراهيم وإسماعيل اسمان أعجميان، والأعجم لا يشتق فيعلم زائدة من أصليه، فكيف يذهب إلى هذا والاشتقاق فيه ممتنع عنده؟ وأما قوله: إن الهمزة لا تدخل على بنات الأربعة زائدة، فهذا حكم على الأسماء العربية، والأسماء العجمية لا تدخل في مثل هذا الحكم إذ كنا لا نعلم اشتقاقها في كلام العجم فنقضي بذلك على الزائد حتى إذا جرت في كلام العرب فإنما حروفها كلها بمنزلة الأصلية إلا ما أشبه الزائد من كلام العرب، فتقول: هذا مشبه لزوائد كلام العرب ولعله أصلي في كلام العجم، فكان حذف الهمزة من إبراهيم وإسماعيل أولا لأنها أشبه بالزوائد العربية، ولم يراع كونها في أول اسم رباعي لأنه ليس بعربي، فإنما تجعل الحروف من الكلمة في /133/ مثل هذا ما أشبه زوائد كلام العرب. وإن اعتل بأن الميم من زوائد كلامها فزيادة الهمزة أولا أكثر من زيادة الميم أخرا، ذلك أنها إنما زيدت في زرقم وستهم وليس يوجد ذلك كثيرا، والهمزة تزاد أولا وآخرا، ومع هذا فإن الياء في إبراهيم وإسماعيل إذا حذفت الهمزة صارت رابعة فتثبت وتكون على مثال دنينير، وإذا حذفنا وإذا حذفنا الميم واللام احتجنا إلى حذف الياء لأنها لا تكون حينئذ رابعة، وإذا حذفنا حرفين من موضع واحد "كان تغيير الكلمة بحذف حرفين من موضع واحد أشد منه، فحذف من موضع واحد" وصارت الدلالة على المعنى أبعد ألا ترى أن إبراهيم أدل على المعنى من أبيره، فلو تساوت الزيادتان- أعني الهمزة والميم- في الكثرة لكان الحذف للهمزة أولى، لأنه لا يتغير معها الاسم كتغيره مع حذف الميم، وكذلك حذف الألف أولى من حذف الياء لأنها أم الزوائد.

مسألة [104] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب تحقير ما كانت فيه تاء التأنيث، قال: (ولو سميت بضربت ثم حقرت لقلت: ضريبة، تحذف التاء وترد الهاء. قال محمد: وهذا غلط، لأنه يقف على الهاء قبل التحقير، وذلك أنه إذا سماها ضربت قال: هذه ضربه، لا يجوز في الوقف إلا ذاك. قال أحمد: أما قوله: لا يجوز في الوقف إلا ذاك، يعني أنه لا يقف إلا بالهاء إذا سميت بضربت، فمخالف لما قد التزمه في غير هذا الموضع، وذلك أنه إذا سمي بضربت ففيه وجهان: أحدهما أن يجري فيه الإعراب ويقف بالهاء، والآخر أن يحكي، لأنه قد أجاز ذلك في ضرب وحكاه ولم يعربه، واستشهد بقول الشاعر: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني فحكى (جلا) ولم يعربه، ووافق على ذلك محمد ولم ينكره، فإن حقر شيئا من هذا لم تجز الحكاية ولم يكن بد من التعريف، لأن التحقير علم للاسم وسمة من سماته فلا تجوز معه الحكاية، فلذلك قال سيبويه: إذا حقرت ضربت اسما قلت: ضريبة ترد الهاء وتحذف التاء، فهذا لا يجوز غيره البتة، وأما قبل التحقير فكان ذلك فيه الوجهان: التعريف والحكاية. وكذلك رجلان لو سميت بهما كان لك ترك التثنية على حالها وحكايتها، فتقول: /134/ هذا رجلان، ورأيت رجلين، وإن شئت أدخلت الإعراب في النون [فقلت]:

هذا رجلان برفع النون، فعلامة التأنيث كعلامة التثنية إن شئنا أبقيناها وحكيناها وإن شئنا أعربناها، فهذا قول سيبويه في هذه المواضع كلها بموافقة من الراد له على جميعها إلا في هذه المسألة التي لو حضره ذكر ما وافقه عليه من نظائرها لما خالف [أيضا] فيها إن شاء الله. ومع هذا فإن قوله: إن الهاء تكون في التحقير مكان التاء ليس بناقض لقوله: إنها في التسمية قبل التحقير كذلك، وكأنه قال: إن هذه الهاء تبدل مكان التاء في التسمية محقرا كان الاسم أو غير محقر، فلا يكون في ذلك تناقض. مسألة [105] ون ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب تحقير ما حذف منه ولا يرد في التحقير، قال: (زعم يونس أن ناسا يقولون: هويئر، فهؤلاء لم يقروا هارا)، قال: (ومن قال هذا فإنه لا ينبغي له أن يقيس عليه كما لا يقيس على رويجل تصغير رجل وأنيسان تصغير إنسان). قال محمد: وهذا غلط، لأن رجلا لم يكن أصله راجلا، ولا يتكلم براجل في معنى رجل ولا أنيسان في معنى إنسان، وهار أصله هائر وهو المستعمل إلا على التخفيف، وكذلك شاك السلاح، الأجود شائك، وهويئر يختاره أبو عثمان في تصغير يضع اسم رجل يويضع وكذلك ما أشبهه. قال أحمد: لم يمتنع سيبويه من تصغير هائر على هويئر، بل هذا قياسه إذا لم يحذف مكسرا ألا يحذف مصغرا، وتكون الهمزة ثابتة في الموضعين، ولكن القياس عنده إذا حذفها

في هارٍ أن يحذفها في التحقير أيضا، وكذلك ميت في لغة من خفف فحذف، القياس فيه عندهم أن يقولوا: مييت، فيدعون محذوفا في التحقير كما كان قبله. ويلزم أبا عثمان على قوله في إيجاب رد الهمزة في التحقير إذا كان يخرج عن أمثلة التحقير أو كانت فيه على تدعو إلى الرد، وليس في هار علة توجب الرد، لأنه على ثلاثة أحرف، وقد صار بمنزلة باب، وإن كانت الألف في هار زائدة كما كانت الياء في /135/ ميت زائدة، لأن أصل هذا "فويعل" وذاك فاعل، والمحذوف منهما العين، فلما كان بعد الحذف في وزن ما يحقر من بنات الثلاثة لم يلزم الرد، ولو وجب ذلك لوجب أن يرد كل محذوف إلى أصله من غير سبب يضطر إليه ولا داع يدعو إلى رده. فأما قوله في رويجل وأنيسان: إن الأصل فيهما متروك غير مستعمل لأنهم لم يقولوا: راجل بمعنى رجل ولا أنيسان بمعنى إنسان، وإن هائرا مستعمل، فهذا وإن استعمل الأصل فيه ولم يستعمل في ذلك فقد وقعت التسوية بينهما في معنى آخر وإن اختلفا في الاستعمال وتركه، وذلك أنه ليس لنا أن "نقول": هويئر بالهمز تصغير لهار المحذوف، [وقد] سوى بينهما سيبويه. والكلام في تحقير يضع كالكلام في هذا، لأنه ليست فيه علة يلزم معها الرد، إذ كان على ثلاثة أحرف، فهو يجري على أمثلة التحقير، ولو لزم الرد بغير علة توجبه للزم كل محذوف الدر إلى أصله من غير شيء يوجبه. مسألة [106] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب تحقير بنات الياء والواو اللائي لأماتهن ياءات أو واوات، قال: وإذا حقرت عدويا اسم رجل أو صفة قلت: عديي، لأنك لم تضف إلى

عَدِيّ مصغرا فتقول فيه ما قلت في أموي، قال: (ومن قال: عدوي فقد أخطأ). قال محمد: أما قوله فيه صفة فلا يدفع، من قبل أن عديا فيه ياء النسب، لأنك إليه تقصد، فإن أذهبتها منه ذهب المعنى ولكن لو سميت به رجلا لم يجز فيه إلا عدي، لأنك لا تريد النسب، فالحذف له ألزم منه لتصغير عطاء، وهذا قول أبي عثمان، والدليل على صحته أنك لو نسبت إلى قولك: اثنا عشر وهو عدد لم يجز، لأنه يلزمك حذف عشر فيذهب المعنى، ولو أضفت إليه وهو اسم رجل لجاز فقلت: اثني وثنوي. قال أحمد: لغلط على سيبويه بين في هذه المسألة، وذلك أنه تكلم في عدوي ووقعت التخطئة على عدي، فعدي كعطاء كما ذكر، لأن هذا فعيل وهذا فعال، وتحقيرهما عدي وعطي، وليست الياء في عدي ياء نسب، إنما هي كذلك في عدوي، فياء النسب فيه بمنزلة هاء /136/ التأنيث، فإذا حقرته فكأنك حقرت غدوة وعدوة، فتقول: عديي كما تقول: عدية وغدية، لأنك أدغمت ياء التصغير في الواو التي هي لام الفعل، وصارت ياء النسب المشددة بمنزلة اسم ضم إلى اسم فكانت كالهاء، وسواء كان وصفا أو اسما كما أن هاء التأنيث كذلك، ألا ترى أنك لو أضفت إلى مسلمة أو مسلمات لقلت: مسلمي، وكذلك لو أضفت إلى المنسوب مسمى أو صفة لحذفت ياء النسب كما تحذف الهاء وتثبت في الموضع الذي تثبت فيه، فهما متساويتان في أكثر المواضع، ألا ترى أنك تقول: هذا أمي فتصرف للياء كما تصرف للهاء صياقلة، ومع هذا فقد قالوا: أميي في أمية، وأمية

فُعَيْلة وليست بياء نسب، وأمية كعدي، فلم يحذفوا من هذا في بعض اللغات، فإذا جاز ترك الحذف في هذا فالمنسوب لا يجوز فيه الحذف البتة. وأما قول سيبويه: إنك لم تضف إلى عدي مصغرا، فإنما أراد بذلك أن منهم من قال في تحقيره: عدوي بالواو كما قالوا أموي فقال: هذا خطأ، لأن هذا نسبة إلى مصغر وليس بتصغير لمنسوب، فخطأ من يذهب إلى هذا القول، ألا ترى أنك لو نسبت إلى أمية- وأمية مصغر- قلت: أموي، وكذلك لو نسبت إلى عدي مصغرا لقلت: عدوي، فهذا قد أضفت إليه مصغرا، فإذا أردت أن تصغر منسوبا وهو عدوي وأموي قلت: عديي وأميي. فأما ما قاله محمد: إنك تقول: عدي فهذا تحقير عدي، وعدي فعيل ليس بمنسوب، وجرى الكلام منه على غلط، فأما اعتلاله باثني عشر إذا نسبت إليه مسمى وغير مسمى فإنه يختلف، فليس يدفع أن يكون في الكلام ما يخالف وصفه إذا سمي به، وليس هذا موضعه ولا يشبه المسألة. مسألة [107] ومن ذلك قوله في باب ما يحقر لدنوه من الشيء، زعم أنه لا يحقر تحقير الثلاثاء والأربعاء لأنهما وما أشبههما أعلام، وإنما يحقر من أسماء الزمان ما كان نكرة. قال محمد: وهذا خطأ فاحش، لأنه إذا جاز تحقير يوم وليلة لأن ذلك بمنزلة رجل وامرأة، فكذلك يلزمه أن يكون السبت والأحد كزيد وعمرو، ولا اختلاف /137/ بين

النحويين في إجازة تحقير اسم المكان معرفة كان أو نكرة. قال أحمد: أما ادعاؤه الإجماع في مسألة خالف فيها سيبويه فمخالفته تبطل الإجماع الذي ذكره لو كان كل من سواه يوافق محمدا فكيف والأمر على خلاف ما ذكر؟ ولكنا نبين حجة سيبويه ونبطل الاعتلال في تخطئته [فنقول]: إنما امتنع تحقير الأعلام من أسماء الزمان لأنها ليست بموضوعة على مقادير كما وضع يوم على مقدار من الزمان وعدد من الساعات، ألا ترى أن يوما يكون جوابا لـ (كم)، يقول القائل: كم سرت؟ فيقول المجيب: يوما أو يومين، فإذا كان مقدارا جازا تحقيره وتقليله، وأما السبت والأحد وما يجري مجراهما فلم يوضع للمقادير وإنما هي أعلام وسمات لأوقات لا يراد بها المقدار، وهي تكون في جواب متى سرت؟ فيقول المجيب: السبت فلما أريد بها ذلك لم يجز فيها التقليل لأن التحقير في المقادير إنما هو كتقصير الشيء أو تقليل عدده. فأما زيد وما أشبهه فهو وإن كان علما فقد يسمى به غير واحد، ولم يجر السبت في كلامهم هذا المجرى ولا سموا به غيره من الأيام. وأما قوله: إن المكان يجري مجرى الزمان فهو كذلك، ألا ترى أنه لا يجوز تحقير ما كان من الأماكن علما كمكة وعمان، لأنه ليست هناك مكة أخرى تكون هذه أصغر منها، لأن الصغر والكبر من باب الإضافة تقول: هذا أصغر بالإضافة إلى ما هو أكبر منه، فإن لم يكن ثم أكبر منه لم يجز أن تنسبه إلى الصغر، ولكن يجوز ذلك في النكرات من الأماكن كما جزا في النكرات من الأزمان فتقول: فريسخ تصغير فرسخ، لأنه يكون فرسخ أطول من

فرسخ على حسب الوضع والتقدير. فإن قال: إن السبت يتكرر كما يتكرر يوم، فلو كان يجري في هذا مجرى يوم كان نكرة كيوم، ولكنهم جعلوه اسما لأول كل جمعة فصار كأنه اسم لشيء واحد ولم يوضع على التكرير، ولو وضع على التكرير لكان نكرة كما قلنا في يوم. مسألة [108] ومن ذلك قوله في باب تحقير [الأسماء] المبهمة، ذكر أن الألف تلحق في أواخرها. قال محمد: وليس كل ما وصف، ولكن الألف تلحق في /138/ أواخر بعضها وقبل أواخر بعض، فما لحقته الألف قبل آخره أولاء فيمن مد الياء، وتصغيره لو زدتها في آخره الياء، فتدغم ياء التصغير في ألف أولاء ثم تأتي بالهمزة بعدها ثم تزيد الألف بعد ذلك، ولكنهم كرهوا وقوع هذه الألف ها هنا لأن الألف تحذف خامسة من نحو حبنطي وقرقري، فزادوها قبل آخره لأن يكون على مثال التصغير، وأرادوا أن يسلم آخره على الكسر. وقال في هذا الباب: لا يصغر (اللاتي) لاستغنائهم بتصغير (التي) وجمعها في قولهم: اللتيات، وكان الأخفش يقول في تصغير اللاتي: اللويتا. و [في] اللائي:

اللويئا، وهو القياس. قال أحمد: في هذه المسألة أربعة أجوبة: إنه لو كان قول سيبويه على ما ذكر عنه لما كان إلزامه صحيحا، وذلك أنه إذا تكلم على معظم الباب جاز أن يجعل الكلام عاما وإن شذ الحرف، فهذا وجه. والثاني، إنه ليس الأمر كما حكاه عنه البتة، وذلك أن سيبويه إنما جعل الكلام عاما في أوائل هذه الأسماء المبهمة لا في أواخرها، فزعم أن أوائلها لا تغير، ثم ذكر الأسماء التي تلحق أواخرها الألف خاصة لا عامة، ثم ذكر أولاء الممدودة مفردة بعد ذلك منها، وإذا كان هذا هكذا فليس يلزمه ما ذكر، وإذ قرئ نص كلامه من الباب علم أن الأمر على خلاف ما ذكر، وأنها حكاية ظن. والجواب الثالث: إن هذه الألف لما كانت تلحق آخر أولى المقصورة وصار موضعا لها ودخلت الكاف عليها إذا قلنا: أولياك، ألحقوها أيضا هذه الهمزة في المد كما ألحقوها الكاف وكانت الألف كأنها في الطرف. والوجه الرابع- وهو الذي أختاره- أن تكون الهمزة هي ألف التصغير على أليا، وذلك أن الياء أدغمت في ألف أولاء فلما انقلبت الألف ياء صارت الهمزة "ألفا، " وأدخلت عليها ألف التحقير فهمزت لاجتماع ألفين. وأما قوله: كان ينبغي أن يكون على قياسه ألياء فخطأ، لأن الألف لما انقلبت ياء تغيرت الهمزة فصارت ألفا. وأما ما حكاه الأخفش في إجازة تحقير اللاتي واللائي فليس هذا بنقض، لأن الأخفش إنما أجازه/ 139/ قياسا لا سماعا، وسيبويه يذكر أن العرب استغنت عنه باللتيات، ولم

يسمع في كلامها تحقير هذين وقياسه سهل عليه وعلى من هو دونه. مسألة [109] قال: وذكر سيبويه في اسم الله جل وعز أن تقديره (فعال) لأنه إلاه. والألف واللام في (الله) بدل من الهمزة، فلذلك لزمت الاسم مثل أناس والناس، ثم قال في كراسة ست وثلاثين: إنهم يقولون: لهي أبوه في معنى لله أبوه، قال: فيقدمون اللام ويؤخرون العين. قال محمد: وهذا نقض ذلك، لأنه قال أولا: إن الألف زائدة لأنها ألف فعال، ثم ذكر ثانيا أنها عين الفعل. قال أحمد: وذكر سيبويه هذا الكلام في باب الإضافة إلى المحلوف به، وليس بناقض لما قدمه ولكنهم فعلوا في هذا الاسم لكثرته على ألسنتهم ما لم يفعلوا في غيره، فحذفوه وألزموا فيه الحذف فقالوا: لاه أبوه، فصارت هذه الألف كأنها عين الفعل، وإن كانت زائدة في الأصل، ثم أكدوا ذلك بأن قلبوها ياء وأزالوها عن موضعها فقالوا: لهي أبوك، فضارعوا بها الألف المبدلة، وألف (فعال) ليست منقلبة من ياء، فلما رأى العرب قد قلبوها وأجروها مجرى ما هو مبدل من حرف من نفس الكلمة، صارت عنده بذلك مضارعة لعين الفعل، ولو لم يضارعوا بها العين لما قلبوها ياء، فلما شبهوها بالألفات والمبدلة عينا لذلك فهي عنده ألف (فعال)، إلا أنه لما دخلها هذا الإبدال والنقل عن موضعها خرجت عن

نظائرها فسميت باسم ما ضورع به. مسألة [110] ومن ذلك قوله في باب النونين الخفيفة والثقيلة، زعم أنه إنما يقول: هل تضربن زيدا؟ إذا أراد الجماعة، وهل تضربن زيدا؟ إذا عنى المرأة، لأنهم كرهوا اجتماع نونين، ثم قاس هذا في باب النون كله. قال محمد: وهذا اعتلال فاسد، لأن الجميع بني نونين في تضربونني وثلاث نونات في قولهم: إنني، غير مستنكر، ولكن القول في هذا: إنهم بنوا الفعل المذكر مع النون على الفتح فقالوا: هل تخشين زيدا للواحد، واضربن زيدا، وسقوط النون من الجميع والمؤنث/ 140/ نظير الفتحة في الواحد كما كان ذلك في نصبها، فهذا القياس، وهو قول أبي عثمان. قال أحمد: قول سيبويه: إنهم كرهوا اجتماع النوني، كلام صحيح، من أجل أن تضعيف الحرف وتكرره ثقيل على اللسان، وزعم الخليل أن اللسان إذا انتقل من حرف إلى غيره فهو سهل كسهولة الرجل إذا انتقلت من موضع إلى سواه، فإذا نطق اللسان بحرف ثم رجع إليه كان كمشي المقيد. وهذا اعتلال يستدل على صحته بما نجد من طباعنا من استثقال ما استثقلت العرب، وهذا النحو من العلل صحيح لا يدفع، لأن وجودنا إياه في أنفسنا شاهد عدل على ما

أدعى في غير هذا مع تبيان العلة التي ذكرها الخليل، والراد غير مخالف لنا في هذا الأصل الذي قدمناه لنبني الكلام عليه. ومن الدلالة على صحة ما قاله سيبويه من كراهة اجتماع النونات قولهم في الأمر لجماعة النساء: اضربنان، فأدخلت الألف لتفصل بين النونين: الأولى والمدغمة التي للتوكيد، وليس قولنا: إنهم يستثقلون التضعيف بمعنى أنهم لا يقدرون على التكلم به، فيكون ما عارض به الراد من قولهم: إنني ويضربونني، ولكن الاستثقال صحيح، وقد يتحملونه في مواضع من كلامهم لمعان تعرض فيه ولا يجوز غيره، وقد يدعونه في مواضع لا يجيزونه فيها البتة، وفي مواضع يجيزون الوجهين: التعضيف والترك، فمما ألزموه الإدغام كراهة التضعيف قولهم في الفعل: رد وما أشبهه، ولا يقولون: ردد إلا أن يسكن الحرف الآخر، ومما ضاعفوه ولم يدغموه قولهم في الاسم: شرر وطلل. ولم يكن تحملهم للثقل في مثل هذا لما ذهبوا إليه في الاسم والفعل بمبطل ثقله، ولا بمانع لنا أن نعتل به في (رد) فنقول: إنهم أدغموه استثقالا للتضعيف، كما أن قولهم: إنني ويضربونني لا يجب أن يكون مانعا لنا من أن نقول: إنهم استثقلوا اجتماع النونات في موضع آخر من الكلام، إذ ليس كل مستثقل متروكا التبة في جميع المواضع. والنون التي تدخل للتوكيد فهي وإن كانت زائدة فإنما/ 141/ زيدت في حروف الكلمة، وليست بمنزلة شيء منفصل كالنون، والياء التي هي كناية المفعول في قولك: إنني ويضربونني، لأنك قد تأتي بالظاهر كقولك: إن زيدا فاعل، وبكناية ليس فيها نون

كقولك: إنه وإنها، فليست هذه النون بحرف مزيد في الكلمة، ولا يغير لها آخر الفعل كما يغير لنون التوكيد ويبنى معها، ومع هذا فقد تلزم نون التوكيد الفعل في بعض المواضع في مثل قوله: والله ليفعلن، فكان الحذف مع ما يبنى مع الفعل ويغير له آخره ويصير كأحد حروفه ويلزم في بعض مواضعه أولى، ومع هذا كله فقد حذفوا النون من (إنني) فقالوا: إني، وقرأ بعضهم: (أتحاجوني)، فإذا حذفوا هذه النون استثقالا مع ما وصفنا من أنها لا تلزم وليست مبنية مع الفعل [كان الحذف لنون التوكيد أولى] لتغييرهم آخر الفعل لها. والعلة التي أتى بها للاستثقال بالنونات على قاطعة على أصل متفق عليه، تشهد فطرة الإنسان بصحبته، والعلة التي أتى بها المازني خليقة حسنة غير ناقضة للأخرى، وقد تكون للمسألة علتان وعلل، وليس ما كان خليقا من العلل لأنه أشبه بعض كلامهم، واستحسن كذلك، وظن أنه مرادهم إذ لم يوجد أقرب منه ولا أشبه، مثل ما قامت الدلالة على أنه مقصدها وإرادتها، وإذا عدمنا في الشيء هذا النوع من الاعتلال- أعني ما علمت علته من الاستدلال- رجعنا إلى باب الاستحسان، وإنما آثر محمد هذا الطريق واستحسنه، لأنه طريق يتبين فيه لطف الصانع وحسن حيلته وتشبيهه، لأنه قد عدم الدلالة فاحتاج إلى المماثلة والمقاربة. والمعنى الذي حكاه المازني أنه قال: لما كان آخر فعل الواحد مع نون التوكيد مفتوحا كقولك: تفعلن، ضارع هذا المنصوب إذا قلت: لن يفعل، فحذفت النون في التثنية والجمع مما فيه النون كما حذفت في تثنية المنصوب وجمعه فقالوا: هل تفعلن، فحذفوا نون الجميع كما حذفوا من قولك: لم تفعلوا. وفي هذه المسألة على في حذف النون هي أحسن مما حكاه محمد عن المازني مستخرجة

من قول سيبويه، منتزعة من مذهبه، وذلك/ 142/ أنه زعم في الرسالة التي صدر بها كتابه أن العرب فعلت بلام (فعل) كما تفعل بلام (يفعل) في البناء على السكون في قولك: فعلن ويفعلن، وعلى الفتحة في قولك: فعل وهل يفعلن، فإذا كانت مع نون التوكيد مبنية على الفتح مضارعا بها الفعل الماضي، وجب حذف النون في التثنية والجمع، لأنها إنما تدخل الإعراب، فإذا ثنيت في واحدها زال الإعراب من تثنيتها ومن جمعها، كما لم يدخلوا النون في ضربا وضربوا، وفي قولهم في الأمر: اضربنا واضربوا، لأن فعل الواحد مبني على الوقف، وكل موضع بنيت فيه الفعل، فإنك تحذف النون من تثنيته ومن جمعه، فهذا الاستخراج على مذهبه، وهو أصح مما أتى الراد به لأنه شبه هو المبني بالمعرب، وهذا إنما هو حمل المبني على المبني، فحمله على نظيره أولى. مسألة [111] ومن ذلك قوله في باب الهمز، قال: (ألا ترى أن ناسا يحققون الهمزة، فإذا صارت بين ألفين خففوا، وذلك قولهم: لي كساءان، ورأيت كساءا، فيخففون كما يخففون إذا التقت الهمزتان، لأن الألف أقرب الحروف إلى الهمزة.) قال محمد: وهذا نقض لقوله في غير هذا الموضع، وخطأ فاحش، وذلك لأنهم إنما خففوا فيما زعم لأن الهمزة المخففة قريبة من الألف، ففروا من وقوعها مع ألفين، وكان بمنزلة اجتماع ثلاث ألفات، فهم إذا "خففوا" قربوها من الألف بأكثر من قربها وهي محققة، فإنما تقربوا مما يكرهون، فهذا من أكبر الغلط.

قال أحمد: قوله: إن الألف أقرب الحروف إلى الهمزة، يعني في الموضع، لأنهما من حروف الحلق لا في الشدة والثقل، ألا ترى أنه لما تكلم في باب مواضع الحروف ومخارجها جعل الألف والهمزة من حيز، وزعم أنهما من الحلق، ولما تكلم في الشديدة واللينة جعل الهمزة في حيز الشديدة، والألف في حيز اللينة، وقسمها غير تلك القسمة، وتقريبها من الألف ليس مما استثقل، لأنهم إنما يقاربونها من حرف يدانيها في مخرجها، وهو ألين منها، وهذا كالإمالة "في مثل" قولك: عالم، إنما يقرب الحرف من/ 142/ المكسور ليخرج ن شيء إلى قريب منه غير مباعد له، وكذلك إذا خففت الهمزة، فإنما تنقله عن حرف شديد ثقيل، فيضاهي بها الخفيف اللين المقارب لها في الموضع لا في الشدة، فإذا خففتها أزلت بعض شدتها، وصيرتها مقاربة لها في اللين مع مقاربته لها في الموضع، والدليل على أن الألف ألين الحروف وأخفها، أنها أكثرها وقوعا في اللفظ وترددا فيه، وبها يبتدأ في استخراج التراجم المعماة، لأن الخط سبيله أن يستر ما في اللفظ، فإذا عددت صور الحروف كان أكثرها عددا برجوعه وتكرره، لأنها كذلك في اللفظ، فإنما قربوا الهمزة مما يستخفون لا مما يستثقلون، وإنما زعم أنها أقرب الحروف إليها في موضعها من الحلق لا في شدتها وثقلها، وقد يتقارب الحرفان في الموضع ويتباعدان في الشدة والرخاوة، والهمس والجهر، وربما اتفقا في ذلك.

مسألة [112] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ذكر الاسم الذي تبين به العدة كم هي، قال: فمن هذا [قولك: هذا] رابع ثلاثة على قولك: ربع ثلاثة، أي صيرهم أربعة، قال: هذا رابع ثلاثة عشر. قال محمد: وهذا خطأ، لأنه يريد أن يبني فاعلا من فعل نحو: ثلث وخمس وربع، فهو رابع وخامس ونحوه، ويلزمه أن يبني فاعلا في هذا الموضع من أربعة عشر من الاسمين جميعا، وهذا محال، فلا يجوز أن تتكلم بمثل هذا إلا على قول من قال: ثالث ثلاثة، فتقول على الحذف: ثالث ثلاثة عشر، لأن معناه أحد ثلاثة عشر، ولا يريد أن يكون فاعلا من الفعل بمنزلة ضارب من الضرب، وترك جواز ما ذكرنا قبل قول الأخفش والمازني. قال أحمد: هذا الذي حكاه عن الأخفش والمازني من الاعتلال في أنه لا يجوز: رابع ثلاثة عشر كما جاز: رابع أربعة عشر، هو بعينه لازم لهم في: رابع أربعة عشر، وذلك أنهم زعموا أن هذا إنما امتنع من أجل أنك تريد أن يبنى فاعلا من كلمتين، من أربعة وعشر، وهذا لا يجوز، فهم أيضا إنما فروا أن يبنوا فاعلا/ 144/ في الوجه الآخر وهم يريدون اللفظين، أعني قولهم: رابع أربعة عشر، وذلك أنه في الأصل رابع عشر أربعة عشر، وإنما حذفوا عشرا استخفافا واستغناء بدلالة الثاني عليه، وكذلك "هو" إذا قالوا:

رابع ثلاثة عشر، فإنما معناه رابع عشر ثلاثة عشر، وحذفت (عشر) الأولى ودلت عليها الثانية، وهذا شيء فعلته العرب، بنت فاعلا من الصدر لما لم يجز أن تبنيه من اللفظين، وليس الحذف ها هنا بقياس قاسه النحويون، ومثل ذلك من كلامهم النسبة إلى المحكي نحو: تأبط شرا إنما تقول: تأبطي فتنسب إلى الصدر، ولو لزمه أن يبني فاعلا من لفظين في رابع ثلاثة عشر للزمه ذلك في رابع أربعة عشر، فإن قال: إنه بنى رابعا من أربعة وحذف (عشرا) استخفافا، فكذلك هو في رابع ثلاثة عشر، بنى رابعا من أربعة وحذف (عشر) استخفافا، ولا فرق بينهما غير مخالفة لفظ أربعة للفظ ثلاثة، فأما بناء فاعل في الوجهين فمن لفظة واحدة، وحذفت الأخرى، وكان ما أبقوا دليلا على ما ألقوا، واستعملت العرب "الحذف" استعمالا مطردا في الوجهين، ومنهم من يأتي بعشر فيقول: رابع عشر ثلاثة عشر، والحذف أجود وأكثر. فأما قوله: إذا أردت بفاعل الاسم بناؤه وكان معناه أحد أربعة عشر، وإذا أردت به الفعل لم يجز، فهذا تحكم بغير علة، وقد جعلت العرب حكم هذا الباب أن تبني فاعلا من الأول كما ينسب إلى اللفظة الأولى، ولم يرنا الراد علة مانعة من الوجه الآخر الذي على معنى الفعل غير قوله: يلزمك إذا أردت به الفعل أن تبني فاعلا من لفظتين، ولا فرق في اللفظ بين فاعل إذا أردت به الفعل وبين فاعل إذا أردت به الاسم في الاشتقاق، وإنما يقع الفرق في النية إذا نويت به الاسم ولم ترد إيقاع الفعل، فأما في لفظ الاشتقاق فهما سواء، ألا ترى أن ضارب زيد أمس، وضارب زيدا غدا، اشتقاقهما واحد واللفظ بهما سواء، وإن كنت تريد بالمستقبل إيقاع الفعل وبالماضي الاسم.

مسألة [113] ومن ذلك قوله في باب ترجمته هذا/ 145/ باب ما هو اسم واحد يقع على جميع وفيه علامة التأنيث، يقال: حلفاء واحدة وحلفاء للجميع، وطرفاء وبهمى. قال محمد: وزعم الأصمعي أن واحد الطرفاء طرفة، وواحد الحلفاء حلفة مكسور اللام، وواحد القصباء قصبة، وهذا خاصة كثير على ألسن العوام. قال أحمد: أما ما حكاه عن الأصمعي من سماعه طرفة وحلفة فصحيح، وليس يحكي إلا ما سمع، وأما تأوله أ، هـ مكسر على حلفاء وطرفاء فغير صحيح، وهو في صناعة النحو ضعيف، والدليل على أن حلفاء وطرفاء ليس بجمع كسرت عليه طرفة وحلفة أنك تحقره على لفظه فتقول: حليفاء وطريفاء، ولا ترده إلى تحقير طرفة "وحلفة"، ثم تجمع بالألف والتاء كما تفعل ذلك بالجموع إذا كسر عليها الواحد نحو قولك في تحقير الواحد [من] درهم: دريهمات، وإنما حقرت درهما ثم جمعته، ولو جمع طرفة وحلفة على بابه لأجرى مجرى نظائره نحو: شجرة وشجر، وخرزة وخرز، فكان فيه طرفة وطرف وحلفة وحلف كما قالوا: قصبة وقصب. فأما قصباء فليس بجمع على قصبة كما قلنا في حلفاء، وإنما هذا من باب الباقر والجامل، لأنه لم يكسر عليه جمل ولا بقر، والدليل على ذلك قولهم: هو الجامل، وجويمل، فيذكرونه لأنه واحد يدل على جمع، ويحقرونه على لفظه ولا يردونه إلى لفظ

جمل فعلم بذلك أنهم جعلوه اسما واحدا يدل على جمع، وقد أفرد سيبويه لهذا بابا، وهو مذهب الخليل وغيره، ولم ينكر الراد هذا ولا أدعى في شيء منه أنه جمع على واحد، على أنه قد جاءت فيه حروف اطردت أكثر من اطراد باب حلفاء، وذلك قولهم: صاحب وصحب، وراكب وركب، وكمأة وكمء، فهذا يجعل جمعا على واحده وإن كان من لفظه، وتصغير العرب إياه وتذكيره دليلان على أنهم أرادوا به واحدا ينوب عن جميع، ألا ترى إلى قولهم: هذا الركب، ولا يقولون: هذه الركب، ويقولون: ركيب. فإن قال: [فإن] كان هذا من باب ركب وصحب، فلم فصله/ 146/ منه وجعله باب على حدة؟ قيل له: إنما فصله لأن صحب واحدي قع على الجميع، "وباب حلفاء اسم واحد يقع على الجميع" والواحد بلفظ واحد، فقد وافقه بأن اللفظ للواحد والمعنى للجميع، وخالفه بأن حلفاء تقع على معنى الواحد أيضا كما وقع على لفظ الجميع بذلك اللفظ. فإن قال: فقد استعمل لهذا واحد وإن لم يكن مكسرا عليه نحو: صاحب، كما استعمل لطرفاء واحد وإن لم يكن مكسرا عليه وهو طرفة، فقد اتفقنا بذلك، قيل له: هما متفقان من ذلك الوجه، ومختلفان من جهة أن العرب جعلت لحلفاء وطرفاء وجها آخر، وهو أنها تدل على واحد، والدليل على ذلك ما رواه سيبويه عنهم من أنهم يقولون: حلفاء واحدة وطرفاء واحدة، فيصحبونها هذا النعت كما أصحبوها بهمى في قولهم: هذه بهمى واحدة، وليس يخالف الراد في بهمى وهي من الباب، وليس وجودهم لها واحدا في "بعض اللغات بمانع لأن تجعلها العرب بلفظ جميعها لواحد في" أكثر اللغات، ولا ما رواه الأصمعي بمبطل لما رواه سيبويه من قولهم: حلفاء واحدة وبهمي واحدة، لأن هذا سماع

وليس بقياس قاسه، فكأنه جمع لواحده بناءان، ومع هذا فليس حلفاء من أبنية الجمع وإنما هو كحمراء، وألفا التأنيث في آخره كهاء التأنيث، وهاء التأنيث في مثل هذا إنما تكون للواحد وتسقط من الجميع كقولك: تمرة وتمر، وبسرة وبسر، ألا ترى أنهم يجمعون ما فيه ألفا التأنيث كما يجمعون ما فيه هاء التأنيث فيقولون: قواصع في مع قاصعاء، كأنهم جمعوا قاصعة، وقالوا: قنبراء وقنابر، وخنفساء وخنافس. [كأنهم جمعوا قنبرة وخنفسة]. فإن قال: فإذا جعلت لفظ حلفاء وطرفاء للواحد والجميع، فما الفرق بين الواحد والجميع؟ قيل له: جعلت العرب الفرق ها هنا بالوصف، فألزمته إذا أردت به الواحد الوصف فقالوا: هذه طرفاء واحدة كما قالوا: بهمى واحدة. مسألة [114] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما لفظ به مما هو مثنى كما لفظ بالجمع، قال: (وسألت الخليل عن قولهم: ثلاثة كلاب فقال: يجوز في الشعر على غير وجه ثلاثة أكلب، ولكن على قوله: ثلاثة من الكلاب، كما/ 147/ قال: ..... ... ثنتا حنظل قال محمد: والعرب تقول في أقل العدد في قرء المرأة: أقراء، وقال الله تبارك وتعالى: {ثلاثة قروء} فهذا نقض قوله: إنما يجوز في الشعر.

قال أحمد: نص سيبويه عن الخليل غير ما حكاه، وذلك أنه قال: (وسألت الخليل عن ثلاثة كلاب فقال: يجوز في الشعر، شبهوه بثلاثة قرود، ويكون ثلاثة كلاب على غير وجه ثلاثة أكلب، ولكن على قوله: ثلاثة من الكلاب)، فهذان وجهان: الأول منهما يجوز في الشعر، وهو أن يكون ثلاثة كلاب على معنى ثلاثة أكلب كما قالوا: ثلاث قرود، إلا أنهم لم يستعملوا الجمع القليل في قرود فيقولوا: أقراد، واستعملوا الكثير للقليل والكثير، فجاز في الكلام، وشبهوا كلابا به فجاز في الشعر "لاستعمالهم الجمع القليل فيه وهو قولهم: أكلب. وأما الوجه الثاني الذي على معنى الإضافة إلى الجنس فهو جائز في الكلام والشعر". وقد زعم سيبويه في أول الباب أنه قد يجيء خمسة كلاب ولم يقل في الشعر، وقال: كقولك: خمسة من الكلاب، وحذفت (من) وأضفته إلى الجنس، وقال: هذا كما تقول: صوت كلاب، أي صوت هذا الجنس، وحب زمان، والحب ليس بالرمان وإنما هو منه، وكذلك الصوت من الكلاب، فكأنه يريد أن هذه العدة من الكلاب وليست بجميع للكلاب وإذا قلت: ثلاثة أكلب فالثلاثة هي الأكلب. وإذا لم تستعمل العرب الجمع القليل في مثل هذا استغنت عنه بالكثير فجعلته للقلي والكثير، فمن ذلك قولهم: ثلاثة شسوع، استغنوا "بها" عن أشساع، وثلاثة قرود، استغنوا "بها" عن أقراد، وثلاثة قروء، استغنوا بها عن أقرؤ، فلما جعلوا الجمع الكثير ها هنا ينوب عن القليل والكثير حسنت إضافة الشعر وما دونها إليه، لأنه قد قام مقام القليل لتركهم استعمالهم إياه وجعلهم الكثير ينوب منابه، فأما كلاب فإنما ضعفت فيه خمسة كلاب لأنهم قد قالوا: أكلب، فكان الأولى أن يضاف العدد إليه، إذ كان فيه مستعملا لم

يستغن عنه بكلاب، ولو ترك استعمال أكلب واستغني عنه بكلاب لحسن ثلاثة كلاب كما حسن ثلاثة شسوع. وأما قوله: إن العرب تقول في القليل: أقراء، فليس ذلك الأصل في جمع فعل القليل، وإنما هو شاذ فيه فشبه بغيره، وإنما الأصل في قليل فعل أفعل، وقد/ 148/ ترك استعماله البتة في قرء واستغنوا عنه بفعول، وإذا لم يستعملوا أقل الجمعين على الأصل أجازوا أن يضيفوا إلى الأكثر، لأنهم قد صيروه يقوم مقام الأقل وإن كان قويا، إذ كانوا قد أجازوا على ضعف استعمال إضافة العدد إلى أكثر الجمعين المستعمل منه القليل على الأصل نحو: خمسة كلاب، فلما استجازوا هذا على ضعفه كان فيما لم يستعمل له قليل على الأصل جيدا قويا، وهو قولهم: {ثلاثة قروء} وبه جاء القرآن. مسألة [115] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب تكسيرك ما كان من الصفات عدة حروفه أربعة أحرف. قال محمد: وزعم الخليل أن قولهم: ظريف وظروف لم يكسر على ظريف كما أن المذاكير على ذكر، قال أبو عمر الجرمي: ظروف تكسير ظريف على غير الباب، وليس بمنزلة مذاكير، لأنك لو صغرت ظروفا لقلت: ظريفون فرددته إلى ظريف، ولو حقرت مذاكير لقلت: مذيكرات، لم ترده إلى ذكر. قال أحمد: قول أبي عمر: إن ظروفا جمع ظريف على غير الباب غلط، وإنما هو على غير

الواحد، وبين اللفظين فرقان، وذلك لأن الذي يجمع على غير الباب مثل قولك: زند وأزناد، وفرد وأفراد، وكان الباب أن يبنى على أفعل كفلس وأفلس وكلب وأكلب، وإنما شبه بجذع وأجذاع، وقفل وأقفال، فحمل على غير بابه لأنه ليس بينهما في البناء اختلاف غير حركة وأما ظريف فليس كذلك، لأنه على وزن فعيل، والذي يجانسه في البناء ويقاربه فعال كغزال وفعال كحمار وفعول كرسول، فهذه أخواتة. وليس شيء من هذه الأبنية المقاربة "له" يجمع على فعول، فيكون ظروف شاذا قد حمل على ما قاربه من الأبنية، ولم يحمل على بابه كما فعل في ذلك في فعل وفعل وفعل، ولكن يقال في هذا: إنه جاء على غير بناء واحده كما كانت ملامح ومذاكير على غير بناء الواحد، وليس أيضا بمنزلة ركب وجامل وباقر، لأن هذه الجموع موحدة دالة على معنى الجميع، والدليل على ذلك قولهم: هذا الركب وهذا الجامل، فأما ظروف ومذاكير فجمع لأنك تجمع فتقول: هؤلاء الظروف كما تقول: هؤلاء الظرفاء، وتؤنث المذاكير؟ فأما ظروف/ 149/ فهو جمع على غير لفظ واحده، وليس هو بموحد اللفظ كالركب للدلالة التي ذكرناها، وعلى هذا قسم سيبويه هذه الجموع وفصل كل نوع منها عن صاحبه. وإنما لحقه الغلط في ظروف، لأنه حقره بلفظ ظريف ثم جمعه، وحقر مذاكير بلفظ مذكار الذي لم يستعمل ولم يحقر بلفظ ذكر، فصار هذا عنده فرقا، والعلة في ذلك أن واحد مذاكير يأتي أبدا في القياس على طريقة واحدة ووزن واحد، لأن مفاعيل إنما هو جمع لفعال أو مفعول وهما واحد وجمعها يرجع إلى مثال واحد، وكذلك تحقيرهما تحقير مثال واحد، وأما ظروف فهو فعول، و (فعول) تأتي جمعا لأبنية مختلفة، فلما لم يلزم طريقة واحدة، ولا كان له مثال من الواحد هو أحق به من غيره كما كان لمفاعيل جمعوه على واحده المستعمل، ومع هذا فليس ذكر من لفظ مذاكير للزوائد التي في لفظ

مذاكير، وليس واحدها من لفظها بمستعمل، وواحد ظروف من لفظها مستعمل وإن لم يكن مكسرا عليه الجمع، فهذا الفرق بينهما، وإنما واحد مذاكير من لفظها مستعمل وإن لم يكن مكسرا عليه الجمع مذكار، ولم يستعملوه، فهو بمنزلة عباديد لأنهم لم يقولوا: عبديد ولا عبداد، فأنت لو حقرت عباديد لقلت: عبيديدون أو عبيديدات، وإنما ظراف جمع ظريف على القياس والباب، وأما ظروف فجمع لم يكسر عليه ظريف، وإن كان واحدا من لفظه وإنما هو بمنزلة شاهد وشهود وجالس وجلوس، فلو صغرت هذا كله لرددته إلى الواحد المستعمل، لأنه من لفظ الجمع وإن كان غير مكسر عليه، فتقول: شريهدون وجويلسون، كما قلت: ظريفون حقرت شاهدا وجالسا ثم جمعت بالواو والنون. وأما مذاكير فكما قلنا بمنزلة عباديد، لم يستعمل له واحد من لفظه، فلذلك حقرته على واحده بالقياس، إذ لم تجد له واحدا في الاستعمال من لفظه، ألا ترى أن سيبويه قد جمع ظرفا وعباديد في باب واحد، لأنه جمع على غير الواحد، فقد اتفقنا في هذا المعنى وافترقا بأن هذا له واحد مستعمل من لفظه، وليس لهذا واحد مستعمل من لفظه. /150/ مسألة [116] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب أيضا للخصال التي تكون في الأشياء، قال: (وقالوا: وضع ضعة وضعة، فالضعة مثل الكثرة، والضعة مثل الرفعة). قال محمد: وهذا خطأ ونقض لقوله: ما كان مما فاؤه واو لم تحذف في فعلة وصح نحو الوثبة والوجبة، ولكنه عندي فعلة في الأصل، والدليل على ذلك قولهم: ضعة، ثم فتحت العين ما قبلها كما كان ذلك في الفعل في يسع ويطأ. قال أحمد: أما قوله: إن العين في ضعة فتحت ما قبلها كما تفتح في الفعل فغلط، لأن

ذلك لا يكون في الأسماء قياسا، وإنما جعلوا هذا في الفعل، لأن الفعل "في الأصل: مبني على التغيير بتصرفه وتنقله من حال مضي إلى حال استقبال، ويبنى منه فاعل ومفعول ومصدر، فاحتمل ذلك، ولم يكن مثل ذلك في الاسم إلا شاذا، لأن الاسم إنما يدل على المسمى بهيأته، فإذا غير بطلت دلالته، والأفعال إنما هي عبارة بنيت للأزمنة وليست بموضوعة لمسميات فاحتملت من التغيير ما لم يحتمله الاسم، ألا ترى أن الجيم من جعل والراء من رجل وما أشبه هذا لا يجوز فتحهما لحرف الحلق، ولو فتحناهما لم يدلا على المسمين، ونحن إذا فتحنا العين من يفعل أو كسرناها لم تتغير دلالتها على وقوع الحدث في الزمان والمستقبل، فأما قول بعضهم: سعيد، ورجل محك فليس يطرد في الأسماء كاطراده في االأفعال، وهو قليل، وإنما يجيء في بعض اللغات. وأما قوله: إنه قد ناقض لأنه ذكر أن المصادر التي تعتل الفاء منها إذا انفتح أولها صحت نحو قولهم: الوحدة والوجبة فليس بناقص، لأنه إنما يذكر في صدر الباب ما يطرد، وقد يشذ منه الشيء فيستثنى به، وليس يكاد باب من النحو يخلو من أن يقع مثل هذا فيه إلا اليسير، ألا ترى أنه قال: إن الواو تحذف في المكسور، وقد جاء وجهة، فإتمام المكسور كالحذف من المفتوح، وقد قال في الواو في هذا الباب: إنها إذا انضمت أو انكسرت قلبت همزة لثقل الضمة والكسرة، /151/ وإذا انفتحت لم تقلب، فقالوا في وقتت: أقتت، وفي وعد: أعد، وفي وسادة: إسادة، ولم يقولوا في وعد: أعد كما

يقولون في المضمومة، وقد شذ من المفتوحة، شيء قالوا: امرأة أناة، والأصل وناة، وقالوا: أحد والأصل واحد، فالشاذ يستثنى به: والباب صحيح على أصله. ولم يذكر سيبويه هذه المسألة) أعني الضعة) في باب ما اعتلت فاؤه يحتج لها ويأتي بالاعتلال لحذفها، وإنما ذكرها في باب من أبواب أبنية الأفعال والمصادر، فلم يلزمه في هذا الباب أن يذكر غير نظائرها في أوزانها من أضدادها، فجاء بالكثرة والرفعة لأنه على وزنها، [لا]، لأنه علة لفتحها أو كسرها، فيقال له: قد أخطأت في هذه العلة، وإنما هي كذا وكذا، ونظير ما ذكر فيها من هذا الباب قولهم: سعد سعادة كما قالوا: شقي شقاوة، فهذا في الارتفاع وهذا بإزائه في الاتضاع، وهذه تمثيلات وليست بعلل. مسألة [117] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب مصادر ما لحقته الزوائد من الفعل، من بنات الثلاثة، قال: ) فأما فاعلت فإن المصدر [الذي] لا ينكسر أبدا منه مفاعلة، جعلوا الميم عوضا من الألف التي بعد أول حرف منه، والهاء عوض من الألف التي تزاد قبل آخر حرف (. قال محمد: الاعتلال خطأ، من قبل أن الألف الزائدة بعد الفاء في فاعلت قد جاءت بعد الفاء في مفاعلة. قال أحمد: معنى سيبويه في هذا الذي ذكره أن المصدر من فاعلت يجيء على ضربين: مرة تحذف الألف الأولى في أحدهما، وهو الفعال نحو القتال، فالألف الأولى محذوفة،

وفي المفاعلة التي تحذف الألف التي قبل آخر حرف، وهي الألف التي تلحق قبل أواخر المصادر في مثل الإفعال والافتعال "وما أشبه ذلك"، فعوضوا الميم من الألف الأولى التي تذهب في الفعال، وجعلوا الهاء عوضا من الألف الثانية التي تذهب من المفاعلة. فإن قيل: فلم أوقعوا العوض في المفاعلة دون الفعال؟ قيل له: لأن المفاعلة /152/ لازمة مطردة في فاعلت، فجعلو العوض في ألزم المصدرين. مسألة [118] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب اشتقاقك لبنات الثلاثة التي ليست فيها زيادة من لفظها، قال: وما كان يفعل منه مضموما بني المصدر منه والمكان على مفعل. قال محمد: وقد جاء في الكلام في بعض الروايات مفعل بغير هاء، قال الشاعر: أبلغ النعمان عني مالمكا ... أنه قد طال حبسي وانتظار قال أحمد: من مذهب محمد بن يزيد أن يرد الأبيات التي لا ضرورة فيها على سيبويه. ... ... كله لم أصنع "بالرفع، " وقال: لا ضرورة فيه، لأنه يمكن أن يكون منصوبا، ولم يجع ما ادعاه من السماع حجة، ثم ارتضى لنفسه في حرف شاذ بالضم أن يستشهد به، والفتح أصله وممكن فيه، لأنه يقال: مالكة بالفتح، ولو جاء في هذا الباب حرف واحد أو حرفان لما كسر ذلك قياسه، لأنه زعم أن ما كان على يفعل فإن العرب تبني منه المفعل على الفتح، لأنه لم

يأت في الكلام، أو في أكثره مفعل، فالعرب تحمل على الأكثر لا على الأقل، هذا مع ما يدخل في هذه الكلمة الشاذة من استعمال الفتح، ومن أنها محذوف منها الهاء، لأن مفعلة بالضم في الكلام نحو: المكرمة، فإذا حذفت الهاء منها فإنما حذفتها من شيء، فهذا مستعمل في الكلام مضموما ولم يأت أصلا بغير هاء، فكأنه قال: ولم يجئ في الكلام مفعل أصلا غير محذوف منه الهاء، لأن ما حذفت منه الهاء فكأنها منوية فيه، فهذا شاذ لا يعمل عليه، مع ما يدخله مما ذكرنا من أنه يستعمل مفتوحا، وأنه محذوف منه الهاء. مسألة [119] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب الحروف الستة إذا كان واحدا منها عينا، وكانت الفاء قبلها مفتوحة، قال: وقالوا في حرف شاذ: يحب، شبهوه بـ) منتن (، ولم يقولوا: حببت، وإنما قالوه على حببت، وكسرت الياء مثل يئبى ويبجل. قال محمد: قال رجل من بني نهشل اسمه "عباد بن شجاع: وأقسم لولا تمره ما حببته ... وكان عياض منه أدنى ومشرق /153/ وقال المازني، وأسمه "حاجب بن ذبيان لعمرك إنني وطلاب مصر ... لكالمزداد مما حب بعدا

قال أحمد: إنما أراد سيبويه أنهم لم يقولوا: حببت- بكسر الباء- في الماضي، لأن هذه الأفعال المستقبلة إنما تكسر أوائلها إذا انكسر الحرف الثاني من ماضيها، وإنما تكلم في كسر أول يحب لا في بناء الفعل، وإنه جاء مستقبله على غير ماضيه، وليس هذا بابه، وإنما بناء هذا الباب على الكلام في كسر الأوائل، فكيف يعتل بفعلت المفتوحة العين، وإنها لم تجئ في كلامهم، ولو جاءت لم توجب الكسر في المستقبل، ولكان شاذا أيضا مثل يئبى لأن ماضيه مفتوح، ولذلك قرن هذا الحرف به إذ ماضيها جميعا مفتوح [الثاني]، وشبه يحب خاصة بـ (منتن) للكسرة التي في الحاء وأتبعها الحرف الأول، فأشبه باب منتن، ولم يكن ذلك في ينبئ لأن مستقبله جاء مجيء الأفعال التي ماضيها على فعل بكسر العين، لأن مستقبلها يأتي مفتوح العين، فلذلك كسروا أوله، وهذا حرف غلط في شكله فجعلت الفتحة موضع الكسرة وتنوقل على ذلك، والشرح يخالف الشكل ويوجب ما قلنا، لاسيما وقد جاء محبوب وإنما هو مفعول من حببت. مسألة [120] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف، قال: (وسألت الخليل عن القاضي في الوقف "في النداء" فقال: أختار يا قاضي، لأنه ليس بمنون، كما أختار هذا القاضي) قال: (وأما يونس فقال: يا قاض)، قال سيبويه: (وقول يونس أقوى، لأنه لما كان من كلامهم أن يحذفوا في غير النداء كانوا في النداء أحرى، لأن النداء موضع حذف، يحذفون التنوين ويقولون: يا حار، ويا صاح، ويا غلام أقبل. قال محمد: القياس عندي قول الخليل، لأن الياءات إنما يختار حذفها في الوقف إذا أذهبها التنوين في الوصل كما تقول: هاذي في الوقف من قولك: هاذي أمة الله. قال أحمد: اختار محمد قول الخليل ولم يأت /154/ إلا بنص ما اعتل به الخليل، ولا

أرى أنا وجه اختياره بحجة ترجحه، وهذه مسألة تكلموا فيها بآرائهم، وسبيلها أن ترد إلى الأشبه من مذاهب العرب وكلامهم، وكلا الرجلين- أعني الخليل ويونس- قد ذهب مذهبا حسنا إلا أن قول الخليل أقوى، وذلك أن الإتمام أصل والحذف عارض للكلمة لأسباب توجبه، وليس ها هنا سبب أراناه سيبويه غير ما قال من أن النداء باب حذف، يقولون فيه: يا حار ويحذفون التنوين، والأسماء فيه قد تأتي على التمام غير محذوفة ولا مرخمة، فالتمام أولى به لأنه الأصل، إذ لم يسمع قول العرب فيتبعها، وكان الباب قد يقع فيع التمام والمحذوف، فتركه على التمام أولى لأنه الأصل. فإن زعم أنهم يحذفون التنوين في النداء حذفا مطردا، فهذا أدعى إلى أن يدع الياء لا يحذفها، لأن حذف التنوين يوجب رد الياء في قاض، فلما كان السبب الذي يوجب حذف الياء متروكا في النداء وجب ردها في هذا الباب الذي قد أمن فيه السبب الموجب حذفها، كما وجب ردها مع الألف واللام إذا قلت: هذا القاضي، لأن التنوين قد أمن مع الألف واللام كما أمن في النداء: فلزم ردها في البابين كما قال الخليل. مسألة [121] ومن ذلك قوله في باب عدد ما يكون عليه الكلام: [كان] الاسم أولا ثم الفعل ثم الحرف، ألا ترى أنك تذكر الاسم فتستغني عن الفعل، تقول: هذا زيد، وأخوك عمرو، ولا يستغني الفعل عن الاسم، ولا تستغني هذه الحروف التي للمعاني عن الاسم والفعل، ويستغنيان عنها، تقول: يفعل زيد، فيستغنيان عنها، ولا بد لها من أحدهما.

قال محمد: ولا أرى هذا تقوية للفعل على الحرف، لأن الاسم أيضا تستغني به الحروف عن الفعل في قولك: زيد من بني تميم، وأنا منك وإليك، وأنا في الدار، فهذه بمنزلة قام زيد، ولكن الوجه في تقوية الفعل على الحرف أن يقول: ثم الفعل لمضارعته الاسم ووقوعه في معناه، يعني موقع يضرب وما أشبهه "من ضارب وما أشبهه"، إذ كانت الأسماء قد صح تقدمها. قال أحمد: هذا الإلزام فاسد، وليس هو بناقض، لأن سيبويه أتى بحكمين، فلم /55/ يقابل واحدا منهما بنقض، وذلك أنه قال: "إن" الحروف التي للمعاني لا تستغني عن الاسم [والفعل] ولا بد لها من أحدهما، وسبيل الناقض لهذا القول أن يطرح منه حرف النفي ويجعله موجبا فيقول: إنها قد تستغني عن الاسم والفعل في حال، ولن يجد ذلك لأن الحرف لا يوجد في الكلام إلا متشبثا باسم أو فعل، والحكم الآخر أنه قال: إن الاسم والفعل قد يستغيثان، فكان نقض هذا بالنفي وهو أن يقول: لا يستغنيان في حال، وقد استغنينا في مثل قولنا: قام زيد. فأما قوله: إن الحروف قد تستغني بالاسم عن الفعل في مثل قولنا: زيد في الدار، وهو منك وإليك، فليس هذا بنقض لقوله: إنها لا تستغني عن أحدهما، لأنها إن احتاجت إلى الاسم فهو أحدهما وإن احتاجت إلى الفعل فكذلك، لأن من الحروف ما يدخل على الأسماء مثل: من، وإلى، ومنها ما يدخل على الأفعال مثل: قد وسوف، فإنه لا بد لها من الفعل، ولا يستغنيان بالاسم دونه، ولم يقل: إن جميع الحروف لا تستغني عن الفعل، فيلزمه

فإن قال: فأين وجه رتبة الفعل في التقدم على الحرف؟ قلنا: إنما تقدم لأن جميع الأفعال مستغنية عن الحروف، وليس جميع الحروف مستغنية عن الفعل، فأي وجه أبني من هذا في تقدم الفعل على الحرف، وهي الرتبة التي قدمت الاسم على الفعل بعينها، وإنما ينبغي أن يرينا أن جميع الحروف تستغني عن الفعل كما أن جميع الأفعال تستغني عن الحروف، فيجب بهذا حينئذ التسوية، ولا يكون لأحدهما على الآخر رتبة. فأما قوله: زيد في الدار، وأنا منك وإليك، إن الحروف ها هنا قد استغنت بالاسم عن الفعل، فليس ذلك بمانع لأن يكون بعض الحروف يحتاج إلى الفعل كما احتاج بعضها إلى الاسم، فالفعل على الجملة، يستغني عن جملة الحروف، [وليست الحروف على الجملة تستغني عن الفعل]، ويضاف إلى هذا من القول: إن الاسم لا يكتفي بالحرف وحده، لأنا لا نقول: زيد من، ولا عمرو إلى، فنخبر عنه بحرف مجرد من الإضافة إلى اسم آخر، فلما لم يجز ذلك ولم يستغن به الاسم وحده مجردا كما يستغني بالفعل وحده، كانت /156/ هذه رتبة للفعل على الاسم بينة، وهو أن الاسم يكتفي بالفعل ولا يكتفي بالحرف وحده. ومما ينبغي أن يتصل بها من القول: إن الراد ومن أخذ عنه يذهبون إلى أن حروف المعاني لا بد أن تكون معلقة بفعل ملفوظ به أو منوي معه، لأنه يزعم أنا إذا قلنا: زيد في الدار، فكأنا قلنا: استقر في الدار، وهذا في معنى الكلام، وقد دعاه ذلك إلى أن يرفع الاسم إذا أخره بمعنى الاستقرار في قولنا: في الدار زيد، وإذا كان هذا مذهبه ومذهب أصحابه فقد سقط إلزامه، لأن الحروف لا بد لها من فعل تتشبث به، إما ظاهر أو منوي، فالحرف أبدا يحتاج إلى الفعل، وهذه الوجوه التي ذكرناها كلها تحقق ما ذهب إليه وأما ما ذكره الراد من مضارعة الفعل للاسم وأن هذا أولى بأن يحتج به في تقديم الفعل، فليس جميع الأفعال

بمضارع للأسماء، وإنما يضارعها جنس منها، وجميعها يستغني عن الحروف، وإنما تكلم على الاسم والفعل والحرف كلاما عاما وأتى لكل جنس من الثلاثة بعلة جامعة توجب التقديم والتأخير في الرتبة لذلك الجنس. مسألة [122] ومن ذلك قوله في هذا الباب: زعم أنه إذا قال: أنت أفضل من زيد، فإنما دخلت (من) ها هنا لأنه موضع تبعيض، لأنه أراد فضله على بعض الرجال. قال محمد: وهذا غلط، لأنه قد يجوز أن تقول: أنت أفضل من جميع الناس، ومعناه أنت تفضل زيدا، وأنت تفضل جميع الناس، وإنما (من) ها هنا موصلة ليست على جهة تبعيض، ولكن ابتداء غاية، وذلك أنك نعرف تقدمه في الفضل من فضل زيد، ولولا معرفتك بمقدار فضل زيد لم تدر ما فضل من تفضله عليه. قال أحمد: أما قوله: إن (من) في قولك: هذا أفضل من زيد لابتداء الغاية فلا يصح، لأن الابتداء يقتضي انتهاء ويكون الفضل واقعا على ما بين الغايتين، ألا ترى أنك إذا قلت: سرت من مكان كذا إلى مكان كذا، فالسير قد وقع على ما بين الغايتين، فأما الغايتان فربما دخلتا في الفعل وربما لم تدخلا، وأما ما بينهما فالفعل واقع عليه لا محالة، ومثال ذلك أنك إذا /157/ قلت: أكلت من رأس السمكة إلى ذنبها، فقد يدخل الرأس والذنب فيما أكل وقد لا يدخلان فيه، فيلزمه على هذا إذا جعل (من) في قولهم: هو أفضل من زيد لابتداء الغاية أن يكون الفضل واقعا على غير زيد، وليس هذا المراد في هذا الكلام، ألا ترى أنه لو كان معناه ما ذكر ثم جئنا باللفظ مطابقا فقلنا: ابتداء فضله من زيد لوجب بهذا أن يكون [ها هنا] مفضول غير زيد، وزيد طرف له وغاية، وليس يريدون ذلك في قولهم: هو أفضل من زيد، ولا أن يفضلوه على سوى زيد، وإذا لم تكن (من) ها هنا لابتداء الغاية ولا

زائدة، فلم يبق إلا ما قاله سيبويه من التبعيض، لأن هذه وجوهها في الكلام. فإن قال: فما وجه التبعيض؟ قيل له: وجهه يتبين لك إذا قلت: أنت أفضل الرجال وأفضل رجل وأنت تريد العموم بذلك، فإن أدخلت (من) فقلت: أنت أفضل من رجل وأنت تريد العموم لم يجز، وإنما تفضله على رجل واحد، إذا أتيت بمن، وكذلك وجهك أحسن وجه، وثوبك أنظف ثوب، وأبوك أكرم أب، فإنما معنى هذا كله العموم، كأنك قلت: وجهك أحسن الوجوه، وثوبك أنظف الثياب، وأبوك أكرم الآباء، فإن أدخلت (من) على هذا كله صار مخصوصا ودخله معنى التبعيض، ولم تكن مفضلا للاسم على جميع الجنس لكن على بعضه، وذلك إذا قلت: وجهك أحسن من وجه، وثوبك أنظف من ثوب وأبوك أكرم من أب، فإنما تفضله على واحد لا على الجميع. فإن قال: فنحن نقول: زيد أفضل من الآباء أو أفضل من الرجال، قيل [له]: إن قلت: زيد أفضل من الآباء أومن الرجال، على معنى أفضل الرجال لم يجز، وإنما فضلته على جماعة من الجنس، فقد عاد إلى معنى التبعيض، وسواء فضلته على واحد من الجنس أو على جماعة منه غير مستوعبة له، وكأنك قلت: زيد أفضل من الرجال الذين تعلم أو من جميع الرجال الذين تعلم. فإن أدخلت (من) معنى: زيد أفضل الرجال، أي: أفضل هذا الجنس لم يجز، والتبست المعاني، وإنما دخلت (من) ها هنا لتفرق بين العموم والخصوص، وإذا كانت فارقة بين معنيين لم يجز إسقاطها /158/ إذا أردت التبعيض، ولا المجيء بها إذا أردت أن تعم، ولذلك قال سيبويه في هذا الفصل: ولا يجوز إسقاطها في هذا الموضع، فإن زعم أن إسقاطها جائز، وأن قولنا: زيد أفضل من الرجال كقولنا: زيد أفضل الرجال في معنى العموم، فقد صارت (من) زائدة ها هنا، وصار دخولها كخروجها، وهذا نقض لقوله: إنها ها هنا لابتداء الغاية.

مسألة [123] ومن ذلك قوله في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة من غير الفعل، قال: (ويكون على مفعل في الأسماء نحو: مصحف، ومخدع وموسى، ولم يكثر هذا في كلامهم، ولا نعلمه صفة). قال محمد: وهذا المثال من أكثر ما جاءت عليه الصفات لما تصرف من الفعل نحو: مكرم، ومخرج، ومعطى، وكل ما كان مفعولا من أفعل، وأحسب هذا في الكتاب غلطا عليه، بل لا أشك في ذلك إن شاء الله. قال أحمد: هذا غلط من أبي العباس على الكتاب لا على سيبويه، لأنه قد اعترف بأنه ليس من كلام سيبويه وإنما غلط عليه في كتابه، وقد نظرنا في عدة نسخ فوجدنا الكلام صحيحا مستقيما على غير ما حكى، وليس هو عندنا ممكن يتعمد الكذب، ولكنه موضع ظننا أنه تجاوزه نظره، لأن هذا الكلام الذي ذكره يتلوه بسطر في مثال مخالف ذلك المثال بحركة، وذلك أنه قال: ويجوز أن يكون الاسم على مفعل نحو: مصحف، ومخدع وموسى، ولم يكثر هذا في كلامهم اسما، وهو في الوصف كثير، والصفة قولهم: مكرم ومدخل ومعطى، ويكون على مفعل نحو: منخل، ومسعط، ومدق، ومنصل، ولا نعلمه صفة، فهذا الذي عنى سيبويه أنه لا يعلمه صفة، وهو مفعل بضم العين، فأما مفعل بفتح العين فقد ذكر في الكتاب أنه كثير في الصفة، وهذا ضد ما حكاه عن نص الكتاب. مسألة [124] ومن ذلك قوله في هذا الباب: (ويكون في الأسماء مفعلة نحو: مزرعة، ومشرقة، ومقبرة، ولا يكون في الكلام مفعل بغير الهاء).

قال محمد: وقد جاء في الكلام مالك، قال الشاعر: أبلغ النعمان عني مالكا ... أنه قد طال حبسي وانتظار قال أحمد: "هذه" المسألة معادة، وقد مضى الجواب عنها في باب ترجمته، هذا باب اشتقاقك لبنات الثلاثة التي ليست فيها زيادة من لفظها. مسألة [125] ومن ذلك قوله /159/ في باب ما لحقته الزوائد من بنات الأربعة، زعم أن عشوزنا من بنات الأربعة، وأن النون أصل. قال محمد: والنون زائدة، من ذلك قول الشماخ: ..... ... حوامي الكراع المؤيدات العشاوز ولو كان كما قال لم يجز إلا العشازن. قال أحمد: إنما لم يقل: العشازن هو الأثل، لأن القافية إلى حذف حرف من الأصل، وهو جائز في الشعر، وهو كقول الآخر: لها أشارير من لحم تتمره ... من الثعالي ووخز من أرانبها يريد من الثعالب والأرانب، فحذف الياء، وكقول الآخر:

ولضفادي جمه نقانق ولا فرق بين حذف النون ها هنا للضرورة وإن كانت أصلية وبين حذفها في كلمة النجاشي: فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك إسقني إن كان ماؤك ذا فضل فحذف النون من لكن، ألا ترى أن سيبويه يقول في باب ما يحتمل الشعر: (إنهم يحذفون فيه ما لا يحذف، يشبهونه بما قد حذف واستعمل محذوفا كقول العجاج: قواطنا مكة من ورق الحما يريد الحمام)، فالنون على الأصل إلا أن يجيء أمر قاطع يبين أنها زائدة، فأما هذا الموضع فهو موضع يجوز فيه حذف الأصل وليس بقاطع، لأنه موضع ضرورة، ولو جمعنا في الكلام عشوزنا لم نقل إلا عشازن. مسألة [126] ون ذاك قوله في باب ترجمته: هذا باب علل ما تلحقه الزوائد قال: وتاء عنكبوت زائدة، لأنهم قالوا: عناكب، وإن كانت التاء من نفس الحرف لم نحذفها في الجمع كما لا يحذفون طاء عضرفوط. قال محمد: وهذا خطأ، لأنه من حذف التاء لأنها خامسة كما تحذف طاء عضرفوط في

قولك: عضارف، وما أحسبه إلا زيد عليه أو غلط، ولكن الدليل على زيادتها قوله: العنكب والعنكباء، عنه وعن أبي زيد، قال ومثل ذلك تخربوت لقولهم: تخارب، والعلة ما ذكرناه. قال أحمد: اعتل سيبويه لزيادة عنكبوت بعلتين: إحداهما الجمع "وحذفها فيه"، والأخرى ذهابها في الاشتقاق في قولهم: العنكب والعنكباء، وجاء بالعلتين معا. فأما قوله: إن الجمع/ 160/ ليس بحجة في هذا لأن الأصول تحذف من بنات الخمسة، ففي هذا جوابان: أحدهما ما ذكره في آخر كتابه، وهو أن نون عنكبوت لو كانت التاء أصلية [كانت] أولى بالحذف، لأن هذا موضع زيادتها التي يقضي بها فيه عليها، فلو لم تكن التاء زائدة لقالوا: عكابت ولم يقولوا: عناكب، والوجه الآخر إنهم لا يجمعون بنات الخمسة البتة، وإنما هذا شيء قاسه النحويون، فلما جمعوا عناكب علم أن التاء زائدة، ولو كانت أصلا لما جمعوه هذا الجمع، لأنهم لا يقولون في سفرجل: سفارج إلا على استكراه، ولم يوجد جمع مثل هذا في كلامهم إلا على استكراه. وأما قوله: (كما لا يحذفون طاء عضرفوط) فيحتمل أيضا وجهين: أحدهما، كما لا يحذفونها في الاشتقاق كما وجد عنكبوت محذوف التاء في عنكب وعنكباء، ولم يرد الجمع في هذا، والوجه الآخر أن يكون أراد كما لا يجمعون عضرفوطا فيحذفون الطاء في الجميع، أي: ليس يجمع مثل هذا فيقع الحذف، فهذان وجهان في تأويل ما قال.

مسألة [127]

مسألة [127] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما كانت الواو فيه [أولا] وكانت فاء: (وسألت الخليل عن فعل من وأيت فقال: وؤي كما ترى، وسألته عنها فيمن خفف فقال: أوي، فأبدل من الواو الهمزة، وقال: لابد من الهمزة، لأنه لا يلتقي واوان في أول الحرف) قال محمد: وهذا خطأ، لا يلزم همز أوله، لأنك تنوي بالواو المنقلبة الهمزة، ولذلك لم تدغمها في الياء التي بعدها، ولا يجوز "في" أوي إلا في قول من همز الواو إذا انضمت ليس للالتقاء من الواوين، ولكن على من قال: أجوه في وجوه، لأن من المبدلة من الهمزة مدة، ألا ترى أن إدغام واو رويا في الياء التي بعدها شبيه بالغلط، إذ كنت تنوي فيها الهمزة، وهذا قول أبي عثمان المازني، وإنما يجوز همز الأول في قول من قال: ريا، ويدغمها أيضا في الياء التي بعدها، وإلا لم يجز لأنه ينوي الهمزة. قال أحمد: أما ترك إدغامهم الواو في الياء إذا نووا بها الهمزة فصحيح، لأنهم لو أدغموا وصيروها ياء مشددة لكانوا قد ألحقوا الهمزة تغييرا بعد تغيير، لأنهم كانوا ينقلونها بالتخفيف من الهمزة إلى الواو، وبالإدغام/ 161/ من الواو إلى الياء، ولم يكن بين الواو إذا كانت موضع همزة مخففة وبينها لو كانت واوا فرق في الأصل، ويظهر ذلك فوعل من القول، فإنهم قالوا فيه: قوول، ولو قالوا: قول وأدغموا لم يكن بين الواو المبدلة من ألف فاعلت وبين الواو التي في فعلت المكررة في الأصل وليست مبدلة فرق، فهم في تركها على حالها غير مدغمة يريدون الفرق بين معنيين.

مسألة [128]

وأما قلبهم الواو همزة إذا اجتمعت واوان في أول الكلمة فلاستثقال اللفظ لا للفرق، فلما كانوا مستثقلين للفظ الواوين إذا اجتمعتا قلبوا وإن كانت إحداهما مبدلة من همزة، لأن اللفظ بها مبدلة وغير مبدلة سواء في الثقل، ولما كانوا بترك إدغامها فارقين بين معنيين لم يدغموها، ومع هذا فإنهم قد قالوا: حيوة وضيون، ويوم أيوم إذا كان شديدا وقالوا في التحقير: أسيود وجديول، ولم يدغموا فيما الواو فيه غير مبدلة من همزة، فهي إذا كانت مبدلة من همزة أجدر ألا يدغموا، فهذا قد جاء في كلامهم. وأما الجمع بين واوين في أول الكلمة فلم يجيء عنهم، ولو كانت النية في أن الواو المبدلة من همزة بمنزلة الهمزة كما ذكر للزمه على هذا ألا يجيز همزة في لغة من قال: أجوه، لأنه قد جمع بين همزتين، ولكان يلزمه أيضا، إذا بنى فاعلا من جئت ألا يدع الهمزة وأن يقول: جائي، فيجمع بين همزتين لأنه ينوي في الأولى أنها بدل من ياء، وليس يقول ذلك أحد. مسألة [128] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما يلزمه بدل التاء من هذه الواوات، قال: (وأما ناس من العرب فإنهم جعلوها بمنزلة واو قال، تابعة حيث كانت ساكنة كسكونها وكانت معتلة، فقالوا: إيتعد كما قالوا: قيل، وقالوا: يا تعد كما قالوا: قال) قال محمد: وليس يا تعد بمنزلة قال، لأن واو قال في موضع حركة، وواو يا تعد ساكنة، ولكن قلبوها كما قلبوا واو يوجل في قولهم: يا جل. قال أحمد: قوله: إنهم قلبوا يا تعد ألفا كما قلبوها في يا جل صحيح وليس مخالفا لما قاله سيبويه، لأنه ذكر أنهم جعلوا هذه الواو/ 162/ تابعة لحركة ما قبلها، فصيروها ألفا

مسألة [129]

لانفتاح الحرف الذي قبلها، فجعل هذه علة لقلبها، فإنما أتى محمد بمسألة نظيرها ولم يأت بعلة لقلبها، والاعتلال لهما جميعا ما ذكره سيبويه، إلا أن الواوات الثلاث اتفقن بمعنى واختلفن بمعان، ألا ترى أنه جعلها في ثلاثة أبواب. فأما واو يوجل فصحيحة لأنها لم تقع بين ياء وكسرة، وإبدالها عارض فيها، والأصل صحتها، فالبدل لا يلزمها. وأما الواو التي كانت في يا تعد فالبدل لازم لها والإتباع عارض فيها، ألا ترى أنهم يقولون: يتعد واتعد، فيبدلون التاء من الواو بدلا مطردا، وقالوا: إيتعد ويا تعد فأتبعوها حركة ما قبلها كما فعلوا في قيل وقال: فالإتباع عارض تشبيها بقيل وقال، والبدل لازم. وأما قال فالإتباع فيها مطرد لازم، لأن الواو في موضع حركة فيلزمها البدل والإتباع، فخالفتها في هذا الوجه، وأشبهتها في أنها ساكنة كما أنها ساكنة، فأبدلت في بعض المواضع، ولما خالفتها واو قيل لأنها في موضع حركة خالفتها بلزوم الإتباع، فخولف بين حاليهما لما اختلفت مواضعهما، في أن جعلت إحداهما تابعة لما قبلها إتباعا مطردا ولم يفعل ذلك في الأخرى، ولما أشبهتها في بعض المواضع أعطيت [بعض] أحكامها. مسألة [129] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما بني من المعتل ولم يجيء في الكلام إلا نظيره من غير المعتل، زعم أنه إذا بنى فعلان من حييت قال: حيان، فأسكن الواو التي انقلبت من الياء حيث بنيت لأن حده حيوان، فأسكنت لا على إسكان عضد من عضد ولكن كما يسكن المثلان نحو قولك في وتد: ود. قال محمد: هذا خطأ، لأن الواو والياء إنما يشبهان المتقاربات إذا سكنت الأولى منها

نحو سيد وما كان مثله نحو: لية، فأما طويل وسويق فلا تجعل الواو والياء فيه بمنزلة المتقاربات، وقد نقض هو قول نفسه في هذا الباب فقالوا: فلو بنيت فعلان من قويت لقلت: قويان فإذا أسكنت على قول من قال: عضد قلت: قويان، ولم تدغم كما قلت: لقضو الرجل فلم تردد، لأنك تريد ضمة فعل، وكذلك هاهنا كسرة فعلان. وقوله في قويان في تحريكه، وإسكانه الصواب، / 163/ ويلزمه أن يقول في فعلان من حييت: حيوان، وهذا قول أبي عثمان المازني وهو القياس. قال أحمد: أما قوله فيما قاله من كلامه وجعله حكاية عنه، وأنه أسكن الواو التي انقلبت من الياء فقول غير محصل ولا مفهوم، لأنه ليست هاهنا واو أسكنت ولا ياء انقلبت، فأما أن يكون هذا وهما منه، أو غطا في النقل عنه- أعني عن محمد بن يزيد- لأن هذا الذي ذكره عن سيبويه من إسكان الواو وانقلابها ياء ليس في كتابه، ولا في المسألة ما يوجبه. وأما قوله: إن الإسكان كالإدغام في المثلين، وإن الياء والواو من الحروف المتقاربة لا من الأمثال، وإن حده حيوان، فليس هذا حده "إنما حده" إذا بنى فعلان من حييت أن يقول: حيوان ثم يدغم، لأن العين واللام من مضاعف الياء، وكأن محمدا يذهب في هذا القول إلى أن تكون عين حييت ولامها من واو وياء، وهذا خطأ لا يقع مثله في الفعل- أعني أن تكون العين ياء أو اللام واوا- ألا ترى أن سيبويه ذكر حييت في باب مضاعف الياء، وقال في نحو من آخر الباب: (وقد كرهوا الواو ساكنة وقبلها الياء فيما لا تكون فيه لازمة في تصرف الفعل نحو: يوجل حتى قالوا: فلما كان هذا لازما رفضوه كما رفضوا أن

مسألة [130]

يكون من يوم يمت، ولكن مثل لويت كثير) قال أحمد: يعني أنهم لم يبنوا فعلا تكون عينه ياء أو لامه واو، ولا فاؤه ياء وعينه واو، لاستثقالهم ذلك، وأنهم رفضوه حتى إنه دعاهم استثقال ذلك إلى أن يقلبوا واو يوجل لما وقعت بعد ياء وإن كانت الياء غير لازمة لأنها تذهب في المضي إذا قلت: وجل، فلما كانوا يفعلون هذا في غير ما يلزم رفضوه في اللازم البتة، ومن الدليل على أنه يذهب في هذا إلى أنهما مثلان وأن حييت من ياء قوله في إثر المسألة: (وأما قولهم: [حيوان] فإنهم كرهوا أن تكون الياء الأولى ساكنة ولم يكونوا ليلزموها الحركة هاهنا والأخرى غير معتلة من موضعها، فأبدلوا الواو ليختلف الحرفان كما أبدلوها في رحوي حيث كرهوا الياءات فصار الأول على الأصل كما صارت اللام الأولى في ممل ونحوه على/ 164/ الأصل حين أبدلت الياء من آخره)، فهذا يدلك على "أن" الواو في حيوان مبدلة من ياء كما كانت في ممل مبدلة من لام، وقرن بهذه المسألة فعلان من قويت فقال: قوان، لأن قويت العين واللام منها واو كما أن حييت العين واللام منها ياء، وقد أفرد لكل واحد منهما بابا، فجعل قويت من مضاعف الواو، وحييت من مضاعف الياء. مسألة [130] ومن ذلك قوله في هذا الباب: قال: (تقول في فعلان من قويت: قوان، وفي قول من بنى

مسألة [131]

فَعَّال ويحي من حيي [عن] بينة: قووان). قال محمد: هذا خطأ، ينبغي لمن يبني أن يقول: قويان، لان الواوين لا تثبتان كما لم تثبتا في قويت، وهذا قول النحويين جميعا وقول أبي عمر. قال أحمد: أما قوله: إنه ينبغي أن يقول: قويان كما يقول في الفعل: قوي فيقبلها في فعلان كما قلبها في الفعل ويكسر، فليس يجب ذلك، لأنها تصح مع الألف والنون مع الفعلان كما صحت في النزوان وكما صحت العين أيضا في الدوران، والعين واللام يصحان جميعا في هذا البناء، وهو في الفعل طرف، فليس يجب أن يكون بمنزلتها في الفعل، وثبوت الواوين في بناء فعلان كثبوتها في النسب إذا أضفت إلى مثل لية مصدر لويت، فقلت: لووي، وتحريك الواو بالضمة بعده واو كتحريك الياء بالكسرة وبعدها ياء في قولك: حيي. فأما قويت فإن العرب قلبت الواو الأخيرة ياء لما كسرت الواو التي قبلها، لأنهم لا يبنوا من مضاعف الفعل بالواو فعلا على قويت ولا مثل وعوت، فهم يقلبونه إلى الياء، فهذا مستثقل في الفعل، فأما الأسماء فقد يجمعون بين الواوين فيها، ولا يستثقلون ذلك مضاعف الياء، لأن الياء أخف من الواو، فصارت لها رتبة عليها لخفتها. مسألة [131] ومن ذلك قوله في باب الإدغام في الحروف المتقاربة، قال: ولا تدغم الياء في الجيم وإن

مسألة [132]

كانت لا تحرك، لأنك تدخل اللين في غير ما فيه اللين، ذلك قولك أخرج ياسرا، فلا تدغم) ثم قال في هذا الباب: وتدغم النون في الياء والواو بغنة وبلاغته، وقد زعم أولا أنه لا يدخل غير حرف اللين في اللين. قال أحمد: الجيم من الحروف الشديدة التي تمنع /165/ الصوت، فأما النون فإنها وإن كانت مجهورة فليست مما يمنع الصوت، فلما ضارعت حروف اللين بالصوت التي تمتد به إلى الخياشيم جاز الإدغام فيها ولم يجز ذلك في الجيم لشدتها وامتناع الصوت معها. مسألة [132] ومن ذلك قوله في هذا الباب: وإذا أردت إدغام الهاء في الحاء قلبت الهاء حاء ثم أدغمت، وكذلك العين إذا أردت إدغامها في الهاء قلبتهما حاءين، ومما قلبت العرب تصديقا لهذا: محمد، يريدون معهم، قال الراجز: كأنها بعد كلال الزاجر ... وسمحي مر عقاب كاسر قال محمد: وهذا خطأ، لا يجوز إدغامه، لأن السين ساكنة، وكيف تسكن الحاء بعدها،

فهذا من الخطأ الفاحش، ولكن الإخفاء حسن. قال أحمد: إنما جاز التقاء الساكنين في هذا البيت على ضعفه، لأنه لا يلزم الإدغام من وجهين: أحدهما أنه قد يكون موضع الهاء ما لا تدغم فيه الحاء، لان الهاء ليست من الكلمة وإنما هي كناية، فقد تضيف هذا الاسم إلى الكاف المضمرة والاسم الظاهر وقد لا تضيفها، فهذا وجه، والوجه الآخر إن هذا الإدغام إنما وقع استحسانا من قائله في لغته لا على أنه لازم في اللغات، واجتماع الساكنين ها هنا كاجتماعهما في الوقف إلا أنه وصل فتركه على حاله في الوقف، ومن ها هنا صار قبيحا. فإن قال: إن هذا يكسر الشعر، فإنما هو فيه "بمنزلة" ما تزيده من حروف المد واللين على وزن الشعر، فلا يكون [هذا] كاسرا له، لأنك إذا تركت الترنم عاد إلى وزنه وأصل بنائه، وقد يخففون المشدد ويشددون المخفف، ويمدون الحركات حتى تكون حروفا في حشو البيت وقوافي الشعر، فلا يكون ذلك ممتنعا وإن زاد على وزن البيت، ألا ترى أنهم قد يخففون على السكون في "قوله": قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ............... فيسكنون اللام في الإنشاد ويحذفون الياء وهذا نقصان من حروفه، وقد يزيدون التنوين في غير موضعه كإنشادهم قول بعضهم: شدي على الدرع أم سيار ... فقد رزيت فارسا كالدينار /166/ فيزيدون التنوين وليس من بناء الشعر

مسألة [133]

وكل هذا يؤتى به على حسب ما يستحسن كل واحد منهم وفي لغته، وكذلك هذا المدغم لمسحه إنما أتى به مستحسنا فجاز للمترنم أن يأتي بالناقص والزائد في وزن الشعر، لأن هذا كله غير لازم وأجيز مع ذلك فإن هذه الأراجيز التي يحدون بها ربما أجروها مجرى السجوع ولم يقصدوا بها إلى الشعر، فلذلك استجازوا مثل هذا فيها. فأما قوله: إنه جائز على الإخفاء فغير ممتنع، وليس يلتبس (بالإدغام في السمع)، لاسيما على من عرفنا الفرق بين هذه الأشياء، واستدل على ما يلتبس في السمع منها مثل الإخفاء، والإسكان، وتخفيف الهمزة إذا جعلت بين بين، وإسكانها، فمثل هذا يلتبس ويحتاج إلى الاستدلال على أنه متحرك أو ساكن، فأما الإخفاء والإدغام فالفرق بينهما بين في السمع. مسألة [133] ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما كان شاذا مما خففوا على ألسنتهم، قال: (ومن قال: يستطيع فإنما زاد السين على أطاع، وجعلها عوضا من سكون موضع العين). قال محمد: هذا غلط، لأنه لما كان العين قد طرح حركتها على الفاء، وإنما يعرض من الحركة لو كانت ذهبت البتة. قال أحمد: قد ذكرنا الجواب عن هذه المسألة في صدر الكتاب واستقصيناه وقلنا: إن

التعويض يكون من التغيير كما يكون الحذف، لأن الكلمة إذا نقلت حركة منها عن موضع إلى نقد غيرت، ومن كلامهم أن يعوضوا في مثل هذا وأن يدعوا العوض أيضا، وفيما مضى من الجواب كفاية، [وهذا في الجواب نهاية]. قد تم استنساخ هذه النسخة على أصل كوفي وجد في النجف صحيح الخط بقلم الفقير إلى الله الغني محمد بن الطاهر في السابع عشر من شعبان سنة ألف وثلاث مئة وست وثلاثين هجرية، حامدا مصليا مسلما.

§1/1