الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار
العمراني
المجلد الأول
المجلد الأول مقدمة ... الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار تأليف: يحي بن أبي الخير العمراني تحقيق: سعود بن عبد العزيز الخلف مقدِّمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيآت أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد: فإن الله عزوجل قد امتن على هذه الأمة بمنة عظيمة إذ أرسل فيها هذا النبي الكريم وأنزل عليه هذا الكتاب العظيم وتكفل جل وعلا بحفظ كتابه ودينه، فسلم لهذه الأمة مصدر الخير والنور والهداية، كتاب الله عزوجل وسنة نبيه محمّد - صلى الله عليه وسلم-، فتمسك بها أهل القرون الأولى من هذه الأمة تمسك الغريق بحبل النجاة وقارب السلامة، وقد أدركوا أن ذلك المصدر هو حبل الله المتين وطريقه القويم الذي لا يزيغ عنه إلا هالك، فكانوا منه ينهلون وعليه يعولون وإليه يفزعون كلما حزبهم أمر أو اختلطت عليهم واقعة، فيجدون فيه فصل أمرهم وحكم ما بينهم. فيثوبون منه إلى الحق وحلاوته والاجتماع وقوته وسلامة الصدر وراحته، وقد أدرك أعداء هذا الدين ما لهذا المصدر من الأثر العظيم وأن هذه الأمة لا تهلك وفيها كتاب ربها وسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم- يحكمان في الصغيرة والكبيرة والدقيقة والجليلة. وقد أيقنوا أن لا سبيل إلى الوصول إلى كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم- بالتحريف أو التمزيق، وقد تكفل الله لوحيه بالحفظ والبقاء. فأعملوا فكرهم واستحثوا عقولهم كيف يحجبون المسلمين عن مصدر عزهم ومعدن فلاحهم؟ فوقعوا على داء الأمم قبلنا ومفرق الجموع إلى شيع وأحزاب مختلفة متناحرة، ألا وهو الجدل والكلام الذي أخبر عنه
النبي - صلى الله عليه وسلم- بقوله تحذيراً وتنبيها: "ما ضل قوم بعدي هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" ثم قرأ {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون} 1. وقوله عليه الصلاة والسلام: "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" 2. فألقى هؤلاء الأعداء هذا الداء بين المسلمين، فتلقفه من لم يكن له في الإسلام سابقة ولا قدم في العلم راسخة، ونشره بين المسلمين فعُطِل به كتاب الله عزوجل وردت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وظهر بسببه القيل والقال، وكثر التنقيب والتدقيق والسؤال، وقفا الناس به ما لا علم لهم به ولا سبيل لهم إليه إلا بالوحي الإلهي والنور الرباني، فجادلوا في الحق وتخرصوا بالباطل وجعلوا كتاب الله وراءهم ظهريا، وهم في ذلك كله يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وأنهم لدين الله نصروا، ولعدوه كسروا، وهم في الحقيقة لم يكسروا إلا دينهم ولم يغلوا إلا قناة جماعتهم، ففاء المسلمون من هذا البلاء بالتحزب والتشيع والفرقة التي أوصلتهم إلى التباغض والتكفير والتلاعن كما فعل الذين من قبلهم. هذا كله حدث وكتاب الله يتلى بين ظهرانيهم، وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم- بأيديهم إلا أنهما معطلان عن أن يحكما في عقيدة أو شريعة، وقد أصاب الأعداء بذلك من المسلمين مقتلا أفرز ما هو ظاهر من حال المسلمين لا يخفى على ذي عينين، ولولا أن الله قد تكفل من رحمته ولطفه وكرمه أن لا تستباح بيضة المسلمين وأن لا يطمس الحق والنور فيهم ببقاء طائفة على الحق ظاهرة وله محكمة لحاق بالأمة الإسلامية ما حاق بالأمم قبلها من اندثار الحق واندراس آثاره، وعموم الضلالة
وتنكب طريق الهداية حتى لا يستطيع أحد منهم أن يتوصل إلى النور الإلهي والهدي الرباني بما عندهم من كتاب، لتحريف الكتب الإلهية وانقراض أهل الحق فيهم، وإجماعهم على الضلالة والغواية. فلولا هذا اللطف منه جل وعلا لضللنا جميعا كما ضلوا، وقد كان ضُلاَّل أهل الكتاب ومجرموهم أول من أدخل هذا الشر على المسلمين، فبدعة التشيع أول من دعى إليها عبد الله بن سبأ اليهودي،1 وبدعة القدر تعزى إلى رجل نصراني في البصرة يقال له سوسن 2، وبدعة نفي الصفات أخذت عن بيان بن سمعان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم وزوج ابنته وأخذها لبيد بن أعصم الساحر عن يهودي من اليمن 3، ثم إن هذه البدع والانحرافات بدأت تجد من مرضى القلوب والاعتقاد أذناً صاغية، حتى وجدت أتباعاً وأنصارا كمنوا على بدعتهم وقت ظهور السنة وسيادتها على المجتمع الإسلامي في زمن أواخر الصحابة وأوائل عهد بني أمية إلى أواسط العهد العباسي الأول حيث ترجمت كتب اليونان وتلقفها هؤلاء المرضى فدعموا شبههم بالكلام والجدل، حتى فتنوا كثيرا من المسلمين عن الحق بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يأت عليها منه برهان، وإنما هي شبه لَبَّسَتْ على مرضى القلوب وضعاف الإيمان. وكان عسكر الإيمان وجند الرحمن ينافحون عن الحق وله يناصرون، يسرون بذلك ويعلنون لتستبين السبيل وتتضح المحجة لمن أراد الله سلامته وهدايته، فأقاموا الدروس والحلقات، ونادوا على المنابر بالآيات البينات فبينوا ووضحوا طريقة الرسول وشريعة الإسلام، وكتبوا وألفوا وردوا على أهل الباطل في كل ميدان، فأقاموا الحجة على الناس ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وكان لهم على كل بدعة جولة بالحق يدمغون بها الباطل فإذا هو زاهق، وكان رابع الخلفاء الراشدين
أبو السبطين علي - رضي الله عنه - أول من واجه هذه الانحرافات بعد بروزها واضحة في المجتمع الإسلامي، فجالد الخارجين بسنانه وبيانه، فأظهره الله عليهم في الحالين، ثم من بعده الصحابة الذين أدركوا هذه الفتن كجابر وابن عباس وابن عمر وغيرهم - رضي الله عنهم-، ثم كبار التابعين، ثم تابعيهم إلى الأئمة الأربعة، ثم كبار تلاميذهم، ثم بدأت الفتنة تأتي على أتباع الأئمة ممن لم يستنر بنور الكتاب والسنة ولم يعتمد عليهما الاعتماد الواجب من أمثالهم، حتى أصبح كثير منهم له إمام في الفقه وإمام من المتكلمين في العقائد، فعم البلاء وانتشر الداء، وثبتت الفئة التي على كتاب الله اعتمدت ولسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم- نصرت وهي التي تكفل الله ببقائها، فمضت في طريقها توضح السبيل وتنير الطريق في كل مكان وزمان، وهذا من عظيم منن الله عزوجل وفضله على هذه الأمة إذ لا تجتمع على ضلالة، ولا يندرس فيها الحق وتذهب آثاره بحيث يخفى على جميع الأمة. وكان ممن نصر الحق وأبانه ونصح لله ودينه الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني، إمام الشافعية في بلاد اليمن فأقام الحجة وأظهر المحجة ودعى إلى نبذ البدعة والكلام والالتزام بالكتاب وسنة سيد الأنام في العقائد وفي الأحكام، فنفع الله به خلقاً كثيراً، اعتصموا بكتاب الله بدعوته، واهتدوا إلى الالتزام بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم- في العقائد والأحكام ببيانه ومنهجه، وقد كتب في هذا ثلاثة كتب هي: (مختصرة في مسألة الكلام) رد فيه على الأشعرية والمعتزلة و (رسالة في المعتقد على مذهب أهل الحديث) وكتابه الكبير (الانتصار) الذي نصر به الحق ودحض به الباطل وأقام به الحجة على كل مبتدع، وقد وفقني الله عزوجل إلى الاطلاع عليه فاجتهدت في تحقيق نصه والتعليق عليه لعلي أكون بذلك مشاركا لمؤلفه في الدعوة إلى الكتاب والسنة على نهج السلف لعل الله عزوجل يذكر به غافلا أو يعلم به جاهلا أو يهدي به من فضله وكرمه مبتدعاً. وقد قسمت عملي في الكتاب إلى قسمين: القسم الأول: الدراسة للمؤلف والكتاب. القسم الثاني: تحقيق النص والتعليق عليه.
الباب الأول: الدراسة للمؤلف والكتاب
الباب الأول: الدراسة للمؤلف والكتاب الفصل الأول: التعريف بالمؤلف المبحث الأول: حياته الشخصية ... المبحث الأول: حياته الشخصية أولا: اسمه: يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد بن عبد الله بن محمد بن موسى ابن عمران العمراني. هكذا سماه الجعدي في طبقاته - ص (174) وهو أقرب من كتب عنه لأنه تلميذ ابنه طاهر بن يحيى بن أبي الخير. وذكره النووي في تهذيب الأسماء واللغات (2/278) فقال: "يحيى بن أبي الخير سالم بن أسعد بن يحيى العمراني بن عمران". والسبكي في طبقاته (7/336) قال: "يحيى بن أبي الخير بن سالم بن سعيد بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عمران العمراني". وابن قاضي شهبة في طبقاته (1/372) قال: "يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد بن يحيى". فنخلص من هذا إلى أن المؤلفين اتفقوا على اسمه، واختلفوا في اسم أبيه وجده الأول والثاني وهو اختلاف قريب، ما عدا تسمية جده الثاني يحيى عند النووي وابن قاضي شهبة، وأقربهم إلى الصواب تلميذ تلاميذه ابن سمرة، الجعدي لقرب عهده منه ولأن من كتب عن العمراني اعتمد على ابن سمرة، وقد تكون تلك الاختلافات تصحيفا أو تحريفا من النساخ والله أعلم. ثانيا: نسبته: العمراني: وهي نسبة إلى عمران بن ربيعة بن عبس بن زهرة بن غالب ابن عبد الله بن عك بن عدنان، هكذا ذكره ابن سمرة الجعدي. ونسبه الحموي في معجم البلدان (3/296) بقوله (السيري ثم العمراني) وهي نسبة إلى البلدة التي ولد فيها.
ثالثا: كنيته: أبو الحسين وكناه النووي وابن قاضي شهبة بأبي الخير. رابعا: مولده: ولد الشيخ يحيى - رحمه الله - في مصنعة سير1 في اليمن سنة تسع وثمانين وأربعمائة من الهجرة. خامسا: موطن نشأته: ولد العمراني - رحمه الله - في اليمن وعاش فيها ومات فيها ولم يخرج منها إلا إلى مكة والمدينة حاجا وزائرا، وكانت اليمن في الفترة التي عاش فيها الشيخ العمراني تموج بالفتن والحروب والمذاهب المنحرفة، فقد كان فيها الشيعة الزيدية في صعده2 وما حولها إلى نجران، والإسماعيلية الباطنية ويمثلهم الصلحيون3 وكانوا تغلبوا على عموم اليمن ثم انحسر ملكهم إلى جبله4 وحصن أشيح5 وبعض الحصون الأخرى. ومنهم الزريعيون في عدن وأبين6 وتعز وكانوا تابعين للصليحيين ثم استقلوا بالحكم. ومنهم الياميون أبناء علي بن حاتم اليامي وكانوا في صنعاء وأعمالها. والدولة السنية التي كانت موجودة هي دولة بني نجاح الأحباش في زبيد
وتهامة وهي امتداد لدولة بني زياد، وقد قضى على هذه الدولة بنو مهدي الذين انتحلوا مذهب الخوارج وفتكوا بالناس وأهلكوا الحرث والنسل واستمرت دولتهم خمسة عشر عاما، وكان بين تلك الإمارات وأولئك الحكام حروب دائمة متصلة تنشر الدمار والخراب في كل مكان، وفي كثير من الأحيان كانت الدولة تنقسم على نفسها ويبرز فيها طامعون إلى أن قضى على جميع هؤلاء الدولة الأيوبية سنة (569?) 1. سادسا: أولاده: لم يذكر للشيخ من الأولاد سوى ابنه طاهر وبنتين، تزوج الفقيه عمرو بن عبد الله بن سليمان إحداهما فتوفيت في نفاسها فتزوج الأخرى. سابعا: وفاته: توفي العمراني - رحمه الله - في ذي السفال2 مبطونا شهيدا قبيل الفجر من ليلة الأحد لست وعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة من الهجرة وله تسع وستون سنة، وكان نزعه ليلتين ويوما بينهما. ولم يترك صلاة في مرضه، يسأل عن وقت كل صلاة بالإيماء لأنه اعتقل لسانه، وكان كثير التهليل يعرف منه بالإشارة بالمسبحة3.
المبحث الثاني: حياته العلمية وآثاره
المبحث الثاني: حياته العلمية وآثاره أولاً: طلبه للعلم ورحلاته فيه: الشيخ العمراني - رحمه الله - أوقف حياته للعلم تعلما وتعليما وتأليفا، لهذا نجده - رحمه الله - قوي العزيمة في تحصيل العلم جاد الرغبة، فيه تنقل بين بلدان اليمن طلبا للعلم. وله تخصص بالفقه الشافعي مع المشاركة في علوم اللغة والعقيدة، وكان خاله أبو الفتوح بن عثمان بن أسعد بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عمران أول من أخذ عنه من الشيوخ، فقد أخذ عنه كتاب (كافي الفرائض في المواريث) للصردفي. وارتحل - رحمه الله - إلى ذي الحفر1 وقرأ كتاب (التنبيه) للشيرازي، وأخذ عن الشيخ الفقيه عبد الله بن أحمد بن محمد بن أبي عبد الله الهمداني (المهذب) وحفظه عنه و (اللمع) كلاهما لأبي إسحاق، و (الملخص) و (إرشاد ابن عبدويه) ، و (كافي الفرائض) للصردفي أيضا. ثم ارتحل إلى أحاظه2 فقرأ على الشيخ زيد بن الحسن الفايشي فأعاد عنده (المهذب) ، وأخذ عنه تعليق الشيخ أبي إسحاق في أصول الفقه، و (غريب الحديث) لأبي عبيد في اللغة، و (مختصر العين) للخوافي، و (نظام الغريب) للربعي وكتاب (التبصرة في أصول الدين) تصنيف أبي الفتوح على مذهب السلف، وأخذ عن خبيره3 عمر بن إسماعيل الجماعي الخولاني كتابي (الكافي) للصفار في النحو و (الجمل) للزجاجي.
ولما وصل الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعي سنة (512?) إلى الجند1 قادما من مكة جاءه جماعة من الفقهاء ومن ضمنهم الشيخ العمراني فقرأ عليه (النكت) وهو في المسائل المختلف فيها بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة تصنيف أبي إسحاق الشيرازي، كما سمع (المنهاج) للقاضي أبي الطيب الطبري ودرس كتاب (التعليق في الخلاف) للشيخ أبي إسحاق و (التبصرة في أصول الدين) لأبي الفتوح مرة أخرى وكتباً أخرى، وبقي عند الشيخ اليفاعي إلى أن توفي سنة (514?) 2 فانتقل إلى سهفنة3 فأخذ عن القاضي مسلم بن أبي بكر بن أحمد الصعبي كتاب (الحروف السبعة في الرد على المعتزلة وغيرهم من أهل الزيغ والبدعة) للشيخ حسين بن جعفر المراغي4. ثم انتقل إلى ذي أشرق5سنة (517?) فسمع (الجامع للسنن) للترمذي على الشيخ سالم بن عبد الله بن محمد بن سالم بن عبد الله. كما طالع بذي أشرق شروح المزني وكتبا أخرى (كالمجموع) للمحاملي و (الشامل) لابن الصباغ وكتاب (الفروع) لسليم و (شرح المولدات) للقاضي أبي الطيب و (العدة) للقاضي حسين بن علي الطبري. وقد حج - رحمه الله - وزار مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم- وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم- في المدينة سنة (521?) . ولقي في مكة الفقيه الواعظ محمد بن أحمد العثماني الديباجي فتناظرا
وتذاكرا في مسائل الفقه والأصول وكان الديباجي أشعريا فنصر العمراني - رحمه الله - مذهب السلف في أن القراءة هي المقروء1 واحتج على الديباجي بقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 2 وأن الإشارة بهذا إلى المتلو المقروء إلى أن سكب الديباجي العرق عن وجهه. ثم عاد - رحمه الله - إلى بلده مصنعة سير وبقي فيها يصنف ويدرس إلى سنة (549?) حيث تعذر سكنى سير بسبب حروب وفتن جرت بين أهلها فانتقل إلى ذي السفال، ثم إلى ذي أشرق ومكث فيها سبع سنين وكسرا انشغل خلالها بالتدريس والإقراء والتصنيف كما سمع خلالها عام (555?) (صحيح البخاري) و (سنن أبي داود) من الشيخ الحافظ علي بن أبي بكر الهمداني. ثم ظهر ابن مهدي الخارجي واستولى على زبيد وتهامة ثم خلفه بعد موته ابنه مهدي بن علي فأغار على الجند وبواديها، فجعل الشيخ العمراني - رحمه الله - خوف ابن مهدي سبيلاً للخروج من ذي أشرق فقد كان كره البقاء فيها بسبب فتن وقعت بين فقهاء ذي أشرق وفقهاء زبيد تسببت بالتباغض والتحاسد والتكفير، فتوجه الشيخ بعد خروجه في شوال سنة (557?) إلى ضراس3 ثم إلى ذي السفال واستقر بها إلى أن توفي - رحمه الله - في ربيع الآخر سنة (558?) كما سبق ذكره4.
ثانيا: شيوخه ذكرنا فيما تقدم رحلات العمراني - رحمه الله - وطلبه للعلم وقد أخذ في رحلاته تلك عن شيوخ اليمن في وقته، وهم: 1- خاله أبو الفتوح بن عثمان بن أسعد بن عبد الله بن محمد بن موسى ابن عمران1. 2- الشيخ موسى بن علي الصعبي قال عنه الجعدي: سكن ذي الحفر في نعيمه تفقه بمقبل بن زهير وكان مدرسا في ذي الحفر توفي سنة (450?) 2. 3- الشيخ عبد الله بن أحمد بن محمد بن أبي عبد الله الهمداني سكن زبران من بادية الجند وتوفي سنة (518?) تفقه بشيوخ منهم الفقيه أبو بكر بن جعفر بن عبد الرحمن المخائي وزيد بن عبد الله اليفاعي وأكثر أخذه عنه، وقرأ على ابن عبدويه (الإرشاد) في أصول الفقه والجدل له وسمع عليه قراءة المهذب وكان زاهدا ورعاً3. 4- الشيخ الفقيه عبد الله بن عمير العريفي تفقه بزيد بن عبد الله اليفاعي4. 5- الشيخ زيد بن الحسن بن محمد الفايشي ولد سنة (458?) وتوفي سنة (528?) تفقه بشيوخ كثير وكان عالماً بعلوم كثيرة، منها علم القراءت من طريق أبي معشر الطبري حيث قرأ عليه بمكة ومنها التفسير والحديث
واللغة والنحو والفقه والخلاف وأصول الفقه وعلم الكلام في التوحيد وكان كثير الحج وربما جاور في مكة وكان رحالاً في طلب العلم فبذلك كثرت علومه وظهرت فضائله وكان قواماً بالليل يصلي بالسُبُع من القرآن كل ليلة في غالب أحواله وأكثر زمانه، وصنف في مذهب الشافعي مختصراً مليحا سماه كتاب (التهذيب) وتفقه به خلق كثير1. 6- عمرو بن بيشى وهو من ترب الشيخ العمراني أخذ عنه كتاب (كافي النحو) لأبي جعفر الصفار و (الجمل) للزجاجي2. 7- الإمام زيد بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم اليفاعي من أعيان علماء اليمن وأشياخ فقهاء الزمن أستاذ الأستاذين وشيخ المصنفين أخذ عن جلة علماء اليمن ثم ارتحل إلى مكة فقرأ على تلاميذ أبي إسحاق الشيرازي ثم عاد إلى اليمن فاجتمع الناس إليه للتدريس، وخاف الأمير مفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري القرمطي من تجمعهم أن يخرجوا عليه فأمر خاصته بإحداث فتنة بين هذا الشيخ والشيخ أبي بكر بن جعفر بن عبد الرحمن المخائي وبالفعل تمت الفتنة بينهما وتشتت أتباع الشيخين فهاجر الشيخ زيد اليفاعي مرة أخرى إلى مكة وجاور فيها ثنتي عشرة سنة يدرس ويفتي، ثم عاد إلى اليمن بعد هلاك الأمير المفضل بن أبي البركات سنة (513?) ، فسكن الفقيه زيد الجند واجتمع عليه جلة فقهاء اليمن يقرؤون عليه ويسمعون منه حتى توفي - رحمه الله - سنة (515?) 3. 8- القاضي مسلم بن أبي بكر بن أحمد بن عبد الله الصعبي كان عالما بعلم الكلام محجاجا ظريفا ماهرا في الأصول مع تبريزه في الفقه وقد بيض الجعدي تاريخ ولادته ووفاته4.
9- الشيخ سالم بن عبد الله بن محمد بن سالم ولد في رمضان سنة (451?) ، وتوفي في ذي الحجة سنة (532?) في ذي أشرق، وكان إمام جامعها تفقه بأبيه وأخذ عن أبيه كتاب جامع الترمذي وعنه أخذه العمراني - رحمه الله -1. 10- الشيخ سراج الدين شيخ المحدثين الحافظ أبو الحسن علي بن أبي بكر ابن حمير بن الهمداني العرشاني، روى عنه الشيخ العمراني (صحيح البخاري) و (سنن أبي داود) ، وقال الجعدي: كان إماما في الحديث متقنا للرواة عالما بصحيحه ومعلوله وله تصنيف مليح محقق يعرف بكتاب (الزلازل والأشراط) وتوفي سنة (557?) 2. ثالثا: تلاميذه: قال ابن سمرة الجعدي عن العمراني: "وانتشر علمه في الأجانب والقرباء، وأجاب عن المعضلات، وأوضح المشكلات وقسم الأوصاف والاحترازات وطبق الأرض بالأصحاب فما أعلم في أكثر هذا المخلاف فقيها مجودا ومناظرا مجتهدا إلا من أصحابه أو أصحاب أصحابه"3. وقد أقام - رحمه الله - كما سبق ذكره في بلده مصنعة سير بعد عودته من الحج سنة (521?) يدرس إلى سنة (549?) ثم انتقل إلى ذي أشرق واستمر في التصنيف والتدريس إلى سنة (557?) قبل وفاته ببضعة أشهر وكان - رحمه الله - كما ذكر عنه ابن سمرة الجعدي والسبكي: من أحسن العلماء تعليما وتدريسا وطريقته كما ذكرها الجعدي بقوله: "وكان - رحمه الله - إذا درس من يعلم فهمه فإنه بعد فراغ القارئ من الفصل يعيده هو بنفسه
عليه حفظا مع تنبيهه له على خلاف الإمام مالك وأبي حنيفة خاصة، وقد يذكر معهما غيرهما في بعض المسائل، ثم يذاكره باحتراز الأقيسة والوجوه في أصولها. لم خصت بجعلها أصولاً؟ وذلك إما من جهة النص عليها في الكتاب والسنة، أو تسليم المخالف في حكم المسألة المقيسة، وإن كان في عبارة الكتاب استغلاق أو قصر فهم القارئ أبدلها له بعبارة أخرى إلى أن يتصور القارئ الفصل ويفهمه، ومن كان من الطلبة غير فاهم لم يسلك به هذا المسلك بل يجيبه عما سأل عنه لا غير مع رده عليه التصحيف"1. فلا غرو بعد هذا أن يكون الشيخ - رحمه الله - إمام الشافعية باليمن وجميع من جاءوا بعده ممن ترجم لهم ابن سمرة الجعدي هم تلاميذه أو من المستفيدين من علمه والغارفين من بحره، ونقتصر في الترجمة لبعضهم وهم: 1- ابن عمه محمد بن موسى بن الحسين بن أسعد العمراني وهو أقدم أصحابه قراءة عليه وأعلاهم رتبة وأرفعهم درجة، كان حافظا مجودا جمع بين الفقه والزهد والعبادة والورع، ومع ذلك حسن الخلق توفي سنة (568?) في مصنعة سير أفتى ودرس في حياة شيخه العمراني وكان يثني عليه ويمدحه2. 2- ابنه طاهر بن يحيى بن أبي الخير أبو الطيب العمراني ولد في ذي الحجة سنة (518?) تفقه بأبيه وخلفه في حلقته ومجلسه وأجاب على المشكلات في حياته، جالس العلماء وروى عنهم، وأخذ عن غير واحد وجاور في مكة وهاجر إليها بأولاده الرجال والنساء لعموم فتنة ابن
مهدي1 في مخاليف اليمن. وأقام سبع سنين روى عن كبار المحدثين في الحرم، ثم عاد إلى اليمن سنة (566?) وولي قضاء ذي جبلة وأعمالها وله مصنفات منها: (مقاصد اللمع) و (كسر قناة القدرية) وكتاب في (مناقب الإمامين الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله) وكتاب (معونة الطلاب بفقه معاني كلم الشهاب) وجمع بين علم القراءات والحديث والفقه وغلب عليه الكلام وتوفي - رحمه الله - سنة (587?) 2. وذكر الجعدي أن الشيخ العمراني جمع أحبابه وأصحابه وأمر ابنه طاهرا أن يصعد المنبر في ذي أشرق سنة (554?) وسأله أبوه عن اعتقاده وذلك لما شاع أنه على خلاف عقيدة أبيه فأجاب الابن بما كذب كل حاسد وأدحض تلبيس كل بغيض ومعاند، فالتقاه والده عند أسفل المنبر وقال: هل أنكر الإخوان من هذا شيء3. وهذا يرد على ادعاء يحيى العامري في كتابه غربال الزمان ص (437) أن طاهر بن الشيخ يحيى العمراني كان أشعريا وأنه كان ينكر على والده ويرد عليه عقيدته، لأن الجعدي تلميذ طاهر بن يحيى ونقله عنه أثبت وأدق، ولعل الذي بلغ العامري فحكاه في كتابه هو من الشائعات التي كانت بلغت العمراني - رحمه الله - فطلب من ابنه أن يفصح عن عقيدته على المنبر أمام الناس. وهي قوة في الحق. 3- الفقيه أحمد بن عبد الله بن مسعود بن أسلم البريهي ثم السكسكي ثم الكندي سيف السنة زين الحنبلية سكن في إب4 وأفضت إليه الرئاسة فيها، جمع بين الزهد والورع والعلم والحديث، وارتحل إلى مكة وسمع فيها صحيح مسلم في سنة (580?) ورجع إلى مدينة إب ثم نزل الجند
واجتمع إليه الأصحاب من ظبا1 وذي أشرق والشعبانية وأعمال الجند وغير ذلك فأسمعهم إياه في رجب بمدينة الجند سنة (581?) 2. هؤلاء هم كبار تلاميذ العمراني وله تلاميذ آخرون ذكرهم ابن سمرة الجعدي. وقال: "وصحب الإمام يحيى بن أبي الخير خلق كثير ممن استحق بالحفظ والنظر درجة الفتوى وممن لم يستحق، وسأذكر عدد من يحضرني معرفته مع من قدمت ذكره من المشهورين بالفتوى والتدريس". ثم ذكر مجموعة أخرى من التلاميذ نحيل فيها إلى كتاب ابن سمرة من ص (198-210) . رابعا: عقيدته: العمراني - رحمه الله - سلفي العقيدة وداعية إلى هذه العقيدة ومنافح عنها وهو في هذا الشأن من علماء اليمن الكبار وكان وقع له - رحمه الله - كتاب الشريعة للآجري عن طريق تلاميذ خير بن يحيى الملامس عن أبي بكر البزار عن الآجري - رحمه الله -. كما أنه اخذ عن القاضي مسلم الصعبي (كتاب الحروف السبعة في الرد على المعتزلة وغيرهم من أهل الضلالة والبدعة) لمصنفه الشيخ الحسين بن جعفر المراغي. كما استفاد - رحمه الله - فائدة واسعة من كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة للحافظ اللالكائي حيث اعتمد عليه في كتابه الانتصار مع الشريعة للآجري وصحيح البخاري وجامع الترمذي، وكان قد ألف كتابه (الانتصار) انتصارا للعقيدة السلفية لما طعن فيها القاضي جعفر بن عبد السلام الزيدي المعتزلي وذلك حين رد على رسالة سابقة للعمراني في بيان عقيدة
أصحاب الحديث في القدر بكتاب سماه (الدامغ للباطل من مذهب الحنابل) 1 فانبرى له الشيخ بهذا الكتاب المطول شرح فيه عقيدة السلف وأظهر فساد مذهب المعتزلة، كما رد فيه على الأشاعرة وأظهر انحرافهم في مسائل في الصفات وغيرها، وقد استفاد العلماء من هذا الكتاب وفرحوا به وانتسخوه ودانوا الله به واعتقدوه. كما ناظر - رحمه الله - في مكة الواعظ محمد بن أحمد العثماني الديباجي الأشعري ونصر مذهب الحنابلة وأهل السنة في أن المقروء هو كلام الله عزوجل الذي تكلم الله به واحتج على الديباجي بقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وأن الإشارة بهذا إلى المتلو المقروء إلى أن سكب الديباجي العرق من وجهه2. وكان - رحمه الله - مع ذلك يكره الخوض في الكلام فقد ذكر عنه الجعدي أنه كان يحب طلبة العلم والفقه واجتماعهم ويكره لهم الخوض في الكلام3. وكتابه الانتصار يدل على سعة علمه وتمسكه بعقيدة السلف إلا أنه يؤخذ عليه - رحمه الله - استخدامه لبعض تعبيرات المتكلمين وتأثره بهم في المسائل الدقيقة من العقيدة كمسألة الحكمة والتعليل والاستطاعة وغيرها، وسيأتي بيان ذلك عند الحديث عن المآخذ على الكتاب. خامسا: مذهبه الفقهي العمراني - رحمه الله - إمام من أئمة الشافعية في اليمن وقد ذكر الجعدي أن اليمن كان الغالب فيه مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة - رحمهما الله - إلى نهاية القرن الثالث الهجري4، وأول من أظهر المذهب الشافعي في اليمن الفقيه موسى بن عمران المعافري5، وأول من انتشر عنه المذهب الشافعي
وظهر إمام الشافعية في صنعاء وعدن الشيخ القاسم بن محمد الجمحي القرشي المتوفى سنة (437?) في سهفنة فقد انتشر عنه المذهب في مخلاف الجند وصنعاء وعدن ومنه استفاد فقهاء هذا المذهب في تلك البلاد، وكانت مدرسته في سهفنة فأخذ عنه شافعية المعافر1 ولحج2 وأبين وأهل الجند والسحول3 وأحاظه وعنه4 ووادي ظبا5. وعن تلاميذ القاسم بن محمد انتشر المذهب الشافعي حتى وصل إلى الشيخ أبي الحسين يحيى بن أبي الخير العمراني فانتشر عنه المذهب إلى سائر البلدان وصنف فيه وألف الكتب الكثيرة وأظهرها كتاب (البيان) وهو معدود من كتب الشافعية الكبار ويحيل عليه كثيرا السبكي في طبقاته ويذكر ترجيحاته ومسائله في مواطن كثيرة من كتابه مما يدل على قيمته وقدره عند الشافعية. وسيأتي ذكر بقية مصنفاته في المذهب في فصل خاص فهو إمام من أئمة الشافعية6 وقد قال عنه الجعدي: (فما أعلم في أكثر هذا المخلاف فقيها مجودا ومناظرا مجتهدا إلا من أصحابه أو أصحاب أصحابه) 7. سادسا: مصنفاته أتحف العمراني - رحمه الله - المكتبة الإسلامية وطلاب العلم بمصنفات عديدة جلها في المذهب الشافعي وهي:
أولاً: الزوائد على المهذب للشيرازي الشافعي وقد ابتدأ تصنيفه سنة (517?) حيث استشار شيخه زيد بن عبد الله في جمع ما زاد على المهذب من مسائل فأشار عليه شيخه بذلك واستغرق منه ذلك أربع سنين حيث انتهى منه آخر سنة (520?) وهو يقع في مجلدين1. ثانيا: مؤلف في الدور استخرجه من كتاب ابن اللبان وغيره. ثالثاً: البيان: وهو من كتب الشافعية الكبار جمع فيه بين الزوائد والمهذب ومسائل الدور ومذاهب المخالفين وشرح فيه ما أشكل من مسائل المهذب ورتبه على ترتيب المهذب قال الجعدي عن البيان: كاسمه بيانا وللعلماء هدى وتبيانا وأنبابه - رحمه الله - البعداء وانتشر علمه في الأجانب والقرباء وأجاب عن المعضلات وأوضح المشكلات وقسم الأوصاف والاحترازات - ثم قال -: لأنه - رحمه الله - انتحل الشروح الكثيرة والدلائل المشهورة والمسائل المفيدة والأقيسة السديدة إلى بيانه وضمنه النكت الحسنة والمعاني المتقنة جمع فيه بين تحقيق البغداديين وتدقيق الخراسانيين، فإذا تأمله الحاذق الناظر وكدَّ في جواهره الخاطر إلى أن يستدر الناظر وسعه كفاه واستغنى به عما سواه2. وقال الجندي كما نقل عنه صاحب كتاب (مصادر الفكر الإسلامي في اليمن) : "انتفع به الإنس والجان، ولما قدم بغداد جعل في أطباق الذهب وطيف به مرفوعا وقد أجاب فيه عن المعضلات وأوضح فيه المشكلات وقسم به الأوصاف والاحترازات وجمع فيه بين تحقيقات أهل العراق وتدقيقات الخراسانيين"3.
وكان ابتداء تصنيفه - رحمه الله - سنة (528?) وانتهى منه سنة (533?) في مدينته مصنعة سير وقد نقل عنه السبكي في مواطن كثيرة في كتابه (طبقات الشافعية) ويقابل بين أقواله وأقوال الشافعية الأخرى في العديد من المسائل، وذكر الأكوع في كتابه (المدارس الإسلامية في اليمن) ص (9) أن البيان للشيخ العمراني كان من الكتب المعتمد تدريسها في مدارس الشافعية زمن دولة بني رسول وبني طاهر. وقد ذكر فؤاد سيد في تحقيقه لكتاب (طبقات فقهاء اليمن) أن الكتاب يقع في عشر مجلدات ومنه نسخة بدار الكتب المصرية برقم (25) فقه شافعي، وأخرى في مكتبة أحمد الثالث باستانبول برقم (671) . وذكر الحبشي في كتابه (مصادر الفكر الإسلامي في اليمن) ص (193) أنه يوجد منه نسخة في جامع تريم1 في أربعة مجلدات، ونسخة أخرى في جامع صنعاء كتبت سنة (810?) وسنة (707) في ستة مجلدات برقم (479) كما يوجد مجلد منه في جامع المظفر بتعز ومجلد في مكتبة محمد بن يحيى الحداد في بيته في إب. رابعا: المشكل: وهو عن المسائل المشكلة في كتاب المهذب وقد ألف - رحمه الله - لما طلب منه تلميذه وصاحبه محمد بن مفلح الحضرمي استخراج المسائل المشكلة في المهذب. خامسا: الانتصار في الرد على القدرية - وهو الكتاب المحقق في هذه الرسالة وسيأتي التعريف به. سادسا: غرائب الوسيط صنفه بذي أشرق. سابعا: مختصر إحياء علوم الدين.
ذكر هذه الكتب الجعدي في طبقات فقهاء اليمن والحبشي وغيرهما ولم يشر أحد إلى وجود شيء منها سوى كتاب البيان وكتاب الانتصار. ثامنا: رسالة في المعتقد على مذهب أهل الحديث، وهي الرسالة التي أنشأها للرد أولا على القاضي جعفر الزيدي وأبان فيها عقيدة السلف في القدر وغيره من المسائل وتعتبر أصلا لكتاب الانتصار لأنه كان ينقل منها المسائل وهي التي يشير إليها بقوله: "ذكرت في الرسالة، واستدللت في الرسالة"، ونحو ذلك. كما أنه بعد أن يذكر قوله في الرسالة يذكر اعتراض الزيدي ويرد عليه، ولعل هذه الرسالة هي التي وقعت لابن القيم - رحمه الله - ونقل منها في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية ص (710) حيث قال: "قول أبي الحسين العمراني صاحب البيان فقيه الشافعية ببلاد اليمن - رحمه الله تعالى - له كتاب لطيف في السنة على مذهب أهل الحديث صرح فيه بمسألة الفوقية والعلو والاستواء حقيقة وتكلم الله عزوجل بهذا القرآن العربي المسموع بالآذان حقيقة وأن جبرائيل عليه الصلاة والسلام سمعه من الله سبحانه حقيقة وصرح فيه بإثبات الصفات الخبرية واحتج بذلك ونصره وصرح بمخالفة الجهمية والنفاة" انتهى. تاسعا: كتاب مختصر في الرد على الأشعرية والقدرية في مسألة الكلام، وذكره - رحمه الله - في كتاب الانتصار عند حديثه عن صفة الكلام، والرد على المعتزلة والأشعرية. عاشرا: الفتاوى ذكره ابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية (1/373) . الحادي عشر: الأحداث. الثاني عشر: مناقب الشافعي. الثالث عشر: مقاصد اللمع.
ذكر الكتب الثلاثة الأخيرة الزركلي في الأعلام (8/146) ومحقق كتاب طبقات الشافعية للأسنوي (1/212) ولم أر من ذكرها غيرهما. سابعا: مكانته وثناء العلماء عليه العمراني - رحمه الله - تبوأ مكانة عالية بين علماء زمانه، كما كان له جاه كبير في اليمن ويكفي في بيان مكانته العالية أن الشافعية في اليمن بعده معتمدون عليه وعلى تلاميذه وكتبه كما قال ابن سمرة الجعدي: "وطبق الأرض بالأصحاب فما أعلم في أكثر هذا المخلاف فقيها مجوداً ومناظراً مجتهداً إلا من أصحابه أو أصحاب أصحابه"1. كما أثنى عليه ثناءا بالغا في أول ترجمته حيث قال عنه: "الذي انتشر عنه الفقه في البلدان وجاوز علمه البحر مع السودان وسارت بتصانيفه الركبان في اليمن والشام وهو الفقيه جمال الإسلام شمس الشريعة يحيى بن أبي الخير"، ثم ساق نسبه إلى آدم عليه السلام. كما أثنى عليه - رحمه الله - شيخه زيد بن الحسن الفايشي2، فقال: "يحيى ابن أبي الخير فقيه يصلح للفتوى" وأمر بعض أصحابه وهو عمرو بن عبد الله بالدرس عليه، وقال الجعدي: "وكان هذا لا شك في أول أمر الإمام يحيى بن أبي الخير فلو عاش إلى تصنيفه البيان لرأى عجبا"3. وكان شيخه القاضي أبو بكر بن محمد بن عبد الله اليافعي إذا تنازعت عنده الخصوم يقول: "ما قال القمران في هذه الحكومة"، وتارة يقول: "هاتوا جواب القمرين يعني الإمامين عبد الله بن يحيى الصعبي ويحيى بن أبي الخير العمراني"4
كما أثنى عليه تلميذ تلاميذه ابن أبي لحب فقال: أجل ما العلا إلا لسيدها الحبر ... وما العلم إلا إرث آل أبي الخير نفيل أبي يحيى طاهر في فعاله ... وثاني صنوف الخير من معدن الخير1 وقال عنه السبكي: "شيخ الشافعيين بإقليم اليمن صاحب البيان وغيره من المصنفات الشهيرة… ثم قال: وكان إماما زاهدا خيراً مشهور الاسم بعيد الصيت عارفا بالفقه والأصول والكلام والنحو أعرف أهل الأرض بتصانيف أبي إسحاق الشيرازي الفقه والأصول والخلاف: يحفظ (المهذب) عن ظهر قلب، وقيل كان يقرؤه في ليلة واحدة"2. وقال النووي: "كان يحفظ المهذب وشرحه بالبيان، نشر العلم ببلاد اليمن ورحل إليه"3. ومثله قال الأسنوي في طبقات الشافعية4. وذكر ابن سمرة الجعدي شعرا في الثناء على الشيخ العمراني ولم يذكر قائله وهو: لله شيخ من بني عمران ... مذ كان شاد العلم لأركان يحيى لقد أحيا الشريعة هاديا ... بزوائد وغرائب وبيان هو درة اليمن الذي ما مثله ... من أول في عصرنا أو ثان5
الفصل الثاني: التعريف بالكتاب
الفصل الثاني: التعريف بالكتاب المبحث الأول: اسم الكتاب ... المبحث الأول: اسم الكتاب ورد اسم الكتاب في المخطوط هكذا: (الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار) وقد كتب فوق كلمة المعتزلة (صح) مما يدل على إضافتها في حال مقابلة أو نحوها. وذكره الجعدي باسم: (الانتصار في الرد على القدرية الأشرار) . وذكره السبكي باسم: (الانتصار في الرد على القدرية) .
المبحث الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف
المبحث الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف عزا الكتاب إلى المؤلف كما مر كل من ترجم له مثل ابن سمرة والسبكي والأسنوي وابن قاضي شهبة وياقوت الحموي ويحيى بن أبي بكر العامري صاحب كتاب غربال الزمان والزركلي في الأعلام وكذلك هو في كتاب مصادر الفكر الإسلامي في اليمن ص (193) وفي فهرست دار الكتب المصرية. كما دون على الكتاب اسمه واضحا وهي نسخة دار الكتب، أما النسخة اليمانية المرموز لها ? - ح - فإنها ناقصة من أولها. وقد ذكر اسمه في أول الكتاب حيث قال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، قال الشيخ الإمام الأوحد وجمال الدين مبطل حجج الزائغين يحيى بن أبي الخير بن أسعد العمراني اليماني قدس الله - روحه -.
المبحث الثالث: سبب تأليف الكتاب
المبحث الثالث: سبب تأليف الكتاب ذكر العمراني - رحمه الله - في مقدمة كتابه أنه ألفه ردا على القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام الزيدي1 الذي كان قاضيا لصنعاء وقدم إب وأظهر فيها الاعتزال، فكتب الشيخ العمراني رسالة فيها معتقد أهل 1 من كبار علماء الزيدية في اليمن وهو الذي جلب كتب المعتزلة من العراق إلى اليمن بإيعاز من المتوكل علي بن أحمد بن سليمان وقد تولى للإمام المذكور القضاء في صنعاء، قال عنه الجعدي: "إنه سأل المناظرة من علماء السنة فبعث إليه الإمام يحيى بن أبي الخير الفقيه علي بن عبد الله بن عبد الله بن عيسى الهرمي فاجتمعوا في حصن شواحط وكان لهم فيه محفل عظيم مشهور سنة (554?) "، انظر: طبقات فقهاء اليمن ص 180، تاريخ اليمن الإسلامي لأحمد المطاع ص 323، وانظر: كتاب الصلة بين الزيدية والمعتزلة ص 71.
الحديث نصيحة للمسلمين وتحذيرا من الوقوع في الضلال فرد عليه المعتزلي في كتاب سماه (الدامغ للباطل من مذهب الحنابل) 1 فرد عليه العمراني - رحمه الله - بهذا الكتاب المطول وأضاف إليه الرد على أصناف المبتدعة المخالفين لعقيدة أهل الحديث.
المبحث الرابع: منهج المؤلف في الكتاب
المبحث الرابع: منهج المؤلف في الكتاب ويلخص لنا الإمام العمراني - رحمه الله - منهجه في كتابه بعد ذكره المعتزلة وتلبيسهم على العوام ومن لا خبرة له بمذهبهم بقوله: "فاستخرت الله سبحانه على كشف تلبيسهم وإظهار تدليسهم بهذا الكتاب وجعلته فصولا كل فصل فيه يشتمل على ذكر فائدة منفردة ليقرب على قارئه أخذ الفائدة منه وقدمت ذكر مذهب أصحاب الحديث جملة ثم الأصول التي بنى أصحاب الحديث أقوالهم عليها فقد ذكرت الآيات والأدلة التي استدللت بها1 على خلق الله لأفعال العباد وعلى الإرادة والتعديل والتجويز وما أورده هذا المعترض عليها بدامغه2 فأجبت عما ذكر من الأدلة وتركت من كلامه ما لا فائدة تحته إلا الأذية وقدمت الأهم فالأهم، ثم ذكرت بعد ذلك المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أصحاب الحديث والمعتزلة والقدرية والأشعرية وما حضرني من الأدلة من الكتاب والسنة التي نقلها أئمة الحديث في أصولهم المشهورة كالإمام البخاري والترمذي ومحمد بن الحسين الآجري واللالكائي وغيرهم
وحذفت ذكر الأسانيد طلباً للإيجاز ليخف حمله ويسهل حفظه لمن أراد مطالعته".
المبحث الخامس: مصادر الكتاب
المبحث الخامس: مصادر الكتاب اعتمد المصنف - رحمه الله - في كتابه على القرآن الكريم وعلى صحيح البخاري والترمذي وكتاب الشريعة للآجري وكتاب شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي، وقد ذكر ذلك في مقدمة الكتاب، وقد نقل عن اللالكائي أكثر النصوص والآثار واعتماده عليه أكثر من اعتماده على الشريعة للآجري، وهذا ظاهر من تخريج الآثار، ونقل عن إحياء علوم الدين للغزالي عدة نقول منها روايات عن الأئمة في التحذير من الكلام وذم المتكلمين وكذلك روايات في فضل العقل، ونقل عن غريب الحديث لأبي عبيد عدة نقول.
المبحث السادس: المآخذ على الكتاب
المبحث السادس: المآخذ على الكتاب لا يكاد يكتب كاتب أو يؤلف مؤلف إلا ويستدرك عليه وهذا من لوازم النقص البشري، والشيخ العمراني - رحمه الله - يؤخذ عليه في كتابه هذا عدة مآخذ ظهرت من خلال التحقيق. بعض هذه المآخذ تتعلق بالترتيب وبعضها تتعلق بالناحية العلمية: أولاً: الترتيب سلك المصنف - رحمه الله - في كتابه تقسيمه إلى فصول وقد بلغت فصوله خمسة وعشرين ومائة فصل يفرد لكل معلومة جديدة فصلا مستقلا وهذا جعل الكتاب غير مقسم تقسيما موضوعيا بحيث يكون كل موضوع وحدة كاملة على طريقة الأبواب ثم الفصول. ومما يؤخذ عليه أيضا أنه لم يجعل لهذه الفصول عناوين يعرف منها مضمون الفصل، ثم إن المصنف أقحم فصلاً في المعرفة بعد الكلام على
الدجال وما ورد فيه وقبل الكلام على مسائل الإمامة، ولم يظهر لي وجه إقحامه ذلك الفصل في ذلك المكان ص (810) . ثانيا: النواحي العلمية يلاحظ على المصنف ملاحظات عديدة في النواحي العلمية وهي نوعان: أولا: الناحية العقائدية المصنف - رحمه الله - سلفي العقيدة، ومصادره هي كتب السلف - رحمهم الله - كما سبق ذكره، إلا أنه في بعض المسائل لم يتبين له قول السلف خاصة في المسائل الدقيقة فيأخذ بقول الأشعرية فيها وذلك في المواضع التالية: 1- قوله في الاستطاعة بأنها تكون مع الفعل وعزا ذلك إلى أهل الحديث حيث قال: ص (166) "وأهل الحديث يقولون: إن الاستطاعة لا توجد في الفاعل إلا في حال الفعل ولا يوصف بالقدرة عليه قبل الفعل"، وهذا القول غير صحيح لأن الصواب كما سيأتي بيانه في مكانه أن الاستطاعة تكون قبل الفعل ومعه. 2- قوله بأن الرسل لا يعرف صدقهم إلا بالمعجزات وذلك ص (118) حيث قال: "ولكن لما أرسل الله الرسل لم نعلم صدقهم إلا بالنظر في معجزاتهم" والصواب أنه يمكن معرفة صدق الرسل بغير المعجزات أيضاً كدلالة الحال وما يدعو إليه، إلى غير ذلك من الأمور الأخرى التي بيانها في التعليق على كلامه في مكانه. 3- كلام المصنف عن الحكمة والعدل والظلم المنفي عن الله عزوجل وافق فيه الأشعرية في نفي الحكمة، وأن الله لا يتصور منه الظلم مهما فعل لأنه المالك المتصرف ومن كان كذلك فلا يتصور منه الظلم، وهذا في مواطن عديدة من كتابه منها قوله ص (175) : "ولو جعل ألوانهم سببا أو علما للثواب والعقاب بأن يقول: من خلقته أبيض فهو علم على أنه من
أهل الجنة ومن خلقته أسود فهو علم على أنه من أهل النار لم يخرجه ذلك عن الحكمة" وقوله ص (213) : "ولوخلقهم وعذبهم ابتداءاً من غير عمل منهم لم يكن ظالما لهم ولا مستحقا اسم الجور ولا خارجا عن الحكمة" ثم قال في تعليل ذلك "ولكنه محكم في مماليكه وعبيده ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون". وقوله ص (251) : "ولو عاقب على الأفعال الضرورية لم يخرج بذلك عن كونه عدلا حكيما..". وقوله ص (0456) : "ولو لم يثب المطيعين وأثاب العاصين لم يكن ظالما". وقوله ص (459) : "فاستحقاقه الحكمة لذاته لا لفعله الحكمة" وقوله (467) : "ولو كان فعل الله الشيء لعلة لاقتضى وجود تلك العلة علة أخرى إلى ما يتسلسل فبطل أن أفعال الله لعلة مقتضية منه وجود الفعل منه". وهذا كله غير صحيح بل الحق أن الله موصوف بالحكمة وأنه حكيم في فعله وأمره، ولا معنى لوصفه نفسه بالحكمة إلا أنه لا يصدر عنه إلا ما هو غاية في الحكمة، وكذلك الظلم المنفي عنه عزوجل قد دلت الأدلة من القرآن على خلاف كلام المصنف وذلك كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} وغير ذلك من الآيات التي ذكرت بالتفصيل لبيان الحق في مواضعها من تحقيق الكتاب. 4- عزوه لأهل الحديث القول بأن الحسن والقبح لم يعرف إلا بالشرع، حيث قال ص (210) : "فذلك المعنى الذي سماها معاصي وخبائث وقبائح هو الشرع، هذا مذهب أهل التوحيد أن القبيح ما قبحه الشرع والحسن ما حسنه الشرع" وقال ص (267) : "فالشرع هو الذي قبح القبيح وحسن الحسن وليس فوق الله سبحانه من يأمره وينهاه.. ".
ثم قال: "وقد وجدنا الزنا قبل ورود الشرع لا يسمى قبيحاً إلا بعد ورود الشرع بتحريمه وتقبيحه وكذلك تزويج الأمهات والأخوات وذاوت المحارم غير قبيح في العقل.. ". وهذا كله كلام باطل وهو قول الأشعرية، والصواب أن الحسن والقبح منه ما يعرف بالعقل ومنه ما يعرف بالشرع وقد دلت الأدلة الشرعية على ذلك، وقد تم التعليق على ذلك في موضعه. 5- عبر المصنف - رحمه الله - في عدة مواطن من كتابه بعبارات المتكلمين التي تحتمل الحق والباطل مثال ذلك قوله في وصف الله عزوجل ص (98) : "ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض ولا بمحل الأعراض والجواهر والأجسام ولا يحلها". وقوله ص (266) : "والله ليس بمحل للحوادث". "وهو ليس بمحل للحوادث". وقوله ص (635) عن الصفات: "فإن العقول تقصر عن معرفة المراد بها". وهذه كلها عبارات المتكلمين ولم ترد في الشرع فاطراحها ونبذها أولى إلا أن تذكر ويبين المراد بها فإن كانت حقاً قبل، وإن كانت خلاف ذلك رد، وقد تم التعليق عليها في مواضعها. 6- قوله ص (111) : "القرآن الذي هو كلام الله القديم" فَوَصْفُ القرآن بأنه قديم ليس من كلام السلف كما وضح في مكانه. وكذلك قوله ص (541) : "فإن كلام الله هو القرآن" والعبارة فيها قصور لأن القرآن من كلام الله. 7- تأويله صفة الساق بأنها الشدة ص (471) والصواب أن الساق صفة لله عزوجل بدليل ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - فينظر التعليق على ذلك في موضعه.
8- قال المصنف - رحمه الله - ص (346) : "ولا يوصف بالاقتدار على نفسه" يعني بذلك الله عزوجل وهي عبارة لا يليق ذكرها عن الله سبحانه وتعالى وقد بين ذلك في موضعه. 9- كلامه في الفرق بين الإسلام والإيمان فيه ارتباك وعدم وضوح وذلك أنه قال في أول الرسالة ص (99) : "وأن الإيمان أعلى رتبة من الإسلام والإسلام بعض الإيمان". وهو قول صحيح، إلا أنه في التفصيل قال ص (737) : "والإسلام عام والإيمان خاص، والإيمان بعض الإسلام وهو أشرف أجزائه.. " وهو قول لا يتفق مع الحق في هذه الألفاظ ولا مع ما تقدم من كلامه، وقد تم التعليق على ذلك في موضعه. ثانياً: الناحية الحديثية: مما يؤخذ على المصنف - رحمه الله - في كتابه الناحية الحديثية حيث أورد فيه عدة أحاديث ضعيفة وموضوعة مستدلا بها، نذكر بعضا منها: حديث: "أصحابي كالنجوم" ص (106) . حديث: "لعن الله أربعة على لسان سبعين نبيا أنا آخرهم.." ص (151) . حديث: "القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ومنه بدأ وإليه يعود" ص (548) . حديث: "يا معاذ العرش والكرسي وحملتهما.." ص (548) . حديث: "إن الله تعالى قرأ سورة طه ويس قبل أن يخلق الخلق بألفي عام.." ص (598) . حديث الطير في فضل علي ص (896) .
حديث: "أنا دار الحكمة وعلي بابها" ص (897) وغير ذلك من الأحاديث التي تم التعليق عليها في موضعها. ويؤخذ عليه أيضا رفعه أثرا عن علي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو موقوف وذلك قوله ص (92) : "لا يخلو عصر من قائم لله بحجة" وذلك إن ثبت عن علي - رضي الله عنه -. وكذلك رفعه ما ليس بحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وإنما هو من كلام العلماء، وذلك ص (399) حيث قال: وقوله - صلى الله عليه وسلم: "الأخوات مع البنات عصبة" وقد بين في موضعه. قوله في عدة مواطن: (وهو في الصحاح) "وهو مروي في الصحاح". انظر: ص (147) و (151) وذلك عن أحاديث ضعيفة أو موضوعة كما بين في موضعه وهو تجوز منه - رحمه الله - وتساهل. وأنه ذكر بعض الأحاديث الصحيحة بصيغة التمريض (روي) مثل قوله ص (92) : "روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لا ينزع العلم من صدور الرجال.." الحديث، وقوله ص (93) : "وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "نضر الله امرأ سمع مقالتي.." الحديث. وقوله: ص (95) : "وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى ولا هامة ولا صفر.." الحديث. كما أنه لا يعزو الأحاديث إلى مصادرها وفي بعض الأحيان لا يذكر راوي الحديث من الصحابة. وهذا كله يدل على أن بضاعته في الحديث مزجاة مع أن ذلك لا يقلل من قيمة الكتاب فقد اشتمل الكتاب على أكثر من أربعمائة حديث عدا الآثار عن الصحابة وغيرهم.
المبحث السابع: قيمته العلمية
المبحث السابع: قيمته العلمية كتاب الانتصار ذكر عنه الجعدي أن الفقهاء في تلك المنطقة فرحوا به وانتسخوه ودانوا الله به واعتقدوه1. وذكر أيضا في ص (203) أنه مر على قرية ألخ2 سنة (561?) ? عيسى بن مفلح وأحمد بن سليمان وموفق بن مبارك وهم ينسخون كتاب الانتصار. وانتشار كتاب الانتصار بين فقهاء تلك المنطقة لما تضمنه من إفحام الطائفة القدرية التي كان الزيدية في ذلك الوقت هم دعاتها وكانت لهم دولة في ذلك الزمان، كما تضمن رداً وإفحاماً للأشعرية الذين يزعمون أنهم ينتصرون لعقيدة أهل السنة ويردون على المعتزلة وهم يقولون في الواقع بقول المعتزلة في مسائل عديدة - وقد ذكر العامري في غربال الزمان ص (438) أن فقهاء الجبال في اليمن في ذلك الوقت شافعية وكانوا على عقيدة السلف وكانوا مولعين بكتاب الشريعة للآجري - رحمه الله - وكانوا يقدحون في عقيدة الغزالي المخالفة لعقيدة السلف3. فعليه سيفرحون أشد الفرح بكتاب مثل كتاب الانتصار ويكون له أبعد الأثر فيهم.
المبحث الثامن: موضوع الكتاب
المبحث الثامن: موضوع الكتاب موضوع الكتاب هو الانتصار لعقيدة السلف وإثباتها بإظهار أدلتها والرد على المخالفين المبتدعة وقد شغل إثبات القدر النصف الأول من الكتاب، حيث ذكر أدلة إثباته من القرآن والسنة وأقوال الصحابة ورد على المعتزلي القدري فيما اعترض به على الآيات والنصوص الشرعية بالوجوه العديدة المفيدة مما جعل الكتاب في استيعابه للنصوص الشرعية في القدر واستيعاب أوجه الرد على اعتراضات وشبه القدرية فريداً في بابه. وعقب على ذلك بإثبات الصفات والرد على منكريها من الجهمية والمعتزلة وكذلك الرد على الأشعرية فيما أنكروه أو تأولوه من الصفات كالكلام بحرف وصوت والاستواء وغيرها. وذكر أيضا رؤية الله عزوجل بالأبصار يوم القيامة ورد على منكريها. ثم ذكر مذهب السلف في الإيمان ومرتكبي الكبائر والشفاعة ورد على المرجئة والخوارج والمعتزلة المخالفين للحق في ذلك، ثم ذكر الميزان والصراط والحوض والجنة والنار والدجال والإمامة ورد على طوائف المبتدعة في ذلك وأطال في ذكر الخلافة ورد على الرافضة المنكرين لخلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة وبه انتهى الكتاب.
المبحث التاسع: دراسة لأهم موضوعات الكتاب
المبحث التاسع: دراسة لأهم موضوعات الكتاب المطلب الأول: تعريف القدر لغة ... الكتاب كما تقدم بيانه ص (33) هو رد على القاضي القدري الزيدي جعفر بن أحمد بن عبد السلام قاضي صنعاء الذي اعترض على كتاب كتبه الشيخ العمراني في بيان عقيدة أهل الحديث بكتاب ألفه لهذا الغرض في نصرة عقيدة المعتزلة القدرية في القدر وغيره. فاستقصى المؤلف العمراني - رحمه الله - بهذا الكتاب الأدلة لمذهب السلف في القدر التي ذكرها في الرسالة الأولى، وذكر اعتراضات القدري عليها ورد عليها بإجابات مطولة وأضاف إلى ذلك مسائل العقيدة الأخرى كالكلام والرؤية وإثبات الصفات وغيرها.
وبين مذاهب المنحرفين عنها من المعتزلة والأشعرية والخوارج والروافض ورد عليهم. ولأن القدر والقدرية قد شغلوا الجزء الأكبر من الكتاب ولتعلق عنوان الكتاب بذلك فلا بد من دراسة موضحة مختصرة للقدر والقدرية تجمع ما تفرق من كلام الشيخ في الكتاب مع بعض الإضافات المهمة في الموضوع وذلك كله في أربعة مطالب وهي: المطلب الأول: تعريف القدر لغة. المطلب الثاني: الإيمان بالقدر عند السلف. المطلب الثالث: نشأة الخلاف في القدر. المطلب الرابع التعريف بالقدرية
المطلب الأول: تعريف القدر لغة القدر لغة: بسكون الدال وفتحها القضاء والحكم وهو ما يقدره الله عزوجل من القضاء ويحكم به من الأمور قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 1. أي الحكم أو التي تقدر فيها الأرزاق وتقضى، وقدر الله عليه ذلك: بفتح الدال مخففة ومشددة كتبه عليه، والقدرة: بفتح القاف وسكون الدال، والقدرة: بضم القاف وسكون الدال والمقدار: القوة. وقدر عليه الشيء: بفتح القاف والدال ضيقه، وقدرت الشيء بفتح القاف والدال مشددة ومخففة من التقدير. والتقدير يأتي على معان أحدها: التروية والتفكير في تسوية أمر وتهيئته. والثاني: تقديره بعلامات يقطعه عليها، والثالث: أن تنوي أمرا بعقدك تقول قدرت أمر كذا وكذا أي نويته وعقدت عليه2.
المطلب الثاني: الإيمان بالقدر عند السلف
المطلب الثاني: الإيمان بالقدر عند السلف وفيه ثلاث نقاط: أولا: الإيمان بالقدر إجمالا: وأدلته: السلف - رحمهم الله - يؤمنون بأن كل شيء بقضاء من الله وقدر سبق صغيرا أو كبيرا حقيرا أو جليلا خيرا أو شرا حلوا أو مرا طاعة أو معصية والأدلة على ذلك بحمد الله ظاهرة وكثيرة منها قوله عزوجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1 و {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 2 {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} 3 {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 4 {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} 5
ومن السنة حديث جبريل وفيه: "وتؤمن بالقدر خيره وشره"1 وحديث طاووس قال: "أدركت ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقولون كل شيء بقدر" قال: "وسمعت عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس"2. وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر له ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدر له فيستخرج الله تعالى به من البخيل، فيؤتى عليه ما لم يكن يؤتى عليه من قبل" 3. وحديث أبي هريرة أيضا قال: قال رسول اله - صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" 4. فهذه الأدلة كافية في بيان المراد من إثبات الإيمان بالقدر وأن كل شيء بقضاء وقدر. ثانيا: مراتب الإيمان بالقدر وأدلتها: الإيمان بالقدر لا يقوم ولا يتم إلا بالإيمان بأربع مراتب قامت عليها الأدلة من كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم- وهي:-
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله السابق بكل شيء فعلم جل وعلا ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وعلم طاعات العباد ومعاصيهم وكل دقيق وجليل من أحوالهم علما تاما لا يغيب عنه جل وعلا منه شيء صغر أو كبر. وهذا مقتضى وصفه جل وعلا بالعلم وأنه العليم قال عزوجل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} 1 {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 2 {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} 3 {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 4 {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} 5 {عَالِمِ الْغَيْب لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ} 6 {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} 7. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن ذراري المشركين، فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" 8. وعلى هذا فإن الله عزوجل علم أهل الجنة وأهل النار وخلقهم وهو عالم بما يصيرون إليه، وهم سيصيرون إلى علمه بهم جل وعلا يؤكد هذا ويوضحه حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه - قال: "قال رجل: "يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال: نعم قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له" 9.
المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله عزوجل قد كتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة الصغير والكبير والحقير والجليل من أحوال بني آدم وأعمالهم، فهم يصدون عن شيء قد كتب عليهم وسجل قبل خلقهم ووجودهم، ويردون إلى شيء قد سجل عليهم وخط به القلم، فكتبت طاعاتهم ومعاصيهم وكتب أهل الجنة وأهل النار وهم لن يتعدوا ما كتب لهم وعليهم. والدليل على ذلك قوله عزوجل: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 1 {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} 2 {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3 {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 4 {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 5 ومن السنة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء" 6 وحديث عمران بن الحصين قال إني عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه قوم من بني تميم، فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا: قبلنا
جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر قال: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء" 1. فكل شيء قد كتب ومضى به القدر وعُرِفَ أهل الجنة وأهل النار يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: "ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله تعالى مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة" قال: فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: "من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال: اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ:- {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 2. المرتبة الثالثة: الإيمان بعموم مشيئة الله عزوجل وأنها الموجبة لكل ما في الوجود فما وقع في الوجود من عمل فإنما وقع بمشيئة الله، وما لم يقع إنما لم يقع لأن الله عزوجل لم يشأ وقوعه ولو شاء وقوعه لوقع، وهذا معنى قول المسلمين:- ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن قال عزوجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} 3 {وَمَا يَذْكُرُونَ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 4 {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 5 {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء} 6
{قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} 1 {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} 2 {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3 وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "اشفعوا فلتؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء" 4. وفي قصة نومهم في الوادي قال - صلى الله عليه وسلم: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء" 5. وغير ذلك من الأدلة التي تدل على أن الله عزوجل له المشيئة النافذة في خلقه فكل صلاح وخير وطاعة وإيمان وقعت في هذه الحياة إنما وقعت بمشيئته جل وعلا ولو شاء لم تقع قال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} 6. وكل فساد وانحراف ومعصية وكفر وقع في هذه الحياة إنما وقع بمشيئة الله عزوجل ولو شاء لم يقع قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} 7 {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 8 {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 9 {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 10. ويعتقد السلف أن الله عزوجل يهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله.
وقد دلت الآيات الكثيرة على هذا منها قوله عزوجل: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} 1 {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} 2 {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 3 {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 4 {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 5. ولا بد أن يعلم هنا أن الله عزوجل أعلم بخقله وأخبر وأنه جل وعلا الرحيم الحكيم المحمود على كل فعل فمن هداه الله عزوجل فذلك محض تكرم وتفضل منه سبحانه من غير استحقاق من العبد لذلك، قال عزوجل: {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ} 6 وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 7. وقال - صلى الله عليه وسلم- يرتجز ومعه المسلمون في حفر الخندق: "والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا" 8 قال تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} 9 الآية. وله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة فيمن هدى وأضل لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه المناسب.
فهدايته جل وعلا مع أنه تفضل منه فهو أيضا وضع لها في الموضع المناسب إذ هذا مقتضى وصفه جل وعلا بالحكمة قال سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} 1. ومن ضل فإن الله سبحانه لم يظلمه شيئاً ولم يبخسه حقه إنما منعه فضله وهدايته، وذلك أيضاً لحكمة بالغة فإن الضال ليس بمحلٍ للهداية فهدايته وضع لها في غير موضعها قال عزوجل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 2. فكل من ضل عن الحق فإنه من هذا الصنف الذين علم الله عزوجل أنه لا خير فيهم ولو علم فيهم خيراً لهداهم. بقي هنا مسألة تتعلق بالمشيئة وهي: أنه لا تلازم بين المشيئة والمحبة وذلك أن المشيئة لا تأتي إلا بمعنى الإرادة الكونية القدرية حيث الإرادة تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: الإرادة الكونية القدرية مثل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 3 {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 4 {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 5. وغير ذلك من الآيات، وهذا النوع من الإرادة بمعنى المشيئة إذ لابد من وقوعه لأنه يتعلق بالقضاء والأمر الكوني القدري. النوع الثاني: الإرادة الدينية الشرعية مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 1 الآية {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} 2 {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 3. فهذا النوع من الإرادة ليس بمعنى المشيئة وإنما تعلقه بما يحب الله ويرضى فقد يقع وقد لا يقع فلا تلازم بينه وبين المشيئة4. المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله خالق كل شيء ومن ذلك العباد وأفعالهم فلا يخرج شيء في هذا الوجود عن ملكه وخلقه فهو خالق كل عامل وعمله وكل صانع وصنعته، وما من حركة ولا سكون في هذا الكون إلا وهو خالقه وربه لا يشركه في ذلك أحد بل هو المتفرد سبحانه بالخلق وحده. قال عزوجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 5. وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 6. وقال - صلى الله عليه وسلم: "إن الله خالق كل صانع وصنعته" 7. فهذا أربع مراتب يؤمن بها السلف ويثبتونها للباري جل وعلا، فمن أثبتها وآمن بها فقد آمن بالقدر ومن أنكرها أو أنكر شيئا منها فقد كفر بالقدر8. ثالثا: مسائل تتعلق بالإيمان بالقدر أولا: قيام الحجة على الخلق: مع ما تقدم من بيان مراتب الإيمان بالقدر فإن السلف يعتقدون أن الله عزوجل له الحجة البالغة على خلقه ويتضح ذلك بأمور:
1- أن الله خلق للعباد قدرة وإرادة ومشيئة وفعلا، فبالقدرة يستطيعون القيام بالتكاليف المناطة بهم، وبالإرادة والمشيئة يصح توجيه الخطاب إليهم بالأوامر والنواهي. وعلى الفعل يقع الجزاء على الخير خيرا وعلى الشر شرا، إلا أن يعفو الله جل وعلا فأثبت السلف رحمهم الله: أن الله له مع ما تقدم من تقديره السابق الحجة البالغة على خلقه بأن خلقهم على الهيئة الصالحة للتكليف والخلقة المناسبة لمخاطبتهم بالأوامر والنواهي1 وقد دل على ذلك الأدلة. قال عزوجل: في إثبات القدرة للعبد: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 2 {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} 3 {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} 4. وفي إثبات المشيئة والإرادة للعبد قال عزوجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5 {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} 6 {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} 7 {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} 8 {كَلاّ إِنَّهُ تَذْكِرَة فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ٌ} 9 {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} 10. وقال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْم} 11 {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} 12 {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْن} 13 {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} 1 {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 2. إلى غير ذلك من الآيات المثبتة أن للعبد إرادة. وقال عزوجل إثبات الفعل للعبد ومؤاخذته بفعله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 3 {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 4 {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 5 {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} 6 {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} 7 وفي إثبات القدرة والمشيئة والإرادة والفعل للعبد كما أنه ظاهر من الشرع فهو ظاهر من حال الإنسان، حيث يدرك ذلك تمام الإدراك من حاله وأحواله مع الأمور في الأخذ أو الترك والفعل أو عدمه والإرادة وعدمها، ومن أنكر ذلك فقد أنكر أظهر الأمور وأوضحها وأجلاها، فالسلف يثبتون هذه الأمور مع إثباتهم للقدر بمراتبه الأربع المتقدم ذكرها، فتكون قدرة العبد هي من إقدار الله عزوجل له، وإرادته ومشيئته تابعة لمشيئة الله وإرادته لا يخرج عنها، كما قال عزوجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . وكذلك فعل العبد إنما وقع بإقدار الله له على هذا الفعل ومشيئته وخلقه جل وعلا لفعل العبد على ما تقدم بيانه في خلق الأعمال. 2- إرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع وترتيب الجزاء عليه. يعتقد السلف أن الله عزوجل مع خلقه للعباد الإرادة والمشيئة والقدرة على الفعل أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، فدعوا العباد إلى الله عزوجل ووضحوا وبينوا طريق النجاة والفلاح، وجاهدوا في الله حق
جهاده حتى يحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة وتقوم الحجة على الخلق بالتكليف، قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 12 3- عدم التكليف بما لا يطاق. يعتقد السلف مع ما تقدم أن الله من فضله ورحمته بخلقه لم يكلفهم إلا ما هو في طاقتهم، فلم يكلفهم ما يشق ويثقل عليهم فعله وإن كانوا مستطيعين لذلك رحمة منه وتفضلا قال جل وعلا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 3 {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 4 قال ابن جرير: "يعني بذلك فيتعبدها إلا بما يسعها فلا يضيق عليها ولا يجهدها"5 وهو تحقيق لقوله عزوجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 6 {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} 78. ثانيا: تنزه الله جل وعلا عن الظلم: ويعتقد السلف أن الله عزوجل له القدرة المطلقة والسيادة المطلقة، وأنه جل وعلا منزه عن الظلم، فقد حرم الظلم على نفسه مع قدرته جل وعلا على كل شيء، فقال جل وعلا: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} 9 وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 10 {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 11 {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
يُضَاعِفْهَا} 1 {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 2 {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} 3 {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} 4 {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} 5. وقال عليه الصلاة والسلام فيما يروي عن ربه عزوجل: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجلته بينكم محرما فلا تظالموا"6. وغناه جل وعلا وقدرته وربوبيته أمور تجعل الظلم منتفيا عنه سبحانه والظلم عند السلف هو: وضع الشيء في غير موضعه وهذا منتفٍ عنه، إذ هو العدل الحكيم فلا يظلم الناس شيئا، ومن ذلك أنه لا يحمل العباد في القيامة سيئات لم يعملوها ولا ينقص من حسناتهم7 - كما دلت عليه الآيات السابقة. ثالثا: إثبات الحكمة له جل وعلا في فعله وأمره: يعتقد السلف أن الله عزوجل حكيم في فعله وأمره قال عزوجل فيما حكاه الله عزوجل عن ملائكته: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 8 وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 9 {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 10 {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 11 إلى غير ذلك من
الآيات الكثيرة التي تدل على إثبات الحكمة له جل وعلا صفة من صفات ذاته لا تنفك عن فعله وأمره جل وعلا، ومن نظر في نفسه وما حوله من خلق الله أدرك أنه صدر عن حكيم خبير، وأنه إنما خلق لغاية وحكمة، وكذلك أمره جل وعلا وشرعه فيه دلالة واضحة على حكمة المشرع جل وعلا. ويعتقد السلف أن الله إنما خلق الجن والإنس لغاية وحكمة وهي عبادته جل وعلا فلم يخلقهم عبثا ولم يكلفهم شططا. وله جل وعلا الحكمة البالغة في قدره وقضائه الذي قضاه على العباد وقد تعلم هذه الحكمة وتظهر وقد لا تعلم ولا يضر عدم العلم بها إذ المراد هو الإيمان بأنه الحكيم جل وعلا في فعله وأمره1. رابعا: التلازم بين الإيمان بالقدر والتوحيد: يقول ابن عباس - رضي الله عنه -: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه بالقدر توحيده"2، كيف صار الإيمان بالقدر ينظم التوحيد والتكذيب بالقدر ينقض التوحيد؟ الجواب عن ذلك أن الإيمان بالقدر على ضوء ما تقدم هو اعتراف بالسيادة الكاملة للباري جل وعلا على ملكه، والتكذيب بالقدر وصف للباري جل وعلا بالعجز وخروج أمور كثيرة عن ملكه. وذلك أن الإيمان بالقدر إيمان بعموم علم الله عزوجل وأنه لا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ولا يغيب عنه الظاهر ولا الخفي، ولا الجزء ولا الكل كل ذلك في علمه، والتكذيب بذلك وصف له جل وعلا بالجهل وعدم الإحاطة، والجاهل
وعديم الإحاطة لا يكون ربا ولا إلها تعالى ربنا عن ذلك. أما الكتابة فإنها تأكيد للعلم وتأكيد للسيادة على الكون في انتظامه على ما هو مكتوب لا يخرج عنه قيد شعرة، فالكتابة دليل على عظمة هذه السيادة والربوبية. أما المشيئة فشأنها عظيم، فإثباتها إثبات لربوبية الله عزوجل وسيادته السيادة الكاملة والمباشرة على خلقه، فإرادته جل وعلا ومشيئته نافذة فيهم في الصغير والكبير والحقير والجليل، ومن أنكرها فقد طعن في هذه الربوبية المطلقة على الخلق، لأن إنكارها معناه أنه يوجد في هذا الوجود شيء لا يريده الله ولا يشاؤه، وقد يشاء أمرا فلا يقع، فأي طعن في ربوبية الله عزوجل أعظم من هذا الطعن، وأي تنقص للرب جل وعلا أعظم من هذا التنقص؟ وهو كاف في نقض التوحيد وانهدام أركانه، لأنه إذا كانت مشيئته غير نافذة فملكه ناقص وعجزه ظاهر، ومن هذه صفته لا يصلح للربوبية ولا أن يكون معبودا تعالى الله عن ذلك. ومعلوم من حال ملوك البشر أن الملك الذي يصدر شعبه عن رغبته وينصاع لأمره وإرادته فيهم أعظم ملكا من الملك الذي يأمر ولا يطاع ويريد ولا تنفذ إرادته، بل هذا الأخير ليس له من الملك في الحقيقة إلا اسمه، فالله عزوجل أحق بإثبات الحال الأكمل، وملكه وسيادته وربوبيته أعلى وأظهر من كل ملك وسيادة، والأمور جميعها منوطة به جل وعلا، قال سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1 أما خلق الأعمال فهو إثبات بأن الخالق واحد ولا شريك له في ذلك، وأن جميع ما في الوجود من متحرك وساكن هو خلق له سبحانه فإثباته إثبات لعموم الخلق الذي هو من لوازم الربوبية قال عزوجل: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ
مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1 {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} 2 فعاب على هؤلاء أن عبدوا ما لا خلق له، بل جعل الله من يخلق هو المستحق للعباد فقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 3. فمن أنكر خلق أفعال العباد فقد زعم أنه يوجد خالق آخر مع الله أو من دون الله وهذا هو الكفر، لهذا ثبت عن كثير من السلف وصف القدرية المنكرين لخلق أفعال العباد بأنهم مجوس هذه الأمة4 حيث زعموا مع الله خالقين وهم العباد الذين يخلقون أفعالهم. فثبت بهذا كله أن الإيمان بالقدر بمراتبه الأربع بينه وبين التوحيد تلازم فينتقض التوحيد بالتكذيب بالقدر. خامسا: فوائد الإيمان بالقدر: تقدم بيان أن الله حكيم في خلقه وأمره جل وعلا وهو إذ جعل الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، فله في ذلك الحكمة البالغة فإن للإيمان فوائد عديدة: أولا: تعظيم الرب عزوجل التعظيم الواجب له سبحانه باعتقاد شمول علمه ونفوذ مشيئته وعموم خلقه جل وعلا لكل شيء5. ثانيا: تنشيط النفوس الصالحة إلى العمل وتخويف النفوس المفرطة لعلها تتوب وترجع إلى ربها، وذلك على ضوء قوله - صلى الله عليه وسلم-: "اعملوا فكل ميسر لما
خلق له، فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة"1. فإن السائر على طريق الخير يزداد نشاطه في الخير لتوقعه أن يكون قد سلك الله به طريق أهل السعادة فإن من علامة ذلك كونه على الطريق، وكذلك المنحرف عن طريق أهل السعادة فإن ذلك يخيفه من أن يكون قد سُلكَ به طريق أهل الشقاوة فيختم له به فينتبه ويفيق ويرجع إلى ربه جل وعلا لعله يسلم ويسلك طريق النجاة، وما عند الله جل وعلا لا يحصل إلا بالعمل. يوضح ذلك أن الإنسان إذا أراد أن يكون صانعا أو تاجرا أو عالما فإنه لا يمكن أن يكون كذلك بدون عمل، فإذا كان ماهرا بالصناعة يدرك أنه سيكون في المستقبل صانعا، وكذلك إذا كان ماهرا في التجارة فإنه سيكون في المستقبل تاجرا، فإذا كان راغبا في هذه الوجهة فإنه يضاعف من جهده حتى يحسن العمل ويصل إلى غايته بأكمل ما يكون من العدة والاستعداد. وكذلك إذا كان يأمل أن يكون من العلماء ويرى نفسه مهتما بالتجارة فلا شك أنه سيجتهد في صرف نفسه عن التجارة، ويجتهد في العلم حتى يبلغ الغاية التي يأملها ويتمناها، فكذلك من أيقن أن الله قد يسر كل إنسان لما خلق له فإنه إن رأى نفسه على الطريق فرح بذلك واستبشر وزادت همته ونشاطه بدافع الحرص والوصول إلى أسمى المراتب. وإذا رأى نفسه قد تنكب الصراط فإنه يخاف أن يكون قد سلك به طريق الهالكين فيحزم ويعزم حتى يسلك سيبل السعادة لعله يكون من أهلها وهذا ظاهر بحمد الله2.
ثالثا: أن الإيمان بأن الله قد كتب كل شيء وأن ما كتب سيكون لا محالة يدفع النفوس إلى الإقدام والعمل والجد والاجتهاد وكسر طوق الخوف من الفشل والهزيمة الذي كثيرا ما يستولي على السالك أو الراغب في أمر فيثنيه عن أمره ووجهته، لهذا قال - صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل". ويروى عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "حرس أمراً أجله"1 وهذا حق فإن الإنسان إذا كان لن يموت إلا في يومه الذي قدر له، فإنه محروس محفوظ إلى حين الأجل وهذا يدفعه إلى الإقدام والشجاعة. رابعا: أن المسلم إذا آمن بالقدر على ضوء حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- "حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك" 2، أيقن بأن المقدر لا بد أن يكون فتهون عليه المصيبة إذا وقعت ووجد في احتساب الأجر فيها عند الله أعظم العزاء. كما أن الإنسان العاصي بعد توبته وإقلاعه عن ذنبه يجد في القدر عزاءً لنفسه فيقل من لومها وعتابها، فإن اللوم وعتاب النفس إذا تعدى حدَّه قد يوصل إلى اليأس أو يشغل عما ما هو أولى من الطاعة والعبادة3. النافع الضار وأن كل خير بيده وأن كل شر لا يدفعه إلا هو جل وعلا، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأن مشيئته هي الموجبة لكل ما يقع في هذه الحياة، فإن المسلم تزداد رغبته في
الله جل وعلا رجاء النفع ورجاء دفع الضر فيدعوه ويلتجئ إليه، وهذا الدعاء واللجوء إليه جل وعلا هو أعظم المنة وغاية الرحمة فإنه العبادة التي من أجلها خلق الإنسان، والدعاء هو: العبادة، فلا أعظم بركة من الأمر الذي يوصل أو يشد إلى هذه الغاية التي خاتمتها مستقر رحمة الله ورضوانه، وأما من لم يؤمن بهذا فإنه لا يجد في نفسه التعظيم الواجب للباري وتقل رغبته فيه جل وعلا، إذ لا خير يرجى جلبه ولا شر يُرْجى دفعه، فبالتالي لا يسأل الله عزوجل ولا يدعوه ولا يرغب إليه، وأي شيء على الإنسان أعظم من إحساسه بالاستغناء عن ربه وسيده ومن بيده خير الدنيا والآخرة1.
المطلب الثالث: نشأة الخلاف في القدر وأول من قال بذلك
المطلب الثالث: نشأة الخلاف في القدر وأول من قال بذلك الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان وقد ورد بيانه وتوضيحه في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم متبعين لا مبتدعين، يقفون الأثر وينشطون في العمل ويعرضون عن الجدل ولم يعرف منهم رضوان الله عليهم من دخل في بدعة. وكان أول البدع ظهورا بدعة الخوارج، وكما هو معروف فإن أول ظهورهم كان في زمن الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه -، ثم ظهرت بعدهم الشيعة في زمنه أيضاً - رضي الله عنه -، ثم ظهر نفاة القدر وذلك أواخر عهد الصحابة بعد موت الخليفة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وقد سئل عنهم ابن عمر وابن عباس وغيرهم ممن تأخرت وفاتهم. وكان أول ظهورهم بالبصرة في العراق على يد رجل ينسب إلى الزهد يقال له معبد الجهني. وقد روى الآجري واللالكائي بإسناد جيد عن الأوزاعي أنه قال: "أول من
نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن كان نصرانيا فأسلم، ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد"1. ومعبد هذا كان ينسب إلى الزهد، وهو الذي أظهر القول بنفي القدر وخرج إلى المدينة وأفسد بها أناسا، وقد حذر منه الأئمة كطاووس والحسن وابن عون2 وقد قتله الحجاج صبرا مع ابن الأشعث، وقيل إن عبد الملك بن مروان الذي صلبه ثم قتله سنة (80?) 3 وقد بلغ خبر إنكارهم للقدر عبد الله بن عمر كما في صحيح مسلم عن يحيى بن يعمر قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليَّ فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريئ منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم فال: حدثني عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فذكر حديث جبريل4. ثم إن معبداً هذا أخذ عنه غيلان بن مسلم 5 القدري وقد رفع أمره إلى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فأتي به واستتابه فأظهر توبته فأطلقه فلم يتكلم بنفي القدر زمن عمر بن عبد العزيز، فلما توفي وتولى يزيد بن عبد الملك تكلم غيلان بنفي
القدر وكان يزيد لا يهتم بهذا الأمر، فلما ولي هشام بن عبد الملك أحضر غيلان وذكره بتوبته أمام عمر بن عبد العزيز، فقال غيلان: أقلني يا أمير المؤمنين فوالله لا أعود، قال هشام: لا أقالني الله إن أقلتك هل تقرأ فاتحة الكتاب قال: نعم، قال: اقرأ الحمد لله رب العالمين، فقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال قف على ما استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه أو على أمر في يدك. اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه1. ثم لما اعتزلت المعتزلة بقول واصل بن عطاء2 في مرتكب الكبيرة بأنه في منزلة بين المنزلتين انضم إليه عمرو بن عبيد3 فضموا إلى بدعتهم في الإيمان وإنكَارَهم خروج أحد من النار وخلود أهل الكبائر في النار وإنفاذ الوعيد إنكارهم للقدر. ونفي القدر كانت له مرحلتان: المرحلة الأولى إنكار العلم السابق وكان على هذا معبد الجهني وبعض القدرية وقد كفرهم الأئمة بهذا، ثم إنهم رجعوا عن هذا وأنكروا المشيئة وخلق الأعمال وعموم القدرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفيهم العلم والكتابة السابقة: "وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤا منه وأنكروا مقالتهم كما قال
عبد الله بن عمر… وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير، حتى قال الأئمة كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم فيهم: إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون. ثم كثر خوض الناس في القدر فصار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم والكتاب السابق، إلا أنهم ينكرون عموم مشيئة الله وعموم خلقه وقدرته ويظنون أنه لا معنى لمشيئته إلا أمره فما شاء فقد أمر به وما لم يشأ لم يأمر1 به. ثم إن المعتزلة قعدوا لأنفسهم قواعد تتفق مع مخالفتهم التي انحرفوا بها عن الشرع. وأول هذه القواعد زعمهم: أن العقل مقدم على الشرع وحاكم عليه، وأن الشرع متى ما خالف العقل في زعمهم فإنه يجب اطراحه أو تأويله قال عبد الجبار المعتزلي: "اعلم أن الدلالة أربعة: حجة العقل والكتاب والسنة والإجماع ومعرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل". ثم قال: "الكلام في أن معرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل، فلأن ما عداها فرع على معرفة الله تعالى بتوحيده وعدله، فلو استدللنا بشيء منها على الله ولحال هذه كنا مستدلين بفرع للشيء على أصله وذلك لا يجوز"2. ومراده هنا بقوله معرفة الله أي من ناحية صفاته جل وعلا وأفعاله، فقدموا هنا حجة العقل على الشرع ليردوا الشرع الصريح الواضح في إثبات ما يخالف مذهبهم بهذا الزعم. وهذا القول منهم قلب للحق على مقتضى العقل، لأن الله عزوجل بصفاته وأفعاله لا يمكن للعقل الوصول إلى العلم به إلا على وجه الإجمال، وإن كان الإنسان مفطورا على الإيمان بالله والإقرار له بالربوبية،
ولكن هذا الإقرار لا يعطي الإنسان علما وافيا عن الله عزوجل، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الوصول إلى معرفة الله على التفصيل إلا منه جل وعلا وذلك بطريق الوحي. لهذا تخبط المعتزلة في كلامهم عن الله عزوجل وضلوا فيه جل وعلا ضلالا بعيدا سواء في صفاته أو في الكلام على أفعاله سبحانه وتعالى. بعد هذا قعد المعتزلة أصل (العدل) وهو الأصل الثاني من أصولهم وينسبون أنفسهم إليه بقولهم: (أهل العدل) وقد نمقوا بيانهم للمراد بالعدل بألفاظ ظاهرها التنزيه والتعظيم لله عزوجل، وباطنها تعجيز الله والحد من قدرته وسيادته والرد لشرعه ودينه. فقال عبد الجبار المعتزلي في تعريفه للعدل: هو توقير حق الغير واستيفاء الحق منه، ثم قال في تطبيق هذا التعريف على عدل الله "وأما علوم العدل فهو أن يعلم أن أفعال الله تعالى كلها حسنة وأنه لا يفعل القبيح ولا يخل بما هو واجب عليه وأنه لا يكذب في خبره ولا يجور في حكمه"1. فهذه العبارات من سمعها ظن أن المراد بها حق، فإن قولهم: إن أفعال الله تعالى كلها حسنة وأنه لا يفعل القبيح ولا يخل بما هو واجب عليه، يدخل تحتها أمور عديدة: أولها: أن الحسن والقبح إنما يعرف بالعقل وما حسن في العقل من الإنسان حسن من الله عزوجل وما قبح في العقل من الإنسان قبح من الله عزوجل، فهذا فيه تشبيه وتحكم في أفعال الله عزوجل بميزان النظر البشري. ثانيها: أن ما حسن يجب على الله أن يفعله، وما قبح لا يجوز له فعله، فهذان الأصلان جعلهما المعتزلة في كلامهم ميزان العدل الإلهي، فكل فعل أردوا إثباته أو نفيه عرضوه على هذا الميزان، فإن كان موافقا لهذا الميزان
قبلوه وقالوا به، وإن خالف هذا الميزان ردوه ولم يقبلوه ولو قامت الأدلة الشرعية الصحيحة على إثباته، وزعموا في ردهم له أنه يخالف عدل الله وحكمته، وما لم يعلم أن الله عدلٌ حكيمٌ لا يمكن أن تعرف صحة الشرع. وهذا الميزان الجائر قد رُدت به أمور قطعية ورد الشرع بها، وأُثبت به أمور لم ترد في الشرع بل الدليل الشرعي على خلافها وهذه الأمور هي: أولا: زعموا أن الله خلق الخلق لينفعهم وهذا لم يرد في الشرع بل الذي ورد قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. ثانيا: زعموا أن الله لا يضل أحدا، وأنه لم يختم على قلوب الكفار لأن هذا عندهم قبيح ينزه الله عنه، وهذا باطل فقولهم قبيح ينزه الله عنه غير صحيح لوجهين: 1- أن هذا ثبت في الشرع وهو الحاكم على كل شيء. 2- أن الله ثبت أنه عدل حكيم، فإضلاله لمن ضل إنما بمقتضى عدله جل وعلا وحكمته، وليس باللزوم أن يظهر لنا وجه هذا العدل وهذه الحكمة. ثالثا: زعموا أن الله لم يقدر على العباد المعاصي فردوا بذلك ما ثبت في السنة من أن الإيمان بأن الله يقدر الخير والشر ركن من أركان الإيمان. رابعا: زعموا أن الله لا مشيئة له نافذة في خلقه لأن هذا إجبار وهو قبيح ينزه الله عنه، فردوا بذلك الأدلة الثابتة في الشرع مع أن هذا ليس جبرا لأن العباد لهم مشيئة أيضا وقد جاءهم الشرع، وقد تقدم بيان قول السلف في القدر بالتفصيل. خامسا: أنكروا خلق أفعال العباد، وزعموا أن هذا فيه نسبة فعل القبائح إلى الله عزوجل، وهذا قبيح.
وأهل السنة لا يقولون إن الله يفعل القبائح بل هو منزه جل وعلا عن ذلك، لأن المنسوب إلى الله هو الخلق للفعل على مقتضى الدلالة الشرعية وكمال الربوبية، أما الفعل فهو فعل العبد على ما تقدم بيانه في مذهب أهل السنة. سادسا: أن الله يجب عليه فعل الأصلح لعباده، فأوجبوا على الله ما لم يوجبه جل وعلا على نفسه افتراءً عليه. وهكذا نرى أن نفي القدر مر بعدة مراحل، أولها نفي العلم الإلهي السابق لأفعال العباد وتبعه إنكار الكتابة وعموم المشيئة وخلق أفعال العباد، ثم إن نفي القدر خف بفعل إنكار السلف وتكفيرهم للقائلين بهذا وقوة الشرع والسنة وارتباط الناس بها إلى إثبات العلم والكتابة وإنكار المشيئة والخلق، ثم إن المتكلمين المعتزلة صاغوا هذا النفي وقعدوه بقواعد يلتزمون بأصولها ويختلفون كثيرا في فروعها، إذ مناطها العقل، والعقول مختلفة فلا تجدهم يتفقون على فرع، وهذه القواعد أدت إلى توسيع الدائرة في نفي القدر وإلى القول على الله بغير علم.
المطلب الرابع: التعريف بالقدرية
المطلب الرابع: التعريف بالقدرية القدرية اسم يطلق على من نفى القدر وقد سبق بيان أن المعتزلة تبنوا نفي القدر وضموه إلى بدعهم الأخرى، فنعرف هنا بالمعتزلة وبالزيدية الذين تبنوا مذهب المعتزلة وهم المعنيون برد المصنف في هذا الكتاب: أولا: المعتزلة: هم أتباع واصل بن عطاء الغزال تلميذ الحسن البصري، وكان زمنه بين أيام عبد الملك بن مروان وأولاده الثلاثة وعمر بن عبد العزيز، وكان اعتزل الحسن البصري بسبب قوله في مرتكب الكبيرة، وذلك أنه جاء رجل إلى حلقة الحسن البصري فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة
يكفرون أصحاب الكبائر وجماعة يرجئونهم فلا تضر مع الإيمان عندهم كبيرة، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا؟ فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين، ثم قام واعتزل إلى أسطوانة المسجد يقرر ما أجاب عن هذه المسألة. فقال الحسن البصري: "اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة، ثم استقر مذهب الاعتزال بعد ذلك على خمسة أصول وهي: أولا: التوحيد، وهو عندهم نفي صفات الباري جل وعلا، وإثبات أسماء لا معاني لها كقولهم عالم بلا علم قادر بلا قدرة. ثانيا: العدل، وحقيقته عندهم نفي قدر الله عزوجل ومشيئته النافذة على خلقه، وأن العباد خالقون لأفعالهم، فسموا لذلك مجوس هذه الأمة، وسموا قدرية لنفيهم القدر، وهم يلقبون أنفسهم أهل العدل والتوحيد. ثالثا: إنفاذ الوعيد، وهو أن مرتكب الكبيرة عندهم إذا لم يتب فهو من الخالدين في النار. رابعا: المنزلة بين المنزلتين، وهو قولهم إن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمنا ولا كافرا. خامسا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه جواز الخروج على الأئمة عندهم وقتالهم بالسيف. وعلى هذه الأصول الخمسة يقوم مذهب الاعتزال، وهم ينقسمون إلى إحدى وعشرين فرقة، ذكرها أصحاب كتب المقالات1.
ثانيا: الزيدية: 1- نشأتها: الزيدية إحدى الفرق التي تنسب إلى التشيع، وهم ينتسبون إلى زيد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكانت ولادته حوالي ثمانين من الهجرة، وقتل سنة اثنتين وعشرين ومائة للهجرة النبوية، وكان من خبره: أنه التف عليه طائفة من الشيعة وكانوا نحوا من أربعين ألفا، فنهاه النصحاء عن الخروج، وقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: إن جدك خير منك وقد التف على بيعته من أهل العراق ثمانون ألفا ثم خانوه أحوج ما كان إليهم وإني أحذرك من أهل العراق، فلم يقبل بل استمر يبايع الناس في الباطن في الكوفة على كتاب الله وسنة رسوله، حتى استفحل أمره بها في الباطن وهو يتجول من منزل إلى منزل، وما زال كذلك حتى دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائة فأمرهم أن يتأهبوا للخروج أول هذه السنة، فشرعوا في أخذ الأهبة لذلك، فانطلق رجل يقال له: سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره وهو بالحيرة يومئذ خبر زيد ومن معه من أهل الكوفة، فأرسل يوسف بن عمر يتطلبه ويلح بطلبه، فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك يرحمك الله، في أبي بكر وعمر؟ فقال: غفر الله لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذاً بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر، ولكن القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب والسنة 1، فقالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذاً؟
قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم- وإحياء السنة وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيراً لكم ولي، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل، فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه فلهذا سموا الرافضة من يومئذ ومن تابعه من الناس على قوله سموا الزيدية. ثم إن زيدا عزم على الخروج بمن بقي معه من أصحابه فواعدهم ليلة الأربعاء من مستهل صفر من تلك السنة، فبلغ ذلك يوسف بن عمر فكتب إلى نائبه على الكوفة، وهو الحكم بن الصلت، يأمره بجمع الناس كلهم في المسجد الجامع فجمع الناس لذلك يوم الثلاثاء سلخ المحرم، قبل خروج زيد بيوم، وخرج زيد ليلة الأربعاء في برد شديد ورفع أصحابه النيران وجعلوا ينادون: يا منصور يا منصور فلما طلع الفجر إذا قد اجتمع معه مائتان وثمانية عشر رجلا، فجعل يقول: سبحان الله أين الناس؟ فقيل: هم في المسجد محصورون، وكتب الحكم إلى يوسف يعلمه بخروج زيد ابن علي فبعث إليه بسرية إلى الكوفة، وركبت الجيوش مع نائب الكوفة، وتقاتل الفريقان في اليوم الأول إلى المساء، وفي اليوم الثاني إلى المساء حيث أصيب زيد بسهم في جبهته نفذ إلى دماغه فلما أخرج منه مات لساعته ودفن من ليلته وتفرق بعده أصحابه، ثم أخرج يوسف بن عمر جثته وصلبه1. فالزيدية تنتسب إلى زيد هذا ويعدونه الإمام الرابع لهم، وأول الأئمة لديهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن ثم الحسين ثم زيد بن علي ثم كل من قام ودعا إلى نفسه وكان موصوفا بالعدل والأمانة وهو من أولاد فاطمة. وقد قامت لهم دولة في اليمن في أواخر القرن الثالث الهجري على يد يحيى بن الحسين بن القاسم الملقب بالهادي واستمرت دولتهم بين مد وجزر وظهور وكمون إلى عام (1382?) .
2- تبني الزيدية لمذهب المعتزلة: الزيدية تميزت في أول ظهورها بمسألة الإمامة وأنهم يرونها كما تراها الشيعة الاثنى عشرية في علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين بن علي، ثم يختلفون عن الاثنى عشرية بأن الإمامة تثبت لكل من قام ودعا الخلق إلى طاعة الله تعالى وكان من ولد الحسن أو الحسين وهو جامع لخصال العدل والعلم فلهذا قالوا: بإمامة زيد بن علي بعد الحسين ولم يعدوا أباه زين العابدين ولا أخاه محمد الباقر ولا ابن أخيه جعفر الصادق من أئمتهم لأنهم لم يخرجوا ولم يدعوا لأنفسهم. هذا ما تميز به الزيدية من الأقوال، وأما بقية أقوالهم في مسائل الاعتقاد فإنها مبنية على مذهب المعتزلة. وعلاقة الزيدية بالمعتزلة ذكر أنها قديمة من أيام زيد بن علي، فقد ذكر الشهرستاني في الملل والنحل أن زيد بن علي أخذ الاعتزال عن واصل بن عطاء الغزال رأس المعتزلة. وهذا لم ينقل عن زيد بن علي بسند يطمأن إليه، كما أن الشهرستاني ذكر أن محمد الباقر اعترض على أخيه زيد في أخذه عن واصل لأن واصلا يرى أن عليا أخطأ في قتاله أهل الجمل وصفين وأن كلا الفريقين على خطأ. وهذا وإن لم ينقل بسند صحيح فإن فيه دلالة على مانع صحيح يمنع زيدا من الأخذ عن واصل، والله أعلم. ويظهر بعد هذا الالتقاء بين الزيدية والمعتزلة حيث ذكر الأشعري في مقالاته (1/154) خروج إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في البصرة سنة خمس وأربعين ومائة أيام المنصور قال: وشخص عن البصرة في المعتزلة وغيرهم من الزيدية يريد محاربة المنصور ومعه عيسى بن زيد بن علي، فبعث إليه أبو جعفر بعيسى ابن موسى وسعد بن سلم فحاربهما إبراهيم حتى قتل، وقتلت المعتزلة بين يديه.
فهذا يدل على الالتقاء بين الزيدية والمعتزلة، ولعل ما يقرب بينهما هو الخروج وذلك أن الزيدية يرون أنهم أحق بالإمامة، والمعتزلة يرون الخروج على الأئمة إذا جاروا. ثم يظهر الالتقاء واضحا أكثر مع القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المتوفى عام (240?) ، وذلك أنه أخذ الفقه عن علماء المذهب الحنفي، وأخذ عن شيوخ المعتزلة في وقته في الأصول، وله مؤلفات منها العدل والتوحيد (الصغير) والعدل والتوحيد (الكبير) ، الأساس في علم الكلام وغير ذلك من الكتب1. ثم جاء بعد القاسم حفيده يحيى بن الحسين الملقب بالهادي، الذي استولى على اليمن وهو معتزلي كتب في الاعتزال كتبا كثيرة2 فصار بعده الزيدية معتزلة لا يختلفون عن المعتزلة إلا في الإمامة. قال الشيخ صالح المقبلي "كالزيدية في هذا الجبل من اليمن هم معتزلة في كل الموارد إلا في شيء من مسائل الإمامة وهي مسألة فقهية وإنما عدها المتكلمون من فنهم لشدة الخصام كوضع بعض الأشاعرة المسح على الخفين في مسائل الكلام… والمخالف في مثل هذه المسائل لا ينبغي أن يعد فرقة كما قال السيد الهادي بن إبراهيم الوزير - رحمه الله تعالى - وهو من أشد الناس شكيمة في مذهب الزيدية والتعصب لهم والرد على مخالفيهم فقال فيهم وفي المعتزلة: "وإنهما فرقة واحدة في التحقيق إذ لم يختلفوا فيما يوجب الإكفار والتفسيق) ذكر هذا في خطبة منظومتة التي سماها (رياض الأبصار) عدد فيها أئمة الدعاة من الزيدية وعلماءها وعلماء المعتزلة متوسلا بهم، فذكر الأئمة الدعاة من الزيدية، ثم علماء المعتزلة ثم علماء الزيدية
من أهل البيت ثم من شيعتهم واعتذر عن تقديم المعتزلة على الزيدية بما لفظه: (وأما المعتزلة فقد ذكرت بعض أكابرهم وكراسي منابرهم، مع إجمال وإهمال إذ هم الأعداد الكثيرة والطبقات الشهيرة، ورأيت تقديمهم على الزيدية؛ لأنهم سادتها وعلماؤها فألحقت سمطهم بسمط الأئمة وذلك لتقدمهم في الرتبات، ولأنهم مشايخ سادتنا وعلماءنا القادات، وهذا الذي قال هو حقيقة الأمر في اتحاد هاتين الفريقتين كما لا يخفى على من صح أن يعد من أهل هذا الشأن، هذه كتبهم شاهدة بذلك، وإنما بعضهم يوافق هذا وبعضهم يوافق ذاك. فانظر كلام الإمام المنصور بالله في كتبه كلها، وكلام الإمام المهدي في كتبه، وكلام أبي طالب في كتبه كشرح البالغ المدرك والسيد ما نكديم والمؤيد بالله تجدها كلمات الجبائية بأعيانها مع تصريحهم بقولهم؛ المختار كلام شيخنا أبي علي أو أبي هاشم أو أبي رشيد أو غير ذلك، وكذلك كلام الهادي غالبه كلام أبي القاسم الكعبي وكذلك كلام يحيى بن حمزة موافق غالب أمره لأبي الحسين البصري ساير بسيره"1 انتهى. وبه ينتهي المراد من بيان تبني الزيدية لمذهب المعتزلة، وينتهي المراد من هذه الدراسة في هذا الفصل حيث تحدثنا فيه عن القدر والقدرية، وهما اللذان تعلق بهما عنوان الكتاب وأهم وأطول موضوعاته.
الفصل الثالث: التعريف بالنسخ المخطوطة ومنهج التحقيق
الفصل الثالث: التعريف بالنسخ المخطوطة ومنهج التحقيق المبحث الأول: التعريف بالمخطوط ... المبحث الأول: التعريف بالمخطوط أولا: عدد النسخ: يوجد لكتاب الانتصار ثلاث نسخ: النسخة الأولى: نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة برقم (818) كلام. النسخة الثانية: نسخة الأستاذ محمد بن يحيى الحداد - رحمه الله - في مدينة إبّ في اليمن في مكتبته الخاصة في بيته. النسخة الثالثة: نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة برقم (835) علم الكلام. ثانيا: وصف النسخ: النسخة الأولى: نسخة دار الكتب المصرية رقم (818) كلام: نسخة كاملة واضحة الخط، تم الانتهاء من نسخها في ثامن عشر من شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعمائة من الهجرة النبوية، ولم يتبين اسم كاتبها حيث لم يدون عليها اسمه، وهي نسخة مقابلة على النسخة التي نقلت عنها بدليل ذكره في مواضع عديدة في الحاشية جملة (بلغ مقابله) ولم يشر الناسخ إلى النسخة التي نقلت عنها هذه النسخة. ويبلغ عدد أوراقها (92) ورقة من القطع الكبير وعدد الأسطر في الصفحة ما بين (35) إلى (38) سطرا، وعدد الكلمات تتراوح ما بين (14) إلى (15) كلمة في السطر، ومقاسها (18× 27) سم، وقد اعتبرت هذه النسخة الأصل لأنها أقدم النسخ وأكملها، وأرمز إليها بقولي (في الأصل) . النسخة الثانية: نسخة الأستاذ محمد بن يحيى الحداد - رحمه الله - في مدينة إبّ في اليمن. هي نسخة ناقصة من أولها وتبتدئ من بداية الفصل رقم (26) من نسخة دار الكتب، ورقة (15/أ) وهي بخط واضح مشكول، وكان الفراغ
من نسخها نهار الجمعة تاسع عشرة من شعبان سنة ست بعد الألف من الهجرة النبوية بخط عبد القادر بن أحمد الفناضي. وقد قوبلت على الأصل المنقول عنه، وانتهت المقابلة خامس عشر شهر شوال في سنة ست بعد الألف من الهجرة ولم يذكر الأصل الذي نقلت عنه. وعدد أوراق الموجود منها (195) ورقة من القطع المتوسط حيث عدد الأسطر (21) سطرا، وعدد الكلمات في السطر الواحد ما بين (11-13) كلمة ومسطرتها (14× 21) سم، وقد أثبت على الحواشي فيها تعليقات عديدة منقولة من بعض الكتب توضيحا لمفردة أو معلومة تتعلق بما هو وارد في الكتاب بخط مغاير للمخطوط. وقد رمزت لهذه النسخة بحرف -ح- نسبة إلى صاحبها الأستاذ محمد يحيى الحداد، رحمه الله. النسخة الثالثة: نسخة دار الكتب المصرية في القاهرة رقم (835) علم الكلام: وهي نسخة كاملة وواضحة حديثة النسخ، تم الفراغ من نسخها يوم الخميس ثلاثين من شهر رجب سنة ست وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية. بقلم محمود بن محمد بن أحمد الصياد المرصفي، وهي منقولة عن النسخة الأولى ذات الرقم (818) بدار الكتب حيث التزم الكاتب عدد أسطر الأصل وعدد الكلمات فيه ونهاية كل صفحة تقريبا وحتى الأخطاء الواردة فيها هي نفس الأخطاء وإذا تعسرت عليه كلمة فإنه يرسمها حسب ما يظهر له من قراءتها. وعدد أوراقها (92) ورقة وعدد أسطر الصفحة ما بين (35-38) سطرا وعدد الكلمات في السطر ما بين (13-15) كلمة. ولهذا لم أعتبر هذه النسخة ولم أقابل بينها وبين النسخ الأخرى لعدم الفائدة من ذلك.
المبحث الثاني: منهج التحقيق
المبحث الثاني: منهج التحقيق انحصر عملي في الكتاب فيما يلي: 1- نسخ الكتاب وكتابته على طريقة الإملاء الحديثة. 2- عزو الآيات القرآنية إلى السور وبيان السورة ورقم الآية. 3- تخريج الأحاديث النبوية وأكتفي بالعزو إلى البخاري ومسلم إذا ورد فيهما أو في أحدهما في الغالب ولا أتجاوزهما إلى غيرهما، فإذا لم يوجد فيهما أعزو إلى السنن والكتب المشهورة من كتب الحديث، وإذا لم يكن الحديث في الصحيحين أذكر درجة الحديث من حيث الصحة وعدمها من كلام العلماء، فإذا لم أجده أجتهد فيها في الغالب وأبين الحكم أو اكتفي بذكر حال الراوي المتكلم فيه من رجال الإسناد. 4- تخريج الآثار وعزوها إلى مصادرها. 5- ترتيب فصول الكتاب بالتسلسل. 6- عزو الأبيات الشعرية إلى قائليها ومصادرها. 7- الترجمة للأعلام المذكورين ما عدا الصحابة فلا أترجم لهم خشية الإطالة، ومن أترجم له تكون ترجمته في أول موضع يرد ذكر اسمه فيه ولا أحيل على ذلك. 8- شرح الأمثال وعزوها إلى كتب الأمثال وبيان مضرب المثل. 9- شرح المفردات الغريبة من كتب اللغة. 10- توضيح ما يكون من عبارة المصنف غير واضح ويحتمل أكثر من معنى. 11- عرفت بالفرق الوارد ذكرها ويكون التعريف أول موضع ترد فيه. 12- علقت على المسائل العقدية التي يذكرها المصنف مما رأيت أنه يحتاج إلى توضيح.
13- بينت الحق في المسائل التي خالف المصنف فيها مذهب السلف وذكرت الأدلة على ذلك معتمدا على القرآن والسنة وكلام السلف. 14- أثبت الاختلاف بين نسختي الكتاب، وقد اعتمدت نسخة دار الكتب أصلا، لهذا لا أثبت في الغالب من الاختلاف في نسخة -ح- إلا ما كان فيه تغيير للمعنى خوفا من الإطالة ولكثرة الاختلافات. وأثبت ما في -ح- في المتن إذا كان أصح مما في الأصل وأشير إلى ذلك في الحاشية. الرموز المستخدمة في الرسالة: استخدمت في الرسالة الرموز بدل صريح اسم الكتاب وذلك طلبا للاختصار وهي كما يلي: خ- صحيح البخاري. م- صحيح مسلم. واعتمد فيه على تسمية النووي للأبواب. د- سنن أبي داود. ت- سنن الترمذي. ن- سنن النسائي. جه- سنن ابن ماجه. دي- سنن الدارمي. حم- مسند الإمام أحمد. وما عدا ذلك فإني أذكره باسمه. كما أرمز بحرف (ب) للباب الذي ورد فيه الحديث من كتب الحديث.
الباب الثاني: النص المحقق
الباب الثاني: النص المحقق ... بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم الحمد لله وحده قال الشيخ الإمام الأوحد جمال الدين، مبطل حجج الزائغين، يحيى بن أبي الخير بن أسعد العِمْراني اليماني - قدس الله روحه - الحمد لله خالق الأشياء ومحكمها وموجد البرايا ومعدمها، وناقض العزائم ومبرمها، ولا شريك له في الخلق والتصوير، ولا شبه له في الفعل والتقدير، وسابق الأشياء في القدم، المنزه عن الخرس والصمم، وهادي المهتدين بفضله، وخاذل الضالين بعدله، والعالم بكل مظهر ومكنون، الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، الواحد الملك التواب غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، الموصوف بأكمل الصفات، المتعالي عن الوصف بالآفات. أحمده على إفضاله وإنعامه، وأشكره على نواله وإلهامه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله للحق داعيا، وإلى الجنة هاديا، ختم به النبيين وأنزل عليه قوله الحق المبين، وجعله معجزة له في الأولين والآخرين، وشفى به صدور المؤمنين وجعله حجة على الضالين، فقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1. صلى الله عليه وعلى أهل بيته الأكرمين، وعلى صحابته وخلفائه الراشدين وسلم وكرم وشرف وعظم، وبعد. فانتهى إليّ العلم بأنه قدم إلى قرية إبّ2 رجل من ولاة القضاء بصنعاء ينتحل مذهب الزيدية والقدرية، لقبه أهله شمس الدين3. فأظهر القول
هنالك بأن العباد يخلقون أفعالهم وأن القرآن مخلوق، وغير ذلك من مذاهبهم، ودعا الناس إلى ذلك وسأل الناس المناظرة من أهل السنة. فرأيت من الحق الواجب والفرض اللازب إنشاء رسالة ونصيحة إلى أهل السنة، فيها بيان مذهب أهل الحديث بخلق الأفعال وإثبات الإرادة وما تشعب عليهما، وجعلت افتتاحها ذكر الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم- بالتحذير عن القدرية، فلما وقف عليها هذا الرجل عبس وبسر، وغضب من ذلك ونفر، وصنف في الرد على ذلك كتابا سماه (الدامغ للباطل من مذاهب الحنابل) 1، أبان فيه خفي مقاتله بما ذكر من حججه ودلائله. فقد قيل: من لم يطلع على دلائل خصمه لم يقدر على قطعه وقصمه. ومن نظر من المحققين في كتاب هذا القائل وتبين في معناه الحاصل سماه (الدامغ الباطل) ، لأنه جعل كلامه فيه الأذى والشتيمة والجفاء، ولم يراع بنفسه منصب القضاء، ولا تأدب بآداب العلماء، الذين صنفوا الكتب الموضوعة للمخالفين في كل فن من العلوم أصولها وفروعها، فاعتمدوا فيها على ذكر المعاني الدقيقة بالألفاظ الحسنة الأنيفة، ولو كان له بصر بالقرآن لتأدب بما أدب الله به أنبياءه، قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 2 وقال لموسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 3. لكنه سلك طريق أسلافه وأئمته من المعتزلة والقدرية4 في الوقيعة والشتيمة لمن هو مبرأ مما رموهم به وهم الصحابة - رضي الله عنهم - وأصحاب الحديث فهم الداخلون تحت قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً} 5
وتحت قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 1. ولا يلزم على قولي هذا افتتاحي الرسالة بذكر الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في القدرية ولا في الرد عليهم، فإن تلك مذمة واردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وعن الصحابة والعلماء ولقب لهذه الفرقة لا يسع أحد إنكارها2، بل كل فريق يرد ذلك عن نفسه بما أمكنه من التأويل، والله يعلم المفسد من المصلح. وما أورده من الكلام السخف يدل على انقطاعه وقلة علمه بلا شك ولا ريب عند المحققين من أهل النظر، ولولا خشية دخول الشك والارتياب على من اطلع على كلامه أو بلغه ممن لا خبرة له بمذهب القدرية من أهل السنة لكان الإعراض عن الجواب من الصواب. فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا كافرا أما المؤمن فيحجزه إيمانه وأما الكافر فيقمعه كفره، وإنما أخاف عليهم منافقا عليم اللسان يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون "3. وليس يعرفهم إلا من استحكم معرفة أصول الدين الذي يعرف به الحق من الباطل وهم الحجة في كل عصر.
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله لاينزع العلم من صدور الرجال انتزاعا، ولكن يقبض العلماء فيتخذ الناس رؤوساً جهالا فضلوا وأضلوا"1. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا يخلو عصر من قائم لله بحجة "2. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من لاوأ هم"3. ومن المفترض على من عرفه الله طريق الرشد وأبان له سبيل الهدى إذا ظهرت بدعة في الدين أن يردها بما قدر عليه. قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 4 وقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 5.
وقد أخذ الله العهد على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، والعلماء ورثة الأنبياء1. قال علي - رضي الله عنه -: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم- يوما فقال: " اللهم ارحم خلفائي. قلنا له: ومن خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: الذين يحفظون سنتي وأحاديثي ويعلمونها الناس"2. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: قال: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها من لم يسمعها"3. وقال - صلى الله عليه وسلم-: "إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم "4.
وأدلة العلماء كمعجزات الأنبياء1. ولم يزل العلماء يردون على القدرية أقوالهم ويبطلون استدلالهم ويكشفون تلبيسهم ويظهرون تدليسهم. وبذلك أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- بقوله: "يحمل هذا العلم من خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"2. ولا تزول الشبه عن قلوب العامة إلا من حيث دخلت وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يزيل الشبه من حيث علم دخولها. روي أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن امرأتي أتت بولد أسود ونحن أبيضان فعلم النبي - صلى الله عليه وسلم- أن الشبهة قد دخلت عليه بولده، وأنه قد وقع عنده أن زوجته أتت به من غيره، ولو قال له النبي - صلى الله عليه وسلم- هو ابنك الولد للفراش، لم تزل عنه الشبهة، فعدل عن ذلك وقال له: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال: "ما ألوانها؟ " قال: حمر، قال له: "هل فيها من أورق؟ " - والأورق ما لونه كلون الرماد - قال: نعم إن فيها لورُقا قال: "فأنى ترى ذلك؟ " قال: لعل عرقا نزعها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم-: "وهذا لعل عرقا نزعه.."3.
فأزال عنه الشبهة من الوجه الذي يعلم أنه يفهمه. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى ولا هامة ولا صفر "، فقال له أعرابي كالمعترض عليه: فما لنا نرى الإبل كالضباء فتكون النقبة بمشفر البعير فتجرب الإبل عن آخرها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "فما أجرب الأول "1. فقمعه بالحجة من حيث علم زوال الشبهة عنه، ولم يقتصر على قوله إن الله يخلق الداء. وقد أدخلت المعتزلة2، والقدرية3 على الإسلام وأهله شبها في الدين ليموهوا بها على العوام، ومن لا خبرة له بأصولهم التي بنوا عليها أقوالهم، فاتبعوا متشابه القرآن وأولوا القرآن على خلاف ما نقل عن الصحابة والتابعين المشهورين بالتفسير، لينفقوا4 بذلك أقوالهم، فهم أشد الفرق ضرار على أصحاب الحديث، ثم بعدهم الأشعرية5. لأنهم أظهروا
الرد على المعتزلة وهم قائلون بقولهم. فاستخرت الله سبحانه على كشف تلبيسهم، وإظهار تدليسهم بهذا الكتاب، وجعلته فصولا كل فصل فيه يشتمل على ذكر فائدة منفردة ليقرب على قارئه أخذ الفائدة منه، وقدمت ذكر مذاهب أصحاب الحديث جملة، ثم الأصول التي بنى أصحاب الحديث أقوالهم عليها وبينت انسلاخ القدرية منها. وأما الأصل الذي بنوا عليه أقوالهم فقد1 ذكرت الآيات والأدلة التي استدللت بها على خلق الله لأفعال العباد وعلى الإرادة والتعليل والتجويز2 وما أورده هذا المعترض عليها بدامغه3. فأجبت عما ذكر من الأدلة، وتركت من كلامه ما لا فائدة تحته إلا الأذية، فقدمت الأهم منها فالأهم، ثم ذكرت بعد ذلك المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أصحاب الحديث والمعتزلة والقدرية والأشعرية وما حضرني من الأدلة من الكتاب والسنة التي نقلها أئمة الحديث في أصولهم المشهورة
- كالبخاري 1، والترمذي 2 ومحمد بن الحسين الآجري 3، واللالكائي 4، وغيرهم وحذفت ذكر الأسانيد طلبا للإيجاز ليخف حمله ويسهل حفظه لمن أراد مطالعته. والله أسأله أن يجعله خالصا لوجهه وينفعني والمسلمين به، آمين.
1 - فصل: في بيان عقيدة أصحاب الحديث التي أدين الله بها وهي الإيمان بأن الله سبحانه واحد لا شريك له، فرد لا مثل له، قديم لا أول له، مُوجد لا موجد له، باق لا انقطاع له، ليس بجوهر1، ولا جسم2، ولا عرض3 ولا بمحل الأعراض والجواهر والأجسام، ولا يحلها4، مستو على العرش كما أخبر بلا كيفية، حي عالم، قادر، مريد سميع، بصير متكلم.
موصوف بصفات الكمال. الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وأن هذه الصفات يستحقها لذاته قديمة بقدمه لا هي هو ولا هو هي، ولا هي غيره ولا هو غيرها1، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وأن هذه السور والآيات كلامه تكلم به حقيقة بحرف يكتب وصوت يسمع - لا كحروفنا وأصواتنا - ومعنى يعقل، وأنه أنزله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم-، وأنه غير مخلوق ولا عبارة عن القرآن، وأن لله وجها ويدين كما أخبر بكتابه، ولا يفسر ذلك بالجارحة ولا بالذات والنعمة2.
ونؤمن بأخبار الصفات الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في النزول وغيره إيمانا مجملا ولا نفسرها1 بل نُمرُّها كما جاءت، وأن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة بعيون رؤوسهم ولا يراه الكفار، وأن الله خلق أفعال العباد وأقوالهم ونياتهم وخطراتهم في الطاعة والمعصية، وأنه أمرهم بالطاعة ونهاهم عن المعصية وأراد منهم وقوع ما هم عليه، وأن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن الإيمان أعلى رتبة من الإسلام والإسلام بعض الإيمان وأن عذاب القبر حق، وأن مسألة منكر ونكير في القبر حق. وأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنه أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء في يقظة من النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأنه اطلع في الجنة والنار وبلغ سدرة المنتهى، فأوحى الله إليه ما أوحى، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم- ربه. وقد اختلف الصحابة - رضي الله عنهم - بذلك، فمنهم من قال: رآه بعيني
رأسه، وقالت عائشة - رضي الله عنها -: "ما رآه بعيني رأسه وإنما رآه بعيني قلبه "1. وأن للنبي - صلى الله عليه وسلم- شفاعة في أهل الكبائر من أمته، وكذلك لغيره من العلماء والصالحين، وأن الله سبحانه يغفر الكبائر من الذنوب غير الشرك لمن يشاء من عباده، وله أن يعذب على الصغائر، وأن معرفة الله وجبت بالشرع لا بالعقل، وأن بعث الله للرسل وتكليف الله للخلق أمر جائز غير واجب عليه، وأن الله سبحانه بعث نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم- ونسخ بشريعته جميع الشرائع وختم به النبوة فلا نبي بعده، وأن مراتب الخلافة في الصحابة - رضي الله عنهم - كما وقعت أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي - رضي الله عنهم -، وأن الخلافة ثلاثون سنة ثم بعده ملك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. وأن مراتبهم في الفضل كمراتبهم في الخلافة ووردت أخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في تفضيل آحاد الصحابة وجماعتهم لا تتنافى، فيفضل الصحابة - رضي الله عنهم - بما ورد فيهم من الأخبار، وبما جرى لهم من السابقة، ونمسك عن ذكر ما جرى بينهم، ونحمل ذلك على أمور دينية كانوا بها متأولين ويغفر الله لهم ما وقع بينهم فيها من القتل بسابقتهم. ولا ننكر كرامات الأولياء. ونصب الإمام في وقتنا حق واجب فمن وجدت فيه شروط الإمامة وظهرت شوكته وقوي أمره وجبت طاعته ولا يجوز الخروج عليه بقول ولا فعل، سواء كانت إمامته بعقد أهل الحل والعقد له، أو باستخلاف إمام حق قبله له أو بغلبته2 بالسيف3.
2- فصل: والأصول التي بنى أصحاب الحديث عليها أقوالهم، الكتاب والسنة والإجماع والقياس وهو: أدلة العقل، أما الكتاب: فهو قول الله تعالى وهو القرآن الذي هو سور وآيات الذي هو خارج عن أجناس النظم وعن كلام البشر بمعاني تصح ولا تفسد1. منها أنه أخبر به2 عما كان في التوراة والإنجيل من القرون الماضية والأنبياء المتقدمين، وكان أميا لا يقرأ كتابا، وأخبر عما يكون قبل أن يكون كدخوله مكة وغَلَبَة الروم وغير ذلك فكان كما أخبر، وأمره الله أن يقول: هذا كلام ربي، وأمرني أن أبلغه إليكم، فقالوا: إنما يعلمه بشر، ولو شئنا لقلنا مثل هذا، فأمره الله أن يتحداهم بالإتيان بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله، وهم أفصح العرب على النظم والنشر والخطب والرسائل وأنواع الشعر والسجع وبهم من الحمية والأنفة ورفع العار عن أنفسهم ما يدعوهم إلى أن يعارضوه بمثله، وكان الرجلان إذا تساجلا في الشعر والسجع أو غير ذلك وأتى أحدهما بأفصح مما جاء به صاحبه لحق الآخر من النقص والعار بينهم ما يضيق به ذرعه، وأخبر الله لما تحداهم بالإتيان بمثله أنهم لا يأتون بمثله وإن تظاهروا وتعاونوا فقال تعالى: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 3 فكان كما أخبر أنهم لم يقدروا على معارضته. وقد عاش فيهم نيفا وعشرين سنة مع حرصهم على تكذيبه وتنفير الناس عنه وتسفيه رأيه، فلو كان من جنس كلامهم لعارضوه ولم يعدلوا إلى قتاله وبذل مهجهم وأموالهم وكان تكذيب قوله بالمعارضة أسهل وأبلغ عند الخلق، ومن تعاطى معارضته بشيء من ذلك سخر منه من كان يحب تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم- وذلك مثل مسيلمة الكذاب، حين تعاطى
معارضة سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} ، فقال: "إذا زلزلت القصعت زلزالها، وأسر الغضبان أحواه"ا"1 فالقم فإن اللقم أوحى لها، وفي سورة الفيل بقوله: "الفيل وما أدراك الفيل له ذنب ونبل2 ومشفر طويل وإن هذا من كلام ربنا لقليل"3. فضحك منه أصحابه وعلموا بأنه كذاب، فعلم بذلك كله أن القرآن كلام الله أبان به صدق النبي - صلى الله عليه وسلم- فيما أتى به4 من النبوة وأنه شاهد من الله له بالصدق لأنه يستحيل من الله إظهار المعجزة على يدي الكذابين لأن ذلك يؤدي إلى قلب الأدلة وبطلانها وقد أمر الله باتباع الوحي والاستدلال له بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 5 {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} 6 وغير ذلك من الآيات. فأصحاب الحديث هم القائلون بأن القرآن كلام الله حقيقة، وهم المستدلون به على أقوالهم ومذاهبهم وعليه عمدة أمرهم وأساس بنائهم. فأما المعتزلة والقدرية فلا يصح تعلقهم ولا استدلالهم به لأنهم يقولون: إن الله لا يجوز أن يكون متكلما، ولا قائلا وإن هذا القرآن المتلو المنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مخلوق لله يقدرون على الإتيان بمثله. وإذا احتجوا بآية أو تلوها فلا يقولون إن الذي يسمع منهم هو خلق
الله كالشجر والحجر بل هو خلق لهم1 لأنه كلامهم وجميع كلامهم خلق لهم، فبطل أن يكون لهم فيه حجة أو دليل، وبطل أن يكون معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم- عندهم لأنه إنما ثبت أنه معجزة له ودليل على صدقه إذا ثبت أنه كلام الله حقيقة، وإذا لم يكن ذلك كذلك عندهم فإنما يضاف بأنه كلام الله مجازا كما يضاف قول الحوض إليه مجازا: وهو قول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني2 ثبت أن نبوته مجاز3 ليست بحقيقة فهم الداخلون تحت عموم قوله تعالى فيما أخبر عن الوليد بن المغيرة4 {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سأُصْلِيهِ سَقَرَ} 5 وتحت عموم قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} 6 وسأبين الحجة على أنه كلام الله حقيقة بعد هذا إن شاء الله.
3- فصل: الأصل الثاني الذي بنى عليه أصحاب الحديث أقوالهم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أمر الله العباد بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} 1. قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2. وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 3. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 4. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 5. وأولى الناس بالعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وإقراره هم الصحابة جميعهم - رضي الله عنهم - شهد الله ورسوله لهم بالنزاهة مما رمتهم به القدرية وغيرهم من أهل البدع وطعنوا عليهم به. وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 6 الآية. وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 7.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"1. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر"2. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-:" ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا واحدة، قالوا: يا رسول الله من هي؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي "3. ولو علم الله قرنا أطهر وأطيب منهم لبعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم-، نزل القرآن بلغتهم وعلموا سبب نزوله ومواضع النزول وأخذوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة بينهم وبينه، ونقلوا ذلك إلى من بعدهم من علماء التابعين وأخذوا
منهم كأخذ كف عن كف، كابن المسيب1 وعروة بن الزبير2 والحسن البصري3 وابن سيرين4. ثم نقل التابعون ما أخذوه عن الصحابة إلى من بعدهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"5. وأيد الله الدين بأئمة جمعوا السنن ودونوها وصنفوا كتباً في أسماء الرواة وأنسابهم ومساكنهم ونخّلوا6 عن طرائقهم في الدين، فميزوا العدل عن غير العدل عناية منهم في الدين لا للانتقاض7 بل لميزوا النقل الصحيح عن غيره فكان أصحاب الحديث هم أهل السنة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة،
وكل بدعة ضلالة "1. وقال عبد الله بن عمر: "من خالف السنة كفر"2. قال ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} 3 {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} قال: "أهل السنة والجماعة"و {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} قال: " هم أهل البدع والضلالة"4. وقال سعيد بن جبير5 في قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} 6 قال:"لزوم السنة والجماعة"7.
فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله فإن أتى بذلك علم صدقه وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف علم أنه محدث مبتدع زائغ لا يستحق أن يصغى إليه. فالمعتزلة والقدرية1 عن سنن النبي - صلى الله عليه وسلم- بمعزل لوجوه: أحدها: أنهم يطعنون على الصحابة - رضي الله عنهم - الذين بايعوا أبا بكر وعمر وينسبونهم إلى الظلم لعلي - رضي الله عنه2- وقد أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء بهم جميعاً والأخذ عنهم.
ونقل صاحب كتاب الزيدية ص (356) عن القاسم الرسي المتوفى سنة (246?) قوله: "لنا أم صديقة غضبت على أبي بكر لمنعها فدك ونحن غاضبون لغضبها". ونقل عن حفيده الهادي يحيى بن الحسين المتوفى سنة (298?) أنه قال بتخطئة أبي بكر - رضي الله عنه - في فدك بدعوى أنها كانت ملك فاطمة - رضي الله عنها- قبل وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم- الذي كان قد وهبها إياها، ويعتبر أن أبا بكر قد رد الجميل إلى عمر - رضي الله عنهما - حين عهد إليه بالخلافة من بعده، انظر: كتاب الزيدية ص 181. فهذا أغلظ كلام أئمة الزيدية في اليمن في الخلفاء، أما الباقون فهم على ما ورد عن زيد بن علي من تفضيل علي بن أبي طالب والترضي عن بقية الصحابة، فقد ذكر يحيى بن حمزة المؤيد بالله المتوفى سنة (749?) قول أئمتهم مفصلا في الصحابة في رسالة سماها (الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد المرسلين) ، ننقل من ذكر منها صاحب كتاب الزيدية ص 319 وهو قوله: التكفير والتفسيق لا يكونان إلا بدلالة قاطعة ولم يقم البرهان الشرعي إلا على الخطأ في النظر إلى النصوص دون أمر زائد على ذلك من كفر أو فسق، إنا نعلم قطعا وبالضرورة صحة أديانهم وسلامة إيمانهم واستقامتهم على الدين ومحبتهم لرسول رب العالمين ورضاه عنهم ومعرفته لهم ونصرتهم له في المواطن التي تزل فيها الأقدام، وما ورد عنه نت الثناء عليهم وشهادته لهم بالجنة ورضاه عنهم في أكثر أحوالهم… ثم ذكر بعض النصوص الشرعية في الثناء على الصحابة، ثم ذكر حال علي - رضي الله عنه - مع الخليفتين، وأنه كان لهما الوزير والمعين وكذلك الحال بالنسبة لابنيه الحسن والحسين، ثم قال: أما حال زيد فقد كان انصراف الرافضة عنه وما لزم عن هذا من قتل كان أهون عليه من أن يقبل التبري من الشيخين قائلا: كيف أتبرأ منهما وقد كانا وزيري جدي وصهريه، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم-، كذلك فإن الأمر من محمد النفس الزكية وإبراهيم ويحيى ابني عبد الله ولو قد سبوهما لما تابعهم أكابر المعتزلة لأن لعن الصحابة عندهم يبطل العدالة فضلا عن الإمامة، وسئل جعفر الصادق عن أبي بكر فقال: ما أقول فيمن أولدني مرتين (يعني بذلك أن أمه فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فجده لأمه وأم أمه أبو بكر رضي الله عنه) ، وكان الناصر للحق يملي أحاديث مروية عنهما بالترضية عليهما فلما كف المستملي من كتابة الترضية زجره الإمام قائلا: لم لا تكتب (رضي الله عنهما) ، إن هذا العلم لا يؤثر إلا عنهما أو عن أمثالهما. فخلص من هذا إلى أنه لم يؤثر عن أمير المؤمنين ولا عن أحد من أئمة أهل البيت بكفر أو فسق أحد من الصحابة، وأن الإقدام على الاكفار والتفسيق من غير بينة وعلى غير بصيرة إثم كبير، بينما التوقف فيهم ليس إقداما على محظور، وليس التوقف مذهبا وإن كان مذهب الهادي والقاسم والمنصور، وإنما الترضية، لأنا رضينا على من رضي الله ورسوله عليهم حيث قال فيهم الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وقال: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} وقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَان} . إن مذهبنا الذي نحب أن نلقى الله ونحن عليه: أن الإمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- هو علي بن أبي طالب مع حسن الظن في الثلاثة الذين تولوا قبله، فما فعلوا ذلك جرأة على الله بل على سبيل الخطأ في النظر، وما خطؤهما في مخالفة النصوص بكبيرة ولا صغيرة لما اشتملت عليه النصوص من دقة وغموض، وما كان إقدامهم على مخالفة النصوص جرأة على الدين وأنهم يدخلون الجنة لما ورد فيهم من الأخبار. ولقد قال الإمام المنصور: "إن أئمة الزيدية وعلماءها متابعون للجارودية، غير أن غرضه أنهم متابعون لهم في القول بالنص الخفي على علي لا فيما ورد عن أبي الجارود من تفسيق الصحابة فذلك ما لم يرد عن أحد من أئمة الزيدية". وقال الهادي يحيى بن الحسين في كتاب الأحاكم: "من أنكر النص على أمير المؤمنين فقد كذب الله ورسوله ومن كذب الله ورسوله فقد كفر بالله ورسوله". ولكن هذا القول من الهادي محمول على من أنكر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم-: "من كنت مولاه فعلي مولاه " وليس محمولا على الصحابة، وإلا فكتاب الأحكام محشو بالرواية عن الصحابة وعن أبي بكر وعمر ولو قد كفرهم أو فسقهم لما نقل عنه لأن الكافر أو الفاسق ساقط العدالة ولا يوثق بقوله. انتهى. وبهذا النقل المطول يتضح أن أكثر أئمة الزيدية في اليمن على مذهب زيد في عدم الطعن في الصحابة ما عدا الكلام الذي سبق ذكره عن القاسم والهادي وقد اعتذر عن الهادي المؤيد بالله بما سبق ذكره عنه، والله أعلم.
والثاني: أنهم يطعنون على أصحاب الحديث بعدهم، وقد صرح هذا الرجل المعترض بدامغه هذا، فقال: أصحاب الحديث حمال أسفار أو أسمار1. وهم الواسطة بيننا وبين نبينا ولم يتصل2 إلينا القرآن الذي هو أصل السنة إلا منهم. والثالث: أن السنة فرع للقرآن لأن نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم- إنما ثبتت بثبوت معجزته ولا معجزة له فينا باقية إلى يوم القيامة إلا القرآن الذي هو كلام الله القديم3.
وإذا كان القرآن عند القدرية مخلوقا كسائر كلامهم لم يثبت فرعه، وهو السنة. والرابع: أن المعروف منهم اجتناب النقل والرواية عن المشهورين بالنقل ولا عندهم كتب فيها سند صحيح كنحو الكتب المشهورة في الأمصار كالبخاري ومسلم1 والترمذي، وسنن أبي داود2 وغير ذلك من التصانيف التي أجمع أئمة الأمصار على روايتها والاحتجاج بها وإنما عندهم خطب وكتب مزخرفة ينسبونها إلى أهل البيت وهم عنها3 برءاء كما اشتهر عنهم من القول بخلافها، ومعتمدهم كلام المتكلمين في الأعراض والجواهر والأجسام4. والوجه الخامس: أن القدرية إذا روي لهم خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- عارضوه بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله وعلى عقولكم فإن وافق ذلك وإلا فارموا به"5. وهذا الخبر ليس بصحيح لأنا لو عرضناه على كتاب الله لم نجد ما يوافقه ولو عرضنا الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في مواقيت الصلاة وأعداد
الركعات وغير ذلك من الأحكام التي نقلت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- نقلاً متواتراً وأجمع العلماء عليها على كتاب الله أو على العقل لم نجد ما يوافقها1 فعلم بذلك أن هذا الخبر لا أصل له، وإنما دعاهم إلى ذلك عجزهم عن ضبط الأحاديث.
4 - فصل: الأصل الثالث: الإجماع وهو إجماع علماء العصر على حكم الحادثة 1. وهو حجة في الأحكام الشرعية، وقال بعض المعتزلة: الإجماع ليس بحجة2. والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 3. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ} 4. وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 5. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على خطأ"6. والأدلة في ذلك كثيرة.
فالقائلون بهذا الأصل هم أهل السنة الذين أفنوا أعمارهم بحصر أقاويل العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة الأعصار. كلما ذهب قرن أيد الله الذين بعدهم بقوم على صفتهم بذلك، والمعتزلة والقدرية من هذا بمعزل لوجهين: أحدهما: أنه لا يعتبر إلا1 إجماع الفقهاء، والفقه هو: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، ولا يعتد بخلاف أهل الكلام الذين لا معرفة لهم إلا بالجواهر والأجسام والأعراض، وهذا علم القدرية، ولا ينقل ذلك عن الصحابة والتابعين2. الثاني: أن أول عصر العلماء هم الصحابة - رضي الله عنه - وهم يطعنون عليهم على ما مضى3 فكيف يسوغ لهم النقل عنهم.
5- فصل: الأصل الرابع: هو القياس وهو أدلة العقل1. وهو أصل من أصول الأدلة عندنا في العقليات والسمعيات، ولكنه غير موجب بنفسه بل الموجب والمحسن والمقبح هو الشرع2. والعقل آلة للتمييز بين الصحيح والباطل، ولم يكلف الله المعرفة به إلا من له عقل3 ولكنه تابع للشرع، ولم يلتزم القدرية بشيء من الأصول الأربعة إلا بالعقل إلا أنهم غلوا فيه وجعلوه عمدة أمرهم وأساس بنيانهم وركبوا فيه طرقا وعرة، وجعلوا مات ورد في الكتاب والسنة تابعا لما في عقولهم فإن وافقهم وإلا رموا به4.
وهذا خلاف قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 1 وغير ذلك من الآيات. وسأبين ما تبعوا فيه العقل وخالفوا فيه الكتاب والسنة
6- فصل: معرفة الله وجبت بالشرع، ولو لم يبعث الله الرسل لم يجب علينا معرفة الله ولا عبادته. ولكن لما أرسل الله الرسل لم نعلم صدقهم إلا بالنظر بمعجزاتهم1. وعرفنا الله تعالى بالعقل. وقالت المعتزلة والقدرية: معرفة الله وجبت بالعقل ولو لم يبعث الله الرسل لكان في العقول ما يدل على توحيدهم لله سبحانه2. وهذا نفس قول البراهمة الذين قالوا بإبطال الوسائط 3. والدليل على بطلان قولهم قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 4
وقوله تعالى: {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1. فقال بعد الرسل ولم يقل بعد العقل. وأي طريق في العقل يؤدي إلى تحريم ما حرم الله وتحليل ما أحل الله وما الفرق بين العمة وبنتها في النكاح.
7- فصل ومن أصول القدرية الفاسدة التي بنوها على عقولهم الفاسدة وخالفوا بها الكتاب وإجماع المسلمين قولهم: إن المعدوم شيء1. وعندنا: أن اسم الشيء لا يقع إلا على الموجود فالموجود هو شيء والشيء هو الموجود. وعند أهل اللغة: أن المعدوم لم يستحق اسماً لعدمه وما يقوم به. والقدرية: قائلون بقدم العالم، فعبروا عنه بقولهم المعدوم شيء والعالم في حال عدمه كهو في حال وجوده، وأن الله لم يتقدم الأشياء في كونها أشياء2. وهذا قول الدهرية: الذين أخبر الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 3.
وهو كفر لا إشكال فيه على من له فطنة صحيحة. والدليل على فساد قولهم، قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} 1 وقوله تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} 2. وقد احتج النبي - صلى الله عليه وسلم- على من قال بالعدوى، وأنه يتولد شيء من شيء بقوله: "فمن أعدى الأول "3.
8- فصل وعند المعتزلة والقدرية لا تصح المعرفة بالله لأحد إلا بالأدلة التي رتبها المتكلمون في الجواهر والأعراض، ولا يكون المؤمن مؤمناً حتى يعرف ستة أبواب وضعها الفلاسفة وهي: معرفة الجواهر الأعراض والأجسام، واستحالة الظهور والكمون عليها1، واستحالة عرو الأجسام والجواهر عن الأعراض، والبقاء، والمداخلة، والمجاورة2. وقد أظهر هذا الرجل بدامغه الإنكار عليّ بقولي في الرسالة: تركت الاستدلال بأدلة المتكلمين، ولا شك أن رأيه بذلك رأي أسلافه. واعتماد أهل السنة وأصحاب الحديث في الاستدلال على الله تعالى
وعلى صفاته وعلى البعث إنما هو بما أرشد الله إليه في القرآن، لأن الله سماه شفاءاً وبياناً بقزله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1 وقوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} 2 وليس بعد بيان الله بيان ولا بعد شفائه شفاء، وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم- أن يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 3. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} 4 ونبه الله العباد على الاستدلال عليه بقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 5. وبقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الألْبَابِ} 6، وبقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} إلى قوله: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} 7. ومن خلق الله فيه أذناً فطنة، وأمده الله بالتوفيق إذا نظر ابتداء خلقه من نطفة وتنقلها من حالة إلى حالة إلى أن تصير لحماً وعظماً وعصباً ودماً وصوراً مختلفة، وما ركب فيها من السمع والبصر والشم والروح، وتغذيته في بطن أمه الذي أوصل إلى كل عرق وعضو من الغذاء ما يقوم به، وتنميته على التدريج في المادة التي لو أراد ذلك في لحظة لأمكنه، وإخراجه له من مكان ضيق، وما جعل فيه من الشهوة للغذاء التي يقوم بها جسده وما ركب به من الإلهام الذي يقصد به حين يولد إلى ثدي أمه ويمتص اللبن ويعلم أن
بالمص اللبن إلى بطنه، علم أن لذلك صانعاً صنعه ومدبراً دبره1. وقد ضرب الله المثل بالبعوضة مع صغر خلقها ووهن قوتها، فمن فكر في نفسه في صغر خلقها وتقدير أعضائها وأجزائها والإلهام المركب فيها حتى حصل لها به المعرفة لمنافعها ومضارها، فلو أراد العاقل أن يعرف كيف ركب الإلهام فيها حتى عرفت أن بين جلد الإنسان ولحمه دماً هو غذاؤها ولولا معرفتها بذلك لم تقصد إلى مص الجلد ثم تديم المص إلى أن يخرج لها ذلك الدم، وكيف الإلهام الذي عرفت به أن في وقع الكفّ عليها تلفها، وكيف حذرها ومعرفتها بأن في الفرار من وقوع الكف عليها نجاة لها، وكيف هيئتها التي قصدت بها الطيران والفرار، لم يقدر على إدراك ذلك فيعلم بذلك أن لها خالقاً ومدبراً دبر هذا الصنع العجيب فيها. ومن نظر إلى السماء وحسن خلقها واتساقه وعدم الفطور فيها، وإلى الشمس والقمر والنجوم الجارية فيها بلا فتور على نظام متسق في أوقات مختلفة متراخية، أو نظر إلى الأرض وما فيها من الجبال والرمال والأشجار والثمار والزروع المختلفة في المنظر والطعم والريح علم أن لها محدثاً وخالقاً ومدبراً دبرها، ومن توهم بنفسه أو تصور بعقله أن هذا كله أو بعضه وجد بغير صانع صنعه ولا موجد أو جده نسب إلى الجهل والحماقة، كما ينسب إلى الجهل وقلة العقل من كان بين يديه تراب وتصور عنده أنه يصير بنفسه طيناً ثم لُبْناً ثم داراً مبنية بغير صانع يصنعه من بني آدم، يستدل بما شاهد من الدور المبنية والصُنَع المتقنة ومشاهدته لمن يصنع ذلك على أن خلق السموات والأرض وما فيهن من الصنع المتقن من صانع صنعها، واستدل بإتقان الصنع بذلك على أن صانعها عالم بما صنع وقادر على2 ما صنع، إذ لا يتأتى الصنع العجيب المتقن ممن لا علم له ولا قدرة على ما صنع،
واستدل بتقديم ما تقدم منها وتأخر ما تأخر منها على أن صانعها مريد لما صنع وأن له إرادة. واستدل على أنه حي بأن الأفعال المحكمة المتقنة لا تتأتى من الجماد والموت. واستحال أن يكون الفاعل الحي العالم القادر المريد موصوفاً بصفات النقص وهي: الصمم والعمى والخرس، ويتعين وصفه بضد ذلك وهو السمع والبصر والكلام، وقد وصف نفسه بذلك في القرآن1. ويستدل على البعث من القبور بالآيات التي أرشد الله الخلق إليها بالاستدلال على ذلك فمنها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 2. فنبه الله الخلق على الاستدلال بإعادته الخلق بابتدائه لخلقهم لأنهم قد أقروا بأنه خلقهم ابتداءً والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3 وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} 5. وقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 6.
قال الضحاك1: ليس شيء من خلق الله إلا هو يطيعه في التسبيح والسجود والحياة والموت والنشور وإن كانوا عاصين له فيما سوى ذلك من العبادة2. وتأويل الآية أنه إذا قدر على خلقه في الابتداء في بطن أمه نطفة ثم علقة ثم مضغة بغير مثال سبق فهو على إعادة خلقه أقدر ثم قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، والهين السهل الذي لا مشقة فيه من العمل. وقد اختلف الناس في الهاء وهي الضمير في عليه فقال قوم: الهاء عائد على الله أي هين عليه الابتداء والرجوع، قال مجاهد3: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال: "خلق الإنسان في الابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة فإذا أعاده فإنما يقول له كن فيكون"4.
وقال قوم: الهاء عائدة على الميت لأن إعادته هينة عليه وهو أهون من خلقه طوراً بعد طور، وقال السدي1: "ليس يشتد على الله ولكن يعني به المخلوق أي يصاح به ويقوم سويا"2. وقال قوم: الهاء لله ومعناه وهو عليه عندكم فيما تعالجون أنتم لأن الإنسان إذا أراد أن يعمل عملاً فكر فيه وتثبت فيه كيف يعمله طويلاً أو قصيراً فإذا عمله ثم أراد إعادته رده بلا تفكر ولاتثبت، أي فأنتم قد أقررتم بابتداء الخلق وهو عندكم أشد من إعادته فمن أقر بابتداء الخلق فهو أحرى أن يقر بالإعادة3. ومثل هذه الآية في الاستدلال قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} 4. وسبب نزول هذه الآية أن أبي بن خلف بن وهب الجمحي، أخذ عظماً قد نخر بيده وجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا محمد تزعم أن الله يحي الموتى بعد أن كنوا عظاماً بالية وترابا، أترى الله يحي هذا بعد أن أرم
وجعل يفتته بيده، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم-: "يحي الله هذا ويميتك ثم يبعثك ثم يدخلك نار جهنم", فأنزل الله تعالى هذه الآية: {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} الآية1. فاحتج الله عليهم بابتدائه لخلقهم الذي أقروا به وأنه يحييهم بعد أن صاروا عظاماً رميما كما أنشأهم أول مرة ثم أخبر عن صنعه الذي يشاهدونه فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً} . أي الذي أخرج النار وهي حارة يابسة من الشجر الأخضر الرطب وهما ضدان فلا النار تحرق الشجر ولا رطوبة الشجر تطفئ النار2 وكل عود يقدح منه النار إلا من عود العُنّاب3 فإنه لا يقدح منه النار.
فمتى حصل للإنسان المعرفة بالله وبصفاته وعلم أن من جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم- حق، حصلت له المعرفة وأدنى المعرفة ما لا يجامعها الشكوك، وأعلى معارف الخلق لله معارف الأنبياء والملائكة لله وهم بذلك متفاضلون1. ولم يكلف الله الخلق أن يعرفوه كمعرفته لنفسه ولا كمعرفة الأنبياء له بل إذا حصلت للإنسان المعرفة بالأدلة من القرآن أو أخذ ذلك بالتلقين من أبويه في الصغر أو بتقليده العلماء والصالحين في صغره ثم بلغ وصمم على هذه العقيدة فإنه مؤمن كامل الإيمان2 وإن لم يحصل له المعرفة بالأدلة التي رتبها المتكلمون ووضعوها، بل قد صرح العلماء من أهل الحديث والفقهاء المشهورون بتحريم الكلام، وقالوا: هو محدث وبدعة في الدين، وقالوا: لو كان طريقاً صحيحاً لمعرفة الله سبحانه لنبه الله سبحانه عليه في القرآن ولأمر النبي - صلى الله عليه وسلم- به وتكلمت به الصحابة رضي الله عنهم. وقد علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم- أصحابه الاستنجاء ودلهم على جميع الأحكام فلو كان الكلام من مهمات الدين لنبه النبي - صلى الله عليه وسلم- عليه. وروي عن الشافعي3 أنه قال: "لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا
الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام"1 وسئل الشافعي - رحمه الله - عن شيء من الكلام فغضب وقال: "سل عن هذا حفص الفرد 2 وأصحابه لعنهم الله"3. ودخل حفص الفرد على الشافعي - رحمه الله - وهو مريض فقال حفص: من أنا؟ وكان من المتكلمين فقال: "حفص لا حفظك الله ولا رعاك حتى تتوب مما أنت عليه"4. وقال الشافعي: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة إلى الكلام"5. وقال أحمد بن حنبل6: "لا يفلح صاحب الكلام أبداً ولا يكاد أحد نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل"7. وقال أحمد: "علماء الكلام زنادقة"8.
وقال أبو يوسف1: "من طلب العلم بالكلام تزندق"2. وقال الحسن البصري: "لا تجالس أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم"3. وروي أن رجلاً4 كان يتهم بالإرجاء فقال لمالك5: "يا أبا عبد الله اسمع شيئا مني، أكلمك به وأحاجك قال مالك: فإن غلبتني قال: تتبعني، قال مالك: فإن جاءنا آخر فغلبني وإياك، قال: تبعناه، فقال مالك: بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم- بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين"6. قال الغزالي7 - رحمه الله - وهو ممن عرف الكلام وخبره: "ما يشوشه الكلام في الدين والجدل أكثر مما يمهده وما يفسده أكثر مما يصلحه، وتقوية المعرفة بالكلام يضاهي ضرب الشجر بالمرقة من الحديد رجاء تقويتها، فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين، فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا يحركه شيء، وعقيدة المتكلم الحارس
عقيدته بتقسيمات الجدل كخيط مرسل في الهواء تفيئه الريح مرة هكذا ومرة هكذا"1.
......................... وحجج القرآن والسنة لا يدفعها ويردها إلا صاحب هوى أو عناد كما أنها مأمونة العاقبة على المستدل بها، أما الكلام فإنه غير مأمون العاقبة على المستدل به كما ذكر الغزالي وهو حجة في هذا وقد ذكر هذا الأمر أيضا كثير ممن ابتلوا بالكلام وبلغوا فيه الرئاسة والتقدم فقد ذكر شارح الطحاوية ص 227 عند قول الطحاوي: "فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائها شاكا - رحمه الله - مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً" نقل الشارح بعد هذا الكلام اعترافات أساطين الكلام بفساد الكلام وحيرتهم، فنقل ذلك عن ابن رشد الفيلسوف والآمدي المتكلم والرازي والشهرستاني والجويني وشمس الدين الخسروشاهي من كبار تلاميذ الرازي وابن أبي الحديد صاحب شرح نهج البلاغة وأبي عبد الله محمد بن ناماور الخونجي، وفي هؤلاء العبرة والعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، والمراد بأدلة المتكلمين ومناهجهم هو كل دليل ومنهج في الاستدلال على الخالق وصفاته والأمور الغيبية لم يرد له أصل في الشرع، وإنما هو مأخوذ من كلام الفلاسفة الذين أكثروا في الإله من غير قواعد شرعية ولا مناهج إلهية، ومن ذلك قولهم في الاستدلال على حدوث العالم: إن العالم متغير وكل متغير حادث وكل حادث مخلوق ونحو ذلك مما يوصل في حالة تعميمه إلى إنكار وردما جاء به الشرع، كإنكار الصفات أو تأويلها، أو إنكار القدر والشفاعة، وإخراج أحد من النار إلى غير ذلك مما هو معلوم من أقوال المبتدعة والمتكلمين.
9- فصل ومما خالفت به القدرية والمعتزلة الكتاب والسنة وأهل الحديث وركبت العناد فيه أن قالوا: ليس لله حياة ولا إرادة ولا قوة ولا سمع ولا بصر ولا كلام وردوا ما جاء به القرآن من إثبات الوجه واليدين لله1. قال هذا الرجل بخطبة دامغه المنقلب عليه: استغنى الله بذاته عن كل مجهول من الأشياء ومعروف2 لا يحتاج في الاتصاف بأوصاف الكمال والاستحقاق لا سيما3 العزة والجلال. وهذا متابعة منه لأسلافه من المعتزلة في نفي هذه الصفات عن الله، ونسب أهل السنة لماّ وصفوه بذلك إلى الكذب. واستدل على قوله هذا بأن قال: كأنهم لم يسمعوا الله يقول وهو أصدق القائلين: {هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 4. ودليلنا على إثبات هذه الصفات لله تعالى قوله تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} 5.
وقوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} 1. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 2. والقوة القدرة وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} 3، وقوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} 4. والدليل على إثبات الكلام له قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 5، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 6. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من ينصرني حتى أبلغ كلام ربي" 7. والدليل على إثبات السمع والبصر ما أخبر الله عن إبراهيم أنه قال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} 8. ولو كان إله إبراهيم لا يسمع ولا يبصر لكان دليله منقلباً عليه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم- في دعائه: "يا من وسع سمعه الأصوات"9.
والدليل على إثبات الحياة قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 1، فوصف الله سبحانه نفسه بأنه يسمع ويبصر ويتكلم وأنه حي، وحقيقة الموصوف بصفة ثبوت الصفة له وليس بين الموصوف بهذه الصفات وبين الموصوف بضدها وهي: الموت والعجز والجهل والعمى والصمم والخرس فرق إلا ثبوت هذه الصفات وعدمها، كما أنه موصوف بالوجود لئلا يكون موصوفاً بضده وهو العدم، وأما إثبات الوجه واليدين فإنه إثبات صفة لا إثبات جارحة له2 كما أثبتته المجسمة3. ولا نفسر ذلك كما فسرته الأشعرية4، ولا ننفي ذلك كما نفته القدرية. والدليل على ذلك قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} 5. وقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} 6. وقال الله لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 7، وأراد الله بذلك إظهار الفضيلة لآدم على إبليس.
وأما قول هذا المخالف إنه لا يحتاج في الاتصاف إلى آخر كلامه. فإن أراد بقوله هذا أنه يحتاج ويفتقر فلسنا نقول إنه يوصف بالحاجة والافتقار، وإن أراد أنه لا يوصف بصفة العزة والجلال فغير صحيح، لأن الله وصف نفسه بكتابه بذلك فقال: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} 1 وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} 2، ولا يوصف بالعزة والجلال إلا من له العزة والجلال. وأما الجواب عن استدلال القدري على عدم هذه الصفات لله تعالى بقوله {هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ... } 3 الآية. فإنه يقال له ولأهل مذهبه في كل دليل يستدلون به بأنه من كتاب الله قولك: قوله: {هُوَ الْغَنِيُّ} أهذا قول الله حقيقة، أو هو قولك حقيقة وقول الله مجازاً؟ فإن قال: بل هو قول الله حقيقة، فقد رجع عن قوله بأن القرآن مخلوق4 وقلنا الدليل على إبطال تأويلك لهذه الآية من وجهين: أحدهما: أن نقول: لو كان قوله تعالى: {هُوَ الْغَنِيُّ} دليلا على عدم ثبوت هذه الصفات لله حقيقة لبطل أن تكون هذه الآية قولا له حقيقة5 لأن قوله من صفاته وإذا لم تكن قولا له حقيقة لم تكن دليلا على عدم إثبات صفته لأنه يؤدي ثبوت كونها دليلا6 إلى عدم ثبوتها، وما أدى ثبوته إلى بطلانه بطل ثبوته، وهذا من التنافي الذي لا يعقله إلا العالمون.
ثم يعارض هذا التأويل بالنص على ثبوت هذه الصفات على ما مضى1. والوجه الثاني من الاستدلال أن نقول: هذه الآية واردة على سبب، وذلك أن اليهود قالت: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت قريش: الملائكة بنات الله، وأخبر الله عنهم بذلك بقوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} فنزه نفسه عن قولهم هذا، ثم قال: {هُوَ الْغَنِيُّ} أي عن الولد، وأخبر أن الجميع ممن نُسب أنه ولد له ملك له، فقال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي حجة أن له ولداً {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2 فإذا ثبت أن الآية نزلت على هذا السبب كان تأويل هذا المخالف على ما ذكر مما يوافق مذهبه تبديلا، وإن تجاهل هذا الرجل وتجاسر بالتصريح عن مذهبه وقال بل قوله: {هُوَ الْغَنِيُّ} ليس بقول الله حقيقة وإنما هو قولي حقيقة3. قلنا عن قوله هذا جوابان: أحدهما: بأن نقول له: إذا لم يكن هذا قول الله حقيقة فلا جواب لك علينا، لأنا إنما يلزمنا الجواب عن الاحتجاج بقول من قوله حجة4 وهو الشارع، فأمّا قول غيره فليس بحجة.
والثاني: أن نقول له: فإذا لم تكن هذه الآية وغيرها قول الله حقيقة فكيف ساغ لك أن تقول: قال الله، وهو كذب وباطل أنه ليس بقول له، وقد شنعت على خصمك بالكذب حين أثبتوا هذه الصفات لله، وهم إنما قالوا كما قال الله، ونطالب هذا القائل وغيره من أهل مذهبه عند الاحتجاج بالقرآن بالتصريح بأي القسمين ليرجع إلى الحق، بأن القرآن قول الله حقيقة، أو بأن القرآن قوله وخلقه، ليتبين كفره، ونقول له إذا صرح بذلك: فمن القائل: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 1، ومن القائل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} 2.
10- فصل وقد سمى هذا المعترض نفسه وأهل مذهبه أهل العدل، وسمى أهل الحديث الحشوية1 لاستدلالهم بالأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم-، فيقال له: أما تسميتك وأهل مذهبك لأهل الحديث (الحشوية) ، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم-: "يأتي في آخر الزمان قوم من الزنادقة يسمون أمتي الحشوية لاتباعهم الأخبار"2. وأما تسميتهم لأنفسهم بأهل العدل: هذا اسم لقب فيهم غير مشتق من معنى موجود فيهم بل ضده3.
وقد تسمي العرب الشيء بضده كما قالوا في المهلكة: إنها مفازة، وكما قالوا في تسميتهم للغراب بـ: أبي البيضاء، وتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم- لهم بالقدرية1. والزنادقة2 هو الاسم الحقيقي لأن الله أخبر أنه لا ينطق عن الهوى إن هو3 إلا وحي يوحى.
11- فصل روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- خرج يوماً فإذا ناس من أصحابه على بابه يخوضون في القدر، فسمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم- فغضب حتى كأنما فقيء في وجهه حب الرمان، فقال - صلى الله عليه وسلم-: "ألهذا خلقتم أم بهذا أمرتم؟ إنما هلكت الأمم قبلكم بمثل هذا انظر الذي أمرتم به فاعملوا به وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه "1. فهذا الخبر وما أشبهه من الأخبار الواردة في النهي عن الخوض في القدر محمول على الكلام الذي تكلمت به القدرية، كيف خلق الله المعاصي ونهى عنها وعذب عليها. وكما تعرض عزير2 لذلك فقال: "يارب كيف خلقت الخلق وتعلم أنهم لا يؤمنون ولم تجعل الخلق كلهم طائعين وأنت
تقدر على ذلك، وقال: اللهم إنك رب عظيم لو شئت أن تطاع لأطعت ولو شئت أن لا تعصي لما عصيت وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يارب"؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون، ونهاه الله عزوجل عن الكلام بذلك فأبت نفسه فمحى الله اسمه من النبوة1. فهذا الوجه من الكلام هو المنهي عنه، فأما القول بأن الأشياء كلها بإرادة الله وخلقه وأن أحداً لا يمنعه عن إرادته وما أشبهه من الكلام فليس ينهى عنه وقد تكلم آدم وموسى في القدر بمثل ذلك2 وتكلم به جبريل وميكال3
وتكلم به أبو بكر وعمر وتكلمت به الصحابة1. روي عن ابن الديلمي2 أنه قال: قلت لأُبي بن كعب: إنه وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بحديث لعل الله أن يذهب ذلك عن قلبي فقال أبي: "إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما لم يكن ليصيبك، وإن مت على غير هذا مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم". قال: "فأتيت ابن مسعود وسألته فحدثني بمثله، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فحدثني بمثله، وكلهم يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم"3.
12- فصل وقد أظهر القدري المعترض على كلامي في الرسالة الإنكار وأكثر التعنيف لما ذكرت فيها أنها نصيحة للمسلمين، فأورد كلاماً كثيراً عمدته أن قال: إن كانت هداية المقصودين بالنصيحة إن اهتدوا أو ضلالتهم إن ضلوا من الله وخلقا له كما في مذهبك فأي فائدة بنصيحة من نصحهم؟ وإن كان لكلام الناصح تأثير في إرشادهم فقد خرج من مذهبه، وإن كان لا تأثير له فلا فائدة به، وكذلك إن كان كلام خصمه الذي نهوا عن استماعه خلقاً لله فأضلهم الله به فأي ذنب على خصمه؟. والجواب أن يقال له: قد ورد الشرع بالنصيحة لدين الله والمسلمين. روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "رأس الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ فقال: لله ولرسوله ولدينه ولأئمة المسلمين وللمسلمين عامة"1. وأمر الله نبيه بتذكير العباد فقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 2. وقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} 3. فالنصيحة والتذكير من الناصح والمذكر هو كسب له مأمور به ومندوب إليه ويثاب عليه، والهداية للمنصوح بقبول ذلك والعمل بموجبه تفضل من الله على
13- فصل ذكرت في الرسالة أخباراً ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في الصحاح1 وهو قوله - صلى الله عليه وسلم-: "لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم"2 وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم شيعة الدجال"3.
وقال - صلى الله عليه وسلم-: "صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي المرجئة والقدرية"1. فلما نظر الزيدي المخالف هذه الأخبار علم لا محالة أنه هو وأهل مذهبه هم المرادون بهذه الأخبار أخذته العزة بالإثم وأطلق لسانه بالأذية والشتيمة لأصحاب الحديث، وذلك لما لم يمكنه رد هذه الأخبار، وادعى أن المراد بهذه الأخبار هم أهل الحديث الذين يثبتون القدر لله وينفونه عن أنفسهم2، واحتج على ذلك بأخبار لا تعرف بشيء من الأصول المشهورة عند الأئمة فقال: روى حذيفة وأنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "صنفان لا تنالهما
شفاعتي لعنهم الله على لسان سبعين نبيّاً القدرية والمرجئة. قيل يا رسول الله: ومن القدرية؟ قال الذين يعملون المعاصي ويقولون هي من قبل الله"1. والجواب أن يقال له ولأهل مذهبه: إذا أدلوا بالاحتجاج بشيء من الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أو الصحابة - رضي الله عنهم - "ليس بعشك فادرجي"2 اعتمادكم على تحكيمكم العقل، وتسمون أهل الحديث الحشوية3 لاحتجاجهم بالأخبار فكيف تشاركونهم الاحتجاج بها، ثم يقال لهم: الأخبار إنما يحتج بها إذا صح إسنادها. قال عبد الله بن المبارك4: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"5 فإذا قيل له من حدثك بقي متحيراً. وقال ابن سيرين: "كان الناس في الزمن الأول - يعني عصر الصحابة والتابعين - لا يسألون عن الإسناد لكونهم أهل سنة، فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد ليميزوا رواية أهل السنة من رواية أهل البدعة"6. فعلى هذا المستدل أن يثبت سند هذا التفسير7، فإن هذا التفسير لا يعرف عن أحد من أهل النقل الذين أرصدوا أنفسهم لجمع السنن واختلاف
الألفاظ في الروايات حتى إن كثيراً منهم اعتمد على نقل ما سمع من غير زيادة حرف ولا نقصان حرف معولين على قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمع "1، ومنهم من اعتمد على نقل المعاني وتساهل باللفظ الذي لا يخل بالمعنى2 معولين على قوله - صلى الله عليه وسلم- " إذا أصبت المعنى فلا بأس"3، وصنفوا بذلك كله كتباً مشهورة لا ينكرها إلا من لا يعتد بخلافه في الأخبار وفي الرواة وأنسابهم وحلاهم4 ومساكنهم وحرفهم حتى لا يشتبه الواحد منهم بغيره يرويها ثقات عن ثقات إلى وقتنا هذا، ولذلك سموا أهل الحديث وأهل السنة، وسماهم القدرية لذلك (الحشوية) لينفروا أتباعهم عنه، وإلا فليظهر القدرية لهم كتباً محبرة هذا التحبير5 ومنظومة على هذا النظم فإذا ذكر فيها هذا التفسير لزمنا الجواب
عنه، فأما اختراع الكذب والباطل على ما يوافق مذهبهم فلا تقوم به حجة ولا ينقطع به خصم بل يجري مجرى رواية اليهود عن موسى بن عمران - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "شريعتي مؤبدة لا تنسخ " لقنهم ذلك ابن الراوندي1 فقيل لهم: هذا شيء باطل، لأنه لو كان صحيحاً لاحتجت به اليهود على النبي - صلى الله عليه وسلم- لأنهم أقرب إلى موسى منكم، ثم يقال لهذا المخالف: تروي عن حذيفة وأنس وابن عمر وغيرهم من الصحابة وأنت وأسلافك تطعنون عليهم وتكفرونهم لبيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان وتركهم لعلي - رضي الله عنهم2-؟ وكيف يسوغ لك الرواية عنهم؟، وأيضاً فإن الأخبار والقرآن لم يتصل لنا العلم به عن الصحابة إلا من أصحاب الحديث، وقد صرحت بالطعن عليهم بقولك: "هم حمال أسفار أو أسمار3 لا يميزون بين الصحيح والسقيم والحق والباطل". وهذا قول شنيع لا يقبله إلا من لا بصر له، فما حمل هذا المخالف على الاحتجاج بالأخبار التي أوردها إلا ليري العامة الذين يطلب استمالة قلوبهم أن له تعلقاً في الأخبار وهو عن هذا الباب بمعزل، ثم يعارض هذا التفسير الذي ذكر بتفسير منقول في الصحاح التي اتفق على صحتها أئمة الأمصار4 وهو ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله أربعة على لسان سبعين نبيّاً أنا آخرهم، قلنا: من هم يا رسول
الله؟ القدرية والجهمية والمرجئة والرافضة، قلنا يا رسول الله ومن القدرية؟ قال: الذين يقولون الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم ألا وإن الخير والشر من الله، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله، قلنا: يا رسول الله فمن الجهمية؟ قال: الذين يقولون القرآن مخلوق ألا وإن القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله، قلنا يا رسول الله: فمن المرجئة؟ قال: الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل، ألا إن الإيمان قول وعمل من قال غير ذلك فعليه لعنة الله. قلنا: يا رسول الله، فمن الرافضة؟ قال: الذين يسبون أبا بكر وعمر، ألا فمن أبغض أبا بكر وعمر فعليه لعنة الله"1. وهذا المخالف وأهل مذهبه يقولون بقول الجهمية2 والرافضة3 بخلق
القرآن وسب أبي بكر وعمر مع قولهم بأن الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم فيحق فيهم الوعيد من جميع الجهات. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "يكون في آخر الزمان قوم يكفرون بالله ولا يشعرون فقيل: يا رسول الله وكيف يقولون؟ قال: يقولون الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم "1، وهذه نصوص في موضع الخلاف.
14- فصل احتج هذا المخالف بدامغه بما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال للشيخ الشامي الذي سأله عن مسيره إلى الشام، أكان بقضاء من الله وقدر: "لعلك ظننت قضاءاً لازماً وقدراً حتما لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب"1، هذه نكتة قوله ومعتمده من الخبر. فالجواب: أنه لو صح هذا عن علي - رضي الله عنه - لم يلزم علينا بهذا حجة، فإنما يلزم الحجة بذلك على المجبرة2 الذين يقولون لا كسب للعبد بفعله ولا صانع له، وهذا يدل على انه لا فهم عند هذا المخالف في الفرق بين المقالتين، ثم تعارض هذه الرواية برواية صح إسنادها عن علي - رضي الله عنه - قال: "الأعمال ثلاثة: فرائض، وفضائل ومعاصي، فأما الفرائض فبأمر الله وبمشيئة الله وبقضاء الله وقدره وبرضاء الله ومحبته وتخليق الله وبإذن الله وبعلمه، ثم يثاب العبد عليه، وأما الفضائل فليست بأمر الله3 ولكن بتحضيض الله، وبمشيئة الله وبقضاء الله وقدره وبرضا الله وبمحبة الله وبإذن الله وبعلم الله وتخليق الله ويثاب العبد عليه، وأما المعاصي فمشيئة الله ليس بأمر الله4 وبقضاء الله ليس برضا الله وبقدر الله ليس بمحبة الله
وبتخليق الله ليس بتحضيض الله وبعلم الله ليس بإذن الله1 ثم يعاقب العبد عليه"2 وهذا يدل على صحة قولنا. واحتج هذا المخالف بحديثين أحدهما عن ابن عمر والآخر عن الحسن البصري، انهما فسرا القدرية (هم الذين يقولون الخير والشر من الله) . والجواب أن هذا لا يصح عنهما ولم يذكر ذلك عنهما أحد من الأئمة الذين نقلوا أقوال العلماء واختلافهم، وإنما ذكروا عنهما كمقالة أهل الحديث وأنا أذكر بعد ذلك ما نقل عنهم، وعلى هذا المحتج أن يثبت السند عنهما بذلك.
15- فصل ذكرت في الرسالة أن الذم الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم- للقدرية إنما يلزم الذين يثبتون القدرة لأنفسهم على أفعالهم وينفونها عن الله. فأجاب هذا المخالف عن ذلك بجواب مشوب بالأذية يكرم لسان الكريم عن إعادته لقلة ثمرته وفائدته، وعمدته فيه أن قال: هذا يدل على جهل المستدل بألسنة العربية بأن القدري منسوب إلى القدرة، لو كان كما زعم لقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (القُدْرية) بضم القاف وسكون الدال، فلما لم يقل ذلك وإنما قال: "القدرية" بفتح القاف والدال على أنه نسبة إلى القدر وذلك أليق بقول من يقول كل شيء بقضاء وقدر. والجواب أن نقول: هذا التجهيل منقلب على هذا المخالف، فإنه لا علم عنده بالمصادر الصادرة عن الأفعال والصادر عنها الأفعال على حسب اختلاف النحاة بذلك، وأنه لا علم عنده بتوارد القدر والقدرة على معنى واحد واختلافهما وجواز النسبة إليهما، لكني أبين الفائدة بذلك لمن له دربة وفهم في العربية مما وضعه علماء العربية، وذلك أن أهل العلم اختلفوا في المصدر لم سمي مصدراً. فقال بعضهم: بل سمي بذلك لأن الفعل صدر منه. وقال بعضهم: بل سمي بذلك لأنه صدر عن الفعل1. وأدلى كل قائل بحجة لا معنى للإطالة بذكر ذلك هاهنا، والفعل الماضي في مسألتنا هو قولهم قدر بتخفيف الدال، وفي المستقبل يقدر بكسر الدال وبضمها لغتان2، فالدليل الماضي قول الله سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ} 1، وقال سبحانه وتعالى في المستقبل: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} 2، بكسر الدال، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: " فإن غم عليكم فاقدروا له "3 روي بكسر الدال وبضمه، وقالت عائشة - رضي الله عنها- في حديث لها طويل: " فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن المشتهية للنظر" 4، وروي أيضا بكسر الدال وبضمها، وفي المصدر من هذا كله لغات، قالوا: يجوز أن يقال قدر يقدر قدراً بسكون الدال في المصدر مثل حفر يحفر حفراً وغدر يغدر غدراً، قال الشاعر: كل شيء حتى أخيك متاع ... وبقدر تفرق واجتماع5 وقال آخر: وما صبّ رجلي في حديد مجاشع ... مع القدر إلا حاجة لي أريدها6 ويجوز أن يقال: قدر يقدر قدراً7، بفتح القاف والدال كقولهم: ختر يختر خترا، وسرف يسرف سرفا، ويجوز أن يقال: قدر يقدر مقدرة وقدرانا، وكذلك هرب يهرب هرباً وطلب يطلب طلباً. قالوا: ويجوز أن يقال قدر يقدر بضم الدال في المستقبل قدراً وقدرة8، مثل قولهم: نضر
ينضرنضراً، نضرةً، فإذا تقرر هذا علم أن قدرة مصدر كقدر فنسب النبي - صلى الله عليه وسلم- القدرية إلى القدر لقولهم نقدر على أفعالنا قدراً. وأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم- على اللغة الواردة في القرآن وهو قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1، والقدر والقدرة واحد، وفي قدر لغة أخرى قدر بتشديد الدال يقدر تقديراً، قال الله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 2، وقال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} 3 قرئ بتخفيف الدال وتشديده4. وأما قول المخالف: إن اسم الذم بهذا يلزم أهل الحديث لأنهم يقولون كل شيء بقضاء وقدر، فغير صحيح، لأن الإنسان لا يوصف إلا بصفة توجد فيه كالخياطة والصناعة لا يوصف بها إلا من يدعي صنعتها بنفسه، فأما من يقول إنها تصنع لي فلا يسمى بها5، وعلى الجملة فلو سئل الناس من العرب عامتهم وخاصتهم: من القدرية الذين لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يرشدوا إلا إلى الذين يثبتون القدر لأنفسهم، وإلا فلندع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم ولنبتهل في مواقف الحج التي يجتمع فيها الخاص والعام ولنقل: "لعن الله القدرية" فننظر لمن تحق اللعنة، ونسأل أهل الموقف من المفهوم عندكم والمراد بالقدرية؟ ولنحكم قولهم وقول أكثرهم لأنهم شهداء الله في أرضه.
16- فصل ويدل على صحة قولنا قول الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} 1، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- "لا يزال هذا الدين ظاهراً"2، وخبر الشارع لا يقع بخلاف مخبره. ولا شك أن دين الإسلام هو الظاهر على سائر الأديان، قيل في التفسير: إنه أراد ظهوره على سائر الأديان بالدلائل والحجج الباهرة والغلبة والقهر في جميع الأقطار فما من أهل دين إلا وقد أثر فيهم الإسلام بالنكاية والإذلال، وقيل: أراد ليظهره على الدين كله في أرض الحجاز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- بعث فيها3، وإذا تقرر هذا في الإسلام فلينظر الآن في الظاهر من مذاهب فرق الأمة، ولا شك عند من أنصف في النظر أن الظاهر منها في الأقطار والأمصار هو مذهب أصحاب الحديث وأهل السنة دون مذهب القدرية وغيرهم من أهل الأهواء، فيعلم أنه دين الحق الذي وعد الله بظهوره. فإن قيل فبأي شيء استدللتم على ظهوره؟ قلنا: ظهوره بأمور: إن نظرت إلى الكثرة بالعدد وجدت أهل الدهماء في الآفاق من بلاد الإسلام جمع
الله همهم على اتباع أئمة مشهورين بالعلم أفنوا أعمارهم بجمع أقوال الصحابة والتابعين، وعلموا أدلتهم من الكتاب والسنة والقياس واجتهدوا فيما اختلفوا فيه فما أدى اجتهاد كل واحد إليه اختاره مذهباً ونصره وهم الشافعي ومالك وأبو حنيفة1، وأحمد وداود2، فتبعهم الخلق لما أبانوه من طرق الاجتهاد، ولم يشذ عنهم إلا من لا علم عنده بذلك وإنما أفنى عمره بعلم الفلاسفة والمتكلمين وهم القدرية والزيدية وغيرهم من أهل الأهواء، ولا يعتد بخلافهم إ لا نظر لهم بها، وهؤلاء الأئمة مجمعون على أصول التوحيد ومذاهب أهل الحديث وإن اختلفوا في المسائل الفقهية التي وقع الخلاف فيها بين الصحابة والتابعين، والقدرية والزيدية منهم جزء لا ينسب. ون نظرت إلى ظهورهم بالعلم وجدت فيهم من أفنى عمره بجمع القراءات المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم- باللغات السبع التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: " أنزل القرآن على سبعة أحرف "3، وهم القراء السبعة4، ومن روي عنهم.
ووجدت منهم من جمع في السنن المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه ما لا تجده في غيرهم، فلذلك سموا أهل الحديث، وكذلك في الفقه وحصر أقوال العلماء، ولا تجد عند أحد من الزيدية وأهل الأهواء مثل ذلك، وإنما عندهم خطب وأشياء يضيفونها إلى أهل البيت لو طولبوا بسندها لم يقدروا إلا بالاختراص والاعاء. وإن نظرت إلى ظهور الكلمة لم تجد القائم بالجمع والأعياد والمناسك إلا منهم، ولا تقرع المنابر في الأمصار في مكة والمدينة فلا بكلامهم وبما تقتضي مذاهبهم، ولو أن خطيباً من القدرية خطب بمكة بما يقتضي مذهبهم بأن يقول الحمد لله الذي لم يسبق الأشياء في الوجود الذي ليس له سمع ولا بصر ولا إرادة ولا كلام ولا حياة ولا قدرة الذي لا يتم ما أراده من خلقه ويتم ما أراده إبليس منهم الذي لا يغفر للمذنبين ولا يعلم ما يكون حتى يكون ولا يقدر على أفعال خلقه، ويعدد ما يقتضيه مذهبهم الفاسد من إبطال الشفاعة والتكذيب بعذاب القبر والميزان والصراط، وكون الجنة والنار غير مخلوقين وغير ذلك، فهل يقع لكل عاقل إلا أن السيوف تسبق إلى حز رقبة هذا الخطيب، وإن كان هو المستولي على البلد قبل الرد عليه بالكلام، فعلم بذلك صحة قولنا، وفي هذا ما يبطل قول هذا المخالف الموضوع للأذى وهو قوله: إن هذا القائل في بلد أهله بحكم الموتى إلى آخر كلامه الذي لا معنى تحته إلا قلة الحياء والعلم. وقد احتجت القدرية وغيرهم من أهل الأهواء: أن القلة فيهم تدل على إصابتهم للحق بقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} 1.
والجواب عن هذا من وجوه. أحدهما: أن نقول: يجوز أن تكون (ما) هاهنا للنفي فيكون المعنى {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} أي ما هم قليل1، فيسقط احتجاجهم. والثاني: أن الآية واردة على سبب وهو قوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي يزيد بأخذ اكثر من حقه ويظلم خليطه إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم لا يبغون على خلطائهم وقليل من لا يبغي على خليطه2، بل الغالب أن كلا يريد أخذ أكبر من حقه، ولم يرد أنهم قليل في كون قولهم غير ظاهر أو عددهم في الأمة قليل لأن هذا يخالف قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} 3. والجواب الثالث: يجوز أن يكون عددهم قليلاً مع يأجوج ومأجوج4،
وناسك ومنسك1، على ما ثبت في الأخبار الواردة ولم يرد أن عدد المخلصين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم- أقل عدد المبطلين2.
17- فصل قال هذا المخالف: اسم القدرية يلزم أصحاب الحديث وأهل السنة، لأنهم يقولون: إن المؤمن يقدر على الخير ولا يقدر على الشر، والكافر يقدر على الشر ولا يقدر على الخير فلذلك سمو قدرية. والجواب: أن هذا دعوى لا برهان عليها، ومخالف لما فسره النبي - صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن القدرية؟ فقال: "هم الذين يقولون الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم "1، فبطل أن يكون المعنى هو ما فسره المخالف. وبعد هذا فإنا لا نقول إن المؤمن يقدر على الخير ولا يقدر على الشر ولا الكافر يقدر على الشر ولا يقدر على الخير كما قالوه، وإنما نقول القدرة وهي الاستطاعة التي خلقها الله في العبد تصلح للخير والشر فإن أراد الله منه الخير وفقه فآثر بها فعل الخير على الشر، فوقع ذلك وهو مختار لوقوعه، وإن حرمه الله التوفيق وخذله آثر بتلك الاستطاعة عمل الشر على عمل الخير، فوقع ذلك وهو مختار لوقوعه وهذا هو الكسب الذي قال الله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2. وإنما التبس على القدرية معرفة ذلك، فهم لا يفرقون بين مذهب المجبرة وبين مذهب أهل الحديث فيرموننا بمذهب المجبرة3، ونسبتنا لهم إلى قول المجبرة أحق وهم به أليق وذلك أن أسلافهم وشيوخهم من المعتزلة يقولون: إن الاستطاعة في الفاعلين ينعدم وجودها قبل الفعل، وأفعالهم توجد منهم باستطاعة لا
يوصفون على إحداثها حال الفعل فصاروا مجبرين على الفعل1. وأهل الحديث يقولون: إن الاستطاعة لا توجد في الفاعل إلا في حال الفعل، ولا يوصف بالقدرة عليه قبل الفعل بل يخلق الله كل جزء من الاستطاعة في الفاعل حين فعله2 فثبت أنهم يرمون أهل السنة بالقدر
والإجبار وهم مبرءون، وأنهم بذلك أحق فهم الداخلون تحت قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 1.
18- فصل ومما استدللت به في الرسالة على أن الله خلق أفعال العباد في الخير والشر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1 وقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2 في آي كثيرة، وأفعال العباد أشياء فوجب أن تكون داخلة في جميع المخلوقات. فأجاب القدري المخالف عن ذلك وقال: لا حجة لهذا المستدل بهذه الآية لمعنيين أحدهما: أن أفعال العباد متنازع فيها فعليه أن يدلل على أنها مخلوقة كسائر المخلوقات. والثاني: أن الآية وإن كانت عامة فإنا نخصصها بالعقل ونخرج أفعال العباد من جملة الأشياء المخلوقة بالعقل، كما خصصنا جميعاً ذات الله سبحانه وإن كانت شيئا من الأشياء المخلوقة، وكما خصصتم أنتم صفاته كعلمه3 وإرادته وقدرته وحياته وسمعه وبصره وكلامه من جملة الأشياء المخلوقة. هذا نكتة قوله التي يعتمد عليها ولا معنى لذكر ما أورده مع ذلك من الأذية التي استحسنها لنفسه ولا تليق بالعلماء. والجواب عن الفصل الأول من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الله قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 4، وحركات العباد داخلة في العمل وآثار عملهم في الأعيان المعمول فيها تسمى أعمالاً لهم فثبت أنها خلق الله5.
والثاني: أن أعمال العباد تسمى شيئاً لقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} 1، و {جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} 2، و {شَيْئاً إِمْراً} 3 وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 4، وأعمال العباد محصاة، وإذا سميت أشياء كانت داخلة في عموم الأشياء التي امتدح الله بخلقها ولا يخرج شيء عما مدح به نفسه. والثالث: أن أفعالهم صفات لهم كألوانهم، فلما كانت ألوانهم خلقاً لله كانت أفعالهم خلقاً له5، وأما قوله إن أفعال العباد وإن كانت أشياء فإنها مخصوص كما خصصنا ذاته وصفاته، قلنا عن ذلك أجوبة: أحدها: أن نقول له: جمعت بين الله وبين صفات الخلق في نفي الخلق عنها من غير علة جامعة بينهما وهذا لا يجوز.
والثاني: أن يقال له: شبهت الله بصفات خلقه بكونهما غير مخلوقين لله1 وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . والثالث: أن يقال له ولأهل مذهبه: إذا كانت أفعال العباد مساوية لله ولصفاته في عدم الخلق فسموها آلهة وأرباباً كما ألزمتمونا هذا الإلزام في قولنا إن لله صفات قديمة هي علمه وحياته وقدرته وإرادته وكلامه وسمعه وبصره2. والرابع: أنا علمنا انتفاء الخلق عن الله وعن صفاته بمقتضى العقل الذي لا يجوز ورود الشرع بخلافه، لأنه لو أخبرنا نبي الله خلق ذاته أو خلق صفاته لاستحال في العقل صدقه3 لأن المخلوق معدوم الوجود قبل الخلق والخالق له موجود حال الخلق فكيف يوصف الشيء الواحد بأنه معدوم موجود بحاله واحدة؟ وهذا المعنى لا يتصور في أفعال العباد، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- لو أخبرنا أو أخبرنا الله بنص القرآن الذي لا يحتمل التأويل بأن الله خلق أفعال العباد في الخير والشر لوجب قبوله، لأن ذلك غير مستحيل ولا مؤد إلى المحال فبطل الجمع بينهما4.
والخامس: أن يقال: لما كانت أفعال العباد ملكاً لله ويوصف بالقدرة عليها وبإقدار غيره عليها لم يستحل وصفه سبحانه بأنه خالق لها وموجد لها وليس كذلك ذاته وصفاته فإنه لا يوصف بأنه مالك لذاته وصفاته ولا بأنه موصوف بأنه يقدر على ذاته وصفاته1 ولا بإقدار غيره عليها فبطل الجمع بينهما. والسادس: أن يقال: لما كانت ذات الله سبحانه ليست من جنس المخلوقات من الجواهر والأجسام والأعراض، ولا يفتقر وجوده إلى مكان وزمان2 لم يجز وصفه بأنه مخلوق وليس كذلك أفعال العباد فإنها أعراض فيهم ويفتقر وجودها إلى زمان ومكان فلم يستحل وصفها بأنها مخلوقة لله كسائر الأعراض، وعلى الجملة من بلغ به العمى إلى أن يشبه ذات الله بأفعال العباد ويساوي بينهما في أنهما غير مخلوقين ويسأل الفرق بينهما، هذا كفانا المؤنة في الكلام وأبان شناعة قوله بلسانه.
19- فصل قال هذا المخالف بكتابه الدامغ له: لو كانت أفعالنا خلقاً لله لم تقف على أحوالنا فتوجد بحسب قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا، متى أردنها وجدت ومتى كرهناها لم توجد، مع سلامة الأحوال كما لا يجب ذلك في ألواننا وصورنا وطولنا وقصرنا. والجواب أن نقول: ما قدر الله من وقوع أفعالنا المكتسبة ما ننكر أن ذلك وقع بقصدنا واختيارناأ وعلى هذا القصد والاختيار وقع المدح والذم والثواب والعقاب، إلا أن الله هو الخالق لقصدنا ومشيئتنا لأنه شيء وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1 ومشيئتنا وقعت بمشيئة الله. قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2. وأما قوله: متى أردناها وجدت ومتى كرهناها لم توجد فغير مسلم3، فإن الإنسان قد يريد بقلبه وقوع أفعال منه من الخير أو الشر ويجب ذلك، فإذا لم يرد الله وقوع ذلك منه لم يقع منه بالجملة أو يقع بعضها إذا أراده الله وقضاه، بدليل أن الإنسان قد يريد الجماع ويحبه، وإذا لم يرد الله وقوع ذلك منه لم يقدر عليه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم- "كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس "4.
ثم نعارض هذا القول ونقول: لو كانت أفعالنا خلقاً لنا ومنفردين بإيجادها لكنا عالمين بعدد حركاتنا وكيفية وقوعها منا قبل الفعل وبعده لأن الله أخبر أن الخالق يعلم ما خلق بقوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 1. وأما استدلال هذا المخالف على معناه الذي أورده بقوله: لما كانت ألواننا وصورنا خلقاً لله لم تقع تحت إرادتنا وقصدنا، فالجواب عنه أن نقول: ليس امتناع ألواننا وصورنا بحسب إرادتنا كونها خلقاً لله، وإنما العلة بامتناع وقوعها حسب إرادتنا وقصدنا كونها غير كسب لنا2، ألا ترى أن جماعنا لما كان كسباً لنا إذا قضى الله وقوعه منا يقع يقصدنا واختيارنا ونثاب عليه إذا وقع فيما يحل ونعاقب عليه إذا وقع بما يحرم، والولد المخلوق من الجماع لما لم يكن كسباً لنا ولم يقدرنا الله، بل قد يقصد الغني الجماع ليكون منه الولد فلا يكون، وقد يجامع الفقير فيعزل كراهة الولد فيكون منه الولد فلم يقع بحسب إرادتنا وقصدنا3.
20- فصل قال المخالف بكتابه المنقلب عليه: لو كانت أفعال العباد خلقاً لله سبحانه لم يحسن الأمر بشيء منها ولا النهي عنها ولا الذم ولا المدح ولا الثواب ولا العقاب، كما لا يحسن ذلك منه في ألوانهم وصورهم فثبت بذلك أن أفعالهم خلق لهم لأنه أمرهم بخلق شيء منها ومدحهم وأثابهم عليها، ونهاهم عن خلق شيء منها وذمهم وعاقبهم عليها. والجواب أن نقول: هذا الإلزام لا يتوجه علينا الجواب عنه، وإنما يلزم ذلك المجبرة الذين نتبرأ عنهم1 ونرد عليهم، وقد بينا أن مذهب المعتزلة القدرية بمذهب المجبرة أليق2، ثم يقال لهذا المستدل: ولم قلت: إذا قلنا: إن أفعال العباد خلق لله لم يحسن الأمر منه بشيء ولا النهي عن شيء منها، وما المعنى المقتضي لذلك لنجيب عنه؟ فإن قال: كما لا يأمرهم بخلق ألوانهم وصفاتهم ويمدحهم ويذمهم ويعاقبهم ويثيبهم عليها. قلنا: قد بينا الفرق بين الألوان والأفعال فلا معنى لإعادته3. ثم نقول له: وما حجتك ودليلك أن الله أمر العباد بخلق شيء من أفعالهم ومدحهم وأثابهم عليها ونهاهم عن خلق شيء منها وذمهم وعاقبهم عليها فهذا نفس الحكم المتنازع فيه لأن الخلق متسحيل من المخلوق، وما ننكر أن الذي أمر الله العباد به هو اكتساب شيء من الأفعال، ومدحوا وأثيبوا عليه ونهوا عن اكتساب أفعال وذموا وعوقبوا عليها، وجعل الله هذا الاكتساب علماً على من أراد ثوابه أو عقابه، ولو جعل ألوانهم وصفاتهم سبباً أو علماً للثواب والعقاب بأن يقول: من خلقته أبيض فهو علم على أنه
من أهل الجنة ومن خلقته أسود فهو علم على أنه من أهل النار لم يخرجه ذلك عن الحكمة والعدل1 كما أنه جعل طول العمر سبباً وعلماً لكثرة الأعمال التي يقع عليها الثواب والعقاب، وقصر العمر سبباً وعلماً لقلة الأعمال التي يقع عليها الثواب والعقاب ولم يخرجه ذلك عن الحكمة والعدل.
21- فصل قال هذا المخالف بكتابه: لو كان الله سبحانه خالقاً لأقوال العباد وأفعالهم لكان ساباً لنفسه ومكذباً لرسله بخلقه قول من قال ذلك، ولكان قائلاً بأنه ثالث ثلاثة، وأن عيسى ابن الله كما قالت النصارى، وأن عزيراً ابن الله وأن يده مغلولة كما قالت اليهود، ومع ذلك فقد مدح نفسه وأثنى عليها بكتابه فإذا كان الجميع منسوباً إليه فيجب أن يستوي جميع ما أخبر به في الصدق فيكون ممدوحاً مذموماً واحداً ثالث ثلاثة، وهذا كله متناقض فثبت أن ذلك خلق غيره من العباد لا خلقه، هذا نكتة قوله. والجواب عن ذلك من وجوه: أحدها: أن نقول: لو كان قولنا بأن الله يكون بخلقه لقول من سبه أو كذب رسله يكون ساباً لنفسه ومكذباً لرسله لكان قولنا جميعاً بخلقه القدرة1 لمن سبه أو كذب رسله مع علمه أنه يكون ذلك إذ يكون موصوفاً بالقدرة على سب نفسه وتكذيب رسله، ونحن لا نصفه بذلك وإن كان على كل شيء قدير. والجواب الثاني: وهو أن نقول أليس الله خالقاً للسيوف التي قتل بها أعداؤه أنبياءه، وعلم أنهم يقتلونهم بها قبل أن يخلقها، وخلق ألسنتهم التي كذبوا بها رسله وسبوه، ولا يقال: إنه أعان على قتل أنبيائه وذم نفسه وتكذيب رسله بما خلق لهم من الآلة التي علم لا محالة أنه يكون منهم بها ما وقع، كما أن في الشاهد أن من أعار كافراً سيفاً وعلم بخبر نبي أنه يقتل به نبيّاً فإنه يكون معيناً على قتله.
والجواب الثالث: أن يقال: إذا منعتم خلقه لأقوالهم لسب الله وتكذيب رسله لأنه يستحيل منه سب نفسه وتكذيب رسله فجوزوا خلق الله لأقوال عباده في مدحه وتصديق رسله لأنه موصوف سبحانه بذلك، فإذا سلمتم ذلك لزمكم القول بخلق أقوالهم في الجميع لأن أحداً لم يفرق بينهما.
22- فصل وقد أورد هذا المخالف بكتابه الدامغ له كلاماً موه به في الاستدلال على من لا بصر له بأن القدرية هم أصحاب الحديث الذين يقولون أفعال العباد خلق لله، منها أنه قال: روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "القدرية مجوس هذه الأمة"1 قال وهم هؤلاء الحشوية2. واستدل عليه بأن رجلاً جاء من أرض فارس فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم-: أخبرنا بأعجب شيء رأيته، فقال: رأيت قوماً ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ويقولون هذا قضاء الله علينا، فقال عليه السلام: أما إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم يقولون بمثل مقالتهم أولئك مجوس أمتي"3. والجواب: أن هذا الخبر لم يذكره أحد من علماء الحديث ولا ذكر في شيء من الصحاح، وإنما وضعته الزيدية على وفق مذهبهم وإلا فليسندوه ولا تقوم المذاهب بالاختراص، ونعارضه بالأخبار المذكورة في الصحاح4 التي قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم- من القدرية؟ قال: " الذين يقولون الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم "5، وهذا الخبر مما تلقته الأمة وعلماء الأمصار
بالقبول1 ولم يرده إلا من لا يعتد بخلافه. قال هذا المخالف: ولأن عند هذا القائل وأهل مذهبه أن العبد يثاب ويعاقب ويذم ويمدح بما لم يفعل، لأن الطاعات والمعاصي خلق غيرهم وهذا نفس قول المجوس، وحكي أنهم يأخذون عنزاً ويدفعونها من شاهق ويضربون رأسها فإذا ماتت أكلوا لحمها وقالوا: عصت الله، هذا عمدة قوله. والجواب: أن هذا جهل منه بمذهب أهل السنة على ما مضى من رميه لهم بمذهب المجبرة الذي قولهم أشبه بقولهم2، ولسنا نقول: إن أفعال العباد من الله دون العباد ولا من العباد دون الله ولا من الله ومن العباد على حد واحد، لأنها لو كانت من الله دون العباد لعذبهم على غير ذنب ولم يصف نفسه بذلك، ولو كانت من العباد دون الله لشاركوا الله في الخلق، وقد قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 3 ولو كانت من الله ومن العباد على حد واحد لأشتبهت صفات الخالق بالمخلوق، وقد قال الله تعالى: {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} 4. وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أنها من الله خلقاً وتقديراً، ومن العباد عملاً واكتساباً.
وأما ما ادعاه من أن أهل السنة يشابهون المجوس بما ذكر فغير صحيح. لأن أكثر ما قالوا: إن أفعالهم أشياء وسماها الله أشياء وقد قال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1، وإنما المشابه لهم هم القدرية لأنهم يقولون: إن الله سبحانه يريد الخير ويقدر عليه ولا يريد الشر ولا يقدر عليه2 وإبليس لا يريد الخير ولا يقدر عليه ويريد الشر ويقدر عليه، وهذا كما قالت المجوس: من أن النور يريد الخير ويقدر عليه، ولا يريد الشر ولا يقدر عليه، والظلام لا يريد
الخير ولا يقدر عليه ويريد الشر ويقدر عليه1، فنقلت القدرية صفة النور إلى الله وصفة الظلام إلى إبليس، فلذلك سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم- " مجوس هذه الأمة "2 وبهذا المعنى فسر ابن عباس هذا الحديث على ما نقله عنه أهل النقل3. ومما موه به هذا القدري المخالف على العامة في الاستدلال أن ادعى أن خصمه يقولون: المعصية من اثنين أحدهما محمود عليها وهو الله، والآخر مذموم عليها وهو العبد، وهذا مثل مذهب المجوس في قولهم إن العالم من صانعين أحدهما محمود والآخر مذموم، هذا نكتة قوله. والجواب عن ذلك: أن يقال له: قولك المعصية من اثنين غير مسلم أنها تسمى معصية في حق الله سبحانه وإنما هي معصية في حق العبد، ووجودها من أحدهما غير وجودها من الثاني على ما مضى قبل هذا4، فقولنا إنّ كون الفعل خلقاً لله وكسباً للعبد لا يقتضي مشابهته لقول المجوس، وإنما يشبه قول المجوس من يقول إنه مريد الخير غير مريد الشر
ومن يقول: إن للعباد صانعاً ولحركاتهم في الأفعال صانعاً غيره وهم القدرية فقد جعلوا لله شريكاً في الخلق وقد كذب الله من ادعى له شريكاً في الخلق. ومما موه به هذا القدري على العامة والضعفاء بالاستدلال على أن القدرية هم أهل السنة بقوله: لأنهم يقولون لكل ما وقع منهم من الفساد والمعاصي هو بقضاء من الله وقدر لهجوا بذلك ومن لهج بشيء ينسب إليه. وقال: نحن ننفي عن الله القضاء بالباطل ولا يقضي إلا بالحق، وقد قال الله تعالى بكتابه: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} 1 ولا شك أن المعاصي باطل، قال فإذا ثبت أنهم يثبتون لله ما ينفيه وتلهج ألسنتهم به كانوا أولى بهذا الاسم لأن المثبت للشيء هو أولى بأن يشتق له اسم منه دون من نفاه. ألا ترى أن الثنوي اسم لمن أثبت لله ثانيا، والمشبه اسم لمن أثبت التشبيه لله لا لمن نفاه، وكذلك ينسب الشيء إلى من لهج به فيسمى التمري2 من يلهج به، هذا نكتة قوله. والجواب عن هذا من وجوه: أحدهما: أن تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم- في القدرية أولى من تفسير غيره، وقد قال - صلى الله عليه وسلم-: "القدرية هم الذين يقولون: الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم"3. وهذا كاف في جميع ما أورده المخالف من التمويهات في كتابه، ولكني مع هذا لا آلو جهداً في إبطال ما أورده من طريق المعاني التي أوردها، فأقول في الجواب الثاني عن قوله: إن أهل السنة أولى باسم القدرية لأنهم
يثبتون القدر لله في جميع أفعال العباد، ونحن ننفي ذلك عن الله فكانوا أولى بالاسم أن يقال: هذا المعنى غير صحيح لأنك علقت على العلة ضد مقتضاها ومقتضى العلة أن اسم القدرية أولى أن يقع على من يثبت القدر لنفسه على جميع الأفعال وينفيه عن الله فنسبة الشيء إلى من يدعيه لنفسه وينفيه عن غيره ألوى من نسبته إلى من ينفيه عن نفسه ويثبته لغيره، ألا ترى أنه لا يقال النحوي واللغوي إلا لمن وجد معه نحو ولغة، وكذلك الخارجي لا يقال إلا لمن خرج على علي - رضي الله عنه -، والرافضي لمن رفض الصحابة وكذلك الثنوي1 إنما سمي ثنوياً لأنه أثبت لله ثانياً يشاركه في الإلهية، فيجب على هذا أن يسمى القدري من أثبت لله من يشاركه في القدر. وألسنة القدرية لهجة بأن لهم قدراً وقدرة على أفعالهم دون الله فهم أولى بتسميتهم قدرية. وأما استدلاله بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} 2 ولا شك أن المعاصي من الباطل وأراد بذلك أن الله لا يقضي بالباطل. والجواب على ذلك أن يقال: القضاء في القرآن ينصرف إلى وجوه3 كثيرة وكذلك لفظة (الحق) تنصرف في القرآن إلى معان كثيرة4 ولا تكون
الآية حجة على مذهبه إلا إن صرف لفظة القضاء إلى الإرادة، فيكون المعنى والله يريد الحق، ولم يقل أحد إن القضاء يعبر به عن الإرادة بالجملة، ولا يتوجه المعنى بالحق على هذا، وإن حمل على هذا كان مجازاً واتساعاً كان ذلك استدلالاً منه بدليل الخطاب وهو ممن لا يقول به. وإن صرف لفظ القضاء إلى الخلق فهو مما ينصرف إليه القضاء في القرآن لقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} 1 أي خلقهن في يومين2 وقالوا: أراد به لم يخلق الباطل من أفعال العباد، قيل: فعلى مقتضى هذا أن يكون خلق ما ليس بباطل من أفعالهم وهم لا يقولون بذلك3، فعلم أن هذا الاستدلال منه تمويه لا يعلم معناه، ومع هذا فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} 4 فأخبر أن الذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً من أفعالهم، فتكون الآية حجة عليه لا له لأن لفظة الذين جمع لما يعقل وذلك ينصرف إلى ما كانوا يعبدون من الملائكة والجن لا إلى الأصنام5 وعلى أن المراد بهذه الآية غير ما أراد من ذلك، والمعنى
فيها: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي يحكم بالعدل [1] هي كقوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [2] . ومما موه به هذا القدري على العامة أن ادعى أن الذين نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن مجالستهم [3] هم أصحاب الحديث لمعان ادعاها لا معنى لإعادة أكثرها لكثرة ترداده لذكرها في الاستدلال أو وقوع الجواب عنها. فمنها: أن قال: لأن قولهم يؤدي إلى أنه لا فائدة في بعثة الرسل، وأن ذلك يؤدي إلى ختم باب التوبة لأن المذنب إذا علم أن الله هو الخالق لفعله في المعصية قال: لا سبيل لي إلى توبة عمَّا لم أفعله. ولأن ذلك يؤدي إلى سوء الظن بالله لأنه يعذب العبد على ما لم يفعله. وهذا نكتة ما طول بذكره بذلك. والجواب أن هذا منه إلزام لا يلزم إلا المجبرة الذي قوله بقولهم أحق وهم بهم أليق على ما مضى [4] ، وأما قوله: إن ذلك يؤدي إلى سوء الظن بالله فقوله بذلك أيضاً أولى لأن عنده إن الله لا يغفر الذنوب الكبيرة ولو تاب المذنب منها [5] رداً لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [6] .
23- فصل قال هذا القدري المخالف بكتابه: لو كان الله هو الخالق لما يوجد من العباد من الظلم والجور والكذب لوجب أن يسمى ظالماً وكاذباً وجائراً ويتعالى الله عن ذلك. والجواب عن ذلك أن يقال: هذا الاستدلال صدر ممن يجهل حد الظلم والظالم في اللغة وذلك أن الظلم في اللغة هو: مجاوزة الحد1، ولهذا قيل في المثل: "من أشبه أباه فما ظلم"2 أي لم يجاوز الحد. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم- فيمن زاد على الثلاث في الوضوء: " فقد أساء وظلم "3. فإذا تقرر هذا فالظالم هو: من حد له حد فجاوزه، وليس فوق الله سبحانه من يحد له الحدود فيجاوزها. وجواب آخر: وهو أن يقال بالإجماع إن الله قد خلق لهم الاستطاعة4 التي وقع بها منهم الظلم والكذب والجور مع علمه أنهم يظلمون بها فيلزمكم على اعتلاكم5 هذا أن يسمى بذلك ظالماً ومعيناً على الظلم. وجواب آخر أن يقال: إن كان بخلقه الظلم يسمى ظالماً فينبغي أن يكون بخلقه حركة الاضطرار يسمى متحركاً وبخلقه السقم سقيماً، وإذا لم يلزم ذلك عليهم لم يلزم علينا.
24- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1 وأخبر سبحانه أنه خلقهم ونفس أعمالهم، كما أخبر أنه يجازيهم على نفس أعمالهم بقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2، فانصرف ذلك إلى حركاتهم في العمل وصار التقدير (خلقكم وعملكم) . فأجاب القدري المخالف وقال: لا حجة لهذا المستدل بهذه الآية، لأن المراد بالآية والله خلقكم والحجارة التي تعملونها أصناماً بدليل قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} 3 وأراد الأصنام لأنهم عبدوها ولم يعبدوا أعمالهم، هذا نكتة قوله. ولنا عن ذلك أجوبة أحدها: أن يقال: هذا صرف للكلام عن ظاهره وتبديل، والتصريف يشهد لصحة ما قلنا وذلك أنه يقال: عمل يعمل عملاً فهو عامل، والعين معمول فيها، فالعمل هو المصدر وهو اسم العمل وهو حركته بالعمل أو آثار عمله، فاسم العمل يقع على ذلك حقيقة فمن حمل العمل عليه صرفه إلى الحقيقة، والعين المعمول فيها وهي الأخشاب والأحجار المنحوتة لا تسمى عملاً وإنما تسمى معمولاً بها وتسمى معمولاً بها مجازاً لا حقيقة لأنه لا يعملها حقيقة4. جواب ثان: أنه يصح نفي العمل عن العين المعمول بها ولا يصح نفي العمل عن حركات العامل ولا عن آثار عمله بأن تقول: ما رأيت بناء زيد ولا نحته، وإنما رأيت الأحجار والأخشاب التي بنى بها ونحتها بعد زوال بنائه ونحته، ويصح أن تقول: رأيت عمل زيد ونحته إذا رآه يتحرك بالبناء والنحت وإن لم ير العين التي بنى بها ولا أثر نحته، ولا يصح أن تقول:
ما رأيت عمله إذا رأى حركته في العمل أو آثار عمله، وإن رأى العين بعد زوال عمله بها. جواب ثالث: أن المشركين إنما كانوا يعبدون من الأخشاب والأحجار أوثاناً وأصناماً، فالأوثان: ما نحتوه على مثال ما ليس له صورة، والأصنام على مثال ما له صورة1 فقوم إبراهيم عليه السلام إنما عبدوا تلك الأوثان والأصنام لأجل نحتهم وتصويرهم الذي نحتوه وصوروه تعظيماً للنحت والتصوير لا للأعيان2 بدليل أنهم كانوا لا يعبدونها قبل ذلك، ولما كسرها إبراهيم عليه السلام وأزال تصويرها ونحتها بطلت عندهم أن تكون آلهة، فرد الله عليهم ذلك وأخبرهم أن هذا النحت والتصوير الذي عبدوها لأجله لا يقتضي كونها معبوده لأنه الخالق له فقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي خلقكم وخلق عملكم ويدل هذا التأويل أن الصنعة في الأعيان تدل على حكمة الصانع لها ولهذا قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} 3 فالمسلمون إنما استدلوا على الله وعلى
حكمته وعلمه بآثار صنعته في الأعيان، وكذلك المشركون إنما عبدوا الأصنام لأجل الصنعة فيها. جواب رابع: وهو أن قول القائل نحت كقوله ضرب وذلك يشتمل على ستة أشياء: على الفاعل، وعلى المصدر وهو الضرب والنحت وهو المفعول حقيقة وإنما فعل الفاعل فعلاً أو قعه فيه فيسمى مفعولاً له مجازاً، والفاعل لها هو الله1، وعلى ظرف الزمان وظرف المكان وهما مفعول فيهما حقيقة2، وعلى الحال وهو مفعول فيه أيضاً حقيقة3 فإذا كان الله هو الخالق للخمسة الأشياء وجب أن يكون خالقاً للسادس وهو المصدر. جواب خامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله صانع الخزم وصانع كل صنعة" 4، وهذا نص في موضع الخلاف يؤيد ما ذهبنا إليه من تأويل الآية. فاعترض هذا المخالف على هذا بثلاثة أمور أحدها أن قال: هذا الخبر غير موثوق بسنده.
الثاني: قال: هذا من أخبار الآحاد فلا يستدل به في الأصول. الثالث: قال: هو عام فيكون مخصوصاً بما قدمنا. والجواب عن اعتراضه على السند أن يقال: هو مذكور في الصحاح التي اتفق أئمة الأعصار على الاحتجاج بالمذكور فيها ورواه أبو عبيد القاسم ابن سلام1 في غريب الحديث2 عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه3. وأما الجواب عن قوله إنه من أخبار الآحاد فإن هذا مما تلقته الأمة بالقبول
ويوافق ظاهر القرآن فجرى مجرى أخبار التواتر، وعلى أنه إذا جاز الاستدلال بأخبار الآحاد في جلد الإنسان وضرب الرقاب وتحليل الفروج وتحريمها جاز الاستدلال بها في الأصول1. وأما الجواب عن قوله إنه عام فيكون مخصوصاً بما قدمناه: فإن هذا جهل من المخالف بصيغة العموم والخصوص وكيفية الاستدلال بهما، وذلك أنا لا ننكر أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم- "إن الله صانع كل صنعة" عام في جميع الصفات والأعمال في الخير والشر، وعلى مذهب هذا المخالف أن الله لم يصنع شيئاً من الصنع الموجودة من العباد لا في الخير ولا في الشر فيحمل عليه الخبر، وقد اعترض هذا المخالف على قولي: "فأخبر أنه خلق نفس أعمالهم كما أخبر أنه يجازيهم على نفس أعمالهم بقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. وقال: "هذا دليل على المستدل بأن الجزاء من الله هذا لا يكون إلا على شيء أتواهم به فأما ما خلقه الله فلا يجازون به". والجواب عن هذا أن يقال له: هذا شرح لمذهبك فهو غير مسلم، ونحن
نقول: إن الثواب والعقاب من الله على اكتسابهم لأعمالهم في الخير الذي وفقهم لاكتسابه وفي الشر الذي لم يتفضل عليهم بالتوفيق بضدها. وأما قوله: لا يجازيهم بما خلقه فيهم فينتقض بما خلق فيهم من زيادة الهداية وزيادة الضلال عند هذا المخالف بأنه يجازيهم على ذلك في الآخرة على قول المخالف وإن كان ذلك من خلقه1. استدل المخالف على صحة تأويله في الآية بمسألة فقهية فقال: لو كان لرجل عبد مستأجر على نسج ثوب فقال: أنا مالك لهذا الغلام ولما يعمل فإن الذي يسبق إلى أفهام السامعين أنه أراد مالك لهذا العبد ولهذا الثوب الذي يعمله. والجواب أن يقال له: سلكت في هذا طريقاً متوعراً عليك لجهلك به فيوشك أن تبقى منقطعاً فيه، فأنت إذاً المراد بقول الشاعر: دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي2 ثم بقال له: أما قول القائل هذا العبد الناسج وما يعمله ملك لي فإنه خبر والخبر: ما دخله الصدق أو الكذب ولا يتعلق بقول هذا حكم إلا معرفة صدقه أو كذبه، وقوله وما يعمل هو كقوله وعمله، (وعمله) 3 حقيقة هو حركته بعمل الثوب في النسج فيكون منصرفاً إليه ولا ينصرف إلى الثوب إلا بتفسير منه أنه أراده4 فيكون معمولاً له مجازاً على ما مضى5.
وسمع الآن الإلزام الصحيح من الفقه عند أهل النظر والتحقيق فيه: أنه لو حلف رجل بطلاق امرأته ثلاثاً أو بعتق عبده أن لا ينظر إلى عمل زيد فنظر إلى حركات زيد في العمل أو إلى أثر عمله فإن امرأته تطلق وعبده يعتق، وإن لم ينظر العين التي عمل بها، ولو نظر إلى العين التي عمل بها زيد بعد زوال عمله بها لم يحنث باليمين في الطلاق والعتق. وكذلك لو قال رجل: أو صيت لفلان بعمل عبدي فإن ذلك وصية بعمل العبد ولا يكون وصية بمعمولة1، وكذلك لو قال رجل لآخر: بعتك عمل عبدي أو أجرتك عمله بكذا وكذا من مدة، فإن ذلك عقد على عمله وهو حركته بالعمل، ولا يكون عقداً على الأعيان التي عملها العبد، وهذا لا إشكال فيه عند ذوي القرائح المستعملة في الفقه دون المتطفلين عليه. استدل هذا المخالف على صحة تأويله في الآية بأن قال: لو كان كانت أعمال العباد خلقاً لله سبحانه لكانت الحجة لقوم إبراهيم عليه السلام؛ لأنه إذا كان التقدير والله خلقكم وعبادتكم للأصنام لكان لهم أن يقولوا: فما جرمنا ولأي معنى جئت مبعوثاً إلينا، أتريد منا أن لا يخلق الله فينا شيئاً من عبادتنا فذلك ليس إلينا من شيء، أم تريد أن تغير خلق الله فينا فتكون الحجة لهم على إبراهيم. ولنا عن هذا أجوبة: أحدها: أن نقول لهذا المخالف: عدمت التمييز بين مذهب أصحاب الحديث ومذهب المجبرة فأنت في استدلالاتك تخبط في عشوى، وهذا الإلزام يلزم المجبرة الذين يقولون: لا ينسب إلى العباد شيء من أعمالهم وهم كالخامة من الزرع تذهب بها الريح مرة وهكذا ومرة هكذا2، ومذهب
القدرية أشبه بمذهب المجبرة لقولهم إن الاستطاعة لا توجد مع العمل وإنما هي متقدمة الوجود والأعمال تتولد منها1. وأصحاب الحديث يقولون بخلاف هذين المذهبين فلا يلزمهم الجواب عن هذا الإلزام. والجواب الثاني: أن عبدة الأصنام أكثرهم ليسوا قدرية، بل يقرون إن الله خلقهم وبذلك أخبر الله عنهم2 وإنما يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله3 ومن يقول: إن الله خلقه فإنه يقر أن جميع حركاته خلق لله؛ لأنها من سائر صفاته كلونه وسمعه وبصره وسائر الأعراض فيه، ولم يخالف بذلك إلا القدرية، وعبدة الأصنام منزهون عن قولهم4. والجواب الثالث: أنه لو تصور أن يكون قوم إبراهيم قدرية وخاطبوه بهذا
الخطاب لأجابهم بنص القرآن وهو أن يقول: قال الله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبَلاغُ} 1 أمرني الله بالبيان وقد فعلت ما أمرت به والهداية والتوفيق إليه. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2، وقال في آية أخرى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 3، ويقول لهم: سلوا الله الهداية إلى الإسلام لأن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم- سأل ذلك لنفسه ولولده إسماعيل وذريتهما فقال: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا} 4، وأخبر الله عنه في آية أخرى قال: {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} 5 فهل سأل إبراهيم إلا ما يملكه الله ولا يملكه إبراهيم؟.
25- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} 1، واختلاف الألسن هي اللغات في الكلام2. فاعترض القدري المخالف على هذا الاستدلال وقال: اختلاف الألسن المراد به: اللغات التي عرفهم الله إياها والأسماء التي علمها الله آدم وليس فيها دليل أن أعمال العباد خلق لله، قال: ولعل هذا المستدل ظن الاختلاف في الألسن3 معطوف على السموات والأرض وأنه مخلوق كالسموات والأرض، ولو كان كذلك لكان الاختلاف مجروراً، وهذا يدل على جهل هذا المستدل بالعربية. هذا نكتة قوله ومعتمده دون ما شابه من الأذية. يقال لهذا المعترض قبل الجواب على ما أورده: قد قيل في المثل: "لا تهرف قبل أن تعرف"4 وقال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 5 وكان ينبغي له أن يسأل أين موضع الحجة من الآيات إذا لم يكن في فهمه ما يؤديه إلى علمه قبل السؤال، ولكن حمله قلة الحياء والدين والعلم على الكلام فيما لا يليق بالعلماء، ولا يخفى على المستدل أن الاختلاف ليس بمعطوف على السموات والأرض، ولكنه معطوف على
قوله (خلق) فيكون التقدير: (ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم) قال أهل التفسير: لولا أن الله فرق بين الصور في الألوان وبين الألسن في اللغات والنغمات والأصوات لبطلت العلامات في الشهادات والمداينات، ولما عرفت والدة ولدها ولا ولد أمه ولا زوج زوجته1 فتعلقنا من الآية لو كان اختلاف ألسنتهم وهي لغات في كلامهم خلقا لألسنتهم كما قالت القدرية لما أمرهم بالاستدلال بها عليه؛ لأن الصنعة لا تدل على غير صانعها، فلما أمرهم بالاستدلال بذلك عليه دل على أن ذلك خلقه، كما أمرهم بالاستدلال عليه بما هو خلق له بالإجماع وهو منامهم بالليل والنهار وخلق السموات والأرض.
26- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة قول الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1. فأخبر سبحانه أنه يعلم الجهر والسر من القول لأنه خلقه. فاعترض القدري المخالف على هذا وقال: لا حجة2 لهذا المستدل بهذه الآية، وقال هذا يدل على إفلاسه من العربية وفقد التمييز بين العبارة عمن يعقل وعمن لا يعقل فإن قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 3 عبارة عن العقلاء من خلقه و (ما) عبارة عما لا يعقل، وأفعال العباد مما لا يعقل فلا تدخل تحت قوله: {مَنْ خَلَقَ} هذا نكتة قوله، ولا فائدة في إعادة سائر قوله من السفه والسخف الذي لا يلحق إلا بمن لا دين له ولا علم. والجواب: إني وهذا المعترض كما قال الشاعر: عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليَّ إذا لم تفهم البقر4 مع أنه لم يكن مقصوداً بالرسالة وإنما حمله الفضول على تكلف ما لا يقوم به، ولم يفهم موضع الحجة من الآية، وذلك أنه ذهب إلى أن (من) في موضع نصب مفعول5
يعلم1، وهو مذهب لم أذهب إليه ولا ذهب إليه أحد من أهل الحديث، وإنما الذي نذهب إليه أن (من) في موضع رفع ليكون فاعلاً ليعلم، وخلق فعل ماض فاعله مضمر فيه يعود على من2، فالعالم بما في الصدور من الكلام هو الله الخالق له فتكون من لمن يعقل، ويكون هذا كقول القائل كلمني من كلمك، ولا يكون كما توهم هذا المسكين، من الخطأ.
27- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1، وقد كانوا يعبدون الجن والملائكة، فأخبر سبحانه أنهم لا يخلقون شيئاً. فأجاب هذا القدري المخالف عن هذا وقال: لم يرد بذلك إلا الأصنام لأنه قال: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} وهذا صفة الأصنام لا صفة الملائكة والجن، على أن ذلك لو كان عاماً في كل معبود لكان المراد أنهم لا يخلقون شيئاً من أجسادكم ولا2 من أغذيتكم ولا3 أموالكم ولا من ضروب النعم التي أنعم الله بها عليكم. والجواب: أن هذا يدل على إفلاس هذا المعترض من العربية وعلى جهله بها كما رمى خصمه. ونقول: بل المراد بذلك جميع ما يعبدونه من الملائكة والجن والأصنام، لأن العرب إذا جمعت بين ما يعقل، وما لا يعقل غلبت حكم ما يعقل، وعلامة الجمع لما يعقل في هذه الآية في أربعة أحرف. أحدها: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ} 4، وذلك لما يعقل؛ لأنه لو كانأراد الأصنام وحدها لقال والتي تعبدون أو ما يعبدون. والثاني: أنه قال: {لا يَخْلُقُونَ} في هذا ضمير ما يعقل، ولو أراد ما لا يعقل قال: "لا يخلق".
والثالث: قوله: {وَهُمْ} لو أراد ما لا يعقل لقال: وهي. والرابع: قوله: {يُخْلَقُونَ} ، ومثل هذا الجمع قوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} 1، فأخبر أن الأصنام والغاوين يكبكبهم في جهنم، والدليل على أن الأصنام مرادة بهذا قوله تعالى في أول الآية: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 2، فهذا الجمع بقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ…} الآية بخلاف الجمع بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 3، لما لم يجمع الأصنام مع من يعقل أخبر عنها بـ (ما) ، لأنها لما لا يعقل، ولهذا قال ابن الزبعرى4: لأخصمن محمداً بهذه الآية، فقال: يا محمد قد عبدت الملائكة وعبدت عيسى أفيدخلون النار؟ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "لقد أنساكم كفركم لغتكم إن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} 5، ولم يقل (ومن تعبدون) وأنزل الله سبحانه مصدقاً لنبيه - صلى الله عليه وسلم- {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} يعني الملائكة وعيسى6.
فأما الجواب عن قول هذا المخالف: أنهم لا يخلقون شيئاً من أجسادهم ولا من أغذيتهم إلى آخر كلامه فمن وجوه: أحدها: أن نفي النكرات يقتضي العموم كقولك: لا شيء في الدار، يقتضي نفي جميع الموجودات في الدار، كذلك قوله تعالى: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} يقتضي نفي خلقهم لجميع الموجودات من أفعالهم وأقوالهم وجميع الأجسام والجواهر. والثاني: أن الله تعالى أخبر عن وضعهم وعدم اقتدارهم على خلق شيء من الأشياء وقطع عذر من يعبدهم، فلو كانوا يخلقون أفعالهم وأقوالهم لقال الكفار هم يخلقون أفعالهم وأقوالهم التي يجلب بها النفع ويدفع بها الضر فتكون لهم الحجة على الله، والله يقول: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} . الثالث: أنه قال سبحانه {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وهذا يعم خلقه لأجسامهم وجميع صفاتهم والأعراض التي فيها وهي الألوان1، والسمع والبصر، وحركاتهم في الأفعال والأقوال من جملة أعراضهم فتكون داخلة في المخلوقات. وأما استدلال المخالف على أن المراد بالآية الأصنام لا غير بقوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء} وهذه صفة الأصنام لا صفة الملائكة. قلنا عن هذا جوابان، أحدهما: إن سلمنا أن المراد بقوله {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء} هي الأصنام لم يمتنع أن يكون أول الآية عاماً لجميع ما يعبدون من الملائكة وعيسى والأصنام، وقوله (أموات غير أحياء) خاص للأصنام، وهذا كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} 2. وهذا عام للمطلقات البائنات والرجعيات، وقوله
في آخر الآية: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ…} خاص في الرجعيات. والجواب الثاني: أنه يحتمل أن المراد بقوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء} هم الكفار، المخاطبون فخاطبهم في1 أول الآية خطاب المواجهة وأخبر عنهم في هذا بلفظ الإخبار عن الغائب، وهذا كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 2. فإنما أخبر عنهم بأنهم أموات لقلة انتفاعهم بما جاءهم به البني - صلى الله عليه وسلم- وهذا كما قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} 3 وأراد به الكفار، وكقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} 4، ويدل على أن المراد بهذا الكفار قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وهذا الوصف راجع إلى الكفار لأنهم هم الذين لا يشعرون أيان يبعثون5.
28- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قول الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 1، وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2 فأثبت الله لنفسه الخلق ونفاه عن3 غيره، كما أثبت لنفسه أنه إله ورزاق، فلما استحال أن يكون غيره إلهاً ورزاقاً استحال أن يكون غيره خالقاً. فأجاب4 هذا القدري عن قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} . وقال: أراد بهذه البدائع العجيبة من السموات والأرض وما بينهما، ثم النعم التي تقتضي وجوب شكره عليها ولهذا قال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} . والجواب: أن الآية عامة في نفي الخلق عن غيره في جميع الأشياء كما أثبت الخلق لنفسه، والإلهية5، لجميع الأشياء، وأيضاً فإن الكلام من البدائع العجيبة، ولهذا جعل الله كلام عيسى في المهد من المعجزات، وجعل كلام الذراع المشوية6، وحنين الجذع7، وتسبيح الحصا في كف النبي - صلى الله عليه وسلم-8، معجزة له وأمر الله خلقه بالاستدلال عليه باختلاف
لغاتهم1، لأن الله يخلق العبارة في الكلام في قطعة لحم عن مرادات مختلفة تتقدم على الكلام2، فالصنع العجيب في الكرم كالصنع العجيب في السوات والأرض وسائر الأجسام، فيجب أن يكون مساوياً للأجسام في كون الخالق لها واحداً. وأما قوله: أراد البدائع التي تقتضي وجوب شكره عليها3، فإن الكلام من البدائع التي تقتضي الشكر لله عليه، ولهذا امتن الله تعالى على أن
الإنسان جعل له السمع والبصر والكلام فقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} 1، فتكون كسائر نعمه التي خلقها الله فيهم قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 2. ويدل على أن أقوال العباد وأفعالهم خلق لله تعالى قلوه فيما أخبر من خلود أهل النار لما شهدت عليهم جلودهم3، قالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} 4، وحقيقة الإنطلاق من الله أن خلق النطق فيهم. ويدل على خلق الأفعال قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 5، وقوله (يسير) على وزن يقلِّب الليل والنهار، وهو خلقه لاختلاف الليل والنهار فتكون يسير أي يخلق السير فيهم6، والقدرية لا يقولون إن الله أنطق الخلق ولا أنه سيرهم بل هم الخالقون لنطقهم وسيرهم، وهذا رد منهم للقرآن الذي ختم الله على قلوبهم وجعل عليها أكنة أن يفقهوه. قال المخالف: أما قول المستدل كما أنه لا إله ولا رازق إلا الله كذا لا خالق للأشياء إلا الله فهذا جمع بغير علة ويجوز أن يقال لمن وهب لغيره شيئاً رزقه. قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} 7، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 8. والجواب أن قوله: جمع من غير علة خطأ، بل العلة المقتضية للجمع
بينهما أنه لا يجوز إطلاق اسم الرزاق، والخالق بالتعريف إلا على الله، ولهذا لو حلف حالف وقال: والخالق والرازق وانصرف ذلك إلى الله وانعقدت يمينه ولم ينصرف إلى غيره، فإن أطلق هذا الاسم على1 غير الله فإنما هو بتقييد لا ينصرف إليه الإطلاق فيصير مجازاً في غيره.
29- فصل ذكر القدري بكتابه في التشنيع على من خالفه فقال: وزعموا أن ما يحدث في العالم من المخازي والفضائح والمعاصي والخبائث والقبائح فالله خالقه ومبتدعه والكفار مبرؤون من ابتداع الكفر والضلال، بل نهاهم عن شيء أوجده فيهم وعذبهم على أمر حتمه عليهم، كأنهم لم يسمعوا الله يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1. فأخبر الله تعالى أنه ما بدأ بتغيير حتى بدأواهم فغيروا ما بأنفسهم فبدلوا نعمة الله كفراً، ولو كان الله هو الذي ابتدأهم بخلق الكفر فيهم لكان قد بدأهم بأشد التغيير. والجواب عن تسميته لأفعال العباد في المعصية قبائح وخبائث ومساوئ أن يقال له: هل سُميت هذه الأفعال بهذه الأسماء لعين الأفعال أو لمعنى غير أعيانها؟ فإن قال: سُميت لأعيانها بهذه الأسماء. قلنا: فيلزمك على هذا أن تسمي هذه الأفعال معاصي وخبائث ومساوئ وقبائح قبل ورود الشرع2 بتحريمها، كما تسمى أجساماً وأعراضاً قبل ورود الشرع، وإذا كانت كذلك استغنى الخلق بعقولهم عن بعث الرسل بتحليل الحلال وتحريم الحرام وهذا نفس اعتقاد القدرية وقد مضى بيانه3.
وإن قال: بل سميت بهذه الأسماء لمعنى غيرها قلنا: فذلك1 المعنى الذي سماها معاصي وخبائث وقبائح هو الشرع، هذا مذهب أهل التوحيد أن القبيح ما قبحه الشرع، والحسن ما حسنه الشرع2، وإذا كان كذلك بطل
أن تسمى هذه الأفعال في حق الله تعالى قبائح ومعاصي وخبائث ومساوئ وإن كان الخالق لها، وإنما تسمى بذلك في حق من حرم عليه فعلها1، وفي حق الله حسنة في الصنع والتدبير كما أن وجه القرد واسته2 قبيحان في المنظر في حقنا، وهما حسنان في صنع الله وتدبيره وقد قال الله سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ} 3 ويدل على صحة هذا
المعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "الخمر أم الخبائث "1، وقال - صلى الله عليه وسلم-: "الكلب خبيث خبيث2، ثمنه" 3 فسمى الخمر والكلب خبيثين والله سبحانه خلقهما ويسميان في خلق4 الله وتدبيره حسنين5 وقال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 6، وأراد به ما حرم أكله من الميتة والخنزير والدم، ومعلوم أن الله خلق ذلك كله. ويدل على صحة هذا المعنى أن الله سبحانه أخبر عن النصارى أنهم قالوا: المسيح ابن الله، والله ثالث ثلاثة، وأخبر أن اليهود قالوا7: عزير ابن الله ويد الله مغلولة، وقول الله في ذلك صدق وحق، وقول اليهود والنصارى بذلك كذب باطل.
وأما الجواب عن قوله: إن الكفار مبرؤون من ابتداع الكفر والضلال فنقول: هم غير مبرئين عن اكتسابه، بل وقع منهم باختيارهم غير مجبرين عليه، والأمر والنهي والذم ينصرف إلى اكتسابه1 الذي أقدروا عليه، وأما ابتداعه وخلقه فهم يعجزون عما لم يقدرهم الله عليه ولم يرده منهم، كما يعجزون عن خلق أجسامهم وألوانهم، وما وقع من كسبهم بذلك فبإرادة الله وقع ذلك منهم قال الله سبحانه {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} 2. وأما قوله: نهاهم عن شيء أوجده فيهم، فنقول: نهاهم عما لم يجبرهم على إيجاده فيهم وعما لا يستحيل منهم تركه بتوفيقه لهم، ولكن التوفيق منه لهم بالترك تفضل منه وإنعام غير واجب عليه فعله، وله ترك التفضل والإنعام، ولا يسمى بترك ذلك بخيلاً ولا جائراً، لأن البخيل من ترك فعل ما توجب عليه، والجائر من فعل غير ما أمر به وحد له. وأما قوله: عذبهم على أمر حتمه عليهم، فنقول له: إن أردت بقولك حتمه عليهم أمرهم به أو3 أوجبه عليهم فلسنا نقول ذلك، وإن أردت بذلك كتبه وقدره عليهم فكذا نقول، ولم نقل إلا كما قال الله سبحانه {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} 4 الآية، ولو خلقهم وعذبهم ابتداءاً من غير عمل منهم لم يكن ظالماً لهم ولا مستحقاً اسم الجور ولا خارجاً عن الحكمة، كما أنه خلق أطفالاً وخلق فيهم آلاما وعاهات، الجذام5، والبرص6، وقطع أو صالهم بذلك من غير ذنب سبق منهم، وكان قادراً
بذلك من غير ذنب سبق منهم، وكان قادراً على أن يعافيهم ويعطيهم المنزلة الرفيعة في الآخرة من غير عذاب منه لهم في الآلام والأسقام والآفات ولكنه محكم بمماليكه وعبيده، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون1.
وأما قوله هذا المخالف في احتجاجه على مذهبه: كأنهم لم يسمعوا الله يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى1 يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 2. فالجواب عن ذلك وعن جميع ما أورده من الاحتجاج بالقرآن أن نقول له: أهذا قول الله حقيقة فيلزمنا الجواب لك، أم ليس هو بقول الله حقيقة؟ فإن صرح بحقيقة مذهبه الفاسد الذي لا يخفى على خصمائه وقال: ليس بقول الله حقيقة ولا يجوز وجود القول منه. قلنا: فلم قلت: قال الله وتصفه بما لا يليق وصفه به عندك، ولا جواب له إلا أنه أراد ألا يخالف جميع أهل التوحيد في أن لله قولاً احتج3 به فيوافق قولهم في الظاهر لئلا ينفر السامعون عنه، وإلا فحقيقة مذهبه الذي لو صرح به أن القرآن الذي يتلوه ويحتج به قوله حقيقة وقوله خلق له كسائر أقواله4 ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن مجالسته ومجالسة أهل مذهبه5 وعند ذلك نقول: لا يلزمنا الجواب عن تأويل قوله لأنه ليس بحجة.
وإن خاف الفضيحة من السامعين وقال: ليس هذا القول خلق لي، ولا بقول لي، بل هو قول الله حقيقة، فقد رجع عن مذهبه الفاسد إلى ما عليه أهل التوحيد في ذلك، وقلنا لا حجة لك في أن الله سبحانه لم يخلق أفعال العباد وإنما العباد يخلقون أفعالهم بقوله1 تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا…} الآية، إنما أخبر الله في هذه الآية أنه لم يغير نعمة أنعمها على قوم بالعذاب وإزالة تلك النعمة حتى كفروا به وأشركوا2، فنسبه إليهم لكونهم محلاً لخلق الله له وكونه كسباً لهم، وقد قال الله سبحانه في الأرض: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} 3. فوصفها بالاهتزاز والربو والإنبات لكونه محلاً لخلق ذلك فيها، وإن كانت لا يوجد منها خلقاً ولا كسباً، وعلى أنه إن كان التغيير المذكور عنه في الآية هو خلقهم للكفر ابتداءاً بأنفسهم فقد أخبر سبحانه أنه غير4 ذلك بأنفسهم بعد تغيرهم فيكون كقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 5، فأخبر أنه سبحانه خلق التغيير في الكفر والزيغ بحال من الأحوال6، وعند المخالف أنه لا يخلق بحال من الأحوال ونقول: لو شاء الله ما أشركوا كما أخبر سبحانه7 وقد أخبر سبحانه بآخر الآية فقال: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا
مَرَدَّ لَهُ} 1 ولا سوء أعظم من الإضلال وعدم الهداية، ونقول له: قوله خَلْقُ الكفر فيهم ابتداءاً أشد التغيير، غير مسلم، بل هو ترك الإنعام والتفضل عليهم بالإيمان، والإنعام والتفضل ليسا بواجبين عليه سبحانه لخقله.
30- فصل استدل هذا المخالف على أن الله سبحانه لم يخلق أقوال العباد في الكذب بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1، فنفى الله سبحانه أن يكون الكذب من عنده وكذب من نسبه إليه. والجواب أن يقال: إنه2 لا حجة لك في الآية إن أقوال العباد في الكذب خلق للعباد وليس بخلق لله، لأن الذي لووا اليهود ألسنتهم فيه هو بعث النبي - صلى الله عليه وسلم- لأنهم غيروه وبدلوه، وقالوا: هذا من عند الله أي أنزله الله في التوراة على موسى فأكذبهم الله بأنه أنزله كما قالوا فقال: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي ما أنزله على موسى3، ولم يرد سبحانه أنه أنطقهم بالكذب بل ذلك معلوم من قوله: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} 4، فخلقه سبحانه النطق فيهم حق وحسن في الصنع، وهو كذب وباطل منهم، كما أن قول الله سبحانه5 في خبره عن قولهم: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} حق وصدق وهو بالإضافة إليهم كذب وزور وباطل، فكذلك الكلام في سائر الكلام الباطل والكذب، وكلمة (عند) ليست بصريحة في العبارة عن الخلق، بدليل أن رجلاً لو قال: عندي لفلان عبد أو قال: فلان عند الأمير، لم يدل على أنه
خلق العبد، والأمير خلق من عنده، بل المراد هاهنا ظرف المكان، وقوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ} 1، أي ما معكم من الأموال، وكذلك قوله تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} 2 أي ما معكم، ولو قال قائل: أشهد أن مسيلمة ليس من عند الله لم يحكم بكفره، بل يسبق إلى الفهم أنه ليس برسول من الله، وإن كان الله سبحانه خلقه، ولأن الله سبحانه خلقه، ولأن الله سبحنه أخبر: إن سلام الخلق على بعضهم من عنده وأمرهم بذلك فقال: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 3 وأراد يسلم بعضكم على بعض4، كما قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 5 أي يقتل بعضكم بعضا6، فإذا كان سلامهم على بعضهم من عند الله فينبغي أن يكون كلامهم بذلك خلقاً7 لله لأنه وصفه أنه من عنده، وإذا سلمتم ذلك في كلامهم بالسلام لزمكم أنه8 خلق كلامهم في غير السلام لأن الخلاف في الجميع واحد9.
31- فصل واستدل المخالف على أن العباد يخلقون أفعالهم بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 1، وهذا نص في أنهم يخلقون أفعالهم2. وبقوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} 3. والجواب: أنه4 يقال له: خطؤك في رد التنزيل أعظم من خطئك في التأويل فإن كنت مصرا على رد التنزيل وأنه ليس بقول الله حقيقة فلا جواب لك في بيان التأويل، وإن صدقت بالتنزيل أنه كلام الله حقيقة أوضحنا لك المراد بالتأويل وهو: أن الخلق في اللغة ينقسم إلى: التقدير، وإلى الإنشاء والإبداع5 فالمراد بقوله: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وبقوله: {تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} التقدير، فكأنه أراد أحسن المقدرين6، وكذلك
عيسى عليه السلام1 قدر وصور من الطين كهيئة الخفاش الذي هو لحم يطير بغير ريش، ونفخ فيه الروح فكان طيراً بإذن الله كما أخبر سبحانه2، والله سبحانه خالق المُقَدِّر وتقدير المُقَدِّر وإنما أضاف التقدير إليهم لأنه كسب لهم، وأما خلق الذي هو الإنشاء والإبداع فلا يوصف به غير الله، بل نفى الله ذلك عن غيره وأثبته لنفسه بقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 3 وأكذب من ادعى4 أنه يخلق كخلقه فقال سبحانه: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 5، فمن قال: إن العباد يوصفون بإنشاء الخلق في أفعالهم وإبداعه، فقد أكذب الله في خبره، ولو كان كذلك لكان يطلق على الإنسان اسم الخالق كما يطلق ذلك على الله سبحانه كاشتراكهما في اسم الموجود والشيء، وفي اختصاص ذلك سبحانه بالله سبحانه دليل على أنه لا يوصف غيره بالإنشاء والإبداع.
32- فصل احتج المخالف على أن العباد يخلقون أفعالهم أن الله سبحانه نسب أفعالهم إليهم في آي كثير من القرآن بقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} 1 وبقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} 2 وقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} 3 وما في هذا القبيل4 من القرآن كثير فصح أن ذلك خلق لهم. الجواب: أن وصف الله سبحانه باختراع5 أفعال العباد وإنشائها لا يخرج أفعالهم عن كونها مقدورة لهم على سبيل الاكتساب، فالله خالق القدرة ومقدورها والعبد موصوف6 بالحركة في فعله، فلذلك نسب الفعل إليهم في كل ما كان من القرآن من ذلك، والله موصوف بخلق الحركة في العبد وقد نسب الفعل إلى ما خلق فيه الفعل من الجمادات التي لا كسب لها فيه لكونها7 محلاً لخلق الله المفعول8 فيها فالعباد بذلك أولى9، والدليل على ما ذكرته قوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيه} 10 وقوله تعالى:
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ} 1 وقوله في الأرض: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ} 2 وقوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} 3 فأخبر عنه بالفعل في هذه القراءة، وفي القراءة الأخرى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} 4 فأخبر أنه سبحانه يفعل الغشيان، وهذا5 القبيل كثير، فبطل احتجاجه أن نسبة الفعل إليهم تقتضي نفي خلق الله عن فعلهم6.
33- فصل ذكر القدري المخالف كلاماً كثيراً نكتته، هل خَلْقُ الله المعاصي هل1 هو نفس المعصية أم غيرها؟ وهل كسب العبد فيها هي المعصية أم غيرها؟ وهل كسب العبد في المعصية هو خلق الله لها أم غيرها؟ فإن قلتم إن كسب العبد هو خلق الله فهو قول المجبرة، وكذلك إذا قلتم إن الخلق أو الكسب هو نفس المعصية رجعتم إلى شيء واحد، وإن قلتم إن الكسب غير الخلق رجعتم إلى قولنا. والجواب: أن المعصية هي فعل العبد المنهي عنه، وخلق الله الذي هو إنشاؤه وإبداعه لها هو غيرها، كما أن نهيه عنها هو غيرها وعلمه لها هو غيرها، وعلى أن اسم الخلق يقع أيضاً على المخلوقات قال الله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} 2 أي مخلوق الله، فالخلق مشترك بين الإنشاء والشيء المخلوق. وأما قوله: هل كسب العبد لها هو نفسها أم غيرها. فإنا نقول له: خلق العبد للمعصية على قولكم هل هو نفس المعصية أو غيرها؟ فكل جواب لهم عن هذا وهي خلق للعبد عندهم هو جوابنا لهم عن ذلك وهي كسب للعبد عندنا3. وأما قوله: هل خلق الله لها هو كسب العبد لها أو غيره؟ فإنا نقول: الله
سبحانه موصوف بذلك بصفة لا يوصف بها العبد، والعبد موصوف بذلك بصفة لا يوصف بها الله، وإن كان المعنى الذي وُصِفْنَا به لأجله واحداً فيوصف الله بأنه خالق لفعل العبد أي أنه أنشأه واخترعه وأراده وعلمه وقدره بإرادة قديمة وعلم قديم وقدرة قديمة1، ولا يوصف سبحانه بأنه مكتسب للفعل والعبد موصوف بأنه مكتسب لفعله، ولا نصفه بأنه خالق له كما أنه موصوف بأنه متحرك بفعله ومباشر له، ولا يوصف الله سبحانه بأنه متحرك فيما فعل2 ولا مباشر له3 وينفصل عن قول المجبرة، لأن المجبر هو: المقهور، والمكتسب هو من يقع الفعل منه وهو مختار لوقوعه ومؤثر لوقوعه على تركه. والمجبر على الفعل هو: المضطرب برعدة الحمى والفالج، ولا يلزمنا القول بالحق، لأن الخالق4 هو: المنشئ بقدرة قديمة على ما مضى ويوصف بالعلم بما خلق قبل الفعل وبعده، ويقدر على إعادة الخلق، وبهذا نبه الله على خلقه للأشياء بقوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 5 وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} 6 ووصف العباد بالكسب بقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 7 وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 8 وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} 9 وكل ما أخبر الله عنهم بالعمل
والفعل فالمراد حقيقته لكونه كسباً لهم لا لأنهم خلقوه، فهذا هو الفرق بين الخلق والكسب لا يعقله إلا من نور الله بصيرته وهداه إلى الحق ولم يضله على سبيل الهدى. ثم يعارض هذا بما هو أقوى منه ويقال لهم: إذا قلتم إن العبد يخلق أفعاله هل خلقها بإرادة أم بغير إرادة، فإن قلتم: خلقها بغير إرادة لم يكن وجود الفعل منه على الصفة التي وجد عليها بأولى من وجوده على خلاف ذلك، وجوز في العقل وجود الصناعات المحكمة1 ممن لا إرادة له من البهائم والجمادات، وإن قلتم خلقها2 بإرادة، قلنا لهم: فهل تلك الإرادة خلق للعبد أو خلق لله، فإن قلتم إنها خلق للعبد، قلنا: فهل خلق تلك الإرادة بإرادة غيرها أم بغير إرادة، فإن قلتم خلقها بغير إرادة. قلنا: يجوز أيضاً أن يكون خلق الفعل بغير إرادة، وإن قالوا: خلقها3 بإرادة غيرها، قلنا: فتلك الإرادة تفتقر إلى إرادة مخلوقة له وتسلسل إلى غير نهاية، وما كان هذا سبيله حكم بإبطاله، وثبت أن4 إرادته خلق لغيره وهو الله سبحانه الخالق لكل شيء من جنسها ومن غير جنسها، ويقال لهم: كيف يكون الحيوان موصوفاً باختراع الخلق وإنشائه ونحن نشاهد العنكبوت والنحل وسائر الطيور يصدر منها من لطائف صناعات يتحير في كيفيتها عقول ذوي الألباب، وكيف انفردت هي بذلك دون الله وهي عالمة بتفاصيل ما يصدر منها!؟.
34- فصل ذكرت في الرسالة من الاستدلال لنا: أن أفعال العبد خلق لله وليست بخلق العباد لأن أفعال العباد تقع على صفات محكمة وحقائق ثابتة وإعداد في الفعل، والفاعل لها من الخلق لا يعلم تلك الأوصاف1 وأعداد الحركات فيها قبل وجودها منه، بل تقع منه وهو ساه أو نائم وتقع من الصبيان والمجانين، فلما لم يعلم ذلك قبل الفعل ولا بعده دل على أنه غير خالق لها لأن الخالق يعلم خلقه قبله وبعده، وقد نبه الله بذلك على الخالق بقوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 2. ويدل على أنه لا يعلم خلقه أن رجلين لو ثرد3 كل واحد منهما رغيفاً ثم جمعها ما ثردا لم يقدر أحدهما على تمييز ما ثرده عما ثرده الآخر ولا يقدر على ذلك، ولا يعلم عدد حركات المكتسبين وصفة ذلك قبل الفعل وبعده إلا الله سبحانه الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً، فعلم أنه الخالق لهما ولما ثرداه ولما فعلاه في الثرد، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 4. فأجاب هذا المخالف عن ذلك بكلام منحوله5 وحاصله: أن علم الله بما فعل لا يدل أن كل فاعل يجب أن يعلم ما فعل، ألا ترى أن العباد مكتسبون لهذه الأفعال عند هذا المستدل وهم غير عالمين بما اكتسبوا
من ذلك قبل الفعل وبعده، فلما لم يخرجهم عدم علمهم بما اكتسبوا عن كونهم مكتسبين لأفعالهم فكذلك لا يخرجهم عدم علمهم بما خلقوه عن كونهم خالقين لها، ولا يلزم علم الله بما خلق لأنه عالم بجميع المعلومات الجلي منها والخفي، والعباد يعلمون بعلوم محصورة، وعدم العلم لا يمنع من وجود الأفعال من غير العالم بها وإنما يمنع من وجودها محكمة، لأن كون الفاعل عالماً شرط1 لوقوع فعله محكماً، وعلمه بإحكامها أيضاً لا يمنع أن يجهل التمييز بينها وبين غيرها بعد وجودها عند الالتباس وإنما الذي يحيل وجود الأفعال عدم القدرة فينا، هذا تحرير كلامه والجواب: إن قول هذا المخالف: إن علم الله بما فعل لا يدل على أن كل فاعل2 يجب أن يكون عالماً بما فعل غير صحيح، بل وجود الفعل يدل على وجود أمور في الفاعل هي شرط في كونه فاعلاً، وعدمها يقتضي عدم الفعل. أحدها: كون الفاعل موجوداً. الثاني: كونه حياً. الثالث: كونه عالماً بما فعل. الرابع: كونه قادراً على ما فعل. إذ لو لم يكن وجوده شرطاً لتصور وجود الفعل من المعدوم، ولو لم تكن حياته شرطاً لتصور وجود الفعل من الميت والجمادات، ولو لم يكن علمه شرطاً لتصور وجود المتاب ممن ليس بكاتب والنساجة والتجارة ممن ليس بنساج3 ولا تاجر، وكون الفعل محكماً يدل على تزايد علمه4 بما فعل.
وقول المخالف: عدم العلم لا يمنع من وجود الأفعال، لا يصح لما بينته1. وأما قوله: الذي يحيل وجود الأفعال عدم القدرة فصحيح ولكن يشترط وجود القدرة ووجود العلم2 من الفاعل كما اشترطت حياته، وترتيب أفعال الفاعل في التقديم والتأخير يدل على أن له إرادة لما فعل. فإذا تقرر بما ذكرت كون العلم شرطاً لوجود الاختراع ووجدنا الحركات التي تصدر من الإنسان وغيره من الحيوان لو سئل عن عددها وتفاصيلها3 لم يكن عنده خبر منها، ووجدنا الصبي حين يولد يقصد إلى ثدي أمه ويمص اللبن، والهرة حين تولد تدب إلى ثدي أمها وهي مغمضة عينيها، والعنكبوت ينسج من البيوت أشكالاً غريبة، وكذلك النحل تعمل بيوتها على شكل يعجز المهندسون عن معرفة كيفية أشكالها، علم4 أن الصانع لها هو الله الخالق لكل شيء العالم بهذه الأشكال والتصويرات. وأما قول المخالف: لما لم يخرج العباد عدم علمهم بأفعالهم عن كونهم مكتسبين لها عندكم لم يخرجهم عدم علمهم عن كونهم خالقين لها عندنا، فغير صحيح، لأن الخلق الذي هو: الاختراع والإنشاء اسم مدح تسمى به الله سبحانه فاختص بذلك بوصف مختص به زايد على ما يوصف به غيره، وهو الكسب وهو كونه عالماً بما اخترعه وأنشأه قبل الاختراع وبعده، وقد نبه الله تعالى5 على ذلك بقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 6 ولم يقل
ألا يعلم من كسب، فلم يُحمل أحدهما على الآخر بالوصف، وقد أخبر الله بضلال من سوى بين الله وبين خلقه بشيء، فقال تعالى إخباراً عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، ومن سمى غير الله خالقاً لشيء من الأشياء فقد سوى غير الله بالله، وقد قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فثبت2 ما قلما وبطل ما قالوه.
35- فصل قال القدري: لو كانت أفعال العباد خلقاً لله لما مدحهم الله بشيء منها ولا ذمهم على شيء منها. والجواب أنا نقول: إن الله لم يمدحهم ولا ذمهم على خلقه لها فيهم وإنما مدحهم على كسب ما أمرهم به وذمهم على كسب ما نهاهم عنه، وقد نسب إلى نفسه شيئاً من أفعالهم خلقاً له، ونسبه إليهم كسباً فمدحهم على شيء منها، وذمهم على شيء منها، ومصداق ذلك في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} 1، فأخبر سبحانه عن إضحاكه وإبكائه لهم بالصيغة والتنبيه2 التي أخبر بها عن إماتته وإحيائه لهم، فلما كان إحياؤه وإماتته لهم هو خلقه للحياة والموت فيهم، بدليل قوله تعالى في آية أخرى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} 3 دل على أن إضحاكه وإبكاءه لهم هو خلقه الضحك والبكاء فيهم لقوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} 4، ونسب الضحك إليهم لكونه كسباً لهم وذمهم عليه، وقوله تعالى في آية أخرى: {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} 5، ونسب البكاء إليهم لكونه كسباً لهم، ومدحهم عليه يقوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُون} 6، وبقوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} 7 وذمهم على ترك البكاء بقوله تعالى: {وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} 8 وإذا ثبت أنه
الخالق للضحك والبكاء فيهم فهو خالق لهما فيهم في الطاعة والمعصية، فمن بكى من خشية الله أو بكى على فوت1 امرأة أراد الزنا بها، فالله هو الذي أبكاه، وكذلك من ضحك في وجه أخيه المسلم لإظهار السرور له2، أو ضحك عامداً في الصلاة فالله الذي أضحكه3. والقدرية يقولون: العبد هو الخالق للضحك4 والبكاء لنفسه رداً منهم لقول الله سبحانه فيما أخبر به بكتابه.
36- فصل قال القدري: لو كان أفعال العباد خلقاً لله1 لم يأمر العباد بشيء منها ولا نهاهم عن شيء منها. والجواب: أنا نقول2: إنما يأمرهم3 بكسب أفعالهم ونهاهم عن كسب أفعالهم، وقد وصف الله سبحانه نفسه بخلق شيء من أفعالهم ونسب ذلك إليهم لكونه كسباً لهم فقال سبحانه: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا} 4 والتقدير الخلق، وقوله تعالى: {هُوَ5 الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} 6، فقوله يسيركم، على وزن يصوركم في الأرحام، فلما كان قوله تعالى: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ} 7 المراد به8 يخلق تصويركم كان قوله: {يُسَيِّرُكُمْ} أي يخلق تسييركم9، ثم أمرهم باكتساب ما أخبر أنه يخلقه فيهم وهو السير فقال سبحانه: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} 10 وقال في آية أخرى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} 11 والمسيّر لهم في البر والبحر للطاعة والمعصية هو الله، وعند القدرية أن المسير لهم في البحر هو أنفسهم برفعهم الشراع للريح، فإذا ساروا في البحر
لمعصية فإن الشيطان هو الذي يسيرهم1 وهذا غير صحيح،؛ لأن الله أخبر في الآيات2 أنهم إذا خافوا الغرق تضرعوا إلى الله سبحانه بأن ينجيهم بقوله تعالى: {جَاءَتْهَا3 رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4 الآية. ومعلوم أن الكفار والفسقة إذا ركبوا في البحر لمعصية وخافوا الغرق يدعون إلى الله سبحانه بالنجاة ولا يدعون إلى الشيطان5، فدل أن الله تعالى هو المسير لهم والمغرق لهم والمنجي لا شريك له بشيء من ذلك.
37- فصل ومن الدليل على صحة قولنا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً} 1، وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 2. فأخبر أنه جعل الرأفة والرحمة في القلوب3، والجعل هاهنا خلقه للرأفة والرحمة4 في قلوب الخلق من بني آدم والبهائم والطير، حتى إن الفرس لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، والطير تخرج ما في حواصلها5 لأولادها، والأم من بني آدم يسهر الليالي من الرحمة التي في قلبها إذا خافت عليه، ولو كانت الأم من بني آدم هي الخالقة للرحمة في قلبها لولدها، أفترى البهائم والطير تخلق تلك الرحمة في قلبها لولدها؟ ثم6 تخلق من ذلك مات يضرُّ بها؟ كذب الجاحدون لذلك فضلوا ضلالاً بعيداً.
38- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة: أن العبد لو كان هو الفاعل لإبانة غصن الشجرة منها وأن القاتل هو الفاعل للموت في المقتول لكان قادراً على إعادته لأنه من جنسه1، ومن قدر على فعل شيء قدر على فعل شيء قدر على مثله، وقد أخبر الله سبحانه بذلك وأمرنا بالاستدلال عليه بقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} 2 الآية إلى قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى3 أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} 4، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 5. فأجاب القدري عن ذلك وقال: أما القطع فإنه تفريق ولا يحتاج فيه إلا إلى استعمال الآلة الصالحة للتفريق، فأما6 الإعادة فهو تأليف لطيف بين أجزاء الأصول وأجزاء الفرع، وهو يحتاج إلى أجزاء من الرطوبة وأجزاء من اليبوسة، وأجزاء من العود متغايرة مقدرة بمقادير معلومة، وذلك مما لا يهتدي إلى معرفته العباد، فلذلك امتنع عليهم إعادة الغصن كما كان، هذا كلامه في الغصن. والجواب عنه: أنا لا ننكر أن الفعل المنسوب إلى العبد بالاكتساب للقطع هو حركته باستعمال الآلة، وأما الإبانة للغصن المقطوع فليس من فعله بل من خلق الله وبإرادته وقوع ذلك، بدليل أن الإنسان قد يضرب بالآلة القاطعة غصناً ضربة أو ضربات بين بها في العادة، فإذا لم يخلق الله
إبانته بذلك لم تقع به1 إبانة2، وأما انفصاله عن إلزامنا
له الإعادة بما1 ذكر من التأليف اللطيف، فلا حجة له عليه ولا سبيل له إلى العلم بذلك، ولا لأحد من الخلق وقد أكذب الله سبحانه من ادعى العلم بذلك فقال: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} وقد خلق الله أشياء من غير شيء، فإذا ثبت عجزهم عن إعادة خلق الغصن المقطوع دل على عجزهم عن خلق إبانته. قال القدري: وأما الموت فقد اختلف فيه (فمنهم من قال) 2: إنه معنى من جملة الأعراض، ومنهم من يقول: إنه ليس بمعنى وإنما هو عدم الحياة3. فمن قال: إنه معنى لا يقدر عليه إلا الله، والقتل هو: تخريب البنية إذ حصل بسببه الموت، والموت معنى سوى ذلك، فلا يلزم من قدر على شيء أن يقدر على غيره لا سيما إذا كان من غير جنسه، والموت من غير جنس الحياة فلا يلزم علينا هذا الإلزام. والجواب: أن يقال لهذا المخالف: المشهور من مذهب أكثر القدرية القول بأنهم يقدرون على أن يخلقوا في محل الحياة ضداَ ينافي الحياة4، وضد الحياة الموت فشاركوا بذلك قول نمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت} 5، ومن قال هذا
لا شك في كفره لقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 1، ويزعمون مع ذلك أن الواحد إذا كان في علم الله بقي من أجله خمسون سنة يقدرون على أن يقطعوا أجله2 إذا قتلوه3، فيلزمهم على هذا إذا كان في علم4 الله أنه يتزوج في الخمسين الباقية امرأة أو أكثر ويولد منهن أولاداً أن يعطوا5 النساء والأولاد حقوقهم، وإن6 كان في معلوم الله أنه يرتد في السنين الباقية فلا يورثوا ورثته من المسلمين، ويدفن في غير مقابر المسلمين، أو كان في معلوم الله أن الكافر يسلم في الخمسين الباقية يجب أن يكون في الجنة، ويلزم على أصلهم إذا بقي من أجل رجل في معلوم الله خمسون سنة فقتل رجلاً7 بقي من أجله في معلوم الله يوم أم شهر أن لا يقتل به8. ولا شك أن هذا المخالف استشنع قول أسلافه: إن القاتل يقطع
الأجل وأنه يخلق الموت في المقتول1 لئلا ينفر عنه من يريد استدراجه من العامة فاختار إظهار قول الفرقة القليلة منهم الموافقة لقول أهل التوحيد2 والمشهور عنهم ما قدمناه، والدليل على فساد قولهم قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} 3، وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} 4 ولم يفرق في ذلك بين الميت والمقتول.
39- فصل دليل لنا مذكور في الرسالة يقال للقدرية أجمعتم معنا أن القدرة في العبد على الفعل خلق لله1، فإن ادعيتم أن الفعل الموقع بهذه القدرة مخلوق2 لكم، قلنا: يستحيل وقوع فعل واحد بقدرة قديمة وقدرة محدثة، كما يستحيل وقوع فعل واحد من3 فاعلين، وإن ادعيتم الاستبداد بخلق الفعل كله وليس لله فيه اختراع ولا خلق توجه على قولكم أن خلقكم أحسن من خلق الله لأن الطاعات والأعمال المستحسنة أحسن من خلق الأعيان، وأدى إلى تكذيب قوله تعالى فيما مدح به نفسه بأنه أحسن الخالقين4، وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 5 وقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} 6 وإن ادعيتم المشاركة لله في الخلق في إيجاده بالقدرة القديمة من الله ومنكم بالقدرة المحدثة كنتم مدعين لمشاركة الخالق وقد كذبكم الله بقوله: {أَمْ جَعَلُوا7 لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 8 وطالبناكم بتمييز ما وقع بقدرتكم المحدثة، عما وقع بقدرة الله القديمة، لأن الخالق يعلم ما خلق وهذا لا محيص لهم عنه.
فأجاب المخالف عن هذا وقال: لا شك أن القدرة التي في العبد من فعل الله ومن اجل نعمه على خلقه، وأما قول هذا1 المستدل أن الفعل الواحد لا يكون إلا بقدرة قديمة وقدرة محدثة فإن هذا مبني على أصل فاسد وهو أن الباري له قدرة قديمة وذلك باطل عندنا، بل لا يحتاج إلى قدرة قديمة ولا إلى علم ولا حياة2 ولا إرادة ولا سمع ولا بصر بل هو قادر بذاته3 على جميع المقدورات وعالم بذاته وهو مستغن عن كل شيء، وصرح بأنه لا كلام له وإن القائلين بإثبات هذه الصفات لله كالقائلين بالتثنية من المجوس وبالتثليث من النصارى، هذا نكتة قوله. والجواب أن يقال: شرح القولين في القدرة المخلوقة في العبد مختلف فيه، فقول أهل التوحيد والسنة: إن الاستطاعة في العبد صفة قائمة به لا تبقى زمانين، بل يخلق الله كل جزء منها فيه حال حدوثه، واستطاعته في كل جزء غير استطاعته بالجزء الآخر4، والله خالق كل جزء، والعبد غير
مستغن عن الله في كل حال من أحواله، فاستطاعة الطاعة تسمى عوناً من الله وتوفيقاً وتسديداً، واستطاعة المعصية تسمى خذلاناً وإضلالاً والقدرة والقوة والاستطاعة تعم ذلك كله وهي معنى لا يعلم ما ذاتها، بل ينتفي بوجودها أضدادها، فالقدرة ينتفي بوجودها العجز1، كما ينتفي الجهل بوجود العلم، والموت بوجود الحياة، والحركة بوجود السكون، والسكون بوجود الحركة، وعند2 المعتزلة والقدرية أن الاستطاعة في العباد يوصفون بالقدرة عليها قبل الفعل وتبقى زمانين، وأما في حال الفعل فتتولد من الاستطاعة المتقدمة ولا يوصفون بالقدرة على الفعل حال الفعل، فهم بالجبر الذي عابوه على خصمهم وأضافوه إليهم3 أولى4، وهم مستغنون عن خالقهم حال الفعل، قال هشام بن الحكم شيخ المعتزلة والقدرية5. الاستطاعة صفة للمستطيع ليست غيره ولا هي منه6
وكذا قال إبراهيم النظام1 منهم: إن الإنسان هو الروح وهو مستطيع لنفسه2، فيؤول قولهما إلى معنى واحد، فأثبتنا أنفسهما قادرة مستغنية عن الله خالقة مصورة، وكان هشام هذا لا يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل على أصله هذا3، وإذا ثبت من قولهم أن الاستطاعة تبقى قبل الفعل ولا تبقى مع الفعل فهم متبعون لأصحاب الطبائع، وعبروا عن قول أصحاب الطبائع بهذه العبارة لأن أصحاب الطبائع يقولون: أصول العالم أربعة: الحرارة، والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وسائر الحوادث كلها تتولد من هذه الأصول، والمعتزلة والقدرية قالوا: إن الفاعل يقدر على فعله حال الفعل ولا يحتاج إلى القدرة ولا يخل بالفاعل يقدر على فعله حال الفعل ولا يحتاج إلى القدرة ولا يخل بالفاعل عدمها4. فتجويز فعلهم ممن ليس بقادر كتجويز أصحاب الطبائع الحوادث من الموات وهي الطبائع5 من غير فاعل بل يتولد منها. وأما قول المخالف في القدرة القديمة، وأن المستدل بنى كلامه بذلك على أصله الفاسدة في إثباته لله سبحانه صفات قديمة وهي القدرة والعلم والحياة
والإرادة والسمع والبصر والكلام فيقال له: رميت خصمك بذنبك، وليس من بنى قوله على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- بناه على أصل فاسد، بل من بنى قوله على خلافهما1 ومتابعة قول جهم2 وأضرابه3 فهو الأصل الفاسد، فنحن وهم4 كما قال الله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ5 فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّم} 6، وقد مضى الكلام عليهم في الصفات7، وأنا أعيد الكلام هاهنا بذلك ليتقرر بطلان مذهبهم8 ويتضح أساسهم الذي بنو عليه لحذر منهم من لا خبرة له بمذهبهم فأقول9: اعلم أن جهماً ومن تابعه قالوا: لا قدرة لله ولا علم ولا حياة ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ولا كلام، فقيل10 لجهم: أتقول: إن الله شيء؟ فقال: لا أقول إنه شيء لأن معنى شيء معنى محدث مخلوق ومعنى مخلوق معنى شيء11، وهذا كفر ظاهر لا يخفى على أحد؛ لأن الله
سمى نفسه شيئاً فقال: {قُلْ1 أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} 2، ولأن معنى شيء معنى موجود فكل شيء موجود وكل موجود شيء والموجود ضد المعدوم، فلما كان الباري غير معدوم سمي موجوداً أو شيئاً. فلما ظهرت3 شناعة قول جهم بذلك وخالف قوله بذلك قول العلماء قبله وخافت المعتزلة والقدرية السيوف إن أظهروا القول بقوله قالوا: إن الله قادر حي عالم مريد سميع بصير، ولكن ليس له قدرة ولا حياة ولا علم، ولا إرادة، ولا سمع، ولا بصر، بل هو موصوف بهذه الصفات لذاته4، إلى أن قال أبو الهذيل العلاف من رؤسائهم5: إن علم الله هو الله6، فقيل له فيلزم على قولك أن يقول الإنسان في الدعاء "يا علم اغفر لي وارحمني" فأبى ذلك لما علم تناقض قوله فيه. وقولهم يرجع بالتحقيق إلى قول جهم7 لأن حقيقة الموصوف أن يكون
له صفة موجودة به، وحقيقة الصفة أن لا تتعرى عن الموصوف، وهذا اسم حرره أهل اللغة الذين نزل القرآن بلغتهم، فلا يسمون الأحمر إلا لما فيه حمرة ولا الأسود إلا لما فيه سواد، فكذلك لا يسمون القادر إلا لمن له قدرة، والعالم إلا لمن له علم، والحي إلا لمن له حياة، وكذلك الكلام في السمع والبصر والإرادة، يستحيل وجود قادر لا قدرة له، وعالم لا علم له، كما يستحيل وجود قدرة ولا قادر ووجود علم ولا عالم ووجود حياة ولا حي، ولأن القدرية وصفوا الله بهذه الصفات وجعلوها ألقاباً لا حقيقة لها؛ لأنه إذا كان لا قدرة له ولا علم ولا حياة ولا إرادة ولا سمع ولا بصر كانت هذه الصفات له هي قول الواصفين1 له وعباراتهم فلا يكون موصوفاً بهذه الصفات عند عدم الواصف له بذلك، فيؤدي عدم وصفه بذلك إلى وصفه بضدها وهي العجز والجهل والموت والصمم والعمى تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وقد صرحوا بذلك حيث قالوا: أسماء الله مخلوقة لأنها قول القائلين
وأنا إذا قلنا الله فهو غير الإله والرحمن والرحيم وإنما هي أقوالنا1 وهذا رد لنص2 القرآن قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3، وقد أخبر الله سبحانه أن له علماً وقدرة وكلاماً4 بكتابه فقال سبحانه {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 5 وقال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} 6، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 7 وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} 8. وقال: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 9.
ويقال لهم: لم قلتم إن الله عالم، فإن قالوا: لأنه قال: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1 قيل لهم: فما يمنعكم2 أن تثبتوا له علماً بقوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ويقال لهم: لو قال قائل: إن الله آمر3 وناه وقائل ولا أمر له ولا نهي ولا قول أليس يكون قوله متناقضاً، فلا بد أن يقولوا: نعم، فقيل لهم: فكذلك من يقول: إنه قادر أو عالم أو حي ولا قدرة ولا علم ولا حياة فإنه يكون منقضاً لقوله. وأما قول المخالف: لو أثبتنا له هذه الصفات قديمة لأدى إلى4 أن تكون آلهة5 كهو6 فغير صحيح؛ لأن الصفة لا تساوي الموصوف بها حتى تكون كهو ألا ترى أن صفات الإنسان تساويه في كونها محدثة كهو ولا تساويه في كونها إنساناً كهو. قال هذا المخالف: ولأن ما قال هذا المستدل من استحالة وقوع الفعل بقدرتين قديمة ومحدثة غير لازم؛ لأن عنده أهل مذهبه أن الفعل من العبد يقع بقدرة قديمة من الله وبكسب من العبد، فنقول له: هذا لا يلزم لأن كسب العبد وقع بقدرة قديمة من الله، فالعبد لا يشارك الله سبحانه في الخلق وإنما يسمى كسباً للعبد بخلق الله فيه الاختيار وإرادة وقوع الفعل فتقع منه الحركة في الفعل المختار بخلاف الحركة منه في حالة الضرورة كالرعدة من الحمى والفالج.
تصحيح
40- فصل دليل لنا مذكور في الرسالة يقال لهم: خلق الله أحسن أم خلقكم، فإن قالوا: خلقنا، بان كفرهم وكانوا محجوجين بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 1 وبقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ} 2 وإن قالوا: خلق الله، أحسن من خلقهم، قيل لهم: فالعذرة والقردة أحسن من إيمان محمد - صلى الله عليه وسلم- ومن إيمان الملائكة وسائر المؤمنين؛ لأن العذرة والقردة من خلق الله، وإيمان النبي والملائكة والمؤمنين من خلقهم على زعمكم، وهذا كفر من أي وجه صرفوه. فأجاب هذا المخالف وقال: إن أراد المستدل بالحسن هاهنا وفي الاستدلال قبله3 جمال الصور واتساق التركيب فلا شك أن أفعال العباد لا تشارك أفعال الله بذلك وكيف تساويه أو تزيد عليه، وإن أراد بالحسن هاهنا ما يضاد القبيح من أحكام الأفعال فلا شك أن طاعات العباد حسنة والحسن هاهنا لايتزايد4. والجواب أنا نقول لهذا المخالف: يكفينا في الإلزام موضع واحد، فإن قلنا أردنا أحسن في التصوير واتساق التركيب فكيف يكون التصوير والتركيب في العذرة والقردة أحسن من التصوير والتركيب من صلاة النبي -
صلى الله عليه وسلم- والملائكة1 ومن نطقهم بقول: (لا إله إلا الله) فإذا وجدنا على مقتضى قولكم للعذرة2 والقردة مزية على صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم- وقوله بالشهادة وتولاوته للقرآن على قولكم كان ذلك شنيعاً ومقتضياً لكفر3 قائله. وإن حملنا ذلك على الحسن في التصوير وعلى ما يضاد الحسن من القبيح في الفعل لم يتناف الكلام فيه4. وقول هذا المخالف: إن الحسن لا يتزايد خطأ وخلف من5 الكلام؛ لأنه يقال: قول6 فلان أحسن من قول فلان أي في المعانى فقد اجتمعا في الحسن وأحدهما أكثر حسناً في اللسان قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} 7.
41- فصل وقد اعترض المخالف على قولنا في صفات الله سبحانه أنها ليست هو ولا هو هي ولا هو غيرها ولا هي غيره. فقال: هذا متناقض لأنها متى1 لم تكن إياه كانت غيره، ومتى لم تكن غيره كانت إياه وإلا صار هذا القول كمن يقول هي هو وليست هو. والجواب أنا نقول لهذا المخالف: هذا الاعتراض صدر ممن لا يعرف حقيقة الغيرين والمثلين. وحقيقة الغيرين: ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، وصفات الله ليست بغير الله لأنه لم يزل موصوفاً بصفات الكمال إذ لا يجوز عليه النقص والآفات2.
وحقيقة المثلين: ما جاز على كل واحد منهما ما جاز على الآخر، ولهذا قلنا: إن الصفة للقديم والمحدث ليست هي الموصوف لأنها1 لا تسد مسده فلا تسمى صفة الإنسان إنساناً وإنما تماثله في التسمية بالحدث، وكذلك2 صفات الله لا تساويه في كونها آلهة، وليس ذلك كقول القائل هي هو ليست هو فإن القول الثاني نفي الإثبات في الأول. ونقول للمخالف: التناقض في قولك هو عالم بلا علم وقادر بلا قدرة هو الظاهر؛ لأن حقيقة الموصوف من له صفة، وحقيقة الصفة معنى في الموصوف كالوجود صفة لموجود صفة موصوف بالوجود.
42- فصل ذكرت في الرسالة أن الله سبحانه أراد من العباد ما وقع منهم من خير وشر، وذهبت المعتزلة والقدرية إلى أن الله أراد منهم الخير ولم يرد منهم الشر وإنما المريد الشر1 إبليس2 والدليل على صحة قولنا قول الله
تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} 1. فأخبر2 سبحانه أنه أراد فتنة قوم ولم يرد تطهير قلوبهم. والقدرية يقولون: إن الله سبحانه لم يرد فتنة أحد وأراد تطهير قلوب جميع العباد3، وهذا خلاف ما أخبر الله عنه4. فأجاب هذا القدري عن هذا وقال: الفتنة في القرآن منقسمة إلى نعان أحدها: الحريق والعذاب بدليل قوله تعالى: {يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} 5 أي يعذبون.
والثاني: الامتحان والتشديد في التكاليف بدليل قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 1. والثالث: الإضلال بدليل قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} 2 أي لا يضلنكم الشيطان. فإذا تقرر هذا فيجوز أن تحمل3 هذه الآية وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} 4 على العقاب والإهلاك، فيكون كقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} 5 ولا يجوز أن تحمل الفتنة هاهنا على الإضلال؛ لأن ذلك قبيح، والله تعالى لا يأتي بالقبيح لعلمه بقبحه وغناه عن فعله وعلمه باستغنائه عنه6، ولا شك أن من كان بهذه الصفة7 لا يفعل القبيح، قال: وأما قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} 8 فمحمول على أحد معنيين: إما أن يريد بتطهير القلوب الزيادة في التوفيق والتسديد والهداية، فإن الزيادة في ذلك تختص بالمؤمنين الذين اهتدوا بأصل الهداية العامة للمؤمن والكافر، فإن من اهتدى منهم بذلك زاده الله هدى وتوفيقاً كما قال الله
تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 1 وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 2 فيكون المراد بطهارة القلوب هذه الزيادة، وسماها تطهيراً لأنها احدى الدواعي والمقويات على حصول التطهير. وإما أن يريد بالتطهير للقلوب هو: الحكم بطهارتها، كما ثبت قبله في التزكية والتعديل والتفسيق، فإن الحكم المزكي بزكاة غيره وشهادته بذلك يسمى تزكية ولهذا قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} 3 أي يحكم ويشهد لهم بذلك، فكذلك الحكم بالعدالة يسمى تعديلاً، والحكم بالفسق يسمى تفسيقاً فكذلك الحكم بالطهارة يسمى تطهيراً، هذا تحقيق جوابه. فيقال له ولأهل مذهبه قبل هذا: هذه الآية التي استدللنا بها وردت في قوم من اليهود، وذلك أن رجلاً وامرأة من عظماء أهل خيبر زنيا وكانا محصنين وعندهم بكتابهم على المحصن الرجم فشق عليهم4 رجمهما، وقالوا لبعضهم: اذهبوا إلى هذا الرجل الذي بيثرب فاسألوه عن هذا فإن كان رسولاً كما زعم فليس له5 الرجم بكتابه بل الجلد فإن أمركم بالجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فاحذروه، والقصة بذلك طويلة فأنزل الله فيهم {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} إلى قوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} 6 فأخبر
سبحانه أنه لم يرد أن يطهر قلوبهم، وأخبر الله سبحانه في أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم- بقوله في آية أخرى: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1 أخبرونا: هل ساوى الله سبحانه بين هؤلاء2 اليهود الذي أنزل في شأنهم هذه الآية، وبين أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم- في تطهير القلوب من الشرك3 واللطف والهداية. كما يساوي بينهم في الدعاء إلى الإسلام، أم4 خص الله أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم- بخصيصة بتطهير قلوبهم من الشرك، وفضلهم بشيء لم يخص به هؤلاء اليهود وغيرهم ممن هو أعلى من اليهود ودون أهل البيت من المسلمين؟ فإن قالوا: لم يساوهم بل خص الله أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم- بتطهير قلوبهم من الشرك والرجس وجعل لهم مزية وفضلهم على هؤلاء اليهود على سائر المسلمين. قلنا لهم: هذا هو الحق وأنتم الآن المصدقون لخبر الله بكتابه بقوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ} 5، وبقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} 6، وأي فضل أفضل من الهداية إلى الإسلام والعصمة من فتنة الشيطان، قال الله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} 7، وقال سبحانه: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 8 وكان حقيقة التخصيص لأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية على
اليهود أن خلق التطهير في قلوبهم ولم يخلقه في قلوب اليهود، وإذا أثبت ذلك وفهم استغنينا عن إبطال ما أورده هذا المعترض من التأويل في الفتنة والتطهير. وإن قال هذا المعترض وأهل مذهبه: بل ساوى الله بين أهل البيت وهؤلاء اليهود فيما خلقه بقلوبهم من ذلك، ولم يجعل لأهل بيت1 النبي - صلى الله عليه وسلم- مزية عليهم ولا خلق في قلوبهم التطهير من الرجس، وإنما هم الذين خلقوا بقلوبهم التطهير من الرجس وليس لله فيه صنع، وتطهير الله الذي أخبر أنه طهرهم إنما2 هو زيادة في التطهير أو شهادة لهم بالتطهير الذي خلقوه بأنفسهم، واليهود لم يخلقوا ذلك بأنفسهم بل خلقوا التكذيب والكفر، وهذا حقيقة مذهبهم. قلنا لهم: فهذا يؤدي إلى رد إخبار الله سبحانه أنه طهر قلوب3 أهل البيت ولم يرد تطهير قلوب اليهود ويؤدي إلى إسقاط تخصيص الله لأهل البيت وتفضيلهم على غيرهم، لأنهم إذا كانوا هم الخالقين4 لتطهير قلوبهم دون الله فلا منة لله عليهم، والمنة لله عليهم وعلى سائر المؤمنين بقوله: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ} 5. وأما زيادته لتطهير6 قلوبهم بع أن طهروها7 فليس لله فيه كبير منة، لأنهم قد بلغوا بتطهيرهم قلوبهم8 إلى الحد الذي يجب لله عليهم، وكذلك شهادته لهم بالتطهير لا منة لله عليهم به.
أفترى هذا كان خفياً على النبي - صلى الله عليه وسلم- حين رد عليهم الكساء وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي الذين أذهبت عنهم1 الرجس وطهرتهم تطهيراً "2 فهلا حقق النبي - صلى الله عليه وسلم- فعل أهله، وقال الذين خلقوا في قلوبهم3 التطهير وزدت في طهارتهم أو شهدت لهم بالتطهير، معاذ الله أن يتصور صحة هذا من4 له أدنى فطنة غلا من ختم الله على قلبه، ثم نرجع إلى إبطال ما ذكره5 هذا المخالف من6 التأويل في7 الفتنة والتطهير فنقول له: لا ننكر أن الفتنة المذكورة في القرآن تنقسم على أقسام، فمنها الغلو في التأويل المظلم كتأويلاتك كلها قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} 8، والفتنة في كلام9 العرب الابتلاء والاختبار من قولهم: (فتنت الفضة) إذا أدخلتها في النار لتميز بين
جيدها ورديئها1، والفتنة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 2، أي حرقوهم في الأخدود الذي ذكر الله في كتابه3، الفتنة بقوله تعالى: {4 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} 5، أي يختبرون بالشكر على النعم والصبر على المحن6، والفتنة بقوله تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} 7 أي في الإثم8 ومنه قوله9: {ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} 10 أي ببنات11 الأصفر12، قاله استهزاءاً، والفتنة الإزالة عن الرأي بقوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 13 أي ليزيلوك، والفتنة التحريق بقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} 14، أي
يحرفون1، والفتنة الإضلال بقوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} 2، أي بمضلين3 {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} قال الحسن البصري: "إلا من سبق في علمي أنه يصلى الجحيم"4، وزاد هذا المعترض من كيسه: إلا من المعلوم أنه يصير إلى الجحيم وإن كنا نعلم5 أنه لا يصير إليها إلا بسوء اختياره6، وهذا على وفق مذهبه7 لا يُنْقَل عن أحد من المفسرين.
والفتنة بقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَه} 1، فقيل: كفره، وقيل: اختياره، وقيل: عذابه2. فإن كان المراد بها عذابه أو كفره فالحجة لنا ثابتة لأن إرادة الله في الخلق قديمة قبل أن يخلق الله الخلق، وقد كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} 3. ويروى في الصحاح أن ابن مسعود قال: حدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو صادق المصدوق "إن أحدكم يجمع خلقه نطفة في بطن أمه أربعين4 يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ثم يؤمر بأربع بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي5 أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع6 ثم يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون لينه وبينها إلا ذراع7 ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"8. فإذا تقرر هذا وحملنا هذه الآية على ما قال المخالف: على العقاب
والإهلاك يكون كقوله:1 {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} 2 فنقول له: الحجة ثابتة3 عليك مع هذا لأنه إذا أراد عقابه أو هلاكه فإرادته بذلك قديمة على ما مضى، وعندك أن الله لم يرد عذاب أحد إلا بعد أن عصاه4، والإرادة عندك محدثة5 وهذا كفر؛ لأن ذلك يقتضي إحداث إرادة قبلها لتحدث عنها الإرادة إلى ما لا يتناهى6، والله ليس بمحل للحوادث7. وأما احتجاجك بقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} 8، فهي حجة عليك لا لك، لأن معنى قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} أي: أفمن سبق عليه القول، أو أفمن وجب عليه في علم الله أنه يدخل النار ينجو أو يتخلص فحذف ينجو ويتخلص9 وهي كقوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى
أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1 أي وجب القول بالسخط على أكثرهم فهم لا يؤمنون في علم الله. وأما قول المخالف: فلا يجوز أن يحمل الآية على الإضلال لأن ذلك قبيح والله تعالى لا يأتي بالقبيح. فيقال: هذا أصل مذهب القدرية الفاسد الذي بنوا عليه قولهم، وهو أنه لا يجوز من الله إلا ما يجوز2 من المخلوقين من الأفعال فما كان قبيحاً من أفعالنا كان كذلك من أفعاله، وهذا خطأ لأن القبيح إنما كان قبيحاً منا بمخالفتنا للأمر والنهي، فالشرع هو الذي قبح القبيح وحسن الحسن3، وليس فوق الله سبحانه من يأمره وينهاه فيكون فعله بمخالفة ما أمر به قبيحاً يتعالى الله عن ذلك. والقدرية يسمون القبيح قبيحاً لقبحه في الفعل والحسن حسناً لحسنه في العقل، وهذا خطأ لأنه لو كان كذلك4 لم يوجد شيء من جنسه إلا وكان قبيحاً5 وقد وجدنا الزنا قبل ورود الشرع لا يسمى قبيحاً إلا بعد ورود الشرع بتحريمه وتقبيحه، وكذلك تزويج الأمهات والأخوات وذاوت المحارم غير قبيح في العقل وإلا فما الفرق بين العمة وابنتها والخالة وابنتها في العقل، لولا الشرع قبح القبيح وحسن الحسن منه، ويوجد الزنا من المجنون ولا يعد قبيحاً منه، ويقبح شكر المنعم إذا نهاه عنه لمعنى6 قصده ويحسن كفره إذا أمر به لمعنى قصده، فهذا يبطل7 كل ما
أورده هذا المخالف بكتابه وتسمية خلق الله للمعاصي قبائح وخبائث1.
ثم قال هذا المخالف: إن الله لا يفعل القبيح لغناه عن فعله ولعلمه بقبحه. فنقول له: هذا خلف في الكلام، هو1 مستغن عن الحسن والقبيح وهو مستغن عن الدنيا والآخرة وما فيها وقد خلقهما الله، ويلزمك على هذا أن تقول: إنه يخلق2 الأفعال الحسنة لأنه عالم بحسنها3. وأما الجواب عن قوله: إن التطهير يحمل على الزيادة في التسديد والتوفيق4، فغير صحيح؛ لأنه لا دليل له على أن الزيادة في التوفيق تسمى تطهيراً في اللغة ولا في الشرع، وإنما حمله على وفق مذهبه وهذا تبديل لا تأويل؛ لأن الطهارة في القرآن على وجوه منها: الطهارة عن الجنابة بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} 5، والطهارة تقع على انقطاع دم الحيض لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 6 قرئ بالتخفيف أي حتى ينقطع7 دمهن، وقرئ بالتشديد فيكون المراد به التطهير بالماء8 كقوله فيهن: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي بالماء {فَأْتُوهُنَّ} . والطهارة تقع على الطهارة من أنجاس بني آدم من الغائط والبول والحيض
وهو المراد بقوله تعالى: {فِيهَا1 أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} 2 والطهارة تقع على الطهارة من الشرك بقوله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} 3، والطهارة تقع على التنزه من الذنوب وهو المراد بقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 4 فبعض الناس حمل هذه الآية على طهارتها من الأنجاس، وبعضهم قال5: عبر عن الجسم بالثياب يعني لا تلبس ثيابك على فجور ولا غدر6 قال امرؤ القيس7: ثياب بني عوف طهارى8 نقية ... وأجههم بيض المسافر9 غران10 وقال آخر: لا هُمَّ إن عامر بن جهم ... أوْذَمَ11 حجاً في ثياب دُسْم12
فإذا تقرر هذا كان حمل هذه الآية وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} 1 على تطهيرها من الشرك والذنوب على ما تقرر في هذه الآيات2 أولى. وأما حمل الآية3 على المعنى الثاني: وأنه أراد بالتطهير الحكم بطهارتها أي يشهد لها بالطهارة كنحو التزكية وغيرها مما ذكر، فإن هذا تعسف في التأويل، وهل يجد حجة على قوله إلا4 أن التطهير على وزن التعديل والإشراك5 لما خالف ذلك مذهبه، والمذهب تتبع الأدلة لا تتبع المذاهب، وإنما قصده بذلك التمويه على الطغام والعوام ومن لا خبرة له بحقيقة مذهبه، وإن صح في التطهير أنه الحكم بتطهير قلوبهم فإن الحكم هو القضاء بتطهير قلوبهم فيكون حجة لنا أيضاً. وأما قول المخالف: إن الزيادة في الهدي تختص بالمؤمنين الذين اهتدوا بالهدي العام6 كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} 7، وقوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 8 فلا نسلم له أنهم اهتدوا قبل الزيادة بأنفسهم، بل الله الذي هداهم ثم زادهم هدى لقوله9 تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} 10، وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 11.
43- فصل ومن الدليل لنا1 قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا2 قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} 3، وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} 4، وقوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} 5. فأجاب القدري وقال: المراد بقوله: {فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} شددنا عليهم التكليف بالامتناع عن عبادة العجل وامتحناهم بمخالفة السامري ولم يرد أضللناهم بل قال: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} . وأما قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} فالمراد به امتحناك بما كلفناك من القيام بأمر النبوة. والجواب: إن الفتنة أريد بها الاختبار والامتحان والابتلاء في بعض الآيات، فالحجة لنا فيها على القدرية، لأن عندهم أن الله سبحانه لا يفعل بالعباد إلا ما فيه الصلاح لهم6 ولا مصلحة لهم في أن يبتليهم ويمتحنهم بما يشاء ويعرضهم للمخالفة لأمره7 فيعاقبهم على ذلك مع علمه أن كثيراً منهم يخالفه8 في فعل ما نهاه عنه، فلما ثبت ذلك علم أنه يفعل بعباده ما شاء ولا يخرج بذلك عن الحكمة والعدل9.
وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "مر هارون عليه السلام بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما هذا؟ فقال: ينفع ولا يضر، فقال: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه فخلق الله فيه الخوار فكان إذا خار سجدوا - والخوار من دعوة هارون - فلما رجع موسى - صلى الله عليه وسلم- قال: يا رب من صنع لهم العجل فقال: صنعه السامري فقال: يا رب فمن خلق فيه الخوار، فقال له الله: أنا، فقال موسى: (يا رب إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشلء وتهدي من تشاء"1. فأضاف موسى س إلى الله2 الفتنة والإضلال والهداية، وهو أعلم بما يجوز على الله من القدرية. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} قال: "من الفتون إلقاؤه في البحر وهَمُّ فرعون بقتله وقتله النفس وخروجه خائفاً يترقب"3 وكل هذا لا مصلحة لموسى فيه، فدل على أن الله يفعل بالعباد ما فيه لهم المصلحة وما لا مصلحة لهم فيه4، وكذلك قال الله تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ
فِتْنَةً لَهُمْ} 1 قيل بلية لهم ليعلم أيطيعون الله بها أم يعصونه، ومعنى لنعلم
بالمشاهدة والوقوع الذي تقع به الحجة عليهم، فأي مصلحة لهم في ذلك1.
44- فصل قال المخالف: ولا حجة لهذا المستدل بقوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1، فإن الضلال ينقسم إلى معان: منها2 العقاب بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} 3، أي في عذاب، ولهذا قال الله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ…} 4، والثاني: الهلاك بدليل قوله تعالى: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ} 5 أي هلكنا، والثالث: إلى إبطال العمل بدليل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} 6، فيحمل كل ما نسب الإضلال إلى الله على إهلاكهم وعذابهم وعلى إبطاله لأعمالهم7. فأما الهدى فإنه ينقسم إلى ثلاثة معان: أحدها: الدلالة والبيان بدليل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} 8 أي بيان. والثاني: زيادة في التوفيق والتسديد بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 9.
والثالث: الثواب في الجنة1 بدليل قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} 2. فأخبر أنه يهديهم بعد القتل، والهداية بعد القتل لا تكون إلا ثواباً، والهدى الذي هو الثواب والزيادة لا تكون إلا للمؤمنين، والهدى الذي هو الإرشاد عام لجميع المكلفين، وهو المراد بقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 3، فأخبر أنه هدى الكفار وأنهم استحبوا العمى على الهدى، هذا نكتة قوله وعمدته. والجواب: أنا لا ننكر توارد المعاني المختلفة واشتراكها في اللفظة الواحدة في لغة العرب. والضلال في لغة العرب: سلوك عن القصد يقال: ضل عن الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه4. وأما إطلاق الضلال في الشرع فأصله من قولهم5: ضل عن أمر الله إذا ضيعه ومنه قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 6. ومنه قوله: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} 7. والإضلال في القرآن على وجوه كثيرة لأدلة دلت عليه، فورد والمراد8 به الإغواء في قوله تعالى اخباراً عن إبليس: {لأضِلَّنَّهُمْ} 9 يعني لأغوينهم عن الهدى فيكروا10، وكذلك في قوله:
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} 1 يعني أغواهم2، ومثله {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ} 3 يعني غوى4. وورد والمراد به الصد بقوله تعالى: {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوك} 5 أي يصدونك6، ومثله {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 7 أي يصدك، وورد والمراد به الخسارة وهو قوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} 8 أي في خسارة9، ومثله قوله: {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 10، يعني في خسارة11 ومثله {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 12 أي في حبه ليوسف وتقديمه علينا ولم ينسبوه إلى الضلال عن الدين13، وورد في القرآن والمراد به الشقاء والعناء وهو قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} 14 يعني في شقاء وعناء15. وورد والمراد به الخطأ وهو قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 16
ومثله {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ1 حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 2 يعني أخطأ طريقاً3. وورد4 والمراد به النسيان وهو قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} 5، أي تنس إحداهما6. وورد والمراد به إبطال العمل وهو قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} 7 أي أبطل أعمالهم8 ومثله قوله: {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} 9 ومثله قوله: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 10 يعني بطل عملهم11 في الحياة الدنيا. فإذا تقرر هذا فلا يجوز أن يحمل كل إضلال للعباد ورد في القرآن على غير ضلال عن الدين بغير دليل لا سيما الإضلال المقابل بالهدى كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} 1. فلا يجوز أن يحمل الإضلال هاهنا على الإهلاك والعقوبة في الآخرة، بل قد أخبر أنه أراد به الإضلال في الدنيا بالمثل لكثير من اليهود2؛ لأن الله ضرب الأمثال3 والأشباه للخلق وجعلها للقلوب كالمرايا للوجوه، وأمرهم أن يستدلوا بها على ما غاب من أبصارهم، وذلك عام لجميعهم لتثبت الحجة له عليهم وجعل الهداية منه بها خاصة4 للمؤمنين فقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} فنسب الإضلال والهداية إليه، وقال في آية أخرى: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} 5 فنسب في هذه الآية عقل الأمثال إليهم لكونهم مكتسبين عقلها، ولما حرم الكفار الاهتداء والعقل في الأمثال المضروبة وخلق فيهم ضده سماه6 إضلالاً، ولا يجوز حمل الإضلال هاهنا على إبطاله لأعمالهم لأنه يحتاج إلى إضمار الأعمال، ولا يجوز صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل ولا ضرورة، وكذلك الإضلال المذكور في الأعراف بقوله تعالى7: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 8، فلا يجوز حمل الإضلال هاهنا على إبطال العمل ولا على العقوبة في الآخرة لأنه قال في آخر الآية:
{وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ووذره لهم في طغيانهم إنما يكون في الدنيا، ولأنه قال قبل هذا: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ…} 1 إلى قوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} 2. فذكر أنه يستدرجهم بالنعم ويملي لهم في الإنظار ثم قال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} 3 فذمهم على عدم التفكر ثم قال بعده: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} أي لو هداهم ووفقهم للنظر في ملكوت السموات والأرض لكان منهم ذلك، والهداية منه والتوفيق إنعام وإفضال، وله ترك الإنعام والإفضال ولا يكون4 ذلك منه جوراً ولا بخلاً. ويدل على صحة قولنا قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ5 أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} 6 والمراد بهذه الآية ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة في الإسلام، ولكن يضل من يشاء عن الإسلام فيحرمه التوفيق والتسديد إليه، ويهدي من يشاء أي يوفقه ويسدده إلى الإسلام، فقيد الإضلال والهداية لمن يشاء ولم يقيد بعمل من عامل استحق7 الإضلال أو الهداية بعمله8 وليس كذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} 9 فإن ذلك إخبار عن قوم بأعيانهم كفروا وصدوا عن سبيله فأضل أعمالهم، ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً..} الآيات إلى قوله: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} 10.
وهذا يدل على أن المراد بالضلالة هاهنا الإضلال في الدين لا في إبطال العمل ولا في العقوبة والهلاك؛ لأنه أخبر أنهم قالوا: لن نؤمن لك حتى تفعل لنا كذا وكذا، ثم قال بعده: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ1 الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} 2 وأمره أن يبين لهم ما المانع3 من أن يبعث ملكاً وهو أنهم ليسوا بملائكة فيبعث4 إليهم من جنسهم، ثم أخبر أنه لو هداهم أي وفقهم إلى الإسلام لاهتدوا، ولكنه أضلهم فليس لهم أولياء من دونه، ثم أخبر أنه يحشرهم بعد ذلك فدل على أن الهداية والإضلال في الدنيا لا في الآخرة ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 5 والمرشد إنما يكون في الدنيا إلى طريق الدين، ولا يكون مرشدا في الآخرة، ويدل على الإضلال في الدين قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} ي عني بالقرآن {صُمٌّ} لا يسمعون الهدى {وَبُكْمٌ} 6 لا يتكلمون به {فِي الظُّلُمَاتِ} يعني ظلمات الشرك {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} أي عن الهدى، نزلت في بني عبد الدار بن قصي: {وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 7، يعني على طريق مستقيم وهو الإسلام، نزلت في علي بن أبي طالب والعباس وحمزة وجعفر عليهم8 السلام9، فأخبر سبحانه أنه فاضل بين الفريقين، وأنه جعل
أحدهما على صراط مستقيم وذلك لا يمكن حمله إلا على اختصاصه لهم في الدين فدل انه لم يجعل ذلك لمن أضله،؛ لأنه المفاضلة في الشيئين إنما يكونان من جنس ليكون1 أحدهما ضد الآخر كقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} 2، وكقوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} 3، ويدل على ثبوت الإضلال في الدين بالدنيا قول الله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} 4 يقول شبه له سوء عمل0هـ {فَرَآهُ حَسَناً} يعني ما زين له الشيطان وحسنه عنده، وقيل: {فَرَآهُ حَسَناً} يعني صدقاً فلم يرجع عنه5 كقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} 6، فإن الله يضل من يشاء عن دينه فلا يهديه إلى الإسلام ويهدي من يشاء لدينه، وهذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام7، ويقال في العاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد المطلب8 وفيها محذوف لعلم السامع والتقدير: أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله9 يدل عليه قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 10 ويدل على ما قلنا قول الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} 1. وهذه الآية نزلت في تسعة من المنافقين منهم مخرمة بن زيد القرشي هاجروا من مكة إلى المدينة فندموا فرجعوا إلى مكة بغير إذن النبي - صلى الله عليه وسلم- وكتبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- إنا على ما كنا عليه، ولكنا اشتقنا إلى بلادنا وإخواننا وأهلنا، ثم خرجوا تجاراً إلى الشام، واستبضعهم أهل مكة بضائع وقالوا: أنتم على دين محمد فلا بأس عليكم من أصحابه، فبلغ أمرهم إلى المسلمين فقال بعضهم: نخرج إليهم فنقاتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم تركوا دار الهجرة وصاروا عدواً لنا وقال بعضهم: ما حلت لنا دماؤهم ولا أموالهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم- ساكت فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} 2 أي تختصمون {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} فردهم إلى الكفر {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} عن دينه {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} 3، وهذا يدل على إضلال الله لهم في الدين بالدنيا؛ لأن المسلمين أرادوا هدايتهم في الدين بالدنيا4 فرد الله ذلك عليهم وأخبر5 الله عنهم أنهم ودوا كفر6 المسلمين وهذا كله في الدين بالدنيا. وأما قول المخالف بقوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} 7 أنه أراد8 به العقاب في الآخر فغير مسلم، ولم يقل أحد من أهل اللغة ولا من المفسرين أنه أراد بالإضلال هاهنا العقوبة، بل قالوا: إنهم في ضلال بالدين ويقال: في شغل وعناء9، ونزلت في المكذبين في القدر. وروى ابن زرارة
الأنصاري عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} فقال - صلى الله عليه وسلم-: "أنزل الله هذه الآية في أناس يكذبون بقدر الله" 1،ولا حجة له بقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} ، أن الإضلال هاهنا العذاب، بل نقول: إنه أخبر في الآخرة على ضلالهم بالدين في الدنيا، فيكون بهذا زيادة فائدة غير ما ذكر المخالف، ويدل على إضلال الله بالدين في الدنيا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 2 وهذه الآية نزلت في قوم هووا الأوثان3 فعبدوها4، فأخبر الله أضلهم حرمهم التوفيق والتسديد على ما سبق في علمه أنه يخلقهم ضلالاً، وأخبر أنه ختم على سمعهم5 فلا يسمعون الهدى، وعلى قلوبهم فلا يعقلون الهدى، وجعل على أبصارهم غشاوة يعني الغطاء، فمن يهديهم يعني يرشدهم من بعد الله، ثم أخبر عن قولهم في الدنيا {وَقَالُوا6 مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وهؤلاء دهرية، وقول المخالف: إن الختم على القلوب العلامة في الآخرة تعسف وصرف للقرآن عن ظاهره على وفق مذهبه، وسأبين ذلك إن شاء الله7. ويدل على إضلال الله لهم في الدنيا قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ}
يعني شبهاء قل لهم يا محمد {سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْض} بأن معه شريكاً، {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} يقول بل بأمر1 باطل وكذب {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 2 يقول: من يضلل الله منهم بحرمانه التسديد فما له من هاد أي3 من مرشد قال: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} فأخبر سبحانه أن الذين أضلهم يعذبهم في الدنيا4 بالقتل ببدر {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} 5 يقيهم عذابه في الآخرة. وأما قول المخالف: إن6 الهدى على أضرب، فلسنا ننكر اشتراك المعاني في لفظة الهدى، فقد ذكر الله الهدى في القرآن في مائتين وستة وثلاثين موضعاً7، وهو على أوجه8، فمنه ما ورد والمراد به التأييد والتوفيق وهو
المراد بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1 أي ليس عليك توفيقهم وتأييدهم، ولكن الله يؤيد ويوفق لذلك من يشاء، فعلَّقه على من يشاء، فدل على أنه على غير عمل سبق منهم2، ومنه ما ورد والمراد به الدعاء والدلالة وهو المراد بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3 أي لتدعو، ومثله قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} 4 أي دليل، ومثله قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} 5 أي دلوهم، ومثله قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 6 أي يدل، ومثله قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} 7 أي الدلالة على الحق وهو كقوله تعالى: {قُلِ8 اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} 9 أي يدل، ومثله قوله تعالى: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} 10 أي دليلا، ومنه ما ورد والمراد به البيان وهو المراد بقوله تعالى: {11 وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} 12 أي بينا لهم، ومثله قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} 13 أي ألم يبين، ومثله قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} 14 أي بياناً لهم ورشداً15 وخص ذكر المتقين: أي إنما ينتفع بالبيان المتقون الذين سبقت لهم من الله الرحمة
وإن كان الخطاب للجميع وهو كقوله تعالى: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} 1 فعم الناس بالإنذار، وأخبر أنه لا ينتفع بالإنذار إلا البعض، فقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} 2 وكقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ3 مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} 4 وكقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 5 فالدعوة من الله على ألسنة الرسل والبيان والدلالة عامة لجميع الخلق، ولم يجعل الله إلى الرسل إلا ذلك ولا أقدرهم ولا أمرهم إلا بذلك، وأما الهداية الذي هو التأييد والتسديد والتوفيق6 وتنوير القلوب فالله تعالى7 يختص به من يشاء من عباده ولم يجعل إلى الرسل منه شيئاً، وهو المراد باختباره تعالى عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 8، وذلك أن أبا طالب بن عبد المطلب قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمداً وصدقوه تصلحوا وترشدوا، فقال له9 النبي - صلى الله عليه وسلم-: يا عم تأمرهم بالنصيحة وتدها لنفسك قال: فما تريد يا ابن أخي، قال: أريد منك كلمة واحدة فإنك10 في آخر يوم من أيام حياتك أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله، فقال: يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع11 عند الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها، ولأقررت عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصحك، ولكن سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم
وعبد مناف، فأنزل الله {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية1 يقول: إنك لا تؤيد ولا توفق إلى الإسلام، خصت أبا طالب وعمت، ولكن الله يوفق ويؤيد إلى الإسلام من يشاء، خصت2 العباس3 وعمت غيره {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} من قدر له الهدى، ولا يجوز أن يراد بهدى النبي - صلى الله عليه وسلم- هاهنا الدعوة ولا الدلالة، لأنه قد دعى الجميع وبين الله للجميع، ولا يجوز أن يراد بهداية النبي - صلى الله عليه وسلم- هاهنا ثواب الجنة الذي قال المخالف؛ لأن أحداً من أهل اللغة والتفسير لم يذكر أن الهدى يراد به4 الثواب وإنما ذلك تعسف في التأويل. وأما قول الله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} 5 فقيل سيهديهم للعمل الصالح في الدنيا وصلح بالهم في الدنيا6، وأما استدلاله على7 ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّه} ، فقد قرئ (قَاتَلوا في سبيل الله) فإن تعلقت8 بقراءة (قُتُلوا) تعلقنا بقراءة (قَاتَلوا) 9.
وقيل: سيهديهم في القبور إلى القول بالحق الذي قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 1 وهو عند مسألة الملكين له في قبره2 الذي وردت به الأخبار في الصحاح مما ينكره القدرية3. وأما قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ} فلا دليل له أن الهداية في الجنة هو الثواب، بل إدخاله الجنة لهم هو لثواب هدايته لهم في الدنيا إلى الأعمال الصالحة. وأما قول المخالف في قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي أراد هدايتهم العامة وهي التأييد والإسلام فاستحبوا العمى على الهدى قد يراد به البيان والدعوة4، وهذا هو الهدى الذي عم الخلق به، فكيف يصح لك أيها المخالف أن تحمل الآية على موضع النزاع والخلاف، ويدل على بطلان قولك، قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} 5 فأخبر أن من يهديه الله فهو المهتدي، ولا يجوز أن يراد هاهنا من يدخل الله الجنة أو من يثيبه فهو المهتدي أي فهو الداخل6، هذا ما لا يقبله عقل عاقل. وأما قوله: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فنقول: لا ننكر أنه نسب استحباب العمى إليهم لكونه مكتسباً لهم ولذلك أخبر أنه عاقبهم بكسبهم
لذلك بقوله: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . فأخبر الله انه عاقبهم على كسبهم لذلك لا على خلق ذلك فيهم، وكذلك الجزاء في آي كثيرة إنما ذكره الله على الكسب ولأن استحسانهم كان بمشيئتهم لذلك ومشيئتهم متعلقة بمشيئة الله، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} 1، وقوله تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ2 إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} 3. وأما قول المحالف في الهدى إنه الزيادة في الهدى4، وكذلك قوله في التطهير فيما مضى5 فيقال له: إذا وافقت أن الله تعالى يخلق الزيادة في التوفيق6 والتأييد في قلوب المهتدين والمؤمنين الذين خلقوا الإيمان والهدى في قلوبهم أولا، فقد وافقت على أنه خلق7 شيئاً من أفعال عباده زيادة فيما8 خلقوه أولاً في نفوسهم، ويكون ذلك ثواباً لهم وجزاء على ما خلقوه بأنفسهم، فلا يمتنع أن يبتدئهم ويخلق التوفيق والتسديد والتأييد لهم إلى الإسلام والإيمان قبل أن يخلقوه في أنفسهم، ويكون متفضلاً منعماً عليهم ولا يكون ذلك مستحيلاً منه، ولا يستحيل خلق ضده في قلوب آخرين فلا يكون ذلك جوراً وظلماً لهم، ولا يكون قبيحاً منه، كما أخبر في إعطائه وتفضله عليهم في الدنيا لمن يشاء ومنع ذلك عمن يشاء بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 9 فقد أخبر أنه
آتى الملك من شاء أليس ذلك يعد تفضلاً منه عليهم؟ ونزعه ممن يشاء منهم هل يعد أنه ظلمهم أم يقال منعهم1 ما لا يستحقونه عليه؟ وأعز من شاء بفضله وأذل من شاء بعدله بيده الخير، أي2 خير أفضل وأكثر من الأعمال التي ينال بها الخير الدائم في الآخرة، وأي عز اعز من العز الدائم في الجنة، وأي ذل أعظم من الذل الدائم في النار. ويدل على إضلال الله لهم في الدنيا عن الدين قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} 3 الآية. وسبب نزول هذه الآية أن عيينة بن حصن الفزاري دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وهو جالس على البساط ومعه سلمان الفارسي وليس عنده غيره وبيد سلمان خوص يشقه وعليه شملة وهو4 يوم حار، فجعل عيينة يشير إلى سلمان أن5 تنحى عن البساط، وجعل سلمان يتنحى وعيينة ينحيه حتى أرحله6 عن البساط ثم قال عيينة: يا محمد لو كنت إذا دخل عليك رؤساء قومك وأشرافهم نحيت مثل هذا وأرابه كان أسرع لهم7 فيما تحب، أما يؤذيك ريحه لقد آذاني ريحه، إن نُسلم يسلم الناس بعدنا، والله ما يمنعنا من الدخول عليك ولا اتباعك إلا هذا وأضرابه فأنزل الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} 8 إلى قوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} 9 فأخبر الله تعالى أنه أغفل قلبه عن ذكره وهو
القرآن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه " وكان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا رآهم قال: "مرحباًُ بمن عاتبني ربي فيهم "1 وهو سلمان الفارسي وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر وخباب بن الأرت وعامر بن فهيرة وبلال ونحوهم من فقراء المسلمين، ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 2، قال أهل التفسير: يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان قاله سعيد بن جبير3، وعن الضحاك4: يحول بين المؤمن والمعصية وبين الكافر والطاعة5.
45- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة1 قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} 2، ومثله قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 3 ومثله قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 4، ومثله قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ5 مَا فَعَلُوهُ} 6، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} 7. وعند القدرية: إن الله شاء إيمان جميع من في الأرض، وآتى كل نفس هداها وشاء هداهم ولم يشأ شركهم ولا8 اقتتالهم، وهذا تكذيب لما أخبر الله عنه بكتابه. فأجاب القدري عن ذلك كله وقال: المشيئة تنقسم إلى معنيين: مشيئة تمكين واختيار ومشيئة قهر وإجبار، فالله قد شاء الطاعات والإيمان من المكلفين باختيارهم9 وعلى ذلك تحمل الآيات المقتضية أنه أراد منهم الصلاح، وأما مشيئة القهر والإجبار، وهو أن يخلق فيهم الطاعة جبراً ويشاء ذلك منهم جبراً، فلم يشأ ذلك منهم، ولو شاء ذلك منهم لوقع لا محالة، ولكن تبطل فائدة التكليف وعليه نحمل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} وما أشبهها من الآيات10.
والجواب أن يقال له: قد تقدم القول منك أن الله ليس له مشيئة وهي الإرادة1، فكيف تقول: إنها تنقسم إلى معنيين؟ فإما أن ترجع إلى مذهبك الفاسد وتقول: ليس لله مشيئة، فيفسد عليك التأويل في مشيئة الاختيار أو القهر، وإما أن ترجع إلى مذهب أهل التوحيد أن لله مشيئة شاء بها
الاختيار من العباد أو القهر والإجبار فيكون الاختيار في الفعل راجعاً إلى صفات العباد في أفعالهم1، وأما القهر والإجبار فلا يتصف به إلا فعل الله لأنه هو القاهر2 والمجبر، والخلق مقهورون مجبورون3.وأما المشيئة التي
الإرادة فلا تتصف بذلك1. ثم يقال لهذا المخالف: لسنا ننكر أن الله سبحانه لو شاء أن يجبر العباد على أفعال الطاعات والإيمان ويضطرهم إلى ذلك لكان قادراً عليه لأنه لا يعجزه شيء أراده. وقد أخبر سبحانه عن ذلك بقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 2، ونقول مع ذلك: إن الله سبحانه لو شاء أن يؤمن جميع أهل الأرض باختيار منهم بأن يحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم فيطيعوه ويخلق فيهم الرغبة إلى ثوابه، ويكره إليهم الكفر3 والعصيان ويخلق في قلوبهم الرهبة والخوف من4 عذابه لكان قادراً على
ذلك ولا يسمى ذلك إجباراً أو قهراً، وقد أخبر1 عن تفضله بذلك على المؤمنين فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} 2، وقال في آية أخرى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 3. فهذا ما أخبر عن لطفه بالمؤمنين وتنوير قلوبهم وتأييدهم بالإيمان مع ما أخبر الله عن فعله ضد ذلك بقلوب الكفار والمنافقين4 كقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} 5، قوله6 تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 7، وقوله في آي كثيرة {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 8. وسأبين فساد تأويله في الختم والطبع في موضعه إن شاء الله9. ويقال في تقريب هذا الدليل للقدري: هل يقدر الله على فعل يفعله بالعبد يختار العبد لأجله الإيمان على الكفر والطاعة على المعصية؟ فإن قالوا: نعم يقدر على ذلك، رجعوا إلى قولنا وقول جماعة الموحدين ما شاء الله كان10 وفارقوا قولهم الفاسد، وإن قالوا: لا يقدر، قلنا: فأنتم
محجوجون بقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، وبقوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} 2، فأخبر سبحانه أنه لو بسط الرزق للعباد لبغوا في الأرض وخالفتم قول جماعة المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن3. ويقال للقدري: إذا كانت المشيئة عندكم تنقسم إلى مشيئة الاختيار ومشيئة القهر والإجبار، وقلتم: إن الله قد شاء من جميع العباد الإيمان مشيئة الاختيار منهم ولم يشأ منهم الإيمان مشيئة القهر والإجبار، ولذلك لم يكن خبر الله بخلاف مخبره بقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} 4، فما يقولون لو أجبرهم على الإيمان وشاء ذلك منهم مشيئة الإجبار؟ 5 أيكون خبر الله في هذه الآية بخلاف6 مخبره، قيل لهم: فما يؤمنكم من قائل يقول إنه لا يصير كذلك ويقول أراده مشيئة الاختيار لا مشيئة الإجبار7، فإن قلتم: لا يقبل منه هذا التأويل لأن المشيئة عامة في المعنيين، قلنا لهم: ونحن لا نقبل منكم هذا التأويل لأن المشيئة عامة في المعنيين8، ولهذا قال رجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاً إن شئت من عبدك أن يدخل
الدار1، فقالت لعبدها: شئت أن تدخل الدار ولا أجبرك عليه، فإنها تطلق بإجماع الفقهاء، ولو أجبرته حتى دخل الدار وحملته بغير اختياره فدخلت به الدار كان في وقوع الطلاق خلاف بين العلماء2، فدل على أن إطلاق المشيئة إنما يصرف إلى إرادة المأمور باختياره وأن إجباره على الفعل لا تنصرف إليه المشيئة.
46- فصل استدل القدري المخالف على أن الله سبحانه أراد من أفعال العباد الخير، ولم يرد منهم ما وقع منهم من شر ومعصية1 بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2 قال: واليسر: اسم جنس يدخل تحته كلما يسمى يسراً، ولا شك أن النفع يسر والطاعات من ذلك، والعسر: اسم جنس يستغرق كل عسر ولا شك أن العسر هو الضرر وأعظم المضار النار وما يؤدي إليها، هذا نكتة قوله. والجواب: أن يقال لهذا المستدل: قد رددت التنزيل وأخطأت التأويل، وأما ردك للتنزيل فإنك زعمت أن هذا القول ليس بقول الله حقيقة، فإن لم يكن قوله حقيقة، وإنما هو حقيقة قولك وخلقك فلا دليل لك فيه ولا تأويل. وإن قلت: إنه قول الله حقيقة أجبناك عن تأويلك هذا، وقلنا: الذي دعاك إلى هذا الذي ذكرت جهلك بلغة العرب وبتفسير القرآن، أما لغة العرب فإن أحداً من أهل اللغة ما ذكر أن اليسر: اسم لما ينفع من أعمال الطاعات ولا العسر اسم لما يضر من أفعال المعاصي، وإنما قالوا اليسر: اسم للغنى والرخاء والسعة3. والعسر: اسم للفقر والشدة والضيق4 قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} 5. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: "ابشروا لن يغلب عسر يسرين ويسران
يغلبان عسراً" 1، وقال ابن مسعود: "لو أن العسر في حجر لتبعه اليسر حتى يستخرجه لن يغلب عسر يسرين"2. وتفسير ذلك أن العرب إذا ذكرت نكرة ثم أعادتها منكرة فهي غيرها، وإذا ذكرت نكرة ثم أعادت ذكرها بالألف واللام فهي الأولة بعينها، تقول: إذا كسبت درهما فأنفق درهما، فالثاني غير الأول، ولو قال: إذا كسبت درهما فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول، فلما ذكر الله العسر معرفاً بالألف واللام ثم أعاد ذكره معرفاً بالألف واللام علم أن الثاني هو الأول، ولما ذكر اليسر بغير ألف ولام ثم أعاد ذكره أيضاً علم أن اليسر الثاني غير الأول، فلذلك قيل: "لن يغلب عسر يسرين" فهذا المذكور في لغة العرب، وأما اليسر والعسر المذكوران في الآية التي احتج بها فأراد باليسر السعة في الرخصة بترك الصوم للمسافر والمريض لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ} 1حين رخص للمسافر في ترك الصوم {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} حين لم يجعل الصوم عليهما متحتماً وهذا كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2 أي ضيق3 فبطل تعلق المخالف بهذه الآية.
47- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1، ومعنى {نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ2 الْمَلائِكَةَ} كما سألوا في الفرقان {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} 3 ومعنى {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} لأن كفار قريش قالوا: يا محمد ابعث لنا موتانا فنسألهم عما تحدثنا به أنه يكون بعد الموت4، ومعنى {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} يعني عيانا5 ويقال (قُبُلا) 6 يريد جماع القبيل7، أي ضروب العذاب8 {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} يعني ليصدقوا
{إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} لهم الإيمان فدل على أن الله لم يشأ لهم الإيمان. فأجاب هذا القدري المخالف وقال: المراد بالمشيئة هاهنا مشيئة الإجبار والقهر ولم يرد مشيئة الاختيار1؛ لأنه لو أراد ذلك لما كان عليهم لوم ولا توبيخ. والجواب: ما قدمناه أن لله تعالى مشيئة2، والاختيار والإجبار يرجعان إلى صفة العبد لا إلى مشيئة الله، وخبر الله لا يقع بخلاف مخبره، وإذا ثبت أنه أراد من الكافر الذي لم يؤمن الإيمان ومن العاصي الطاعة مشيئة الاختيار وقع خبر الله بخلاف مخبره؛ لأنه يقع عليها اسم المشيئة3 وكان ذلك مخالفا لقول جميع أهل التوحيد (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) وأيضاً فلو كان عند رجل لآخر4 دين حال وهو موسر به فطالب من له الدين بدينه اليوم فقال من عليه الدين: امرأته طالق ثلاثا أو حلف بالله ليقضيه حقه هذا اليوم إن شاء الله، فمضى اليوم ولم يقضه، فإن جميع الفقهاء قالوا: لا يحنث بيمينه في الطلاق ولا بالله تعالى، وقضاء الدين الحال واجب، وعلى مذهب القدرية أن الله تعالى لا يوصف بأنه لا يشاء قضاءه لأن تأخير القضاء5 معصية6، ولو كان الأمر كما ذكروه لحكم عليه
بالطلاق وبالكفارة باليمين بالله، وهذا لم يقله أحد من أهل العلم، بل قالوا جميعا: لا يحكم عليه بالطلاق ولا بالكفارة، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف يمينا وقال إن شاء الله كانت له ثنياه"1. ولأن مشيئة الله سبحانه لا تعلم، فإذا وجد القضاء علمنا أن الله شاء القضاء، وإذا لم يوجد القضاء علمنا أن الله لم يشأ القضاء إذ لو شاءه لو قع لأن ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن. وأما قول المخالف: إذا قلتم: إن الله سبحانه لم يشأ ممن لم يؤمن الإيمان فلا لوم عليهم ولا توبيخ، غير صحيح لأن الذم والتوبيخ والعقاب على مخالفة المأمور للأمر، والأمر لا تعلق له بالمشيئة، لأن الأمر يعلمه بمجرد القول لمن هو دونه (افعل) 2 ومشيئة الله لوقوع الفعل المأمور به لا تعلم إلا في ثاني الحال، فإن وفق الله العبد المأمور ولطف به وأعانه على فعل ما أمر
به1 وفعله علمنا أن الله شاء منه وقوع ما أمر به فهو المحمود على فعل ما أمر به، ونعلم أنه أراد إثباته، وإن لم ينعم عليه ويتفضل بالإعانة على فعله ولم يفعله علمنا أنه لم يشأ منه فعل ما أمر به، وعلمنا أنه أراد عقابه وعليه يدل قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2. وكذلك قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 3.
48- فصل ومن الأدلة المذكورة قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 1 في آي كثيرة، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 2 وهذا عام فيما أورده من فعل نفسه وفعل عباده، ولولم يتم ما يريد من ذلك لحقه الوصف بالعجز ويتعالى عن ذلك علوا كبيراً. فأجاب القدري المخالف وقال: لا حجة لهذا المستدل لأن أفعال العباد غير مخلوقة لله فتخرج بجريانه3 عن عموم قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وإنما العباد هم الخالقون لأفعالهم والعجز يلحقه إذا لم يتم ما أراد4 من فعل نفسه، فأما إذا لم يتم ما أراد5 من فعل غيره فلا يلحقه بذلك الوصف بالعجز، لأنه لم يرد مغالبتهم بل أراد فعلهم للطاعة باختيارهم وأمهل من عصى منهم إلى اليوم الموعود، فإقدامهم على ما لم يرد لا يدل على عجزه، كما أن السيد إذا قال لعبده: أعمر هذه الدار في هذا الشهر، فإن فعلت ذلك أعتقتك، وإن لم تفعل ذلك عاقبتك بعد الشهر، فإذا لم يفعل العبد ما أمره به السيد لم يدل ذلك على عجز السيد عن الانتقام منه بل يدل على حلمه، وعلى هذا6 المعنى نبه قوله تعالى7: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} 8 الآية. والجواب عما أورده في ثلاثة فصول:
أحدها: قوله: لا خلق لله ولا فعل له في أفعال العباد، فنقول له: هذا غير مسلم بل أفعال العباد صفات لهم وأعراض فيهم، والله خالق للعباد ولصفاتهم وأعراضهم كما خلق ألوانهم وتركيبهم بدليل قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1 {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2 وقد مضى بيان ذلك وإبطال تأويل المخالف فيه3. الفصل الثاني: قوله: إن العجز إنما يلحقه إذا لم يتم فعل نفسه ولا يلحقه إذا لم يتم فعل غيره، فنقول: هذا غير صحيح؛ لأنه ذكر ذلك على سبيل المدح لنفسه وأخبر بذلك عباده فلا يخرج شيء من إرادته عن امتداحه بتمامها4 ولا يقع خبره بخلاف مخبره كما لا يخرج عن علمه بقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وأما قوله: إنما يلحقه العجز إذا لم تتم إرادته من أفعالهم إذا أراد مغالبتهم، فأما ما5 إذا لم يرد مغالبتهم لم يلحقه عجز، فغير صحيح، ولو كان ذلك دليلاً على ما ذكرت لجاز أن يخرج شيء من الخلق أو من أفعالهم عن ملكه إذا لم يرد مغالبتهم، فلما لم يخرج شيء من الأشياء عن ملكه وسلطانه لم يجز أن يقع شيء في ملكه وسلطانه مما لا يريد وقوعه؛ لأن ذلك يلحقه الوصف بالعجز. ألا ترى أن الملك من العباد لأجل6 محله يلحقه النقص إذا وقع في ملكه وسلطانه شيء من الأمور بغير تدبيره وإرادته، فكيف مالك السموات والأرض7 وما فيهن؟!.
وأما الجواب عن الفصل الثالث: وهو ما أورده من إمهاله لهم وضرب المثل بالعبد، فيقال له: هذا لا يعود إلى ما نحن فيه من وصفه بالعجز إذا لم تتم إرادته، وإنما يلحقه ذلك لو أراد أن يعاقبهم في الدنيا ولم يتم ما يريد من العقوبة، ونحن لا نقول بذلك، بل نقول: لم يرد منهم1 ما لم يقع منهم من الإيمان والطاعة2 ولم يرد عقوبتهم على ذلك في الدنيا، بل أراد تأخير عقوبتهم إلى اليوم الموعود فبطل تعلقه3 بما ذكرناه.
49- فصل استدل القدري المخالف بقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} 1، وبقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} 2. وهذا يقتضي نفي إرادته لكل ظلم منه أو من غيره لأنه أدخل حرف النفي وهو (ما) على نكرة فاقتضى3 استغراق الجنس كقول القائل (ما في الدار رجل) ، فإنه يقتضي نفي كل من يقع عليه اسم رجل. هذا نكتة قوله ومعتمده4. والجواب: أن هذا ليس بصريح5 في نقي فعل الظلم من العباد؛ لأنه لو أراد ذلك لقال: (وما الله يريد ظلما من العباد) ، وإنما هو صريح6 في نفي عذاب الله لهم ظلما بغير ذنب كان منهم، وسياق الآية يدل على ذلك وهو قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} ومعنى ذلك مثل أشباه عذاب7 هذه الأمم {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} فيعذب على غير ذنب، ويجوز أن يحمل ما الله يريد ظلما لهم من أعمالهم مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} 8، وقوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} 12 وحمل الآية على أنه لم يرد وقوع الظلم منهم صرف للكلام عن ظاهره بغير دليل. والدليل على صحة هذا التأويل أنك تقول: علمت الظلم من زيد ورأيت الظلم من زيد إذا علمته أو رأيته يظلم غيره بنفسه، ولا تقول: علمت الظلم لزيد ولا رأيته لزيد3 إلا إذا رأيت أو علمت4 من غيره له. ويقال للخصم: إذا ادعيتم العموم بقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} قابلك خصمك بالعموم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 5 وبقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 6، فلو أراد ممن لا يؤمن الإيمان أو من العاصي الطاعة لكان يعاضده7 أن الكافر والعاصي أراد المهصية وإرادتهم متعلقة بإرادة الله تعالى بدليل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 8، والقرآن لا يتناقض بل يعاضد بعضه بعضا9، قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 1. والقدرية يسقطون أكثر الآي بعقولهم الفاسدة وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2، وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، وأهل السنة يأخذون بالجميع ويقدمون الكتاب والسنة على أدلة العقل.
50- فصل استدل المخالف القدري على أن أفعال المعصية مكروهة عند الله بقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ} ثم قال بعد ذلك {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} 1، وإذا كان مكروها عند الله فكيف يريده لأنه يستحيل أن يكون مريدا للشيء كارها له. والجواب: أن ما2 يستحيل ويتنافض أن لو قلنا إنه أمر به وأوجبه أو استحب وقوعه3، وكرهه وأما إذا قلنا بل نهى عنه وحرمه وجعله سيئه ومكروها في حق المنهي عنه وأراد4 مع النهي عنه فلا يتناقض ولا يستحيل، كما أنه أراد خلق الكفار وإبليس وعلم أنهم يخالفون أمره فهو5 يبغضهم ولا يحبهم، فإذا لم يستحل إرادته لخلقه لهم مع بغضه لهم لم يستحل إرادته لأفعالهم مع كراهيته لها.
51- فصل استدل القدري بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} 1، والمحبة والإرادة واحدة لأنه لا يجوز نفي أحدهما وإثبات الأخرى2، فلا يجوز أن يقول قائل: أريد أن تأكل طعامي وما أحب أن تأكله، ولا أن يقول: أحب أن تأكل طعامي وما أريد أن تأكله، ولو قال ذلك لعد متناقصا وصار بمنزلة من قال: أريد أن تأكل طعامي وما أريد أن تأكله. والجواب: أنا لا نسلم له أن المحبة هي الإرادة بدليل قوله تعالى: {فَإِنَّ3 اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 4، ومعلوم أنه أراد وجودهم وخلقهم، وإنما معنى أنه لا يحبهم أي لا يرضى عملهم أو لا يغفر لهم5، فيكون معنى قوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي لا يرضاه ربنا كقوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 6 أي لا يرضاه لهم دينا وإن أراد وقوعه منهم. وأما قول هذا القائل: لا يجوز أن يقول: أريد أن تأكل طعامي وما أحب أن تأكله، فغير صحيح، فإن الإنسان قد يريد أكل طعام يبغضه7، ولا يحبه لعلة لا يقفها أكله8.
ذلك الطعام لقول1 الطبيب الحاذق، ولا يحب أكله لمرارته أو معنى فيه، فكلما مضغه رجع من حلقه فيقول: أريد أكله ولا أحب أكله بل أبغضه. ويتصور2 مثل ذلك فيمن عنده طعام يحتاج إليه لنفسه فيقول له: السلطان أو القاهر له إما أن أقتل ولدك أو تُطِعم هذا الطعام، فيرى أن بذله للطعام أهون من قتل ولده، فتوجد منه الإرادة لأكل القاهر له الطعام لسلامة ولده مع محبته ألا يأكله لحاجته إلى طعامه، فثبت أن الإرادة غير المحبة وقد تقع الآكل3 في أنملة إنسان ويقال له لا ينفعك إلا قطعها فيقول للطبيب: أقطعها، فقد أراد قطعها ولا يحبه ويكرهه فدل ذلك على بطلان ما أورده4.
المجلد الثاني
المجلد الثاني تابع: النص المحقق ... 52- فصل ومن الدليل لنا أن الله سبحانه أمر بما أمر لما يرد وقوعه: وهو1 أن الله أمر نبيه إبراهيم بذبح ولده2 بدليل قوله إخباراً عن ولده إبراهيم لأبيه3: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ؛ لأنه أمره به في المنام ثلاث ليال4، ولم يرد منه الذبح، إذ لو أراد منه الذبح لوقع عندنا5 ولما نهاه عنه عند6 القدرية؛ لأنه لا يجوز أن ينهاه عن الحسن عندهم7. فأجاب المخالف القدري عن ذلك وقال: لا يأمر الله إلا بما يريد وقوعه، وأما إبراهيم قد اختلف فيما أمر به. فمنهم من قال: إنما أمره الله بمقدمات الذبح ولم يأمره بنفس الذبح، بل
صار إبراهيم مستشعرا لورود الأمر بالذبح ولذلك قال الله: قد صدقت الرؤيا. ومنهم من قال: إنما أمره بالذبح وأن إبراهيم - رضي الله عنه - كان كلما فرى المَذْبَح من جانب التحم ما فراه فعلى كلا الأمرين، فقد1 فعل إبراهيم ما أمر به2. والجواب: عن القول الأول من أوجه: أحدها: أنه خلاف القرآن؛ لأن الله أخبر عنه أنه قال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} 3، وروي أن الله لما بشره بإسحاق قال هو إذاً لله ذبيحاً4،
فلما بلغ معه السعي قال: وقت العمل، وقيل: المشي1 إلى الجبل، رأى في المنام ثلاث ليال متتابعات أنه يذبحه، فلما دخل معه الشعب قال: يا أبت2 أين قربانك الذي تتقرب به إلى الله، قال: يا بني أنت قرباني إني رأيت في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال: يا أبت افعل ما تؤمر3. والوجه الثاني: أنه لو كان المأمور به هو مقدمات الذبح لما قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} . وروي أنه قال: يا أبت اقذفني للوجه كيلا تنظر إلي فترحمني وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع ولكن أدخل الشفرة من تحتي وامض لأمر الله واربط يدي إلى رقبتي4. وروي أنه لما أراد ذبحه أخذ الشفرة والرسن5 وذهب بإسحاق، قال ابن
عباس هو إسماعيل1، فلقي إبليس إسحاق فقال: أفتدري ما يريد بك؟، قال: لا، قال يريد أن يذبحك، قال: ولو، قال: يزعم أن ربه أمره بذلك. قال: هو أهل أن يطيع ربه، فتركه وأتى سارة فقال: يا سارة أين ذهب إسحاق؟، قالت: أمره أبوه أن يتبعه، قال: فما أخذ قالت: الشفرة2 والرسن، قال: أفتدرين ما يريد؟ قالت: لا، قال: يريد أن يذبحه، قالت ولم؟ قال: يزعم أن ربه أمره بذلك3، قالت: هو أهل أن يطيع ربه. فلما أراد أن يذبحه قال له: أي أبت أوثقني لا أجد حر السكين فأضطرب، فأوثقه فجعل يمر السكين على حلقه وملك يقلبها حتى عرف الله منه الصدق فنودي بالفداء، فأوحى الله إليه أن يا إسحاق: إن لك بما صبرت للذبح دعوة، قال: يا أبت ائذن لي أن أدعو بها4، قال: بل أخرها إلى يوم القيامة، قال: يا أبت ائذن لي أن أدعو بها قال: ادع بها، قال: اللهم لا يلقاك أحد مخلصا بأنه5 لا إله إلا أنت إلا أدخلته الجنة6، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبقني بها إسحاق "7.
والوجه الثالث: أنه لو كان المأمور به هو مقدمات الذبح الذي فعله لما احتاج إلى الفداء. وقد قال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وأما قوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} أي اطلع الله على صدق إرادتك وقوة عزيمتك على الذبح فكافأه الله على ذلك وفداه بالذبح. وأما الجواب عن قول من قال: إنه قد قطع حلقه ولكن كلما قطع شيئاً التحم. أن يقال: لا يستحيل ذلك بقدرة الله، ولكن لو كان ذلك كما ذكر لأخبر الله عنه؛ لأنه من الآيات الباهرة، فقد أخبر عن صبر إبراهيم وولده وهذا أولى بالإخبار، وأيضاً فلو كان لما احتيج معه إلى الفداء؛ لأنه قد فعل ما أمر به1. ويدل على أن الله سبحانه أمر بما لم يرد وقوعه ما روي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فرض الله على أمتي ليلة المعراج خمسين صلاة، فلما لقيت موسى بن عمران قال: ما فعل معك ربك؟ قلت2: فرض على أمتي خمسين صلاة، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا
تطيق ذلك، فراجعنته فنقص منهم خمساً فما زلت أتردد بين ربي وبين موسى حتى جعلها خمساً فقال موسى: ارجع إلى ربك1 فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك. فقال: إني أستحيي من ربي، فإذا النداء من عند الله: ألا إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وجعلت الحسنة بعشر أمثالها هي خمس وهن خمسون ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد" 2. وهذا الخبر إنما يؤمن به من يؤمن بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم القرآن والإسراء، فأما القدرية فإنهم يردون الإسراء وما فيه من الأحاديث، كما ردوا المعجزة في القرآن بأنه ليس من كلام الله3. ومما يدل على أن الله سبحانه أمر بما لم يرده وقوعه هو أن الله سبحانه أمر الناس بالجهاد والخروج إلى غزوة تبوك، فقال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 4 الآية، ثم أخبر عن المنافقين واستئذانهم للنبي صلى الله عليه وسلم في التخلف لما بعدت عليهم المشقة إلى قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} والتثبيط: ردك للإنسان عن الشيء يفعله5 {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} 6 أي ألهموا ذلك في قلوبهم. فأجاب القدري المخالف عن هذا وقال:
لا حجة بهذه الآية1، لأن الله سبحانه إنما ثبطهم وكره انبعاثهم لأن خروجهم لم يكن للجهاد، وإنما كان غرضهم المعاندة والفساد، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً…} إلى قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} 2. والجواب أنا نقول: الحجة لنا في أن الله أمرهم بالخروج ولم يرد خروجهم لأنه ثبطهم عنه ولم يقدرهم عليه، وإن كان المعنى الذي ثبطهم لأجله هو ما ذكرت3 من خروجهم للفساد فقد حال بينهم وبين ما أمرهم به بتثبيطه لهم، وهذا موافق لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 4. وهذا كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} 5 وقوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} 6. استدل المخالف على أن الله لا يأمر إلا بما يريد وقوعه: أن صيغة الأمر وهو قوله: افعل، قد يرد والمراد به7 الأمر، ويرد والمراد به التهديد، ويرد والمراد به الإباحة، وترد والمراد بها التصغير والتحقير كقوله {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُون} ِ8. ولا بد من مخصص يقتضي كون هذه الصيغة أمراً وليس ذلك إلا كون الآمر مريداً لحدوث المأمور به9.
لا حجة بهذه الآية1، لأن الله سبحانه إنما ثبطهم وكره انبعاثهم لأن خروجهم لم يكن للجهاد، وإنما كان غرضهم المعاندة والفساد، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً…} إلى قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} 2. والجواب أنا نقول: الحجة لنا في أن الله أمرهم بالخروج ولم يرد خروجهم لأنه ثبطهم عنه ولم يقدرهم عليه، وإن كان المعنى الذي ثبطهم لأجله هو ما ذكرت3 من خروجهم للفساد فقد حال بينهم وبين ما أمرهم به بتثبيطه لهم، وهذا موافق لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 4. وهذا كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} 5 وقوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} 6. استدل المخالف على أن الله لا يأمر إلا بما يريد وقوعه: أن صيغة الأمر وهو قوله: افعل، قد يرد والمراد به7 الأمر، ويرد والمراد به التهديد، ويرد والمراد به الإباحة، وترد والمراد بها التصغير والتحقير كقوله {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُون} ِ8. ولا بد من مخصص يقتضي كون هذه الصيغة أمراً وليس ذلك إلا كون الآمر مريداً لحدوث المأمور به9.
تكون الصيغة أمراً وإن كره المأمور به1. وأما قوله: يكون الأمر تهديداً والتهديد2 أمراً فغير صحيح، لأنا قد قلنا الأمر3 هو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب عند من قال: إن المندوب ليس مأموراً4 به5، والتهديد ليس باستدعاء الفعل فبطل ما قاله. استدل المخالف: أن العقلاء متى سمعوا أو علموا أن الواحد أمر بشيء من الأشياء علموا أنه مريد لحدوثه. والجواب: أنا لا نسلم، بل قد يحسن من الأشياء الأمر بالشيء ولا يريد حدوثه. ألا ترى أنه لو كان لرجل عبد وكان لا يطيعه فيما يأمره به فعاقبه على ذلك وشكاه العبد إلى قاهر له أو صديق له فقال له: لم عاقبت عبدك
، قال: لأنه لا يطيعني، قال: فما الدليل، قال: أريك ذلك مشاهدة، فاستدعى عبده بحضرة من عاتبه عليه وأمره بأمر ليقرر عذره عند من عاتبه على عقوبته، فإنه يحب أن لا يفعل المأمور به ليكون صادقاً عند من عاتبه، فلو كانت إرادة المأمور به شرطاً في الأمر لما تمهد عنده عذره لأنه يقول له أمرته بفعل ذلك وأنت لا تريد وقوعه منه1 فبطل بذلك ما تعلق به المخالف.
53- فصل استدل المخالف على مذهبه بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 1. قال: ولا شك أن ضلالهم شر وقد أراده2، فأي لوم على من أضاف إلى الشيطان ما أضاف الله إليه من الشر. والجواب: أنا لا ننكر أن الشيطان يريد الشر ولا يريد الخير، وإنما الخلاف بيننا أن الله أراد كل كائن من الخلق من خير وشر، فنقول: إن الله أراد الشيطان وخلقه وأراد إرادته وخلقها فيه، وأراد إغواء3 إبليس فأغواه، ولهذا قال إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ} 4 فنسب الإغواء إلى الله، وليست الآية حجة له أن الله لم يرد إرادته، بل قد دل على ذلك بآية أخرى وهي قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5.
54- فصل استدل المخالف بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} 1 فأخبر الله تعالى أنه يريد لهم الهداية والبيان والتوبة، وأن المتبعين للشهوات يريدون منهم الميل عن الصواب. والجواب: أنه لا حجة للمخالف بما ذكر، لأنا ننكر أن الذين يتبعون الشهوات يريدون الميل عن الحق، ولكنا نقول إن الله تعالى أراد وجودهم وخلقهم وأراد إرادتهم وخلقها بدليل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2، وإرادتهم صفة لهم، وصفاتهم مخلوقة لله تعالى كألوانهم وهيآتهم. وبيان معنى الآية أن الله سبحانه لما بين المحرمات في النكاح، وبين لهم من يحل لهم نكاحه من الإماء قال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} 3 يعني لبين لكم حلال النكاح وحرامه ويعرفكم العدد4 في تزويجكم الإماء إذا لم تقدروا على تزويج5 الحرائر، ثم قال {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي يرشدكم سنن6 الأنبياء والذين من قبلكم من المؤمنين أي شرائعهم {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يعني يتجاوز عنكم من نكاحكم إياهن قبل التحريم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما يدخل في الأمور المحظورة التي بين أمرها {حَكِيمٌ} في جميع ذلك {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يعني من نكاحكم7 إياهن قبل التحريم، وهذا
التكرار للإطناب والتشديد1 {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَات} يعني الزنا، وذلك أن اليهود زعموا أن نكاح بنت الأخت من الأب حلال2 وذلك3 {أَنْ تَمِيلُوا} عن الحق {مَيْلاً عَظِيماً} في استحلال بنت الأخت من الأب {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} في تزويج الأمة إن لم تجدوا طولاً للحرة {وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفاً} لا يصبر عن الجماع4.
55- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة مما روي عن ابن عباس – رضي الله عنه - أنه قال: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن آمن بالله وكذب بالقدر كان تكذيبه بالقدر نقضاً لتوحيده"1. وصدق – رضي الله عنه -، فإنه لا يصلح للقدري القول بالتوحيد إلا وناقضه، لأن الله سبحانه نبه على وحدانيته بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 2، وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 3. ومعنى قوله: {لَفَسَدَتَا} لوقع الخلاف والتضاد كما نرى ذلك في الشاهد في ملوك الدنيا، ولكان إذا أراد أحدهما شيئاً أمكن الآخر خلافه فيفسد التدبير4 وحقق الموحدون التغالب5 والتمانع6 في المعنى المراد بقوله: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
فقالوا1: لو كانا اثنين لم يخل إما أن يتم ما يريدان، أو لا يتم ما يريدان أو يتم ما يريد أحدهما، فإن تم ما يريدان أدى إلى اجتماع الشيء وضده إذا أراد أحدهما إحياء شيء وأراد الآخر موته، أو أراد أحدهما وجود شيء وأراد الآخر عدمه، وإن لم يتم ما يريدان أدى إلى تناهي قدرتهما وعجزهما، والعاجز لا يكون إلهاً، وإن تم ما يرد أحدهما دون الآخر كان من تمت إرادته هو المستحق للإلهية، فثبت القول بأن الإله واحد لا شريك له2. فالقدرية لا يتم ما يريد إلههم، لأنه لو أراد الإيمان من الكافر والطاعة من العاصي، وأراد إبليس من الكافر الكفر ومن العاصي المعصية، فلم يتم ما أراد الله وتم ما أراد إبليس، فعلى مقتضى قولهم أن المستحق للإلهية هو إبليس دون الله ويتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وإنما شبه النبي صلى الله عليه وسلم القدرية بالمجوس3، لأن المجوس قالوا: النور يريد الخير ولا يريد الشر4.
فأجاب المخالف عن هذا بأن قال: لا حجة بهذا لأن التكذيب بالقدر1 يقتضي نقص التوحيد: هو الذي يقتضي نسبة فعل الله إلى غيره، ولم يثبت أن المخازي فعل الله حتى يكون من نفاها عنه، ناقضاً لتوحيده، بل قد ثبت بالأدلة التي2 مضت3 أن المخازي والمعاصي من أفعال العصاة والفسقة، وإنما يكون نافياً لقدر الله من نفى عنه شيئاً في النعم والخيرات من الحياة والعافية، أو في المحن التي يبتليهم بها من المرض والخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس4، لأن هذه الأمور لا يتولاها غيره، ولذلك لم يصح أن يأمر بها أحداً من عباده ولا أن ينهاه. والجواب أن يقال: لهجك بتسمية الأفعال مخازي ومعاصي وخبائث لا يقر ذلك صحة المذهب ولا إبطال قول خصمك بأن الله له أن يخلقها، فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الكلب خبيثاً5، ولا يدل ذلك على أن الله لم يخلقه، وقد بينا فيما مضى6 أن هذه الأفعال إنما تسمى معاصي وخبائث ومخازي في حق من حرم عليه فعلها وهم العباد المكتسبون لها، ولا تسمى بذلك في حق الله وإن كان خالقها، وأيضاً فإن كانت العلة التي تقتضي نفي خلق الله لأفعال المعاصي في العباد كونها خبائث وقبائح، فإن هذه العلة التي تقتضي غير موجودة في أفعالهم7 بالطاعات، بل تسمى بضد هذه الأسماء فيقتضي أن الخالق لها هو الله، لأنها طاعة حسنة جميلة، وإذا ثبت خلق الله لها لزمكم أن
يكون الله خالقاً لأفعالهم في المعاصي والمباحات لأن أحداً لم يفرق بينهما. وأما قوله: إنما يكون نافياً لقدر الله من نفى عنه1 أفعاله في النعم في الحياة والعافية أو في المحن وهي الابتلاء بالخوف والجوع، فغير صحيح، لأن أجلَ النعم التي أنعم الله بها على العباد الإيمان بالله وبرسوله وياليوم الآخر، فينبغي أن يكون الله خالقاً لتصديق العبد بذلك ولأعمال الطاعات مثل أفعال الصلاة والحج والجهاد، وقد أخبر بذلك بقوله: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَان} 2 فتكون هذه النعمة من جنس النعم3 عليه بالعافية والحياة، وأعظم المحن والابتلاء المحنة بالمعاصي، فينبغي أن يكون الله خالقاً لأفعاله فيه لأنها أعراض في العبد فتكون مخلوقة فيه كالأعراض التي فيه من الجوع والخوف. وأما قول المخالف: بأن الحياة والعافية والجوع إنما كانت خلقاً لله لا يصح الأم بها ولا النهي عنها، فغير صحيح. لأن الأمر والنهي والمدح والذم إنما لا يصح في هذه الأشياء، لأن الله لم يقدر العبد عليها ولا جعلها من كسبه، وهذه الأفعال أقدر الله العبد عليها وتنسب إلى العبد، والحركة من العبد في الأفعال الاختيارية في المشاهدة كالحركة في الأفعال المضطر إليها كرعدة الحمى والخوف، فإذا ثبت أن الله خالق لحركة العبد في الاضطرار إليها كرعدة الحمى والخوف، فإذا ثبت أن الله خالق لحركة العبد في الاضطرار كان خالقاً لحركته في الاختيار. وأجاب المخالف: على أن امتناع مرا الله إنما يلحقه العجز بذلك إذا أراد إلجاء عبد على فعل فامتنع منه، وأما إذا لم يرد إلجاءه ولا مغالبته لم يلحقه العجز بامتناع ما أراده من غيره، وكذلك إذا امتنع ما أراده من فعل نفسه فم يتم، لحقه العجز وبغير هاتين الصورتين لا يلحقه النقص، هذا تحقيق قوله.
والجواب أن يقال: إذا وقع في ملكه وسلطانه ما لم يرده أو ما ليس في تدبير لحقه العجز1 كما يلحق ذلك المالك المملك من العباد، وإذا أراد شيئاً من غيره فلم يتم له ما أراد لحقه العجز كما يلحقه ذلك إذا أراده من فعل نفسه لعموم قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 2، وقوله: إذا لم يرد إلجاء الفاعل ولا مغالبته، غير صحيح، لأن ذلك لو كان علة لما ذكر لما جاز أن يخرج شيء من الأعيان عن ملك الله، أو عن أن يكون معلوماً لله أو مقدوراً لله، أو عن إدراك الله له، وهو أنه لم يرد مغالبة ذلك الشيء ولا مكابرته، ولما لم يجز أن يخرج شيء من الكائنات المكونات عن ملك اله ولا عن علمه ولا عن إدراكه لها ولا عن اقتدار الله عليه3 لم يخرج عن أن يكون مراداً لله ولا أن يكون خلقاً له. ثم قال هذا المخالف: ودلالة التمانع عندنا هو أن نقول: لو كان مع الله قديم آخر لوجب أن يكون حياً قادراً عالماً بذاته كما أن الله سبحانه حي، قادر، عالم بذاته، لأنه إذا شارك الباري في أخص أوصافه وهو كونه قديما وجب أن يكون مثلاً له، ومن حق المثلين أن يجب لأحدهما ما يجب للآخر، ثم قال بعد ذلك: ودلالة التوحيد في هذا التمانع لا يمكن هذا المستدل وأهل مذهبه القول به لوجهين: أحدهما: أنهم سدوا القول بالتوحيد على أنفسهم لأنهم أثبتوا مع الله صفات4 كثيرة قديمة وسموها صفات لله5، وقالوا مع ذلك ليست حية
ولا قادرة مع أنها مساوية لذات الباري في القدم1، فلا يمكنهم أن يقولوا بأنه واحد، وقد قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 وقال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3. والوجه الثاني: أن تقدير4 تمانعهما لو كان اثنين قادرين مبني على ما يعقل بالشاهد من تمانع القادرين، فيتوصل بذلك إلى نفي ثان للقديم، وقد سدوا على أنفسهم هذا الباب بقولهم ليس في الشاهد قادر يحدث الأفعال ويتمكن من غلبه سواه أو مساويه5. يحقق هذا أن الطريق الذي به يعلم أن الواحد منا قادر هو6 صحة الأفعال منه ووجوده من جهته وعندهم أنه لا
يوجد من العباد1 شيء من الأفعال وإنما هي مخلوقة من الله2 فلا يمكنهم أن يعلموا أن في الشاهد قادراً فلا يصح منهم تقدير التمانع. والجواب عن اعتراضه الأول وهو أن يقال له: تشنيعك على أهل السنة بإثباتهم لله ما أثبته لنفسه هو أكبر الشناعة عليك ونفيك عن الله ما أثبته لنفسه3 هو كإثباتك لله ما نفاه عن نفسه وهي الصاحبة والولد، وما أغناك عن إظهار هذا القول المتناقض وهو قولك: إن الله حي ولا حياة له وإن الله قادر ولا قدرة له وإن الله عالم ولا علم له، وهل إلا كقول من أثبت الحياة لغير حي وأثبت القدرة لغير قادر وأثبت العلم لغير عالم فإن استقام قول من قال هذا4 استقام قولك، وإن لم يستقم قول من قال هذا5 لم يستقم قولك. وأعجب من هذا أن هذا المخالف استدل بهذا الفصل على أن الله ليس له قول حقيقة ولا حياة ولا قدرة ولا علم بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وبقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، وقال: أنتم لا يمكنكم القول بهذا لأنكم قلتم إن له صفات قديمة فليس بواحد، فقال له: إن كان لله قول حقيقة فقد اعترفت بصحة ما أنكرت على خصمك، وإن لم يكن لله قول حقيقة فلا حجة لك على قولك بما ادعيت من هذا6، ثم يقال: إنه لا يلزمنا7 ما زعمت، لأنا نقول: إن هذه الصفات آلهة كما أن صفات الإنسان ليست بإنسان مثله، وإنما الشناعة تلزمك وأهل مذهبك،
لأن على قولك: إنكم لا تعبدون الله الرحمن الرحيم الإله الخالق، لأن هذه الأسماء خلق لكم إذا سميتموها، وهذا كفر صريح لا يخفى على أحد من ذوي العقول السليمة1. وأما الجواب عن الوجه الثاني الذي زعم المخالف، فإنا نقول له: قولك: بأنا إذا قلنا: إنه لا خالق لشيء من الأفعال إلا الله يسد علينا الباب في تمانع الخالقين غيرصحيح، بل حقيقة التمانع وإثبات القول بالواحد لايكون إلا على قولنا، لأنا نفينا أن يكون مع الله خالق يخلق في الجملة، إذ لو كان كذلك لأدعى إلى التضاد والتغالب، فلما لم يوجد ذلك دل على أن الخالق واحد، وهذا لايوجد على قول القدرية لأن العباد كلهم وسائر الحيوان من البهائم والطير كلها خالقة لأفعالها: وقد نفى الله أن يكون معه خالق بقوله: {ْهَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2 وقوله تعالى: {أَمْ3 جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} 4. ولا تعلق لهذا المخالف بجميع ما أورده في هذا الفصل على ما يقول إلا الشهادة منه على نفسه بفساد مذهبه وبطلان قوله في نفي الصفات وإثبات المشارك لله في الخلق، وتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
56- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس"1. فيقال للقدرية: إذا قلتم إن الله لم يخلق الشر ولا أراد كونه فقد خلق إبليس وهو رأس الشر2. فأجاب المخالف القدري: لا حجة بهذا، لأن جسم إبليس ليس بشر بل خلق الله له إنعام منع عليه ويستحق عليه الشكر والعبادة وهو من جملة الجن3، وخلقه الله للعبادة وإنما الشر من فعل إبليس والله لم يخلق فعله ولا كفره، وإنما إبليس هو الخالق لفعل نفسه ووسوته في صدور الخلق، هذا نكتة قوله ومعتمده. والجواب أن يقال له: القرآن يشهد على بطلان قولك: قال الله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا} 1 وقال تعالى في آية أخرى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} 2. فجعل أجسامهم شراً وإبليس منهم، فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستعيذ منه فقال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} 3. وأما قول المخالف لقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْس} 4 فهل عصاه أحد من الخلق بمثل5 معصية إبليس له فلم يخلقه إلا للنار وللمعصية التي فعلها6. وأما قول المخالف: إن إبليس خلق فعل نفسه ولم يخلقه الله فقول إبليس أقوم7 من قول هذا المخالف القدري لأن الله أخبر عنه أنه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} 8 وقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} 9 ولو ينكر الله عليه ذلك، بل قول إبليس بهذا موافق لقول نوح عليه السلام فيما أخبر عنه بقوله: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُم} 1 00 فما أحد من الخلق نفى عن الله الخلق والتدبير في شيء من ملكه11 وسلطانه إلا القدرية ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم وحذر منهم12.
57- فصل ومن الأدلة لنا أن يقال لهم: هل يوصف الله بأنه يعلم لما خلق إبليس وأقدره على إضلال الضالين منهم أن يضلهم أو لا يعلم ذلك. فلا بد أن يقولوا نعم: يعلم ذلك1. وقد قال بعضهم إنه لا يعلم الشيء قبل أن يكون2 إلا أن هذا المخالف صرح3 بذلك.
فيقال لهم: فهل كان يقدر على منعه عن إضلالهم أو لا يقدر؟. فإن قالوا: لا يقدر نسبوه إلى العجز وبطل مدحه لنفسه بأنه على كل شيء قدير، وإن قالوا: يقدر ولكنه لم يمنعه. قلنا لهم: فترك منعه عن ذلك مع قدرته عليه إرادة1 منه إضلالهم. فأجاب هذا القدري عن هذا بكلام لا يفهم منه إلا الأذى وضمنه معنيين: أحدهما: أن إبليس لم يخلقه الله إلا للعبادة ولم يرد الله منه إلا ذلك. والثاني: أن ترك المنع منه ليس بإرادة منه لإضلالهم، فأما الأذى فلا جواب له عنه إلا الإضراب عنه. وأما قوله: إن الله لم يخلق إبليس إلا للعبادة فقد مضى الجواب عن ذلك2 في الفصل قبل هذا3، ويقال له: لو خلقه الله للعبادة ليسرها له كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل ميسر لما خلق له"4. وأما إنكاره لقولنا: إن تركه لمنع إبليس عن إضلالهم مع قدرته على ذلك إرادة منه لإضلالهم فدفع للعيان5 ألا ترى أن ترك الحركة من المتحرك سكون وترك السكون منه تحريك وكذلك ترك الإعدام من الله إيجاد، وترك الإيجاد منع إعدام، وكذلك ترك الهداية منه إضلال وترك الإضلال منه هداية.
58- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا أن يقال لهم: من أولى بالإلاهية؟. من لا يكون منه إلا بعلمه ولا بعزب1 عن علمه شيء؟ أو من يكون منه ما لايعلمه ويغيب عن علمه أكثر الأشياء؟. فمن قولهم وقول كل قائل: إن من لا يكون منه شيء إلا بعلمه ولا يغيب عن علمه شيء أولى بالإلاهية. قيل لهم: فكذلك من لا يريد كون شيء إلا كان، ولا يكون شيء إلا ما يريد، ولا يعزب عن إرادته أولى بالإلاهية ممن يكون ما لا يريد ويريد كون شيء فلا يكون، وعلى ذلك أجمع الناس مسلمهم وكافرهم وجميع أهل الملل بأن ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولهذا قال بعض رجاز أهل الجاهلية: تجري المقادير على غرز الإبر ... ما تنفذ الإبرة إلا بقدر2 وقال لبيد:3 إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء ضل وقال بعض أهل الجاهلية: هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر4
وهذه أقوال أهل الجاهلية قل الإسلام، ثم جاء الإسلام على ذلك، فدل على أن القدرية مخالفون لجميع الخلق وأهل الملل والأديان1 بقولهم. فأجاب القدري عن هذا الاستدلال بنكت منها أن قال: جمعت بين العلم والإرادة من غير علة جامعة بينهما وكل قياس بين أمرين بغير علة جامعة بينهما فهو باطل. والجواب أن يقال له: قولك من غير علة جامعة بينهما نفي للعيان، والعلة الجامعة بينهما لا تخفى على أحد، وهو أن كونه عالماً من صفات كماله لينتقي عنه الجهل وكذلك كونه مريداً2 من صفات كماله3 لأنه لو لم يكن مريداً لم يكن تقدم ما وقع من المكونات بأولى من تأخرها4، وليس هناك مخصص لذلك إلا كون الله مريداً لتقديم ما تقدم وتأخير ما تأخر فهذه العلة المقتضية للجميع بينهما. ثم قال هذا المخالف في جوابه عن هذا: إنما كان العالم بجميع المعلومات أولى بالإلاهية ممن لا يعلمها، لأن الإله لا يكون إلا قديماً، والقديم يجب أن يكون عالماً بذاته ممتنعاً بذاته عن علم يعلم به، ومن حق العالم للذات أن يكون عالماً بجميع المعلومات إذ لا اختصاص لذاته بمعلوم دون معلوم، فلذلك كان عالماً بجميع المعلومات وأولى بالإلاهية من غيره.
والجواب أن يقال له: لهجك1 بإطلاق القول بأن هذه الأفعال خبائث وقبائح لا يوجب صحة مذهبك لما تقدم بيانه من أنها خبائث وقبائح ممن حرمت عليه2 وولي اليتيم والشاهد ممن حرم عليه فعلها، ولا يتوجه ذلك في حق الله تعالى. وأما قولك إنه أراد الطاعات من جميع العباد ولم يرد من واحد منهم المعصية، فهذا غير مسلم به، فطيف تحتج بمذهبك على مذهبك، وهذا يدل منك على عدم3 الرواية والاستدلال. وأما قولك: عدم المنع منه لا يدل على إرادته، واحتجاجه بالآية فقد مضى الجواب عن ذلك كله بما يغني عن إعادته4. ثم قال هذا المخالف: أما قول المستدل: بإجماع الناس مسلمهم وكافرهم على القول: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) فلا يصح لأن هذه اللفظة من إطلاقات المجبرة على أصلهم المنهار، ولو صح الإجماع على إطلاق هذه اللفظة فإن المقصود بها ما شاء الله من فعله كان، وما لم يشأ لم يكن5 لأن غرض المكلفين بذلك مدح الله بأحسن المدائح والثناء عليه بأبلغ المحاسن وليس من الثناء الحسن ولا من المدح البليغ بأن يصفوه بأنه مريد المخازي والخبائث والمعاصي، وإنما يصح المدح إذا تعلق ذلك بأفعاله تعالى لأنه ينبئ عن عظيم الاقتدار، وقد روينا عن أجلاء الصحابة والتابعين6 نفي هذه الخبائث عن الله فدل على بطلان الإجماع بما ذكر.
والجواب أن يقال: إنكارك الإجماع بذلك جحد بالضرورة، فإن هذه الكلمة جارية على ألسنة الخاصة والعامة، وينقل ذلك كل خلف عن سلفهم كنقلهم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهجرته إلى المدينة وموته هنالك، ويعلم وقوع ذلك كل مسلم وكافر وموافق ومخالف، وإنكار القدرية للنقل والإجماع على مقتضى هذه الكلمة لا يؤثر في صحة العلم بها كما لا يؤثر خلاف السوفسطائية1 للعلوم الضرورية بادعاء النبي صلى الله عليه وسلم للنبوة بمكة وتكذيب قومه له وهجرته إلى المدينة وموته بها. وأما قول المخالف: لو صح الإجماع على هذه اللفظة يكون المراد2 بها ما شاء الله من فعله كان وما لم يشأ من فعل نفسه لم يكن دون ما شاء من فعل غيره وما لم يشأ منه، غير صحيح، بل الدليل الذي دل على تمام إرادته من فعل نفسه هو الدليل الذي دل على تمام إرادته من فعل غيره وهو عدم وصفه بالنقص، ولأنه3 موصوف سبحانه بالاقتدار على غيره ولا يوصف بالاقتدار على نفسه4، ومن كمال صفته بالاقتدار على غيره تمام إرادته من غيره وإلا كان موصوفاً بإرادة ما لم يتم من فعل غيره بالتمني، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إرادته لإسلام أبي طالب وغيره ممن كان يحب إسلامه
ولم يسلم فإن إرادته لذلك تعود إلى معنى التمني، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ويدل على صحة ما قلناه قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 1 فأخبر أنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن فعل ما أراد من ذلك وهو ما أراده من فعل غيره، فإن قالوا لو شاء لأجبرهم2 على ترك القتال. قلنا: فعلى قولكم أنه أجبرهم على القتال3، لأنه أخبر أنه أراد قتالهم. وأما قول المخالف بجوابه: إن غرض المكلفين بذلك مدح الله بأحسن المدائح إلى آخر كلامه، فيقال له4: مدحهم الله بأحسن المدائح يقتضي أن يتم ما يشاء من فعله وفعل غيره، وعلى أن هذا الكلام الذي أورده في هذا لا تعلق له بما نحن فيه5 وإنما يليق إيراد هذا احتجاجاً لأهل السنة إذا قيل لهم: لم لا تقولون يا خالق الزنا، يا خالق المعاصي كما تقولون يا خالق السموات والأرض؟ فيقولون: أمرنا الله بأن ندعو بأسمائه الحسنى وصفاته العليا6 فقال: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 7، وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 8.
فيقال: يا خالق الشمس والقمر ويا منزل الأمطار ويا منبت الأشجار ومخرج الثمار ولا يقال: يا خالق القردة والخنازير والعذرة، وإن كان خالقاً للجميع1، وكذلك لا يقال: يا خالق المعاصي وإن كان خالقاً لها، وعلى هذا يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والشر ليس إليك" 2 أي ليس يتقرب به إليك، أو لا يدعى بأنك خلقته وإن كنت خلقته3، ولهذه العلة قال إبراهيم عليه
السلام فيما أخبر الله عنه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فنسب إلى الله الإطعام والسقي والشفاء من المرض والإماتة والإحياء، ونسب إلى نفسه المرض وإن كان لا يمرض نفسه، وإنما ذكرت هذا ليعلم أن هذا المجيب يضع الدليل على ما لا متعلق له فيه. وأما ما ذكره عن1 الصحابة والتابعين فلا حجة لما ذكر، وسأبين ذلك في غير هذا الفصل إن شاء الله. قال هذا المخالف: وأما ما ذكره من أبيات الشعر التي تتضمن ذكر القدر فلا حجة فيها، لأن الشعر الصحيح لا يحتج به إلا في تصحيح الألفاظ اللغوية لا في إبانة الحقائق العقلية. والجواب أن يقال لهذا المجيب: إنكارك الاحتجاج بالشعر بهذا2 جهل منك بحكم الشعر في الألفاظ والمعاني، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر لحِكَماً "3 والحكم لا تكون إلا في معنى. وقال صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح
الكلام"1، ولا يكون حسناً وقبيحاً إلا لحسن معانيه وقبحها وعلى أنا إنما احتججنا بالشعر هاهنا لنبين أن أحداً من الخلق في الجاهلية والإسلام لم ينكر أن المقادير كلها جارية ن الله حتى جاءت القدرية. ثم قال: وإن كان فيه حجة فالقدر قد ورد في القرآن واللغة على معان منها: ما يراد به الخلق. ومنها: ما يراد به الإخبار بدليل قوله تعالى: {إِلاّ امْرَأَتَهُ2 قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} 3 أي أخبرنا بحالها. ومنها: ما المراد به الكتابة كما قال العجاج4: اعلم بأن ذا الجلال قد قدر ... في الصحف الأولى التي كان سطر أمرك هذا فاجتلب منها النتر5 فليس لهم أن يحملوا القدر على ما يوافق مذهبهم إلا ولخصمهم أن يحمله على غير ذلك.
والجواب أن يقال لهذا المخالف: أما ورود القدر على معنى الخلق فلا ننكره، وأما على معنى الإخبار واحتجاجك بقوله تعالى: {إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} فغير صحيح في المعنى ولا مسلم، واحتجاجه بهذا يدل على جهله بالنحو وإفلاسه منه، لأن ضمير المرأة ههنا في موضع النصب، وإذا كانت مخبراً عنها في موضع جر، ولو أراد ذلك لقال: قدرنا عنها أو بها، ولم يقل أحد من أهل التفسير هذا الذي ذكر المخالف، وإنما قال ذلك برأيه على ما يوافق مذهبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار "1. والذي قال أهل التفسير في هذا: قدرناها أي قدرنا هلاكها مع الغابرين2. وأما احتجاجه ببيت العجاج فهو حجة عليه لا له، لأنه إذا كتب في الصحف شيئاً وقدره فهل يتوهم عاقل أن الله أراد وقوع شيء قد كتب وقوع ضده، وإنما يحسن هذا على قول من قال من القدرية إن الله لا يعلم الغيب ولا يعلم إلا ما كان3 ولكن لم يصرح هذا المخالف بهذا في دامغه بل (عن صَبُوح تُرَقِّق) 4 ولو صرح به كما صرح به أسلافه لاختطفته
السيوف بهذا الصقع قبل المناظرة له1 ممن يريد استتباعه وجدعه بالكلام، ومن صرح منهم بهذا القول الشنيع فهو محجوج بقوله تعالى في آي كثيرة: {عَالِمُ الْغَيْبِ} 2. والغائب ما غابن وقد أخبر الله سبحانه عما لم يكن قبل أن يكون، وعما لا يكون لو كان كيف كان يكون، فقال تعالى إخباراً عن أهل النار: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} ، ثم قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 3 فأخبر سبحانه عن تمني أهل النار الرد إلى الدنيا قبل أن يكون، وأخبر سبحانه عما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون وهو تكذيبهم لو ردوا.
59- فصل استدل المخالف القدري على صحة قوله: بقوله تعالى فيما أخبر عن المشركين: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 1 الآية، قال: وهذا صريح بمذهب المجبرة، واستدل على ذلك بأن الله رد عليهم ذلك بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، وأذاقهم البأس وجعلهم من الخراصين2. والجواب: أننا لا ننكر أن الله ذمهم ووبخهم ولنا عن هذا أربعة أجوبة: أحدها: أنهم لم يعبروا بالمشيئة هاهنا التي تقول إنها الإرادة، وإنما عبروا بالمشيئة هاهنا عن الأمر فادعوا أن الله أمرهم وأمر آباءهم بعبادة الأصنام، وأنه أمرهم بتحريم ما حرموا من الحرث والأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونظيرها في النحل3 فأكذبهم الله بما ادعوه من أنه أمرهم فقال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} رسلهم {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوه} يعني بياناً بأن الله أمركم4. والدليل على أنهم لم يعبروا بالمشيئة عن الإرادة لأن الله أكذبهم فقال: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وقال في آية أخرى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} 5، وقال في آية أخرى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} 6، فأخبر أنه ما شاء منهم الإيمان مشيئة
اختيار ولا إجبار، لأن الخبر عام ولا معنى لتخصيص مشيئته بالإجبار1 على ما يدعي المخالف فقد مضى الدليل على إبطال دعواه لذلك2. والجواب الثاني أن نقول لهذا المخالف: وما ننكر أن يدعي خصمك أنهم أرادوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} أي ما أجبرنا على ذلك، ولكنه أجبرنا على ذلك فأكذبهم أنه ما أجبرهم ولا اضطرهم إلى ذلك، ولكن وقع الشرك منهم بخلقه له3 وإيثار واختيار منهم له، ونقابل ما ادعيت أن مشيئته هدايته لهم مشيئة إجبار بما ادعاه المشركون من أنه أجبرهم، وكل جواب لك عن هذا فهو جوابنا لك عن مشيئة الهداية أنها إجبار. والجواب الثالث: أن يقال إنهم4 لم يقولوا لو شاء الله ما اشركنا ولا آباؤنا، مصدقين بالله وبمشيئته، ولكنهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والتكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم، كما قالوا لما أمرهم بالاتفاق مما في أيديهم {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} 5 فأكذبهم الله على ذلك بقوله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ…} الآية كما ذمهم ووبخهم على ما قالوه في الإطعام بقوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . والجواب الرابع: أن يقال: إنما ذمهم الله ووبخهم على إشراكهم وتكذيبهم للرسول ولم يذمهم على قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} لأن الله قد قال في آية أخرى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} 6 والدليل على هذا أنه قال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وكذلك في النحل {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 7 ولو كان الذم والتوبيخ على قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} ، لقال: كذلك قال الذين من قبلهم، كما أخبر عن مشركي العرب فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} أي هلا يكلمنا الله فنسمع كلامه {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} فقال الله توبيخاً لهم وذماً {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 1 يعني اليهود حيث قالوا لموسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} 2.3
60- فصل خلق الله الخلق فجعلهم على بنية يصح منهم قبول التكليف، وهو البلوغ والعقل، وسوى بين1 المسلم منهم وبين الكافر بذلك، ودعاهم جميعاً إلى الإيمان به2 والطاعة، وسوى بينهم بذلك، ثم وقع منه التخصيص لبعضهم في الهداية فخلق فيهم لطفاً آثروا به الإيمان والطاعة على الكفر والمعصية، وخالفوا أهواءهم والشيطان، ولم يخلق الله ذلك اللطف فيمن كفر به ولا فيمن عصاه بل طبع على قلوب الكافرين به وجعل صدورهم ضيقة حرجة بالإسلام فآثروا بذلك الكفر على الإيمان، وكذلك العصاة من المسلمين لم يجعل في قلوبهم من التنوير والإيمان ما جعل في قلوب المطيعين. وعند القدرية: أن الله ساوى بين المسلم والكافر والمطيع والعاصي في الهداية والتسديد والطف والتنوير وشرح الصدور، ولم يطبع على قلوب الكافرين ولا ختم عليها عن الإيمان، ولكن غلب عليهم الهوى والشيطان. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه من ذلك قول الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} 3 ومثله قوله تعالى في آي كثيرة {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 4 ومثله قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 5. فمن قال: إن الله لم يطبع على قلوب الكفار فقد كذَّب الله في خبره فاعترض هذا المخالف القدري على مواضع من هذا الفصل منها:
إن قال: أما قولك إنه جعلهم على بنية يصح معها قبول التكليف لا يصح إطلاق هذا لأن من لا عقل له لا يدخل فيه. والجواب أن يقال: قد قلت: وجعلهم على بنية يصح معها قبول التكليف والمراد بها بنية البلوغ والعقل فلا اعتراض على هذا. ثم قال بعد هذا: التكليف لا يتصور على قول من يقول: إن الله خلق جميع أفعال العباد، فإن التكليف لا يكون على أصلهم معنى معقول لأنها تجري مجرى ألوانهم. فالجواب أن يقال له: جمعت بين ألوانهم وأفعالهم في استحالة تكليفهم بغير علة جامعة بينهما إلا بكونهما مخلوقين له، وهذا غير صحيح، لأن ألوانهم لا تدخل تحت تقديرهم ولا توصف بأنها كسب لهم فلذلك لا يتصور التكليف فيها وأفعالهم أقدرهم الله عليها وتوصف بأنها كسب لهم فلذلك صح التكليف فيها. وقول المخالف: إن قولنا أن الكسب عبارة فارغة لا معنى تحتها. غير صحيح بل المعنى فيها واضح لمن جعل الله له حظاً من الهداية، وهو خلق اله فيهم إيثار الإيمان على الكفر والطاعة على المعصية ووقوع ذلك منهم باختيارهم بقدرة
عن1 إرسال الرسل ونزول الكتب من الله - وليت شعري - ما في العقل مما يدل على أن الصبح ركعتان والظهر والعصر زالعشاء أربع ركعات والمغرب ثلاث ركعات وأمثال ذلك في الشرع كثير2. ثم أجاب المخالف القدري عن قولنا: إن الله خص بالهداية بعضهم بأن قال: الهداية منقسمة إلى معان تقدم ذكرها3 منها: الهداية بمعنى البيان والدلالة فهذا عام لجميع المكلفين، وفي ذلك ورد قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ4 فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 5. وهداية بمعنى الزيادة في التوفيق والتسديد وهي تختص بالمهتدين بأنفسهم6 لأنها مشروطة بتقدم الاهتداء منهم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} 7. وكذلك التي هي بمعنى الثواب فإنها تختص بالمستحقين8. والجواب عن ذلك أن نقول: لا ننكر أن الهداية تصح بمعنى البيان والدلالة وهي المراد بقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي بينا لهم ودللناهم، فتكون الآية حجة لنا {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} ونسبت
استحباب العمى إليهم لأنه كسب لهم، ولأنهم محل لخلق ذلك فيهم، ولم يرد الهداية التي هي اللطف والتسديد، لأنه لو هداهم لاهتدوا كما أخبر في قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} 1. وأما قوله: الهداية التي هي بمعنى الزيادة والتسديد وهي تختص بالمهتدين، فإذا وافقت أن الله يخلق الهداية في قلوب المهتدين ويكون ذلك إنعاماً منه عليهم وتفضلاً لاهتدائهم أولاً بأنفسهم، قلنا لك: فلا يمنع أن ينعم الله عليهم أولاً بخلق الهداية في قلوبهم، لأن الموصوف بالهداية في الاستدامة والانتهاء كان موصوفاً بابتداء الهداية لهم، ونقول: لولا هداهم الله أولاً لما اهتدوا لقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ2 اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} 3 ويرد بالهداية هاهنا اللطف في4 التسديد والتأييد الذي يختص بالمؤمنين، ويدل على صحة قولنا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} 5 ولا يمكن استعمال هذه الهداية على البيان والدلالة، بل هداية الإرشاد والتوفيق فقد خص بها من يريد. وأما قوله: في الهداية التي بمعنى الثواب في الآخرة فلا دليل له على ذلك، ولا نسلم له احتجاجه على ذلك بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} 6 أنه أراد الثواب، بل المراد به: الإرشاد والتسديد بدليل قوله: {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} وهذه صفة إنعامه عليهم في الدنيا، وقوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة} إخبار منه عن إنعامه عليهم في الآخرة، والنعم على العبد في الدنيا والآخرة من الله يختص بها من يشاء من عباده كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 7 وقال: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} 8 ولو كانت الهداية التي هي التوفيق والتسديد
عامة لجميه الخلق كما يدعي القدرية لما خصها وعلقها بمن يشاء له ذلك، ويدل على هداية الله للمؤمنين في الدنيا هداية التسديد قوله تعالى في الحج: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار…} 1 الآية ثم قال بعدها: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل} الطيب من القول الشهادتان2 {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} ، وهذا لا يمكن حمله على ثواب الآخرة3.
61- فصل قال المخالف القدري: وأما الطبع والختم الذي أوردناه في الاحتجاج فهو العلامة على الشيء، كما يقال: طبع فلان الدينار والدرهم معناه أظهر فيهما من العلامات والنقوش ما يتميزان به عن غيرهما، ومعنى هذا أنه علَّم على قلوبهم علامة تظهر للملائكة يعرفون بها ما هم عليه من الكفر الذي يضمرونه. أو يعلمون بها منزلتهم1 في استحقاق الذم واللعن لينزلوهم2 منزلتهم من ذلك، ويكون في ذلك للملائكة ولمن علم به من المكلفين3، لأنهم متى علموا أنه من أضمر شيئاً من المعاصي ظهرت على قلبه علامة تشهد به4 وتدل عليه كان أقرب إلى توقي الخبائث، هذا معتمد قوله ونكتته في الطبع. قال: وكذلك الختم معناه ومعنى الطبع واحد وهو العلامة5.
والجواب: أن حمل الطبع والختم على القلوب على العلامة عليها من التأويل الذي قال الله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه} 1 ومن الجدل في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، لأنه على ذلك في لغة
العرب ولا في الشرع، ولا يقبل إلا من أعدمه الله العقل وأغفله عن ذكره. والدليل على بطلانه أن العلامة في اللغة تسمى السيما1 ولهذا قال الله في علامة المؤمنين: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} 2 وقال سبحانه في علامة الكفار يوم القيامة: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ} 3 وسيماهم اسوداد في وجوههم وزرق في أعينهم4، وقال في علامة الفقير: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} 5 يعني بعلامة الفقر، فإذا صح في السيما وهي العلامة أن تسمى بهذه6 المعاني مع اختلافها فيجوز على مقتضى هذا أن يسمى أثر السجود في وجوه المؤمنين طبعاً وختماً، لأن حقيقة الاسم لا يتغير ولا يختلف لاختلاف المحل المسمى به، وهذا لا يقوله أحد، ويقال لهم: إذا صح في اللغة والشرع أن يحمل الختم والطبع على قلوب الكافرين على علامة على قلوبهم يعرفهم7 بذلك الملائكة ليستعملوا فيهم ما هم له أهل من اللعن والذم وينزلوهم بمنزلتهم التي يستحقونها فما المانع أن تسمى الهداية8 والتنوير في قلوب المؤمنين طبعاً وختماً، ويحمل ذلك على أن الله جعل ذلك علامة على قلوبهم ليعرفهم بها الملائكة ليستمعلوا بهم ما ندبوا إليه من الصلاة عليهم والدعاء
لهم، ويستوي المسلم والكافر في هذه التسمية كما استويا في اسم السيما وهي العلامة على ما مضى وهذا لا يقبله عاقل1. وأما استدلال المخالف على تأويل هذا بقوله: طبع الدينار والدرهم إذا جعل عليه علامة فلا يسلم له،2 بل يقال: طبع الدينار والدرهم إذا ختم عليه بالطبع المنقوش عليه ويسمى الطابع والخاتم، والطبع والختم معنى واحد، وهو: التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه يسمى ختام الكتاب: خاتمة لتغطية ما في باطنه وصيانته عن نظر الناظرين إلى باطنه3. والدليل على أن الطابع يستعمل في معنى الختم، ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فقال سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليكن كتب في رق ثم طبع عليه بطابع فلا يكسر إلى يوم القيامة"4. ومعناه: ختم على الكتاب بطابع. والطبع في اللغة: الوسخ والدنس يغشيان السيف ثم يستعمل فيما يشبه5 الوسخ من الآثام والأوزار6 ومنه الحديث
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "استعيذوا1 بالله من طمع يهدي إلى طبع"2. أي إلى دنس. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب" 3 أي يخلق عليها، ويدل على أن الختم هو التغطية والسد على الشيء قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} 4 أي تغطي أفواههم ويسد عليها، ولو كان الختم في اللغة هو العلامة لكانت العلامة على أفواههم هاهنا لا تمنعهم عن الكلام ويدل عليه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} 5 أفترى يحسن استعمال العلامة على الختم على قلوبهم هاهنا. وكذلك قوله تعالى: {فَإِنْ6 يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِك} 7 أي يربط على قلبك فلا تدخله المشقة لأنه شق على النبي صلى الله عليه وسلم تكذيب قومه8 وهو قوله
: {يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 1 حين زعم أن القرآن من عند الله، فهل يحسن2 استعمال العلامة في شيء من هذا أو يقبله عقل؟ ويدل على أن المراد بالطبع على قلوبهم هو سدها وتغطيتها عن الهداية والإسلام قوله تعالى: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} 3 فأخبر أن الطبع أورثهم عدم الفهم، وهذا المعنى لا يوجد في العلامة على القلوب. ويدل على صحة قولنا: ما روي أن قوماً من المنافقين حضروا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فلما خرجوا من المسجد قالوا للذين أوتوا العلم: ماذا قال آنفاً؟ يعنون الساعة4 وقد سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفقهوه، فأخبر الله عن أن المعنى الذي أورثهم عدم تفقههم5 قول النبي صلى الله عليه وسلم6 فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أي في الكفر، وهذا كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 7، فنسب إغفال قلوبهم إليه، كما نسب الطبع على قلوبهم إليه، واتبعوا لذلك أهواءهم ونسب اتباعهم لأهوائهم إليهم، لأنه كسبهم ولأنهم محل لخلق الله ذلك فيهم. ويدل على صحة قوله قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} 1 وقد قرأ بعض القراء (غشاوة) بالنصب فيكون تأويل الآية غطاءاً على قلوبهم فلا تفقه2 وعلى أسماعهم فلا تسمع وعلى أبصارهم غشاوة3 فلا تبصر4، ولو كان المراد بالختم هاهنا: العلامة، لكانت العلامة على آذانهم وعلى أعينهم مشاهدة يدركها كل أحد كما يدرك العلامة على وجوههم وعلى أبصارهم يوم القيامة ويشاهدها كل أحد، فبطل أن يكون الختم والطبع هو العلامة. واستدل المخالف على تأويله بقوله تعالى: {بَلْ5 طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً} 6 فأخبر أن الإيمان بالطبع يحصل من قليل منهم7. والجواب: أن هذه الآية حجة عليه، وأن الطبع: هو السد8 والتغطية لأن الله سبحانه أخبر عنهم أنهم قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} يعنون قلوبنا في أكنة: أي عليها الغطاء فلا نفقه ولا نفهم ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا} أي ختم عليها بكفرهم: أي جعل ذلك مجازاة لهم على كفرهم، وقيل: لما سبق في علمه بكفرهم، وأما قوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً}
يقول ما أقل ما يؤمنون البيتة، ويجوز أن يكون المراد فلا يؤمنون إلا قليلاً ممن أراد الله منه الإيمان فأزال الطبع عن قلبه1 لأنه قال: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} 2.
63- فصل يقال للقدري: إذا قلتم عن الله سبحانه لم يخص أحداً بالهداية إلى الإيمان والمعرفة، فهل ساوى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل وأبي لهب بهذه المنزلة؟ أو هل سوى بين موسى عليه السلام وفرعون بهذه المنزلة؟! فمن أصلهم الفاسد أن1 يقولوا: نعم سوى الله بينهم فيقال لهم قال الله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 2 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بورك لي في يوم لا أزداد فيه علما"3، وقال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 4، وهل درجة أفضل من المعرفة بالله، وهل فاضل الله بين الأنبياء بشيء أفضل من المفاضلة بينهم بالمعرفة به سبحانه، وعلى قدر درجاتهم بالمعرفة بالله في الدنيا تكون درجاتهم في الآخرة5 بالجنة، فكيف يتصور عاقل أن الله سوى بين أنبيائه وبين أعدائه في الهداية واللطف والتوفيق لمعرفته، ولو حلف حالف بطلاق نسائه ثلاثا ما سوى الله بين أنبيائه وبين أعدائه في اللطف
أن الله سوى بين قلب من قال فيه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} 1 وبين قلب من قال الله فيها وهي أم موسى صلى الله عليه وسلم: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2، ومثلها قوله تعالى في أهل الكهف: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} 3 وهل يتصور التسوية بين من قال الله فيهم: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} 4 وبين من قال فيهم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} 5 وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} 6. ويقال للمعتزلة والقدرية: قلتم إن الله لم يخص أحداً بالعلم والإيمان ولكنهم آمنوا بأنفسهم فأين أنتم من قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ} 7 وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة} 8، وقال: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} 9، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} 10، وقال: {عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 11، وقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} 12 فلو كان الإنسان علم نفسه، أو لم يخص أحداً بإيتاء الإيمان والحكمة، أو سوى بين الخلق بذلك لم يكن لذكر تخصيص الله بمن ذكر ممن ذكر معنى.
63- فصل يقال للقدري: إذا قلتم عن الله سبحانه لم يخص أحداً بالهداية إلى الإيمان والمعرفة، فهل ساوى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل وأبي لهب بهذه المنزلة؟ أو هل سوى بين موسى عليه السلام وفرعون بهذه المنزلة؟! فمن أصلهم الفاسد أن1 يقولوا: نعم سوى الله بينهم فيقال لهم قال الله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 2 قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا بورك لي في يوم لا أزداد فيه عل ما"3، وقال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 4، وهل درجة أفضل من المعرفة بالله، وهل فاضل الله بين الأنبياء بشيء أفضل من المفاضلة بينهم بالمعرفة به سبحانه، وعلى قدر درجاتهم بالمعرفة بالله في الدنيا تكون درجاتهم في الآخرة5 بالجنة، فكيف يتصور عاقل أن الله سوى بين أنبيائه وبين أعدائه في الهداية واللطف والتوفيق لمعرفته، ولو حلف حالف بطلاق نسائه ثلاثا ما سوى الله بين أنبيائه وبين أعدائه في اللطف
والهداية إلى الإيمان به1 لم يحكم أحد ممن له أدنى فطنة في الفقه بطلاق امرأة2 من حلف، بل الذي لا شك فيه ولا مرية عند من له فهم ودراية في الفقه أن رجلاً لو قال: امرأته طالق ثلاثاً لقد ضل الله من يقول إن الله لم يساو بين الخلق في الهداية والإيمان على من قال إنه ساوى بينهم بذلك لم يحكم عليه بطلاق امرأته، لأن على ذلك أدلة قطعية من الكتاب والعقل. ولو حلف بطلاق امرأته ثلاثاً أن القدرية هم الذين يقولون: إنهم يخلقون أفعالهم دون من يقول إن الله خلق أفعالهم لم يحكم بطلاق امرأته على قول جميع الأئمة الذين جعل الله جميع أهل الأرض تابعين لهم وجمع هممهم على ذلك وهم الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد وأهل الظاهر ولم يخرج عن هؤلاء إلا من لا يعد قوله خلافاً. استدل المخالف بقوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} 3. والجواب: أن نقول لا شك أن الله سبحانه قدر أفعال الشر على يد إبليس وخلقه سبباً للشر، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو أراد الله أن لا يعصى لما خلق إبليس"4، وروي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قال الله عزوجل: أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخير والشر وقدرته على يدي من يكون فطوبى لمن خلقت الخير على يديه وويل لمن خلقت الشر على يديه"5. ومن أشنع ما شهد به هذا المخالف على نفسه قوله:
إن الله خلق إبليس للعبادة1. فيقال له: قل إن الله خلق إبليس لما خلق له جبريل وميكال ولما خلق له النبي صلى الله عليه وسلم من العبادة ولطف به في الهداية إلى معرفته وطاعته كما لطف بهؤلاء، ولم يفضلهم عليه إلا بالنبوة. وهذا قول يشهد على قائله بالشناعة، فليت شعري من المراد بقوله2 تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} 3، إن كان إبليس لم يخلق لجهنم؟! وأما تمويهه بتأويل4 هذه الآية فلا يقبله من أنعم الله عليه بشيء من العقل وسيأتي بيان فساده5.
64- فصل قال المخالف القدري: وأما استدلال المستدل بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} 1. فقد اختلف في تفسيره فمنهم من قال: إن الكفار كانوا إذا سمعوا تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن في صلاة الليل في الحرم أيام كان بمكة في أول الإسلام رجموه وآذوه فأراد الله منعهم من ذلك فألقى عليهم النوم والأمور المانعة من السماع للكلام والفهم له فسمى ذلك حجاباً مستوراً ووقراً في الآذان وأكنة على القلوب وهو قوله تعالى: {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} إلى قوله: {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} 2. ومنهم من قال: إنما ذكر الله ذلك على جهة التمثيل ممن هو على هذه الصفة كما سماهم عمياً وبكماً وصماً، وإنما أراد أنهم3 بمثابة من هو كذلك وإلا فقد علمنا أنهم لم يكونوا كذلك حقيقة بل كانوا يبصرون ويسمعون ويعقلون أكثر الأشياء، فعلى أي التأويلين حملنا ما أورده4 المستدل لم يكن فيه حجة. والجواب أن يقال لهذا المخالف: صحة قولك في التأويل فرع على صحة قولك في التنزيل، فإذا كان قولك في التنزيل غير صحيح وهو أنك لا تقر بأن هذا القرآن كلام الله حقيقة وإنما تطلق ذلك في احتجاجك لتغر العوام أنك تحتج بكلام الله وأن لك تأويلاً صحيحاً، وحقيقة قولك الذي تعتمد
عليه أنه لا كلام لله حقيقة فكيف يقبل منك التأويل، ثم يقال: عمن تروي هذا الاختلاف في التأويل من أهل التفسير، والمشهورون في تفسير القرآن من الصحابة علي وابن عباس وأبي بن كعب وابن مسعود، ومن التابعين أبو العالية1 ومجاهد وعكرمة2 وسعيد بن جبير وعطاء بن يسار3 مولى بني أسد4 وطاوس5 وعلي بن عبد الله بن عباس6 وأبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي7 وأبو مالك الغفاري8. قال مجاهد: "قرأت القرآن على
ابن عباس ثلاثين مرة من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية فأسأله عنها وعمن نزلت فيه"1. وقال أبو الجوزاء: "أقمت بالمدينة ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة فسألت ابن عباس عن كل آية في القرآن ظهرها وبطنها وفيمن نزلت"2. وقال طاوس: "صحبت ابن عباس أربعين سنة وأدركت سبعين شيخاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا بدروا3 في أمر انتهوا فيه إلى قول4 ابن عباس"5. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس وقال: "اللهم علمه التأويل والتنزيل وفقهه في الدين واجعله من عبادك الصالحين" 6، ولم يذكر في كتب
هؤلاء1 الأئمة شيء من هذه التأويلات التي أوردها هذا المخالف، وإنما ذلك من تخيلات المعتزلة والقدرية وتأويلاتهم الفاسدة التي يرومون بها صرف القرآن عن ظاهره الذي يشهد على بطلان مذهبهم الفاسد، والذي ذكره المفسرون المعتمد على تفسيرهم من الصحابة والتابعين أن الأكنة على القلوب: هي الغشاوة والأغطية عليها، وهي معنى الختم والطبع عليها عن الإيمان الهدى بدليل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوه} وهذا يراد به عدم فقههم وفهمهم2 لمعاني القرآن المودعة في القرآن3، ولو كان المراد به ما ذكره المخالف من منعهم من أذى النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لذكر فقههم معنى، ولقال: أن يسمعوه. ويدل على بطلان تأويله أن النوم وغيره من الموانع عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم لا تسمى أكنة على القلوب ولا وقراً في الآذان، بل تسمى شاغلاً ومانعاً عن الأذى، وهذا المعنى الذي ذكره معلوم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} 4 وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم تحرسه أصحابه حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه إلى أصحابه بالليل وقال: "يأيها الناس انصرفوا5 فقد عصمني الله من الناس"6.
ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور} 1. ومعنى الآية أن الله يسمع الإيمان من يشاء من خلقه أن يفقههم ويفهمهم، وما أنت بمفقه2 الكفار الإيمان الذين هم بمنزلة من في القبور3، ومثل هذا قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لآسْمَعَهُمْ} 4 يعني لأعطاهم الإيمان5 {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} أي لو بين لهم كل ما يختلج في صدورهم {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} لما سبق عليهم في علم الله أنهم لا يؤمنون. وأما قول المخالف: إنما ذكر ذلك على جهة التمثيل فإنما يحسن هذا في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور} أي هم6 بمنزلة من في القبور، وأما قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة} في مواضع كثيرة من القرآن فلا يصح7؛
لأنها كقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظا} 1 وكقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} 2 {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} 3، فخلق كل قوم لما لم يخلق له الآخرين، فمن قال: إن الله لم يجعل على قلوبهم أكنة وإنما شبههم به فقد رد على الله خبره وصرف الكلام إلى غير ظاهره لغير ضرورة ولا معنى يدل على ذلك.
65- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍِ} 1 وأخبر سبحانه أنه عم جميع الخلق بالدعاء إلى دار السلام2 وهي الجنة، وأخبر أن الهداية منه إلى إجابته خاصة لبعضهم3. فأجاب المخالف القدري عن هذا الاستدلال وقال: لا عموم في هذا لأن قوله: (يدعو) فعل مستقل، والعموم أحد أقسام الأسماء ولا يدخل في الأفعال، وأما قوله: فإن الهداية إلى الإجابة خاصة لبعضهم فليس في الآية ما يدل على تخصيص بعض المكلفين بالهداية دون بعض، فإن أكثر ما فيها أنه يهدي من يشاء وليس فيها بيان من يشاء هدايتهم، فيحتمل أنه يريد الهداية العامة فيكون تخصيصاً للمكلفين جميعاً دون من لم يشأ تكليفه كالمجانين ومن شاكلهم، ويحتمل أنه يريد الهداية التي تختص بالمؤمنين وهي الزيادة في التوفيق والتسديد أو الثواب على ما مضى4. والجواب أن يقال له: أما قولك بأنه لا عموم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام} لأنه فعل5 فهذا يدل على إفلاسك من العربية وجهلك بأقسام العموم. والمعنى فيما ذكر أنا لا ننكر أن قوله (يدعو) فعل مستقل يتعدى إلى مفعول وهم الخلق المدعون إلى دار السلام، والسلام: هو اسم من أسماء
الله تعالى كقوله تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} 1 فهو يدعو عباده إلى داره وهي الجنة، ويجوز أن يكون سماها دار السلام لأن من صار إليها سلم من الآفات والعذاب2، والدليل على صحة ما ذكرنا أن قولك: دعا يدعو من أفعال التي تتعدى إلى مفعول، فيفهم ذلك بالإطلاق كقولك ضرب وقتل، فلما حذف المفعول دل على أنه أراد دعاء جميع المكلفين3، فلما قال بعده: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍِ} كان الظاهر أن الهداية منه إلى بعض من تقدم ذكره في الدعاء. وأما قول المخالف: إنه أراد بالهداية هاهنا الهداية العامة فتكون لبعض المكلفين وهم العقلاء والبالغون. فالجواب أنه لا يصح حمل الآية على هذا لأن المجانين والصغار غير داخلين في التكليف، فهم غير داخلين في عموم المدعين، لأنه لم يدع الخلق إلى دار السلام إلا بالتكليف، وهو: الإيمان به والشرائع، وهؤلاء غير داخلين في الخطاب العام، فيكون المكلفون مخصوصين بالهداية، وأيضاً فإن الهدى العام هو: البيان والدلالة، ولا يجوز أن يخص بالبيان والدلالة بعض الخلق دون بعض4، وإذا بطل هذا ثبت أن المدعيين إلى دار السلام هم جميع المكلفين الداخلين في واجبات التكليف، وأن الهداية إلى الإجابة خاصة منه لبعضهم.
وأما قوله: يحتمل أنه يريد بالهداية هي التي تختص بالمؤمنين من الزيادة في التوفيق والتسديد، فهذا غير صحيح لأنه علق ذلك على من يشاء ولم يخص به المؤمنين الذين اهتدوا فيكون كقوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} 1 لا يختص به المؤمنون ولا الكافرون2. وأما قوله يحتمل أنه3 أراد بالهداية هاهنا الثواب في الآخرة غير صحيح، لأنا قد بينا أن حمل الهدى على الثواب لا يصح في اللغة ولا دليل عليه من الشرع4 وعلى أنه لو صح أن الهدى يحمل على الثواب لم يعلقه الله بمن يشاء لأن الثواب يكون للمطيعين، وعندكم أن الله لو لم يثب المطيعين لظلمهم فلا يجوز تعليقه على مشيئته، وأيضاً فإنه قال في الآية: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍِ} والصراط المستقيم قيل: "هو الإسلام"5، وقيل: "هو كتاب الله"6، وقيل: "هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره"7. وقال ابن عباس: "هو طريق الجنة"8.
والصراط: "الطريق بلغة الروم"1 وهذا كله يدل على أنه لا يمكن حمل الهدى هاهنا على الثواب في الآخرة.
66- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 1 فنسب الله سبحانه الإرادة في الهداية بشرح صدور المسلمين2 إليه، ونسب الإرادة في إضلالهم وجعل صدورهم ضيقة حرجة إليه، وهذا كله أدلة على القدرية لا مخرج لهم عنها. فأجاب المخالف القدري عن هذا الاستدلال وقال: لا حجة لهذا المستدل بهذه الآية وذلك لما بينا أن الهداية منقسمة إلى معان، أحدها: الثواب، والضلالة منقسمة إلى معان أحدها: العقاب3، فمعنى الآية من يرد الله أن يثيبه من المؤمنين يقدم له شرح الصدر الذي من جملة الثواب العاجل وزيادة اللطف لأجل الإسلام الذي فعله هو، فيكون عند الشرح أقرب إلى الاستقامة على ما هو عليه من الإيمان، ومن يرد أن يعاقبه من العصاة يقدم له حرج الصدر الذي هو جار مجرى العقاب على كفره، فيصير صدره ضيقا حرجا بما هو عليه من الكفر ليكون أقرب إلى الانتقال عن الكفر الذي هو سبب ذلك الحرج في الدنيا والعقاب، وقد دل على أنه أراد بذلك عقابهم بقوله تعالى في آخر الآية: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} . والرجس هو العقاب فأخبر أنه جعل عليهم الرجس لما لم يؤمنوا. والجواب أن الهدي يعود إلى معنيين: أحدهما: هدي بيان ودلالة، وهذا هو الهدي4 لجميع المكلفين، وهو
الهدي الذي أخبر الله أنه هَدَى له ثمود، والهدي المضاف إلى الرسل. والهدي الثاني: هدي تأييد وتوفيق، وهو هدي الله للمؤمنين، وهو الهدي الذي لم يجعله الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى غيره من الرسل، بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1 وهو المراد بالهدي في هذه الآية التي نحن فيها، يشرح له الصدر: أي يوسعها ويفتحها للإسلام2. فأما ما ادّعاه المخالف: من أنه قد ورد في القرآن وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِم} 3. والمراد به الثواب، وعلى هذا يحمل الهدى في هذه الآية فغير مستقيمة في لغة ولا شرع، وقد قرئ: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقرئ: {قَتَلُوا} بفتح القاف والتاء، أي قتلوا غيرهم وهم أصحاب بدر {سَيَهْدِيهِمْ} 4 فيكون تأويل الآية على هذا: سيهديهم في الدنيا هداية التأييد والتوفيق5 بدليل قوله: {وَيُصْلِحُ بَالَهُمٍٍٍٍٍٍِِِْْْْ} والبال هاهنا: هو سعة الرزق في الدنيا، وقيل عبر بالبال عن القلوب بدليل قول العرب: لم يخطر هذا على بالى6 أي على قلبي، ونقول لغيرك: اجعلني واجعل حاجتي على بالك، أي على قلبك7، وأما قوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} فأخبر8 عما يفعل لهم في الآخرة بعد إخباره عما يفعل لهم في الدنيا، فيكون تأويلنا هذا أولى من تأويلهم؛ لأن ذلك
يفيد الإخبار عن إنعامه عليهم في الدنيا والآخرة، وعلى ما ذكره المخالف يكون مكرراً عن معنى واحد؛ لأن الثواب هو الجنة والجنة هي الثواب، ومتى أمكن حمل الكلامين على فائدتين محددتين كان أولى من الحمل على فائدة واحدة مكررة. وأما قراءة من قرأ {وَالَّذِينَ قُتِلُوا} بالتخفيف، وقراءة من قرأ {قُتِّلُوا} بالتشديد وهم قتلى بدر {سَيَهْدِيهِمْ} فإن تأويل الآية على هذا: سيهديهم في القبور عند المسألة منكر ونكير إلى القول الثابت بالتوحيد، وهو قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} 1 والقول الثابت: قول لا إله إلا الله، وهذا مما يرده القدرية ويجحدونه وينكرون عذاب القبر ومسألة منكر ونكير، ويقولون إن الله لم يثبت الذين آمنوا وإنما هم ثبتوا أنفسهم. والآية حجة عليهم2، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله3. ثم أخبر بما ينعم به عليهم في الآخرة وقال: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} قيل: طيبها لهم4، وقيل: يعرفهم منازلهم فيها5 ويكون6 في هذا التأويل حمل
الكلام على فائدتين محددتين على ما مضى1. وأما قول المخالف: إن الضلال قد يراد به العقوبة2 واستدل عليه بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} 3 فغير مسلم له، بل نقول: المراد بهذه الآية أن المجرمين في ضلال من الدين، وسعر يعني بعداً من الحق، وقيل: في شغل وعنا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: "هذه الآية أنزلت في أناس يكذبون بالقدر"4 ويدل على صحة هذا التأويل إخبار الله عن ثمود وهم قوم صالح في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} 5 وأرادوا وصف أنفسهم في هذا الحال، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 6 وأراد وصف المنافقين بالفسق، وكقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 7 فأثبت الخلق لنفسه ونفى الخلق عن غيره ثم قال: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فوصف من أثبت الخلق لغير الله سبحانه بالظلم وأنهم في ضلال مبين، وأراد في ضلال من الدين، مبين أي بين، وهذا كوصف الله المجرمين أنهم في ضلال8، وسعر أي في عناء أو في بعد من الحق. وأما استدلاله على تأويله بقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} 9 فلا
يدل على أنه أراد وصفهم بالضلال يوم يسحبون وإنما أخبر سبحانه عما يصنع بهم في الآخرة فقال: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} يقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} فحذف يقال لهم لدلالة الكلام عليه1، وهذا كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2 أي يقال: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . وأما قول المخالف: إن شرح صدور المؤمنين من الله من جملة الثواب على الإسلام الذي فعلوه فيه3، فيقال لهم: هل شرح الله صدورهم قبل أن يسلموا أو بعد أن يسلموا؟ فإن شرح الله صدورهم قبل أن يسلموا فكيف أثابهم على فعل شيء لم يوجد منهم؟ وإن قلتم: إنه شرح صدورهم بعد أن أسلموا قيل لهم: زاد إيمانهم بهذا الشرح أو لم يزد؟ فإن لم يزد إيمانهم بذلك فما أفاد هذا الشرح فائدة إذا لم تظهر له فائدة. وإن قلتم ازداد إيمانهم4 بهذا الشرح أدى ذلك إلى إبطال قولكم إن الإيمان لا يزيد5. ثم يقال لهم: أيثيبهم الله على هذه الزيادة التي كانت من الله لهم بشرح صدورهم أم لا؟ فإن قلتم: لا يثيبهم عليها، قلنا: فلا فائدة منها ولا وجه لامتنان الله بذلك عليها، وإن قلتم بل يصيبهم الله عليها كما يثيبهم على ما خلقوه لأنفسهم قبل ذلك، قلنا لهم وكيف يثيبهم الله على شيء خلقه6 فيهم كما لا يثيبهم على خلقه لألوانهم وصورهم؟، وأيضاً فإنه يؤدي إلى أن
يكون إيمانهم شيئاً واحداً بعضه خلقوه لأنفسهم، وبعضه خلقه الله فيهم وقد نفى الله أن يكون له شريك فيما خلق. وأما قول المخالف: إن بهذا الشرح يكون المؤمن أقرب إلى الاستقامة على ما هو عليه من الإيمان، فيقال له: فهل علم الله أن هذا المؤمن يستقيم على إيمانه قبل الشرح لو لم يشرح صدره، أو علم أنه لا يستقيم؟ فإن علم أنه لا يستقيم لو لم يشرح صدره أدى ذلك إلى أنه أجبره على الاستقامة بالشرح وأدى إلى أنه لا يستحق الشرح1، وإن قلتم: بل علم أنه يستقيم قبل الشرح، قلنا: فلا فائدة بهذا الشرح، ثم يقال لهذا المخالف ولأهل مذهبه: إذا جاز في العقل والشرع أن يشرح صدور خلقه للإيمان ثواباً منه في الدنيا على ما كان منهم من الإيمان ويثيبهم على هذه الزيادة في الآخرة فما المانع لكم من أن تصفوه بأنه يبتدئ الشرح في صدورهم للإيمان تفضلاً منه وإنعاماً عليهم في الدنيا على غير عمل سبق منهم ويثيبهم على ذلك في الآخرة، وتقولوا كما قال الله سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 2، وكقوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ3وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 4 وقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 5 وليس فضل أفضل من الإيمان، وقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} 6 وهلا قلتم كما أخبر الله عن أهل الجنة إذ استقروا في منازلهم فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 7 وتأويله الذي هدانا بالإسلام8 إلى هذا الخير {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} فنفوا عن أنفسهم الاهتداء لولا
أن هداهم الله، وهذا يرد قول القدرية، وبمثل هذا أخبر الله عن أهل النار بقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} وهم الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم القادة1 {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ} لدينه وطاعته {لَهَدَيْنَاكُمْ} 2 لدينه فنسبوا الهداية إلى الله سبحانه، والهدى في هذا كله لا يحتمل إلا التأييد والتوفيق إلى الإسلام. وروي أن الحسن بن علي – رضي الله عنه – قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدعو في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت ... "3 إلى آخر الكلمات. وهذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول، وعمل به الأئمة الأعلام4 وهو موافق لما أمر الله عباده أن يدعوه بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 5
أي أرشدنا الطريق وعرِّفناه وثبتنا عليه، وقيل معناه وفقنا وسددنا1 فدل على أن الهداية من الله، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينقل التراب يوم أمر2 بحفر الخندق وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا3 وهذا موافق لقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} 4 {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 5. وأما تأويل المخالف لقول الله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ} الآية بأنه أراد من يعاقبه من العصاة يقدم له حرج الصدر6، فقد بينّا أن الإضلال لا يستعمل في موضع العقوبة7 وإن سلّمنا له ذلك تسليم جدل لا تسلم نظر قلنا: فهل أراد عقوبته بإحراج صدره قبل وجود الكفر منه أو بعد وجود الكفر منه؟ فإن قال: أراد ذلك قبل وجود الكفر منه، قلنا: فقد وافقت أن الله أراد العقاب والكفر الذي نهى عنه قبل وقوعه8، وإن قال: أراد ذلك بعد
وجود الكفر من الكافر، قلنا لك: فقولك هذا يؤدي إلى أن الله خلق إرادته وأحدثها بعد أن1 لم تكن، وهو سبحانه ليس بمحل لحوادث2، ثم يقال له أراد تلك الإرادة بإرادة قبلها أم بغير إرادة؟ فإن قال: بل بغير إرادة – ولا يقول إن له إرادة بالجملة3 – قلنا: فيجوز وقوع الأفعال منه جميعاً وهو غير مريد لها فليس تقدم ما تقدم من الأشياء الحادثة بأولى من تأخرها، ومن قال: إن الله سبحانه خلق السموات والأرض ومن فيهن وهو غير مريد لخلقها أو لا إرادة له بخلقها يخرج من حيز العقلاء ويدخل في جملة البهائم والمجانين من بني آدم وقد سقط عنا جواب كلامهم فلا فائدة بالكلام معهم. ثم نقول له مع ذلك: فهل بخلق الله الحرج في صدره ازداد كفره أو لم يزدد؟ فإن قالوا: لم يزدد، قلنا: فلا عقوبة إذاً، وإن قالوا: بل ازداد كفره، قلنا: فقد وافقت4 أن الله خلق الكفر في صدور الكفار وهو كقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} 5 وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 6 وقد وجد الكفر في صدر الكافر، بعضه من خلق الكافر وبعضه من خلق الله، فهل يقدر الكافر على تمييز ما خلق في نفسه من الكفر عما خلقه الله فيه من الزيادة فيه؟ فإن ادعى مدّع أنه يقدر على ذلك ادعى البهت وعُلم خطؤه بذلك ضرورة، وإن قال: لا يقدر على ذلك ولا يقدر عليه إلا الله قلنا له: فهو الخالق للجميع بدليل قوله تعالى: {أَلا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 1 وأيضاً فيقال له: فهل يعاقبه الله على ما خلق في صدره من الزيادة والحرج في الكفر في الآخرة كما عاقبه في الدنيا بزيادة الحرج؟ فإن قال: لا يعاقبه عليه، فلا عقوبة هاهنا أيضاً، وإن قال: بل يعاقبه على تلك الزيادة كما يعاقبه على الكفر الذي خلقه الكافر بنفسه. قلنا: فقد وافقت أن الله عذب الكافر على ما خلق فيه فدخلت فيما أنكرت على خصمك. وأما قول المخالف: إنما عاقبه بذلك2 ليكون أقرب إلى الانتقال عن الكفر الذي هو سبب ذلك الحرج، فإن هذا كلام متناقض يشهد على قائله بقلة التمييز، فكيف يكون خلق الله الكفر بصدر سبباً داعياً له لانتقال الكفر؟ هذا كقول القائل: خلق الله الحركة في المتحرك علة أو سبباً للسكون أو خلق السكون علة للتحرك، وكان اللائق بمذهب المخالف وتمويهه أن يقول خلق الله الإيمان بقلب الكافر ليكون أقرب له إلى الانتقال عن الكفر الذي خلقه الله بقلبه ولكن لم يقبله قلبه، ولو قال هذا، قلنا: لو خلق الله الإيمان في قلبه لانتفى عنه الكفر؛ لأنهما لا يجتمعان معاً3، مع أنهم لا يقولون خلق شيئاً من أفعال العباد طاعة ومعصية، وإنما يقولون أراد وقوع الطاعة لا غير. وأما استدلال المخالف على تأويله4 هذا بقوله تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 5. فالجواب: أنه لا حجة له بأنه جعل عليهم الرجس بعد أن لم يؤمنوا، وما تنكر أن يقول خصمك: بل جعل الرجس على قلوبهم فمنعهم عن
الإيمان كما قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 1 وكقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} 2 مع أن الرجس: اسم لكل ما استقذر من عمل3، ويقال: الرجس المأثم ومنه قوله تعالى: {يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 4 أي المأثم والكفر5، ومنه قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} 6 والرجس: العمل الذي يؤدي إلى العذاب7 ومنه قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} 8 يعني اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة9. وإن حملنا الرجس في هذه الآية التي نحن فيها على المأثم والكفر وكل ما استقذر من العمل فهو حجة على الخصم لا له، وإن حملناه على اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة فهو عقاب من الله على ما سبق بعلمه وتقديره عليهم من الإضلال وجعله لصدورهم ضيقة حرجة.
67- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 1. فأجاب المخالف عن هذه بنحو أجوبته فيما مضى على أن المراد بالإضلال العقاب في الدنيا والآخرة2 وبالختم العلامة على القلب3. والجواب عن هذا: ما مضى على أن الإضلال لا يستعمل في موضع العقاب4، ولا يستعمل الختم في موضع العلامة على القلب لما تقدم ذكره5. ويقال له: هذه الآية6 نزلت في النضر بن الحارث السهمي، كان من المستهزئين7 وكان يعبد الأوثان، فإذا رأى وثناً أحسن من الأول عبده وترك الأول8 فهذا معنى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى
عِلْم} 1 أي أضله الله عن الدين على علم، أي على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه أنه ضال. وروي عن ابن عباس أنه قال: "علم قد علمه عنده"2، وقيل: "على علم أنه لا ينفعه ولا يضره) 3، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} فلا يسمع4 الهدى، وعلى قلبه فلا يعقل الهدى {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} يعني5 الغطاء {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} إذا أضله، وهذا كقوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 6 وكقوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} 7 ويدل على صحة هذا التأويل أنه أراد به إضلالهم عن الدين في الدنيا ما أخبر به عن قولهم بعد هذا8 فقال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ…} 9 الآية، أي وما يميتنا إلا طول العمر واختلاف الليل والنهار ولا نبعث، فقال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} 10 أنهم لا يبعثون11 {إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ} أي ما يستيقنون12.
68- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الآيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 1. (فامتن الله على المؤمنين بأنه حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان) 2، فلو كان فعل ذلك للكافر لم يكن لامتنانه بذلك على المؤمنين معنى. فأجاب المخالف عن ذلك وقال: لا حجة لهذا المستدل بذلك لأن عامة ما في ذلك أنه ذكر المؤمنين ولم يذكر الكفار، فإغفال ذكرهم لا يدل على أن حكمهم مخالف لحكم المؤمنين إلا عند من لا بصيرة له ممن تمسك بدليل الخطاب وهو باطل عندنا3. وقوله: لو فعل ذلك للكافر لم يكن لامتنانه على المؤمنين معنى، بل فيه فائدة من وجهين: أحدهما: أن المؤمنين أعظم انتفاعاً به من الكافر. والثاني: أنه4 خصهم بالذكر تعظيماً لمرهم، وإن كان الكفار قد شاركوهم في ذلك، لأن الله تعالى إنما زين الإيمان في قلوب المؤمنين بما علق به من الأحكام الشريفة5 والأسماء الحسنة والمدائح العظيمة في الدنيا، وبما وعد6 عليه من الثواب الجزيل، وقد اطلع الفار على ذلك ورغب الجميع غاية الترغيب وحسنه عند الجميع، ولذلك أسلم
كثير من الكفار، ولولا أنهم كانوا من جملة من حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ما كانوا من الراشدين، ومن أصر منهم على الكفر فليس لأن الله زين له ما هو عليه، بل زينه الشيطان ما قال: {وَإِذْ1زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} 2 وقال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيل} 3، هذا نكتة قوله ومعتمده. والجواب أن يقال لهذا المخالف: طعنك على المستدل بدليل الخطاب بأنه لا بصيرة له طعن منك على الصحابة – رضي الله عنهم -، وهذا دأبك ودأب أهل مذهبك في الطعن عليهم، وهذا أدل دليل على قلة البصيرة من الطاعن4 عليهم، وذلك أن الصحابة – رضي الله عنهم - استدلوا بدليل الخطاب، يروى عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر – رضي الله عنه -: ما لنا نقصر الصلاة في السفر وقد آمنَّا والله يقول: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 5، فقال عمر – رضي الله عنه -: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته "6. وهذا يدل أنهما7 فهما من تعليق القصد على حال الخوف بأنه لا يجوز القصر في
الأمن1 وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاستدلال. وروي: أن ابن عباس – رضي الله عنهما - خالف الصحابة –رضي الله عنهم - في توريث الأخت مع الابنة، واحتج بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 2 وهذا تعلق منه بدليل الخطاب وأنها لا تستحق مع وجود الولد3، وهو ترجمان القرآن ومن فصحاء الصحابة وعلمائهم، ولم ينكر عليه أحد الاستدلال بدليل الخطاب، وإنما احتجوا عليه بما هو أقوى منه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " الأخوات مع البنات عصبة" 4. فدل على أن المراد بهذه الآية الذكر5، وروي أن جماعة من الصحابة – رضي
الله عنهم - وهم: سعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبي وسعيد الخدري، وأبو أيوب الأنصاري، قالوا في الاكسال: وهو إنزال الذكر في الفرج من غير إنزال، لا يوجب الغسل1 واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الماء من الماء "2، وقال غيرهم من الصحابة: "يجب الغسل"3 واحتجوا عليهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا التقى4 الختانان وجب الغسل "5.
وقالت عائشة – رضي الله عنها -: " فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا "1، فأقرت الصحابة الأنصار على الاستدلال بدليل الخطاب2، واحتجوا عليهم بالنصر بالقول والفعل. وكذلك العلماء احتجوا بأن المطلقة البائن الحائل3 لا نفقة لها على الزوج بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} 4، وبأن شهادة غير الفاسق تقبل، واستدلوا عليه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 5 فدل على أنه إذا جاءهم من ليس بفاسق أن يقبل قوله6. فإذا تقرر هذا الاستدلال ممن ذكرنا من الصحابة والعلماء فكفى لهذا
المخالف نقصاً انتقاصه لهم، ولم نسلك1 طريقهم في الاستدلال بما ذكرنا على2 دليل الخطاب وإن كان دليلاً صحيحاً عندنا، وإنما استدللنا بما أخبر الله بكتابه، وبأنه3 أنعم على المؤمنين بما لم ينعم به على الكافرين، فقال في هذه الآية: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} . ووصفهم بأنهم الراشدون بما فعله لهم، فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} وأخبرنا في4 آية أخرى بتخصيصه لهم أنه لولا فضل الله عليهم ورحمته ما زكوا بقوله تعالى: {وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} 5، ومثل هذا قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ} 6، وكذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 7، ومثل هذا قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} 8 وهي النعمة التي أنعم الله بها عليه بالإيمان. وأخبر9 الله أنه فعل بالكفار ضد ما فعل بالمؤمنين فقال: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} 1 0، وقال في آية أخرى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} 11. قال الحسن البصري: "الشرك سلكه الله في قلوب المجرمين"12 وقال
مجاهد: "يسلك التكذيب والضلال"1 أي يدخله في قلوب المجرمين يقال سلكه وأسلكه لغتان يقال: سلكت الخيط في الإبرة إذا أدخلته فيها2، قال الشاعر: … … … … وقد سلكوك في أمر عصيب3 ويدل على صحة ما لنا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} 4، فأخبر سبحانه أنه زين للذين لم يؤمنوا أعمالهم وهو ضلالهم وكفرهم فهم لذلك يعمهون ويترددون في ضلالهم5، وهذا بخلاف ما أخبر الله عن صنعه بالمسلمين6 بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} 7 والطاغوت الأوثان8، {وَأَنَابُوا} أي رجعوا عن عبادة الأوثان إلى عبادة الله {لَهُمُ الْبُشْرَى} يعني الجنة {فَبَشِّرْ عِبَادِ} أي بالجنة، ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} يعني القرآن
{فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه} أي أحسن ما في القرآن من طاعة المطيعين لله ولا يتبعون المعاصي التي عملها من قبلهم من الأمم {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} لطاعته {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ} يعني أهل اللب والعقل في الدنيا1. وقيل: إن هذه الآية ونظيرتها في الأعراف نزلتا في ثلاثة نفر وهم: زيد بن عمرو بن نقيل، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله لم يأتهم كتاب ولا نبي إلا أنهم استمعوا أقوال الناس فكان أحسنها قول لا إله إلا الله فاتبعوه وتركوا أقوال من خالفه2. وأما قول المخالف: إن الله قد زين الإيمان في قلوب الكفار وحبه إليهم كم حببه وزينه في قلوب المؤمنين إلى آخر كلامه، فغير صحيح، لأنه لو ساوى بينهم في الهداية لاهتدوا لقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} 3، ولأنه لو صح أن يقال: هداهم فلم يهتدوا لصح أن يقال: قد حركهم فلم يتحركوا، وقد سكن جوارحهم فلم يسكنوا، ولأن الله قال في آخر الآية في الذين حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} . ومعلوم أن الراشدين هم المؤمنون دون الكفار فكان نتيجة تحبيب الإيمان إليهم الرشد، كما أخبر عمن طبع على قلبه بأن نتيجة ذلك الغفلة والخسران بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 4 وفي أخرى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 5.
وأما قول المخالف: بأن الله لم يزين للكافرين أعمالهم، وإنما زينها لهم الشيطان، فقد بينا أن الله زين لهم أعمالهم بقوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} 1، ونسب2 ذلك إلى الشيطان بأنه3 زينه لهم بوسوسة الشيطان، والشيطان ووسوسته خلق الله بدليل أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ به4 من الشيطان ومن وسوسته بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 5 وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} 6 ولولا أنهما خلق الله لما استعيذ به منهما. وأما قول المخالف: بأن التحبيب هو الترغيب بما وعد في الجنة من النعيم، وقد اطلع الكفار على ذلك ولهذا اسلم خلق منهم. فالجواب: أنا لا ننكر أنه قد ساوى بينهم في الدعاء إلى طاعته وفي الترغيب والترهيب، وإنما المختلف فيه هو الخصيصة في قلوب المؤمنين الذين قال الله فيهم: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} 7 وقوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} 8، فدل على أنه قد خص برحمته وفضله من يشاء من عباده ولم يعمهم بذلك كما عمهم بالخلق والدعاء إلى طاعته.
69- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1، ففرق الله في هذه الآية بين من شرح2 صدره الإسلام وبين من لم يشرح صدره بتوعده لهم بالويل وأخبر أنهم في ضلال مبين. فأجاب المخالف القدري: بأنه لا حجة لنا في هذه الآية لأن الله نسب شرح الصدر إليه، وما نسب قسوة القلب غليه بل ذم عليها وتوعد3 أهلها وذلك يدل على أنها فعلهم. والجواب: أن في الآية إضماراً وتأويلها {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} يعنى وسع قلبه وفتحه للتوحيد فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته4. وروي أن رجلاً قال: يا رسول الله ما معنى قول الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّه} ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن النور إذا وقع في القلب انشرح الصدر"، فقال الرجل: فهل لذلك من علامة تعلم. قال: "نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والتأهب للموت قبل نزول الموت "5. ويدل على صحة قولنا، قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 6 فنسب الله جعل القساوة في قلوبهم إليه في هذه الآية، كما
نسب شرح صدر المؤمنين إليه في هذه الآية. مثل قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 1. وقد مضى بيان صحة2 تأويلنا فيها وفساد تأويل المخالف فيها3. وأما استدلال المخالف بقوله لما ذمهم الله على قسامة القلوب وتوعدهم عليها دل على أن ذلك خلقهم لا من خلقه. فالجواب أن يقال له: فقد مدحهم الله على انشراح صدورهم بالإسلام، ووعدهم الجزاء عليه، وأخبر أنه شرح صدورهم للإسلام، فإذا لم يمتنع أن يخلق فيهم الشرح في الصدر ويمدحهم عليه ويثيبهم عليه لم يمتنع أن يخلق فيهم القسوة ويذمهم عليها ويعذبهم عليها. وأما إضافة القساوة إليهم فلكونها كسباً لهم وقعت باختيارهم، ولأنهم محل لخلق الله لها.
70- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} 1، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 2، وعند القدرية أن الله جعل النور لجميع المكلفين فهذا رد نهم لخبر الله سبحانه. فأجاب المخالف عن هذا وقال: قد سمى الله القرآن نوراً والإسلام نوراً والثواب في الآخرة نوراً، ولا شك أن بعض ذلك يخص المؤمنين وبعضه يعم المكلفين كنور القرآن والرسالة، وذلك متوجه إلى المكلفين، فمن قبله نفع نفسه ومن حاول إطفاء نور الله فالله متم نوره. والجواب: أن هذا تسليم من هذا المخالف لما أردنا أن الله سبحانه خص المؤمن بشيء من النور المذكور في القرآن، وهو النور في قلبه بمعرفة الله، لأن أصل النور هو الشيء الذي يبين الأشياء، فالله سبحانه نور. قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالآرْض} 3.
فقيل معناه: منور السموات والأرض1، وقيل: هادي أهل السموات والأرض2، {مَثَلُ نوٍٍٍٍرِِهِ} ِ أي الذي هدى به وأصاب سبيل الحق وأراد بقلب المؤمن3، أي مثل نور الله في قلب المؤمن4 {كَمِشْكَاةٍ} وهي الكوة غير
نافذة1 وقيل: المشكاة2 من المشكاة القائم في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة3 {فِيهَا مِصْبَاحٌ} والمصباح النور الذي في قلبه، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} وهي قلبه فقد مضيء كأنه كوكب دري وهذا المضيء4، {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} ي عني شجرة الزيت، {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} . قال الحسن: والله ما هذه من شجر الدنيا، ولو كانت من شجر الدنيا لكانت شرقية أو غربية5، وقال غيره: بل في قلعة مرتفعة تصيبها الشمس عند الشروق والغروب فلم تخلص لأحدهما6، إلى قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} أي للإيمان به من يشاء7 وهذا موضع التخصيص، ويدل عليه انه ضرب للكافر مثلاً، فقال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا…} ، ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً} أي في قلبه كما جعله في قلب المؤمن {فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فهذا يبطل قول القدرية في أن الله سوى بين المؤمن والكافر في تنوير القلوب.
وأما قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} 1 فأراد به اليهود والنصارى الذين غيروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وكتموها، والنور هاهنا دين الإسلام {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} يعني دين الإسلام يظهره {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وهم اليهود والنصارى2.
71- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 1. فأخبر سبحانه أنه الميسر لليسرى والعسرى، والتيسير: التهيئة. فأجاب المخالف القدري وقال: لا حجة لهذا المستدل بهذه الآية لأنه أخبر أن من أعطى واتقى وصدق بالحسنى يسره للجنة، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى يسره للنار، فلولا أن الأفعال من المحسن منهم والمسيء لما استحق المحسن ثواباً ولا المسيء عقاباً، كما لا يثيبهم ولا يعاقبهم على ألوانهم التي هي خلق له. والجواب أن يقال: إضافة الله التصديق والتكذيب إليهم لا يدل أن لا يكون2 ذلك خلقاً لله فيهم، لأنه أخبر أنه إذا أنزل الماء على الأرض اهتزت وربت وأنبت، فقال تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} 3 ومعلوم أنها لا تهتز ولا تربو ولا تنبت بنفسها، وإنما يفعل الله ذلك كله، وقال الله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} 4، والله هو الممر لها وإن أضاف الفعل إليها، والتصديق والتكذيب منهم خلق لله وقع بمشيئته منهم لوقوعه، ومشيئتهم معلقة، بمشيئة الله قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5، ولأن التصديق منهم نعمة وتفضل من الله بدليل قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 6، وقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} 7
، وقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} 1، فأنعم الله عليه بالإسلام وأنعم على النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق2، فأضاف الله الإنعام بالعتق إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كسبه ووقع بقدرة محدثة من الله فيه، وموضع الحجة لنا من الآيات3: أن الله أخبر أنه يسرهم لليسرى: أي للأمر السهل الذي لا يقدر عليه إلا المؤمنون، ويسرهم للعسرى والتيسير هو التهيئة، ومنه يقال يسرت الغنم للولادة إذا تهيأت لذلك وأنشد الفراء4: هما سيدانا يزعمان وإنما ... يسوداننا أن يَسَّرَتْ غنماهما5 وقال الأعشى6: ويَسًّر سهماً ذا غرار7يسوقه ... أََمِين القوى8في صلبة9 المتَرَنّم10
واليسرى هاهنا: الأعمال التي يستحقون بها الجنة، والعسرى: الأعمال التي يستوجبون بها النار في الآخرة. يدل على صحة ذلك ما روي في الصحاح عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقعد ونحن حوله وبيده مخصرة ينكت بها الأرض، وهو منكس رأسه ثم رفع رأسه وقال: "ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة والنار"، فقال رجل من القوم: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة، فسيصير إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل1 السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ …} الآية"2، وهذا تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على صحة قولنا. ويقال: إن قوله: {أَعْطَى وَاتَّقَى} نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. قال ابن عباس: نزلت في أبي بكر خاصة وهي بعد في الناس عامة، وذلك أنه اشترى سبعة من المسلمين كانوا في أيدي المشركين لله3، فأنزل
الله {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} من نفسه وماله ما كلفه1 الله عن طاعته {وَاتَّقَى} فيما كلفه من دينه {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي الجنة2. وقال الضحاك: "بلا إله إلا الله"3، وقال ابن عباس: "بالخَلَف من الله"4 {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} للحال اليسرى، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} قيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب بخل بماله واستغنى عن الله5 {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي للعمل بالعمل بالمعاصي. فدل على أن الله هو الموفق للأعمال.
72- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 1 فأخبر أنه ألهمهم الفجور والتقوى. فأجاب المخالف القدري عن هذا وقال: لا حجة لهذا المستدل، لأنه أخبر أن الفجور والتقوى من أفعال العباد، لأن الإلهام هو: التعريف للفجور وللتقوى، فلولا أنها من فعلهم لما كان لتعريفهم معنى لذلك، لأنهم متى عرفوا منفعة التقوى خملوا أنفسهم عليه، ومتى عرفوا مضرة الفجور تجنبوه. والجواب: أن إضافة الفجور والتقوى إلى النفس لا يدل أنها خلق لهم، لأن الله قال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} 2 فأضاف الماء والمرعى إلى الأرض، فلا يدل على أن ذلك من فعلها، بل أضافها إلى النفس لأنها3 محل لخلق الله ذلك فيها4 ولأنهما5 كسب لها6، كما أنه أضاف الماء والمرعى إلى الأرض لأنها محل لخلق الله ذلك7 فيها. وموضع الحجة من الآية لنا أن كثيراَ من أهل التفسير قالوا: ألهمها فجورها وتقواها أي جعل فجورها وتقواها8، واستدلوا على ذلك بما روي عن أبي الأسود الديلي9
أنه قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قد سبق، أو مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضى عليهم فمضى فيهم فقال: فهل يكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، فقلت: كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال: يرحمك الله إني لم أرد بمسألتك إلا لأحرز عقلك، إن رجلاً من مزينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيء قد قضي عليهم ومضى فيهم قال: ففيم العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "من كان خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} "1 وهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتمل غير ما قلناه. وأيضاً فإن ثبت بأن الإلهام المراد به التعريف، فلا يدل على أنهم خلقوا ذلك لأنفسهم بل هو كقول الله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 2 أي الخير والشر3 وكقول الله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 4، أي بينا له ودللناه عليه. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه ما روى ابن عمر5
- رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فرغ الله من مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام وكان عرشه على الماء" 1، وروى عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن نفراً من اليمن قالوا: أتيناك يا رسول الله لنتفقه في الدين ونسألك2 عن أول هذا الأمر كيف كان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولم يكن شيء قبله3 وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض "4.
73- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} 1، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} 2، وقوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} 3، وقال في آية أخرى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} 4. وهذا يدل على أنه لم يساو5 بين المؤمنين والكافرين في ذلك. فأجاب المخالف القدري عن الآية6 فقال: معنى إرسال الشياطين على الكافرين هو تخليته بينهم وبين الكافرين، ولم يحل بينهم كما حال بين الشياطين وبين المؤمنين. والجواب: أن هذا هو الحجة عليه، لأنه أخبر أنه لم يعصم الكافرين منهم وإنما أرسلهم عليهم ومكنهم من غوايتهم بالوسوسة، كما يقال أرسل السلطان عبيده على الناس، إذا لم يمنعهم من مضرتهم، وليس كذلك المؤمنين فإنه عصمهم منهم وأخبر بذلك بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 7 ومعنى الاستثناء: فإن لك عليهم سلطانا على8 من اتبعك من الغاوين، فنسب الاتباع إليهم لأنه كسبهم،
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 1، أي أرسلناهم وسلطانهم عليهم ليضلهم، وأخبر عن ذلك بالمؤمنين2 فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 3. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا4 مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} 5. قال سفيان6 بقضاء الله7، وقال غيره: "إلا بعلم الله"8 {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ9 مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 10 أي بمضلين إلا من سبق في علم الله أنه يصلي الجحيم". قال الحسن، ومحمد بن كعب11، والضحاك، وثعلب: "من قضيت عليه ذلك"12. قال عمر بن عبد العزيز: "لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلما في كتاب الله جهله من جهله وعرفه من
عرفه، قوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين َإِلاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} "1. ثم قال هذا المخالف القدري: وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فالمراد به من يعش عن ذكر الرحمن في الدنيا قيض2 له شيطانا في النار وقرنه، ولهذا قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْن} 3. والجواب: أن في الآية ما يدل على أنه أراد بأنه يقيض له شيطانا أي يسهل له شيطانا في الدنيا يزين له العاصي، والدليل عليه من وجوه: أحدهما: قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} 4 أي سبيل الهدى وهذا لا يمكن حمله على السبيل في النار. والوجه الثاني: قوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} يعني يظنون أنهم على هدى، وهذا لايكون إلا في الدنيا، فأما في النار فقد تيقنوا أنهم لم يكونوا في الدنيا على هدى، وفي هذا دلالة على أن الإنسان قد يفارق الحق ولا يعرف ذلك، وعلى أن المعرفة ليست اضطرارا، ومثل هذا قوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 5. والوجه الثالث: الدال على أن القرين قيض له في الدنيا قوله تعالى:
{حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} قد قرئ بالتثنية في ضمير الفاعلين1 {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} فعبر عن قوله: حشرناهما وبعثناها، بأنهما جاء وهذا كقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} 2، وكقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} 3. فلو كان ابتداء اتخاذ الشيطان إنما كان في النار لما جمع بينهما في المجيء، وأيضاً فإن خَلَقَ الله القرين معه ابتداءاً في النار، فكيف يعذب القرين على غير ذنب كان منه في الدنيا؟ وهذا لا يجيء على أصل القدرية4، ولأنه قال: {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} ومعناه فبئس القرين كنت في الدنيا. والوجه الرابع: مما يدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} 5. فأخبر أنهم كانوا ظالمين في الدنيا، والمعنى ولن ينفعكم إذ ظلمتم الناس بأنكم في العذاب مشتركون، لأنكم مختلفون في العذاب6 لأن المبتلى في الدنيا إذا رأى من ابتلى بمثل بلائه تأسى به وسكن منه بعض ما هو فيه7، قالت الخنساء8: فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكني ... لأعزر النفس عنه بالتأسي1 ثم قال المخالف: وأما قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فقد قيل: هو كالأول وتقدير الكلام وقرنا بهم في النار قرناء فزينوا لهم معصية الله2، وهذا لا حجة فيه لأنه أورد ذلك مورد الذم للكفار وبين استحقاقهم للعقوبة على فعلهم، فلو كانت مخلوقة لله لما ذمهم عليها لوما عاقبهم عليها كما لا يحسن ذلك في ألوانهم. والجواب: أن هذا من الكلام الغث الذي لا فائدة تحته ولا يساوي ما كتب فيه من بياض ومداد، والدليل على فساد قوله أن الله أخبر أن القرناء زينوا لهم: أي أحسنوا لهم العمل بالمعاصي {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم} أي فيما قد علموه وفيما يستقبلونه وزينوا لهم التكذيب بالبعث والنشور3 {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي العذاب لذلك في أمم، فهذا لا يمكن حمله على أنهم زينوا في النار أعمالهم، لأن الله أخبر أنهم أعداء في النار بقوله: {الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاّ الْمُتَّقِينَ} 4 فأخبر أنهم يتكاذبون في النار ويختصمون قال الله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ..} إلى قوله تعالى: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} 5، فبطل أنهم يزينون لهم في النار. وقول المخالف: وقرنا بينهم قرنا6 تفسيراً لقوله: قيضنا، فغير صحيح،
لأن معنى قيضنا: أي سببنا1، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أكرم شاب شيخا قيض الله له من يكرمه عند سنه"2 أي سبب الله له ذلك. وأما قول المخالف: لما كانت المعاصي أفعالهم ذمهم الله عليها وعاقبهم عليها بخلاف ألوانهم، فقد مضى عن ذلك في مواضع كثيرة فلا معنى لإعادته3.
74- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قول الله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ1 عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 2 ومثلها قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 3، ومثلها قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 4، ومثلها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} 5، ومثلها قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} 6. فأجاب المخالف القدري عن هذا وقال: لا حجة بهذا لأنه خبر عن قوم مخصوصين من الفساق والكفار علم أنهم7 لا يؤمنون، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بهم وليس ذلك يكون في كل فاسق8 وكافر9، لأن كثيرا منهم آمنوا وتابوا وكذلك قوله تعالى: {لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ} صحيح ولكن لا يدخل النار أحد إلا بعلمله، وهذا يدل على بطلان مذهب المستدل أن أفعال العباد مخلوقة لله إذ لو كانت مخلوقة لله لم يذمهم عليها ولا عاقبهم عليها. والجواب أن يقال لهذا المخالف: لا ننكر أن هذا خبر من الله عن قوم مخصوصين أنهم لا يؤمنون وأنه لم يرد به جميع المكلفين، وإنما الحجة لنا من هذه الآيات أن من لم يؤمن منهم إنما لم يؤمن بقضاء من الله سابق فيه
وكتاب ثابت بأنه لا يؤمن لأنه قال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} معناه لقد وجب القول على أكثرهم بالعذاب فهم لا يؤمنون، فأخبر سبحانه أن الذين وجبت عليهم الكلمة بأن لا يؤمنوا لا يؤمنون {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} يعني يوم القيامة، فإنه لا يمكنهم التكذيب. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه ما روي في الصحاح عن مسلم بن يسار1 أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 2 ف قال عمر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: "إن الله خلق آدم عليه السلام فمسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقام رجل فقال يا رسول الله: ففيم العمل؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل أهل النار فيدخل النار"3.
وروي أن عمر - رضي الله عنه - قال يا رسول الله: العمل في شيء نأتنفه أو في شيء قد فرغ منه، فقال: "بل في شيء قد فرغ منه"، فقال: ففيم العمل؟، قال: "يا عمر لا يدرك ذلك إلا بالعمل"، قال: إذاً نجتهد"1. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله الخلق في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل "، قال عبد الله بن عمرو: فلذلك أقول جف القلم بما هو كائن2. وهذه الأخبار في الصحاح3 مروية عن الثقات وهي موافقة لهذه الآيات التي ذكرها، وأما قول المخالف: إنهم لم يدخلوا النار إلا بعملهم فقد مضى الجواب عنه في مواضعه فلا معنى لإعادته4.
75- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنّ…} 1 الآية، فمن ذرأه الله لجهنم فهل ذلك إلا لأن الله أراد كفره ولم يرد إيمانه. فأجاب المخالف القدري عن هذا وقال: لا حجة لهذا المستدل، لأن الله أورد الاية مورد الذم لهم ولم يستحقوا الذم إلا بأعمالهم، وقد اختلف في معنى الآية فمن الناس من قال معنى قوله: {ذَرَأْنَا} أي ميزنا لجهنم، ومنه سميت الرياح الذاريات من حيث كانت تفصل بين كثير من الأشياء، وإنما ميزهم بعد أفعالهم بأسمائهم وأحكامهم، ومنهم من قال: بل المراد بالذري هو خلقهم بالآخرة بعد الموت، ولا شك أنه يخلق في ذلك الوقت خلقاً للنار، ولكنه قد أعلمنا أنه لا يبعث من الخلق إلى النار إلا من مات مصرا على الكفر، يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} الآية وقد علمنا أنهم لم يكونوا في الدنيا هكذا فيجري مجرى قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً…} 2 الآية، ومنهم من قال: بل المراد خلقهم في الدنيا إلا أن هذه اللام هي لام العاقبة، ومعناها أنه خلق الخلق للعبادة، إلا أنه علم أن عاقبة كثير منهم تصير إلى النار لكفرهم فصار كأنه ما خلقهم إلا لها كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 3، ومتى حملت هذه الآية على أحد هذه الأوجه وافقت قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} 4. والجواب أن يقال لهذا المخالف: الآية وردت بلفظ الخبر وخبره لا يكون
بخلاف مخبره وهي كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر} 1. وقوله: إنهم لا يستحقون الذم إلا بأعمالهم إن سلمنا أن فيها ذماً فلا ننكر أنهم لايستحقون الذم ولا العقاب ولا الثواب إلا بأعمالهم، وأعمالهم خلق الله وكسب لهم لقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2، وقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3، وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} 4. وقد مضى بيان الفرق بين الخلق والكسب ولكن لا يعقله إلا من جعل الله له نورا في قلبه5. وأما قول المخالف: إن من الناس من قال معنى قوله: {ذَرَأْنَا} أي ميزنا لجهنم ومنه سميت الرياح الذاريات، لأنها تفصل بين كثير من الأشياء، فغير صحيح ولا قال أحد من أهل اللغة ولا من أهل التفسير أن (ذَرَأْنَا) معناه: ميزنا، واستدلاله على ذلك بالذاريات يدل على قلة علمه بالعربية، لأن الذاريات من قولهم ذرت تذروا بغير همز ذروا فهي ذارية، والذاريات جمع ذارية وهي المفرقة للتراب6، وليس كذلك ذرا فإنه مهموز يقال ذرأ يذرأ ذرءاً7 فهو ذارئ، والمراد به خلقنا8 ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي
ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ} 1 أي خلقكم في الأرض {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي بعد الموت ومثلها قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيه} 2 أي يخلقكم في أرحام الأزواج3، وقيل يكثركم بالتزويج4، وفي الحديث عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "إني أظنكم آل المغيرة ذرأ النار"5 أي خلقها، فهذا يبطل تأويله الأول. وأما الدليل على إبطال تأويله الثاني وأنه أراد خلقناهم بعد الموت فمن وجوه: أحدها: أنه أخبر قبل هذا6 بقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، ثم قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرا} الآية. فأخبر سبحانه أن من يهديه فهو المهتدي، والمراد به من يوفقه ويسدده للإيمان به وطاعته فهو المهتدي لذلكن ولا يجوز حمله على الثواب، لأن الثواب لا يسمى هدى على ما مضى7 ولو جاز أن يسمى الثواب هدى لم يقل هاهنا {فَهُوَ الْمُهْتَدِي} ، وإنما كان يقول فهو المُهدي8، فلما قال المهتدي نسب
الاهتداء إلى المَهدي1 ثم قال: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وأراد بالإضلال هاهنا ضد الهداية وهو الإضلال عن الدين ثم قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} فأخبر أن الذين أضلهم في الدنيا عن الدين هم الذين ذرأهم لجهنم، فيحمل كل خبر على فائدة متجددة ولو حملناه على صنعه بهم2 في الآخرة لكان الخبران خبراً3 عن شيء واحد. والوجه الثاني: مما يدل على أنه أراد بالذرء هو خلقهم في الدنيا أنه قال: {كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} وكثيراً لفظه لفظة النكرة يدل على أنه لا يعود على نكرة متقدمة4 فلو كان المراد به الذين ماتوا مصرين على الكفر لأخبر عنهم بلفظ المعرفة كقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} 5. والوجه الثالث: أنه وصفهم بأنهم ليس لهم قلوب يفقهون بها، بل ختم على قلوبهم عن الهدى وعلى أسماعهم فلا تسمع آذانهم الإيمان، وعلى أبصارهم، فقال: {إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأنْعَامِ} ، لأن الأنعام ليس لها همة غير الأكل والشرب، بل هم أضل من الأنعام، لأن الأنعام تبصر مضارها ومنافعها وهم لا يعلمون، وهذه الصفات لا تصلح إلا لمن هو6 من أهل الدنيا، فأما أهل النار فلا تضرب الأنعام مثلا لهم لأنها ليست دار7
تكليف ولا ينفع فيها الاهتداء بالعقل1 والسمع والبصر. والوجه الرابع: أنه قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} أي ولا يوصف بالغفلة إلا أهل الدنيا الذين غفلوا عن الاعتبار بما يدلهم من خلق الله على معرفته. وأما قول المخالف: بأنهم لم يكونوا في الدنيا ليس لهم قلوب ولا سمع ولا بصر، فالجواب أنه أراد أنهم لمالم ينتفعوا بالاعتبار بقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم صاروا كمن لا قلب له ولا سمع ولا بصر كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 2، فوصفهم الله بوصف من في القبور حيث لم ينتفعوا بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وقال سبحانه: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} 3، فسماهم الله موتى وصما حين لم ينتفعوا بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكونوا كذلك وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم (تسمع) ولم يرد نفي أسماعهم في آذانهم، لأنهم قد سمعوا ذلك بآذانهم ضرورة، وإنما أراد بغض إسماع النبي صلى الله عليه وسلم لهم4 الهداية لهم5 بما أسمعهم بدليل قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} 6. وأما استدلال المخالف بقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً..} الآية، فلا ننكر أن الله يحشرهم عمياً وبكماً وصماً يوم القيامة مجازاة منه على عماهم وصممهم في الدنيا عن الدين. وأما تأويل المخالف الثالث بقوله: إن الله خلقهم في الدنيا للعبادة إلا أن
هذه اللام لام العقبة، لأنه علم أن كثيراً منهم يصير إلى جهنم فصار كأنه ما خلقهم إلا لها. والجواب: أن هذا تناقض لا يخفى على عاقل فساده، وذلك أن العبادة ثوابها، كما أن الكفر جزاؤه جهنم لو قلنا إنه خلقهم للعبادة لكان تقدير الكلام (ولقد ذرأنا للعبادة والجنة كثيراً منهم، فصار عاقبتهم إلى جهنم) وهذا يخرج من التأويل إلى التبديل الذي قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 1 ويدل على فساد هذا أنه قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ} ، ليدل أنه لم يذرأ لذلك جميع المكلفين بل هو كقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} . وعند القدرية: أن الله خلق جميع المكلفين للعبادة، وكان ينبغي على هذا أن يقال (ولقد ذرأناهم) فصار2 لجهنم كثيراً من الجن والإنس وهذه اللام تسمى لام الاختصاص، كقولهم الباب للدار3، وكقول الله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ4 أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} 5. وإن وافقنا أنها لام العاقبة فالمراد أن الله خلقهم للدنيا وليأمرهم بعبادته وقضى وعلم أن عاقبتهم ومآلهم إلى جهنم، كما قال: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} 6 أي أعصر ما يؤول خمراً لا في حال عصره، كذلك هذا، فصار كقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} 7. وأما استدلاله بقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 8
فقال الفراء: "هذه لام كي وقعت مكان التمليك. والمعنى ليكون لهم عدواً وحزنا في علم الله لا في علمهم"1. وكذلك اللام في قول الشاعر: ..............................: ... فللموت ما تلد الوالدة2 أي للموت في علم الله لا في علمها ... ويدل على صحة ما ذكرناه من التأويل ما روى أبو صالح3 عن ابن عباس – رضي الله عنهما - قال: "الخلق أربعة، خلق للجنة لا يدخل النار منهم أحد وهم الملائكة، وخلق للنار لا يدخل الجنة منهم أحد وهم الشياطين، وخلقان بعضهم إلى الجنة وبعضهم للنار وهم الجن والإنس"4. وروي في الصحاح عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: "أتدرون ما هذان5 الكتابان؟ "، فقلنا: لا، يا رسول الله إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم
أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً"، ثم قال للذي في شماله: "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص أبداً"، فقال الصحابة: ففيم العمل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان أمر قد فرغ منه؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال: فرغ ربك من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير"1. وروى أنس – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل وكيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت"2. وفي هذا من الأخبار المذكورة ما يضيق هذا المختصر عن ذكرها. وأما استدلال هذا المخالف بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} 3. فالجواب عن هذا من وجوه: إحداها: وهو المروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما - أنه قال: معناها إلا ليقروا له بالعبودية طوعاً وكرهاً4 مضاهاة لقوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً} 1 ولقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} 2، وهذا كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3. والوجه الثاني: أن المراد بقوله تعالى: {إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} أي إلا لآمرهم بالطاعة والعبادة وأنهاهم عن الكفر والمعاصي4. والثالث: أن لفظه لفظ العموم والمراد به الخصوص وأراد بذلك الذين هداهم ووفقهم لطاعته وعبادته، يدل على هذا شيئان: أحدهما: أن فيهم الأطفال والمجانين ومن خرج من عموم الآية. والثاني: أنه قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} فأخبر بهذه الآية أنه خلق كثيراً منهم لجهنم، ومن خلقه الله لجهنم لم يخلقه للعبادة5، والقرآن لا يتناقض بل يؤيد بعضه بعضاً قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 6، ولا ينتفي عنه الاختلاف إلا إذا حملت الآيتان على ما ذكرنا.
76- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا قول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} 1 وكذلك قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} 2 وكذلك قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 3. فأمر الله الخلق أن يسألوه بأن لا يزيغ قلوبهم، ولا يجعل في قلوبهم غلاً للذين آمنوا، وأن يهديهم إلى الصراط المستقيم، ولا يجوز أن يسأل العبد من الله إلا ما يجوز وقوع ضده منه، كما أمرهم أن يسألوه المغفرة والرحمة والرزق لأنه يجوز وقوع ضد ذلك منه. ألا ترى أنه لم يأمرهم بأن يسألوا بأن لا يظلمهم لأنه لا يجوز وقوع ضده منه4. فأجاب المخالف القدري عن ذلك وقال: لا حجة له بهذا، لأنه ليس فيما ذكر ما يقتضي نسبة شيء من هذه القبائح إلى الله، فكأنه يستدل بالشيء على عكس ما يدل عليه وهو غير صحيح. والجواب أن يقال لهذا المخالف: قد قدمنا أن كون تسمية المعاصي معاصي وقبائح وخبائث من العباد لكونهم مكتسبين لها لا يجب تسميتها بهذه الأسماء في حق الله لكونه خالقاً لها، ألا ترى أنه تعالى قال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 5. والخبائث هاهنا كلُّ ما حرم أكله كالميتة والدم والكلب والخنزير، وهذه الأشياء خلقها الله، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الكلب خبيثاً، وسمى ثمنه خبيثاً6.
فعلم أن هذه الأسامي1 إنما تنصرف إليها بحق العباد لا في حق الله، وقد أخبر الله عن يوسف عليه السلام أنه قال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْه} 2، وسجن يوسف عليه السلام سفه منهم وليس بسفه منه، وإن أحبه وأراد، وأخبر الله عن ابني3 آدم أنه قال لأخيه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 4، فأراد من أخيه قتله ليكون القاتل له من أصحاب النار، ومعلوم أن قتله سفاهة من القاتل. ولا يقال إن المقتول سفيه لكونه مريداً لقتل نفسه، فثبت بذلك كله أنه ليس كل من أراد الظلم والسفه من غيره يسمى ظالماً وسفيهاً، يؤيد ذلك أن الله يوصف بأنه يريد الطاعة من العباد، ولا يوصف لذلك بأنه مطيع، ويوصف بأنه يخلق الموت في غيره، ولا يوصف بأنه ميت، فلم5 يمتنع لذلك أن6 بإرادته المعصية من غيره وبخلقه لأفعال المعصية من العباد والظلم منهم والسفه لا يسمى ظالماً ولا سفيهاً. وأما قول المخالف: ليس في استدلالنا بقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} وما أشبهها من الآيات ما يدل على وجود ضد ذلك من الله، غير صحيح، لأن الزيغ في القلوب وصرفها7 وإمالتها عن الهدى منه8، وقد أخبر الله بذلك عن فعله بمن لم يؤمن بقوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي
الأرْضِ} 1 ومعناه سأمنع قلوبهم وأدفعها عن العلم والتفكر في آياتي. وقوله: {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ} أي الذين يرون أنهم أفضل الخلق، وأن لهم ما ليس2 لغيرهم وهذه الصفة لا تكون إلا الله، إلى قوله {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} ومثلها قوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} 3، فأخبر الله سبحانه أنه صرف قلوبهم عن فهم القرآن فلم يفقهوه لذلك، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 4، فنسب الزيغ5 الأول إليهم لكونه كسباً لهم ووقوعه بمشيئتهم، ومشيئتهم متعلقة بمشيئة الله لقوله تعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 6، ونسب الزيغ الثاني إلى نفسه ونسبه إليه لكونه خالقاً له، والزيغ الواحد لا يجوز أن يكون بعضه خلقاً لهم وبعضه خلقاً لله، لأنهم لا يقدرون على تمييز ما خلقوا7 من الزيغ عما خلقه الله فيهم منه. وأما قول المخالف: إن هذا الاستدلال بالعكس وهو غير صحيح، جهل منه بوجوه الاستدلال، والاستدلال8 من محاسن الشرع قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 9، وهذا الاستدلال بالعكس لأنه أخبر أن عدم وجود الاختلاف فيه دليل على صحة أنه من الله، وكذلك قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 10 فعدم الفساد فيهما يدل على أن المدبر لهما واحد.
ثم قال المخالف: وأما قول1 المستدل إنه لا يسأل من الله إلا ما يجوز وقوع ضده منه، فليس الأمر كذلك، لأن الله تعالى قال: {قَالَ2 رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} 3، فأمر نبيه أن يسأله أن يحكم بالحق وإن كان ضده الحكم بالباطل. والجواب أن يقال: إن الله أمره أن يسأله تعجيل النصفة منه4 بما كذبوه فقال {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَق} أي عجل حكمك بالحق ولا تؤخره، لأن لله أن يقدم ذلك وله أن يؤخره، فقتلوا يوم بدر ويوم الأحزاب ويوم أحد، ولم يسأله وهو شاك أنه يحكم بغير الحق، وإنما أمره الله أن يسأله بتعجيل ذلك منهم5، كما أخبر عن نوح {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} 6 وقد أخبر الله عن نوح أنه قال: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاّ ضَلالاً} 7، والزيادة في الضلال عن الدين، فدل على أنه يجوز وقوع ذلك من الله.
77- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا أن يقال لهم: أمر الله إبليس بالسجود لأدم وأمر الكفار بالإيمان، أكان يعلم أنه يكون1 منهم ما أمرهم به، أم كان عالماً بأنه لا يكون منهم ذلك مع إرادته لذلك منهم، فإن قالوا: كان غير عالم بأنه لا يكون منهم ذلك نسبوه إلى الجهل، وقد قال بذلك فرقة من القدرية2 وقد أكذبهم الله بقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر..} 3 الآية، وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 4، وإن قالوا: بل كان عالماً بأنهم لا يفعلون ما أمروا به، قلنا لهم: فإرادته لوقوع ما يعلم أنه لا يكون تقع موقع تمني الحمقى كمن5 يقول: ليت الله يجعلني نبياً وما أشبه ذلك. فأجاب القدري عن ذلك وقال: هذا يدل على فقد المستدل للتمييز بين الإرادة والتمني، فإن الإرادة من المعاني التي تخص بالقلوب في حق العباد، وليست من جنس الكلام، والتمني جنس من الكلام وهو قول القائل: ليت لي كذا وكذا، فكيف تكون إرادة ما لا يكون تمنياً، وعلمنا بأنه أمرهم بذلك إرادة منه لوقوع ما أمرهم به على ما مضى. والجواب: أن يقال لهذا المخالف: هذه مغالطة لا يخفى فسادها على من له أدنى بصيرة، نحن قلنا: لو كان هذا6 لوقع موقع التمني من الحمقى والتمني مستحيل وقوعه من الله سبحانه. وأما قول المخالف: التمني بالقول وهو قول القائل: ليت لي كذا وكذا،
فلا ننكر أن هذا من التمني، والتمني يقع على هذا ويقع في اللغة على التلاوة1، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ} 2، ويقع التمني على ما يتمناه الإنسان في نفسه ولا يتكلم به، ومنه يقال: تمنى فلان بنفسه أن يكون له كذا وكذا. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي يوماً بمكة فتمنى بنفسه شيئاً من الدنيا، وكان يقرأ سورة النجم {أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى} 3، فألقى الشيطان على لسانه، فإنهن عند الله لمن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن4 لترتجى، والغرانيق الملائكة5. فوقعت هاتان الكلمتان في آذان المشركين واستبشروا وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى دين قومه، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم آخر السورة سجد وسجد معه كل كافر ومسلم إلا الوليد بن المغيرة فإنه كان شيخاً كبيراً فرفع ملء كفه تراباً وسجد عليه، ففشا ذلك في الناس وأظهرهما6 الشيطان حتى بلغتا7 إلى أرض الحبشة، فلما سمع عثمان بن مظعون وعبد الله بن مسعود ومن كان معهما هنالك من الصحابة أقبلوا سراعاً، وعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى جبريل فشكى إليه، فقرأ عليه النجم فلما قرأ هاتين الكلمتين قال جبريل: معاذ الله أما هاتين ما أنزلهما ربي ولا أمرني بهما ربك، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أطعت الشيطان وشركني في أمر الله، فأنزل الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} 1.
وهذا يدل على1 أن لفظة التمني مشتركة، وإنما يتبرأ جبريل من ذلك ونسبها إلى الشيطان دون الله لأن الله ما أمره بذلك ولا أنزله جبريل عليه وإن كان الله قد خلقه على لسان الشيطان. ويقع التمني على السؤال أيضاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا2 تمنى أحدكم فليكثر فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته "3، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنى أحدكم الموت لضيق نزل به فإن كان لا بد متمنياً فليقل اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي"4. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء يسمى تمنياً، فعلم بذلك جهل هذا المعترض لانصراف لغة التمني إلى معان، فتصور ذلك في مسألتنا إذا أراد الله وقوع أمر يعلم أنه لا يكون وقوعه ألبتة صار من يقول اللهم اجعلني نبياً. وأما قول المخالف: إذا أمر الله بأمر علم أنه أراد وقوعه فغير صحيح،
لأنا قد بينا أنه أمر بما لم يرد وقوعه وهو ذبح إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولده وغير ذلك1 فأغنى عن الإعادة.
78- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً} 1، وهذه صيغة الأمر، وليس بأمر إيجاب ولا إباحة ولا ندب، بل هو تسليط (من الله لإبليس على الكفار) 2 كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} 3، ويدل4 على أنه تسليط من الله لإبليس على الكافرين والعصاة قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} 5 فمعنى قوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي استخف من استطعت منهم بدعائك، ويقال: بالغناء والمزامير6 {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِك} يعني اجمع عليهم بخيل المشركين، ويقال لكل راكب يسير في معصية الله أجلب. وقوله: {وَرَجِلِكَ} يعني كل راجل يمشي في معصية من الجن والإنس، {وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ} كل مال حرام، {وَالأوْلاد} كل ولد غير حل. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "وهم المخنثون وأولاد الزنا"7، {وَعِدْهُمْ} ومنِّهم الغرور أن لا بعث. فأجاب المخالف القدري: إن هذا ليس بتسليط وإنما هو تهديد، هذا نكتة قوله ومعتمده.
والجواب عنه من وجوه: لأحدها: أن النقاش1 قال: ليس بتهديد ولا أمر وإنما هو ذكر ما يفعله الشيطان مما لا يضر في الملك كقول القائل لمن قدر عليه: كدني بما قدرت. والوجه الثاني: مما يدل على أنه ليس بتهديد أن التهديد الذي هو بصيغة الأمر هو ما يتبعه الوعيد من الله تعالى كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2، وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} 3 الآية. والثالث: أنه قال بعدها {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} 4 وهذا صيغته صيغة الخبر، والمراد به منع إبليس من عبادة الصالحين عن أن يستفزهم بصوته، أو يجلب عليهم بخيله ورجله ويشاركهم في الأموال والأولاد، فدل على أنه لم ينفعه من ذلك5 غير عباده الصالحين، بل أرسله عليهم ولم يعصمهم منه فيكون كقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} .
79- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} 1. فأجاب المخالف القدري وقال: المراد بالشر ههنا ما يصيبهم من مصائب الدنيا كالمرض والموت وذهاب الأموال والأولاد. والمراد بالخير ما ينالهم من نعم الدنيا، كالخصب وسعة المال وكثرة الأموال والأولاد يدل عليه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ، والمراد بالفتنة الامتحان. والجواب: أن الشر اسم جنس يعم جميع الشر في الأعمال وغيرها، والخير اسم جنس يعم جميع الخير في الأعمال وغيرها، ويؤيد هذا قوله تعالى: {الَّذِي2 خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 3. وجواب آخر وهو أن يقال للقدرية: عندكم أن الله لا يفعل بالعبد إلا ما فيه صلاح له4، فإذا ثبت أنه ابتلاهم أي اختبرهم في الشر من المرض والمصائب في النفس والولد لينظر صبرهم، ويبتليهم بالخير بالنعم والخصب لينظر شكرهم فأي مصلحة لهم في تعريضهم بأن لا يصبروا أو لا يشكروا فيستوجبوا منه العقوبة، فعلم أن الأمر بخلاف ما ذكرتم وأن الله يفعل بعباده ما شاء سواء كان لهم فيه مصلحة أو مضرة5 ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
80- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 1 فأمر الله نبيه بالاستعاذة من الشر فدل على أنه مخلوق. فأجاب المخالف القدري: بأنه لا حجة بهذا لأنه لم يضف الشر إلى خلقه، وإنما أضافه إلى مخلوق ونحن نقول: إن هذه2 الشرور صادرة من المخلوقات. والجواب: أن الحجة لنا من الآية من وجهين: أحدها: أن ما لما لا يعقل، وما لا يعقل لا يتأتى منه الفعل بالشر ولا بالخير، فإذا أضيف الشر إليه وأخبر لله دل على أن الله خلقه، وما ينسب إليه من الشر يؤيده قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} 3. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي وأشار إلى القمر، وقال: " تعوذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب" 4، تأويله أن شر القمر المتعوذ منه ما لحق قوماً من الكفر من أجله، فنسب الشر إليه اتساعاً وتجوزاً في الكلام. والوجه الثاني: أنه لما فسر نبيه صلى الله عليه وسلم ن يتعوذ به من شر ما خلق دل على أنه الخالق لما يتعوذ به عنه كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 5 والله الخالق المتعوذ منه، فكذلك هذا مثله.
وروى الآجري عن يوسف بن سهل الواسطي1 أنه قال: حججت فسمعت رجلاً يقول في تلبيته "لبيك لبيك والشر ليس إليك"، فدخلت مكة فلقيت سفيان فأخبرته بالذي سمعت فما زادني على أن قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 2.
81- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة على أن، العباد غير ممكنين ولا مخيرين في أفعالهم1 لا كما قالت2 القدرية3 قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} 4.
ومثلهما قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 1.
قلنا: من الآية الأولى دليلان: أحدهما: أن الله أخبر أنه يخلق ما يشاء1 ومثلها قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء} 2، والمشيئة والإرادة معنى واحد3، وقد وافقت القدرية على أن الله أراد الطاعة من العباد، وقد أطاعه بعضهم، فيجب على هذا أن يكون الله هو الذي خلق أفعالهم في الطاعة، فإذا سلموا ذلك في أعمال الطاعة لزمهم ذلك في أفعالهم في المعصية لأن أحداً لم يفرق بينهما. والدليل الثاني: منها ومن الآية بعدها، أنه أثبت الخيرة لنفسه ونفاها عن العباد. فأجاب القدري المخالف عن هذا وقال: يحتمل أن يكون المراد أن الله متى اختار خلق الإنسان على صورة الذكور أو الإناث أو السواد أو البياض لم يكن الإنسان اختيار شيء في خلقه سوى ذلك.
والجواب عن ذلك من وجوه: أحدها: أن هذا الخبر عام فيما ذكر وفي غيره من أمرهم فلا يجوز حمله على البعض من غير دليل. والثاني: أنه قال: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} وهذا ضمير المعرفة1 يقع على الخلق في وجودهم على صفة يصلحون للاختيار وحال خلقهم للذكور والإناث والسواد والبياض لا يصلح منهم اختيار ولا يصلحون للاختيار2 عنها3. والثالث: أنه قال: {مِنْ أَمْرِهِمْ} وحقيقة الأمر هو: استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه، وأضاف الأمر إليهم لأنهم المأمورون به وأراد به4 المأمور به، وكيفية صورهم لا تسمى أمراً حقيقة فلم يصح حمله عليه5. استدل المخالف على أنهم ممكنون بقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ..} 6 الآية، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً..} 7 الآية.
والجواب: أنه لم يرد في الآيتين التمكن في الأفعال، بل أراد استخلفناكم بعد الماضيين بدليل قوله تعالى في الآية الأولى: {فِي الأرْضِ} ، وقال في الآية الأخرى1 {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} أي فيما مكناهم فيه من الأموال و - أن - هاهنا زائدة2 ولو أراد به الأعمال لم يمكن أن تكون الأعمال التي مكن بها الأولين هي الأعمال التي مكن بها من بعدهم، لأن أعمالهم أعراض فيهم لا تقوم بغيرها، وإنما يمكن استعمالها في الأفعال بإضمار (مثل أعمالهم) . ومتى أمكن حمل الكلام على الحقيقة من غير إضمار لم يحمل على ما لا يستقيم إلا بإضمار.
82- فصل خلق الله للعباد جائز غير واجب عليه، ولو لم يخلقهم أصلاً لم يظلمهم، وبعد أن خلقهم فبعثه الرسل إليهم أمر جائز منه ليس بواجب عليه، ولو لم يبعث إليهم رسلاً لم يظلمهم بذلك، وتكليفهم التكاليف أمر جائز منه ولو لم يكلفهم لم يظلمهم، والثواب على الطاعة أمر جائز غير واجب، ولو لم يثب المطيعين وأثاب العاصين لم يكن بذلك ظالماً1.
وقالت المعتزلة: خلق الله للعباد وبعثه الرسل وتكليفه لهم أمر واجب لما فيه من المصلحة، ويجب عليه أن يثيبهم على الطاعة1.
وقول من قال هذا يشهد على قائله بالشناعة، لأن الواجب إنما يكون واجباً بالأمر والنهي من الأعلى لمن هو دونه وليس فوق الله آمر ولا ناه. إذا تقرر هذا وأن1 الله سبحانه متفضل على العباد بالخلق وبعثة الرسل والتكليف قد تفضل عليهم ولم يكلفهم من الأعمال إلا وسعهم وما لا يثقل عليهم لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} 2، وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ مَا آتَاهَا} 3، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} 4، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} 5،
وللمتفضل أن يترك التفضل بما تفضل به، فلو كلف الله العباد بما يثقل عليهم من العبادات وما لا طاقة لهم به كان ذلك جائزاً منه1 ولا يكون ظالماً لهم، وكذلك لو لم يثبهم على عمل الطاعة لم يكن ظالماً لهم، ولو أثاب من عصاه وأدخله الجنة لم يخرج بذلك عن الحكمة2، ولكنه سبحانه قد أخبر أنه ثيب المطيعين بفضل منه ويعذب الجاحدين بعدل منه، فاستحقاقه للحكمة، لذاته لا لفعله الحكمة3، إذ هو موصوف بالحكة قبل أن يفعل الحكمة، وقبل أن يخلق الواصفين له بها، وثبت له أن يتصرف بالعباد كيف شاء لأنهم ملكه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وقالت المعتزلة والقدرية: لا يجوز من الله في الحكمة إلا ما يجوز من الحكيم مِنَّا، ولا يجوز أن يوصف الله بتكليف العبد ما لا يطيقه، وقد خلق الله المكلفين تعريضاً للمنافع لهم ليصيروا إلى أسنى المنازل، ولا يفعل بهم إلا ما فيه لهم المصلحة، وإن فعل بهم غير ذلك فقد ظلمهم4.
مفقودة
مفقودة
ودليلنا على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُم} 1،وقوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} 2، فأمر الله الخلق أن يسألوه بأن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به، يدل3 على أن له أن يحملهم ما لا طاقة لهم به. فأجاب المخالف القدري عن الآية الأولى وقال: لا حجة لهذا المستدل فيها، لأنه أخبر أنه ما أعنت أحداً، لأن من كان قاعداً في المسجد لا يجوز أن يقول4 لو شئت الآن لقعدت في المسجد، وعند المستدل أن الله قد خلق الكفر في أكثر الخلق وهو يسوقهم إلى النار وهو من أعظم العنت. والجواب أن يقال لهذا المجيب: هرفت قبل أن عرفت5 فقلت: أخبر الله أنه ما أعنت أحداً، وهكذا قلنا إنه ما أعنت العباد فيما شرع من الشرائع، وإنما أخبر أنه لو شاء لأعنت جميعهم، أي لو شاء لكلفهم ما يشق عليهم أداؤه لأن العنت المشقة يقال: عنت الفرس، يعنت عنتاً إذا حدث في قوائمه داء لأن العنت المشقة يقال: عنت الفرس يعنت عنتاً إذا حدث في قوائمه داء لا يمكنه الجري معه، وأكمة عنوت شاقة المصعد، وفلان يعنت فلاناً إذا شدد عليه وألزمه المشقة6. وأما قول المخالف: إذا7 قلنا إن الله قد خلق الكفر في الكافرين فقد أعنتهم.
فالجواب أنا نقول له: إن أرادت أنا قلنا: إن الله خلق فيهم الكفر وألزمهم إياه إلزاماً لا محيص لهم عنه، فقد أعنتهم بذلك، فإنا لا نقول ذلك لأنه لم يجبرهم على ذلك، بل نقول وقع الكفر منهم باكتساب منهم وخلق الله ذلك فيهم ولم يعصمهم من الشيطان ولا خل فيهم اللطف الذي خلقه في المؤمنين. وإن أردت أنا قلنا: إن الله أراد عنتهم وهلاكهم في الآخرة بما خلق فيهم من الكفر بكسبهم له فكذا نقول: لأن التوفيق والثواب إفضال منه وإنعام وله ترك الإفضال والإنعام. ثم قال المخالف: وأما استدلاله بأنه أمر الخلق بأن يسالوه ألا1 يحملهم ما لا طاقة لهم به، فلا حجة لهم بذلك لأنه يجوز أن يأمر أن يسأله2 ما يعلم انه لا يفعل خلافه، وهو قوله {رَبِّ 3 احْكُمْ بِالْحَقّ} 4. والجواب: أنا قد بينا أن المراد بهذه الآية أنه أمره أن يسأله تعجيل النصر له عليهم بالحق الذي وعده إياه في الدنيا، ولم يسأله وهو شاك في أنه يحكم بغير الحق وهو الباطل5،6.
استدل المخالف على أنه لايجوز أن يفعل الله بعباده إلا ما فيه المصلحة لهم، لأنه قد ثبت عند كل عاقل أن المالك منا ليس له أن يتصرف في ملكه إلا على الوجه الحسن دون القبيح. ألا ترى أن أحداً لو بنى داراً فلما تمت
عمارتها أمر بإحراقها1 بغير علة موجبة ولا غرض صحيح فإن العقلاء يلومونه، ولو اعتذر إليهم أن ذلك ملكي لم يعذروه ولعد2 ذنباً آخر يستوجب عليه الملامة، وكذلك لو أخذ ماله فألقاه في البحر لغير مصلحة يجتلبها ولا مضرة يدفعها، فإن العقلاء يلومونه ولا يقبلون عذره (بأنه ملكي) ، فإذا لم يكن للمالك في الشاهد أن يتصرف فيما ملكه كيف شاء إلا بشرط أن يكون هناك غرض صحيح ثبت أن تعليلهم3 بالملك تعليل باطل. والجواب أن يقال لهذا المخالف: جمعت بين حكم ملك الله وبين حكم ملك العباد من غير علة تقتضي الجمع بينهما، وهذا لا يصح، ثم يقال له: الله مالك العباد ولجميع ما خلق من غير مُمَلِّك ملكه إياه، فله أن يتصرف به كيف شاء. والعقلاء مملوكون له وليس للمملوك أن يعترض على مالكه بما صنع، وليس كذلك العباد فإن ملكهم صدر عن مالك لهم مَلَّكَهم أموالهم، وحدّ لهم فيها حدوداً ورسم عليهم فيها رسوماً فإذا فعلوا فيها غير ما أذن لهم فيها مُمَلِّكهم لحقهم الذم والتوبيخ والتعنيف، والحسن والقبح يتصور في أفعالهم لأن لهم محسناً حسنها وهو ما أذن لهم فيه، ومقبحاً قبحها لهم وهو لم يؤذن لهم فيه4 فبان الفرق بينهما. وأيضاً فإن المالك منا به حاجة إلى ما يملكه لاستقامة جسمه وقوام أمره فلذلك لحقه اللوم والتعنيف إذا عمل فيه ما لا مصلحة له، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال5.
والله سبحانه لا حاجة به1 إلى ما ملك من العباد وأموالهم، فبطل أن يجريا في التصرف مجرى واحداً. ويقال لهذا المخالف: أجريت الحكم من الله والحكمة من الحكيم منا مجرى واحداً، وجمعت بينهما في الحكم من غير علة تقتضي الجمع بينهما، وهذا لا يصح وهذا دأب القدرية في أصولهم الفاسدة، لأنهم شبهوا أفعال المخلوقين وأقوالهم بالله بكونهما غير مخلوقين، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وهذا يقتضي أنه لا يشبهه شيء بذاته ولا بصفاته، ثم يقال له: حكمة الحكيم منا تقع2 عن تجربة وعن مشاورة وعن تعلم، ولا يسمى حكيماً إلا بعد أن وجدت منه الحكمة، والله سبحانه حكيم لذاته لا عن تجربة ولا عن مشاورة، بل هو موصوف بالحكمة قبل وجود الحكمة منه، وقبل وجود الواصف له بالحكمة. وأما استدلال المخالف: بمن بنى داراً ثم أمر بإحراقها. فنقول له: لو كان هذا الوصف جارياً على حكم الله لما حسن منه أن يخلق ابن آدم وصوره بأحسن من تصوير البناء في الدار، حتى إذا استكمل بنيانه خرب بناءه فيه وأماته، وقد يخلق الله ابن آدم في بطن أمه، فقبل أن يكمل خلقه يخرجه من بطن أمه، وقد يخرجه من بطن أمه كامل الخلق ميتاً، وقد يحييه المدة القريبة ثم يميته3، والحكيم منا لو ابتدأ بناء دار فعمر
شيئاً منها ثم خربه لغير غرض1 للحقه الذم. فإن قال المخالف: إنما وقع ذلك من الله تعالى لعلة ومصلحة علمها. قلنا: هذا لا يصح أن العلل والأغراض إنما تتصور في أفعال العباد، لأن منتهى العلل في مصالح أفعالهم موافقة إذن المُمَلِّك لهم وهو الله، وهذا لا يوجد في أفعال الله2، ولو كان فعل الله الشيء لعلة لا قتضى وجود تلك العلة علة أخرى إلى ما يتسلل، فبطل أن أفعال الله لعلة مقتضية وجود الفعل منه3.
ويقال1 للقدرية: أليس الحكيم منا لو جمع بين عبيده وجواريه في دار وبيت، وعلم أن بعضهم يزني ببعض لا محالة، لخرج بذلك عن الحكمة ولحقه اللوم من العقلاء، فلا بد أن يقولوا نعم2. قيل لهم: فإن الله سبحانه قد جمع بين عبيده وإمائه في دار الدنيا وعلم لا محالة أن بعضهم يزني ببعض وكان قادراً على أن يفرق بينهم في المكان، فهل يعد بذلك سفيهاً3 أو يخرج بذلك عن الحكمة. فإن قالوا: إنما جمع بينهم ليعرضهم لفعل ما أمرهم به في اجتناب ما حرم عليهم من الزنا ويدخلهم بذلك جنته4. قلنا: فقد علم أن منهم من لا يمتثل ما أمرهم به من ذلك وكان قادراً على
أن يدخلهم جنته بغير تعريضهم لعصيانه ومخالفتهم أمره، فعلمنا بذلك أنه لا يجب عليه مراعاة الأصلح لهم. ويقال للقدرية: أليس الحكيم منا لو دفع سيفاً إلى عبده فأمره أن يقتل به عدوه وأخبره ثقة لا يشك في صدقه أنه لا يقتل عدوه وإنما يقتل به ولده أو صديقه لا محالة أيخرج عن الحكمة بذلك أم لا؟ فلا بد من قوله نعم. قلنا لهم: فإن الله سبحانه قد خلق الكفار وخلق فيهم قدرة وخلق سيوفاً ملَّكهم إياها وأمرهم بالإسلام وأن يقتلوا بتلك السيوف أعداءه الذين خالفوا أمره، وهو يعلم أنهم يكفرون به ويقتلون بها أنبياءه وأولياءه. أفيخرج بذلك عن الحكمة، فبطل بذلك أن حكمة الله جارية1 على حكمة المخلوقين2.
83- فصل ومن الأدلة لنا أن لله أن يفرض على عباده ما لا طاقة لهم به قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ} 1، ففرض الله على المؤمنين أن يقاتلوا الكفار على الإطلاق والعموم أي2 عدد كانوا، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} وهذا أمر بلفظ الخبر3، فأمر الواحد بقتال العشرة ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} 4، فخفف الله عنهم وأمر الواحد بقتال الاثنين. والدليل على أنه أمر أن خبر الله لا يكون بخلاف مخبره، وقد يكون الواحد منهم يغلب العشرة منا5، وأيضاً فإنه قال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} والتخفيف لا يكون إلا فيما فرض وألزم6. فأجاب المخالف القدري عن هذا وقال: هذا لا حجة فيه للمستدل بل الحجة عليه، لأنه لم يكلفهم إلا ما كانوا يستطيعونه في ذلك الوقت فلما علم ضعفهم فيما بعد خفف عنهم. والجواب: أن الصحابة الذين نزل فيهم {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} هم الذين نزلت فيهم الآيتان الأوليان وحالتهم واحدة في قوة
أجسامهم وثباتهم على القتال، وما روي أنهم كانوا على حالة قوية في الأجسام والثبات، ثم حدث عليه ضعف، بل كان1 ثباتهم يزداد في القوة فيما أمروا، فدل على أن المراد بقوله {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} عن أن يقاتل الواحد أكثر من اثنين وقت افترض عليه أن يقاتل أكثر منهما2. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه أن الله أخبر بكتابه أن الله يأمر الخلق يوم القيامة بالسجود له، ولا يجعل للكافرين استطاعة على السجود له يومئذ، فقال سبحانه {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} 3، فقوله: {عَنْ سَاقٍ} يعني عن يوم القيامة لهولها وشدتها، فيستعار الساق عن الشدة ولهذا يقال: كشفت الحرب عن ساق أي عن شدة4. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يأمر الخلق له بالسجود فيسجد له كل
مؤمن ومؤمنة ينحنون له حنية رجل واحد، وتقصم1 أصلاب المنافقين. قيل يجعل في أصلابهم مثل السفافيد2 من الحديد فيبقى ظهره طبقاً واحداً فلا
يقدر على السجود1، قال الله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} قيل في التفسير: يدعون إلى السجود في الدنيا مع الجماعة وهم سالمون من السفافيد23، ويدل على صحة ما ذهبنا إليه من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} 4، والمراد بذلك أعين القلوب لأنه قيل ما من إنسان إلا وله أربع أعين عينان في راسه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر آخرته ودينه. فإذا أراد الله بالعبد خيراً فتح العينين فأبصر بهما5 وما وعده الله بالغيب، وإذا أراد
به سوءاً أعمى عيني قلبه1. قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 2 قال الضحاك: (المؤمن له عينان في صدره بصيرتان يؤديان إلى العينين التين في الوجه، والكافر له عينان في صدره مطموستان لا يؤديان إلى عيني رأسه) 3. قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} 4 فعندها يصلون5. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه من ذلك أن الله سبحانه قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} 6 فيقال: أمر الله أبا لهب بالإيمان، وأخبر سبحانه أنه لا يؤمن وأنه سيصلى ناراً ذات لهب فقد أمر أبا لهب أن يصدقه بجميع ما أخبر به وكأنه أمره أن يؤمن بأنه لا يؤمن وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، وكأنه قيل له صدق بأنك لا تصدق، وهذا محال، وتحقيقه أن خلاف المعلوم محال وقوعه ولكن ليس محالاً وقوعه لذاته بل محالاً لغيره، والمحال في امتناع الوقوع كالمحال
لذاته، فمن قال إن الكافرين الذين لم يؤمنوا ما كانوا مأمورين بالإيمان فقد جحد الشرع، ومن قال: كان الإيمان منهم متصوراً فقد اضطر إلى القول بتصوير1 ما لا يتصور امتثاله2.
84- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا أن الله سبحانه يفعل ما يشاء في العبد وإن لم يكن للعبد فيه مصلحة1 قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} 2. فأخبر سبحانه أنه إنما أملى3 لهم ليزدادوا إثماً، ولم يمل لهم لما فيه خير وصلاح. فأجاب المخالف القدري، وقال: لا حجة لهذا المستدل بهذه الآية، بل الحجة منها، لأنها وردت مورد الذم للكفار والوعيد، بدليل قوله في آخر الآية: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 4 لا يذمهم ولا يعذبهم إلا على فعلهم، وحذرهم الاغترار بالإملاء. ولم يكن الإملاء لخير استحقوه عند الله، وإنما أملى لهم ليرجعوا أو يتوبوا في مدة الإملاء5، فأما قوله: {لِيَزْدَادُوا إِثْماً} فإن هذه اللام للعاقبة. والجواب: أنا لا ننكر أنها وردت مورد الذم والوعيد، ولكن لا يدل أنهم خلقوا وأفعالهم في الإثم، بل أفعالهم خلق لله وكسب لهم6 على ما مضى، وأما قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} فلا ننكر أنه أمرهم بالتوبة، ولكن
لو قدر لهم التوبة وتفضل عليهم بالتوفيق لها لتابوا، وأما قوله: إن اللام في قوله: {لِيَزْدَادُوا إِثْماً} أنها1 لام العاقبة كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 2 فغير صحيح؛ لأن الله قد علم أنهم لا يتوبون، وإنما علم أنهم يكفرون وليس كذلك التقاط آل فرعون لموسى - عليه السلام -، فإنهم لم يعلموا أنه يكون لهم عدوا وحزنا، وإنما قدروا في أنفسهم التقاطه ليكون لهم قرة أعينهم وقد علم الله أنه لا يكون لهم3 إلا عدواً وحزناً. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 4، وهذه لام كي تقديرها: إنما يريد الله تعذيبهم. وفي الآية تقديم وتقديرها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، وهذا قول أكثر المفسرين5. وقال بعضهم: أراد إنما يريد الله ليعذبهم في الحياة الدنيا؛ لأنهم منافقون فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون6. ويدل على صحة ما قلنا ما أخبر الله عن موسى صلى الله عليه وسلم أن قال: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} 1 فأخبر الله عن موسى أنه قال إن الله ما آتاهم الزينة والأموال إلا ليضلوا عن سبيله، وهذه لام كي، وموسى أعلم بما يجوز على الله من القدرية. وأيضاً فإنه دعا عليهم بأن يشد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فلا ينفعهم الإيمان فدل على الله شد على قلوب الكفار عن الإيمان، فلم ينكر الله عليه2 دعاءه بل قال: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وذلك أن موسى عليه السلام دعا عليهم بذلك، وهارون يؤمن على دعائه3 ومثل هذا أخبر الله عن نوح - عليه السلام - أنه دعا قومه فقال: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاّ ضَلالاً} 4، ومعلوم أن زيادة الله في ضلالهم هو خلقه للضلالة فيهم، وأنه يعذبهم فيما خلق فيهم من زيادة الضلال، وهذا كله يبطل قول القدرية. ويدل على صحة ما قلنا قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِين نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} 5 وتأويلها، بل لا يشعرون أن الذي أعطيناهم من الأموال والبنين هو شر لهم كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} 6، ومثلها قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا 7 خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم ٍ 8 بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 9.
85- فصل يقال للقدرية: وأي صلاح لابن آدم في خلقه وبلوغه التكليف وتعريضه لمخالفة الأمر فيستحسن العذاب الدائم. وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم تمنوا بأنهم لم يكونوا شيئاً، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: "يا ليتني كنت حيضة في بطن أمي"1. وقال بعضهم: "يا ليتني كنت كبشاً سميناً فذبحني أهلي وأكلوني"2. وروي عن موسى عليه السلام أنه قال: "يا رب ما كان خيراً لابن آدم؟ فقال: لو لم أخلقه. قال: فبعد إذ خلقته ما كان خيراً؟ فقال: أن يموت صغيراً، قال: فبعد أن لم يمت صغيراً ما كان خيراً له؟ قال: أن يموت شيخاً كبيراً"3. فأجاب المخالف القدري عن هذا بجوابين أحدهما أن قال: قد علمنا حكمة الله بأفعاله ولولا ما ظهر من أفعاله ما علينا حكمتهن فصح لحكمته وعدله أنه4لم يخلقهم إلا لمصلحة ولا يضرنا ألا نعرف5 وجه المصلحة، كما نقول في طبيب6 حاذق في الطب أصابت ولده علة فدعاه إلى شرب دواء مر المذاق علم الولد نفعه وصلاحه لتلك العلة وإن لم يعلمه7 الولد.
والجواب الثاني: أن وجه الصلاح في خلق الله للمكلفين ظاهر وهو أنه مكنهم من الخيرات التي يتوصلون بها إلى الثواب، وأراد منهم ذلك وأمرهم به، وساقهم بالأمر والنهي والوعد والوعيد إلى ما فيه صلاحهم فكان معرضاً لهم لأجل المراتب1 وإنما هلك منهم من هلك بسوء اختياره وإيثاره للمعصية. والجواب: أن يقال للمخالف: الله موصوف بالحكمة والعدل بذاته قبل أن يخلق الأشياء التي علم بها العباد حكمته، لأن ذلك من صفات الكمال، فهذا الذي ادعيته غير مسلم. وأما قوله إنه لم يخلقهم إلا للمصلحة وإن لم تعلم المصلحة واستدلاله بالأب الطبيب، فهذا موضع النزاع. ولا ننكر أن الله سبحانه أرحم بالعبد من الوالد لولده، وأن له عليه نعماً2 لا يحصيها ولا يقوم3 بشكرها، ومن نعمه الرحمة التي خلقها في قلوب الوالدين للولد، ولكن الإنعام منه بذلك وغيره تفضل وإنعام لا يجب عليه، وله ترك الإنعام والتفضل، ولهذا يؤلم الأطفال في المهد ويقطع أعضاءهم بأصناف العلل من الجذام وغيره، ولا يعد ذلك قبيحاً ولا ظلماً من أفعاله، بخلاف الأب فإنه لا يملك الولد ولا يفعل بعبده الذي يملك4 رقبته إلا ما أذن له فيه مملكه، فبطل الجمع بين حكم الله في التصرف بعباده وبين حكم الوالد الطبيب. وأما قول المخالف في جوابه الثاني: إن المصلحة في خلق المكلفين تمكينهم من الخيرات وإرادة الله منهم ذلك، فهذا موضع الخلاف ولا حجة له عليه غير مجرد الدعوى.
وأما قوله: إنه أمرهم وساقهم بالأمر والنهي والوعد والوعيد إلى ما فيه الصلاح، فقول لا معنى تحته فإن أراد بقوله ساقهم كقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} 1 فهو الإجبار الذي يرمي به خصمه وهم براء مما رماهم به، وقد اعترف على نفسه بما أنكره على غيره، وجميع ما أورده من هذا وما أشبهه قول فارغ من المعاني المفيدة لمن تدبره. ثم قال المخالف: وأما ما حكاه عن الصحابة في تمنيهم أنهم لم يخلقوا فلم يقولوه اعتراضاً على الله في فعلهن ولو قصد أحد منهم ذلك فإنه عاص ضال لا يلتفت إليه، لأنهم يعلمون أن أحداً لا يهلك إلا بجنايته وإنما قصدوا بذلك مذمة النفس. والجواب: أنا لا نقول إنهم قصدوا الاعتراض على الله، وإنما لما خافوا على أنفسهم العطب في التقصير عما أمروا به تمنوا ما تمنت مريم بنت عمران فيما أخبر الله عنها بكتابه بقوله: {َلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} 2. أفتراها معترضة على الله؟. ثم قال المخالف: وأما الخبر المروي عن موسى عليه السلام فلا حجة فيه، لأنه إذا ثبت بإسناد صحيح فهو خبر آحاد لا يؤخذ به، ويجب تأويله على3 ما يوافق أدلة العقل إن أمكن، وإلا لم يضرنا اطراحه، لأن الواجب علينا الأخذ بما دلت عليه العقول. والجواب أن يقال له: وإن كان من أخبار الآحاد فإنه موافق لظاهر القرآن وهو ما أخبر الله عزوجل عن مريم بنت عمران، وقوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} وجزاء الإثم العذاب، والعدم عن الدنيا خير من العذاب.
وأما قول المخالف: يجب تأويله على ما يوافق العقل وإلا وجب اطراحه، فهذا حقيقة مذهبه في رد ظواهر القرآن التي دلت على خلاف مذهبه أنه يحملها على تأويلات لا دليل عليها، والمعمول عليه اطراحها عنده لمخالفتها عقولهم الفاسدة التي بنوا عليها مذهبهم، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم1، لأن الله أمر باتباع الوحي وأمر باتباع أنبيائه ونهى عن اتباع الهوى، وعقل موسى عليه السلام أكمل من عقول القدرية، فكيف يجب اطراح قوله لما أوردته القدرية عن عقولهم!.
86- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة أنا نفرض الكلام مع القدرية في ثلاثة نفر خلقهم الله، فواحد منهم بلغ وآمن بالله وعمل العمل الصالح، وأطال الله عمره في العمل الصالح، فبحكم العدل عند القدرية أن الله يدخله الجنة ويرفع درجته فيها بقدر عمله. والثاني لم يبلغ الحلم بل مات صغيراً لم يعمل شيئاً من الطاعات، فبحكم العدل عندهم أن الله يدخله الجنة ولا يعطيه من الدرجات ما يعطي الأول. وأما الثالث: فإنه لم يؤمن بالله وأطال الله عمره فيدخله النار. فإذا نظر الصغير إلى ما أعطى الله الأول من الدرجات قال: يا رب لأي معنى لم تعطني من الدرجات مثل ما أعطيت الأول؟ فيقال: بحكم العدل أنك لم1 تعمل مثل الأول، فيقول: لو أطال الله عمري كعمر الأول لعملت مثل عمله، ولكن قصر عمري فقال له: لم يكن الصلاح لك في طول العمر بل الصلاح لك في إماتتك صغيراً، فيقول حينئذ الكافر من تحت أطباق جهنم فأي صلاح لي بطول العمر فليت الله أماتني صغيراً فأرضى بمنزلة هذا الذي سخطها، ولكن الله طوَّل عمري وبلَّغني حد التكليف مع علمه أني لا أؤمن فخالفت2 أمره حتى صرت إلى ما صرت إليه، فتقوم الحجة لكافر على الله3، وقد قال الله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} 4 فعلمنا لذلك أن الأمر بخلاف ذلك وأن لله5 أن يفعل بعباده ما شاء.
فأجاب المخالف القدري عن هذا بجوابين: أحدهما: قال إنما أمات الله الصغير، لأنه علم أنه لو بقي لأفسد دين غيره ممن يعلم أنه لولاه لما فسد، ولا يجوز في حكمته أن يبقى من هذه حاله1 لأن فساده حينئذ يكون في حكم المضاف إلى الله ولم يعلم في بقاء الذي بلغ وكفر ومات على الكفر مفسدة لغيره وإنما فسد هو باختياره، قال: ولا يلزم على هذا إبقاء إبليس وغيره من شياطين الجن والإنس، لأن الله علم أنهم لا يضلون إلا من كان يضل بنفسه لقوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} . والجواب الثاني: إن الله متفضل على الخلق بخلقه لهم وببعثه لهم وبتكليفه لهم، وله أن يتفضل بالقليل من ذلك والكثير، ولا اعتراض عليه لأن الاعتراض عليه بذلك جهالة2، فإذا قال الصغير لِمَ لَمْ تُبلِّغني درجة العامل؟ قيل له: لأنك لم تعمل، فإذا قال: لم يعمرني، قيل له: هو متفضل بذلك، والكافر إذا قال أبقاني مع علمه بأني أفسد. قيل له: كان بإمكانك أن تؤمن فلم تفعل، هذا نكتة قوله ومعتمده. والجواب عن جوابه الأول من وجوه: أحدها أن يقال: يجب أن يكون كل صغير أماته الله من أولاد الأنبياء وغيرهم إنما ذلك لأن الله علم أنهم لو بقوا لأفسدوا دين غيرهم، وهذا يخالف ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على ابنه إبراهيم لأنه مات وهو ابن شهرين3 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أباك لنبي وإن جدك لنبي ولو بقيت لكنت
نبياً" 1، ولم يقل لو بقيت لأفسدت دين غيرك. والجواب الثاني: أن يقال فكان ينبغي على هذا أن لا يميتهم حتى يقاربوا وقت الإفساد، وقد يميتهم حين يولدون ويميتهم في بطون أمهاتهم وفي ذلك تخريب لما عمر من غير معنى. والجواب الثالث: أن يقال: أفكان الله قادراً على أن يباعد بينهم في المساكن، أو يحول بينه وبين الإفساد من غير إجبار، ويعصم المفاسد عليه، ولا يميت هذا الصغير الضعيف لمصلحة هذا القوي الذي يقدر على الامتناع من إفساد هذا الصغير. والجواب الرابع: أن الإلزام الذي ألزم نفسه في إبقاء الله لإبليس وشياطين الجن إلزام صحيح، وجوابه عن ذلك بأنهم لا يضلون إلا من يعلم أنهم يضلون بأنفسهم غير صحيح. لأنه لو كان ما قاله من ذلك صحيحاً لما لحق إبليس وجنوده ذم ولا توبيخ ولا عقاب بإضلالهم2 الكاقرين والعاصين، لأنهم كانوا في علم الله يضلون بأنفسهم. وأما الآية التي احتج بها فقد قلنا قبل هذا، إنما تأويلها {إِلاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} إلا من سبق عليه القضاء بالضلال3، وعلى جميع هذه الإلزامات
فإن الكافر يقول: يا رب إذا أمت هذا الصغير قبل أن يبلغ لمصلحة غيره، فهلا يا رب أمتني صغيراً لمصلحة نفسي، لأنك علمت أني لا أؤمن بك وموتي لمصلحتي أولى بالعدل من إماتة الصغير1 لمصلحة غيره. وأما قول المخالف في جوابه الثاني: إن الله متفضل على الخلق بالخلق والإبقاء والتكليف هذا مذهب أهل الحديث، وأما مذهب أسلافه من المعتزلة2 فقد مضى بيانه3، ولكن إذا قال هذا المخالف: إن الله لا يفعل إلا ما فيه صلاح لهم ولا يتفضل عليهم إلا بما فيه صلاح لهم، فإن هذا الكافر الذي بلغ ولم يؤمن يقول يا رب تفضلك عي يا رب بإماتتي صغيراً خير لي من إبقائك لي إلى البلوغ، وقد علمت أني لا أومن فتبقى له الحجة، والله تعالى يقول: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} 4.
87- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا على الله أن يفعل بالعباد ما شاء، وإن لم يكن لهم فيه مصلحة أنا نرى في الشاهد أن الله يؤلم الأطفال بالعذاب الدائم، ويصيبهم بالعلل التي تنقطع منها أوصالهم من غير جناية سبقت منهم، وكذلك الحيوان المسخر لبني آدم في الركوب والذبح والطبخ وكذلك جعل بعض بني آدم ملكاً لبعض، ولا يستحيل في العقل أن يكون المالك مملوكاً والُمسخَر مُسخِراً، هل في ذلك للعقل مجال إلا أن المالك محكم في ملكه يفعل فيه ما يشاء. فأجاب المخالف القدري عن ذلك وقال: المصلحة في ذلك هو اعتبار للمكلفين والإنعام عليهم بالركوب والذبح والتنبيه لهم بإيلام البهائم والأطفال، ثم هو يعوض المؤمنين على ما أصابهم من الآلام والمشاق أعواضاً تستحقر الآلام بجنبها، فبالاعتبار1 تخرج الآلام عن أن تكون عبثاً، وبالعوض يخرج عن أن يكون المرض ظلماً2. والجواب: أن يقال: خلق الله الألم في الأطفال والبهائم ليعتبر به المكلفون فيينتبهوا به، لا مصلحة للأطفال والبهائم فيه بل المصلحة فيه لغيرهم، وعلى مقتضى قولكم إن الله يخلق في الدنيا ناراً كنار جهنم ويخلق أطفالاً وبهائم فيها ليراها المكلفون ويعتبروا بعذابهم وينبههم بذلك على عذاب جهنم في الآخرة، وأنتم لا تقولون بذلك. وأما قول المخالف: إن الله يعوض الأطفال والبهائم على ذلك بالآخرة، فالجواب عنه من وجوه: أحدها: أن قولهم هذا يؤدي إلى أن كل ذرة أو بقة أو برغوث خلقه
الله ووطأتها الإبل في الطرق وقتلتها فإنه يجب على الله أن يبعثها في الآخرة على صورة يصل إليها الثواب ويجعلها في الجنة. وهذا قول يرغب عنه كل عاقل، وقد ذكر المفسرون أن الله يحشر الطير وجميع البهائم ويقتص للجماء من ذات القرن ثم يقول اله لها كوني تراباً، فتعود تراباً، فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً1. والوجه الثاني: أن يقال إنكم اعترضتم على خصومكم وأنكرتم عليهم القول بأن الله يخلق في العباد أعمال الطاعات ويثيبهم عليها، فكيف ساغ لكم القول هاهنا بأن الله يخلق الآلام والآفات في الأطفال ويثيبهم على فعله بغير فعل منهم ولا كسب. والوجه الثالث: أن يقال من صفات الله الكرم والأفضال، وكان قادراً على أن يجزل لهم العطية من غير أن يبتليهم بألم ولا آفة، ولا يلزم على ذلك الثواب على الأفعال في التكليف، فإن الثواب على ذلك عندنا على كسبهم الأعمال وعندكم على خلقهم الأعمال. والجواب الرابع أن يقال: فما المعنى الذي اقتضى أن تكون هذه البهائم وهؤلاء الأطفال المخلوق فيهم الألم والآفة ليعتبر بذلك غيرها من المكلفين، وتكون المؤلمة هي المستحق للعوض، وما المانع أن تكون هي المستحقة للاعتبار بخلق الألم في المكلفين، ولم يخلق2 المكلفين بهائم وأطفالاً3
وخلق فيهم الألم وخلق الأطفال مكلفين لعتبروا بغيرهم، فعلم أن أفعال الله لا لعلة لازمة1. ثم قال المخالف: وما تمليك بني آدم لبعض فإن ذلك جعل جزاء للكفر وللتنفير عن الكفر. والجواب: أن الولد قد يسلم وهو تابع لأمه في الملك، وقد يكون أبوه مسلماً حراً وكيف يعاقب الإنسان على ذنب غيره، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2، ومع هذا فلا ننكر أن أصل الرق إنما يثبت على الكافر، ولكن أي مصلحة لولد الولد وإن بعد أن يكون مملوكاً لآدمي مثله من طريق الدين؟! فعلم بذلك أن الله يفعل بعباده ما شاء سواء كان لهم بذلك مصلحة أو لم يكن3.
88- فصل ذكر اللالكائي في مسنده1 عن أبي (العباس) سهل2 بن سعد - رضي الله عنه - قال: " تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 3، وغلام جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بلى والله يا رسول الله إن عليها لأقفالها فلا يفتحها إلا الذي أقفلها، فلما ولي عمر - رضي الله عنه - طلبه ليستعمله، وقال: لم يقل ذلك إلا من عقل"4. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 5 قال: "الشقاوة والسعادة والموت"6.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في هذه الآية {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1، قال: "كتب الله أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة والملائكة يستنسخون2 ما يعمل بنو آدم يوماً بيوم"3. وعن عبد الله بن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 4 قال: "نجد الخير ونجد الشر"5. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 6 قال: "قد أفلح من زكى الله نفسه وقد خاب من دسا الله نفسه فأضله"7. وعن مجاهد في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون} 8 قال: "علم من إبليس المعصية وخلقه لها"9. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} 10 قال: "إن الله قد11 خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً، فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 12، ثم
يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمن وكافر"1. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {أَوَمَنْ2 كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} 3 "يعني من كان كافراً ضالاً فهديناه، و {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يعني بالنور القرآن من صدق به وعمل به، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات} يعني الكفر والضلال"4. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} 5، قال: "إذا جاء القدر خلوا عنه"6. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 7، قال: "فرقين فريق رحم فلا يختلف وفريق لا يرحم مختلف فمنهم شقي وسعيد"8. قال مالك في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: "ليكون فريق في الجنة وفريق في النار"9.
وعن مجاهد في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} ، قال: "إن الله ينزل كل شيء في ليلة القدر فيمحو ما يشاء من المقادير والآجال والأرزاق، إلا الشقاء والسعادة فإنه ثابت"1. وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى: {كَلاّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} 2 قال: "رقم الله كتاب الفجار في اسفل الأرض فهم عاملون لما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب، ورقم كتاب الأبرار فجعل في عليين فهم يعملون3 بما رقم لهم في ذلك الكتاب"4. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} 5، قال: "وما كان الله لعذب أقواماً وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم، ثم قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون} ؟ يقول: ومن سبق له من الله الدخول في الإيمان وهو الاستغفار، ويقول للكافر: {مَا كَانَ6 اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} 7 فيميز أهل السعادة من أهل الشقاوة"8.
89- فصل ذكرت في الرسالة أن الصحابة بأجمعهم والتابعين وعلماء الأمصار كانوا يقولون إن أفعال العباد في الطاعة والمعصية خلق الله، وإن الله أراد من الخلق ما فعلوه من طاعة ومعصية. فأجاب المخالف القدري عن هذا بكلام مشوب بسفه لا يليق ذكره إلا منه ومن أسلافه. ومعتمده قوله أنه نفى أن يكون هذا قولاً للصحابة –رضي الله عنهم-، وادعى أنهم قائلون بقول القدرية، واحتج بأخبار أضافها إليهم لا أصل لأكثرها ولا ذكرها أحد من العلماء الذين أرصدوا أنفسهم لجمع أقوال العلماء في الأصول والفروع، واختار تأويلها على وفق مذهبه وكل ذلك ليري عامة أهل السنة أن له تعلقاً بالأخبار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم منقولة مروية في أصول صحت روايتها عن الثقات، والكذب عليهم لا تقوم به حجة مع أن كل أحد1 لا يجهل مذهب هذا المخالف وأسلافه من القدرية في الطعن على الصحابة فكيف يحتج بأخبارهم. وأنا أبين من أقاويل الصحابة والتابعين في ذلك ما تقر به ئاعين من يحبهم، ويرى القدوة بهم ديناً لازماً، ويبطل به قول القدرية ومن يبغضهم. ذكر اللالكائي في مسنده2 عن طاوس أنه قال: "أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر"3. وعن أيوب السختياني4 أنه قال: "أدركت الناس وما كلامهم إلا وإن قضى وإن قدر"5.
وعن عبد الله بن يزيد بن هرمز1 أنه قال: "لقد2 أدركت وما بالمدينة متهم3 بالقدر إلا رجل من جهينة يقال له معبد"4. وقال أحمد ين يحيى بن5 ثعلب: "لا أعلم عربياً قدرياً قيل له: أيقع في قلوب العرب القول بالقدرة قال: معاذ الله ما في العرب إلا مثبت القدر خيره وشره أهل الجاهلية والإسلام وذلك في أشعارهم وكلامهم كثير"6. وعن عبد الملك7 عن8 عطاء9 قال: أتيت ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو ينزع في زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه قلت له: قد تكلم في القدر فقال: أو قد فعلوها؟، قلت: نعم، فقال: "والله ما أنزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 10، أولئك شرار هذه الأمة"11.
قال الأوزاعي1: "أول من تكلم بالقدر في البصرة رجل من أهل العراق يقال له سوسن كان نصرانياً فأسلم، ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد"2. ومما موه به هذا المخالف القدري على العامة احتجاجه بحديث رواه عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال وقد سئل عن الكلالة؟ فقال: "أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من ذلك"3. والجواب أنه لا حجة لهذا القدري بهذا الخبر بأن أبا بكر - رضي الله عنه - يقول إنه يخلق أفعاله، وإنما أراد إن كان صواباً فمن الله أي فهو من دين الله، وما وفقني لإصابته وإن كان خطأ فليس من دين الله وإنما هو من كسبي ومن خطئي وأضاف ذلك إلى الشيطان على سبيل التنزيه لله4، وإن كان الله خلقه، كما قال إبراهيم عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} 5، فأضاف جميع هذه الأشياء إلى الله إلا المرض فإنه أضافه إلى نفسه وإن6 كان الله خالقاً للجميع فيه، وعلى أنه إن كان إضافة أبي بكر - رضي الله عنه - للخطأ إليه وإلى إبليس يدل على أنه الفاعل7،
لذلك فقد أضاف الصواب إلى الله، فدل ذلك على أن الله هو الخالق للصواب من اجتهاده1. ثم نقول: المروي في الصحاح2 عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أن رجلاً قال لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أرأيت الزنا بقدر؟، قال: نعم، فقال له الرجل: فالله قدره علي ثم يعذبني عليه؟ قال: نعم يا بن اللخنا"3. ومما احتج به القدري ما روي "أن كاتباً كتب لعمر - رضي الله عنه -: هذا ما أرى الله عمر قال: امحه واكتب هذا ما رأى عمر فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمن عمر"4. وروي عنه أنه أتي بسارق فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: قضاء الله وقدره علي يا أمير المؤمنين، فقطع يده وضربه عشرين درة وقال: "قطعت يدك بسرقتك وضربتك بكذبك على الله"5.
والجواب عن الأول أنه كره إضافة الرأي إلى الله، لجواز أن يكون أخطأ برأيه على ما مضى1. وأما حديثه الثاني: فلم يذكره أحد من أصحاب الحديث المشهورين فيجب إثبات سنده2، وإن صح عنه ذلك فإنه محمول على أن السارق أنكر على عمر قطع يديه مع كون ذلك بقضاء الله وقدره3، إذ لو لم يكن بقضاء الله سبحانه لا ستحق القائل به أكثر من ضرب العشرين4، والذي رواه أصحاب الحديث الصحاح عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "اللهم إن كنت كتبتني في السعادة فأثبتني فيها، وإن كتبتني على الشقاوة فامنحني منها وأثبتني في السعادة فإنك تمحو مت تشاء وتثبت وعنده أم الكتاب"5. وروي أن عمر - رضي الله عنه - خرج من المدينة إلى الشام ومعه جماهير الصحابة من المهاجرين والأنصار حتى قدم دمشق، فأخبر أن الطاعون وقع بالشام، فخاف عمر أن يتقدم بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاستشار الصحابة بذلك
فاختلفوا عليه، وكان أول من دعى المهاجرين، فقال بعضهم: خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال آخرون: إن معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى أن تقدم بهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني فارتفعوا عنه، ثم أمر أن1 يدعى له الأنصار فدعوا فاستشارهم، فلم يختلف عليه منهم رجلان2، وقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تدم بهم على هذا الوباء، فأذن عمر بالناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أفراراً من قدر الله، فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها وادياًً له عدوتان أحدهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت بالخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيتها بالجدبة رعيت بقدر الله3، فجاء عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وكان مغيباً في بعض حاجاته فقال: إن عندي من هذا علماً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه"، فحمد الله عمر ثم انصرف4، وخطبهم على باب الجابية ليقص عليهم ويعرفهم سبب انصرافه، وقال في خطبته: "من يضلل الله فلا هادي له ومن يهد الله فلا مضل له"، فقال جاثليق5 النصراني: إن الله لا يضل أحداً، مرتين أو ثلاثاً
، فأنكر الصحابة عليه، فقال عمر - رضي الله عنه - لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما يقول؟، قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحداً، فقال عمر: كذبت بل الله خلقك والله أضلك ثم يميتك فيدخلك النار إن شاء، أما والله لولا ولث عهد لك لضربت عنقك. فتفرق الناس وما يختلف في القدر اثنان1. والوَلث: هو العهد الذي ليس بمحكم ولا مؤكد2. ومما موه به القدري أنه قال: روي أنه لما حصر عثمان - رضي الله عنه - في الدار كان القوم يرمونه ويقولون: الله يرميك، فقال عثمان: كذبتم لو رماني الله ما أخطأني. والجواب أن يقال له: هذا لا يعرف في مسند. على أنا نحمله إن صح على أنهم أرادوا الله يرميك أي يبلغ السهام ويصيبك3 بها، فقال لهم عثمان - رضي الله عنه -: لو رماني الله ما أخطأني: أي لو بلغ سهامكم إلي ما أخطأني. وهذا كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 4. وتأويل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} أي ان المؤمنين لما رجعوا من بدر جعل رجل منهم يقول: قتلت، وآخر يقول: قتلت، فأنزل الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} ، وأما الرمي فإن المشركين لما صافوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر دعى النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث قميصات من حصى الوادي ورمله فتأوله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فرماها في وجوه العدو، وقال: "اللهم ارعب قلوبهم وزلزل أقدامهم " فملأ الله وجوههم وأبصارهم من الرمية ولم يبق أحد منهم حتى أصابه5، فانهزموا عند الرمية
الثالثة فتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، فأنزل الله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1. أي أن الله خلق الرمي بيدك يا محمد، وتولى إيصال ذلك إلى أبصارهم، فأضاف الله ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم إذ وقع كسباً له وأضافه إلى نفسه لكونه مخلوقاً له، وانفرد بإيصال التراب إليهم وهذا حجة لنا على القدرية.
90- فصل استدل القدري بدامغه بخبر لا يعرف سنده عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يظن أنه حجة له وهو حجة لنا، وهو أنه قال: "روي أن علياً - رضي الله عنه - لما سأله الشيخ الشامي عن مسيره إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال علي - رضي الله عنه -: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما قطعنا وادياً ولا علونا أكمة وتلة إلا بقضاء وقدر، فقال الشيخ: عند الله1، أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئاً. فقال: علي عليه السلام: بل أيها الشيخ قد عظم لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون وعلى منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين، فقال الشيخ: وكيف ذلك والقضاء والقدر ساقانا وعنهما كانا مسيرنا، فقال علي - رضي الله عنه -: لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حتماً لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد والأمر والنهي من الله ولما كانت تأتي من الله محمدة لمحسن ولا مذمة لمسيء، ولما كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء، والمسيء بعقوبة الذنب أولى من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وخصماء الرحمن. إن الله أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلف يسيراً ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الرسل هزلاً، ولم ينزل القرآن عبثاً، ولم يخلق السموات والأرض وعجائب الأمور باطلاً، فويل للذين كفروا، فقال الشيخ: ما القضاء والقدر اللذان ما وطئا إلا بهما؟ فقال علي - رضي الله عنه - الأمر من الله والحكم، فنهض الشيخ وهو مسرور"2.
والجواب: أنا نقول للمخالف هذا الخبر كله حجة لنا وحجة عليكم إلا قوله "أمراً تخييراً" فإن الله تعالى قال: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} 1، وقد مضى بيان فساد قولهم إن العبد مخير2، ولكن قد أثبت علي - رضي الله عنه - القدر والقضاء في السير والانصراف والقضاء ينصرف إلى الخلق لقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 3، وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 4، والمخالف لا يقول إن مسيرهم وانصرافهم كان بقضاء من الله وقدر، وإنما يقول هو يخلقهم وإنما ظن الشيخ أن علياً أراد5 أن الله أجبرهم على المسير والانصراف بقضاء الله وقدره وقال6: ":لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين فاستثبته الشيخ وقال: "وكيف ذلك والقضاء والقدر ساقانا" يريد أنهما ساقانا سوقاً لا امتناع لنا عنه، فنفى علي - رضي الله عنه - ذلك وأنهم ليسوا بمجبرين، فقال: "لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حتماً" أي إنما وقع ذلك باختيار منكم ولو كنتم مجبرين لبطل الثواب والعقاب إلى آخر كلامه، وهذا كله حجة لنا، لأنا لا
نقول بالجبر وبطل أن يكون للمخالف علينا بذلك حجة، ولكن حمله على ذلك قلة بصيرته بالمذاهب وعدم البصيرة في وضع الحجج مواضعها. ثم نقول: المروي عن علي - رضي الله عنه - في الصحاح أنه مر بقوم فقال له رجل منهم: يا أمير المؤمنين إن هذا يزعم أنه يصنع ما يشاء، فأقبل علي - رضي الله عنه - على الرجل فقال له: هل ملكك الله شيئاً فأنت تملكه فقال: ملكني صلاتي وصومي وعتق رقبتي وطلاق امرأتي وحجي وعمرتي وما افترض علي فقال له علي: هذا الذي تزعم أنك تملكه أتملكه من دون الله أو تملكه مع الله؟ قال له الرجل: ما أدري ما تقول، قال: أكلمك بلسان عربي، وتقول ما أدري ما تقول، فأعادها علي عليه فلم يجبه الرجل، فقال له علي: إن زعمت أنك تملكه من دون الله فقد جعلت نفسك مع الله شريكاً ومالكاً وإلا فالملك لله الواحد القهار1. وكذلك روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: الأعمال ثلاثة: فرائض، وفضائل، ومعاصي، وقد مضى بيانهن وأن جميعها خلق لله سبحانه2.
91- فصل استدل المخالف القدري بما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "من أضاف إلى الله ما تبرأ عنه فقد افترى على الله". وروي عنه أنه قال: "لعن الله قوماً يحملون ذنوبهم على الله ". وروي عنه أنه قال: "قاتل الله قوماً يعملون المعاصي ثم يزعمون أنها من الله ". والجواب: أن هذه الأحاديث لم يذكرها علماء الحديث في الأصول التي اتفق علماء الأمصار على صحتها والاحتجاج بها، فيجب على من احتج بها إثبات السند فيها، وعلى أنا نحمل هذه الأخبار على أنه لعن قوماً قالوا إن الله أخبر الخلق على أعمالكم وهلك من قال ذلك1. والذي ذكر أصحاب الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنه - ما قدمنا ذكره عنه. وروى عنه مجاهد أنه قيل لابن عباس: إن ناساً يقولون في القدر، فقال: "يكذبون بالقرآن لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونه2، إن الله عز
وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فخلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة إنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه"1. وقال ابن عباس: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن وجد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره نقضاً للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لا انفصام لها"2. وقال عطاء بن أبي رباح: كنت عند ابن عباس، فجاء رجل فقال: يا ابن عباس: أرأيت من صدني عن الهدى وأوردني دار الضلالة والردى ألا تراه قد ظلمني؟ فقال ابن عباس: "إن كان الهدى شيئاً كان لك عنده فمنعك فقد ظلمك، وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلم يظلمك، قم لا تجالسني"3. وروي عن أبي يحيى مولى بني عفراء4، قال: أتيت ابن عباس وعي رجلان من الذين يكذبون بالقدر وينكرونه، فقلت: يا ابن عباس ما تقول في القدر فإن هؤلاء أتوك ليسألوك عن القدر إن زنا وإن سرق وإن شرب، قال: فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه فقال: يا أبا يحيى5، لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبون به، والله لو أعلم أنك منهم أو هذين معك لجاهدتكم، إن زنا فبقدر وإن سرق6 وإن شرب الخمر فبقدر7.
وروى عكرمة قال: "كنت عند ابن عباس جالساً فجاء رجل فقال: يا ابن عباس أخبرني من القدرية فإن الناس قد اختلفوا عندنا بالمشرق. فقال ابن عباس: القدرية قوم يكونون في آخر الزمان دينهم الكلام، يقولون إن الله لم يقدر المعاصي على خلقه ويعذبهم على ما قدر عليهم، فأولئك هم القدرية، وأولئك هم مجوس هذه الأمة، وأولئك ملعونون على لسان النبيين أجمعين فلا تقاولوهم1 فيفتنوكم، ولا تجالسوهم ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا جنائزهم، أولئك أتباع الدجال لخروج الدجال أشهى إليهم من الماء البارد، فقال رجل: لا تجد علي يا ابن عباس فإني سائل مبتلى بهم، قال: قل، قال2: كيف صار في هذه الأمة مجوس وهذه أمة مرحومة، فقال ابن عباس: أخبرك لعل الله ينفعك، فقال: افعل، قال: إن المجوس زعمت أن الله لم يخلق شيئاً من الهوام والقذر، ولم يخلق شيئاً يضر، وإنما يخلق المنافع وكل شيء حسن 3، وإنما القذر4 هو الشر، والشر كله خلق إبليس وفعله، وقالت القدرية: إن الله لم يخلق الشر ولم يبتل به، وإبليس رأس الشر وهو مقر بأن الله خلقه. وقالت القدرية: إن الله أراد من العباد أمراً لم يكن وأخرجوه من ملكه وقدره، وأراد إبليس من العباد أمراً فكان إبليس عند القدرية أقوى وأعز، فهؤلاء القدرية، فكذبوا أعداء الله. إن الله يبتلي ويعذب على ما ابتلى وهو غير ظالم، لا يسأل عما يفعل، وبمن ويثيب وهو فعال لما يريد، ولكنهم أعداء الله ظنوا ظناً فحققوا ظنهم عند أنفسهم، وقالوا: نحن العالمون والمثابون والمعذبون بأعمالنا ليس لأحد علينا منة وذهب عليهم المن من الله والخذلان. قال سويد بن سعيد5: لا إله إلا
الله ما أوحشه من قول، وأن الله هو الهادي والمضل الراحم المعذب1. قال عطاء: قال ابن عباس: "كلام القدرية كفر وكلام الحرورية ضلال". قال ابن عباس: "لا أعلم الحق إلا في كلام قوم ألجوا ما غاب عنهم من الأمور إلى الله تبارك وتعالى، وفوضوا أمورهم إلى الله، وعلموا أن كلاً بقضاء الله وقدره"2. وروي أن ابن عباس - رضي الله عنه - مر على قوم يتنازعون في القدر فقال: "لا تختلفوا في القدر فإنكم إن قلتم إن الله شاء لهم أن يعملوا بطاعته فخرجوا من مشيئة الله إلى مشيئة أنفسهم فقد أوهنتم الله بأعظم ملكه، وإن قلتم إن الله جبرهم على الخطايا ثم عذبهم عليها قلتم إن الله ظلمهم"3. قال الأوزاعي: بلغني عن ابن عباس أنه ذكر عنده قولهم في القر فقال: "ينتهي بهم رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيراً كما أخرجوه عن أن يكون قدر شراً"4. وروي في الصحاح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى عليه السلام: يا رب أبانا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فأراه الله آدم عليه السلام فقال له: أنت أبونا آدم؟ قال: نعم، قال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها وأمر ملائكته
فسجدوا لك؟ ن قال: نعم، قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة، قال له آدم: من آنت؟، قال: أنا موسى، قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب لم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه قال: نعم، قال: فهل وجدت في كتاب الله أن ذلك كائن قبل أن أخلق، قال: نعم، قال: فلم تلومني في شيء سبق من الله فيه القضاء قبل أن أخلق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى "1. استدل القدري بما روي عن ابن عمر أنه قال: "القدرية مجوس هذه الأمة، قيل: منهم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: الذين يعملون بالمعاصي ويزعمون أنها من الله". والجواب: أن على هذا المستدل أن يثبت هذا بسند صحيح، ولم يذكره أحد من أصحاب الحديث. وعلى أنا نحمله على أنه أراد الذين يزعمون أن الله يجبرهم على المعاصي ولا حجة له علينا بذلك. ثم نقول للذي ذكره أصحاب الحديث عن ابن عمر أن يحيى بن يعمر2 قال: قلت لابن عمر: إنا نسافر فنلقى قوماً يقولون لا قدر، قال: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء وهم منه براء ثلاث مرات"3.
وروى ابن نافع1 أن رجلاً قال لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن إن قوماً يتكلمون في القدر بشيء، فقال ابن عمر: "أولئك يصيرون إلى أن يكونوا مجوس هذه الأمة، فمن زعم أن مع2 الله قاضياً أو قادراً أو رازقاً أو مالكاً لنفسه ضراً أو نفعاً أو موتاً أو حياة أو نشوراً لعنه الله وأخرس لسانه وأعمى بصره وجعل صلاته وصيامه هباء منثوراً قطع به الأسباب وكبه على وجهه في النار"3. وروى نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر قال: يا أبا عبد الرحمن الزنا بقدر؟ قال: نعم، قال: قدره الله علي ويعذبني به؟، قال: نعم، يا بن اللخنا4، لو كان عندي إنسان لأمرته أن يجأ أنفك"5. وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب6، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقد ذكر عنده يوماً7 القدر، فأدخل بأصبعيه السبابة والوسطى في فيه فرقم باطن يده فقال: "أشهد أن هاتين الرقمتين كانت في أم الكتاب"8. وروي أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب: ما تقول يا أمير المؤمنين في القدر؟ فقال: ويحك أخبرني عن رحمة الله أكانت قبل طاعة العباد أم لا؟، فقال: بلى، فالتفت علي إلى الصحابة وقال: أسلم صاحبكم بعد أن كان
كافراً فقال الرجل: يا أمير المؤمنين أليس بالمشيئة الأولى التي أنشأ بها وقوم خلقى حتى أنا أقوم وأفعل وأقبض وأبسط وأفعل ما أشاء، فقال له علي: إنك بعد في المشيئة، أما إني أسألك عن ثلاث فإن قلت في واحدة منهن لا، كفرت، وإن قلت: نعم فأنت أنت، فمد القوم أعناقهم ليسمعوا ما يقول، فقال له الرجل: هات يا أمير المؤمنين. فقال: علي - رضي الله عنه - أخبرني1، هل خلقك الله كما شاء أو كما شئت؟، قال: بل كما شاء، قال: فخلقك الله لما شاء أو لما شئت؟، فقال الرجل: بل لما شاء، فقال: هل تأتيه يوم القيامة بما شاء أو بما شئت؟، فقال: بل بما شاء، فقال له: قم فلا مشيئة لك"2. وروي أن علياً - رضي الله عنه - خطب يوماً وذكر قاتله، فقال: ما يمنعه أن يقوم فيخضب هذه من هذا3 فقالوا4: يا أمير المؤمنين أما إذ عرفته فأرناه نفعل به كذا، فامتنع، قالوا: فما تقول لربك إذا قدمت عليه5 قال: "أقول وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم حتى توفيتني، وهم عبادك إن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم"6، وهذا كله يبطل القدرية.
وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "لأن أعض على جمرة أو أقبض عليها حتى تبرد أحب إلي من أن أقول بشيء قضاه الله ليته لم يكن"1. وقال ابن مسعود - رضي الله - "أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره"2. وعن ابن الديلمي قال: "أتيت أبي بن كعب فقلت يا أمير المؤمنين إنه وقع في قلبي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه عني فقال: إن الله عزوجل لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإن مت على غير ذلك دخلت النار. قال: ثم أتيت ابن مسعود فحدثني بمثل ذلك، ثم أتيت حذيفة فحدثني بمثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم3. وروي أن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - لما حضرته الوفاة قال له ابنه
عبد الرحمن: أوصني، فقال: أجلسوني، فأجلسوه ثم قال: يا بني اتق الله ولن تتقي الله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "القدر على هذا من مات على غير هذا أدخله الله النار"1. وبمثل هذا المعنى روي عن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي الدرداء، وعمران بن الحصين، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -2.
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه عند الله مكتوب من أهل النار"1. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فأخلف يده ورائي وقال: "يا غلام أو يا غليم ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك إذا استعنت فاستعن بالله، إذا سألت فاسأل الله جرى القلم بما هو كائن، فلو أن الناس اجتمعوا على أن يعطوك شيئاً لم يعطك الله لم يقدروا عليه ولو أن الناس اجتمعوا على أن يمنعوك شيئاً قدره الله لك وكتبه لك ما استطاعوا، فاعبد الله بالصبر مع اليقين، وإن مع العسر يسراً إن مع اليسر يسراً".2. وروى علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بالحق، ويؤمن بالموت وبالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر"3.
وروى سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله"1.
92- فصل استدل القدري بدامغه بأخبار أضافها إلى الفقهاء المشهورين من التابعين وغيرهم، مثل عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، والشعبي1 ومالك بن دينار2، وقتادة3 وغيرهم، ممن لا ينكر فضلهم أحد وهم برءاء مما أضافه إليهم. ولو طولب بسند خبر من ذلك لم يقدر عليه إلا بالتخرص.
وأنا أذكر ما ذكره عنهم أصحاب الحديث في الأصول المشهورة عند علماء الأمصار. يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: "لو أن الله كلف العباد العمل على قدر عظمته لما قامت لذلك سماء ولا أرض ولا جبل ولا شيء من الأشياء، ولكنه أخذ منهم اليسير، ولو أراد أن لا يعصى لم 1 يخلق إبليس رأس المعصية"2. وقال الأوزاعي: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتاباً فكان فيما كتب إليه أن يسأل الله الذي بيده القلوب يصنع بها ما يشاء من ضلالة وهدى"3. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: "ما طن4 ذباب بين اثنين إلا بكتاب وقدر"5. وقال رجل للحسن البصري: لهذه أي للسماء خلق آدم أم للأرض؟، فقال: بل للأرض، فقال له: أرأيت لو اعتصم من الخطيئة فلم يعملها أكان يترك في الجنة؟ قال: سبحان الله كان له بد من أن يعملها، قال: قلت له:
يا أبا سعيد قوله عزوجل: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} قال1: ما أنتم عليه بمضلين إلا من قدر له أن يصلي2 الجحيم3. وعن الحسن البصري في قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ4 فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} 5 قال: "الشرك يخلقه الله في قلوبهم"6. وروى تمام بن نجيح7 أن رجلاً أتى الحسن البصري وأخذ بعنان دابته وقال: زعمت أن من قتل مظلوماً فقد قتل في غير أجله، قال: "فمن يأكل بقية رزقه يا لكع خل الدابة، قتل في أجله"، قال: فقال الرجل: والله ما أحب أن لي بما سمعت منك اليوم ما طلعت الشمس عليه8. وروي عن الحسن البصري أنه قال: "الشقي من شقي في بطن أمه"9. وعن عاصم10 قال: سمعت الحسن البصري في موضعه الذي مات فيه يقول: "إن الله قدر أجلاً وقد معه مرضاً وقدر معه معافاة، فمن كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن، ومن كذب بالقرآن فقد كذب بالحق"11.
وعن عوف1 قال: سمعت الحسن البصري يقول: "من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، ثم قال: إن الله خلق خلقاً فخلقهم بقدره وقسم الآجال وقسم أرزاقهم بقدر والبلاء والعافية بقدر"2. وقال أيوب3: "كذب على الحسن البصري صنفان: قوم دأبهم4 القدر فكذبوا عليه أنه قدري لينفقوا قولهم بذلك. وقوم في قلوبهم له شنآن وبغض يقولون من قوله كذا 5، وليس من قوله كذا"6. وروي عن علي7 بن الحسين - رضي الله عنهما8- أنه قال: "إن أصحاب القدر حملوا مقدرة الله على ضعف رأيهم قالوا، لم، ولا ينبغي أن يقال لله لم"9. وروي أنه جاء رجل من أهل البصرة فسأل عن محمد ابن علي بن الحسين بن علي10 – رضي الله عنهم -11 فقيل هو ذاك الغلام قال: فجئت
إليه قال: فقلت يا سيدي: إني وافد أهل البصرة إليك، وذاك أن القدر قد فشى في البصرة، وقد ارتد أكثر الناس وأريد أن أسالك عنه، قال: سل، فقلت: أحببت الخلوة، فقام ومشى معي حتى خلا، فقال لي: سل، قال قلت: الخبر؟، قال لي: "اكتب علم وقضى وقدّر وشاء1 وأراد ورضي وأحب"، قال: قلت زدني قال: فقال لي: هكذا أخرج إلينا سل، قال: قلت: الشر؟ قال: اكتب علم وقضى وقدر وشاء وأراد ولم يرض ولم يحب، قال: قلت: زدني، قال: هكذا أخرج إلينا. قال الرجل: فرجعت إلى البصرة فنصب لي منبر في المسجد الجامع، فاجتمع الناس فقرأت عليهم ما كتب، فرجع أكثر الناس2. وروي أن رجلاً من الشيعة جاء إلى جعفر بن محمد الصادق 3،فقال: إن القدرية يقولون لنا إنكم كفار قال: فقال له: "اكتب عن الله لا يطاع قهراً، وإن الله لا يعصى قهراً، فإذا أراد الله الطاعة كانت، وإذا أراد المعصية كانت فإن عذب بحق، وإن عفا فبالفضل"4. وروي أن رجلاً جاء إلى زيد بن علي بن الحسين5 - رضي الله عنهم - فقال: يا زيد أنت الذي تزعم أن الله أراد أن يعصى قال له زيد: "أفيعصى عنوة"6.
وروي أن غيلان1 قال لربيعة بن أبي2 عبد الرحمن3: يا أبا عثمان أيرضى الله أن يعصى؟، فقال له ربيعة: "أفيعصى قسراً"4. وروي عن محمد بن الحنفية5 أنه قال: "من أحب رجلاً على عدل ظهر منه وهو في علم الله من أهل النار آجره الله كما لو كان من أهل الجنة، ومن أبغض رجلاً على جور ظهر منه وهو في علم الله من أهل الجنة آجره الله كما لو كان من أهل النار"6. قال إياس بن معاوية7 لرجل من القدرية: "ما الظلم فيكم؟، قال: أن يأخذ الإنسان ما ليس له، فقلت له: فإن لله كل شيء"8. وقال وهب بن منبه9: "قرأت نيفاً وتسعين كتاباً من كتب الله فوجدت فيها كلها أن من وكل إلى نفسه شيئاً من القدر فقد كفر"10.
وقال يزيد بن زريع1 لعمر بن محمد العمري2: "رجل يثبت القدر ويعلم بقلبه أنه مؤمن به ولم يتكلم فيه، أحب إليك أو رجل مؤمن يتكلم فيه، قال: لا، والله إلا من تكلم به حتى يتبين ضلالتهم"3. وقال زيد بن أسلم4: "ما أعلم قوماً أبعد من الله عزوجل من قوم يخرجونه من مشيئته"5، ثم6 قال زيد بن أسلم: "والله ما قالت القدرية كما قال الله عزوجل، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه رَبُّ الْعَالَمِينَ} 7، وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلَّمْتَنَا} 8، وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} 9، وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 10، وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} 1 1. وقال أخوهم إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} 12".
وسئل الحسن البصري عن القدر؟ فقال: "إن الله تعالى خلق الخلق للابتلاء لم يطيعوه بإكراه ولم يعصوه بغلبة ولم يهملهم من الملك، وهو القادر على ما أقدرهم عليه، والمالك لما1 ملكهم إياه، لأنه قال سبحانه: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 2. فإنما يأتمروا بطاعة لم يكن الله مثبطاً لهم، بل يزيدهم هدى إلى هداهم وتقوى إلى تقواهم وأن يأتمروا بالمعصية فهو القادر على أن يصرفهم إن شاء، وإن خلى بينهم وبين المعصية فمن بعد إعذار وإنذار"3. وقيل لمحمد بن واسع4: يا أبا عبد الله ما تقول في القدر؟، قال: "أقول إن الله إذا جمع الخلائق سألهم عما افترض عليهم ولم يسألوه عما قضى عليهم"5. وقال رجل لإياس بن معاوية إلى متى يتوالد الناس ويموتون؟ قال: "إلى أن
يتكامل العدتان عدة أهل الجنة وعدة أهل النار، قال: صدقت"1. وروي أنه اصطحب مجوسي وقدري، فقال القدري للمجوسي: مالك لا تسلم، قال: إذا شاء الله أسلمت، قال له القدري: قد شاء الله أن تسلم ولكن الشيطان لا يدعك، فقال المجوسي: فأنا مع أقواهما2 فرجع القدري عن مقالته3. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير4: "نظرت فإذا ابن آدم ملقي بين يدي الله تعالى وبين يدي إبليس، فإن شاء الله أن يعصمه عصمه، وإن تركه ذهب به إلى إبليس"5. وقال مطرف: "نظرت في هذا الأمر فإذا بدوه من الله، ونظرت فإذا تمامه على الله، ونظرت ما ملاكه؟ فإذا ملاكه الدعاء"6.
93- فصل شبهة لقدرية بقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} 1. ولنا عن هذه الآية جوابان: أحدهما: ما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في تفسير هذه الآية {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} "يعني من فتح وغنيمة2 فمن الله، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة ٍ} أي من بلية {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك"3. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 4. وأصل هذا أن المنافقين كانوا إذا أصابهم فتح وغنيمة قالوا: هذا من عند الله، وإذا أصابهم بلية وهزيمة قالوا هذا من محمد صلى الله عليه وسلم ومن شنآنه، فأخبر الله عنهم بقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} ببدر يعني وهي الفتح والغنيمة {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يعني القتل بأحد5 {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} ، فأكذبهم الله وقال: قل يا محمد: قُل {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ، ثم قال بعد ذلك على وجه الإنكار
عليهم: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} ومعناه أفمن نفسك، فحذف ألف الاستفهام وهو مراد في الكلام لدلالة الحال1، كقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} 2. ومعناه ويقولون ربنا ما خلقت هذا باطلاً فحذف ويقولون لدلالة الحال عليه. والجواب الثاني: أن الآية تقتضي أن أفعال الطاعة خلق لله لأنه أضافها إلى نفسه، والقدرية يقولون إن أفعال العباد كلها في الطاعة والمعصية خلق للعباد، فإذا ثبت ذلك لله في أفعال الطاعة ولزمهم ذلك في أفعال المعاصي لأن أحداً لم يفرق بينهما3. فأجاب المخالف القدري عن هذا بأن قال: إنما أضاف الحسنات إليه لأنه أمر بها وأرادها، ولم يضفها إليه لأنه خلقها، ولم يضف السيئات إليه لأنه لم يأمر بها ولم يردها ولم يخلقها4.
والجواب عن هذا أنه قد أضافها إلى نفسه بقوله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ولا يمكن حمل إضافتها إلى نفسه هاهنا إلا على خلقه لهما وإرادته لهما لا على الأمر منه بهما، لأنه لا يأمر بالسيئات بالإجماع. ثم قال القدري بعد ذلك: وأما قوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي فمن ذنب أذنبته نفسك. وقد وافقت أيها المستدل أنه يوجد من النفوس ذنوباً لأجلها صار1 يعاقب، وهذا تسليم منه، وقد أنطقه الله الذي أنطق كل شيء. والجواب عن قوله هذا أن يقال له: لا ننكر أن الذنب يضاف إلى المذنب لكونه مكتسباً والله خالق لحركاته فيه ويعاقب ويثاب على اكتسابه فيه لا على خلق الله، ثم نقول له: وقد وافقت أيضاً أن الله أنطق المستدل الذي أنطق كل شيء وحقيقة الإنطاق هو خلق الله المنطق فيه2.
94- فصل شبهة للقدرية في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} 1 ولهم في الآية تعلقان: أحدهما: أنه نسب المشيئة إليهم في الإيمان والكفر. والثاني: أنه خيرهم بين الإيمان والكفر2. ولنا على هذا جوابان: أحدهما: روي عن ابن عباس أنه قال: "من شاء الله فليؤمن ومن شاء الله فليكفر"3. والجواب الثاني: أن نسبة المشيئة إليهم لا يدل على أنها خلق لهم بل الله خالق لهم ولمشيئتهم، ومشيئتهم متعلقة بمشيئته4، لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5. وأما قولهم إن الله خيرهم بين الإيمان والكفر فهذا جهل منهم بصيغة الأمر وحكمته. فيقال لهم: لو كان هذا تخييراً من الله لهم لم يعذبهم على الكفر ولم يذموا عليه كما لا يعذبون ولا يذمون على التكفير بالإطعام أو الكسوة أو العتق لما خيرهم الله بذلك6.
وأما قولهم: إن الله خيرهم بين الإيمان والكفر فهذا جهل منهم بصيغة الأمر وحكمته. فيقال لهم: لو كان هذا تخييراً من اله لهم لم يعذبهم على الكفر ولم يذموا عليه كما لا يعذبون ولا يذمون على التكفير بالإطعام أو الكسوة أو العتق لما خيرهم الله بذلك1. ويقال لهم2 المراد بهذا الأمر التهديد لا التخيير3. فأجاب القدري عن هذا وقال: أما قول المستدل إنه تهديد فيدل على أن الكفر فعلهم، إذ لو لم يكن فعلاً لهم لما تهددهم به. والجواب أن يقال: إنه تهديد بهذا كما يهددهم بقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ4 بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 5 ولم يخيرهم بالعمل وإنما توعدهم على العمل بغير بطاعة. ومثل ذلك قوله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ6 قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} 7 الآية. وكذلك توعدهم في هذه الآية8 بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ، فأضاف إليهم الإيمان والكفر لأنهما كسب لهم ومحل لخلق الله ذلك فيهم، كما أضاف الأفعال إلى الأرض والفلك لأنها محل لخلق الله ذلك فيها. ثم قال9: وأما تعليق مشيئتهم بمشيئة الله فإنما علق مشيئتهم بمشيئته في الطاعات بقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1 0 وكذلك قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ} 1 بالمعاصي التي وقع فيها الخلاف2. والجواب: أن قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وإن كان مذكوراً عقب الطاعة إلا أنه مستقل بنفسه تعم مشيئته في الطاعة والمعصية، ولأن الله تعالى قال في آية أخرى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3 دل على أنه إذا لم يشأ الله ذكرهم4 له لم يذكروه. وروي أن غيلان القدري سأل عمر بن عبد العزيز عن قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 5. فقال له عمر بن عبد العزيز: إقرأ آخر السورة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . فقال غيلان: "قد كنت يا أمير المؤمنين أعمى فبصرتني وضالاً فهديتني"، فلما كان زمن هشام بن عبد الملك6 رجع إلى مقالته بالقدر، فقتله هشام ابن عبد الملك7. وقد روينا8 عن زيد بن أسلم أنه قال: "والله ما قالت القدرية كما قال الله ولا كما قالت الملائكة - إلى أن قال - قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} "9، وهذا تصريح منه بأن الله شاء من العباد ما وقع منهم من طاعة ومعصية.
وروى الربيع1 أن الشافعي - رحمه الله - سمع قوماً يتجادلون في القدر فقال الشافعي: أخبر الله أن المشيئة له دون خلقه، والمشيئة إرادة الله، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} 2. وروي في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يفتح آخر الزمان باب من القدر لا يسده شيء، يكفيكم منه أن تقولوا: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3 "4. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً وخلق فرعون في بطن أمه كافراً"5.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ1 الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2، قال: "هم الكفار الذين خلقهم الله للنار وخلق النار لهم فزالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة"3. وروى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت داعياً ومبلغاً وليس إلي من الهدى شيء وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء" 4.
95- فصل روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما هلكت أمة قط إلا بالشرك بالله، وما أشركت بالله حتى يكون بدو شركها التكذيب بالقدر"1. وروي عن عمرو بن شعيب قال: "كنت عند سعيد بن المسيب فجاءه رجل فقال: إن الناس يقولون إن الله قدر كل شيء ما خلا الأعمال، قال: فغضب غضباً لم يغضب مثله، حتى هم بالقيام ثم قال: فعلوها ويحهم لو يعلمون. أما إني قد سمعت فيهم حديثاً كفاهم شراً، قلت: وماذا2 يا أبا محمد رحمك الله قال: حدثني رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في أمتي قوم يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون قال: قلت: يقولون ماذا يا رسول الله، قال: يقولون: الخير من الله والشر من إبليس، ويقرأون على ذلك كتاب الله ويكفرون بالله وبالقرآن بعد الإيمان والمعرفة، فما تلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء، ثم يكون المسخ فيهم عاماً3 قردة وخنازير، ثم يكن الخسف قل من ينجو منهم، المؤمن يومئذ
قليل فرحه شديد غمه، ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بكينا لبكائه قيل يا رسول الله: ما هذا البكاء، قال رحمة لهم الأشقياء، إن فيهم المجتهد وفيهم المتعبد وليسوا بأول من سبق إلى هذا القول وضاق بحمله ذرعاً. إن عامة من هلك من بني إسرائيل هلك بالتكذيب بالقدر، قيل يا رسول الله: فما الإيمان بالقدر؟، قال: أن تؤمن بالله وحده وتؤمن بالجنة والنار، وتعلم أن الله خلقهما قبل خلق الخلق، ثم خلق الخلق لهما، ثم جعل من شاء منهم للجنة، وجعل من شاء منهم للنار، وكل من يعمل على أمر قد فرغ منه وصائر لما خلق له"1. وروي أن عيسى بن مريم لقي إبليس فقال له عيسى: "أما علمت ألا يصيبك إلا ما قدر لك، فقال إبليس: فأوف2 بذروة هذا الجبل فترد منه، فقال: إن العبد لا يبتلي ربه ولكن الله يبتلي عبده فخصمه"3. روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قد مر رجل4 بمكة في أول الإسلام وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذا الريح، فأبصر سفهاء من الناس ينادون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: مجنون، فقال: لو لقيت هذا الرجل، فلقيه فقال: يا محمد إني رجل إذا رقيت من هذه الريح يشفي الله على يدي
من شاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله نحمده ونستعينه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً1 عبده ورسوله أما بعد: فقال: أعد علي هؤلاء الكلمات فأعادهن، فقال: لقد سمعت قول السحرة وقول الكهنة وقول الشعراء وما سمعت مثل كلمات هؤلاء، ولقد بلغت قاموس البحر2 أرني يدك لأبايعك على الإسلام قال: وعلى قومك، قال: وعلى قومي " أخرجه مسلم في صحيحه3. روى حيان بن عبيد الله التميمي عن أبيه4 قال: "شهدت عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - وقد أدخل عليه غيلان، فقال: ويحك يا غيلان أراني أُبَلَّغُ عنك (ويحك يا غيلان أراني أُبلغ عنك، ويحك يا غيلان أراني أبلغ عنك) 5 أحقاً ما ابلغ عنك، فسكت، فقال: هات فإنك آمن فإن يكن الذي تدعو الناس إليه حقاً فأحق من دعى إلى الله الناس نحن، فسكت طويلاً، فقال له عمر: تكلم فإنك آمن وأمره أن يجلس فجلس فتكلم بلسان ذلق، فقال: إن الله لا يوصف إلا بالعدل، ولم يكلف نفساً إلا ما آتاها، ولا يكلف6 الله المسافر صلاة المقيم، ولا يكلف الله المريض عمل الصحيح، ولم يكلف الله إلا ما جعل إليه السبيل وأعطاهم المشيئة فقال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} وقال: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} . فلما فرغ من كلام كثير قال له عمر في آخر كلامه: يا غيلان ما تقول في قول الله تعالى: {يس7
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} . أنت تزعم يا غيلان -كلاماً سقط من الكتاب1- فأسكت غيلان لا يجيبه، فقال: ما منعك أن تتكلم وقد جعلت لك الأمان، فقال غيلان: أستغفر الله وأتوب إليه يا أمير المؤمنين، ادع الله لي بالمغفرة، فقال عمر: اللهم إن كان عبدك صدقك فوفقه وسدده، وإن كان كاذباً أعطاني بلسانه ما ليس في قلبه بعد أن نصفته وجعلت له الأمان فسلط عليه من يمثل به2، فلم يتكلم زمن عمر، فلما كان يزيد بن عبد الملك لا يهتم بهذا3 ولا ينظر فيه فتكلم غيلان، فلما ولي هشام بن عبد الملك تكلم وأرسل إليه فجاء، فقال له: أليس قد كنت عاهدت الله لعمر ألا تتكلم بشيء من هذا أبداً؟، قال: أقلني فوالله لا أعوده، فقال: لا أقالني الله إن أقلتك، هل تقرأ فاتحة الكتاب؟ قال: نعم: قال: اقرأ، فقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فقال: قف على ما استعنته على أمر بيده لا يستطيعه أو على أمر بيدك؟ اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه4 فحلت به دعوة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فبلغ إلى عبادة بن نُسي5 ما فعل هشام مع غيلان فقال عبادة: أصاب فيه والله
القضية والسنة، والأكثرين إليه ولأحسن رأيه"1. وكذلك رجاء بن حيوة2 كتب إلى هشام بن عبد الملك: "بلغني يا أمير المؤمنين إنه وقع في نفسك شيء من قبل3 غيلان وصالح4 فوالله لقتلهما أفضل من القتل5 في الروم والترك6". عن حكيم بن عمير7 قال: قيل لعمر بن عبد العزيز إن قوماً ينكرون من القدرشيئاً، فقال عمر - رضي الله عنه -: "بينوا لهم وارفقوا بهم حتى يرجعوا، فقال قائل: هيهات، هيهات يا أمير المؤمنين لقد اتخذوه ديناً، يدعون الناس إليه، ففزع لها عمر فقال: أولئك أهل أن تُسَل ألسنتهم من أقفيتهم سلاً، هل طار ذباب بين السماء والأرض إلا بمقدار"8. روي أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: يا أبا الحسن ما تقول في القدر؟ فقال: "طريق مظلم لا تسلكه"، فقال له: ما تقول في القدر؟ قال: بحر عميق فلا تلجه، قال: ما تقول في القدر؟ قال: "سر الله فلا تكلفه"9.
وقال طاووس لرجل: "إن القدر سر الله عزوجل فلا تدخلن فيه". ولقد سمعت أبا الدرداء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام لما خرج من عند فرعون متغير الوجه، استقبله ملك من خزان النار وهو يقلب كفيه متعجباً لما قال له الروح الأمين: إن ربك عزوجل أرسلك إلى فرعون مع أنه قد طبع على قلبه فلا يؤمن1، قال جبريل2: فدعائي ما هو؟ قال: أمض لما أمرت، قال: صدقت ثم قال: يا موسى نحن اثنا عشر ملكاً من خزان النار قد جهدنا أن نسأل في هذا الأمر، فأوحى الله إلينا أن القدر سر الله فلا تدخلوا فيه"3. وفي هذا كله إبطال لما أورد هذا القدري وبيان لمن نور الله بصيرته.
96- فصل قد ذكرنا أن الله سبحانه يوصف بأنه متكلم1.
وقالت الجهمية والمعتزلة والقدرية: لايوصف الله بأنه متكلم1. ودليلنا قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 2، فأخبر الله تعالى أنه كلم موسى، وأتى بالمصدر توكيداً ليدل أنه كلمه بغير رسول ولا ترجمان، لأن الإنسان إذا قال: ضربت زيداً جاز أن يكون ضربه بنفسه، وجاز أن يكون ضربه غيره بأمره له، فإذا قال: ضربت زيداً ضرباً، كان ذلك خبراً عن ضربه له بنفسه. ويدل على ما قلنا ما أخبر الله سبحانه عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين كسر أصنام قومه – إلى قوله3 - {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُون فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} فيما قال إبراهيم فقال بعضهم لبعض {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُون ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} يقول رجعوا إلى أمرهم الأول4 بالشرك وقالوا له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ} 5. والنطق عبارة عن الكلام، فدل على أن الكلام غير مستحيل من الله، إذ لو كان مستحيلاً منه الكلام لكان دليل إبراهيم منقلباً عليهن ولكان للكفار إلى إبطال حجته دليل بأن يقولوا: فإن إلهك الذي تدعونا إليه لا يوصف بالكلام أيضاً.
دليل ثان يقال: من أنكر أن يكون الله متكلماً، فإنه ينكر تصور الرسول منه لأن معنى الرسول هو المبلغ لكلام المُرسِل إلى المرسَل إليه، فإذا قال الرسول: أرسلني إليكم من لا يتكلم كان1 كما لو قال أرسلني إليكم الجبل أو الماء. دليل ثالث: أن الخرس آفة ولا يجوز أن يوصف الله بالخرس، وإذا لم يوصف بالخرس تعين وصفه بالكلام لأنه ضد الخرس، كما أن الله سبحانه يوصف بالوجود لأن الوجود ضد العدم ولما لم يوصف بالعدم تعين وصفه الوجود. فإذا تقرر هذا فإن كلام الله هو القرآن، وهو هذه السور التي هي آيات لها أول وآخر، وهو القرآن المنزل بلسان العرب تكلم الله به بحروف لا كحروفنا وصوت يسمع لا كأصواتنا، وهو صفة لله قديم يقدمه غير مخلوق2.
مفقود
وقال جهم والمعتزلة والقدرية: هو مخلوق1 ولا يتصور على أصلهم2 أن ما يتلونه من القرآن يصفونه بأنه مخلوق لله كسائر مخلوقاته من السماء والأرض، وهما من الأجسام، بل هو خلق لهم كخلقهم لجميع أقوالهم التي ينطقون بها من الشعر والنثر وسائر الكلام. وقالت الكلابية........................................................................................
والأشعرية1: كلام الله الذي ليس بمخلوق هو معنى قائم بنفسه لا يفارق ذاته، وهذا القرآن المتلو المسموع عبارة وحكاية عن الكلام القائم بنفسه، وكذلك القول عندهم في كلام البشر هو معنى قائم بذات المتكلم وهذه الحروف والأصوات المسموعة منهم عبارة عن المعنى القائم بالذات لا تسمى كلاماً حقيقة بل مجازاً أو توسعاً. والأشعرية موافقة للمعتزلة في أن هذا القرآن المتلو المسموع مخلوق2.
وزعم أن هذا القرآن كلام الله ووقفوا، وقالوا: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق وهم الواقفة1. وقد كان سبق لي قبل هذا الاستدلال بكتاب مختصر في هذه الرسالة في الرد على الأشعرية والقدرية2، وأنا أعيد من ذلك ما يتضح به الحق لمن هداه الله إلى الرشد.
وأقول: الدليل على أن القرآن غير مخلوق، وأن الله تكلم بالحروف قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1. فأخبر سبحانه أنه خلق الأشياء بقوله تعالى {كُن} وهما حرفان، فلو كان قوله وهو {كُن} مخلوقاً لاقتضى أن يكون مخلوقاً بـ {كُن} أخرى، وكذا2 {كُن} الثانية تقتضي أن تكون مخلوقة بـ {كُن} إلى ما لا نهاية له. وهذا يؤدي إلى المحال3. ومن الدليل على ما ذكرناه قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ} 4 والأمر هو القرآن بدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} 5، ففرق سبحانه بين الخلق والأمر. فلو كان القرآن مخلوقاً لكان خلقاً، لأن المخلوق هو الخلق، والخلق هو المخلوق ولكان المعنى في الآية ألا له الخلق والخلق، وهذا خلف في الكلام6. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَان} َ7، والبيان هو القرآن8 بدليل قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} 9، فأخبر الله أنه خلق الإنسان وأنه علم البيان، ولم يصفه بأنه خلقه،
وقد ذكر الله الإنسان في القرآن في ثماني عشر آية وإجرائه خلقه، وذكر القرآن في أربع وخمسين آية ولم يذكر في شيء أنه خلقه. ومن الدليل لنا قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 1 وروى المفسرون عن ابن عباس أنه قال: "تأويله غير مخلوق"2. ومن الدليل على ما ذكرناه قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 3 وما كان من الله فهو غير مخلوق4. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 5. فأخبر الله سبحانه أن كلماته لا تنفذ والمخلوقات تنفذ وتفنى، وتصديق ذلك ما روى في الصحاح أن الله يقول حين يفنى الخلق يقول الله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجيب الله بنفسه {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 6.
وسأل رجال أبا الهذيل العلاف المعتزلي عن القرآن، فقال: مخلوق، فقال له: يموت أو يخلد، قال: لا، بل يموت، قيل له فمتى يموت القرآن، قال: إذا مات من يتلوه فهو موته، قيل: فقد أخبر الله سبحانه أه يقول بعد أهل الدنيا: لمن الملك اليوم، وهذا هو القرآن، فقال: لا أدري وبهت1. ومن الدليل على مما قلناه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ومنه بدأ وإليه يعو ومن قال إنه مخلوق فهو كافر"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "يا معاذ العرش والكرسي وحملتهما والسموات السبع وسكانها والأرضون وسكانها إلى الثرى الأسفل إلى الريح الهفافة إلى ما انتهت إليه لمخلوق ما خلا القرآن فهو كلام الله"3.
. وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي1 أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يخطب على المنبر ويقول: "إن هذا القرآن كلام الله فلا أعرفن ما عظمتموه على أهوائكم، فإن الإسلام قد خضعت له رقاب الناس فدخلوه طوعاً وكرهاً قود وضعت لهم السنن فاتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم اعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه"2. وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال في التحكيم لما أنكر عليه فيه "إني لم أحكم مخلوقاً وإني حكمت القرآن"3. وهذا كان منه بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليه أحد قوله بل قال شاعره: أيها الحاضرون إن علياً لم يحكم في دينه مخلوقاً ... إنما حكم القرآن وقدكان بتحكيمه القرآن حقيقاً4 وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: سئل علي بن الحسين عن القرآن؟ فقال: "ليس بخالق ولا مخلوق"5. وروي عن عكرمة قال: كان ابن عباس - رضي الله عنه - في جنازة فلما وضع الرجل في لحده قام رجال فقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال: "مه القرآن منه"6.
وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: "القرآن كلام الله غير مخلوق"1. وروي عن حنظلة بن خويلد العنزي2 أن قال: أخذ عبد الله بن مسعود بيدي فلما أشرفنا على السدة3 إذ نظر إلى السوق فقال: "اللهم إني أسألك خبرها وخير أهلها وأعوذ بك من شرها وشر أهلها"، فمر برجل يحلف بسورة من القرآن أو آية، فغمز عبد الله بيدي فقال: "أتراه مكفراً أما إن كل آية فيها يمين"4. والكفارات لا تجب إذا حلف بمخلوق. وقال عمرو بن دينار5: "أدركت تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون من قال القرآن مخلوق فهو كافر"6
وروي عن عمرو بن دينار أنه قال: "أدركت مشائخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود"1. وكتب ملك الروم إلى أبي جعفر المنصور2 يسأله عن أشياء فسأله عن لا إله إلا الله أهي خالقة أم مخلوقة، فكتب إليه أبو جعفر: "ليست خالقة ولا مخلوقة ولكنها كلام اللهعزوجل "3. وسئل جعفر بن محمد عن القرآن أخالق هو أو مخلوق؟ فقال: "لو كان خالقاً لعبد، ولو كان مخلوقاً لنفد هو كلام الله"4. وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: "سمعت الناس منذ تسعة وأربعين عاماً يقولون من قال القرآن مخلوق فامرأته تطلق5 بتة، قيل له: ولم ذلك؟، قال: لأن امرأته مسلمة والمسلمة لا تكون تحت كافر"6. ولقد لقي ابن المبارك جماعة من التابعين مثل: سليمان التيمي7 وحميد الطويل8 وغيرهما، ولم يكن وقته رجل مثله وأكثر طلباً لعلم وأجمعه
له ولعله يروي عن ألف شيخ من أتباع التابعين1. وروى الربيع عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال: "القرآن كلام الله غير مخلوق" وقال لحفص الفرد2 حين قال بخلق القرآن: "كفرت"3. قال مالك: من قال بخلق القرآن فهو زنديق يقتل"4. وقال الليث بن سعد: "من قال القرآن مخلوق فهو كافر5 ومن لم يقل هو كافر فهو كافر". ولو ذهبت إلى ذكر من قال بهذا من التابعين والعلماء الذين لا يستوحش من ذكرهم لطال الكتاب6، وفيما ذكرته مقنع لمن طلب القدوة بأهل الحديث. ومن الدليل على ما قلناه أن يقال لهم: لو كان القرآن مخلوقاً لم يخل إما أن تقولوا إنه خلقه في غير محل، أو خلقه في نفسه، أو خلقه في غيره. فبطل أن يكون خلقه في غير محل لأنه صفة والصفة لا تقوم بتفسها، وبطل أن يكون خلقه في نفسه إذ يستحيل أن تكون نفسه سبحانه محلاً للمخلوقات. وبطل أن يكون خلقه في غيره إذ لو كان كذلك لوجب أن يشق لذلك الجسم الذي خلق فيه الكلام اسم من أخص أوصاف الكلام اللازمة له
لنفسه وأخص الكلام1 أنه كلام ذلك الجسم، ويكون ذلك الجسم هو القائل {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} وإذا بطل ذلك كله ثبت أنه غير مخلوق، بل هو صفة لذات الله سبحانه2.
97- فصل إذا تقرر ما ذكرنا أن القرآن غير مخلوق، وأن القرآن عند أصحاب الحديث هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن العربي السور والآيات المتلو باللسان والمسموع بالآذان المعقول بالأذهان المحفوظ في الصدور المكتوب بالمصاحف بالسطور له أول وآخر وبعض، فمن قال بخلقه فهو كافر كفراً يخرجه عن الملة، لما تقدم ذكره في الفصل قبل هذا، وقد وافقنا الأشعرية على أن القرآن غير مخلوق، ومن قال بخلقه فهو كافر، وردوا على قوله المعتزلة والقدرية إنه مخلوق1. إلا أن الأشعرية قالوا: كلام الله الحقيقي هو معنى قائم في نفسه لا يفارقه، لا يدخل كلامه النظم والتأليف والتعاقب، ولا يكون بحرف وصوت ولا يتكلم الله بالعربية ولا بغيرها من اللغات، وليس له أول ولا آخر ولا بعض، بل هو شيء واحد لم ينزله الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا على أحد من الأنبياء، ولا يتلى ولا يكتب ولم يسمعه أحد إلا موسى عليه السلام2، وهذه السور والآيات عبارة وحكاية عن كلام الله وتسمى قرآناً،
وكذلك التوراة عبارة عن كلام الله بلغه موسى وقومه، والإنجيل عبارة عن كلام الله بلغه عيسى قومه12 فادعوا أن كلام الله غير القرآن وأن القرآن غير كلام الله3. فقولهم إن القرآن غير مخلوق تلاعب وخلف من الكلام. والدليل على أن هذا القرآن يسمى كلام الله قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 4 ولا خلاف أنه أراد حتى يسمع منك هذا القرآن فإن قبله ودخل في الإسلام فهو منكم، وإلا فأبلغه مأمنه.
ومن الدليل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 1. ومعلوم أن المشركين لا سبيل لهم إلى سماع ما في نفس الله من الكلام ولا إلى تبديله. فتقرر بهذا أن المراد بهذا كله هو القرآن المتلو المسموع. ويدل على ما قلناه قوله تعالى {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوه} 2، والمراد بكلام اله في هذه الآية التوراة، ويدل على هذا أن المتلو يسمى كلام الله قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} . الآية إلى قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} 3، أي لا تغيير لما وعد الله أولياءه من كريم ثوابه. وأما الدليل على أن هذا المتلو يسمى قرآناُ فقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} 4. فالذي تحدى الله العرب أن يأتو بمثله وجعله معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم واخبر أنهم لا يأتون بمثله هو هذا القرآن والسور والآيات، فأما ما في نفس الباري من الكلام فلا سبيل للعرب، ولا لأحد من الخلق إلى سماعه، ولا إلى معارضته. ويدل على ما قلنا قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ} 5. فقال: {هَذَا الْقُرْآنُ} وهذه إشارة إلى شيء موجود مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما في نفس الباري ليس بموجود معه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنذرهم بما يتلى في هذه السور والآيات. وأيضاً فإنه قال: {وَمَنْ بَلَغ} وأراد من بلغه القرآن من غاب عني أو حدث
بعدي فأضمر الهاء والعرب تضمر الهاء في الصلات مع "من والذي وما" فتقول: من أكرمت زيداً، أي من أكرمته زيداً، والذي أكلت خبزاً، أي الذي اكلته خبزاً، وما أخذت مالك، الذي أخذته مالك. ويدل على ما قلنا قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ1 فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} 2. والذي سمعته الجن هو القرآن والسور والآيات دون ما في نفس الباري، ويدل على ما فقلناه أن المشركين لما سمعوا من النبي صلى اله عليه وسلم القرآن سمعوه شعراً، وسموا النبي صلى الله عليه وسلم شاعراً، فأكذبهم عزوجل فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} 3، فسمى الله4 ما سماه المشركون شعراً قرآناً وذكراً، هو هذه السورة والآيات. ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} 5، والاستماع لا يكون إلا إلى هذه السور التي هي حروف ولا يسمع إلا الصوت أيضاً، وقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 6 {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} 7. وهذا يدل على أن القرآن هو هذه السور وأنه متبعض، لأنه قال: {مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ، بدليل قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} 8. وعند الأشعرية، أن القرآن لا تتبعض9. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 1، فسماه عربياً، وفسره ابن عباس - رضي الله عنه - غير مخلوق2. وعند الأشعرية أن القرآن العربي مخلوق3. وقال في آية أخرى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 4، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 5. وعند الأشعري أن الله ما أنزل على نبيه القرآن، وإنما عليه مفهوم القرآن ومعنى القرآن6. والدليل على بطلان قوله قو الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} 7 وقوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَان} 8. فذكر الله أنه أنزل القرآن والتوراة والإنجيل، ولم يقل أنزل مفهوم القرآن ولا معناه. ويدل على أن القرآن حروف قول الله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ} 1، {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} 2، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين} 3، {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 4. فذكر الحروف المتصلة المقطعة في أول السور، وأخبر أنه الكتاب والقرآن وأنها منزلة. وهذا كله يبطل قول الأشعري ومن قال به. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، أما إني لا أقول الم حرف، ولكن الألف حرف واللام حرف واليم حرف" 5. وهذا نص في موضع الخلاف. والدليل على إثبات الصوت قول الله لموسى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} 6. والله سبحانه كلمه من وراء حجاب ولا ترجمان بينهما واستماع البشر في الحقيقة لا يقع إلا للصوت7، ومن زعم أن غير الصوت يجوز في المعقول أن يسمعه من كان على هذه8 البنية إلى دليل. وقد روى الزهري9 عن أبي بكر
بن عبد الرحمن بن الحارث1 عن جزء2 بن جابر3 عن كعب الأحبار4 أنه قال: "لما كلم الله موسى كلمه بالألسنة كلها قبل لسانه فطفق موسى يقول والله يا رب ما أفقه هذا حتى كلمه بلسانه ففهمه"5. وروى وهب بن منبه أنه قال: "لما سمع موسى كلام الله أنس بالصوت فقال: يا رب أسمع ولا أرى مكانك فأين أنت؟، فقال: أنا فوقك وعن يمينك وعن شمالك وأمامك وخلفك ومحيط بكل شيء"6. وقال: "إن قوم موسى كانوا يحدقون النظر إلى أذن موسى عليه الصلاة والسلام فقال لهم موسى: ما لكم تنظرون إلى أذني، فقالوا ننظر إلى أذن سمعت كلام الله"7. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غرلاً8
بهماً1 فيناديهم الله بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان"2. وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجداً لله"3. وحد الصوت عندنا: هو ما يتحقق سماعه، فكل ما يتحقق سماعه صوت، وما لا يتأتى سماعه فليس بصوت. ويدل على ما قلناه ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى4 قرأ سورة طه ويس قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لأمة ينزل عليهم، وطوبى لأجواف تحمل هذا،
وطوبى لألسنة تنطق بهذا "1، ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين، وقد ذكره غيره من المصنفين. وهذا يدل على فساد قول الأشعرية أن كلام الله الحقيقة2 ليس بسور3 وأنه لا ينطق بالحروف وأن الأجواف لا تحمله ولا تنطق به الألسن. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخراب" 4. وهذا يدل على أن القرآن محفوظ بدليل قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم} 5. ويدل على أنه مكتوب قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 6،
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} 1، وقوله تعالى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} 2. وروي أن النبي صلى الله عليه سلم قال: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر"3. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو"4، وأراد به السفر بالمصاحف. ويدل على ما قلناه أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت صادقاً لكلمت الله، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} 5.
قال مجاهد: "الأنبياء على ثلاثة أصناف: نبي أوحي إليه بقلبه فحفظ عن الله، وداود عليه السلام إنما حفظ الوحي بقلبه ثم زبره بكتبه ومعنى زبره أي أتقنه. ونبي كلمه الله من وراء حجاب وهو موسى عليه السلام. ونبي أرسل الله إليه رسولاً وهو جبريل فيوحي بإذنه ما يشاء وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان جبريل يأتي إلى بعض الأنبياء في منامه وكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة كما يأتي الرجل صاحبه"1. وموضع الدليل لنا من هذه الآية: لو كان كلام اله لا يؤخذ إلا مخلوقاً لم يكن للنفي في2 هذه المعاني معنى3. ويقال للأشعري إذا قرأ آية من القرآن هذا قول الله أم قول البشر؟ فإن قال: هو قول الله فقد رجع إلى ما عليه السلف وأهل الحق. وإن قال: بل هو قول البشر4، قلنا عن ذلك أجوبة:
أحدها: أن يقال له: فهذه أقوال الوليد بن المغيرة فيما أخبر الله عنه بقوله: {إِنْ هَذَا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ} ، فقال الله متوعداً له على قوله هذا {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 1. فلو كان قوله بذلك صحيحاً لما توعد2 الله عليه. الجواب الثاني: أن يقال له: فمن البشر الذي هذا قوله، فليس أحد يدعي أن هذا قوله بل الكل منهم يقولون هذا قول الله، وإذا سمعوا القارئ بهذا الكلام قالوا صدق الله، من البشر الذي يقول {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} . والجواب الثالث: أن يقال له: إذا كان هذا من قول البشر فأت بسورة من مثله، وإن قال: بل هو كلام البشر عبارة عن كلام الله والمفهوم منه كلام الله قيل له: فمن البشر الذي سمع كلام الله القديم القائم بنفس الله فعبر عنه بهذا الكلام، فيضاف هذا الكلام إليه، ويقال هذا عبارة فلان فإن أحداً لا يدعي أنه عبارته. فإن قال هو عبارتي عن كلام الله3. قلنا له فحقيقة المعبر أن يسمع كلاماً فيعبر عنه، وأنت لم تسمع كلام الله حقيقة، وإنما سمعت قول معلمك فعبرت عن قول معلمك ومعلمك سمع قول معلمهن فصرت معبراً عن عبارة معلمك إلى أن يتناهى4 إلى الصحابة - رضي الله عنهم - وهو لم يسمعوا قول الله حقيقة، وإنما سمعوا عبارة النبي صلى الله عليه وسلم عن عبارة جبريل ولا أدري عما عبر عنه جبريل5.
فقول الأشعري هذا لا يستقيم أنه عبارة عن كلام الله. وقول الأشعري: إن المفهوم من هذا الكلام كلام الله فغير صحيح لأن مفهوم كل إنسان معه ولا سبيل للخلق1 إلى العلم بفهم ما في نفس الباري سبحانه، قال الله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك} 2. ولأن ما في النفس لا يسمى كلاماً حقيقة وإنما يسمى حديث نفس3. بدليل: أن رجلاً لو حلف بطلاق امرأته أن لا يتكلم فحدث نفسه بشيء أو نظم في نفسه كلاماً لم تطلق امرأته بإجماع الفقهاء، فدل ذلك على أن حقيقة الكلام هو المسموع المفهوم، ولا يكون ذلك إلا بحروف وصوت. ويقال الأشعري إذا قرأ آية ن كتاب الله أهذا كلام أم كلامان4 فإن قال بل
كلام، قيل له: أهو كلام الله أم كلامك؟ فإن قال: كلام الله رجع إلى ما عليه أهل الحق، وإن قال بل كلامي بان كفره لأنه خلاف المسلمين، وإن قال: كلامي أعبر به عن كلام الله. قلنا له: فكلام الله قديم1 وكلامك محدث، فميزنا لنا كلامك لنوقع عيه الحدث2 عن كلام الله لنسميه قديماً، ولا سبيل له إلى ذلك بالجملة. ويقال للأشعري: ما القرآن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وادعى أنه كلام ربه، فقال: "من ينصرني حتى أبلغ كلام ربي"3، وجعله الله معجزة لنبي صلى الله عليه وسلم ودليلاً على صحة نبوته، أهو كلام الله القائم بذاته أم هو هذه السور والآيات؟. فإن قال هو هذه السور والآيات رجع إلى الحق وإلى ما عليه كافة المسلمين، وإن قال: بل هو المعنى القائم بذات الله، قيل له: فإن هذا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ولا سمعه عندك4، فكيف يكون معجزة له وكان للعرب أن يقولوا: إن هذا الكلام القائم بذات الله لم نسمعه فكيف تأتي بسورة من مثله، وإنما نأتي بمثل ما سمعناه5.
ويقال للأشعري: قد أقررت بأن لله سمعاً وبصراً وعلماً وقدرة وحياة وكلاماً لتنفي عنه ضد هذه الصفات، فلما كان السمع الذي أثبته لله هو السمع المعهود في لغة العرب، وهو إدراك المسموعات وكذلك ضجه المنفي عنه هو المعهود في كلام العرب وهو الصمم، وكذلك البصر الذي أثبته لله هو المعهود في كلام العرب وهو إدراك المبصرات، والعلم هو إدراك
المعلومات، وجب أن يكون الكلام لله هو الكلام المعهود في كلام العرب، وهو ما كان بحرف وصوت، كما أن ضده المنفي وهو الخرس المعهود عندهم، فأما إثبات كلام لا يفهم ولا يعلم فمحال. ولا يلزم على ما قلنا إذا أثبتنا لله كلاماً بحرف وصوت أن يثبت له آلة الكلام، لأنه لا يتأتى الكلام بذلك إلا من له آلة الكلام، لأنا قد أثبتنا نحن والأشعري لله السمع والبصر والقدرة وإن لم نصفه بأن له آلة ذلك، وعلى أن الله سبحانه قد أخبر أن السموات والأرض قالتا {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1، وأخبر أن جهنم تقول {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} 2 وأخبر أن الجوارح تنطق يوم القيامة بالشهادة3. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذراع المشوية أخبرته أنها مسمومة4.
وشيء من هذا كله لا يوصف بأن له آلة الكلام فبطل قوله بذلك. وهذه أخبار رويت عن السلف: قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي - رحمه الله - يقول: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي"1. وقال أحمد بن حنبل: "اللفظية جهمية قال الله {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} ممن يسمع"2. قال ابن جرير3: "سمعت جماعة يحكون عن أحمد بن حنبل أنه قال: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع"4. وسئل إسحاق بن راهويه5 عن الرجل يقول: "القرآن ليس بمخلوق ولكن قراءتي إياه مخلوقة لأني أحكيه وكلامي مخلوق، فقال إسحاق: "هذه بدعة لا يقر على هذا حتى يرجع عنه"6. قال أبو عبيد القاسم بن سلام7: "كلام الله ليس بداخل في شيء من كلام الناس ولا مختلط به ولو كان يشبه8 في شيء من الحالات لكان القرآن
يقطع الصلاة لأن كل متكلم في صلاته قاطع لها، ولو قال رجل: والله لا تكلمت اليوم بشيء وقرأ القرآن لم يحنث"1. وروي أن رجلاً سأل محمد بن إسماعيل البخاري فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في القرآن؟، فقال: "القرآن كلام الله غير مخلوق"، فقال: إن الناس يزعمون أنك تقول ليس في المصحف قرآن ولا في صدور الناس، فقال: "أستغفر الله أن يشهد علي بما لم يسمع مني أني أقول كما قال الله تعالى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} أقول في المصاحف قرآن، وفي صدور الناس2 قرآن، فمن قال: غير هذا فيستتاب فإن تاب وإلا فسبيله سبيل الكفر"3. وروي عن محمد بن جرير أنه قال: "القرآن كلام الله غير مخلوق كيف كتب وتلي وفي أي موضع وجد في اللوح المحفوظ أو في ألواح صبيان الكتاتيب مرسوماً بحجر أو في رق أو في4 القلب حفظ، فمن قال غير هذا أو ادعى أن قرآناً في الأرض أو في السماء غير الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا أو اعتقد ذلك بقلبه فهو بالله كافر حلال الدم برئ من الله والله برئ منه قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ، وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} فأخبر سبحانه أنه في اللوح المحفوظ وأنه مسموع من لسان محمد صلى الله عليه وسلم وهو قرآن واحد"5. فهؤلاء الأئمة نقلة الأخبار والاثار، الذين شهروا بالعلم والفضل، ولو تتبعت ذكر من قال بهذا أو صرح بكفر من قال بخلق القرآن وبكفر من
قال بأن هذا المتلو عبارة عن القرآن لطال الكتاب، وفيمن ذكرته منهم مقنع1.
وسئل أحمد بن حنبل عمن قال القرآن كلام الله ووقفوا وقالوا لا نقول إنه مخلوق ولا غير مخلوق، فقال: "هم شر ممن قال القرآن مخلوق لأنهم شكوا في دينهم"1 ثم قال: "لولا ما وقع فيه الناس كان يسعهم السكوت ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا لأي شيء لا يتكلمون"2. ومعنى قوله: لما أحدث الناس الكفر بالقول بحلق القرآن لم يسع العلماء إلا الرد عليهم والتصريح بالقول بضد قولهم بأنه غير مخلوق بلا شك ولا توقف3. فمن وقف كان شاكاً في دينه.
وقال هارون بن أبي علقمة1: سمعت عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون2 وغيره من علماء المدينة يقولون: "من وقف في القرآن بالشك فهو كافر وهو مثل من قال بخلق القرآن"3. وقال محمد بن مسلم4، قال أبو مصعب5: "من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال لا أدري أنه مخلوق أو غير مخلوق فهو مثله وشر منه"، فذكرت له رجلاً كان يظهر مذهب مالك فقلت إنه أظهر الوقف، فقال: "لعنه الله ينتحل مذهبه وهو بريء منه"، فذكرت ذلك لأحمد بن حنبل فسر به وأعجبه6.
98- فصل وقد لبست القدرية على من لا يعرف الأصول واستدلوا على خلق القرآن بقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} 1 فقالوا: نقول إن القرآن محدث يفنى ويذهب كما تفنى سائر المحدثات، ولا نقول إنه مخلوق لأن الخلق يقع على الكذب قال الله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ} 2 أي إلا كذب، وقال سبحانه: {إِنْ هَذَا إِلاّ خُلُقُ الأوَّلِينَ} 3 أي إلا كذب الأولين4. وهذا منهم تمويه على من لا خبرة له بمذهبهم ومعنى الحدث معنى الخلق عند المتكلمين، وقد ذكرت قبل هذا أن تحقيق مذهبهم وقولهم فيما سمع منهم5 من القرآن أنه خلق لهم كسائر كلامهم6. وأما استدلالهم بالآية قلنا عن ذلك أجوبة: أحدها: أن نقول: إنه لا يرد بالذكر هاهنا القرآن، لأن كل ذكر في القرآن أراد به القرآن فإنه معروف بالألف واللام أو ممدوح أو موصوف بأنه منزل ليفرق بينه وبين غيره بالذكر، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 7 وقال: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} 8. وقال: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} 9، وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاس} 1، وقال: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} 2، وقال {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} 3، فذكر الذكر في هذه الآية مُنَكَّراً4 إلا أنه مدحه بالبركة ووصفه بأنه منزل ليدل على أنه القرآن. وفي هذه الآية التي استدلوا بها ذكر منكر ولم يمدحه إلا وصفه بأنه منزل ليدل على أنه غير القرآن فيحمل على أحد معنيين: إما على النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله سماه ذكراً بقوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُم} 5، ويدل على هذا التأويل أنه قال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} فذكر أن الذكر يأتيهم، والذي يأتيهم بنفسه هو النبي صلى الله عليه وسلم في المواعظ والتخويف من كلامه لا من كلام الله6، ويدل على هذا أن قريشاً كانوا إذا سمعوا القرآن
. قسموا آراءهم فيه، ولم يقابلوه بالضحك1 واللعب. فدل على أن الذي ضحكوا منه ولعبوا هو ذكر غير القرآن2. والجواب الثاني أن يقال: لو سمعنا أنه أراد بالذكر هاهنا القرآن لم يجب كونه مخلوقاً لوصفه بالمحدث لأن المحدث ضد القديم، وقد أخبر الله سبحانه عن بعض المخلوقات أنه قديم بقوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 3، فلما جاز في4 المخلوقات ما سمى قديماً كان في القديم ما يسمى محدثاً ولا يكون مخلوقاً. والجواب الثالث: إن المحدث يقع في اللغة على الواضح الجلي، ولهذا تقول العرب: أحدث السَيْقَل5 السيف والمرآة إذا جلاهما، وقال جرير6: ضربت عند الأمام فاُرعشت ... يداك وقالوا محدث غير صارم7 أي جلي غير قاطع.
والجواب الرابع: أن المحدث قد يراد به المظهر ولا يراد به المخلوق بدليل ما أخبر الله عن الخضر أنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام: {فَلا1 تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} 2 يعني أظهر وأبدي لا أخلق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحدث من أمره شيئاً وإن مما أحدث الله أن لا تتكلموا في الصلاة "3.
ومن تمويه القدرية في الاستدلال على أن القرآن مخلوق أن قالوا: ق سمى الله القرآن أمراً بقوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} 1، وقال في آية أخرى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} 2، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 3. والمفعول والمقدور عبارة عن المخلوق4. والجواب أنه لم يرد بالأمر هاهنا قوله، وإنما أراد به ما أحدثه الله في الأرض من الأمور، وهو نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة زيد بن حارثة5، وعقوبته لأهل السبت من اليهود6 لأن العرب تسمي الشيء باسم سببه فلا مُكَوَنَ ولا مفعول إلا بأمر الله وهو قوله للشيء (كن فيكون) ، والفعل يسمى أمراً. قال الشاعر: فقلت لها أمري إلى الله كله ... وإني إليه في الإياب لراجع7 يريد فعلي وشأني، وهذا الأمر يجمع أموراً، والأمر من القول يجمع أوامر8. وهذا يدل على أن أمر الله الذي هو القول ليس بمخلوق قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ} 9 أي بقوله، فلو كان أمره يقوم بأمر غيره لأدى ذلك إلى ما لا يتناهى وذلك محال. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 10 والجعل عبارة عن
الخلق لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} 1. والجواب: أن الجعل في القرآن يعبر به عن الخلق، ويعبر به عن التسمية وهو المراد هاهنا قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} 2 أي سموهم، وذلك قوله تعالى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} 3 وأراد به سموه كفيلاً. وقد قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} 4 ولم يرد ما خلقها، وإنما أراد ما سماها، فبطل أن يكون كل جعل في القرآن عبارة عن الخلق5. واستدلوا بقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 6 والقرآن شيء فوجب أن يكون مخلوقاً7.
والجواب أن نقول: إن القرآن صفة لله سبحانه، وقد سمى الله نفسه شيئاً بقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} 1، فلما لم تكن ذات الله سبحانه داخلة في جملة المخلوقات، لم يكن القرآن الذي هو صفة له داخلاً في المخلوقات2. واستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 3، وقال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} 4، وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} 5، فلما سوى الله بين القرآن وبين الحديد والماء في الإنزال دل على أن حكم الجميع في الخلق واحد6. والجواب أن يقال: لا يمتنع أن يتفق الشيئان في الاسم لمعنى ويختلفان في الصفة لمعنى، ألا ترى أن الله سبحانه يوصف بالوجود والإنسان وغيره من الأجسام يوصف بالوجود وإن اختلفا في الخلق والجسمية7 وغيرهما، ويوصف الله أنه حي عالم قدير بصير سمين ويوصف الإنسان بذلك وإن اختلفا في الخلق والجسمية، ولم يكن الحديد والماء مخلوقين لكونهما
منزلين1 ولو جاز لهم ذلك لجاز لغيرهم أن يدعي أن القرآن جسم كالحديد والماء لاجتماع الجميع بالوصف بالإنزال2. استدلت القدرية والمعتزلة بقوله: لما كان القرآن حروفاً متغايرة يدخلها التعاقب والترتيب والتأليف، وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون من المتكلم ومن له آلة الكلام ومن كان بهذه الصفات لا يجوز أن يكون صفة لله فثبت أنه مخلوق3.
فضاق بالأشعري وابن كلاب النفس عن الجواب عن هذا، فوافقوهم أن هذا القرآن المتلو مخلوق كما قالوا، وادعوا أن هاهنا1 قرآناً قديماً يوصف بأنه كلام الله ينتفي عنه ضده2 وهو المعنى القائم بنفسه فهم قائلون بخلق القرآن الذي لا يعرف المعتزلة ولا غيرهم من المسلمين قرآناً غيره. وادعت الأشعرية قرآناً وكلاماً لله لا يعقل ولم يسبقهم إلى هذا القول أحد من أهل الملل والنحل فردهم على المعتزلة بخلق القرآن تمويه وتستر بقول أصحاب الحديث، وهو مذهب مسقف باطنه الاعتزال وظاهره التستر3. وأما الجواب عما أورده من الاستدلال فمن وجوه: أحدها: أن يقال لهم جميعاً: ما الدليل على أن الكلام إذا كان ذا تأليف وترتيب كان مخلوقاً، فإنهم لا يجدون عليه دليلاً من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من الإجماع ممن قبلهم من أهل العلم، فإن قالوا: لأنه4 بصفة كلام المخلوقين، قلنا لهم، فليس اجتماع الشيئين في صفة يدل على اجتماعها في جميع الصفات، فيلزمكم أن لا تصفوا الله بأنه متكلم لهذا المعنى5 كما قالت المعتزلة، ويلزم المعتزلة أن لا يصفوا الله بأنه موجود ولا شيء لأن ذلك صفات للمحدثات6.
والجواب الثاني أن يقال لهم: قد ورد الشرع بأن كلام الله مرتب، قوله تعالى {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} 1 وثم للترتيب في كلام العرب، ودليل العقل إذا خالف القرآن وجب تقديم دليل الكتاب على دليل العقل. والجواب الثالث: أن أزمان المخلوقات مترتبة شيء بعد شيء، وقد أخبر الله سبحانه أنه يقول لكل شيء إرادة منها (كن) فقال سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، فأخبر أنه قال لعيسى بعد خلقه لآدم (كن) فمن قال: إنه لم يقل لكل واحد منهما عند خلقه (كن) فقد رد على الله خبره. والجواب الرابع: أن يقال لهم إنما وقع الترتيب في القرآن ويسره الله على على ألسنتنا عن النطق بغير هذا الترتيب لقوله سبحانه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} 3
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} 1 ولا يقضي بأنه وقع مرتباً على هذا الترتيب من الله2، فلا يجوز لذلك أن نقول إنه مخلوق. وأما قولهم إن النطق بالحروف والأصوات لا يكون إلا ممن تكون له آلة الكلام، فغير صحيح. وقد بينا أن الكلام قد3 وجد ممن لا يوصف بآلة الكلام وهو السموات
والأرض وأعضاء بني آدم والذراع المشوية1، فبطل بذلك قولهم واستدلالهم. احتجت الأشعرية بأن قالوا: لما كان سمعه بلا انخراق أذن، وبصره بلا انفتاح حدقه، وعلمه بلا فكر وجب أن يكون كلامه بلا صوت ولا حرف2. والجواب: أن هذا جمع بغير معنى جامع، وعلى مقتضى دليلكم هذا أن يقال لما كان سمعه بلا انخراق أذن، وبصره بلا انفتاح حدقه، وجب أن يكون كلامه بلا جارحة3، وهكذا نقول4. احتجت الأشعرية بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} 5، وبقوله تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُم} 6، ويقول الرجل في نفسي كلام، فدل على أن ما في نفس الإنسان يسمى قولاً7.
والجواب عنه من وجوه: أحدها: أنا نعارضه بقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 1، وكذلك قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} 2، وكذلك قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِم} 3، فأخبر في هذه الآيات أنهم قالوا بألسنتهم قولاً لم يقولوه بقلوبهم، ولم يخبر في هذه الآية التي احتجوا بها أنهم لم4 يقولوا بألسنتهم ما قالوه بقلوبهم، فيجوز أن يكون المراد بالآية التي احتجوا بها أنهم زوروا قولاً بأنفسهم وقالوه بألسنتهم فسمى المزور بقلوبهم قولاً لهم لأنه يؤول5 إلى القول باللسان كما قال تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} 6 فسمى العصير خمراً لأنه يؤول إليه. والجواب الثاني: يجوز أن يكون معنى قوله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} 7 أي قالوه بألسنتهم أسر به بعضهم إلى بعض كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 8 أي يسلم بعضكم على بعض9 كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 10 أي لا يقتل بعضكم بعضاً 11، والدليل عليه: أن الآية12. وردت في اليهود،
وذلك أن قوماً منهم قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فنشتمه علامية كما نشتمه في السر لننظر هل يعذبنا الله على ذلك، فجاءوا إليه فقالوا السام عليك يا محمد، يريدون الموت عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وعليكم، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: السلام عليكم يا إخوة القردة والخنازير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة عليك بالرفق فإنه ما وضع في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه أما سمعتني قد قلت: وعليكم، فأنزل الله {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} 1. فسمى الله كلامهم بألسنتهم قولاً لهم وتوعدهم عليه بجهنم، فدل على أنه هو القول حقيقة وما في النفس لا يسمى قولاً ولا كلاماً، وإنما يسمى حديث نفس ولا يتعلق به حكم. ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به" 2، فنفى أن يكون حديث النفس كلاماً.
والجواب الثالث: أن حديث التفس لا يسمى كلاماً ويدل عليه شيئان: أحدهما: أنه لو حلف رجل أن لا يكلم هذا اليوم فجلس يزور الكلام في نفسه وينظمه لم يحنث في يمينه، ولو نوى طلاق امرأته وعتق عبده لم يحكم عليه بطلاق ولا عتاق. الثاني: أنه لو كان كلاماً لما صح نفيه عن الكلام بان تقول ما تكلمت وإنما وردت ذلك في نفسي. والجواب الرابع: لو كان ما في النفس كلاماً لكان الساكت أو الأخرس إذا زور في نفسه كلاماً سمى متكلماً فيؤدي إلى كونه أخرس متكلماً أو متكلماً ساكتاً في حالة واحدة وهذا محال. والجواب الخامس: أن الله أخبر عن السماء والأرض أنهما قالتا {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ، وأخبر عن الجوارح أنها تنطق يوم القيامة، وأخبر عن جهنم أنها تقول {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذراع المشوية أنها قالت: (إني مسمومة فلا تأكلني) ، وجميع ذلك ليس له نفس فعلم أن الكلام يتصور وجوده ممن لا نفس له1. ويقال للأشعرية: قد قلتم إن كلام الله شيء واحد لا يتبعض، وقلتم: إن كلام الله ينقسم إلى أمر ونهي وخبر واستخبار، وهذه المعاني متغايرة متعددة وكذلك قلتم: إن لله صفات متعددة، وهي العلم والإرادة والحياة والقدرة والسمع والبصر والكلام، فلم نفيتم أن يكون القرآن ذو السور والآيات كلاماً لله حقيقة لكونه متعدداً مترتباً. فإن قالوا إنما ينقسم الكلام إلى الأمر والنهي والخبر والاستخبار في القرآن الذي هو عبارة وحكاية عن كلام الله القائم بذاته، ولا ينقسم الكلام القائم بالذات إلى هذه المعاني2، قيل لهم: من شرط العبارة والحكاية أن
تؤدي معنى المعبر عنه وإن كان المعنى القائم شيئاً واحداً فمن المعبر عنه بهذه1 العبارة المفهومة وكيف تعلقت الأحكام بالعبارة دون المعبر عنه وبالمعنى دون المَعْني2.
وأيضاً فإن في القرآن ما يحتاج في فهم معناه إلى كلام أو ضح منه وهو الحروف في أوائل السور، الم، كهيعص، حم، وما أشبهه فإن كان ذلك عبارة عن كلام الله القائم بذاته1 فهلا عبر عنه بكلام أبين منه، وهذا باطل بقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} 2، فوصف (الر) بأنه الكتاب المبين. ويقال للأشعرية: هل أسمع الله موسى وأفهمه جميع كلامه أو بعض كلامه فإن قالوا: أفهمه وأسمعه جميع كلامه، فقد جعلوا موسى عالماً بما في نفس الله وعالماً بالغيب، وقد أخبر سبحانه أنه لا يعلم ما في نفسه أحد، ولا يعلم الغيب إلا هو، وأخبر سبحانه أنه لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله، ويؤدي قولهم هذا أن موسى عليه السلام قد فهم التوراة والإنجيل والفرقان، وأن المشروع بالقرآن والإنجيل كان مشروعاً على بني إسرائيل وهذا باطل بالإجماع. وإن قالوا: أسمع عليه السلام وأفهمه ما شاء من كلامه، رجعوا إلى ما عليه أهل الحق وأن كلام الله ليس بشيء واحد. وإن قالوا لم يسمع الله موسى كلامه القائم بذاته وإنما أسمعه العبارة عن كلامه وهي التوراة، أدى قولهم هذا إلى معان فاسدة، منها أن الله سبحانه بعض3 عن كلامه، ولو جاز هذا لقيل فيجوز أن يكون لعبارته عن كلامه عبارة عنها إلى ما لا يتناهى. ومنها أن موسى يخرج عن أن يسمى كليم الله، وهذا ترك ورد لما ورد به نص القرآن وأجمع عليه المسلمون، ورجعوا بذلك إلى قول المعتزلة الذين هم حوله يدرون وعليه يعولون، وهو أن الله ما كلم موسى وإنما خلق كلاماً في الشجرة أسمعه موسى عليه السلام.
99- فصل وقد ألزم الغزالي في الاقتصاد الأشعرية ونفسه لأهل الحديث إلزامات حسنة صحيحة، وأجاب عنها بأجوبة فاسدة. منها: إن قال قائل كيف سمع موسى صلى الله عليه وسلم كلام الله تعالى؟. فإن قلتم سمع صوتاً وحرفاً، فإذا لم يسمع كلام الله، لأن كلامه ليس بصوت ولا حرف، وإن قلتم لم يسمع صوتاً وحرفاً فكيف سمع ما ليس بحرف ولا صوت، وهذا إلزام صحيح. فأجاب عنه على قوله وقول الأشعرية وقال: سمع موسى كلام الله، وهو صفة قديمة بذات الله ليس بحرف وصوت، فقول من قال: كيف سمع ذلك كقول القائل: كيف أدركت بحاسة الذوق حلاوة السكر، وهذا القول1 لا يستند إلى شفاية إلا بأن نسلم سكراً إلى هذا السائل حتى يذوقه فيدرك طعمه وحلاوته، وكذلك نقول لهذا السائل: لا يمكن شفاؤك إلا بأن تسمع كلام الله القديم، وهو متعذر لأن ذلك من خصائص الكليم فنحن لا نقدر على استماعه أو تشبيه2 ذلك بشيء من مسموعاته التي ألفها، والأصوات3 لا تشبيه ما ليس بأصوات فيتعذر تفهيمه، فعلم أن هذا السؤال محال، هذا معنى قوله ومعتمده فيما أجاب4. ولنا عن هذا أجوبة: أحدها أن يقال: ما المعنى الجامع بين فهم حلاوة السكر، وفهم سماع موسى لكلام الله، ومحال أن يكون فهم حلاوة السكر وغيره من الطعوم المعتادة غير معلوم من غير ذوق.
والجواب الثاني: أن يقال لو كان فهم سماع موسى لكلام الله محالاً عند النبي صلى الله عليه وسلم وعند الخلق، لما أخبر الله بذلك بكتابه لأنه لا يخبر بالمحال ومما لا يعقل، فإن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك ليدل على فضيلة موسى صلى الله عليه وسلم، فلو كان غير معقول ولا معلوم عند الخلق لما علموا فضيلته. والجواب الثالث: أن يقال قولك إن الله أسمع موسى بغير حرف ولا صوت مخالف لما أخبر الله عن ذلك بكتابه فقال: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} 1، فأمر الله بالاستماع إلى ما يوحى، والاستماع عند العرب لا يكون إلى صوت وحرف، ولا يكون الاستماع إلى الصفة القائمة بالذات لأن ذلك لا يعقل، ألا ترى أنه لو قال استمع إلى بصر الله وسمعه وحياته وقدرته لكان ذلك محالاً من الكلام وهي صفات قائمة بالذات، وأيضاً فإن الله أخبر عما أمره بالاستماع إليه فقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} فجمع بالآية بين الإخبار بأنه لا إله إلا هو، وأن الساعة آتية وأنه يخفيها وتجزي كل نفس بما تسعى، وبين أمره له بالعبادة وإقامة الصلاة لذكره، وهذه معان مختلفة. فإن قال: ليس في هذا كله دليل على أن الله أسمعه هذا الكلام على هذا النظم، قلنا: إذا لم يكن في هذا دليل على أنه أسمعه هذا النظم لم يكن قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 2 دليلاً على أنه كلمه ولا أنه كليمه. إلزام واعتراض ذكره الغزالي أيضاً في الاقتصاد. إن قال قائل: هل كلام الله حال في المصحف أم لا، فإن كان حالاً فكيف حل القديم في المحدث، إن قلتم لا فهو خلاف الإجماع (أن في
المصحف قرآن) بدليل أنه يحرم على المحدث مسه. فأجاب عن هذا وقال: كلام الله مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب مقروء بالألسنة، فأما الكاغد والحبر والكتابة والحرف والصوت فكلها حادثة. فإذا قلنا: إنه مكتوب في المصاحف أعني صفة القديم لم يلزم أن يكون القديم في المصحف، كما إذا1 قلنا النار مكتوبة لم يلزم أن تكون ذات النار حالة فيه فالنار جسم حار، وعليه دلالة هي الأصوات المقطعة تقطيعاً يحصل منه النون والألف والراء، فالحار المحرق ذات النار لا نفس الدلالة، والحروف أدلة القرآن وللأدلة حرمة إذ جعل2 الشرع لها حرمة، لأن ما فيها دال على صفة الله3 هذا تحقيق قوله4. والجواب أن يقال: أما قولك إنه5 حال في المصحف عبارة غير مرضية، لأن الحلول صفة الأجسام يقال حل يحل بالمكان بضم الحاء في المستقبل إذا نزل به، وحل الدين يحل بكسر الحاء في المستقل إذا وجب6، وحل
الشيء يحل بكسر الحاء إذا حل1 فعله، وإنما يقال القرآن موجود2 في المصاحف ومكتوب ومسطور. وأما قوله إن الكاغد والحبر محدثان فلا ينكر ذلك وليس الحرف هو نفس الحبر ولا نفس الكاغد. وأما قوله: إن القرآن مكتوب في المصاحف محفوظ بالقلوب مقروء بالألسنة، فإن أراد بذلك القرآن الذي هو كلام الله حقيقة قلنا هذا صحيح وبطل أن يكون لله كلاماً قائماً بذاته لا يفارقه وكان هذا قول أصحاب الحديث. وإن أراد بذلك العبارة عن القرآن الذي هو قائم بذات الباري كان قوله هذا قولاً فارغاً لا معنى تحته غير التستر بقول أصحاب الحديث، وعليه يدل قوله إن القرآن مكتوب في المصاحف، لأنه لو صرح وقال ليس القرآن مكتوباً في المصاحف، وإنما المكتوب به أدلة القرآن لكان مخالفاً لما عليه أدلة3 المسلمين ولكنه سقّف4 قوله. والأشعرية قدموا رِجلاً إلى الاعتزال ووضعوها حيث وضعت المعتزلة أرجلهم، وأموا بالرجل الأخرى إلى حيث وضع أهل الحديث أرجلهم5، وهذا مثال عقلي يفقهه من فهم قولهم.
ومن إلزامات الغزالي في الاقتصاد قوله: إن قال قائل هل القرآن1 كلام الله أم لا، فإن قلتم لا فقد خرقتم الإجماع، وإن قلتم نعم فما هو سوى الحروف والأصوات. فأجاب عن هذا وقال ها هنا ثلاثة ألفاظ قراءة ومقروءة وقرآن. أما المقروء فهو كلام الله القائم بذاته، وأما القراءة فهي عبارة القارئ، وأما القرآن فهو اسم مشترك يقع على صفة الله وهو الكلام بذاته وهو الذي أراده السلف بقولهم القرآن غير مخلوق، ويقع على القراءة التي هي أفعال القارئ وهي مخلوقة 2، هذا تحرير قوله. والجواب أن يقال له: قد أقررت أن القرآن هو هذه السور والآيات، ودعواك أن المقروء هو كلام الله القائم بذاته، غير مسلم ولا دليل له على ذلك من كتاب ولا من سنة ولا إجماع، بل إجماع السلف أن لا قرآن إلا هذا المسموع المتلو الذي جعله الله معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم أن لا قرآن إلا هذا المسموع المتلو الذي جعله الله معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم وشاهداً على صدقه وعلق عليه الأحكام فقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 3، والعرب لا تشير بقولهم (هذا) إلا إلى شيء موجود ومدعى قرآن لا لغة فيه جاهل غبي، وأما قراءة القارئ فهو تحريكه آلته وفعله المسموع المفهوم هو القرآن المجمع عليه، وأما القائم بذات الله فلا سبيل لأحد إلى العلم به ولا إلى العبارة عنه. وأيضاً فإن ذات الله ليست بمحل أن تقوم بها المعاني، والقائل بذلك مشبه4، لأن الله لا يسمى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به نبيه صلى الله عليه وسلم أو
أجمع المسلمون على التسمية به، وهذه التسمية خارجة عن ذلك كله فكانت باطلة1. ومن إلزامات الغزالي في الاقتصاد قوله: إن قال قائل أجمعت الأمة على أن القرآن معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كلام الله وأنه سور وآيات ولها مقاطع ومفاتح، وكيف يكون للقديم مقاطع ومفاتح، وكيف يكون القديم معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعجزة: فعل خارق للعادة، وكل فعل مخلوق2. فأجاب عن هذا بجواب تحريره ما مضى، أن القرآن اسم مشترك بين المقروء وبين الدال عليه وكلما وصفوه مما لا تحتمله الصفة القائمة، فإن3 المراد به العبارات الدالة عليه، وكذلك السماع الذي قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 4، فالمراد به العبارة الدالة على الصفة القائمة، وسماع موسى هو كان إلى الصفة القائمة بذات الله وإلا لم يكن لموسى فضيلة على المشركين إذا كان مسموعهم واحد5. والجواب أن نقول: لا نسلم أن المراد بالقرآن وبقول الله وبكلام الله في جميع الإطلاقات إلا6 هذا المسموع المفهوم المتلو. والدليل على ذلك نص
الكتاب والسنة وإجماع الأمة والعقل، أما الكتاب فقوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} 1، وقال في آية أخرى: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} 2، وقال في آية أخرى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} 3، وقال في ثلاث آيات من البقرة: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة} 4، ولا يجوز أن يقال قال الله ما لم يقله حقيقة. وأما السنة فالخبر الذي مضى ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق الخلق بألفي عام" 5، وقد ذكره الغزالي في الإحياء وهو مشهور بالسنن فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورتين. وأما الإجماع فإن أحداً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء إلى أن حدث ابن كلاب والأشعري ومن تابعهما أطلقوا اسم القرآن على هذه السور والآيات، وقالوا من قال بخلقه فهو كافر، وقد كان حدث الكلام في خلقه ولا يعرف أحد القرآن القائم بذات الله حتى أحدث ذلك ابن كلاب6. وأما دليل العقل: فإنا نقول لهم لم قلتم: إذا كان القرآن سوراً وآيات وله 7 فواتح وخواتم كان مخلوقاً، فإن قالوا لأن هذا صفة الكلام المخلوق لبني آدم، قلنا لهم: هذا جمع بين الشاهد والغائب من غير دليل ومعنى موجب للجمع بينهما ولو كان هذا صحيحاً، قلنا: إن الله فاعل للأشياء
ورأينا في الشاهد أن كل فاعل جسم لا تجد فاعلاً غير جسم أن نقول بأن الله جسم لذلك1، وأيضاً فإن العقل إذا أدى إلى خلاف ما في الكتاب والسنة والإجماع وجب تقديم هذه الأدلة على العقل، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2، الآية. وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3، وقد بينا أن القرآن والسنة والإجماع دل كل4 واحد منهما5 أن القرآن هو هذه السور والآيات6 دون ما تدعي الأشعرية بعقولهم وتأويلهم الذي يؤدي إلى خلاف ذلك.
100- فصل وعندنا أن القرآن يرفع من المصاحف ومن الصدور، وأنكر الأشعري ذلك1. والدليل على ما قلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من حفظ القرآن فعمل به وعلمه الناس، وهو كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما رفع الله كلاماً أحب إليه من كلامه "3. وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "إقرأوا القرآن قبل أن لا تقدروا على آية منه"، فقيل وكيف نحن نعلمه أبناءنا وأبناؤنا يعلمون أبناءهم، فقال: "يسرى عليه في ليلة واحدة فينسخ من صدور الرجال والمصاحف فيصبح الناس كالبهائم لا يقدرون على آية منه"4. وروي عن ابن مسعود أنه قال: "أقرأني سول الله صلى الله عليه وسلم آية فأثبتها في
مصحفي، فلما كان الليل جئت لأقرأها فلم أقدر على قراءتها، فعدت إلى المصحف فوجدت مكان الآية أبيض فأخبرت بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أما علمت أنها رفعت البارحة "1.
101- فصل اللغة توقيف عن العرب1 قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا} 2، والأسماء على ثلاثة أضرب: ألقاب3 كزيد وعمرو، وأسماء مشتقة كعالم وقادر وظالم، وأسماء وضعت للتمييز بين الأجناس كالبر والبحر وغير ذلك، والاسم مشتق من السمو والعلو.
وقال قوم: بل هو مشتق من السمة وهي العلامة1. والصحيح هو الأول، لأنهم قالوا في تصغيره سُمَيْ والتصغير يرد الشيء إلى أصله. واختلف الناس في الاسم هل هو المسمى أو غيره: فذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه إلى أن الاسم للمسمى2. وقال بعضهم هو صفة للمسمى. وقال بعضهم: هو علم للمسمى، والجميع واحد3. وقال المعتزلة: الاسم غير المسمى4. وقال أبو الحسن الأشعري: الاسم هو المسمى5.
ومنهم من قال: الاسم للمسمى1. وقال بعض الناس: إذا خرج الاسم عن اللقب واسم الجنس فهو على قسمين: قسم هو المسمى كتسمية الأعيان المنفردة مثل قولنا شيء وموجود، وجوهر وحياة وعلم وقدرة وسواد وقديم ومحدث. وقسم ليس هو المسمى وإنما هو معنى يقوم به، فيكون حكمه حكم ما قام به في إيحائه للوصف، وهو على ضربين: فضرب بني على المجاز، كقولهم فلان عدل مرضي يعنون به أنه عادل ومرضي. والعدل والرضا في الحقيقة اسمان للفعل أجريا على الفاعل مجازاً، ومثله قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} 2 أي فعل من آمن بالله. والضرب الثاني: وضع للأشياء في الحقيقة، كقولك سواد وبياض وحمرة وصفرة لا سيما في الحقيقة إلا ما كان من جنسه3.واستدل من قال الاسم للمسمى بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 4. فأضاف الأسماء إليه بلام الاستحقاق والشيء لا يضاف إلى نفسه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الج نة"1. فلو كان الاسم هو المسمى لكان لنا تسعة وتسعين رباً. وأما الدليل على من قال إن الاسم غير المسمى أن يقال: لو كان كذلك لكان الله سبحانه غير مسمى في الأزل واحد فرد موجود لأن حقيقة الغير ما جاز مفارقته صاحبه2 وإذا ثبت هذا فأسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب: منها ما يرجع إلى ذاته كقولنا (الله موجود وشيء قديم) . ومنها ما يرجع إلى صفات ذاته كعالم وقدير وحي وسميع وبصير، ومريد، ومتكلم. ومنها ما يرجع إلى صفات فعله كخالق، ورازق، وقابض، وباسط، وهذه الصفات لله سبحانه يستحقها في الأزل، وهو موصوف في الأزل بأنه سيخلق، ويرزق ويقبض ويبسط قبل أن يخلق ويرزق3.
وعند المعتزلة أن أسماء الله كلها مخلوقة1. والدليل على بطلان قولهم لوكانت أسماؤه مخلوقة لم يخل إما أن يكون خلقها في ذاته أو في ذات غيره، أو لا في ذاته ولا في ذات غيره. فبطل أن يكون خلقها في ذاته؛ لأن ذاته ليست بمحل للحوادث، ولا يجوز أن يكون أحدثها في ذات غيره؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يسمى أن يسمى من أحدثها فيه بشيء منها، فيسمى فرداً وصمداً، ولا يجوز أن يكون أحدثها بنفسها في غير ذات؛ لأنها صفة والصفة لا تقوم بنفسها.
102- فصل قد ذكرنا في أول الكتاب أن عند أصحاب الحديث والسنة أن الله سبحانه بذاته بائن عن خلقه، على العرش استوى فوق السموات، غير مماس له، وعلمه محيط بالأشياء كلها1.
وقالت الكرامية1: إنه مماس للعرش.
وقالت المعتزلة: إن ذات الله بكل مكان حتى بالحشوش وأجواف الحيوان1. قيل لبشر المريسي2 فهو في جوف حمارك هذا؟ قال: نعم3، وهذا قول الحلولية4 وهو كفر صريح لا إشكال فيه. وقالت الأشعرية: لا يجوز وصفه بأنه على العرش ولا في السماء5. والدليل على ما قلناه قوله تعالى: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 6.
وروى الحسن البصري عن أم أن سلمة - رضي الله عنها - زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سئلت عن هذه الآية، فقالت: "الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار إيمان والجحود به كفر"1. وبعضهم ذكر أنها رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم2. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 3. وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 4. وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 5. وقوله تعالى حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 6. وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ} 7. والعرش فوق السماء فلذلك قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 8.
ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 1، وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 2، وقال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 3. وروي عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت يا رسول الله: إن لي جارية ترعى غنيمات لي وأنا أطلعتها يوماً اطلاعة، فوجدت ذئباً قد ذهب منها بشاة وأنا من بني آدم أسف كما يأسفون فصككتها صكة، فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت أفلا أعتقها، فقال: ادعها لي، فدعوتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ "، قالت: الله في السماء، قال: فمن أنا، قالت: أنت رسول الله، فقال: "اعتقها فإنها مؤمنة"4. وروى أبو هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء أعجمية، فقال: يا رسول الله: إن لي عتق رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟، فأشارت بأصبعها السبابة إلى السماء فقال لها: من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعتقها "5.وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضأ فأحسن وضوءه، ثم رفع نظره إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسولهن فتحت له ثمانية أبواب
الجنة يدخل من أي باب شاء "1. وقال صلى الله عليه وسلم: "ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء "2. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي"3. وروى (جبير بن محمد بن) 4 جبير بن مطعم عن أبيه عن جده أنه قال: "إني لعند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه أعرابي فقال يا رسول الله: جهدت الأنعام وجاع العيال استسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدري ما تقول سبحان الله فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: "ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد شأن الله أعظم من ذلك إنه لفوق سمواته وهو على عرشه "5.
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "والذي نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار إلى السماء بأصبعه إلى مشرك، ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته به"1. وروي عن عبد الله أنه قال: "ما بين السماء القصوى وبين الكرسي خمسمائة سنة، وما بين الكرسي وبين الماء خمسمائة سنة، والعرش فوق الماء والله فوق العرش، ولا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم"2. وروي عن مجاهد أنه قال: "قيل لابن عباس إن ناساً يقولون بالقدر، فقال يكذبون بالكتاب لئن أخذت شعر أحدهم لأنصونه3 إن الله على عرشه قبل أن يخلق شيئاً4، فخلق الخلق وكتب ما هو كائن إلى يوم
القيامة، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه"1. وروي أن رجلاً جاء إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2. فما رأى مالك وجد من شيء كوجده من مقالته هذه وعلاه الرحضاء - يعني الورق - وأطرق ملياً فسري عنه، وقال: "الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"3. وسئل ربيعة عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق"4. وروي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اشتكى منكم شيئاً أو اشتكى أخ له فليقل ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اغفر لنا حوبنا وخطايانا رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على الوجع، فيبرأ" 5.
وروي أن حارثة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا مؤمن حقاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ "، قال: كأني بعرش ربي بارزاً، وكأني بالخلائق قد حشروا لفضل القضاء، واستوى عندي حجرها ومدرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرفت فالزم"1. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن عبد الله بن رواحة كان نائماً مع امرأته في الفراش، فقام إلى جارية له في جانب البيت فاتاها، فانتبهت زوجته فطلبته فلم تجده، فقامت تطلبه فوجدته مع الجارية فرجعت وأخذت الشفرة فتلقاها، فقال: ما هذه الشفرة التي معك فقالت: لو وجدتك في الموضع الذي رأيتك فيه لوجأتك بها بين كتفيك، فقال: وأين كنت؟، قالت: مع الجارية، فقال: ما كنت معها، فقالت: بلى. فقال: أليس قد نهى رسول الله صلى الله عليه سلم الجنب عن القراءة؟، قالت: اقرأ فأنشدها: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا فقالت: صدق الله وكذب بصري، فغدى عبد الله بن رواحة على النبي
صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك كله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: "زوجتك أفقه منك"1. ولقد قال أوس بن ثعلبة2 قبل الإسلام قصيدة فيها: فإن تكن الأيام أبلين أعظمي ... وشيبن رأسي والمشيب مع العمر فإن لنا رباً علا فوق عرشه ... عليما بما نأتي من الخير والشر ولأن المسلمين مجمعون عند الدعاء على رفع أبصارهم وأكفهم إلى نحو السماء3 فدل على صحة ما قلناه. وروي عن عكرمة في قوله تعالى إخباراً عن إبليس {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} 4، قال ابن عباس: "ألم يستطع أن يقول من فوقهم علم أن الله فوقهم"5. ويقال لهم: إذا لم يكن الله فوق العرش بمعنى يختص بالعرش كما قال أصحاب الحديث، وكان بكل مكان، فقولوا: إنه تحت الأرض والسماء
فوقها فهو تحت التحت وأنه فوق الفوق والأشياء تحته وهذا متنقاض، فإن احتجوا بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 1، وبقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 2. فالجواب: أن المراد بالآية {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} أي من حديث بين ثلاثة إلا هو رابعهم بالإحاطة والعلم لا في العدد لأنه واحد لا من عدد ولا واحد في معناه3، وكذلك المعنى في قوله تعالى: {وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} . إلى قوله: {إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، يريد بالإحاطة والعلم لا بالذات والحلول. يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} الآية.. إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فبدأ الآية بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أن المراد بذلك كله الإخبار عن علمه وإحاطته بهم في جميع هذه الحالات4. فإن احتجوا بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ} 5 فأخبر أنه إله بكل واحد منهما.
فالجواب أن المراد بالآية أنه عند أهل السماء إله وعند أهل الأرض إله1 كما يقال: فلان نبيل مطاع في العراق ونبيل مطاع في الحجاز، يعنون أنه نبيل مطاع فيهما وليس يعنون أن ذاته في العراق وفي الحجاز. فإن احتجوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} 2 وبقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 3. فالجواب: أن المراد على أنه أراد بالحفظ والرعاية والنصر والتأييد مع الذين اتقوا ومع المحسنين ومع موسى وهارون صلى الله عليه ةسلم، فلا يقاس على هذا أنه مع الفساق والكفار4، ولا مع الكلاب والخنازير تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً5.
وتأولت المعتزلة ومن تابعهم فول الله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} على أن الاستواء هو الاستيلاء والقهر بقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق1 والجواب: أنه لا يقال هذا إلا لمن كان عاجزاً عن قهر شيء ثم قهره
واستولى عليه والله سبحانه قاهر ومستول على كل شيء. وروي أن رجلاً سأل ابن الأعرابي1 ما معناه قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال: "هو على عرشه كما أخبر، فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا معناه2 استولى؟ فقال: اسكت ما أنت وهذا3 ولا يقال استولى على الشيء أو يكون له فيه مضاد فإذا غلب أحدهما على الآخر قيل استولى أما سمعت قول النابغة: إلا لمثلك أو من أنت سَابِقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد4 ولو كان ما ذكره صحيحاً لجاز أن يقال: إن الله مستو على الحشوش والأمكنة التي يرغب عن ذكرها لأنه مستول عليها، ولو كان كذلك لم يكن لذكره للعرش معنى. وأما الأشعرية فقالوا: إذا قلتم إنه على العرش أفضى إلى أنه يكون محدوداً أو أنه يفتقر إلى مكان وجهة تحيط به وتعالى الله عن ذلك5.
والجواب: أنا وإن قلنا إنه على العرش كما أخبر بكتابه وأخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم فلا نقول إنه محدود، ولا إنه يفتقر إلى مكان، ولا تحيط به جهة ولا مكان، بل كان ولا مكان ولا زمان ثم خلق المكان والزمان، واستوى على العرش
بلا كيفية، ولم يخلق العرش لحاجة، بل كما حكي عن ذي النون المصري1 لما قيل له: ما أراد الله بخلق العرش؟ فقال: أراد الله أن لا تتيه قلوب العارفين ولم يخلقه لحاجته إليه، فإذا قيل للعبد المؤمن أين الله؟ قال: على العرش2، وقد صرح القاضي أبو بكر الباقلاني الأشعري 3 في التمهيد بالقول في هذه المسألة كما قال أصحاب الحديث4. وأما الغزالي فخالفهم في الاقتصاد وقال: "أما رفع الأيدي في الدعاء إلى السماء فلأنها قبلة الدعاء كما أن البيت قبلة الصلاة"5.
وهذا تمويه منه ومعاندة لما ورد به القرآن والسنة، وما عليه العلماء من الصحابة والتابعين. وأما قوله: "إن السماء قبلة الدعاء"، فيقال له1: لو كان هذا كما قلت لم يصح الدعاء إلا لمن توجه بيديه إلى السماء كما لا تصح الصلاة إلا لمن توجه إلى الكعبة2،3. ثم قال: "ولما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان الجارية لما أشارت إلى السماء فلأنه لا سبيل للأخرس إلى تفهم علو المرتبة إلا بإشارة إلى جهة العلو، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يظن أنها من عبدة الأوثان فاستنطقت بمعبودها"4. فعرّفت بالإشارة إلى السماء أن معبودها ليس من الأصنام5، وهذا غير
صحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أين الله فأشارت إلى السماء، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فلو كان لا يجوز أن يقال: إن الله في السماء لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يجوز له الإقرار على الخطأ، لا سيما وكان ذلك بحضور جماعة من الناس، أو لو كان هذا لكونها عجمية لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لمن حضر مع أنه كان يمكنه صلى الله عليه وسلم أن يسأل من تعبد. وكيف يصح هذا التأويل، وقد روى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا حتى ذكر سبع سموات، وفوق ذلك بحر ما بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، وفوق ذلك ثمانية أوعال كواهلهم تحت العرش وأقدامهن تحت الأرض السابعة السفلى وفوق ذلك العرش والله سبحانه فوق ذلك "
والطرق في الرواية والأخبار بذلك1 مشهورة ولا تبطل بتأويل من تأولها ولا برد من ردها.
103- فصل قد ذكرنا أن في الكتاب والسنة صفات لله نؤمن بها كما جاءت ولا نفسرها1 منها قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} 2، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} 3، 4، وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} 5، وقال سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} 6، وقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 7، وقال: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 8,9 1 تقدم هذا أول الكتاب ص 99 وتقدم التعليق على قوله: "ولا نفسرها".
وقال سبحانه: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 1، وقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 2،3. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم على صورته "4،5.
مفقودة
وروي عن أبي موسى أنه قال: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ويرفع1 إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفها2 لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره" 3،4. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته"، أخرجه مسلم5.
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته" 1. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: أنت
موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده، وتلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى " أخرجه البخاري ومسلم1. وروى أبو موسى - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها " أخرجه مسلم2. وروى ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول3 شيء خلقه الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين قال: فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول بر أو فجور رطب أو يابس فأحصاه عنده في الذكر، وقال: اقرأوا إن شئتم {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} " 4، 5. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه يقول: أنا الملك "6.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني1 فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له2، حتى يطلع الفجر"3.
وأخبار الصفات من هذا كثيرة، والمعتزلة والأشعرية يردون شيئاً منها، ومنها ما يتأولونه. ومذهب السلف والعلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الأعصار كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل ينزهون الله عن الجسمية1 والتصديق بما ورد من هذه الآي والأخبار والسكوت عن تفسيرها والاعتراف بالعجز عن علم المراد بذلك2، والتسليم والإيمان بذلك إيماناً جملياً كما آمنا وصدقنا بإثبات الذات من غير تكييف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بما يجوز على الله من الصفات، وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم -، فإذا سكتوا عن تفسير هذه الصفات وتأويلها وسعنا ما وسعهم3 قال الله تعالى: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1. وقال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} 2. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتبعوا ولا تبتدعوا فإنما أهلك من كان قبلكم لما ابتدعوا في دينهم وتركوا سنن أنبيائهم وقالوا بآرائهم فضلوا وأضلوا "3. فإن قال قائل: فلم تأولتم قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} 4 الآية. قلنا له: لأن القرآن يعاضد بعضه بعضاً ولا يتناقض، وقد أخبر الله تعالى أنه على العرش استوى، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فعلمنا أن هناك معنى يختص به العرش دونه5، فقلنا هو على العرش استوى. ولا نكيف الاستواء ولا نفسره بل نصدق به ونؤمن به إيماناً مجملاً، وأنه تعالى الله أن يكون في الحشوش والأمكنة الدنيئة فنزهناه عنها، وحملنا هذه الآية على الإحاطة والعلم لذكره العلم في ابتداء الآية وآخرها، كما حملنا قوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 6 على النصر والتأييد وإن كان يسمع كلام
فرعون ويراه كما يسمع كلامهما ويراهما1، وليس كذلك هذه الآيات والأخبار التي وردت بصفات الذات فإن العقول تقصر عن معرفة المراد بها2 فلزمنا بالضرورة التصديق بها والإمساك عنها.
104- فصل وقد1 ذكرنا أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة بأبصارهم ولا يراه الكفار2. وقالت السالمية: "يراه المسلمون والكفار"3.
وقالت المعتزلة: "لا يجوز وصف الله بأنه يرى"1. وقالت الأشعرية: "المؤمنون يرونه ولكن لا يرونه عن مقابلة"2. ودليلنا قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3، قال أنس بن مالك: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى هذه الآية فقال: "للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى "4.
وروي عن صهيب أنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريدون أن ينجزكموه. يقولون: ما هو، ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار، فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله فما شيء أعطوا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة "، أخرجه مسلم في صحيحه1. وكذلك روى أبي بن كعب2 وكعب بن عجرة3 وأبو موسى الأشعري4 عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية.
ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1. فقوله: "ناضرة" أي حسنة مشرقة يعلوها النور كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} 2، قال محمد بن كعب القرظي: "نضر الله تلك الوجوه للنظر إليه"3. وروى عطية4 عن ابن عباس في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال: "يعني حسنة"، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: "نظرت إلى الخالق عزوجل"5. وقال الحسن البصري: "نظرت إلى ربها فَنَضُرَت لنوره"6. فهذا قول المفسرين في تفسير هذه الآية. ويدل على ذلك من المعنى أن النظر إذا قرن بالوجه وَصْفُه بالنضارة علم أنه أراد به الجارحة الذي فيه7 العينان وعدى ذلك بحرف جر، فانصرف
ذلك إلى رؤية البصر، وصار كقوله تعالى: {فَانْظُرْ1 إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} 2 أي انظر بعينك، وصار كقول الشاعر: انظر إلي بوجه لا خفاء به ... أريك تاجاً على سادات عدنان3 وكل نظر لم يعده بحرف جر ولا قرنه بالوجه فإنه لا يقتضي نظر العين، وهذا كقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} 4، كذلك قوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} 5، فإنه يريد بذلك الانتظار دون نظر العين، ولا يجوز حمل الآية على الانتظار، لأن أهل الجنة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا يجوز أن يحمل أمرهم على الانتظار، لأنهم كلما خطر ببالهم أتاهم من الله. وأما النظر في قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} 6. فإنه أراد به الاعتبار، ولا يجوز أن يحمل النظر هاهنا عليه، لأن الآخرة ليست بدار اعتبار. وأما النظر في قول الله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} 7، فإنه أراد به التعطف والرحمة، فلا يحمل النظر في الآية على هذا، لأن المؤمنين في الجنة لا يوصفون بالرحمة لربهم فثبت أنه أراد النظر بالعين8.
ويدل على ما قلناه: أن الله وصف المشركين ثم قال: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1، وهذا يبطل قول السالمية2. ويدل على أن المؤمنين عن ربهم غير محجوبين، إذ لو كانوا عنه محجوبين لما كان لوصف المشركين بذلك معنى. قال الحسن البصري: "إذا كان يوم القيامة برز ربنا تبارك وتعالى فيراه الخلق ويحجب الكفار فلا يرونه، وهو قوله تعالى: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} "3. وقال رجل لمالك: يا أبا عبد الله هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة؟ قال: "لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعبر الله الكفار بالحجاب فقال: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} " 4 وكذلك روي عن الشافعي - رحمه الله -5. يدل على ما قلناه ما روى علي بن أبي طالب وأنس بن مالك أنهما فسرا قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 6، قالا: "يظهر الرب لهم يوم القيامة"7. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 8، وذلك أن موسى عليه السلام لما سمع كلام الله اشتاق
إلى رؤيته فسأل الرؤية، فلو كانت رؤية الله مستحيلة لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام. فقال: {لَنْ تَرَانِي} في الدنيا ولا تطيق1 عليها في الدنيا، وإنما منعه الله إياها في الدنيا لمعان: أحدها: أن النظر الذي في عينه خلقه الله للفناء فلا ينظر به إلى الله الذي هو باق ولا يفنى. والثاني: أن الدنيا دار تكليف فمعرفة الخلق له إنما هي عن غيب ليكون لهم الثواب لا معرفة ضرورية2. والثالث: أن رؤية الله تعالى من أجل النعم التي ادخرها الله لأهل الجنة في الآخرة فلم يعطها أحداً في الدنيا. ولا يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} من3 رؤيته في الدنيا والآخرة، لأنه لو أراد ذلك لقال: "لا تراني"، ولأنه لو كان سؤال موسى مستحيلاً لأخبره الله بذلك وقال: لا تسألن عما ليس لك به علم، كما قال لنوح عليه السلام: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 4، ولنهى موسى عن ذلك. ثم قال الله لموسى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} أي اجعل الجبل علماً بيني وبينك لأنه أقوى منك، فإن استقر مكانه فسوف تراني، وإن لم يستقر الجبل مكانه لن تطيق رؤيتي في الدنيا. وفي قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} دليل على جواز رؤية
الله سبحانه لأن الله قادر على أن يقر الجبل مكانه1. {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} فقيل: إن الله رفع الجبل الآفة المانعة له من النظر وأحياه وخلق فيه الإدراك2، وتجلى الله للجبل، أي رفع الله الحجاب3 {جَعَلَهُ دَكّاً} يعني قطعاً ستة أجبل ثلاثة بمكة: ثبير، وغار ثور، وحراء، وثلاثة بالمدينة: رضوى، وورقان، وأحد4.
وأراد الله بهذا إعلام موسى أن أحداً لا يراه في الدنيا إلا لحقه ما لحق الجبل، فلما رأى موسى تدكك الجبل خر صعقاً أي مغشياً عليه1، وقيل ميتاً2، فلما أفاق قيل من غشيته، وقيل: ردت عليه نفسه، قال: {سُبْحَانَكَ} كلمة تنزيه لله وإجلال له {تُبْتُ إِلَيْك} أي من سؤالي الرؤية في الدنيا3 لهول ما أصابني لا لأنها مستحيلة ولا لأني عاص بسؤالي، كما يقول القائل: تبت إليك من ركوب البحر، ومن تكليم فلان ومعاملته، وإن كان ذلك كله مباحاً، ويحتمل أن يكون سؤاله الرؤية ذكرته ذنوباً قد كان تاب منها فجدد التوبة منها عند ذكرها لهول ما رأى، كما يسارع الناس إلى التوبة عند مشاهدة الأهوال4. وقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} يعني أول المصدقين من هذه الأمة أنك لا ترى في الدنيا5، وقال الحسن: "أنا أول المؤمنين بك لأنه أول من آمن في زمانه"6. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 7، أي ما يحيون به سلام، ومثله {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} 8
وموضع الحجة من الآية قوله: {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} واللقاء في اللغة لا يكون إلا بالمعاينة يراهم الله ويرونه ويسلم عليهم ويكلمهم ويكلمونه1. ويدل على ما قلناه ما روى جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم ستعرضون على ربكم عزوجل فترونه كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا "2. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن أناساً قالوا يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب" قالوا: لا، قال: " فإنكم ترونه كذلك"3. وروي مثل ذلك عن أبي سعيد الخدري4 وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم -5. وعن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا
يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعداً لم تروه قال: فيقولون ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا1 عن النار ويدخلنا الجنة، قال: فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله ما أعطاهم شيئاً هو أحب إليهم مما هم فيه ثم قرأ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم ارزقني لذاذة النظر إلى وجهك" 3. ولا يسأل النبي صلى الله عليه وسلم مستحيلاً. وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "من تمام النعمة دخول الجنة والنظر إلى وجه الله تعالى في جنته"4.
وفي هذا من الأخبار الثابتة في الصحاح ما لو ذكرتها لطال الكتاب بذكرها. ويدل على ذلك من جهة العقل أن الله تعالى موجود، وإنما يخالف الموجود الموجودات في استحالة كونه حادثاً أو موصوفاً بما يدل على الحوادث، فلما صح أنه يوصف بأنه معلوم صح بأن يوصف1 بأنه مرئي2. إن قيل: لو كان مرئياً لرأيناه في الدنيا، قلناك لا يلزم، ألا ترى أن ملك الموت يراه المحتضر ولا يراه من عنده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى جبريل عليه السلام ولا يراه أحد ممن يحضره من الصحابة - رضي الله عنهم -. فإن قالوا: لو كان مرئياً لكان جسماً أو جوهراً أو عرضاً، لأنه لا ترى إلا الجواهر والأجسام. قلنا: فقد اتفقنا أنه معلوم وإن كان في الشاهد لا يعلم إلا الجواهر والأجسام والأعراض. وأما الدليل على إبطال قول الأشعرية فهو: أن الشرع ورد بثبوت الرؤية لله تعالى بالأبصار فَحُمِل ذلك على الرؤية المعهودة، وهو ما كان عن مقابلة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "كما ترون القمر ليلة البدر "3 ولا يقتضي ذلك تحديداً ولا تجسيماً لله، كما لا يقتضي العلم به تحديداً له4 ولا تجسيماً. وإن قالوا: إن الرؤية لا تختص بالأبصار5، رجعوا إلى قول المعتزلة، في نفي الرؤية، وأن المراد بالرؤية العلم به علماً ضرورياً6، وقد حكي عن
بعض متأخري الأشعرية أنه قال: لولا الحياء من مخالفة شيوخنا لقلت إن الرؤية العلم لا غير1. وهكذا قالوا في سماع موسى لكلام الله أنه لا يختص الأذن، وإذا لم يختص الأذن رجع إلى معنى العلم. وأقوال الأشعرية مثبتة على أصول المعتزلة لأن أبا الحسن كان معتزلياً2. واستدلت المعتزلة على نفي الرؤية لله سبحانه بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} 3، فنفى أن تدركه الأبصار وهو عام4. والجواب: أنه إنما نفى الإدراك، والإدراك الإحاطة بدليل قوله تعالى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} 5. أي أنا لمحاط بنا، وكذلك قوله تعالى: {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} 6، ومعلوم أنه لم يخف الرؤية وإنما خاف الإحاطة، ويحتمل أنه أراد نفي الرؤية في الدنيا لأن الرؤية، إليه7 أفضل اللذات، فلا تكون إلا في أفضل الدارين بدليل ما ذكرنا من الآيات والأخبار لأن الخاص يقدم على العام8.
ثم استدلوا بقول الله تعالى: {يسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَة} 1، فلولا أن رؤية الله مستحيلة لما أنكر الله عليهم سؤالهم الرؤية2. والجواب أن يقال: إن الله لم ينكر عليهم سؤالهم الرؤية لأنها مستحيلة، وإنما أنكر عليهم سؤالهم ذلك على وجه التكذيب له لكونه نبياً، وأنهم لا يؤمنون به حتى يروه ويعاينوه جهرة في الدنيا، ألا ترى أن الله أنكر على من سأل النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب3 نزول الكتاب معه، وأنكر على من قال: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ4 جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً}
إلى قوله: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} 1. ومعلون أن نزول الكتاب وتفجير الأنهار وكون الجنة من النخيل والعنب معه وغير ذلك مما سألوه ليس بمستحيل، وإنما سألوا ذلك على وجه التعنت، وأخبر الله سبحانه أنه لو فعل لهم لم يؤمنوا بقوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} 2 وذلك لعلم الله وقضائه السابق فيهم.
105- فصل وعند أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرى به في اليقظة لا في المنام من المسجد الحرام1 أي الحرام، وقيل: أسرى به من بيت خديجة بنت خويلد، وقيل: من بيت أم هانئ بنت أبي طالب، وقيل: من بين زمزم والمقام إلى بيت المقدس وركب البراق، ثم عرج به إلى السماء حتى بلغ سدرة المنتهى ورأى ربه. واختلفت الرواية عن الصحابة - رضي الله عنهم -، فروي عن ابن عباس –رضي الله عنه- أنه قال: "رأى ربه بعيني رأسه". وروي عن أبي ذر وعائشة - رضي الله عنهما - أنهما قالا رآه بعيني قلبه2، وقد أنكر المعتزلة والقدرية الإسراء، وقالوا إنما كان ذلك رؤية في المنام3، والقرآن والروايات تبطل
قولهم، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 1.
وروى حديث الإسراء جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: أبي بن كعب1، وأبو ذر2، وأبو سعيد الخدري3، وأنس4، وصهيب5، وحذيفة6، وعثمان7، ومالك بن صعصعة8، وابن مسعود9، وابن عباس10، وأبو الحمراء11، وعلي12، وعائشة13، وأم هانئ14،
وأبوحنة الأنصاري1، وعمرو بن العاص2، وسمرة بن جندب3، وبريدة الأسلمي4، وجابر بن عبد الله5، وأبو هريرة6، وعبد الله بن الحارث7. ولا ينكر ذلك إلا من ينكر القرآن والأخبار الواردة فيه. ومن الدليل على ما ذكرناه قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلَى} 8 -يعني جبريل عليه السلام9- {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} و {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بتشديد الذال في كذب، وقيل: معناه ما كذب الفؤاد ما رآه بعيني
رأسه، ومن قرأ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بالتخفيف قيل معناه ما كذب الفؤاد ما رأى بعيني قلبه1. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "رأى محمد ربه مرة بقلبه ومرة ببصره". فسمع ذلك كعب الأحبار، فقال: "أشهد بالله إن هذا لفي التوراة، وأن الله فسم كلامه ورؤيته بين موسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم، موسى سمع كلام الله مرتين، ومحمد صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين "2. وأما عائشة - رضي الله عنها -، فروي عنها أنها أنكرت ذلك وقالت: "ثلاث من قال واحدة منهم فقد أعظم على الله الفرية، من قال: إنه يدري ما يكون في غد قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} 3، ومن زعم أن محمداً كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 4، ومن زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} 1، فقيل لها يا أم المؤمنين: ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} 2، وقال: {رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ} 3، قالت: أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: " رأيت جبريل عليه السلام سادا الأفق على خلقته وهيئته التي خلق عليها فيها"4. فهذا اختلاف الصحابة في جواز الرؤية عليه في الدنيا5.
وأما رؤية أهل الجنة له في الآخرة فلم يختلفوا بل الرواة لذلك لا ينحصر عددهم، ولو كان الإسراء به مناماً لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم فيه فضيلة، ولما أخبر الله أنه أسري به بل كان يقول بروحه.
المجلد الثالث
المجلد الثالث تابع: النص المحقق ... 106 ـ فصل وعندنا أن الجنة والنار مخلوقتان1، وأن الجنة في السماء والنار تحت الأرضين2.
وأنكرت المعتزلة أنهما مخلوقتان1، دليلنا قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} إلى قوله: {فَأَزَلَّهُمَا2 الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} 3. وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} 4. وقال الله لإبليس: {فَاخْرُجْ5 مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} 6 فأخبر الله سبحانه أنه أخرج آدم وحواء من الجنة، ثم تاب عليهما ووعدهما أن يردهما إلى الجنة، وأخبر أنه أهبط إبليس وأخرجه من الجنة، وأنه لعنه وآيسه من الرجوع إليها. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 7 قال: أي رب لألم تخلقني؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسبق رحمتك إلي قبل غضبك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم"8. فأما آدم فسأل التوبة فتيب عليه، وأم إبليس فسأل النظرة فانظر.
ربه {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} 1. وروي عن عبيد2 بن عمير3 قال " قال آدم وذكر خطيئته فقال: رب أرأيت معصيتي التي عصيت أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني أم شيء ابتدعته من نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك، قال فكما كتبته عليّ فاغفر لي "4.وروي عن حسان بن عطية5 قال: " بكى آدم على خطيئته ستين عاما وعلى ابنه حين قتل أربعين عاما6، فقيل له في بكائه على خطيئته فقال: أبكي على جوار ربي في دار تربتها طيبة أسمع فيها أصوات الملائكة "7 8. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الجنة
أرسل جبريل إليها فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، قال: فحفت بالمكاره، فقال: اذهب فانظر فنظرها ورجع وقال: وعزتك لقد حبست ألا يدخلها أحد, ولما خلق الله النار وما وأعد الله لأهلها فيها قال لجبريل: اذهب إليها فانظرها فنظر إليها فإذا هي تركب بعضها بعضا فرجع وقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر الله فحفت بالشهوات، ثم قال له انظر إليها فنظر إليها فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد "1. وقال صلى الله عليه وسلم: " اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء "2، فقالت امرأة لم يا رسول الله؟ قال: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير"3. والعشير الزوج. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعنا وجبة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا، قلنا: الله ورسوله أعلم
قال: هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفا الآن حين انتهى قعرها"1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوقد على النار ألف عام فاحمرت، وأوقد عليها ألف عام فابيضت، وأوقد عليها ألف عام فاسودت فهي سوداء مظلمة "2، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جنهم، فقيل: والله يا رسول الله إن كانت لكافية، فقال: إنها فضلت3 بتسعة وستين4 جزءا كلها مثل حرها "5. ويدل على ما قلنا قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 6. والمعد في اللغة لا يكون إلا حاضرا موجودا، ومن زعم أن المعد بمعنى يعد غير صحيح، لأن هذا مجاز فلا تترك له الحقيقة. وأما قوله: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} يعني سعتها وإنما ذكر الله هذا تمثيلا للعباد بما يعقلونه ويفهمونه، والعادة أن العرض دون الطول، فإذا كان
العرض على هذا فالطول أكثر، قال الشاعر: كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المذعور كفة1حابل وروى طارق بن شهاب2 أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: " تقولون جنة عرضها السموات والأرض فأين تكون النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار فأين يكون الليل، وإذا جاء الليل فأين يكون النهار - يريد لذلك حيث يشاء الله - فقالوا: لقد برعت3 بما في التوراة "4. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} 5، ومعلوم أنه لم يتمن قومه بذلك إلا لكونهم في الدنيا، ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 6، والمعد: المستعد المهيأ7. وعن حسان بن عطية8 قال: " الأرض التي تحت هذه فيها حجارة أهل النار "9.
قال ابن مسعود: "حجارة النار حجارة من كبريت يجعلها كيف يشاء"1، وذكر أهل التفسير أن موسى صلى الله عليه وسلم ذكر الله له في الهاوية فيها حجارة توقد منذ استويت على عرش أعدت لكل جبار عنيد ولمن حلف باسمي كاذبا، قال: وما تلك الحجارة؟ قال: كبريت في النار عليها مستقر قدمي فرعون، قال: رب وما الكبريت؟ قال: غضبي وعزتي لو قطرت منها قطرة في بحور الدنيا لأخمدت كل بحر ولهدت كل جبل ولسعت2 الأرضين من حرها"3. وفي بعض الأخبار: "أن الحجر يتعلق في عنق الكفار فإذا اشتعل بالنار أحرق وجهه وفروة رأسه وهو أشد العذاب"4. أعوذ بالله وأستجير به منها ونسأله الحنة. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سأل الله الجن ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار بالله من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أجره من النار"5. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الجنة بيضاء وإن أحب
الزي إلى الله البياض فلبسوه أحياءكم وكفنوا به موتاكم"1.
107 - فصل ومذهب أهل السنة أن الموحدين لا يكفرون بفعل شيء من المعاصي الصغائر والكبائر، وإذا عملوا الكبائر وتابوا لم تضرهم وإن ماتوا قبل التوبة منها فأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم عليها وإن شاء غفرها لهم، وإن عذب العباد على الصغائر لم يكن ظالما لهم بذلك1.
وقالت المرجئة: "لا يوصف الله بأنه يعذب عباده على ذنب غير الكفر"1.
وقالت الخوارج: "من أذنب متعمدا كفر بالله سواء فعل صغيرة أو كبيرة"1. وقالت المعتزلة والقدرية: "لا يجوز أن يعذب الله العباد على الصغائر وإن عذبهم عليها ظلمهم، ومن فعل كبيرة فإنه يخلد في النار، ولا يوصف الله بأنه يغفر الكبائر"2. فعند القدرية من عبد الله ألف سنة بأنواع العبادات من الصلاة والصوم والجهاد وغير ذلك لم يعص الله فيها ثم ركب معصية من الكبائر مرة واحدة
غير مستحل لها، إنه يخرج من إيمانه ويخلد في النار، كمن لم يؤمن بالله طرفة عين، وهذا مع تسميتهم لأنفسهم أهل العدل، وجعلوا حكم الشاهد أصلا لهم، وهذا في الشاهد خلاف العدل، وحكم العدل في الشاهد إن لم يعف الله عنه ويصفح عن هذا العبد الذي هذا صفته أن لا يظلمه من حسناته التي عملها لأنه قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} 1،ويعاقب على المعصية التي عملها بقدرها. وحكى عن بعضهم أنه قال: صاحب الكبيرة يوما في الجنة ويوما في النار2. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3. ومعنى الآية أن الله لا يغفر لمن يشرك به فيموت على الشرك، ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من أهل التوحيد4. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 5. وهذه الآية في وحشي قاتل حمزة6، ولكنها وإن نزلت بسببه إلا أنها عامة في جميع العباد وجميع الذنوب.
والدليل عليه ما روي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما يسرني بهذه الآية الدنيا وما فيها {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} 1 يقول لا تيأسوا من رجمة الله أنه لا توبة لكم {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} يعني الشرك والقتل والزنا الذي ذكر الله في سورة الفرقان2 {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ،وقال قوم: إنها لم تنزل بسبب وحشي لأنها مكية، ووحشي أسلم بعد ذلك بعد قتل حمزة بالمدينة، وبين نزولها وإسلامه قدر عشرين سنة، ولكنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل لي من توبة، فقال له نعم وقرأ عليه هذه الآية3. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} 4. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} 5 وهذا عام، ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ} 1 وهذه الآية نزلت في أبي نفيل عباد بن قيس الأنصاري2: أتته امرأة تشتري منه تمرا فراودها على نفسها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني خليت بامرأة فما من شيء يفعل الرجل بالمرأة إلا وقد فعلته بها إلا أني لم أنكحها فنزلت هذه الآية {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَار} يعني صلاة الصبح والظهر والعصر {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} يعني المغرب والعشاء {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} يعني الصلوات الخمس {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فقال معاذ بن جبل - رضي الله عنه ـ: يا رسول الله أهذا خاص له أم عام للناس؟ فقال: بل عام للناس "3. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 4 والكبائر ها هنا الشرك5، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
من الدليل على ما قلنا ما روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل فبشرني أن من مات من أمتي لا يشرك بالله دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق " أخرجه البخاري ومسلم1. وروى جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله ما الموجبتان، قال: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات وهو يشرك بالله شيئا2 دخل النار" 3. عن أبي موسى الأشعري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليجيئن ناس من أمتي بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ثم يضعها على اليهود والنصارى"4. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن رجلا أذنب
ذنبا فقال: أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال الله: عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي " 1. وعن علقمة عن عبد الله مسعود قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْن} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه فقال: ألم تسمعوا إلى قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2. وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا"3. وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المغفرة تحل على العبد ما لم يقع الحجاب، فقيل: يا نبي الله وما الحجاب؟ قال: الشرك به، قال فما نفس تلقاه لا تشرك به إلا حلت لها المغفرة من الله، فإن شاء غفر لها وإن شاء عذبها، ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ …} 4 الآية. وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} 1، قال: "كلهم في الجنة"2. وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 3 قال لهم: "ما تقولون فيها؟ قالوا: استقاموا فلم يذنبوا، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: حملتم الأمر على أشده استقاموا لم يرجعوا إلى عباده الأوثان"4. وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "أربع آيات في سورة النساء خير للمسلمين من الدنيا وما فيها قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} 5، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 6،وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} 7، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ
اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} 1،2 قال الحسن البصري: "وأنا أقول آية خامسة فيها3 للمسلمين خير من الدنيا وما فيها قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} 4،5. وعن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يرجون لأهل الكبائر. وروي عقبة بن علقمة اليشكري6 قال: "شهدت مع علي - رضي الله عنه - صفين فأتي بخمسة عشر رجلا أسرى من أصحاب معاوية وكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه"7.
وعن ثابت بن أبي الهذيل1 قال: "سألت علي بن الحسين2 عن أصحاب الجمل، فقال: مؤمنون وليسوا بكفار"3. ويدل على ما قلناه أن من وعد الله ثوابا على عمل عمله بفضل من الله ونعمة ولا يوصف الله بأنه يخلف وعده لقوله تعالى: {إِِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 4، ومن أوعده عذابا على ذنب أذنبه فإن الوعيد حق له وترك الوفاء بالوعيد كرم وجود، وربنا موصوف بالجود والكرم، وكيف لا يحسن من الله العفو عن الذنب وقد أمرنا به وحظنا عليه ومدح فاعله. قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} 5، وقال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 6، قال {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 7، وأخبر عن نفسه بالعفو فقال {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} 8. وروي أن عمرو بن عبيد9 كان يقول بالوعيد، فناظر أبا عمرو بن العلاء10، فاحتج عمرو بن عبيد بأن إخلاف الوعيد قبيح وذم عند أهل اللسان وأنشد لأعرابي يمدح رجلا: أن أبا ثابت لمجتمع الرأي ... شريف الآباء والنسب لا يخلف الوعد والوعيد ... ولا يبيت من داره11 على قرب
. ... فقال أبو عمرو: وإن كان هذا الشاعر قد مدح بالأمرين، فإن كعب بن زهير مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد توعده فأنشده قصيدته: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.......................... إلى قوله: أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله بل وقع موقعا منه فعفى عنه1، وأعطاه بردة كانت له فابتاعها منه معاوية - رضي الله عنه - بعشرة آلاف ردهم كانت مع الخلفاء خلفية بعد خليفة. وروي أن أبا عمرو قال له يا أبا عثمان: أليس لك علم بمعاني كلام العرب. العرب لا تعد العافي مخلفا ثم أنشده: وما يرهب المولى ولا الجار صولتي ... ولا أختفي من سورة2 المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لأخلف ايعادي وأنجز موعدي3 وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وعد الله على عمل4ثوابا فهو منجزه ومن أوعده على عمل عقابا فهو الخيار"5.
والعرب تذم من يفي بوعيده قال الشاعر: كان فؤداي بين أظفار طائر ... من الخوف في جو السماء معلق حذار امرئ قد كنت اعلم أنه ... متى ما يعد من نفسه الشر يصدق1 فان احتجوا بقوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 2. فالجواب عنه أن روي عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها قال: "من يشرك بالله"3. وروي عن الحسن البصري أنه قال: لمن أراد الله هوانه فأما من أراد كرامته فلا، قد ذكر الله قوما فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} 4.وروي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: "يا رسول الله أخبرني بأمر من يعمل سوءاً يجز به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبكر ألست تنصب، ألست تجزع، ألست تمرض، أليس يصيبك اللأواء قال: بلى قال: ذلك5 تجزون به"6. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: " ما سألني أحد عنها منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: هذه الآية ما يصيبه الله من العبد في
نفسه من الهم والنكبة والشركة حتى البضاعة يضعها في كم قميصه فيفقدها فيجزع لذلك فيجدها في جيبه، حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج البتر الأحمر من الكير"1. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا يا رسول الله: ما أبقت هذه الآية من شيء، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ولكن ابشروا وقاربوا وسددوا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة إلا كفر الله عنه بها خطيئة حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه "2. استدلت القدرية بآي الوعيد كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} 3الآية، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} 4 الآية، وقوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 5، وما أشبه ذلك من الآيات6. والجواب: أن لهم القرآن يعاضد بعضه ولا يتناقض بدليل قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 7،فنحمل هذه
الآية التي أوردها القدرية وما أشبهها من آي الوعيد على من لا إيمان معه، فأما من مات مؤمنا فلا يحكم بتخليده في النار بفعل كبيرة غير مستحل لها، بل إذا لم يغفرها لم يظلمه من حسناته لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} 1.وقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاّ مِثْلَهَا} 2 وجاء في التفسير أن الحسنة هو قول لا إله إلا الله، والسيئة هو الشرك3 ومثلها قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ4 وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 5 وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 6.وقوله تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} 7وقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} 8. فإن قالوا: من فعل الكبيرة لا يسمى مؤمنا9. قلنا: بل يسمى مؤمنا لأنه مصدق بالله وبرسوله وباليوم الآخر، وكيف يخلد في النار من عبد الله مائة سنة في معصية واحدة غير مستحل لها، مع أن ظواهر الأي ألا يدخل النار إلا الكفار، قال الله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} 10 وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} إلى قوله
تعالى: {ذُوقُوا1عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} 2، وقوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلاّ الأشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 3،وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} إ لى قوله: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيم} 4قوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} إلى قوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 5 وأوجب النار لمن يكذب بالبعث6. وقد احتجت المرجئة بهذه الآيات وأن الله لا يعذب إلا على الكفر به، وقالت المرجئة: لما كان توحيد ساعة7 يهدم ما قبله من الكفر وجب أن يهدم التوحيد ما معه من المعاصي. وقالت المعتزلة: لما كان الكفر ساعة في آخر عمره يهدم ما قبله من التوحيد، فكذلك سائر المعاصي تهدم ما معها.
والجواب: أن يقابل أحد هذين المذهبين بالآخر ويسقطان ويبقى لنا المذهب بينهما وهو مذهب أهل الحديث. ثم يقال للقدرية: تسويتكم بين الشرك وبين المعاصي بهذا مخالف لنص القرآن وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، فنفى أنه يغفر2الشرك ويغفر ما دونه لمن يشاء وتعليق مغفرته لما دون الشرك لمن يشاء يبطل قول المرجئة أيضا. فإذا وقف المذهبان موقفا واحدا في البطلان ثبت ما قلناه. فإن قالت القدرية: فيجب حمل آي الوعيد في المغفرة لأهل الصغائر دون أهل الكبائر بدليل آي الوعيد. قلنا: آي الوعيد بالمغفرة عامة للسيئات كلها والشرك يخرج بدليل الآي التي ذكرنها والإجماع، وبقي العموم متناولا لما دون الشرك من السيئات وعلى أن عند القدرية لا يجوز أن يعذب الله العباد على الصغائر وإن عذبهم عليها ظلمهم3، فإن كانت غير متوعد عليها4لم يخص بها العموم في الذنوب وعلى أنه يلزم القدرية إذ قالوا: بتخليد أصحاب الكبائر القول بمذهب الخوارج وهو تكفير أصحاب الذنوب وتخليدهم في النار، وهذا رد لما به القرآن والسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار5.
استدلوا بأنا لو لم نقل بالتخليد لأدى ذلك إلى الفساد، لأن المذنب متى علم أنه لا يخلد في النار لم يبال بالمعصية لأنه يعلم أنه يصير إلى الجنة فلهذا بُولِغَ بإدامة العذاب عليه1. والجواب عليه أن يقال: فعلى مقتضى استدلالكم هذا أن تقولوا لا تصح توبته ولا تقبل منه، لأنه متى علم أن توبته تصح وتقبل منه ولم ييأس من البقاء بعد ارتكاب المعصية حمله ذلك على ركوب الكبائر اتكالا منه على التوبة في آخر عمره، فإذا كانت توبته صحيحة الإجماع، ولم يكن بها فساد، فكذلك القول بعدم تخليده. استدلوا بأن الفاسق عدو لله وأمرنا بلعنه والبراءة منه، وبأن لا تأخذنا به رأفة فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} 2. مع أن الله وصف نفسه بالرحمة للمؤمنين بقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 3 ولا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا مرحوما. والجواب: أنا لا نحكم للفاسق بأنه عدو لله وأن الله لعنه إلا بشرط أن يكون في معلوم الله أنه يعذبه ولا يغفر له، لأن العداوة والبغض هو إرادة الله عذابه4 وهذا كما تعبدنا بلعن من ظهرت منه كلمة الكفر والحكم عليه بأنه عدو الله بشرط أن يكون في معلوم الله أنه يموت كافرا، وكما تعبدنا
ببغض شهود الزنا والبراءة منهم إذا قصر عددهم أو اردت شهادتهم والحكم بفسقهم إن كانوا كذبة عند الله1، مع أنا نقول إن الفاسق من المؤمنين لا يكون معاديا لله بمعصيته مع إقراره بتوحيده وإيمانه بربه، لأن العداوة متضمنة للكفر به ويمكن أن يكون الله تعبدنا2بذم الفاسق ولعنه محبة له3، فيكون ردعا له عن فسقه لا لكونه مستحقا للتخليد في النار4.
.............................................................................................
.............................................................................................
..............................................................................................
108 - فصل قد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة في أهل الكبائر من أمته يخرجون بشفاعته من النار، وله شفاعة في جميع الخلق في فصل الحساب، وكذلك الشفاعة للملائكة والأنبياء ولسائر العلماء. ولكن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أعم وأكبر. وأنكرت المعتزلة والقدرية وأهل الزيغ الشفاعة1، وهذا لاعتمادهم على
عقولهم الفاسدة وأخذهم بالمتشابه من القرآن وتركهم الأخبار المروية الثابتة في الصحاح. ودليلنا قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ} 1. وذلك أن المشركين قالوا لآلتهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فأنزل الله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ} 2 ومثلها قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 3 ومثلها قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى} 4. وذكر أهل التفسير أن الكفار إذا دخلوا النار نظروا إلى قوم من الموحدين من أهل الكبائر معهم في النار فيعيرونهم بذلك ويقولون: ما أغنى عنكم إسلامكم في الدنيا فيشتد غم الموحدين لذلك وحزنهم، فيطلع الله على ما
نالهم من ذلك، فيأذن في الشفاعة للملائكة والأنبياء والشهداء والعلماء، فيخرجون بشفاعتهم، فإذا نظر الكفار إليهم قد خرجوا قالوا: فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ويودون لو كانوا مسلمين، قال الله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} 1، فيكبكبون هم وآلتهم فيها قال الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ، قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} إلى قوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} 2. وقال الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3 وهذه الآيات كلها تدل على ثبوت الشفاعة. وروى يزيد الفقير4 قال: "كنا بمكة من قطانها وكان معي أخ لي يقال له طلق بن حبيب5، وكان يرى رأي الحرورية في إبطال القول بالشفاعة، فبلغنا أن جابر بن عبد الله قدم مكة فأتيناه، فقلنا له: بلغنا عنك قول في الشفاعة، وقول الله تعالى يخالفك، فنظر في وجوهنا وقال: من أهل العراق أنتم؟ فقلنا: نعم، فتبسم وقال: أين تجدون ذلك في كتاب الله؟
قال، قلنا: قال الله تعالى في كتابه: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} 1، وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} 2 وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} 3 وأشباه هذا من القرآن، فقال جابر: أنتم أعلم بكتاب الله أم أنا؟ قلنا: بل أنت أعلم به منا، قال: فوالله لقد شهدت تنزيل هذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد شهدت تأويله من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الشفاعة في كتاب الله لمن عقل، قال: قلنا وأين؟ قال: في سورة المدثر، فقرأ علينا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 4، ثم قال: لا ترونها5 حلت لمن لم يشرك بالله شيئا"6. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأخرت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا". 7 وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: "من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، إن
أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله الله مخلصا من قبله "1. وروى أنس بن مالك وجابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"2. وروي أن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - سمع رجلا يقول: "اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله يغني المؤمنين عن شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الشفاعة للمذنبين من المؤمنين والمسلمين"3. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيرني ربي بين أن يدخل نصف أمتي الجنة أو الشفاعة فاخترت الشفاعة"4.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 1 قال: "هو مقام الشفاعة الذي أشفع فيه لأمتي"2. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة ويقولون لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون: أنت أبونا خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء3، وأسكنك جنته، اشفع لنا إلى ربك يريحنا من مكاننا، واشفع لذريتك حتى لا تحرق اليوم بالنار، فيقول: ليس ذلك إلي - وروي لست هناكم - ويذكر لهم خطيئته، ولكن ائتوا نوحاً
فإنه أول نبي بعث الله إلى الأرض، فيأتون نوحاً فيسألونه فيقول لهم: لست هناكم ويذكر لهم خطيئته ولكن ائتوا عبداً اتخذه الله خليلاً، فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا إبراهيم أنت عبده اتخذه اله خليلا فاشفع لذرية آدم لا تحرق بالنار، فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته ولكن ائتوا عبداً اصطفاه الله بكلامه، وألقى عليه محبة منه وكلمه تكليماً، ائتوا موسى، فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول: ليس ذلك إلي - وروي - لست هناكم - ويذكر لهم خطيئته، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، فيأتون عيسى صلى الله عليه وسلم فيقول: لست هناكم وروي - ليس ذلك إلي - ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال فيأتوني فيقولون: يا أحمد خلقك الله رحمة للعالمين، اشفع لنا إلى ربك فيقول: نعم أنا صاحبها، فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، ثم يفتح لي من التحميد والثناء على الرب ما لا يفتح لأحد من الخلق، ثم يقول: سل تعط واشفع تشفع فقال: يا رب ذرية آدم لا تحرق بالنار وروي أنه قال أمتي أمتي، فيقول الله: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من الإيمان أخرجوه ثم أسجد ثانياً فيفتح علي من التحميد ما لا يفتح على أحد، فيقال لي كما قيل لي في الأولة، وأقول كما قلت، فيقول الله تعالى: أخرجوا من في قلبه قيراط من الإيمان فيخرجون ما شاء الله، ثم أقع الثالثة، فأقول مثل ما قلت في الأولة والثانية، فيقال لي ما قيل لي فيهما، ثم يقول الله: اذهبوا فأخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، فيخرج منها ما لا يعلم عدده إلى الله، ثم يؤذن لآدم في الشفاعة فيشفع لعشرة آلاف ألف، ثم يؤذن للملائكة والنبيين فيشفعون حتى إن المؤمن ليشفع لأكثر من ربيعة ومضر، ولا يبقى في النار إلا من لا خير فيه"1.
وروي عن المقدام1 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للشهيد عند الله تسع خصال، يغفر له بأول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى بحلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه"2. وعن عثمان - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يشفع يوم القيامة ثلاثة، الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء"3. وروى علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ القرآن واستظهره وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار"4.
ومن الدليل على ما ذكرناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على المذنب وعلى غير المذنب من أمته، وكذلك أصحابه وإلى يومنا هذا، فلو كان الميت المذنب لا يشفع فيه ولا ينفعه الدعاء لما كان للصلاة عليه معنى. فإن قيل: فقد رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من عليه درهمان ديناً1، فلو قبلت شفاعته في الكبائر لكان في الدرهمين أولى. والجواب: أن هذا كان في أول الإسلام، ثم بعد ذلك لم يمتنع من الصلاة على أحد، فما داوم عليه من الفعل أولى. ويحتمل أن يكون امتناعه من الصلاة عليه ليعلمهم أن حقوق بني آدم لا بد من قضائها، وأن السيئات التي بين العبد وبين الله إذا غفرها الله فإنه يبدل السيئات حسنات، ومن مات وعليه دين فإنه يؤخذ من حسناته وتجعل لمن له الدين، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يصلوا على ذلك الميت. وقال: "صلوا على صاحبكم" 2، فلو لم تنفعه صلاتهم عليه لكان أمره لهم بالصلاة عبثا.3
ومن الدليل على ما ذكرناه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قل: "يخرج الله قوماً من النار بعد ما محشتهم النار بشفاعة الشافعين فيدخلهم الجنة فيسمون الجهنميين"1، وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم "يخرجون منها ضبائر ضبائر2فيلقون على نهر الحياة فينبتون كما تنبت الطراثيث3 والحبة في حميل السيل فيدخلون الجنة مكتوباً على جباههم4 الجهنميون - وروي مكتوباً عليهم - عتقاء الله من النار"5. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آخر من يخرج من النار رجل يقول فيها يا حنان يا منان" 6.
والأخبار في الشفاعة كثيرة وإن اختلفت ألفاظها، إلا أنها متفقة المعنى وأطبق سلف هذه الأمة على تصحيح هذه الروايات، لم ينكرها أحد من الصحابة والتابعين، ولو كانت غير صحيحة لكان الصحابة والتابعون1 أشد إنكاراً لها من المعتزلة، ولو كان ذلك لنقل عنهم كما نقل عنهم الاختلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه2 بعيني رأسه، وكما نقل عنهم الخلاف في المسائل الفقهية. وقد احتجت المعتزلة بخبر يروونه عن الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تنال الشفاعة أهل الكبائر من أمتي". قلنا: هذا خبر لم يذكره أحد من أئمة الحديث، ولا ذكر في شيء من الأصول المشهورة في الأمصار كمسلم، والبخاري، وسنن أبي داود والترمذي والآجري، وإنما ذكرته المعتزلة ليرو أتباعهم أن معهم رواية يعارضون بها الأخبار المشهورة عند أهل السنة3، مع أنا نحمل هذه الرواية على المرتدين من أمتي لأنهم كانوا من أمته فاستصحب الاسم فيهم4. فإن قالوا: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تحسى سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً". وروي مثله فيمن قتل نفسه بحديدة أو تردى من جبل5.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق الوالدين"1. قلنا: هذه الأخبار محمولة على من فعل هذه المعاصي وهو مستحل لها، لأنه يكون كافراً بدليل الأخبار الثابتة في الشفاعة2.
فإن قالوا فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يسرق السارق وهو مؤمن ولا يزني الزاني وهو مؤمن "1. وكيف يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لغير المؤمن. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس منا من بات بطيناً وجاره خميصاً".2 "ومن غشنا فليس منا"3.
والجواب: أن نقول: إن السارق والزاني يفارقهما إيمناهما حين السرقة وحين الزنا، ثم يرجع إليهما لأنه روي أنه قال:"لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". ويحمل أنه عبر ذلك عن نقصان إيانه، ويحتمل أنه أخرجه مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر عن هذه المعاصي كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"1، و"ولا إيمان لمن لا أمانة له"2، 3.
وقوله: "ليس منا من بات بطيناً وجاره خميصاً" و"ومن غشنا فليس منا " أي ليس من أخلاقنا1.
مع أنا نعارضه بما روي أبو الدراداء أن البي صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" قال، قلت يا رسول الله: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، فرددت عليه ذلك حتى قال في الثالثة: نعم، وإن رغم أنف أبي الدرداء".1 فإن قالوا: ما معنى قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى} قلنا: معناه لا يشفعون إلا لمن رضي عمله من الموحدين. فإن قالوا: فما معنى قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ} 2. قلنا: أراد بالظلم هناهنا الكفر لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3. فإن قالوا: فما أنكرتم أن4 تكون الأخبار الواردة في الشفاعة من النبيين والملائكة مستحقة للمؤمنين الذين تابوا من الذنوب على وجه الجزاء على أعمالهم وطاعتهم، لأن الله تعالى قال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} 5.
فأما أن يشفعوا لأهل الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها فلا يجوز أن يكون المراد بذلك الشفاعة لمؤمنين الذين ماتوا ولا ذنوب لهم، فتكون الشفاعة زيادة لهم1 في النعم على ما يستحقونه بأعمالهم، ويجوز أن يكون المراد بالشفاعة لأه الصغائر الذين واقعوها مع اجتنابهم الكبائر. والجواب: أن هذا تبديل لا تأويل، لأن الأخبار المروية أنه يخرج من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان2، وفي بعض الروايات "من قال لا إله إلا الله"3، وهذا يدل على أنه لم يعمل شيئا من الطاعات المأمور بها مثل الصلاة4 والزكاة وغيرهما5. وأما الآية التي ذكروها فإن المراد بها التوبة من الكفر بدليل قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، وكذلك قوله تعالى: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} . وسبيل الله هو الإسلام بدليل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} . وأما قولهم إنهم يستغفرون لأهل الصغائر أو لمن لا ذنب له، فعندهم أن الله إن6
عذبهم على الصغائر ظلمهم1، ومن لا تستحق عليه العقوبة على الصغير أو من لا ذنب له لا معنى للشفاعة له، لأن الشافع يقول يا رب لا تظلمه ولا تعذبه على ما لا يستحق العذاب عليه، وهذا لا يليق بالنبيين والملائكة، فثبت أنهم إنما يشفعون لمن استحق العقاب من الموحدين فإن قالوا: فقولوا: إنهم يشفعون للكفار2 وإن لله يوصف بأن3 يدخل الكفار الجنة. والجواب: أنا نقول: أما في العقل فلا يستحل أن الله يدخل الكفار الجنة، لأن ذلك إنعام من الله وتفضل على خلقه، وقد أنعم عليهم في الدنيا والداران مكله، فما لم يستحل منه في الدنيا لم يستحل منه في الآخرة، إلا أن القرآن والسنة قد وردا بخلاف ذلك، فأخبر أنه لا يغفر لمن أشرك به، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخلهم الجنة ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، واجمعت الأمة على قبول هذه الأخبار وموجبها. فإن قالوا: فإذا كانت الشفاعة تقبل في أهل الكبائر، فمات تقولون فيمن حلف بطلاق امرأته ثلاثاً ليعمل ما تنال به الشفاعة، فما تأمرونه بعمل لئلا تطلق عليه امرأته، أتأمرونه أن يعمل بالمعاصي، فهذا لا يجوز، أم لا تأمرونه بذلك؟ فما المخرج له حتى لا تطلق عليه امرأته؟. فالجواب: أنا لا نأمره بعمل المعصية وإنما نأمره بالإرزاء4 بهذا السائل، لأنه أورد سؤاله هذا على سبيل الشناعة لجهله بالأخبار الواردة في الشفاعة، ونأمره بأن يتعلم الرد على القدرية والإستقامة على الإيمان، لأن ذلك طاعة لله والشفاعة إنما هي للمؤمنين على ما ابتلوا به من المعاصي،
ولا يخلوا أحد من المعاصي. قال النبي صلى اله عليه وسلم: "ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية إلا يحيى ابن زكريا"1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا وله ذنب قد اعتاده الفينة بعد لفينه ثم يتوب "2. أي الحين بعد الحين.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن خلق مفتناً" 1أي ممتحناً يمتحنه بذنب ثم يتوب ثم يعود في الأحاديين ثم يتوب. وأيضاً فإنا قد روينا أن للنبي2 صلى الله عليه وسلم شفاعة في جميع الخلق من النبيين وغيرهم في فصل القضاء يوم القيامة، وهذا المخالف من جملتهم. فإن قالوا: إذا قلتم إن النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة في أهل الكبائر من أمته فقولوا إنه يشفع لمن نفى شفاعته وأبطلها. فالجواب: أنا نقول إنه لا يشفع فيمن نفى شفاعته لمعنيين: أحدهمما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب بالشفاعة لم ينلها "3. والثاني: أن من كذب بالشفاعة فقد رد الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فصار كمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله، فصار بذلك كافراً لأنه أبطل شرف النبي صلى الله عليه وسلم الذي خصه الله به في القيامة.
109 - فصل وعند أهل الحديث أن العذاب في القبرحق، وأن مسألة منكر ونكير في القبرحق على ما جاء في الأخبار. وأنكر المعتزلة وأهل الزيغ ذلك كله1. ودليلنا قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} 2، قال أهل التفسير: تثبيتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا هو قول لا إله إلا الله وفي الآخره عند المسألة في القبر3. وروى البراء بن عازب قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، وبيده عود ينكت به الرض، ثم رفع رأسه وقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً ثم قال: إن المؤمن إذا
كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يقعدوا منه مد النظر1، ثم يجيء ملك الموت فيقعد عند رأسه فيقول: "أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفه عين حتى يأخذوها ويجعلونها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، فتخرج منه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: هذا فلان بن فلان بأحسن أسمائه الذي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يصعد إلى سماء الدنيا فيستفتح له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى تنتهي إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة، واعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان ويقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ويقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله فيقولان له: ما علمك2؟ فيقول: قرأت كتاب الله، وآمنت به وصدقت. فينادي مناد في السماء صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من طيبها وروحها ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: ابشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك وجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه
ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرق في جسده فيخرجها تتقطع معها العروق والعصب كما ينزع السّفود من الصوف المبلول فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يدها طرفة عين حتى يأخذوها يجعلوها في تلك المسوح فتخرج كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون على ملآ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟، فيقولون: هذا فلان بن فلان بأقبح أسمائه الذي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى سماء الدنيا، فيستفتحون له فلا يفتح له، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} 1، قال: فيقول الله اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدوهم ومنها نخرجهم تارة أخرى، قال: فتطرح روحه ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 2 فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ها3 لا أدري، فيقولان له ما دينك؟ فيقول هاها4 لا أدري، فينادي مناد من السماء، افرشوا له من النار وألبسوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه في قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب نتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسؤوك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك وجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: رب لا تقم الساعة"5.
ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} .1 وروى أبو هريرة وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية قال: "هو الكافر يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه اضلاعه وذلك المعيشة الضنكا التي قال الله"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل"3. وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة أو من أهل النار يقال له هذا مقعدك إلى يوم القيامة "4.
وروى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له فحادت به فكادت تقلبه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة فقال: "إن هذه الأمة لتبتلى في قبورها فلولا ألا تدافنوا دعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع منه، ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر قلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من الفتن، قلنا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: تعوذوا بالله من الدجال قلنا: نعوذ بالله من الدجال"1. وروى أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى أنه يسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمداً صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقولان: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما كلاهما2، وذكر أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وأما الكافر والمنافق فيقولان له3: ما كنت تقول في هذا الرجل، فيقول: لا أدري كنت أقول كما يقول الناس، قال فيقال له: لا دريت ثم يضرب بطراق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة فيسمعه من يليه غير الثقلين، فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه"4. وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبيرة أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر
فكان يمشي بالنميمة، ثم أخرج جريدة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، فقيل: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا"1. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخلت علي عجوز من عجائز يهود المدينة، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم قالت: فكذبتها فخرجت، ودخل عليّ رسول الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إن عجوزاً من عجائز يهود المدينة دخلت علي فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: صدقت إنهم يعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم كلها، قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر"2. وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في دعائه ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وفتنة القبر ومن عذاب القبر ومن فتنة الغنى والفقر ومن شر فتنة المسيح الدجال، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم". أخرجه البخاري ومسلم وأبو عيسى3. وفي الباب عن أنس4 وزيد ابن أرقم5.عن ميمون بن أبي ميسرة6،
قال: كان لأبي هريرة صيحتان في كل يوم، أول النهار يقول: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، وإذا كان العشي قال: ذهب النهار وعرض آل فرعون على النار فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار"1. وعن عطاء بن يسار قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:"يا عمر كيف أنت إذا أعد2 لك أهلك ثلاثة أذرع وشبراً في عرض ذراع وشبر، ثم قام إليك أهلك فغسلوك وكفنوك وحنطوك ثم حملوك حتى يغيبوك فيه، ثم يهيلوا عليك التراب ثم انصرفوا عنك، وأتاك مسائلا القبر منكر ونكير أصواتها كالرعد القاصف وأبصارها كالبرق الخاطف وقالا: من ربك، وما دينك قال: يا نبي الله ويكون معي قلبي3 الذي هو معي اليوم؟ قال: نعم، قال: إذا أكفيكهما بإذن الله"4. وروي أن رجلا قال لأنس بن مالك - رضي الله عنه -: "إن قوماً يكذبون بالشفاعة، فقال: لا تجالسوهم، فسأله آخر وقال: إن قوماً يكذبون بعذاب القبر فقال: لا تجالسوهم"5. وروى أو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الحافظ اللالكائي في كتابه عن محمد بن نصر الصائغ6: "كان أبي مولعاً بالصلاة على الجنائز من عرف ومن لم يعرف، فقال: يا بني خرجت يوماً إلى السوق أشتري حاجة فصادفت جنازة رجل معها خلق كثيراً ما أعرف منهم أحداً،
فقلت أمضي مع هذه أصلي عليها وأقف حتى أروايها فتبعها وصلوا عليها وصليت معهم وأدخلوها المقبرة وجاؤا بها إلى قبره محفور، فنزل إلى القبر نفسان وجذبوا الميت1 فأخذوه وسرحوا عليه التراب وخرج واحد وبقي واحد وحثى الناس التراب عليه، فقلت: يا قوم يدفن حي مع ميت - لا يكون شبه لي2 - ثم رجعت فقلت: ما رأيت إلا اثنين خرج واحد وبقي الآخر، لا أبرح من هاهنا حتى يكشف الله لي ما رأيت، فجئت إلى القبر فقرأت عشرات مرات يس وتبارك وبكيت ورفعت يدي، وقلت: يا رب اكشف لي عما رأيت فإني خائف على عقلي وديني، فانشق القبر وخرج منه شخص فولى مبادرا3، فقمت وراءه وقلت: يا هذا بمعبودك إلا وقفت حتى أسألك فما التفت إلي وولى ومضيت خلفه، فقلت: يا هذا بمعبودك إلا ما وقفت حتى أسألك فما التفت إلي وولى فقلت: أنا رجل شيخ ليس بمكنتي النهوض، فبمعبودك إلا وقفت حتى أسألك فالتفت إلي وقال: نصر الصائغ؟ فقلت: نعم قال: لا تعرفني؟ قلت: لا، قال: فنحن ملكان من ملائكة الرحمة قد وكلنا بأهل السنة إذا وضعوا في قبورهم حتى نقلنهم الحجة، وغاب عني"4. وروى اللالكائي أيضا عن إبراهيم بن أدهم5 قال: "تبعت جنازة بالساحل فقلت: بارك الله لي في الموت، فقال قائل من السرير: وما بعد
الموت، قال إبراهيم: فدخل على منه رعب حتى ما قدرت أحمل قائمة السرير، فدفن الميت وانصرفوا، وقعدت عند القبر مفكرا في القائل من السرير وما بعد الموت، فغلبتني عيناي على ركبتي، فإذا أنا بشخص من القبر أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا وأنقاه ثيابا وهو يقول: يا إبراهيم، قلت: لبيك فمن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا لقائل من السرير وما بعد الموت، قلت: فبالذي خلق الحبة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة1 إلا قلت لي من أنت، فقال: أنا السنة أكون لصاحبي في الدنيا حافظا وعليه رقيبا وفي القبر نورا ومؤنسا وفي القيامة سائقا وقائدا إلى الجنة"2. قلت: وهذا الخبر موافق للخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمل ابن آدم يأتيه على صورة شخص في القبر على ما مضى3. وذكر اللالكائي فيما روي عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "بينما أنا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض في عنقه سلسلة يمسك4 بطرفها أسود في يده مرزبة فقال: يا عبد الله أسقني، قال ابن عمر: فلا أدري أعرفني أم كما يقول الرجل للرجل يا عبد الله، فقال لي الأسود: يا عبد الله لا تسقه، ثم اجتذبة جذبة ودخلا في الأرض جميعا". وفي رواية فضربه بمرزبة حتى غيبه في الأرض، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذاك فقال: وقد رأيته ذاك أبو جهل وذاك عذابه إلى يوم القيامة"5.
وروى أبو هريرة وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتدرون ما الضنك الذي قال الله؟ قلنا: الله ورسوله أعلم فقال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده أنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً. أتدرون ما التنين، قال: حيات كل حية لها تسعة وتسعون رأسا تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة، ولو أن تنينا نفخ في الأرض ما أنبتت خضرا"1. وروي عن عبد الحميد بن محمود2 قال: "كنت عند ابن عباس فأتاه رجل فقال أقبلنا حجاجاً فلما صرنا في الصفاح3 توفي صاحب لنا، فحفرنا فإذا أسود قد أخذ اللحد فحضرنا آخر، فإذا الأسود قد أخذ اللحد، قال: فحفرنا قبرا آخر فإذا الأسود قد أخذ اللحد فتركناه وأتيناك فما تأمرنا؟ قال: ذلك عمله الذي كان يعمل اذهبوا فادفنوه في بعضها، فوالله لو حفرتم الأرض كلها لوجدتم ذلك، قال: فألقيناه في قبر منها فلما قضينا سفرنا أتينا امرأته فسألناها عنه فقالت: كان رجل4 يبيع الطعام فيأخذ قوت أهله كل يوم، ثم ينظر مثله من قصب الشعير فيقطعه فيخلطه في طعامه مكان ما كان يأخذ"5.
وروى صدقة بن خالد1 عن بعض مشايخ دمشق قال: "حججنا مع محمد بن سريد الفهري2 فهلك صاحب لنا في بعض الطريق على ماء من تلك المياء قال: فأتينا أهل الماء نطلب شيئا نحفر له، فأخرجوا إلينا فأساً ومجرفة، وقالوا: نحن في هذا الموضع الذي ترون انقطاعه، وإنما وضع هذان لمثل ما طلبتم، فأعطونا عهداً لتردونهما إلينا ففعلنا، فلما وارينا صاحبنا في القبر نسينا الفأس في القبر، فأعظمنا أن ننبشه فقلنا: نرضي القوم من ثمن فأسهم، فأخبرناهم الخبر وعرضنا عليهم ثمن الفاس فأبوا أن يقبلوه، وقالوا: ليس نجد في موضعنا هذا منه عوضاً وقد أعطيتمونا ما علمتم، فرجعنا إلى القبر فنبشناه فوجدنا الرجل قد جمع عنقه ويداه ورجلاه في حلقة الفأس، فسوينا عليه التراب، وعدنا إلى القوم فأخبرناهم أنه ليس إلى الفأس سبيل وأرضيناهم من الثمن، فلما انصرفنا جئنا امرأته فسألناها عنه بما كان يخلو فيما بينه وبين الله عز وجل قالت: قد كان على ما رأيتم من حاله يحج ويغزو فلما أخبرناها الخبر، قالت: صحبه رجل معه مال فقتل الرجل وأخذ المال"3. وروى ابن عمر قال: "خرجت في سفر فرفع في الطريق إلي مقبرة، فأويت إلى امرأة فلما جن الليل سمعت صوتاً من القبر وهو يقول: شن وما شن بول وما بول، فجزعت من ذلك فقلت للمرأة: ما هذا؟ فقالت: ولدي، قدم علينا رجل في يوم شديد الحر فاستقانا فقال ولدي: قم إلى الشن فأشرب منه ولم يكن في الشن شيء، فقام ليشرب فلم يجد فيه شيئاً فمات، وكان لا يستبري من البول وكنت أنهاه عن ذلك فلا ينتهي، فلما مات دفنته في هذه فكلما جنّ الليل يصيح شن وما شن بول وما بول4،
فحدثت به النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر الرجل وحده1. فقيل: إنّما نهى عن ذلك عند ذكر هذه الصفة، لن ابن عمر جزع مما2 أصابه، وقيل: لأجل الرجل الذي مات من العطش، لأنه لو كان معه رفيق لأعانه على طلب الماء. وهذه الأخبار كلها وإن اختلفت ألفاظها فهي متفقه في المعنى.
110ـ فصل وعند أهل الحديث أن الحسنات والسيئات للموحدين توزن بميزان يوم القيامة، وأن الصراط حق، وأن حوض النبي صلى الله عليه وسلم حق. وأنكرت المعتزلة والقدرية وأهل الزيغ ذلك كله1.
والدليل على الميزان قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} 1. وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} 2، وقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم} 3، وقوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وبحمده" 5.
وروي عن سلمان أنه قال: "يوضع الصراط يوما لقيامة وله حد كحد الموسا، ويوضع الميزان له كفتان لو وضع في أحدهما السموات والأرض وما فيهن لوسعهن، فتقول الملائكة: ربنا لمن تزن بهذا؟ فيقول: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: ما عبدناك حق عبادتك"1. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ملكا موكل بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان، فإن رجح نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خفت نادى الملك شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً"2. وروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أثقل شيء يوضع في الميزان الخلق الحسن"3. وروي عن حذيفة أنه قال: "صاحب الميزان يوم القيامة جبريل يرد بعضهم على بعض، قال فيؤخذ من حسنات الظالم فترد على المظلوم، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فردت على الظالم"4. وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يصاح يوم القيامة برجل من أمتي على رؤوس الخلائق، فيؤتى به إلى الميزان فينشر له تسعة وتسعين سجلا كل سجل منها مد البصر فيها خطاياه، فيقال له: أتنكر من هذا شيئا فيقول: لا
يا رب، فيقول: للك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول الله: بلى إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم اليوم عليك، فتخلاج له بطاقة بقدر أنملة فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول الرجل: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت الطباقة"1. والبطاقة هي الرقعة الصغيرة. وروى أبو أمامة قال: "لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} 2 جمع النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم فأجلسهم على الباب، وجمع نساءه وأهله وأجلسهم في البيت ثم اطلع وقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من الله لا يغرنكم قرابتكم مني، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، ثم أقبل على أهله فقال: يا عائشة ابنة أبي بكر، يا حفصة بنت عمر، يا أم سلمة، يا فاطمة ابنة محمد، يا أم الزبير عمة النبي صلى الله عليه وسلم، يا فلانة يا فلان اشتروا أنفسكم من الله، واسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئاً فبكت عائشة - رضي الله عنها - ثم قالت: "وهل يكون ذلك يوم لا يغني عني شيئاً؟ قال: نعم، في ثلاثة مواطن يقول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 3، وقال عز وجل: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} 4 فعند ذلك لا أغني عنكم من الله شيئاً، وعند النور من شاء الله أتم نوره ومن شاء تركه في الظلمة يَعْمَه فيها، ولا أملك لكم من الله شيئاً، وعند الصراط من شاء الله عز وجل سلمه وأجاره ومن شاء كبكبه في النار، قالت عائشة: أي حبيب قد علمنا
أن الميزان هي الكفتان يوضع في هذا الشيء وفي هذا الشيء فيرجح أحدهما وتخف الأخرى وقد علمنا النور والظلمة، فما الصراط؟، قال: طريق بين الجنة والنار يجوز الناس عليها وهي مثل حد الموسا والملائكة صافين يميناً وشمالاً يتخطفونهم بكلاليب مثل شوك السعدان، يقولون: رب سلم رب سلم1 وأفئدتهم هواء، فمن شاء سلمه ومن شاء كبكبه"2. وأما الدليل على الحوض، فما روى ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حوضه، فقلت: يا رسول الله من أول الناس وروداًله؟ قال: المهاجرين3 الشعثة رؤوسهم، الدنسة ثيابهم، الذين لا تفتح لهم السدد، اولا ينكحون المنعمات"4.
وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن حوضي لأبعد ما بين1 أيله2 وعدن. والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد النجوم، ولهو أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، والذي نفسي بيده إني لأذود عنه الرجال كما يذود الرجل عن حوضه، قيل: يا رسول الله هل تعرفنا يومئذ؟ قال: نعم تردون عليّ غراً محجلين من أثر الوضوء ليست لأحد غيركم"3. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا فرطكم على الحوض "4. وروي أنه ذكر الحوض عند عبيد الله بن زياد5 فأنكره فبلغ أنساً، فقال: "لا جرم والله لأفعلن به، قال فاتاه فقال ما ذكرتم من الحوض ما أنكرتم من الحوض6، قال عبيد الله: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكره؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من كذا وكذا مرة يقول: " حوضي ما بين أيلة
ومكة وما بين صنعاء ومكة وأن آنيته أكثر من نجوم السماء"1. وفي بعض الروايات أنه قال: "إن حوضي من مقامي إلى عمّان"2، قاله أبو منصور3 بنصب العين وتشديد الميم وهي بالشام. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لي حوضا ما بين الكعبة إلى بيت المقدس، له ميزابان من الجنة ذهب وميزاب من ورق، أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، فيه أباريق عدد نجوم السماء، من يشرب منه لم يظمأ حتى يدخل الجنة، ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام من الناس - والفئام الجماعة - ومنهم من يأتيه العصب4، ومنهم من يأتيه النفر، ومنهم من يأتيه الرجلان والرجل، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني أكثر الناس تبعا يوم القيامة "5.
111 – فصل: في ذكر فضائح القدرية وذلك أنهم ردوا السنة كلها وأبطلوا وتأولوها على آرائهم الفاسدة فهم كمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله في حياته، ولما م يمكنهم رد القرآن قالوا إنه مخلوق لهم إذا قرؤوه ويقدرون على مثله لو جمعوا هممهم، ومن كان هذا قوله فهو كافر1 لا تقبل فيه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وروي أن بعض أئمة الحديث قدم ليصلي على بعض دعاة القدرية، فقام عنده ولم يكبر، وقال بأعلى صوته: اللهم إن هذا ما كان يؤمن بعذاب القبر فلا تنجه منه، اللهم إن هذا ما كان يوؤمن بمنكر ونكير فلا تلقنه حجته عند مسألتهما إياه، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بأن الجنة والنار قد خلقا فلا تفتح له باباً من الجنة إلى قبره وافتح له باباً إلى النار وقد سمعك تقول: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 2 اللهم والباب لذي يفتح له إلى النار فلا تغلقه عنه إلى المحشر، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالنظر إلى وجهك الكريم فلا تره وجهك، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالحوض الذي وعدته نبيك فلا تسقه منه يوم العطش الأكبر، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بأن الحسنات والسيئات توزن بميزان له كفتان وقد سمعك تقول: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ} 3 اللهم فلا تثقل ميزانه ولا تترك في صحيفة عهمله حسنة يرجح بها الميزان، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالعقاب الذي مع المساءلة فلا تنجه منها، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالصراط الذي يعبر عليه الخلق إلى الجنة من المحشر فلا يجاوزه عليه، اللهم إن هذا ما كان يزعم أنه كان مستغيثاً عنك في دار الدنيا فيما كان من مقدرواته على زعمه غير مفتقر إليك في شيء من
ذلك، فكن له في الآخرة كما كان يعتقد في دار الدنيا فيك فكله إلى حوله وقوته، اللهم إن هذا يزعم أنك ساويت بين حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل وسائر الكفار فيما أنعمت عليه من العون على الإيمان، وزعم أنك ساويت بين حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل عدوك، فساو يا رب بينه وبين الشيطان في النار كما كان مساويا له في دار الدنيا على زعمه فإنه قد أعظم الفرية عليك، اللهم إن هذا كان يزعم أنه خالق لعمله وما كان يفعله في دار الدنيا فلا تخلق فيه ما يميز به بين الخير والشر، واختم على سمعه وبصره وقلبه فإنه زعم أنما يدرك بسمعه وبصره الذي ركبت فيه كان خلقاله فأحجبه أن يدرك شيئا من المدركات أو المسموعات والمبصرات، فإنه زعم أن كل ذلك كان من مقدوره ولا يقدر معبوده على شيء من أفعاله لا الخير ولا الشر، وقد سمعك أمرت عبادك أن يسألوك استعانتك1 على طاعتك وهو قولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 فكان يزعم أنه مستغن عنك غير محتاج إليك في حال ما كان يفعل أفعاله من الإيمان والطاعات وغير ذلك، وكله يا رب إلى حوله وقوته كما كان يزعم ولا تعنه في عرصات القيامة، اللهم إن هذا كان يزعم أنه لا علم لك بعد أن3 سمعك تقول: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ} 4 قوله: {أََنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 5 فلا تحطه بشيء من علمك في الآخرة، واجعله اضل سبيلا من الأنعام في الآخرة، اللهم إن هذا كان ينفي يديك وقد سمعك تقول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 6 اللهم فاجعل يديه مغولولتين إلى عنقه، اللهم إن هذا كان يزعم أن معبوده لا وجه له وقد سمعك تقول: {إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} 7 و {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} 8، فحول وجهه إلى قفاه مسوداً منكلاً به، اللهم إن هذا كان يزعم أن له مشيئة دون مشيئتك فيما كان يشاء من أفعاله أو بعضها وقد سمعك تقول: {وَمَا تَشَاءُونَ
إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1. فكله إلى مشيئته، اللهم إن هذا كان يزعم أنك أردت ما لم تعلم وخروج الأشياء عن علمك وعلمت ما لم ترده، وأنك لم ترد شهادة حمزة وغيره وقد سمعك تقول: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} 2 وأنك لم تأمر إبراهيم خليلك بذبح ولده حيث لم ترد ذبحه، وقد سمعك تقول مخبراً عنهما: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} 3 اللهم فلا تحشره في زمرتهما، اللهم إن هذا كان يزعم أن من عبدك ألف سنة وأتى كبيرة غير مستحل لها ولا جاحد لحقك أنك تخلده في النار مع فرعون وقارون والشياطين، فلا تقبل فيه شفاعة4 نبيك وخلده مع فرعون وهامان وقارون، فقد أتاك بهذه المعضلات والكفر الصريح فاحشره مع زمرة من زعم أنه يكون معهم فلقد أعزم الفرية عليك تعاليت يا رب عما يقول الظالمون علوا كبيراً، ثم التفت إلى من خلفه بعد كلامه هذا وقال: إنما فعلت هذا لتعلموا أنها سنة فإن الله تعالى يقول لنبيه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} 5، وكما فعل ابن عباس لما صلى على جنازة فجهر بفاتحة الكتاب وقال: أما أني لم أجهر فيها لأن الجهر مسنون، ولكن جهرت لتعلموا أن فيها قراءة"6.
112 - فصل: الدين يتصرف إلى وجوه: أحدهما الجزاء والحساب لقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1، أي يوم2 الحساب والجزاء ومثله قوله تعالى: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} 3، أي بيوم الحساب ومثله قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} 4، أي غير محاسبين ومثله قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} 5، أي لمحاسبون، وقوله تعالى: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} 6. ومن هذا يقال: دنت فلانا بما صنع، أي جزيته، ومنه قولهم كما تدين تدان، قال الشاعر: واعلم وايقن أن ملك زائل ... واعلم بأن كما تدين تدان7 وقد يكون الدين بمعنى الحكم ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} 8، أي في حكم الملك، وقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} 9، أي في حكم الله. وقد يكون الدين بمعنى: القهر والإذلال، ومن هذا يقال: دنت القوم أي قهرتهم وأذللتهم، فدانوا قال القطامي10: ... ... ... ... ... كانت11 نوار تدينك الأديان12.
أي تذلك. والدين لله إنما هو هذا، ومنه قولهم: فلان يدين بدين الإسلام، أو بدين اليهود، أي يعتقده وينطوي عليه. وقد يكون الدين بمعنى الإنقياد والاستسلام، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلام} 1، وقد يكون الدين بمعنى الملة، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 2، أي الملة المستقيمة3. وأما الكفر فأصله: التغطية:، يقال: كفرت الشيء أي غطيته، ومنه يقال: تكفر فلان بالسلام، أي تغطي به. وسمي الليل كافراً لأنه يستر كل شيء ويغطيه. قال لبيد4 في الشمس: حتى إذا ألقت يداً في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها5 وأراد بذلك ألقت الشمس يدها في الليل. وقال آخر يصف ظليما6ً ونعامة: فتذكرا ثَقَلاً7رثيداً8 بعدما ... ألقت ذُكَاءُ يمينها في كافر9
وأراد بالثقل النبات، ورثيداً من صفات ارتوائه1، وذكاء هي الشمس ومنه يقال للصبح: ابن ذكاء لأن وضوءه من الشمس2.ومما يدل على أن الكفر التغطية قول الله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} 3، والكفار هاهنا الزراع الواحد كافر، لأنه إذا زرع غطى بذره بالتراب، وسمي الكافر بالله كافراً لتغطية نعم الله بالجحود، وقيل: لأنه يستر بكفره الإيمان4.والشرك في اللغة مصدر أشركته في الأمر أشركه شركاً, ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 5، أي نصيباً، وأراد باسم الولد أنهما سمياه عبد الحارث، فكان الشرك بالله هو أن يجعل له شركاً6. واليهود سموا يهداً لأنهم انتسبوا ببعض الملوك إلى يهوذا بن يعقوب لأمر خافوه7، وسموا8 النصارى باسم القرية التي نزل فيه المسيح وهي ناصرة من أرض الجليل9.
والفسق في اللغة: الخروج ماخوذ من قولهم فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، وسمي الفاسق في الدين فاسقاً لخروجه عن طاعة الله تعالى، قال الله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} 1 أي عن طاعته2. والمنافق هو من يدخل في الإسلام باللفظ ويخرج منه بالاعتقاد، وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال: أحدها: إنما سمي بذلك لأنه مأخوذ من النفق وهو السرب في الأرض قال الله تعالى: {نَفَقاً فِي الآرْضِ} 3، أي مدخلا تحت الأرض، والمنافق ستر كفره وغيبه فشبه بالذي يدخل وهو السرب. والقول الثاني: إنما سمي به لأنه مأخوذ من نافقا اليربوع وهو جحره، لأن له جحراً يقال له النافقا وجحراً يقال له القاصعا، فإذا طلب من النافقا فضبح خرج من القعصاء فشبه باليربوع لأنه يخرج من الإيمان عن الوجه الذي يدخل فيه. والثالث: إنما سمي بذلك لإظهاره غير ما يضمر تشبيهاً باليربوع، وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب، فإذا رابه ريب رفع ذلك التراب برأسه فخرج فظاهر جحره تراب كالأرض وباطنه حفر، كذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر4.
113- فصل والإسلام في اللغة: هو الانقياد والاستسلام ومنه قوله تعالى: {وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} 1 أي المقادة2، وقوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3 أي ينقادون لحكمك4 ويقال سلم واستسلم وأسلم إذا انقاد5. والإيمان في اللغة هو التصديق لقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} 6 أي بمصدق لنا7،وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} 8,9 أي تصدقوا ويقال: فلان يؤمن بعذاب القبر والشفاعة، أي يصدق به10.واختلف الناس في الإسلام والإيمان هل هما شيئان أو شيء واحد: فقال بعضهم: هما شيء واحد11.
وقال آخرون: هما شيئان لا تواصل بينهما1. وقال آخرون: هما شيئان بينهما ارتباط وتواصل2.
واختلف الناس في الإيمان الشرعي أيضاً على ثلاثة مذاهب: فذهب الأشعرية: إلى أن الإيمان الشرعي هو التصديق بالقلب لا غير1. وذهب المرجئة: إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان بالشهادتين، وإن لم يعرف بقلبه من غير عمل2. وقيل إن المرجئة يقولون: الإيمان هو القول باللسان والتصديق بالقلب من غير عمل3.
وقالت الجهمية: الإيمان التصديق بالقلب لا غير1. وذهب أهل الحديث وجماهير العلماء إلى أن الإيمان: هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان بالشهادتين والأعمال بالجوارح2،وأقل ما يقبل من الإيمان هو المعرفة التي لا تخالطها الشكوك3. والإسلام عام والإيمان خاص4، والإيمان بعض الإسلام وهو أشرف
أجزائه1، فكل تصديق تسليم2 وليس كل تسليم تصديقا3،وكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، والإسلام ظاهر الأمر، والإيمان باطنه4 وحقيقة الإسلام الطاعة قال الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 5،أي مطيعين. وقد ورد ذكر الإسلام الطاعة في الشرع على وجهين: أحدهما: المراد به الإخلاص وهو قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} وأراد به"أخلص" {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 6 يعني فقل: أخلصت، ومثله قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} يعني فقل: أخلصت يعني أخلصت ديني لله - إلى قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا} ،7 والمراد أأخلصتم فإن أخلصوا8، ومثلها قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} 9.
الوجه الثاني: المراد به الإقرار، وهو قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْض} 1 يعني أقر بالعبودية، وقوله تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} يعني من الملائكة وقوله تعالى: {وَالأرْضِ} يعني المؤمنين {طَوْعاً} ثم قال {وَكَرْهاً} يعني أهل الأديان2يعلمون أن الله خلقهم لأن الله قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3، ومما ورد بذكر الإسلام والمراد به الإقرار باللسان قوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 4، لأنهم أقروا باللسان ولم يصدقوا بقلوبهم5. وقد ورد الشرع بذكر الإيمان مفرداً على أوجه:
أحدها: المراد به الإقرار باللسان لا غير، وذلك لما أخبر الله عن إيمان المنافقين مثل قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} - إلى قوله: - {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّة} 1، والمراد به إقرارهم بألسنتهم دون تصديقهم بقلوبهم2. والوجه الثاني: ما ورد والمراد به التصديق والأعمال كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} 3، وبقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} 4 وما أشبهها مما وعد الله عليه الثواب والجزاء، فالمراد به التصديق باللسان والجوارح. والوجه الثالث: ما ورد والمراد به التوحيد وذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} 5، والمراد بكفره بالتوحيد6، كقوله تعالى: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} 7 والمراد يدعون إلى التوحيد. والوجه الرابع: ما ورد والمراد به به التصديق ببعض دون بعض كقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 8 يعني مشركي العرب، لأنك إن سألتهم من خلقهم قالوا الله وهم يجعلون لله شركاء9، وأهل الكتاب
يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض قال الله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا ... } 1 يعني إيمانهم ببعض الكتب2 والرسل دون بعض3. وورد ذكر الإيمان والإسلام في الشرع على سبيل الترادف والتوارد وعلى سبيل الاختلاف، فأما على سبيل الترادف فقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4، ولم يكن فيها بالاتفاق إلا بيت واحد وهم أهل بيت لوط5، لقوله6 تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} 7 ومثلها قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 8. ومن السنة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان "9.
وروى ابن عباس "أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان فقال: أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تطوا الخمس من المغنم"1. وروي أنه فسر الإيمان بالخمس التي قال بني الإسلام عليها2. وأما وروده على الاختلاف والتداخل3 فقوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 4 فأراد بالإيمان هاهنا التصديق بالقلوب، لأنهم ادعوا ذلك فأخبر الله أنهم ليسو كذلك، وأمرهم بأن يقولوا أسلمنا ومعناه استسلامهم في الظاهر باللسان والجوارح5 بدليل قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، لأن هذه الآية نزلت
بقوم من أعراب بني أسد بن خزيمة نزلوا المدينة وادعوا الإسلام وعلم الله منهم غير ذلك فقال: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، مخافة القتل والسبي1. وروى أبو برزة2 السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عروته يفضحه في بيته "3. وروى عبد الله بن عمر عن أبيه - رضي الله عنهما - قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فألزق ركبته بركبته ووضع كفيه على فخذيه، ثم قال: أخبرني يا محمد عن الإسلام، وما الإسلام4؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا
فقال: صدقت قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: "فأخبرني عن الإيمان قال: تؤمن بالله وملائكته وكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال عمر: فلبثنا ملياً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"1. وروى سعد - رضي الله عنه - "أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم قسْما فأعطى ناساً ومنع آخرين، فقلت: يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ومنعت فلاناً وهو مؤمن فقال: لا تقل مؤمن بل مسلم. وروي في هذا أنه قال صلى الله عليه وسلم: أو مسلم فأعدته عليه ثلاثاً وهو يقول: أو مسلم"2. وروي " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل، فقال صلى الله عليه وسلم الإسلام فقيل: أي الإسلام أفضل فقال: الإيمان"3. وروي عن الحسن البصري وابن سيرين أنهما كانا يهابان أن يقولا مؤمن ويقولان مسلم4.
وفي جميع ما ذكرته دليل على أن الإسلام اسمه عام والإيمان أخص منه1.قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} 2 فثبت الإيمان بالتوبة وهو الإقرار باللسان والتصديق بالقلب وبعمل الشرائع في الجواح3 على موافقة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان التسليم بالقلب ثمرة التسليم باللسان والجوارح4، فإذا عبر بالإيمان عن تسليم القلب فكأنه عبر عن ثمرة الإيمان5 وإذا عبر بالإسلام عن تسليم اللسان والجوارح والقلب كان جائزاً كما يطلق اسم الشجرة على الشجرة وثمرها. ومما يدل على أن الصلاة من الإيمان6 أن القبلة لما حولت من بيت المقدس إلى الكعبة قالت الصحابة - رضي الله عنهم - كيف بإخواننا الذين ماتوا وهو يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 7، 8 واللام في ليضيع لام الجحود نصب به الفعل المستقبل، وأراد بالإيمان هاهنا صلاتهم إلى بيت المقدس. ومن الدليل على ما ذكرناه ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "إن الله بعث نبيه محمداً عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا الله فلما صدق به المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا زادهم
الصيام، فلما صدقوا زادهم الزكاة فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال عزوجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} 1،2. وقيل: إن أول ما فرض الله عليهم من الصلوات ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، ثم فرضت الصلوات الخمس بمكة ليلة المعراج3. قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان المعراج قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً4، وفرضت الزكاة بالمدينة، وصوم رمضان بعد الهجرة في السنة الثانية في شعبان، وفرض الحج في سنة تسع، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر نزلت هذه الآية يوم عرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} 5، وهي أخر آية نزلت في التحليل والتحريم، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إحدي وثمانين ليلة6، ثم توفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. وروي أن رجلاً سأل سفيان الثوري7 عن الإيمان فقال: "الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فقال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن
الإيمان قول بلا عمل، فقال سفيان: كان هذا قبل أن تنزل أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة أن يقولوا لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، فلما علم صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمره بالهجرة إلى المدينة، فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم إقرارهم الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمرهم بالرجوع إلى مكة فيقاتلوا آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا كقولهم ويصلوا صلاتهم ويهاجروا كهجرتهم، فأمرهم ففعلوا حتى أتى أحدهم برأس أبيه، فقال: يا رسول الله هذا رأس الشيخ الكافر، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم إقرارهم الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرتهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبداً وأن يحلقوا رؤوسهم تذللاً ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم إقرارهم الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرتهم ولا قتلهم آباءهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها ولا مهاجرتهم ولا قلتهم آباءهم ولا طوافهم، فلما علم الله الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال عزوجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} . قال سفيان: "فمن ترك خلة من خلال الإيمان جاحداً كان بها عندنا كافراً، ومن تركها كسلاً وتهاوناً أدبناه وكان بها عندنا ناقصاً، هكذا السنة أبلغها عني من أسلك من الناس"1.
وروي "أن رجلاً من اليهود قال لعمر - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين لو علينا أنزلت هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية لا تخذنا ذلك اليوم عيداً. فقال عمر - رضي الله عنه -: "إني لأعلم أي يوم أنزلت هذه الآية، أنزلت يوم عرفة في يوم جمعة ونحن بعرفات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. ومن الدليل على ما ذكرنا ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إلا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان "2، فجعل إماطة الأذى والحياء من الإيمان. وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان"3. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من ولده والده والناس أجمعين"4. وروى أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن
يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع في الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها"1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"2. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"3. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم افشوا السلام بينكم"4. عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان فقال: "فمن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن"5.
وروى أنس - رضي الله عنه - قال: "ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له"1. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قال: وما ذاك؟ قال: جار لا يأمن جاره بوائقه" أخرجه البخاري2. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تمام إيمان العبد أن يستثني في كل حديثه"3. وروى أبو قلابة عن رجل من أسلم عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يسلم4، قال، قلت يا رسول الله وما الإسلام؟ قال: أن تسلم لله عز وجل ويسلم المسلمون من لسانك ويدك، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الهجرة قال: وما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد، قال: قلت وما الجهاد؟ قال: أن تجاهد الكفار إذا
لقيتهم ولا تغل ولا تجبن، قال: ثم عملان وهما من أفضل الأعمال وأكملها ثلاث مرات: حجة مبرروة أو عمرة" 1. وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان"2. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر بالقلب وصدقه والعمل، والذي نفسي بيده لا يدخلن الجنة أحد إلا بعمل يتقنه قالوا: يا رسول الله وما يتقنه؟ قال: يحكمه"3. وفيما ذكرته من الأخبار دليل على أن الإيمان أخص من الإسلام وهو
بعض منه1. والإسلام المأمور به بقوله تعالى: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} 2 وما يستحق به الثواب بالآخرة هو أعم من الإيمان3. وقد يقع الإسلام على من أتى بلفظ الشهادتين وإن لم يصدق بقلبه، ويستفيد بذلك عصمة دمه وماله في الدنيا لقوله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 4. ولهذا قال الله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ومن فرق من العلماء بين الإسلام والإيمان فمرادهم هو هذا5.
روي عن حماد بن زيد أنه كان يفرق بين الإسلام والإيمان، ويجعل الإسلام عاماً والإيمان خاصاً1. وروي عن أحمد بن حنبل أنه كان يفرق بين الإسلام والإيمان2. وروي عن الحسن وابن سيرين أنهما كانا يهابان أن يقولا مؤمن ويقولان مسلم3. فالكفر4 الذي هو الجحود هو ضد الإسلام، وهو مبيح للدم والما، ويستحق به التخليد في النار، ويسمى من ترك الصلاة كافراً. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة فمن تركها فهو كافر "5. وروي أن عمر - رضي الله عنه - لما طعن أخذته غشية، فقال بعض الصحابة: إنكم لن تفزعوه إلا بالصلاة فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين، قال: ففتح عينيه وقال: أصلي الناس؟ قلنا: نعم قال: أما إنه لاحظ في الإسلام لأحد أضاع الصلاة، ثم صلى وجرحه يثعب دماً"6. وكذلك روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: "من ترك الصلاة فقد كفر"7، وهذا حجة لمن قال العمل من الإيمان.
وقد اختلف العلماء فيمن ترك الصلاة عامداً مع اعتقاده وجوبها: فمنهم من قال: إنه يحكم بكفره ويجب عليه القتل في الدنيا واحتجوا بهذه الأخبار. ومنهم من قال: يجب قتله ولا يحكم بكفره، وتأولوا هذه الأخبار على أن أحكامه أحكام الكفار في القتل. ومنهم من قال: لا يقتل ولا يحكم بكفره، وتأولوا هذه الأخبار على من تركها جاحداً لوجوبها1. والفسق اسم ذم وهو ضد الإيمان يقع على من فسق بالاعتقاد والجحود فيكون كافراً، هو المراد بقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} 2، وقال في آية أخرى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدكُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} 3 وقال
فيهم {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1 وقال في آية أخرى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 2، وفي جميع هذا المراد بالفسق الكفر وقد يقع الفسق على من ارتمب المعاصي من الموحدين مع علمه بتحريمها، فهذا عندنا لا يخرجه من الإيمان بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه3 لا يخلد في النار بذلك، خلافاً للمعتزلة والقدرية وبهذه المسألة سموا معتزلة: وذلك أن واصل بن عطاء رئيس المعتزلة كان من أصحاب الحسن ابن أبي الحسن البصري، وكان ممن لا يلازم مجلسه فوجد الناس قائلين فيها: فأهل الحديث قالوا هو مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه لا يضاد فسقه الذي ليس بكفر إيمانه الذي في قلبه، وإن كان ينقص من دينه إلى ما هو دونها ولا ينزلون جنة ولا نار، بل إن عذبه الله بفسقه وإن عفى عنه فبفضله وإحسانه4. وقالت الخوارج: بل كل من ارتكب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً خرج به من الإيمان إلى ضده وهو الكفر ويخلد في النار5. فأحدث واصل بين عطاء قولا ثالثا وقال: أقول إنه فاسق ولا أسميه مؤمنا ولا كافرا ويخلد في النار، فأخرجه الحسن من مجلسه، واعتزله فسمي معتزليا لاعتزاله عما عليه كافة الأمة6.
والدليل على بطلان قولهم قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 1، فسماهم مؤمنين بعد اقتتالهم، وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} 2 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} 3 الآية، فسماهم مؤمنين مع إنكاره عليهم لما فعلوه، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 4 الآية. واحتجت الأشعرية ومن قال إن الإيمان هو التصديق بالقلب لا غير5 بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدق لنا، وبقول الناس: فلا يؤمن بعذاب القبر وبالشفاعة وما أشبهها، وأراد به التصديق. والجواب: أنا لا ننكر أن هذا حد الإيمان، في اللغة6. وأما في الشرع فهو أشرف خصال الإيمان ولا يمتنع أن يكون للشيء اسم في اللغة واسم في الشرع، وإذا ورد في الشرع به فإنه يجب حمله على ما تقرر اسمه في الشرع كالصلاة فإنها في اللغة المراد بها الدعاء، وهي في الشرع عبارة عن هذه الأفعال المشروعة في الصلاة، وكذلك الصيام فهو في اللغة اسم للإمساك عن جميع الأشياء، وهو في الشرع اسم للإمساك عن أشياء مخصوصة، والزكاة في اللغة اسم للزيادة، وهي في الشرع اسم لأخذ شيء من المال، والحج في اللغة القصد، وهو في الشرع اسم لهذه الأفعال المشروعة، والغائط في اللغة اسم للموضع المطئمن، وفي الشرع اسم لما يخرج من
الإنسان1، وإذا أورد الشرع بشيء من هذه الأشياء فإنما يحمل على ما تقرر في الشرع لا على مقتضاه في اللغة. واحتجت المرجئة ومن قال إن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب دون الأعمال2 بالأخبار المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة" 3. وبما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم على النار"4. والجواب عن هذه الأخبار من وجهين: أحدهما: أن نقول كما قال الزهري: "الأخبار كانت قبل نزول الفرائض والأمر والنهي"5.
والثاني: أن نقول هذا خبر عما يؤول إليه أمر الموحدين بأن الله سيدخل الموحدين الجنة، وإن عذبهم فبذنوبهم ولا يخلدون في النار1 كما قالت الخوارج والمعتزلة والقدرية. وقد أخبر الله سبحانه في القرآن أنه إنما يدخل العباد الجنة بالإيمان والعمل في آيات كثيرة منها في البقرة قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} 2، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 3 وقوله تعالى في آل عمران: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} 4، وفي النساء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 5 وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} 6، وفي المائدة قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ،1 وفي الأنعام قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2 وفي الأعراف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ....} إلى قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 3، وهذا كثير في القرآن وآخره قوله تعالى: {إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 4، ولم يذكر الله في القرآن دخول الجنة بغير عمل بل أخبر أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وأخبر أنه لا يغفر الشرك، فالقرآن لا يتناقض وإنما يؤيده بعضه بعضاً. وروي أن رجلاً سأل أبا ذر عن الإيمان فقرأ عليه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِر ... } 5 الآية حتى ختمها وقال: "إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ عليه هذه"6. وروى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان ويقين بالقلب"7.
وروي عنه بلفظ آخر أنه قال: "الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"1. وروي عن علي وابن مسعود - رضي الله عنهما - أنهما قالا: "لا ينفع قول إلا بعمل ولا عمل إلا بقول ولا قول وعمل إلا بنية ولا نية إلا بموافقة السنة"2. وكذلك روي مثل هذا عن الحسن البصري وسفيان الثوري وابن جريج ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان3 ومالك بن أنس وفضيل بن عياض4وكيع والشافعي وأحمد بن حنبل والوليد5 وأبي بكر بن عياش6 وعبد الله بن المبارك7. وهؤلاء هم العلماء الذين لا يُسْتوحَشُ مِنْ ذِكْرِهِم. قال وكيع8: "وأهل السنة والجماعة يقولون: "الإيمان قول وعمل"9،
والمرجئة يقولون الإيمان قول، والجهمية يقولون الإيمان المعرفة1، ولو لم يكن عليهم من الدليل إلا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2 فأخبر الله أنه لا يتم الإيمان إلا بالإخلاص والعمل لكان كافياً في الاستدلال.
114 - فصل وعند أهل السنة والحديث أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأهل الإيمان على مراتب ولم يكلف الله الخلق أن يعرفوه كمعرفته لنفسه، لأن معرفته لنفسه بغير دليل1 ومعرفة الخلق له من جهة الدليل، وأقل درجة في الإيمان هي المعرفة التي لا يجامعها الشك بالله2، وأكبر معارف الحلق معرفة الأنبياء لله سبحانه، والأنبياء متفاضلون بذلك قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 3، وأراد في درجات المعرفة4، ومعارف سائر الخلق دون معرفة الأنبياء، والمؤمنون متفاتون في المعرفة5 وذلك لتفاوتهم في طرق الاستدلال عليه. هذا قول السلف. قال الغزالي: "والسلف هم الشهود العدول وما لأحد عن قولهم عدول6، والإيمان7 يقع على التصديق بالقلب وعلى العمل، فأما زيادة العمل ونقصانه فلا إشكال فيه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون8
خصلة"1 وروي "تسع وتسعون2 باباً أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الطهور نصف الإيمان"4. وأما التصديق والاعتقاد بالقلب فإن هذا الاعتقاد تارة يشتد ويقوى بالعمل الصالح وتارة يضعف5 ويسترخي بالمعاصي، فالعمل للاعتقاد كالسقي للشجرة لأنه ينمي6 بالسقي ويضعف7. وقالت المرجئة والكرامية وأهل الزيغ من القدرية وغيرهم: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإن إيمان الأنبياء كإيمان سائر العصاة من الخلق8.
مفقود
والدليل على ما قلناه قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} 1. ويدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} 2، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 3 وقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 4، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 5، وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 6 وأثنى الله تعالى على أهل الكهف بقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدى} 7. ويدل عليه قوله تعالى فيما أخبر الله عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 8. أي ليزداد إيمان قلبي9، ويقال إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم مر بحيفة هلى ساحل البحر فجعلت الدابة تخرج من البحر فتأكل منها ثم تسترجع10إلى البحر، وتجيء الدابة من دواب البر فتأكل منها ثم تذهب ويجيء الطير فيأكل منها ثم يذهب، فهيجه ذلك على ما سأل فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} لتعجبه من تفرق
ذلك الميت في البر والبحروأنواع الدواب، فقال الله {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ، يعني ألم تصدق بإحياء الموتى1، وقيل: أراد أو لم تؤمن بالخلة وأنك خليل2 وقيل معنى {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} أي أنك قد آمنت، وذلك على3 معنى إيجاب الإيمان له قال: {بَلَى} ولكن كان إيمانه من طريق الاستدلال لا من طريق المشاهدة، والمستدل لا تزول عنه الخواطر والوسواس، وهو في ذلك يقمع الشيطان ويقهره بالحجة، فأراد إبراهيم أن يستريح إلى المشاهدة والمعاينة، وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنه - وأجلة العلماء4، فأجاب الله إلى ذلك لما علم فيه من المصلحة له ولأمته قال ابن المبارك {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ليرى من أدعوه إليك منزلتي ومكانتي منك فيجيبوني إلى طاعتك وما أجابه من إجابتهم إليه"5. وقال سعيد بن جير: "ليطمئن قلبي بأني إذا سألتك أجبتني"6. وللأنبياء زيادة في المعارف من الوقت الذي بعثوا فيه إلى أن قبضوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بورك لي في يوم لا أزداد فيه علما"7. وأمر الله نبيه أن يسأله زيادة علم8 فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} 9.
وأجل المعارف المعرفة بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المعرفة بالله رأس المعرفة" 1. وروي "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني من غرائب العلم فقال صلى الله عليه وسلم: ما صنعت في رأس العلم؟ فقال: وما رأس العلم؟ قال صلى الله عليه وسلم: هل عرفت الرب سبحانه؟ قال: نعم، قال: وما صنعت في حقه؟ قال: ما شاء الله، فقال صلى الله عليه وسلم: هل عرفت الموت؟ قال: نعم، قال: فما أعددت له؟ قال: ما شاء الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب فاحكم ما هنالك ثم تعال تعلم من غرائب العلم"2. وما أثنى أحد من الصحابة على نفسه بمثل ما أثنى حارثة حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا حقاً فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك، فقال: استوى عندي من الدنيا حجرها وذهبها، وكأني بعرش ربي بارزاً، وأهل الجنة يتنعمون فيها، وأهل النار في النار يتضاغون3، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عرفت فالزم "4. ومما يدل على أن العلم الحاصل بالمشاهدة أزيد من العلم الحاصل عن الاستدلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمشاهدة أخي موسى أخبره الله بما كان من قومه من بعده من عبادة العجل، ومع ذلك أخذ الألواح فحين شاهد ما صاروا إليه ألقى الألواح"5.
وأخذ برأس أخيه وتغير حاله، ولم يكن ذلك منه لأنه كان شاكاً في خبر الله بل كان عالماً بخبره وكذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم أراد العلم بالمشاهدة1. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أكان عيسى صلى الله عليه وسلم يمشي على الماء؟ فقال: "نعم، ولو ازداد يقيناً لمشى على الهواء"2 وقد مشى النبي صلى الله عليه وسلم على الهواء ليلة أسري به، ولا شك أنه أشار بذلك إلى نفسه، وأن حاله فوق حال عيسى صلى الله عليهما3، قال الله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 4، وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 5، ومعارف الخلق على قدر عقولهم لأن العقل نور يجعله الله في القلب يفرق به بين حقائق المعلومات. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل، ثم قال ادبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم منك بك آخذ وبك أعطي، ولك أثيب ولك أعاقب "6.
وروى أنس - رضي الله عنه - أن قوماً اثنوا على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغوا، فقال صلى الله عليه وسلم: "كيف عقله؟ فقالوا: يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الأحمق يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرفع العباد غداً في الدرجات الزلفى عند ربهم على قدر عقولهم" وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قول الفجار1 {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه، واعملوا أن العاقل من أطاع الله وإن كان دميم المنظر رث الهيئة، وأن الجاهل من عصى الله وإن كان جميل المنظر شريف المنزلة". وروي أن عمر وأبي بن كعب وأبا هريرة - رضي الله عنهم - دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: "يا رسول الله من أعلم الناس؟ قال: العاقل، قالوا: فمن أعبد الناس؟ قال: العاقل، قالوا: فمن أفضل الناس؟ قال: العاقل، فقالوا: أليس العاقل من تمت مروءته وظهرت فصاحته وجادت كفه وعظمت منزلته فقال صلىالله عليه وسلم: "إن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين، إن العاقل هو التقي وإن كان في الدنيا خسيساً دنياً". وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما العاقل من آمن بالله وصدق برسوله وعمل بطاعته".
وروى أبو هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة أحد فسمع الناس يقولون كان فلان أشجع من فلان وفلان أبلى ما لم يبل غيره فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فلا علم لكم به، فقالوا: كيف يا رسول الله؟ فقال: إنهم قاتلوا على قدر ما قسم الله لهم من العقل، وكان نصرتهم ونيتهم على قدر عقولهم فأصيب منهم من أصيب على منازل شتى فإذا كان يوم القيامة اقتسموا المنازل على قدر نياتهم وقدر عقولهم". وقالت عائشة - رضي الله عنها -: " يا رسول الله بم يتفاضل الناس؟ قال: العاقل، قلت: ففي الآخرة؟ قال: بالعقل، قالت، قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم؟ قال: يا عائشة وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم الله من العقل وبقدر ما عملوا يجزون"1. وقال الشافعي - رحمه الله -: مقادير علوم الناس على قدر سعة عقولهم، فمن وقع له صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأول والإيمان بالله علم أن عقله أوفر ممن بقي على الجاهلية2، ولهذا مدح الله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ثم قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} 3، ووعد الكل بالحسنى، وكذلك فضل من أنفق من قبل الفتح على من أنفق بعده ومن سبق بالإيمان على من تأخر، ثم قال: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} 4 فللخائفين المطيعين5 في المعرفة درجة
لم يبلغها العاصون، ولا ننكر أن العارفين بالله تلحقهم معارضات الشيطان، إلا أنهم يدفعون معارضته بالدلائل الواضحة. وقد رروي أن الصحابة - رضوان عليهم - قالوا: "يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا شيئاً لا نقدر على ذكره ولو قطعت آذاننا1 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأصابكم ذلك؟ قالوا: نعم، قال: ذلك محض الإيمان" 2. وروي أنه قال: "ذلك صريح الإيمان"3،ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن معارضة الشيطان هي محض الإيمان، وإنما أراد أن دفع ذلك بالحجج والدلائل من محض الإيمان4. وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - "أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطا ثم قال هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمين الخط وعن يساره وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه "، وتلا قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} 5 يعني الخط الأول، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 6،7 ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكير في ذات الله فقال:
"تفكروا في عظمة الله ولا تتكفروا في الله"1. قال: "الناظر في الله كالناظر في عين الشمس كلما ازداد نظراً ازداد عمى"2. ومن الدليل على أن الإيمان يزيد وينقص بالطاعة وينقص بالمعصية ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، والتوبة معروفة"3. والمراد به كمال الإيمان4 كقوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له"5. وفي وراية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان"6.
ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أذنب العبد كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها قلبه، فإن زاد زادت حتى تعلو2 قلبه"، وروي "حتى يسود" وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .3 وقال مجاهد: "هذا مثل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} "4. وقال الحسن: "هو الذنب على الذنب يرين على القلب حتى يسود"5. والرين هو الإحاطة والغلبة يقال: ران عليه النعاس إذا غلبه، وران به النعاس. قال علقمة:
"أوردته القوم قد ران النعاس بهم فقلت إذ نهلوا من مائه قيلوا"1. ومنه قول عمر - رضي الله عنه - في أسيفع جهينة لما ركبه الدين: "قد رين به"2. وروي عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه قال: "الإيمان يبدو لمظة في القلب فكلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة"3، واللمظة مثل النكتة أو نحوها من البياض، ومنه قيل: فرس ألمظ إذا كان تحجيله بياض4. ومن الدليل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله"5. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فوعظهم ثم قال: "يا معشر6 النساء تصدقن فإنكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: لكثرة لعنكن وكفركن العشير، ثم قال: وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب، (وروى لذوي الرأي منكن) ، فقالت امرأة منهن وما نقصان عقلها ودينها؟ قال:7 أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين بشهادة
رجل واحد، ونقصان دينها الحيض فتمكث إحداكن الثلاث والأربع لا تصلي"1. فموضع الحجة من الخبر أنه وصفهن بنقصان الدين، فدل على أنه ينقص ويزيد، وأما العشير فإنه الزوج لأن المرأة إذا رأت منه أمراً تكرهه قالت: ما رأيت منك خيراً قط. ومما يدل على ما قلناه ما روي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرج من النار في الشفاعة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان"2. وروي عن ابن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أنهما قالا: "الإيمان يزيد وينقص"3. وكذلك روي عن عمر بن الخطاب - وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وابن عمرو، وعمار، وحذيفة، وسلمان الفارسي وأبي أمامة، وعبد الله بن رواحة، وجندب بن عبد الله، وعمير بن حبيب وعائشة - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: "الإيمان يزيد وينقص"4. قال ابن أبي مليكة "أردكت كذا وكذا من الصحابة - رضي الله عنهم - ما مات
رجل منهم إلا ويخشى على نفسه النفاق"1، وكذلك روي عن التابعين كعب الأحبار وعروة بن الزبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وابن أبي مليكة2، وميمون بن مهران3، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، والحسن والزهري، وقتادة، وابن جريج، وفضيل بن عياض وغيرهم من العلماء الذين لا يستوحش من ذكرهم أنهم قالوا الإيمان يزيد وينقص4. وروي عن جندب أنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة5 فكان يعلمنا الإيمان قبل أن يعلمنا القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً"6. وعن أبي سعيد الفريابي7 أنه قال: "سألت المزني8 في مرضه الذي مات فيه وهو يومئذ ثقيل من المرض يغمى عليه مرة ويفيق أخرى، وقد كانوا صرخوا عليه تلك الليلة وظنوا أنه قد مات، فقلت: أنت أمامي بعد كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وإن الناس قد اختلفوا في الإيمان فمنهم
من قال الإيمان قول وعمل يزيد زينقص، ومنهم من قال: هو قول وعمل يزيد ولا ينقص، ومنهم من قال هو قول والعمل شرائعه، فقال مجيباً بلسان ثقيل: من الذي قال إنه قول وعمل يزيد زينقص؟ قلت: مالك، والليث بن سعد وابن جريج فذكرت له جماعة، ثم قال: لا يعجبني ولا أحب أن أكفر أحداً لما قال: تسألني عن الاسم أو معنى الاسم؟ فتعجبت من سؤاله إياي مع ما هو فيه ثم قال: كم أخطأ في الاسم ليس من أخطأ في المعنى، الخطأ في المعنى أصعب، ثم قال: ما يقول هذا فيمن عمل بعض الأعمال هو مثل من جهل1 - يريد التوحيد كله - ثم قال: هذا باب لم أعمل فيه فكري ولكن انظر لك فيه، ثم أغمي عليه فرجع إليه بعد العصر، فقال ابن أخيه عتيق: إنه سأل عنك وقال: قل له: الإيمان قول وعمل، فقعدت عنده حذاء وجهه ففتح عينيه فتحاً ثقيلاً، ثم قال: الفريابي؟ قلت: نعم قال: لا خلاف بين الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت فقال: إيماناً2 وتصديقاً بكتابك". وهذا دليل على أن جميع الأعمال من الإيمان قال: "وهذه آخر مسألة سألت عنها المزني ومات بعدها بثلاثة أيام"3. وروي أن عبد الله بن مسعود كان يقول في دعائه "اللهم زدني إيماناً ويقيناً وفقهاً"4. وعن عمير بن حبيب أنه قال: "الإيمان يزيد وينقص. قيل له: ما زيادته ونقصانه قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحانه5 فذلك زيادته، وإذا أغفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه"6.
وعن محمد بن علي1 - رضي الله عنهما - أنه قال: "هذا الإسلام ودور دارة في وسطها أخرى، وقال: هذا الإيمان مقصور في الإسلام، وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن" قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام، فإذا تاب2 تاب الله عليه ورجع إلى الإيمان"3. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: "من أراد4 منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زان إلا نزع منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده عليه رده وإن شاء أن يمنعه منعه".5
115 - فصل لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز للإنسان أن يقول: "أنا مؤمن عند الله أو أنا مؤمن عند الله حقاً" لأنه لا يدري ما حكمه عند الله. وعلى هذا المعنى يحمل ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "من قال أنا مؤمن حقاً فهو كافر حقاً"1. وأما ما روي عن حارثة حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف أصبحت يا حارثة فقال: أصبحت مؤمناً حقاً" فإنه يحمل على أنه أراد مؤمناً حقا عن نفسي، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك " قال: استوى عندي من الدنيا حجرها وذهبها" 2. الخبر الذي مضى ذكره، ففسر إيمانه بما عنده من اليقين فأقره النبي صلى الله عليه وسلم. ولا خلاف بين السلف أن الاستثناء في الإيمان على جهة الشك في التوحيد لا يجوز، لأن أقل ما يقبل من الإيمان ما لا يخالطه الشك3.
واختلف العلماء في جواز إطلاق الاستثناء في الإيمان: فمنهم من قال: لا يجوز1، واحتج القائلون بهذا بما روي أن ابن عمر أمر رجلاً أن يذبح له شاة، فقال: له أنت مؤمن؟ فقال: نعم إن شاء الله، فاسترد منه الشاة2. وذهب أكثر العلماء إلى جواز الاستثناء بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله لا على جهة الشك، بل على معنى أنه لا يدري ما حكمه عند الله وما عاقبته عند الله. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وابن مسعود3، وعائشة4. وقال ابن أبي مليكة: "أدركت كذا وكذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما مات منهم رجل5 إلا وهو يخشى النفاق على نفسه"6.
وروي أن رجلاً قال عند عبد الله مسعود - رضي الله عنه -: "أنا مؤمن، فقال له ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة؟ قال: أرجو، فقال ابن مسعود أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى"1. وقال رجل لعلقمة2: "أمؤمن أنت؟. قال: أرجوا إن شاء الله"3. وروي أن أحمد بن حنبل سئل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه؟ قال: أما أنا لا4 أعيبه، وقال: إنما يستثني في العمل قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} . واحتج بمساءلة الملكين في القبر للمؤمن ومجاوبتهما5 فيقولان له: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث يوم القيامة إن شاء الله، ويقولان للكافر: على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث يوم القيامة إن شاء الله"6. وروي "أن رجلاً قال: أنكر الاستثناء في الإيمان فقال: "إنما الناس رجلان مؤمن وكافر، فقال له أحمد: فأين قول الله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} وقال سمعت يحيىبن سعيد7 يقول: "ما أدركت أحداً إلا على الاستثناء"8.
وروي عن سفيان الثوري أنه قال: "من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكاذبين، ومن قال أنا مؤمن حقاً فهو بدعة، وقيل له: فماذا نقول؟ قال: قولوا آمنا بالله وما أنزل علينا"1. وقال سفيان: "الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ولا ندري كيف هم عند الله، وأرجو أن نكون كذلك ولا ندري ما حالنا عند الله"2. وكان سفيان3 إذا سئل أمؤمن أنت لم يجبه، أو يقول: سؤالك إياي بدعة ولا أشك في إيماني وقال إن شاء الله ليس يكره، وليس بداخل في الشك4. وقيل للحسن البصري: "أمؤمن أنت؟ فقال: إن شاء الله، فقيل: تستثني يا أبا سعيد في الإيمان؟ فقال: أخاف أن أقول نعم فيقول الله كذبت يا حسن فتحق علي الكلمة. فكان يقول: ما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني وقال اذهب لا أقبل لك عملا"5. وروى كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " ما تقولون في رجل قتل في سبيل الله. قالوا: الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، قال: ما تقولون في رجل مات في سبيل الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال
الجنة إن شاء الله، قال: فما تقولون في رجل مات فقام رجلان عدلان1 ذوا عدل فقالا: لا نعلم إلا خيراً، فقالوا: الله ورسوله أعلم؟ فقال: الجنة إن شاء الله، قال: فما تقولون في رجل مات فقام رجلان فقالا لا نعلم إلا شراً؟ فقالوا: في النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد مذنب ورب غفور رحيم"2. وكان الأعمش3 والليث4، وعطاء بن السائب5، وإسماعيل بن أبي خالد6، وعمارة بن القعقاع7، العلاء بن المسيب8، وابن شبرمة9، وحمزة الزيات10، يقولون: "نحن مؤمنون إن شاء الله ويعيبون على من لا يستثني"11.
وقال إبراهيم النخعي1: "إذا قيل لك أنت مؤمن فقل: آمنت بالله وبملائكته وكتبه ورسله"2. وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "من قال أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال أنا عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار"3. وقال علي - رضي الله عنه -: "الإرجاء بدعة والشهادة بدعة والبراءة بدعة"4. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "من شهد على نفسه أنه مؤمن فليشهد أنه في الجنة"5. إذا تقرر هذا فإن الاستثناء المحكي عن السلف يحتمل أربعة معان: أحدها: أنهم كرهوا الإطلاق لما فيه من التزكية، قال الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 6 الآية، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} 7.
وقيل لبعض الحكماء: ما الصدق القبيح قال: "ثناء الإنسان على نفسه"1. والإيمان من أعلى صفات الحمد، وإطلاق القول به تزكية مطلقة، والاستثناء فيه خروج من التزكية كما يقال للإنسان: أنت فقير أو مفسر؟ فيقول: نعم إن شاء الله لا في معرض الشك ولكن الإخراج نفسه عن التزكية. والمعنى الثاني في الاستثناء: التأدب بذكر الله في كل حال وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله تعالى، وقد أدب الله نبيه فقال: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تمام إيمان المرء استثناؤه في كل كلام "3. وقال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 4 والله سبحانه عالم بأنهم يدخلون لا محالة، وأنه شاء دخولهم، وقوله إن شاء الله ليس على سبيل الشك، ولكن أدب الله نبيه والمؤمن في أن لا يتركوا الاستثناء ورد المشيئة إليه، فتأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم (بما أدبه الله من ذكر الاستثناء في كلامه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) 5 دخل المقبرة في البقيع قال6: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله7 بكم لاحقون" 8.فالاستثناء منه صلى الله عليه وسلم عائد إلى الإيمان أي على الإيمان بكم إذ9 الموت لا يشك فيه.
ومثل هذا ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب1 له، وأنا أريد إن شاء الله أن أدخر دعوتي شفاعة2 لأمتي يوم القيامة" 3. وروي أن رجلاً قال يا رسول الله إني أصبح جنبا وإني أريد الصيام، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم: "وإني أصبح جنبا وأريد الصيام وأغتسل وأصبح من ذلك اليوم صائما، فقال الرجل: إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي"4. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخشاهم لله وأعلمهم بما يتقي من جهة القطع فلم يخبر بذلك عن نفسه قطعا، وإنما ربط بالرجاء والمشيئة من الله5.
والمعنى الثالث: أن الاستثناء في هذه يرجع إلى كمال الإيمان بالأعمال، لأن الناس لا يخلون من تقصير بالعمل أو من نفاق أو قلة إخلاص، ولا يرجع إلى أصل الاعتراف، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون بابا أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "1، 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإذا خاصم فجر "3. وقال صلى الله عليه وسلم: "أكثر منافقي أمتي قراؤها"4.
وقال صلى الله عليه وسلم: "الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا"1. وروي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: "من القلوب قلب أجرد2، فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب مسطح3 فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كالبقلة يمدها الماء العذب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المدتين غلب عليه حكم بها"4.
وقال حذيفة - رضي الله عنه -: "كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقاً إلى أن يموت، وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشرات مرات"1. وقال بعض العلماء: "أقرب الناس من النفاق من يرى أنه بريء من النفاق"2. وقيل للحسن البصري يقولون: "إن لا نفاق اليوم، فقال الحسن: يا أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطرق"3. وروي عنه أو عن غيره من العلماء أنه قاله: "لو نبت للمنافقين أذناب لما قدرنا أن نطأ على الأرض"4، ولا ينجو من هذه الأمور إلا الأنبياء والصديقون فلذلك حسن الاستثناء". والمعنى الرابع في الاستثناء: أنه راجع إلى الشك في الخاتمة، فإنه لا يدري ما يختم له. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحمدوا عمل الرجل حتى تنظروا بم يختم له" 5، قال الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 6.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما رفع رأسه إلى السماء قال: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك" 1. وقيل: ما من نبي إلا ودعى بدعاء يوسف عليه السلام "أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين"2. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبين الجنة إلا شبر3 فيسبق عليه كتاب الشقاوة فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار "4. وروي أن إبليس عَبَدَ الله خمساً5 وعسرين ألف سنة فكانت عاقبته في النار6. وقيل: في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} 7 صدقاً لمن مات
على الإيمان وعدلا لمن مات على الشرك1. وكان أبو الدرداء يحلف بالله ما أحد أمن أن يسلب إيمانه إلا سلبه2، ويقال من الذنوب عقوبتها سوء الخاتمة ... أعوذ بالله منها، وقيل: هي عقوبة دعوى الولاية والكرامة بالإفتراء3.
116 – فصل: في ذكر فضائح المرجئة روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بعث الله نبياً قبلي فاستجمعت له أمته إلا كان فيهم مرجئة وقدرية يشوشون أمر أمته من بعده ألا وإن الله لعن المرجئة والقدرية على لسان سبعين نبياً أن آخرهم"1. وروى أبو هريرة أن ال صلىالله عليه وسلم قال: " صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية "2. وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صنفان من أمتي في النار قوم يقولون الإيمان كلام وإن زنى وإن سرق وقتل وآخرون يقولون إن أو لينا لضلال يقولون خمس صلوات في يوم وليلة وإنهما صلاتان"3.
وقال ابن عباس: "اتقوا الإرجاء فإنه شعبة من النصرانية"1. وقال مجاهد: "يبدؤون فيكونون مرجئة ثم يكونون قدرية ثم يكونون مجوساً"2. وقال محمد بن علي بن الحسين: "ما ليل بليل ولا نهار بنهار أشبه من المرجئة باليهود"3. وقال محمد بن يوسف4: "دخلت على سفيان الثوري وفي حجره المصحف وهو يقلب الورق فقال: ما أجد أبعد منه من المرجئة"5. روي أن عبد الملك بن مروان6 ذكر الحديث عن النبي صلىالله عليه وسلم، " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"، فقال له الزهري: "أين ذهب بك يا أمير المؤمنين؟ هذا قبل الأمر والنهي وقبل الفرائض7، وذكروا عند الضحاك بن مزاحم من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: هذا قبل
أن تحد الحدود وتنز ل الفرائض1، قال الأوزاعي: "ثلاث هي بدعة من قال أنا مؤمن مستكمل الإيمان، ومن قال أنا مؤمن حقاً، ومن قال أنا مؤمن عند الله"2. ويلزم المرجئة الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل أن إبليس مؤمن لأن الله أخبر أنه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} 3 وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} 4 فأخبر الله أنه قال بلسانه أن له رباً، ويلزم الجهمية الذين يقولون: إن الإيمان معرفة بلا قول ولا عمل أن اليهود مؤمنون لأن الله تعالى أخبر عنهم بقوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم} ْ5 وقد علمنا أن الكفار عرفوا بعقولهم أن الله خلقهم وأنه خلق السموات والأرض6، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَق7 السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 8 ويعرفون أيضاً أنه لا ينجيهم من ظلمات البر والبحر إلا الله ويدعون إلى الله أن ينجيهم وبذلك أخبر الله عنهم. وروي عن زبيد9 أنه قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل10 فحدثني
عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"1. وسئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: "أنا أكبر من ذلك"2، يريد أن هذا الكلام حدث بعد ولادتي، وكذلك قال أيوب: أنا أكبر من المرجئة أول من تكلم في الإرجاء رجل يقال له الحسن بن محمد3 وذكروا المرجئة عند سفيان فقال: رأي محدث أدركت الناس على غيره4، وقيل لابن أبي مليكة: إن قوماً يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل فغضب عبد الله بن أبي مليكة فقال: ما رضي الله لجبريل عليه السلام حتى
فضله بالثناء على محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} 1. يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، قال ابن أبي مليكة: أو أجعل إيمان جبريل وميكائيل كإيمان فهدان؟ لا؟ ولا كرامة ولا حباً، قالوا: وفهدان هذا كان رجلا في وقته لا يصحوا من الشراب2، ومن زعم أن من قال لا إله إلا الله لم تضره الكبائر إن عملها وأنه كالبر التقي الذي لم يباشر من ذلك شيئاً مخالف لقول الله سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3 الآية. وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 4. وروى أبو القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي عن سفيان5 عن عباد بن كثير6 أنه قال: "استتيب أبو حنيفة7 مرتين قال مرة: "لو أن رجلاً قال أشهد أن لله بيتاً إلا أني لا أدري أهو هذا أو بيت8 بخراسان كان عندي مؤمناً، ولو أن رجلاً قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أني لا أدري أهو هذا الذي بالمدينة أو رجل بخراسان كان عندي مؤمناً"9، قال الحميدي10
حمد بن حنبل: "من قال هذا فقد كفر"1. روي أيضاً أن أبا إسحاق الفزاري2 قال، قال أبو حنيفة: "إيمان أبي بكر وإيمان إبليس واحد؛ قال إبليس: يا رب, وقال أبو بكر: يا رب"3. وروي عن وكيع ابن الجراح4 قال: اجتمع ابن أبي ليلى5والحسن بن صالح6وسفيان بن سعيد الثوري وشريك بن عبد الله النخعي7 وأرسلوا إلى أبي حنيفة
فجاءهم فقالوا له: "ما تقول فيمن نكح أمه وقتل أباه ورب الخمر؟ فقال: مؤمن, فقال ابن أبي ليلى: لا أقبل لك شهادة أبداً، وقال الحسن بن صالح: وجهي من وجهك حرام، وقال شريك: لو كان لي من الأمر شيء لضربت عنقك، وقال له الثوري: كلامك علي حرام أبداً"1. وقال سليمان بن حرب2: "مر أبو حنيفة بسكران فقال له السكران: يا أبا حنيفة يا مرجيء، فقال له أبو حنيفة: صدقت الذنب منى حين سميتك مؤمناً مستكمل الإيمان"3. قلت: وهذه مقالة شنيعة والخطأ فيها ظاهر من قائلها، وأنا أشرف أبا حنيفة من هذه المقالة، لأن الله سبحانه جعله إماماً لخلق كثير من أهل الأرض والله أكرم أن يجعل الناس تابعين في الدين لرجل من أهل النار، ولعله كان يقول بهذا ثم تاب عنه، أو حكي ذلك عن المرجئة مطلقاً فنسب إليه، كما نسب قوم4 لا بصيرة لهم محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - إلى الاعتزال لقوله وإشهاده من يرى أن كذبه شرك بالله ومعصية تجب بها النار أولى أن تطيب النفوس بقبولها من شهادة من يخفف المأثم فيها، وهذا جهل ممن نسب الشافعي إلى الاعتزال بهذا الكلام لأن الشافعي أراد بذلك أن من يرى كذبه شرك بالله ومعصية هم الخوارج5 ولم يرد أن شهادتهم
تقبل وإنما أراد أن شهادتهم لا ترد لأجل قولهم هذا لأنه أدعى1 إلى قبول قولهم، والذي يخفف المأثم فيها هم المرجئة لأن الكبائر عندهم لا تضر إذا أتى التوحيد2، والمعتزلة يقولون إن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر3، وكلهم في باب الذم واحد إلا أن منهم من يستحق اسم الكفر بقوله ومنهم من يستحق اسم الفسق ومنهم من يستحق اسم التبديع، وليس إذا قدم بعضهم على بعض في الذم يكون مدحاً لبعضهم كما قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} 4 فلا يدل5 الترجيح هاهنا6 في أنهم أقرب مودة للذين آمنوا على انهم على حق بغير هذا بل الجميع منهم على كفر، كما أخبر عنهم في آي كثيرة منها قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 7. أما الدليل على بطلان قول من نسب الشافعي - رحمه الله - إلى الاعتزال فما روي عن الشافعي في كتب كثيرة صح إسنادها عنه أنه كفر القدرية، وكفر من قال بخلق القرآن وكفر الفرد8 بقوله. وحكى عنه المزني: هما جماعان أحدهما يوجب العقوبة في الدنيا وهو الحد والعذاب في الآخرة
إلا أن يغفر الله، وأراد به الزنا، وقال في الرجل إذا فر من الأسر1 غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة فإن كان هربه على غير هذا المعنى حقت عليه إلا أن يعفو الله تعالى أن يكون قد باء بغضب من الله2، وهذا تصريح منه أن مذهبه كمذهب أهل الحديث أن من ارتكب كبيرة أثم، ولكن إن شاء الله عاقبه وإن شاء عفا عنه، والمعتزلة يقولون إنه يستوجب النار ويكون خالدا مخلداً فيها3 وقد رمي حماد4 بالإرجاء "كان المغيرة5 يقول: حدثنا حماد قبل أن يصير مرجئاً وقال: حدثنا حماد قبل أن يفسد6. قال سفيان الثوري: "اتقوا هذه الأهواء قيل له: فبين لنا رحمك الله، فقال سفيان: المرجئة يقولون الإيمان كلام بلا عمل من قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فهو مؤمن مستكمل الإيمان على إيمان جبريل والملائكة وإن قتل كذا وكذا مؤمنا وإن ترك الغسل من الجنابة وإن ترك الصلاة وهم يرون السيف على أهل القبلة"7. وقال الأوزاعي من آمن وعصى إيمانه بإيمان إبليس أشبه منه بإيمان جبريل، لأن جبريل آمن وأطاع وإبليس آمن وعصى8. وقيل إن عون بن عبد الله بن
عتبة بن مسعود1 كان مرجئاً فرجع عن الإرجاء وأنشأ يقول: لأول ما تفارق من غيرك شك ... تفارق ما يقول المرجئونا وقالوا مؤمن من آل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا وقالوا مؤمن دمه حلال2 ... وقد حرمت دماء المؤمنينا3 وأنشد سليمان بن منصور بن عمار4: أيها القائل إني مؤمن ... إنما الإيمان قول وعمل إنما الإرجاء دين محدث ... سنة جهم بن صفوان تحل إن دين الله دين قيم ... فيه صوم وصلاة تعتمل وزكاة وجهاد لا مرئ ... حارب الدين اعتدى وقتل ليس بالمستكمل الإيمان من ... إن رأى صلى وإلا لم يصل اسم هذا مؤمن الإقرار لا ... مؤمن حقا وحقا لم يقل إن رأي سفيان وما ... كان سفيان على رأي فضل5
117 - فصل وعند أهل1الحديث أن الجن وإبليس خلق من خلق الله يراهم من أراه الله إياهم وقالت المبتدعة: لا حقيقة للجن، وإبليس2 كل رجل سوء3 والدليل على ما ذكرناه أن الله سبحانه أخبر بكتابه عن إبليس وَأَمْرِه له بالسجود لآدم وتكبره عن السجود وإخراجه له من الجنة وسؤاله النظرة إلى يوم القيامة، وأخبر بكتابه عن الجن بقوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِن} 4 الآيات كلها في هذه السورة. ومن السنة ما روى أبو ثعلبة الخشنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجن على ثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وثلث حيات5 وكلاب، وثلث يحلون ويظعنون"6.
وروى أبو هريرة قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحفظ زكاة رمضان فأتى آت من الليل فجعل يحثوا من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعني إني محتاج وحالي شديد وعلي عيال فرحمه وخلى سبيله، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك الليلة، قال: يا نبي الله زعم أنه محتاج وحاله شديد فرحمته، فقال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فلما كان الليلة الثانية رصده فجاء يأخذه وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعمت أنك لا تعود وقد عدت فقال كما قال في الليلة الأولى، فرحمه وخلى سبيله، فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال له في الليلة الأولى، فلما كان في الليلة الثالثة رصدهه فجاء يأخذه فقال له كما في الليلة الثانية، فقال له: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، وكانوا حريصين - على الخبر - فقال: ما هن قال: إذا أخذت مضعجك فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما فعل أسيرك الليلة فقال: يا بني الله علمني كلمات وأخبره الخبر فقال: أما أنه قد صدقك وهو كذوب. أتدري يا أبا هريرة من تخاطب قال: لا، قال: ذلك شيطان" أخرجه البخاري1. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل2: "لما حضر أبي الوفاة كنت عنده وكان
يعرق مما هو فيه وبيدي خرقة أمسح بها عينيه ساعة فساعة ففتح أبي عينيه وحدق بها وأومأ بيده وقال لا بعد دفعات، فقال: يا أبت من تخاطب فقال: هذا إبليس قائماً يحضرني عاضا1 على أنامله يقول: يا أحمد فتني فقال: لا حتى أموت"2.
118 - فصل وعند أهل الحديث أن خروج الدجال حق وقالت المبتدعة الدجال كل رجل خبيث1. والدليل على ما ذكرناه ما روى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يكن نبي بعد نوح إلا قد أنذر قومه الدجال وإني أنذركموه"، فوصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لعله سيدركه بعض من رآني وسمع كلامي"، قالوا: يا رسول الله فكيف قلوبنا يومئذ، قال: "مثلها اليوم أو خير"2. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بعث نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب إلا أنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل من كره عمله"3، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدجال يخرج من أرض المشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم4 المجان المطرقة"5.
وقال صلى الله عليه وسلم: " يأتي الدجال المدينة فيجد الملائكة يحرسونها فلا يدخلها الطاعون ولا الدجال إن شاء الله".1 والدجال قد خلق وهو في الدنيا موثق بالحديد إلى الوقت الذي يأذن الله بخروجه.2 وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أكل الطعام ومشى في الأسواق يعني الدجال"3. وروى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يمكث أبو الدجال وأمه ثلاثين عاما لا يولد لهما ولد ثم يولد لهما ولد أعور أضر شيء وأقله منفعة تنام عيناه ولا ينام قلبه، ثم نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: "أبوه طوال ضرب اللحم كان أنفه منقار وأمه امرأة طويلة اليدين" قال أبو بكرة فسمعنا بمولود في اليهود بالمدينة فذهبت أنا والزبير بن العوام فدخلنا على أبويه فإذا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما فقلنا هل لكما ولد فقالا: مكثنا ثلاثين عاما لا يولد
لنا ولد ثم ولد لنا غلام أعور أضر شيء وأقله منفعة تنام عيناه ولا ينام قلبه قال فخرجنا من عندهما فإذا هو منجدل في الشمس في قطيفة وإذا له همهمة فكشف عن رأسه فقال: ما قلتما قلنا: هل سمعت ما قلنا، قال: نعم تنام عيني ولا ينام قلبي"1. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء أمهاتهم شتى ويدنهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وأنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بللل وأنه يدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في إمارته الملل كلها2 غير الإسلام، ويهلك الله في إمارته3 المسيح الأعور الكذاب، وتقع الأمنة في الأرض حتى يرعى الأسد مع الإبل والنمر مع البقر والذئاب
مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا، يلبث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون"1. وقيل: إنه يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر2 وعمر، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقتل ابن مريم الدجال بباب لد" 3.
119 - فصل صارت المعارف مختلفة على حسب ما وجدنا السبيل إليها1، فعندنا أن معرفة الله سبحانه حصلت للمخلوقين مكتسبة2، والعلم المتكسب هو: كل علم وقع بعد نظر واستدلال.
أما علمنا بادعاء النبي صلى الله عليه وسلم النبوة فهو علم ضروري، لأنا علمنا ذلك بالنقل المتواتر الذي لا يمكن دفعه بشك وشبهة، وأما صدقه فيما ادعاه فهو علم مكتسب، لأنه فكر وتأمل ونظر1 كعلمنا بأن العالم محدث وأن له محدثاً. وأن الموجب لذلك علينا هو السمع وهو المرشد إليها والمنبه عليها، ولا نستغني بالعقل عن السمع المنبه، كما لا يستغني في الصنائع الدقيقة واالأفعال المحكمة عن المرشد إليها والمنبه عليها، فالرسل هم المرشدون إلى ذلك والمنبهون عليه، وهم المؤيدون بالآيات والمعجزات ولا يجب علينا شيء إلا بدعائهم، ولا نستغني بالعقول عن إرشادهم، وما من عصر إلا وفيهم2 نبي أو شريعة نبي. قال الله تعالى: {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 3، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 4.
وقد اختلف أهل الزيغ في ذلك فمنهم من قال: إن معرفة الخلق لله حصلت ضرورة1 ومنهم من قال: إن معرفة الخلق لله طباع2، ومنهم من قال: إن معرفة الله تقع بعد البلوغ من غير تطويل بفعل الله فيه3، ومنهم من قال: إن المعرفة في ذلك ليس باضطرار ولا اختيار ولا كسب وإنما هي فعل لا فاعل لها4، وجميع هؤلاء يقولون: إن معرفة الله لا يصح الأمر بها، وأحالوا الأمر بها جملة، وهذه الفرق كلها فرق المعتزلة وهم موافقون للبراهمة في قولهم إنهم يستغنون بما في عقولهم عن الرسل وإرشادهم5، ولهذا6 أبطلت المعتزلة والقدرية كثيراً من ظاهر7 القرآن والسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما خالفت عقولهم الفاسدة، وأولوا ذلك على خلاف مقتضاها. والدليل على صحة ما قلنا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 8، ولم يخل العقلاء من رسل يدعونهم إليه ويدلونهم بآيات
يظهرها لهم أو يخاطبهم بل واسطة1 كمخاطبته لملائكته الذين هم السفرة بينه وبين رسله، ومعرفتهم له إما بمشاهدة منهم له أو بما يجري مجرى المشاهدة مما هو أعلم بما تقع لهم المعرفة به معرفة قطعية2، وعلى هذا الأمر جرى الأمر لآدم صلى الله عليه وسلم لما خلقه بيده واسكنه جنته وقال له: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة} 3 فأرشده إلى ما أباحه له، وزجره عما نهاه عنه، وعلمه الأسماء وما يتضمنه4 كل اسم من المعنى، ثم قضى عليه ما وقع منه وأخرجه من الجنة إلى الدنيا واخبر سبحانه عما كان منه إليه بقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} 5 والنسيان إنما يكون من المكلفين فيما سبق عليهم فيه الأمر فأهبطه الله إلى الأرض بعد أن غفر له زلته، وجعله رسولاً إلى أولاده يرشدهم إليه ويدلهم على طرق الاستدلال عليه، فانقادوا لطاعته، وحصلت لهم المعرفة بالله بما نبههم عليه، فقبض بعد أن أوضح لهم السبيل، وأبان لهم الدليل، وجعلهم الحجة على ما يأتي بعده من أولادهم، واستحفظهم حجج الله، ووكلّهم بنقل ذلك إلى من بعدهم، فأقاموا على ذلك لا تلحقهم سآمة في نقله، فلما طال العهد وضعفت البصائر وثب الشيطان ودعاته يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، فبعث إليهم رسولاً يذكرونهم ما نسوا من العهد، ويدعونهم إلى ما أغفلوا من طاعة ربهم، ولم6 يُخْلِ الله عصراً من قائم بحجة، وأمرهم باتباعه قال الله
تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 1 فمن قال: إن الخلق يستغنون عن الرسل، وأن معرفة اله لا يصح الأمر بها فقد خالف الكتاب وأبطله، ومن قال إن معرفة الله بالإلهام أو بالطباع أو بغير كسب المأمور يلزمه أن يقول إن الكفار الذين عاندوا الرسول صلى الله عليه وسلم في زمانه وقتلهم أنهم مخلدون في الجنة إذا لم يكن لهم طباع أو إلهام أو لم يفطروا على المعرفة، وإلى هذا ذهب ثمامة بن أشرس النميري2 شيخ المعتزلة بعد إذ زعم أنه يجوز أن يكون كثير3 من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين في الجنة4، ومن كان هذا مقتضى قوله فلا شك في كفره لمخالفته نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
120 - فصل معرفة الإمام من الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ليس بشرط في اعتقاد الإيمان1، ولو أن رجلا آمن بالله وبصفاته وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به وبالبعث والنشور كان مؤمنا وإن لم يعرف اسم أحد من الصحابة أبا بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -، ولا من كان يستحق الخلافة منهم والإمامة، بل قد منع بعض العلماء من الكلام في ذلك، واحتج بأن ذلك انقضى وحكم قد مضى فلا معنى للاشتغال به، ولعل الكلام فيه مثار الشر والتباغض في التعصب، فالإعراض من الخوض فيه أسلم من الكلام فيه2. وذهب أكثر أهل العلم إلى تجويز الكلام فيه وإباحته، لأنه يفيد أحكاماً في الدين ومعرفة ما كان عليه أمر الصحابة - رضي الله عنهم -، والكلام في الإمامة من فروع الدين الومسائل الفقهية التي تكلم بها أهل العلم، ومذهب أصحاب الحديث وأكثر أهل العلم إلى أن نصب الإمام واجب3. وقال بعض المتكلمين لو تكاف الناس عن الظلم لم يجب نصب الإمام، وهذا خطأ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على نصب
الإمام1، ولأن تكاف الناس عن المظالم مستحيل، لأن الظلم من شيم النفوس وإنما يظهره القدرة2 ويخفيه العجز. إذا ثبت هذا فليس من شرط الإمام الاختصاص بشيء من العلوم لا يشاركه فيها غيره، بل هو وسائر الخلق في علم الشريعة وأحكامها شيء واحد، لأن الأئمة في عصر الصحابة - رضي الله عنهم -3 لا يدعون لأنفسهم ولا يدعي لهم مدع منهم اختصاصاً بشيء من العلوم لا يشاركهم غيرهم فيه4. فإن قيل: إذا لم يكن الإمام يختص بشيء من ذلك فما المقصود، وما المعنى الذي نصب لأجله؟ قيل: المعنى الذي نصب الإمام أجله هو انتظام أمر الدنيا والدين، لأن نظام الدين لا يحصل إلا بانتظام الدنيا من تدبير الجيوش، وسد الثغور، وردع الظالم، وأخذ الحق للمظلوم، ونصب القضاة وجمع شتات الآراء وإقامة الحدود، فجملة الدنيا في حق الإمام كبلدة في حق قاض من القضاة. ولا تنعقد الإمامة إلا لمن وجدت فيه شروط منها: أن يكون ذكراً، بالغا، عاقلاً، حراً، مسلماً عدلاً، عالماً من الفقه ما يخرجه عن أن يكون مقلداً، لأن هذه الشرائط تعتبر في حق القاضي، فلأن تعتبر في حق الإمام أولى. ومن شرطه أن يكون: سميعاً بصيراً، ناطقاً، لأن الأصم والأعمى والأخرس لا يكمل لتدبير الأمور التي نصب الإمام لأجلها، ومن شرطه أن يكون: قرشياً من أي قبائل قريش كان، ولا يختص ببني هاشم وبني
عبد المطلب1. وقال أبو المعالي الجويني2: "يجوز أن يكون من غير قريش"3، وهذا خطأ والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش "4 وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان "5، 6. ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم آخر خطبة خطبها7 يوصي بالأنصار، فقال له
العباس: "يا رسول الله توصي بقريش فقال: إنما أتوصى قريشاً بالناس وبهذا الأمر وإنما الناس تبع لقريش بر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم "1 ويدل على ذلك ان الأنصار لما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وطمع من طمع منهم بذلك وطال الكلام بينهم حتى روى لهم أبو بكر2 وعمر - رضي الله عنهم - قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش "، فرجعوا عن قولهم واذعنوا وانقادوا، ولولا أنهم3 علموا صحة هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لردوا ذلك وظعنوا به لا سيما في مثل هذا الموقف. وقد وقع التنازع والحجاج وإشهار السيوف4 وإختلاط القول، بل رجعوا5 وقال سعد بن عبادة وهو من رؤساء الأنصار لأبي بكر وعمر: "أنتم الأمراء ونحن الوزراء"، 6 فثبت أن ذلك إجماع. ومن شرطه: أن يكون عالماً بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية بيضة الإسلام وما يتصل بذلك من الأمور، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة لحق الخلل، وتتعدى الضرر إلى الأمة، وطمع بهم عدوهم، وأدى إلى إبطال ما نصب لأجله. ومن شرطه: أن لا يكون فيه رقة ولا هوادة في إقامة الحدود وضرب الرقاب المستحقة، لأنه إذا لم يكن7 بهذه
الصفة قصر عما لأجله أقيم وانبسطت أيدي الظلمة إلى الدماء واخذ الأموال وارتكاب المحارم، ولم يصل المظلوم إلى حقه. ومن شرطه: أن يكون ورعاً، وهذه أعز الصفات وأجلها وأولاها بالمراقبة وأجدرها، لأنه إذا لم يكن كذلك أخذ ما لم يحل له أخذه وارتكب المحارم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ملاك دينكم الورع" 1 وليس من شرطه أن يكون معصوماً من الخطأ والزلل، عالماً بالغيب، ولا بجميع الدين حتى لا يشذ عنه شيء2، وإنما كان كذلك لأن طريق العلم بالعصمة عن الخطأ والعلم بالغيب إنما يحصل من خبر الصادق وهو الشارع، ولم يرد ذلك في القرآن ولا في السنة المتواترة بالأخبار من3 أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يصح اشتراط ذلك في المنصوب للإمامة، ولأنه لو احتيج إلى كونه معصوماً عن الخطأ لاحتيج أن يكون قاضيه وجابي خراجه وصدقته وأصحاب مصالحه
وأمراء جيوشه أن يكونوا كذلك، لئلا يفسدوا ما يتولونه من الأعمال. وفي اشتراط ذلك إبطال لنصبهم بذلك، ويدل على بطلان ذلك اعتراف الخلفاء الراشدين بأنهم غير معصومين، وترك إنكار الأمة أو واحد منهم ولا يتهم للأمر مع اعترافهم بذلك. إذا تقرر هذا ووجدت شروط الإمامة في واحد من العصر تعين العقد له وتعين له القيام والطلب، وإن وجدت هذه الشروط في أكثر من واحد فينبغي أن تعقد الإمامة للفاضل إن لم يكن هناك عذر يمنع من إمامة الأفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أفضلهم "1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعوا "2، وروي في خبر آخر "أئمتكم شفعاؤكم إلى الله فقدموا خيركم"3، وقال صلى الله عليه وسلم: "من تقدم على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو خير منه فقد خان الله ورسوله والمسلمين".4 وأعظم الإمامة هي الإمامة الكبرى، لأن الإمام الأعظم أولى بإمامة الصلاة من غيره، فيجب أن يكون أفضلهم. ويدل عليه إجماع الصدر الأول على طلب الأفضل. وقال عبد الرحمن بن عوف: "لا يعدلوا بعثمان أحداً"5 وقول أبي عبيدة لعمر: "مد يدك لأبايعك، فقال له عمر: تقول
هذا وأبو بكر حاضر والله ما كان في الإسلام فَهّه1 غيرها" 2. فإن خيف من عقد الإمامة للفاضل فتنة جاز عقدها للمفضول، والدليل عليه أن عمر - رضي الله عنه - جعل الإمامة إلى أهل الشورى وهم ستة، ولا شك أن فيهم فاضلاً ومفضولاً، وأجاز العقد لكل واحد منهم إذا3 أدى إلى صلاحهم وجمع كلمتهم من غير إنكار أحد، ولأن الإمام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل، فإذا خيف بإمامة أفضلهم الهرج والفساد والتغالب كان ذلك عذراً في العدول عن الفاضل إلى المفضول، ولأنه لا خلاف أنه يجوز تقديم المفضول على الفاضل في إمامة الصلاة فكذلك في الإمامة العظمى. فإن قيل: قد ذكرت صفة الإمام فبماذا تنعقد له الإمامة؟. قلنا تنعقد له الإمامة بأمور، منها: أن يستخلفه إمام قبله. والدليل على ذلك أن أبا بكر - رضي الله عنه - وصى بالخلافة لعمر - رضي الله عنه -، ووصى عمر - رضي الله عنه - إلى أهل الشورى ورضيت الصحابة بذلك لوم ينكروه، وأيضاً فإن الأب لما ملك النظر في أمر أولاده الصغار بحياته ملك الوصية بأمرهم إلى من بعده4 إذا لم يكن لهم ولي في الشرع بعده وهو الجد، فكذلك الإمام مثله.
وتنعقد الإمامة بعقد أهل الحل والعقد لمن وجدت فيه شروط الإمامة1، واختلف في عدد العاقدين فمنهم من قال: أقلهم ثلاثة، لأن ذلك أقل الجمع2، وقال اكثر أهل العلم: تنعقد بواحد لأنه إذا ثبت أن فضلاء الأمة هو ولاة عقد الإمامة، وثبت أنه لا يجب اعتبار حضور جميع أهل الحل والعقد وجميع الأمصار، لأن الصحابة لم يعتبروا ذلك فيمن عقدوا له الإمامة منهم لم يتعذروا تعدد3 انعقاد ذلك بواحد4.
ومن شرط العاقد أن يكون ذكراً حراً بالغاً عاقلا مسلماً مجتهداً عدلاً ظاهراً وباطناً، لأنه من الأمور المهمة في الدين، فاعتبر أن يكون على أكمل الأحوال. وهل من شرط العقد أن يكون بحضوره شهود؟. اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: لا يعتبر حضور شهود، ومنهم من اعتبر حضور شاهدين، لأن أمر الإمامة أعظم من أمر النكاح، فإذا اعتبر الشهود في النكاح ففي الإمامة أولى، ومنهم من اعتبر حضور أربعة بعد العاقد والمعقود له1، لأن عمر - رضي الله عنه - اعتبر ذلك في أهل الشورى، وهذا ليس بشيء لأن عمر لم يعتبر حضور الستة لذلك، وإنما أخبر أنهم أفاضل وأن الأمر لا يعدوهم ولا يتجاوزهم. وقال أصحابنا: وقد ثبتت الإمامة من وجه غير ما تقدم ذكره، فإن لم يكن هناك إمام فقام رجل له شوكة وفيه شروط الإمامة فقهر الناس بالغلبة فأقام فيهم الحق، فإن إمامته تثبت وتجب طاعته والدخول تحت حكمه، لأن المقصود قد حصل بقيامه، إلا إن قهره من هو بمثل صفته وصارت له الشوكة والغلبة فإن الأول يخلع ويصير الثاني أولى بالطاعة لما ذكرنا في الأول2.
121- فصل اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أهل الحديث وعلماء السلف أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه1 - وأن إمامته ثبتت بعقد الصحابة - رضي الله عنهم - الإمامة له بظواهر أدلة استنبطوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامته ولا عهد بها إليه ولا إلى أحد من الصحابة، وأنه هو أحق الناس بالإمامة في وقته2 وأن الإمام الحق بعده هو عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -، ودرجاتهم في الفضل على درجاتهم في الإمامة. وقالت الخوارج بإمامة أبي بكر وعمر وبإمامة عثمان إلى الوقت الذي ادعوا أنه أحدث، وبإمامة علي بن أبي طالب إلى أن حكّم وتبرؤوا منهما بعد ذلك3. وادعت فرقة منهم يقال لهم البكرية منسوبة إلى شيخ لهم يسمّى بكراً4
أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى بالإمامة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - ونص عليه1. وقالت المعتزلة بإمامة أبي بكر وعمر2 وفسقوا عثمان وعلياً وقاتلي عثمان وخاذليه وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية وأبا 3موسى الأشعري4. وقال
استاذهم عمرو بن عبيد: لو شهد عندي علي بن أبي طالب على شراك نعل ما قبلت شهادته1. وذهب فرقة الرواندية2 إلى أن3 الإمامة للعباس بن عبد المطلب، وقد نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم4. وقالت الروافض والشيعة5 بإمامة علي بن أبي طالب، فادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامته نصاً لا يحتمل التأويل، ورفضوا إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وكفروا الصحابة كلهم إلا أربعة: علي بن أبي طالب وأبا ذر والمقداد وسلمان الفارسي. ثم افترقت الرافضة والشيعة في الإمامة بعد علي - رضي الله عنه - على ثلاث فرق فقالت الغالية منهم: علي هو الإله وحكى أن قوماً أتوه وقالوا: أنت إلهنا وخالقنا ورازقنا وإليك معادنا فقتلهم وحرقهم وهذه الفرقة يقولون هو حي وهو في السحاب6.
وقالت فرقة منهم وهم الزيدية1: الإمامة لعلي، ثم بعده ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين، ثم علي بن الحسن، ثم زيد بن علي، ثم يحيى بن زيد2، ثم محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن الذي يسمى النفس الزكية3، ثم أخوه إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن4، ثم المثلث وهو الحسن بن
علي، وإنما قيل له مثلث لأنه حسن بن حسن بن حسن1، ثم يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن2، ثم محمد بن إبراهيم3، ثم بعده الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم4. فهؤلاء ورثة الكتاب المخصوصون بالإمامة، ثم بعد ذلك يتبعون كل قائم يقوم من ولد علي، وهم أكثر الفرق نفوراً مع كل قائم حتى إنهم ينتقلون من إمام إلى إمام. وقالت فرقة منهم: تسمى الباطنية5 كانت الإمامة لعلي - رضي الله عنه
- ابتداءاً، ثم الحسين بن علي دون الحسن، لأنه أسلم الأمر إلى معاوية، ثم علي بن حسين، ثم محمد بن علي بن الحسين، ثم جعفر بن محمد1، ثم موسى بن جعفر2، ثم علي بن موسى3، ثم محمد بن علي4، ثم علي5 بن محمد6، ثم الحسن7
ابن علي1 وبعدهم إسماعيل بن جعفر2 ثم ابنه محمد بن إسماعيل3. وللروافض في الإمامة كلام كثير، لكنا نتكلم على إبطال ما ادعوه من النص عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بطل النص ثبت الاختيار. فنقول: لو كان هناك نص من النبي صلى الله عليه وسلم على إمام بعينه بأن يقول هذا خليفتي والإمام من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا لم يخل: إما أن يكون هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم بمحضر من الصحابة ممن يقع العلم بخبرهم أو كان ذلك منه بمحضر الواحد والاثنين والعدد الذين لا يقع العلم بخبرهم، فلو كان قد قال ذلك بمحضر جماعة يقع العلم بخرهم، لنقل ذلك نقل مثله ولشاع وذاع كما نقل أعداد الركعات وفرض الحج والصيام والزكاة التي لا خلاف بين الأمة في وجوبها، لأن الإمامة من الفروض العامة اللازمة
للجميع ولتوفرت الدواعي في كل عصر على نقل ذلك إلى يومنا هذا، وعدم ذلك يضطر إلى عدم النص منه، وإن كان قال ذلك بمحضر ممن لا يقع العلم بخبرهم فعند الروافض أن أخبار الآحاد لا توجب العمل في العبادات، فكيف توجب العمل في الإمامة، ولأنه لو كان كذلك لما وسع علياً - رضي الله عنه - عنه السكوت عن الاحتجاج به، ولما وسع بني هاشم وبني عبد المطلب الإغضاء على ذلك وترك نصرة علي، وفي عدم ذلك منهم ومنه ما يدل على عدم النص، ولأنه لو كان للنص أصل لكان يؤدي إلى أن الحق بذلك خفي على عصر الصحابة - رضي الله عنهم - وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجمتع أمتي على الخطأ"1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما كان الله ليجمع هذه الأمة على الخطأ"2 وفي انقياد الصحابة - رضي الله عنهم - لأبي بكر وكونهم تحت طاعته وفيهم علي والعباس وعمار والمقداد وأبو ذر والزبير بن العوام دليل على عدم النص على غيره، ولأن كثيراً من القائلين بإمامة علي من الزيدية3 والمعتزلة البغدادين4 وغيرهم ينكر5 النص ويجحده مع تفضيلهم لعلي على غيره وهذا في بابه أوضح دليل على عدمه. ثم نعارض روايتهم هذه برواية البكرية أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة أبي
بكر - رضي الله عنه1 - أو برواية الراوندية، حيث قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة العباس - رضي الله عنه - 2. وكل جواب للشيعة عن هاتين الروايتين فهو جواب لنا عن روايتهم في النص على إمامة علي - رضي الله عنه -، وعلى أن فرقة من الرافضة يقال لهم الكاملية3 كفروا خلقاً من الصحابة - رضي الله عنهم -، وكفروا علياً معهم، وذلك أنهم قالوا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي - رضي الله عنه - فردت الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكفروا بذلك، ولم ينازعهم علي ولم يقاومهم فكفر، وهذا يدل على أنهم أرادوا الطعن على الجميع وإبطال ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به ويدل على عدم النص ما روى ابن عباس - رضي الله عنه -: "أن علي بن أبي طالب خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي مات فيه، فقال له الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبح بحمد الله بارئاً فأخذ بيده العباس ابن عبد المطلب فقال: ألا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا4 والله إني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفى في وجعه هذا، وإني لأعرف في وجوه بني عبد المطلب الموت، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله فيمن يكون هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا، فقال علي - رضي الله عنه -: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها
الناس أبداً، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً1. وهذا يدل على عدم النص إذ لو له أصل لكان عندهما منه علم. وأما بيان عقد الإمامة لأبي بكر - رضي الله عنه - فما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات اختل الناس لموته فاعتزلت الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي - رضي الله عنه - في رجال من قريش في بيت فاطمة - رضي الله عنها -، فقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين: يا معشر الأنصار إن تقدموا قريشاً اليوم يتقدموكم إلى يوم القيامة، وأنتم الأنصار وفيكم كتاب الله وإليكم الهجرة، وفيكم أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلبوا رجلاً تهابه قريش وتأمنه الأنصار، فقال القوم: وما ذاك إلا سعد بن عبادة، قال: فسعد نريد وقام أسيد بن حضير الأوسي وهو من أهل الطاعة فيهم والرأي فقال: يا معشر الأنصار إنه قد عظمت نعمة الله عليكم بأن سماكم الأنصار، وجعل فيكم الهجرة، وقبض فيكم الرسول صلى الله عليه وسلم فاجعلوا ذلك2 لله شكراً، وإن هذا الأمر في قريش فمن قدموه فقدموه ومن أخروه فأخروه، فلم يقبلوا منه فلحق بالمهاجرين ثم قام عويم3 بن ساعدة الأنصاري فقال: "يا معشر الأنصار إن يكن هذا الأمر فيكم دون قريش فانفروا حتى نبايعكم عليه، وإن كان لهم دونكم فسلموا لهم ذلك، فوالله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفنا أن أبا بكر خليفته حين أمره أن يصلي بالناس فلم يقبلوا منه، فلحق بالمهاجرين فاجتمع المهاجرون إلى أبي بكر - رضي الله عنه - وفيهم عمر وقال عمر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، قال عمر:
فانطلقنا فلقينا رجلان صالحان1 من الأنصار قد شهدا بدراً فقال: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا من الأنصار، قال: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم، فقلت: والله لنأتينهم فإذا هم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة بين أظهرهم رجل مزمل فقلت؟ من هذا؟ قالوا: سعد ابن عبادة، فقلت: ما شأنه فقالوا: إنه وجع، فقام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط منا وقد دفت إلينا منكم دافة2، فإذا هم يريدون أن يخزلونا3 من أصلنا ويحضنونا4 من الأمر، قال: وقد زورت في نفسي مقالة وكنت أردت أن أقوم بها بين يدي أبي بكر، وكان أوقر مني واحلم، فلما أردت الكلام، قال: على رسلك وكرهت أن أعصيه، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ثم والله ما ترك كلمة كنت زورتها إلا جاء بها أو أحسن منها في بديهته ثم قال: "أما بعد فما ذكرتم فيكم من خير يا معشر الأنصار فأنتم له أهل، ولكن لم5 تعرف العرب هذا الأمر إلا بهذا الحي من قريش وهم أوسط العرب داراً ونسباً، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح، فوالله ما كرهت مما قال شيئاً6 غير هذه
الكلمة، وكنت1 لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر، فلما قضى أبو بكر خطبته قام رجل من الأنصار يقال له حباب ابن المنذر فقال: أنا جذيلها المحكك2 وعذيقها المرجب3 منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فقال عمر: إنه لا يصلح سيفان في غمد، ولكن منا الأمراء ومنكم الوزراء، قال: فارتفعت الأصوات وكثر اللغط حتى أشفقت الاختلاف، فقلت: يا أبا بكر أبسط يدك أبايعك، قال: فبسط يده فبايعته بايعه المهاجرون وبايعه الأنصار. وزعم الأوس أن أول من بايعه بشير أبو4 النعمان، وزعمت الخزرج أن أول من بايعه أسيد بن حضر، فلما بلغ أهل السقيفة ازدحم الناس على أبي بكر ليبايعوه، فقال قائل منهم: قتلتهم سعداً، فقال عمر: قتل الله سعداً، 5 ثم زفوه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أهله حجبوه فلما رقى أبو بكر المنبر نظر في وجوه اقوم فلم ير علياً - رضي الله عنه -، فسأل عنه فقام زيد بن ثابت وجماعة من الأنصار فأتوا به فقال أبو بكر: أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأردت أن تشق عصا المسلمين فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه6، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير الزبير فقال: أين الزبير، فقام زيد وجماعة فجاؤوا به فقال له: أنت ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه وأردات أن تشق عصا المسلمين، فال: لا تثريب يا خليفة رسول الله ثم
بايعه، ثم رجع علي - رضي الله عنه - إلى بيته وأقام حيناً من الدهر يسكن فاطمة - رضي الله عنها - من حزنها على أبيها إلى أن مرضت وماتت، فلما فرغ من دفنها - رحمة الله عليها - جاء إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فبايعه ثانياً البيعة المشهورة"1. فنحن نقول لما بايع عمر - رضي الله عنه - أبا بكر انعقدت له الإمامة لا بمجرد مبايعته ولكن لتتابع الأيدي إلى المبايعة لسبب مبادرته، ولو لم يبايعه عمر وبقي الناس مخالفين وانقسموا انقساماً لا يتميز فيه الغالب من المغلوب لما انعقدت إمامته، لأن شرط ابتداء الانعقاد قيام الشوكة وانصراف القلوب إلى المبايعة ومطابقة البواطن والظواهر على ذلك المقصود الذي يراد له الإمام، وهو جمع شتات الآراء ولا تتفق الإرادات المتناقضة على مبايعة ذي رأي واحد إلا إذا ظهرت شوكته ورسخت في النفوس رهبته ومهابته ولم يخالفه إلا من لا يكترث بمخالفته2.
ومما يدل على تقديم أبي بكر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرض مرضه الذي توفي فيه أغمي عليه ذات يوم في مرضه فأفاق فقال: " حضرت الصلاة قالوا: نعم قال: مروا بلالا فليؤذن وأمروا أبا بكر فليصل بالناس، ثم أغمي عليه فأفاق وقال مثل ذلك، فقالت عائشة يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فأمر عمر فليصل الناس، فقال مثل قوله الأول فقالت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف1 ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فأمر عمر قليصل بالناس، فقال مثل قوله الأول فقالت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فأمر عليا2 فليصل بالناس، فقال: إنكن صواحبات يوسف مروا بلالاً فليؤذن وامروا أبا بكر فليصل بالناس"3. وروى عبد الله بن زمعة قال: لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعة الذي مات فيه كنت عنده ونفر من المسلمين فبينا نحن كذلك إذ دعى بلال إلى الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فخرجت فإذا بعمر بن الخطاب في الناس وكان أبو بكر غائباً عنهم، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده يقدم على أبي بكر وعمر، فقلت في نفسي إن كان أبو بكر غائباً فهاهنا عمرفقلت: يا عمر صل بالناس، قال فقام وكبر وكان جهوري الصوت فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فقال: أين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون إلا أبا بكر، يأبى الله ذلك والمسلمون إلا أبا بكر، فبعث إلى أبي بكر فجاء من حيث كان وصلى بالناس بعد ذلك سبعة أيام"4. وفي بعض الروايات أنه أقام يصلي
بالناس سبعة عشر يوماً1. قال عبد الله بن زمعة: فقال لي عمر ويحك ماذا صنعت بي يا عبد الله ما ظننت إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تامرني، قلت: والله ما أمرني بذلك وإنما أمرني إلى أبي بكر فحين لم أره رأيتك أولى من حضر بالصلاة بالناس"2. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه عند صلاة الصبح يوم العاشر خفة فخرج يهادي بين الفضل بن العباس وأسامة بن زيد3 عاصباً رأسه، وأبو بكر يصلي بالناس، ففرح الناس بدخوله صلى الله عليه وسلم، فلما أحسن به أبو بكر ذهب ليستأخر فنكص عن مصلاه، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم في ظهره وقال: صل بالناس وجلس إلى جنبه قاعداً عن يمينه4.
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأبي بكر، وأبو بكر يصلي بالناس1، وكان ذلك بحضور علي - رضي الله عنه -. وروي أن عبد الله بن الكوا2 وقيس بن عباد3 دخلا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعدما فرغ من قتال الجمل فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت، فإن كان رأياً رأيته أجبناك في رأيك، وإن كان عهداً عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت الموثوق المأمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عنه. قال: فتشهد علي وكان القوم إذا تكلموا تشهدوا، فقال: أما أن يكون عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا والله، ولو كان عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت أخاتيم بن مرة ولا ابن الخطاب على منبره ولو لم أجد إلا يدي هذه، ولكن نبيكم صلى الله عليه وسلم نبي رحمة لم يمت فجأة ولم يقتل قتلاً مرض ليالي وأياماً يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فيقول: مروا أبا بكر فليصل بالناس وهو يرى مكاني، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فإذا الصلاة عضد الإسلام وقوام الدين فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فولينا الأمر أبا بكر فأقام أبو بكر - رضي الله عنه - بين أظهرنا الكلمة جامعة والأمر واحد لا يختلف عليه منا اثنان ولا يشهد أحد منا على أحد بالشرك، وكنت والله آخذ إذا أعطاني وأغزوا
إذا أغزاني وأضرب بيدي هذه الحدود بين يديه، فلما حضرت أبا بكر الوفاة ولاها عمر - رضي الله عنه -، فأقام عمر بين أظهرنا الكلمة جامعة والأمر واحد لا يختلف عليه منا اثنان ولا يشهد أحد منا على أحد بالشرك، فكنت والله آخذ إذا أعطاني، وأغزوا إذا أغزاني وأضرب بيدي هذه الحدود بين يديه، فلما حضرت عمر الوفاة ظن أنه إن يسختلف خليفة فيعمل ذلك بخطيئة إلا لحقت عمر في قبره، فأخرج منها ولده وأهل بيته وجعلها في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان فينا عبد الرحمن بن عوف فقال: هل لكم أن أدع نصيبي على أن أختار لله ولرسوله وآخذ ميثاقاً على أن نسمع ونطيع لمن ولاه أمرنا، فضرب بيده يد عثمان - رضي الله عنهما - فبايعه، فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا الميثاق في عنقي لعثمان، فابتعت عثمان - رضي الله عنه - بطاعته حتى أديت له حقه1. وروي الحسن البصري عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: " قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فصلى بالناس وقد رأى مكاني وما كنت غائباً ولا مريضاً، ولو أراد أن يقدمني لقدمني فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا"2. وروي شقيق3 بن سلمة أنه قال: قيل لعلي - رضي الله عنه - "استخلف علينا فقال: ما أستخلفت ولكن إن يرد الله بهذه الأمة خيراً يجمعهم على خيرعم كما جعهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيرهم"4.
وروي أنه قيل: لعبد الله بن أبي أوفى: "هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قيل: فكيف أمر المسلمين بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله، وقال1: أبو بكر يتوثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ودّ أبو بكر أنه وجد عهداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزم2 أنفه منها بخزامة". 3 ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} ؟ الآية، وهذا خطاب للصحابة - رضي الله عنهم -". 4 لأنهم هم المستخلفون الله عنهم -، ثم قال بعدها: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} 5 الآية، قال الضحاك: "هذا العهد لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - لأنهم هم المستخلفون بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنجز له ما وعدهم وجعلهم خلفاء بعد نبيه صلى الله عليه وسلم، ومكن لهم في الأرض ففتحوا الفتوح وغنموا الغنائم وسبوا الذراري، وكان سيف أبي بكر - رضي الله عنه - في أهل الردة سيف حق، وسيف علي - رضي الله عنه - في الخوارج سيف حق، وظهر بهم في دين الله بعد نبيه صلى الله عليه وسلم.
يؤيد ذلك ويوضحه ما روى أبو بكرة وسفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا" قال سفينة: أمسك1، "خلافة أبي بكر سنتين وعمر عشراً وعثمان اثنتي عشرة وعلي ستاً". 2 وروى عبد الله عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليكونن منكم اثنا عشر خليفة أبو بكر الصديق لا يلبث إلا قليلاً، وصاحب رحادارة العرب يعيش حميداً ويموت شهيداً فقال رجل: من هو يا رسول الله، فقال: عمر بن الخطاب، ثم التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان، فقال: يا عثمان وأنت يسألك الناس أن تخلع قميصاً كساكه الله فلا تخلعه، فوالذي نفسي بيده لإن خلعته لا ترى الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط "3. ويدل على ما قلناه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" 4. فسمى الخلفاء بعده الراشدين، وأمر باتباع سنتهم، ولم يكن بعده من الخلفاء إلا هؤلاء الأربعة، فدل على أن خلافتهم خلافة حق.
ومما يدل على خلافه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - من القرآن قوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 1، وهذه الآية نزلت في المخلفين من الأعراب عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، فقيل إن القوم الذين وصفهم الله بأولى بأس شديد هم أهل اليمامة2، 3 جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار والذي دعى إلى قتالهم وقاتلهم هو أبو بكر - رضي الله عنه -، وقيل: إنهم فارس وقد قاتلهم عمر - رضي الله عنه - فوعد الله المطيع على قتالهم أجراً حسناً، وأوعد من أعرض عن قتالهم عذاباً أليماً. فدل على أن الداعي لهم إلى قتالهم محق فيما دعاهم إليه4. ومما يدل على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - ما روي عن جبير بن معطم: "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته في شيء، فأمرها أن ترجع إليه فقالت: يا رسول الله أرأيت إن لم أجدك كأنها تعرض بالموت فقال لها: "إن لم
تجديني فأت أبا بكر "1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"2 ومما يدل على صحة إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - أن الله أثنى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3 وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} 4، الآية، وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 5. ومعنى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي: أنتم خير أمة6، ويقال: أراد كنتم في اللوح المحفوظ7، ويقال: في علم الله8.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" 1 وهؤلاء الذين أثنى الله عليهم بايعوا أبا بكر - رضي الله عنه - وأطاعوه وانقادوا له وسموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قال: إن خلافة أبي بكر كانت باطلاً فقد ضلل من أثنى الله عليه وشهد لهم أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فدل على أن ما أمروا به معروف. فإن قيل: فما الدليل على أن أبا بكر بصفة من تعقد له الإمامة، وما المعاني التي اقتضت تقديمه على غيره في عصره؟. قيل: أما سببه ونسبه فلا ينكره منكر2، وظهر من النبي صلى الله عليه وسلم معان تدل على تقديمه على غيره، وظهرت من أبي بكر - رضي الله عنه - في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند موته أمور تدل على علمه وشجاعته وقوة عزيمته. فأما ما ظهر للصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم فما ذكرناه من تقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الإمامة بالصلاة وتعظيمه لأمره بذلك، وقوله لعائشة وحفصة: "إنكن لصواحب يوسف" حين راجعنه في إمامة غيره3، وقوله مع ذلك "يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر"4
مع قوله الله صلى الله عليه وسلم: " يوؤ القوم خيرهم"1. وقوله: " أئمتكم شفعاؤكم"2 وقوله: "من تقدم على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله"3 وقوله صلى الله عليه وسلم:" ما من نبي يموت حتى يؤمه رجل من قومه" 4، وقد أمَّ أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة5. وروى عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذاَ أحداً من أهل الأرض خليلاً لأتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً - رضي الله عنه - ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوجة غير خوجة أبي بكر"6 وروي ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عاصباً رأسه بخرقة في مرضه الذي توفي فيه فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه
فقال: ليس أحد أمنّ عليّ بنفسه وماله من أبي بكر"1، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما نفعني مال أحد ما نفعني مال أبي بكر" قال: فبكى أبي بكر وقال: "يا رسول الله أنا ومالي لك" 2، قالت عائشة3: كان مال أبي بكر4 قد بلغ الغاية5 ألف أوقية فضة لم يزد عليها مال قرشي فأنفق ذلك كله في الله6 وقالت: "كان بلغ ماله في الجاهلية ألف ألف أوقية ففخرت بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسكني يا عائشة إني كنت لك كأبي زرع لأم زرع"7. وروي أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للجنة ثمانية أبواب فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب
الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وهو باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر: ما على من دعي من تلك الأبواب كلها من ضرورة، وهل يدعى أحد منها كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم وأرجو أن تكون منهم "1. وروي عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه قال: قلت يا رسول الله: من أحب الناس إليك قال:" عائشة فقال: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال، قال: أبوها قال ثم من؟ قال: ثم عمر"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله أبا بكر زوجني ابنته ونقلني إلى دار الهجرة وأعتق بلالاً من ماله" 3. وروي أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً من أهل مكة خرج ليلاً فتبعه أبو بكر - رضي الله عنه - فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعلك، قال: يا رسول الله اذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك، لا
آمن عليك، قال فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه، فلما رآه قد حفيت رجلاه حمله على كاهله وجعل يشتد به، حتى أتى به الغار فأنزله، وقال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل فلم ير شيئاً فحمله فأدخله، وكان في الغار خروق فيهن حيات وأفاعي، فشق أبو بكر - رضي الله عنه - ثوبه فحشى في كل خرق منها قطعه من ثوبه، فبقي خرق فوضع أبو بكر عقبه عليه فجعلت الحيات والأفاعي تضربه وتلسعه، وجعلت دموعه تنحدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا"1. فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما صنع ثوبك فأخبره بما صنع به فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة فأوحى الله إليه أني قد استجبت لك"2.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت: "هل قلت في أبي بكر؟ "، قال نعم قال: "قل وأنا أسمع"، فقال: وثاني اثنين في الغار المنيف ... وقد طاف العدو بهم إذ أصعدوا الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: "صدقت يا حسان" 1. ومما يدل على تقديم أبي بكر - رضي الله عنه - في الفتيا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ما روى أبو قتادة أنه قال: لما التقى المسلمون بالمشركين يوم حنين كانت للمسلمين جولة يعني اضطراباً فرأيت رجلاً من المشركين وقد علا رجلا من المسلمين فاستدبرت له من روائه فضربت على حبل عنقه بالسيف، فأرسله ورجع إلي فضمني ضمة شممت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني ثم رجعنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً له به بينة فله سلبه" فقمت وقعدت2، فقال النبي صلىالله عليه وسلم: "أبا قتادة؟ " فقلت: قتلت رجلاً فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله وسلب ذلك الرجل عندي فارضه منه، فقال أبو بكر: لاها الله إذا3 لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن
رسوله فيعطيك سلبه أردده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق فأعطه إياه" فأعطاني، فبعت الدرع فابتعت به مخرفاً1 في بني سلمة، فإنه أول مال تأثلته2 في الإسلام"3 ولا يتقدم في الفتيا بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم إلا من له منزلة في العلم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فقال: " إن رجلاً خيره ربه بين أن يعيش، في الدنيا ما شاء الله4 أن يعيش ويأكل في الدنيا ما شاء أن يأكل، وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه "، فبكى أبو بكر - رضي الله عنه - وقال: فديناك يا رسول الله بأبائنا وأمهاتنا، فقال أصحاب النبي صلىالله عليه وسلم: ألا تعجبون من هذا الشيخ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً صالحاً خيره الله بين لقاء ربه فاختار لقاء ربه، فكان أبو بكر هو أعلمهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أراد صلى الله عليه وسلم أنه هو الذي خيره الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد أمنّ إلينا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذته خليلاً"5. وروى أبو الدرداء قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا امشي أمام أبي بكر - رضي الله عنه - فقال: " يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة؟ ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر"6.
وروي أن أبا بكر1 - رضي الله عنه - أول من أسلم. وروي أنه سئل ابن عباس من أول من أسلم؟ فقال: أبو بكر - رضي الله عنه - أما سمعت قول حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأفضلها ... إلا النبي وأولاها بما حملا والثاني التالي المحمود شيمته ... وأول الناس منهم صدق الرسلا2 وروي عن ابن مسعود أنه قال: "أول من ظهر الإسلام سبعة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه وصهيب وبلال والمقداد3، وروي أبو سعيد الخدري: "أن أبا بكر قال لعلي - رضي الله عنهما -: قد علمت إني كنت في هذا الأمر قبلك قال: صدقت يا خليفة رسول الله فمد يده فبايعه، فلما جاء الزبير قال له
أبو بكر: قد علمت أني كنت في هذا الأمر قبلك قال: صدقت، فمد يده فبايعه1. وأما ما ظهر من أبي بكر - رضي الله عنه - من العلم وشدة الجأش بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتجت المدينة واختل الناس وأفحموا ودشهوا وطاشت عقولهم وذهلوا، فروي أن عمر - رضي الله عنه - كذب بموته وقال: ما مت رسول الله صلى الله عليه وسلم وليرجعنه الله2 وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم من المنافقين يتمنون موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وعده ربه كما وعد موسى ربه وهو آتيكم3. وأما علي - رضي الله عنه - فإنه قعد في البيت ولم يبرح، وأما عثمان فجعل لا يكلم أحداً حتى أنه يؤخذ بيده فيذهب به ولا يعقل، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - بالسنح4 وتواتر أهل البيت إليه بالرسل، فلما أخبر بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل وعيناه تهملان وغصصة تترجع في حلقة، وهو مع ذلك ثابت العقل حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وقبله، وقال: يأبى وأمي طبت حيا وميتا انطقع الوحي بموتك ما لم ينقطع بموت أحد من الأنبياء فعظمت عن الصفة5 وجللت عن البكاء بكلام له طويل، ثم خرج والنبي صلى الله عليه وسلم مسجى، فقام في الناس خطيبا فخطب خطبة خللها بالصلاة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيها: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء، وأشهد أن الكتاب كما أنزل، وأن الدين كما شرع وأن الحديث كما حدث"1 في كلام طويل، ثم قال: "أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 2، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 3. قال عمر: "والله لكأني لم أسمع بها في كتاب الله قبل الآن"4. فرجعوا صابرين محتسبين بقوة نفوس وسكون جاش في الدين، ولو لم يظهر منه غير هذا لكان ذلك كافياً في الدليل على علمه وفضله، ثم لما عقدت له الخلافة نادى مناده في المدينة بخروج جيش أسامة الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخروجه فاجتمع إليه قوم من الصحابة - رضي الله عنهم - فقالوا له: إن هذا الجيش فيه الحامية من نقباء المهاجرين والأنصار، وإن أهل الردة قد اطلعوا رؤوسهم وساقبوا5 المدينة فانتظر بانفاذه6 انكشاف الردة فقال: "والله لأن أخر من السماء على أم رأسي فتخطفني الطير وتنهشني السباع أحب إلي من أن أكون أول حال عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم. أنفذوا جيش أسامة
وأمرهم بالخروج1، فسأل نقباء المهاجرين والأنصار عمر أن يسأل أبا بكر أن يصرف أسامة ويولي من هو أسن منه وأدري بالحرب فسأله عمر ذلك، فقال أبو بكر: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب وعدمتك، أيوليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أعزله؟ والله لا يكون ذلك أبداً فشيعهم أبو بكر حافياً والعباس معه ومن بقي من الصحابة في المدينة فما زال يدعوا لهم ويؤمن العباس ومن معه على دعائه وأسامة يقول: إما أن تركب يا خليفة رسول الله أو أنزل وهو يقول: لا أركب ولا تنزل وماذا عليّ أن تغبر قدماي في سبيل الله فنفذ الجيش وفتح وغنم ورجع في نيف وستين يوماً ولقي بهم أهل الردة"2. ومن فضائله أن العرب لما ارتدت ومنعت الزكاة وقالوا لا نؤدي الزكاة إلى أبي بكر لأن الله قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} 3، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم هي التي كانت طهارة وزكاة دون ابن أبي قحافة، فعزم على قتالهم، فقال له عمر: كيف تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها"، 4 فقال أبو بكر: "الصلاة من حقها والزكاة من حقها، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عناقاً5، وروي عقالاً6مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه7، فرجع عمر وباقي الصحابة إلى قوله وعلموا أن الحق بقوله، وهذا يدل على أنه كان أفقه منهم، وأشجع منهم ولولا قتاله مانعي الزكاة لانحلت قوى الشريعة وعزائمها كالصلاة والصيام
والحج1، ولكن الله شد بعزيمته الدين فقاتل أهل الردة فقاتل أهل الردة وأثر فيهم2 بالقتل وأبادهم واستأصل خضراءهم3، حتى ألقى الله في قلوبهم من الهيبة والفشل منه ما كان في قلوب الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قال شاعرهم: ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايا نا قريب ولا ندر لعل جيوش المسلمين وخليهم ... ستطرقنا قبل الصباح من الفجر4 فكيف لا يصلح للخلافة من هذه صفته، هذا وقد كان مقدماً في الجاهلية تحتكم إليه العرب وترضى بحكمه وقوله5. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخلوا به ويستشيره في كثير من أمور التي أمر الله أن يستشير بها6بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} 7، ولا يستشير إلا من يحمد لذلك بالعقل والعلم.
122 - فصل وقد تعلقت القدرية والروافض بمعان ضعيفة وأخبار غير صحيحة في الطعن على إمامة أبي بكر وعمر. فمن ذلك أن علياً والزبير - رضي الله عنهما - تخلفا عن بيعة أبي بكر ثم بايعا مكرهين. والجواب: أن هذا طعن على علي - رضي الله عنه - ونسبته إلى النفاق، لأنه إذا عام أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه في الإمامة وأمره بذلك كيف حلّ له ترك إظهار ذلك والقيام به، وكيف ساغ ترك نصرته لبني هاشم وبني عبد المطلب وغيرهم من قبائل قريش، مع أن المروي عنه أنه قال: "والله لو كان عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت أخاتيم بن مرة ولا ابن الخطاب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم أجد إلا يدي هذه، وذكر استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الصلاة مع كونه حاضراً يرى مكانه"1. وروي أنه قال لأبي عبيدة بن الجراح يوم وصله: "والله ما قعودي في كسر بيتي قصداً مني لخلاف ولا إنكاراً لمعروف ولا زراية على مسلم، بل لما وقذني2 رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقة وأودعني من الحزن بعده، وأنا غاد إلى جماعتكم غداً إن شاء الله بفراق ومبايع صاحبكم، فلما كان صباح ذلك اليوم وافى عليه السلام يخرق الجماعة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فبايعه طائعاً غير مكره، وقال خيراً ووصف جميلاً وجلس طويلاً واستأذن للقيام، فقام وشيعه عمر تكرمة له، فقال له علي - رضي الله عنه -: والله ما قعدت كاراهاً ولا أتيته فرقاً منه ولا أقول ما أقول تقية مني في كلام له طويل"3.
وروي أن أبا بكر - رضي الله عنه - بعد ما بويع له وبايعه علي - رضي الله عنه - أقام ثلاثاً يقول: يا أيها الناس قد أقلتكم بيعتكم، هل من كاره، فيقوم عليّ في أوائل الناس فيقول: والله لا نقيلك ولا نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا الذي يؤخرك1. واحتجوا بما روي أنا أبا بكر - رضي الله عنه - قال في بعض خطبه: "وليتكم ولست بخيركم فإذا استقمت فاتبعوني، وإن اعوججت2 فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم"3. قالوا فاعترف على نفسه أنه ليس بخيرهم وأنه يعصي الله. والجواب على ذلك من وجوه: أحدهما: أنه أراد وليتكم بالإمامة في الصلاة "وليست بخيركم" يومئذ لأن فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه أراد لست بخيركم قبيلة ولا عشيرة، لأن بني هاشم وبني عبد المطلب أعلى منه في ذروة النسب، ليدلهم بذلك أن الأمر لا يستحق بعلو النسب. والثالث: أنه أراد التواضع وكره أن يزكي نفسه4 لأن الله قال: {فَلا
تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 1، وإذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لأبي الدرداء: "ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر"2 كان ذلك كافياً في بيان درجته وفضيلته على غيره. وأما قوله: "فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم"، فإنه نفي عن نفسه أن يكون معصوماً عن الخطأ، وليس من شرط الإمام عندنا أن يكون معصوماً3، وكيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما منا معاشر الأنبياء إلا من عصا أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكريا" 4، وقال لنبيه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 1، فإذا كانت هذه حالة الأنبياء فكيف الأئمة2. احتجوا بما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه خطب وقال: "إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها"3، وقالوا: وكيف يستحق الخلافة وبيعته بهذه الصفة.
والجواب: أن يقال لهذا المحتج: بهذا سهوت وجهلت مراد عمر - رضي الله عنه - بذلك، أنه لم يرد بذلك الطعن على بيعة أبي بكر، والا زدراء بها وكيف يليق به هذا وإمارة عمرة صدرت من أبي بكر وإنما أراد بها كانت فلتة أي تمت وانتظمت لم يحتج فيها إلى مشاورة الأحلاف ومن يريد شق عصى المسلمين، وقى الله شرها بتمامها ولم يتم من أراد من الأنصار نصب إمام منهم1 حيث قال الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير2. واحتج من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي - رضي الله عنه - بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألست أولى المؤمنين من انفسهم، من كنت مولاه فعلي مولاه وإلى الله من والاه وعادى من عاداه"3
قالوا: فأوجب1 لعلي من الطاعة على المؤمنين ما أوجبه عليهم لنفسه، ثم قال: "وإلى الله من والاه وعادى من عاده"، ومن أئتم بغيره فقد عاداه. والجواب عنه من وجوه: أحدهما: أن نقول للراوفض والقدرية أنتم ل تقولون بأخبار الآحاد فإنها لا توجب العمل2. فكيف يمكنكم الاحجناج علينا بما لاتقولون به. والثاني: أنا نقول لهم النص هو القول الذي لا يحتمل التأويل3 - حتى إن بعض العلماء قال: النص بعد وجوده4 وهو مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 5 {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 6 فهو نص فى الثلاثة وفي القرء غير منصوص لأن القرء لفظ مشترك7، فقولكم بأن هذا القول نص من النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة علي قول صدر ممن لا يميز بين النص والظاهر8.
والجواب الثاني: أن يقال لهم قولكم بأنه صلى الله عليه وسلم أوجب لعلي على الخلق ما أوجبه لنفسه عليهم غير صحيح، لأنه قال في هذا الخبر: "ألست نبيكم والمخبر لكم بالوحي عن ربكم، وناسخ شرائع من كان قبلكم". فأثبت لنفسه النبوة، والإخبار بالوحي، وأنه ناسخ الشرائع، كما أثبت لنفسه الولاية عليهم، فلما لم يشاركه علي - رضي الله عنه - بالنبوة ولا بالوحي ولا بنسخ الشرائع لم يشاركه بالولاية، وعلى أنه لو كان صحيحاً لكان علي ثابت الولاية عليهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يقوله أحد، فثبت أن قوله "من كنت مولاه فعلي مولاه "ليس المراد به الواي، لأن المولى لفظة مشتركة تقع على معان مختلفة منها: المولى: يقع علي المولى من أعلى وهو المعتق، وهذا لا إشكال فيه ويقع على المولى من اسفل وهو المنعم عليه، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُم} ْ1 والمولى: يقع على ابن العم والعصبة، قال الله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} 2. قال في التفسير: بني العم3. قال الشاعر: مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تظهروا بيننا ما كنا مدفونا لا تحسبوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا4 وأراد بالمولى هنا: ابن العم، والمولى يقع على الناصر، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي ناصرهم {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} 5أي لا ناصر لهم.
والمولى يقع على المحب والموالي، ومنه قوله صلىالله عليه وسلم:" مزينه وجهينة وأسلم وغفار موال الله ورسوله"1. أي محبون موالون لهما. والمولى يقع على الجار2، قال مربع بن وعوعة الكلابي وكان جار كليب ابن يربوع فأحسنوا جواره: - جزا الله خيرا بكفه ... كليب بن يربوع وزادهم حمدا هم خلطونا بالنفوس وألجموا ... إلى نصر مولاهم مسومة جردا3 وأراد إلى جارهم. وإذا كانت لفظة المولى مشتركة بين هذه المعاني حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" أي من كنت ناصره ومحبه أو ابن عمه فعلي مولاه4، ولا يكون ذلك إلى الوالي. وأما قوله: "وإلى الله من والاه وعادي من عاداه" فما أحد من الصحابة ولا من أهل الحديث عاداه، وليس من ائتم بإنسان سمى معاديا لسائر الناس، وإنما المعادي لهم هم الخوارج. واحتجوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"5.
والجواب أن يقال: إن هذا ليس بنص على إمامته، لأن النص ما لا يحتمل التأويل، وإنما الخبر ورد على سبب، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة تبوك خلفه على المدينة فقال المنافقون: إنه أبغض عليا وقلاه حين لم يخرجه معه، فتبعه علي - رضي الله عنه - وقال: يا رسول الله أتتركني مع الذرية والعيال فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"1، وأراد بذلك حين خلفه على قومه يوم توجه لكلام ربه، ولم أخلفك بغضا ولا قلا، ولم يرد أنك تَخْلفُنُى بعد موتى، لأن هارون لم يخلف موسى صلى الله عليه وسلم بعد موته بل مات فقبل موسى وإنما خلفه يوسع بن نون2. فإن قالوا: فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة يومئذ، وما روي أنه عزله عن ولايته عليها فيجب أن تكون ولايته ثابتة عند موته وبعد موته. قيل لهم: هذا لا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع عن3 غزوته كان حكم المدينة وأمرها إليه، ولم يقل أحد إن عليا كان يملك الولاية عليها بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته، ويعارض هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى أبا بكر الإمامة في
الصلاة بالمدينة1 وأقامه على الحاج في الموسم2 وما روي أنه عزله فكل جواب لهم عن هذا فهو جوابنا لهم3. احتجوا على النص على إمامة علي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتت أخي وخليفتي في أهلي وقاضي ديني ومنجز عداتي"4. والجواب: أن هذا ليس بنص على الإمامة بعده لا يحتمله التأويل5، لأن هذا الخبر إذا ثبت حملنا قوله: "أنت أخي" أنه أراد التعظيم له، وهو كذلك لأنه ابن عمه. وقوله: "خليفتي على أهلي" أي على فاطمة وولديها وهم أهل له صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: " وقاضي ديني" يحتمل أنه أمره بقضاء دين عليه بعد موته أو في حياته6، وكذلك قوله: "منجز عداتي" وليس في هذا كله نص على الإمامة، بدليل أن إمامة لو قال لرجل بهذا القول لم
يكن ذلك وصية إليه بالإمامة بلا خلاف بين أحد من أهل الفقه، فكذلك من النبي صلى الله عليه وسلم. ونعارض هذه1 الأخبار بأخبار هي أصرح منها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة "3 وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بأم الناس4، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لقوم يكون فيهم أبو بكر أن يتقدمه غيره "5 وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا "6 ورشدت أمتهم، وإن يعصموهما غووا وغوت أمتهم".
123- فصل: في خلافة أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - وذلك أنه لما حضرت أبا بكر - رضي الله عنه - الوفاة قال: "يا معاشر المسلمين إنه قد حضرني من قضاء الله ما ترون، ولا بد لكم من رجل يلي أمركم ويصلي بكم ويقاتل عدوكم ويجمع فيكم، فإن شئتم فاجتمعتم هنا وأتمرتم، وإن شئتم اجتهدت لكم برأيي فبكوا وقالوا: أنت خيرنا وأعلمنا فاختر لنا، قال عثمان بن عفان: لقد أحضرني أبو بكر فقال لي اكتب: هذا ما عهد به عبد الله بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا وقت يسلم فيه الكافر ويبر فيه الفاجر، وثقل لسانه فلم1 يبين عن نفسه وإغمي عليه، قال: فكتب اسم عمر، فأفاق أبو بكر، فقال لي: أكتبت أحداً؟ فقلت: خشيت الفرقة فكتبت عمر، فقال: يرحمك الله أصبت ما في نفسي ولو كتبت نفسك لكنت أهلا لها"2.
وروي "أنه خرج معصوبا رأسه فخطب خطبته المشهورة وقال: سأخبركم باختياري فوصف فيها عمر ونعته فذكر شدته من غير عنف، ولينه من غير ضعف، وقدرته على الأمر، وكل الصحابة - رضي الله عنهم - صوب رأيه فيه ورضوا بوصيته1 إلا طلحة فإنه قال: أذكرك الله واليوم الآخرأنك استخلفت علينا رحلا فظا غليظا، ماذا تقول لربك إذا لقيته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني فأجلسوه، فقال: أتفرقوني2 بالله أقول له إذا لقيته اسختلفت عليهم خير أهلك3، فقال عثمان وعبد الرحمن4 لأبي بكر: امض لشأنك وأنفذ أمرك وأعهد إلى عمر فإنه أهل لها"5. وروي أن عليا - رضي الله عنه - قام وقال: "ما6 نرضى إلا عمر بن الخطاب"7 وروي أن طلحة - رضي الله عنه - صوب رأي أبي بكر بعد ذلك في استخلافه لعمر وذكر عمر بأجمل الذكر8.
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على خلافة عمر بعد أبي بكر - رضي الله عنهماـ بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" 1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب"2. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك إما عمر ابن الخطاب أو أبي جهل بن هشام" 3. فسبقت الدعوة في عمر فدل أن الله يحبه. وقال ابن عباس: "لما أسلم عمر - رضي الله عنه - نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا محمد لقد استبشر أهل السماء اليوم بإسلام عمر"4.
وقال ابن مسعود: "لما أسلم عمر - رضي الله عنه - قال المشركون لقد انتصف المسلمون منا"1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"2. "وقد كان يكون في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر بن الخطاب"3. وقال علي - رضي الله عنه -: "ما كنا نبعد أن السكينة4 تنطق على لسان عمر"5.
وروي عن أنس بن مالك أنه قال: "نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقرئ عمر السلام وأخبره أن غضبه عز ورضاه عدل"1. وقال ابن مسعود: "كان إسلام عمر - رضي الله عنه - عزا، وكانت هجرته نصرا، وكانت خلافته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي ظاهرين حتى أسلم عمر2، وإني لأحسب أن بين عينيه ملكا يسدده"3 وروي أن أبا بكر لما استخلف عمر - رضي الله عنهما - قال له: "إني موصيك بوصية إن حفظتها، إن لله عز وجل حقا في الليل لا يقبله بالنهار، وحقا بالنهار لا يقبله في الليل، وإنه لا تقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم، وحق4 لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان5 لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا، ثم قال في آخر وصيته: فإن حفظت قولي هذا لم يكن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن ضيعت قولي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت، ولا بد لك منه ولن تعجزه"6.
فحفظ عمر - رضي الله عنه - وصية أبي بكر في نفسه ورعيته، فكان في الدنيا زاهدا، وفي الآخرة راغبا. فروي أنه أتي له بلبن فشربه فقيل له: إنه من إبل الصدقة فتقيأه، وذلك أنه كره بقاءه في جوفه1. وروي أنه أتى إليه بمسك من بيت المال فقسم بحضرته فسد على أنفه، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنما يتجاوز إليك ريحه فقال: وهل يراد من المسك إلا رائحته".2 وهذا غاية في الورع. وروي أنه قال: "لو شئت أن أدعو بصلاء3 وصناب4 وأفلاذ5 وأسنمة6 وأكباد لو شئت أن يدهمق7 لي لفعلت، ولكن الله عاب قوما ذلك فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} 8.
وروي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دخل على عمر بعد قتله وقد سجي بثوبه، فقال: "ما أحد إليّ أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى بينكم1، ثم قال: "يرحمك الله يا ابن الخطاب إن كنت بذات الله لعليما، وإن كان الله بصدرك لعظيما، وإن كنت لتخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله، كنت جوادا بالحق بخيلا بالباطل، خميصا من الدنيا، بطينا من الآخرة، لم تكن عيابا ولا مداحا"2. وروي عن ابن مسعود أنه قال: "كانت خلافة عمر رحمة"3 وروي عنه أنه قال: "أفرس الناس ثلاثة العزيز الذي تفرس بيوسف عليه السلام وابنة شعيب في تفرسها4 بموسى عليه السلام بقولها يا أبت استأجره إن خير من
استأجرت القوي الأمين، وأبو بكر - رضي الله عنه - في استخلافه عمر"1. وأما شدته وصرامته فما لم يخف على أحد، جندّ الأجناد وفتح البلاد ومصر الأمصار، واستأصل الكفار، واستولى على الديار، وصلح بنظره الحاضر والبادي والقاصي والداني حتى قال: لئن عشت ليبلغن الراعي حقه بصفنه2 بسر وحمير3 لم يرق به جبينة4، ولما فتح أرض السواد قسمها بين الناس فاستغلوها ثلاث سنين فخاف أن يشتغل الناس بذلك فقال: لولا أخشى أن يكون الناس بَبّانا واحدا لكنتم على ما قسم لكم، وأرى أن تردوها5 فمنهم من طابت نفسه ورد ما بيده6، ومنهم من لم تطب نفسه
بالرد إلا بعوض إعاضة، فردها على أهلها وضرب عليهم خراجا1يؤخذ منهم كل سنة إلى وقتنا هذا، فساوى بين الأولين والآخرين في ارتفاع2 هذه الأرض، وهذا معنا قوله: لولا أخشى أن يكون الناس ببانا أي شيئا واحدا. هكذا الرواية ببائين مجموع3 كل واحدة منقطة من تحتها والثانية مشددة ونون4. وما شيء يلزم القيام به إلا قام به، حتى إنه ليباشر الأعمال بنفسه في الإنفاق على الأرامل والصغار، ويطوف في سكك المدينة ليلا ونهارا ليستمع، أو يرى ما يتوجه عليه فيه حق، فسمع امرأة ذات ليلة تقول: ألا طال هذا الليل وازور جانبه وأرقني أن لا حليل ألا عبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يكفني ... وإكرام بعلي أن تنال مراكبه فسأل عنها، فقيل: إن زوجها في الغزو، فسأل عمر حفصة ونساء معها: كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقلن: شهرين وفي الثالث يقل الصبر وفي الرابع ينفر، فكتب إلى أمراء الجيوش في الآفاق أن لا يحبس الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر1. وله من المحافظة والمراعاة للرعبة ما يطول ذكره، وفيما ذكرته دلالة على ما لم يذكر والله أعلم.
124- فصل: في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. وذلك أن عمر - رضي الله عنه - بلغه أن قوما كانوا يخوضون في الخلافة ويقولون: لئن مات عمر لنولين فلانا ويريدون إخرجها عن الستة الذين جعلها عمر إليهم، وكان شديد الاحتياط في أمر المسلمين، فقام خطيبا يوم الجمعة فحمد اله أثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - رضي الله عنه - وقال: إني رأيت في النوم كأن ديكا نقرني نقرتين وما أراه إلا لحضور أجلي، ألا وإني قد جعلت الأمر في هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وقد بلغني أن قوما يقولون إن مات عمر لونلين فلانا، أولئك أعداء الله الضلال الجهال، والله لقد جالدتهم بيدي هذه على الإسلام، وأرى أقواما يأمرونني أن استخلف ويطعنون في هذا الأمر، فإن أعهد فقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لبث بعد ذلك إلا قليلا حتى أصيب1 فدخل2 يوماً المسجد لصلاة الصبح، وكان إذا أراد الصلاة قام بين الصفوف، وقال: استووا فإذا استووا تقدم وصلى، فلما فعل ذلك وكبر بالصلاة طعنه العلج، فقال: قتلني الكلب فأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه ليتم الصلاة بالناس وكان بيد العلج سكين ذات طرفين لا يمر برجل يمينا وشمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً ليأخذه، فلما ظنّ أنهُ يأخذه طعن نفسه، فصلوا صلاة الفجر صلاة خفيفة، فأما من في نواحي المسجد
فلا يدرون ما الأمر، غير أنهم فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، فلما انصرفوا. قال عمر لابن عباس: انظر من قاتلي فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة بن شعبة وكان نجارا، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد رجل من المسلمين، لأنه كان نصرانيا1، ثم قال: قاتله الله لقد كنت أمرت به معروفا، فأسقوه لبناً فخرج من جرحه، فعلم أنه يموت فقال لابنه عبد الله: احسب ما عليَّ من الدين فحسبه، فإذا هو ستة وثمانون ألفا، وقال: إن وفى بها مال عمر فأدها، وإلا فاسأل في بني عدي ابن كعب، فإن لم يف من أموالهم فسل قريشا ولا تَعْدُهم إلى غيرهم، ثم قال لابنه عبد الله: ايت عائشة - رضي الله عنها - فسلم2 وقل: يستأذن عمر، - ولا تقل أمير المؤمنين فلست لهم اليوم بأمير - بأن3 يدفن مع صاحبيه، فأتاها ابن عمر فوجدها قاعدة تبكي، فأخبرها بذلك فقالت: بقي موضع قبر كنت أريده لنفسي، ولأؤثرنه على نفسي، فلما جاء قالوا جاء عبد الله بن عمر قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك، قال: قد أذنت، قال: ما شيء أهم إليّ من ذلك المضجع إذا قبضت فجهزوني واحملوني، ثم استأذنوا فإن أذنت فأدخلوني، وإلا ردوني إلى مقابر المسلمين، فلما مات فعل ذلك فاذنت ودفن مع صاحبيه، ولما حضره الموت قال: لآ أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وسمى: عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، فذكر ابنه عبد الله بن عمر لأجل فضله وعمله فقال: شاوروه وليس له من الأمر شيء".
وروي أنه قال: لم أكن بالذي أتحملها حيا وميتا، وقال: يكفي آل الخطاب أن يسأل منهم رجلا واحدا، وكان طلحة غائبا فقال لهم عمر: إن استقام أمركم قبل أن يقدم طلحة فامضوه على ما استقام عليه، وإن قدم طلحة قبل أن يستقيم أمركم فآذنوه، فإنه رجل من المهاجرين وقال لهم: لا تنتظروا أكثر من ثلاثة أيام، ثم منعهم أن يصلي رجل منهم بالناس قبل أن يستقيم أمرهم خوفا أن يظن هو أو غيره أنه نص عليه، وأمر صهيبا أن يصلي بالناس أيام مشورتهم حتى قال شاعرهم: صلى صهيب ثلاثا ثم أسلمها ... إلى ابن عفان ملكا غير مردود1 ثم إن الرهط الذين ولاهم عمر - رضي الله عنهم - اجتمعوا وتشاروا وكانوا خمسة - فقال لهم عبد الرحمن بن عوف: إنكم لا تستقيمون على أمر وإنكم خمسة فليعادكل رجل رجلا وأنا عديد الغائب، فتعاد علي والزبير وولى الزبير أمره عليا، وتعاد عثمان وسعد وولى سعد أمره عثمان، وخلا علي وعثمان وعبد الرحمن2 فقال لهم عبد الرحمن: إما أن تتبرآ من الأمر فأوليكما الأمر فتختارا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم رجلا، وإما أن تولياني ذلك وأبرأ من الأمر، فولياه ذلك. وروي "أن عبد الرحمن قال لهم: لست أنافسكم هذا الأمر، ولكن إن شئتما اخترت لكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن وقد كان قال لهم عمر: إن انقسم الناس شطرين فكونوا في حيز عبد الرحمن بن عوف لعلمه بفضله وأمانته وانه مرضي عند الكافة وأزهدهم في هذا الأمر. قال المسور ابن مخرمة: فلما ولوا ذلك عبد الرحمن مال الناس عليه يشاورونه ويناجونه فطرقني عبد الرحمن بعد هزيع من الليل فضرب الباب فاستيقظ، فقال: ألا أراك نائما فوالله ما اكتحلت بكثير نوم فادع لي
الزبير فدعوته، فناجاه حتى ابهارّ الليل1، ثم قام منه على طمع ثم قال لي: ادع عثمان فناجاه طويلا حتى فرق بينهما المؤذن، فلما كانت الليلة التالية وعبد الرحمن في دار القضاء قال له سعد: يا أبا محمد ما كان أحد أحق بهذا الأمر منك قال: إنك يا سعد تحب أن يقال ابن عمه خليفة، وإنك يا مسور تحب أن يقال خاله خليفة والله لئن توجد مدية فتوضع هاهنا وأشار إلى لبته2 وأمر بيده إلى لبته أحب إلي من أن أليّ من أمر الناس شيئا، فقام سعد فقال له عبد الرحمن: يا أبا إسحاق اشهد الصبح والبس السيف، ثم قال لي عبد الرحمن: اذهب إلى علي وعثمان وأتني بهما، قال المسور: وكان هواي مع علي فأحببت أن أعلم ما في نفسه فقلت: له بأيهما أبدا، فقال: بأيهما شئت، قلت: آتيك بهما جميعا أو فرادى قال: لا بل جميعا قال: فبدأت بعلي فقلت له: أرسلني إليك خالي قال: أرسك إلى غيري معي؟ فقلت نعم. إلى عثمان. قال: بأينا أمرك أن تبدأ؟ قلت: قد سألته فقال بأيهما شئت فبدأت بك، قال: جميعا أو فرادى قال: لا بل جميعا فخرج معي في موضع الجنائز، وقال: اذهب إلى صاحبك فخرجت إلى عثمان فوجدته يوتر في بيت شيبة بن ربيعة، فخرج إلي عاقدا إزاره في عنقه آخر الليل، فقلت إن خالي أرسلني إليك، فقال: أرسلك إلى غير معي؟ قلت: نعم إلى علي، فسألته بأيهما أبدأ؟ قال: بأيهما شئت، فبدأت بعلي وهو ينتظرك في موضع الجنائز، فخرجت أنا وعثمان حتى جئنا عليا، ثم دخلنا على عبد الرحمن فحمد الله وأثنى عليه، ثم أقبل عليهما، وقال: أشيرا علي وأعيناني على أنفسكما هل أنت يا علي متابعي على سنة الله ورسوله وبعهد الله وميثاقه وسنة الماضين قبلي، - وروي سنة الشيخين قبلك - فقال علي: لا، ولكن أبايعك على طاقتي، قال: فصمت ثم تكلم كلاما دون كلامه الأول، ثم قال: هل أنت يا علي مبايعي على إن وليتك
هذا الأمر على سنة الله سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعهد الله وميثاقه وسنة الماضين قبلي، قال: لا، ولكن على طاقتي، ثم قال: هل أنت يا عثمان مبايعي إن وليتك على سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعهد الله وميثاقه وسنة الماضين قبلك؟ فقال عثمان: نعم، قال: فأحب أن تقوما عني إن شئتما، فقاما عنه، فقام عبد الرحمن فاعتم ولبس السيف وخرج المسجد، وقد جاءت المهاجرون والأنصار من دورهم، وصار المسجد كالرمانة، وأرسل إلى من تخلف وإلى الأمراء، وكان قد وافق تلك الحجة مع عمر1، فصلى الصبح وتشهد ولا أشك أنه مبايع لعلي لما رأيت من حرصه على علي، ثم أخذ بيد علي فقال: الله عليك راع إن أنا بايعتك لتعدلن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولتتقين الله عز وجل، وإن أنا لم أبايعك لتسمعن ولتطيعن لمن بايعت؟ قال علي: نعم، ثم أخذ بيد عثمان فقال: الله عليك راع إن أنا بايعتك لتعدلن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولتتقين الله عز وجل، وإن أنا بايعت غيرك لتسمعن ولتطيعن؟ قال عثمان: نعم، فقال عبد الرحمن: إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، ثم صفق علي يد عثمان فقال: أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده، وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد وسائر المسلمين وبايعه طلحة لما قدم وانقادوا له وسموه أمير المؤمنين"2. فروى سعيد بن كعب3 والليث بن سعد عن عبد الرحمن أنه قال:
"والله ما بايعت عثمان حتى شاورت كل أحد حتى صبيان الكتاب فكل يقول عثمان فبايعته"1. فعبد الرحمن في فضله وعلمه وسابقته مما لا حاجة لنا إلى الإطالة بذكره يصلح لعقد هذا الأمر، وعثمان - رضي الله عنه - ممن يصلح له العقد لكون الشرائط كلها موجودة فيه، ومن فضله أن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه ابنتيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أزوج كريمتي عثمان"2، ولما ماتت الثانية قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان لنا ثالثة لزوجناك" 3. وروي أنه قال: "لو أمدنا الله بالبنات لأمددناك يا عثمان بالأزواج"4.
وإنما سمي ذا النوريين لأن أحدا من لدن آدم لم يتزوج ابنتي نبي غير عثمان1، فهذه أشرف مناقبه. وروى ربعي بن خراش: "أن عثمان - رضي الله عنه - خطب إلى عمر ابنته حفصة، فأبى عليه، فلبغ ذلك بني الله صلى الله عليه وسلم، فلما راح عليه عمر قال: يا عمر ألا أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خيرله منك؟ قال: نعم. قال زوجني ابنتك وأزوج عثمان ابنتي"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان"3،
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة تستحي من عثمان"1. وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - معه، فرجف بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أثبت أحد فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان"2. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت بهم الصخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد"3. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقتل شهيدا، وأن الله يقمصه قميصا، فإن أرادوك على خلعه فلا تفعل4، وسبحت الحصى بكفه5، وله من الفضائل ما يكثر ذكره.
125- فصل ومذهبنا أن القوم الذين اجتمعوا على قتل عثمان - رضي الله عنه - وقتلوه فسقة، وهو مظلوم وكلما تأولوه عليه لا يبيح قتله لهم ولا خلعه، لأن أكثر ذلك باطل لا أصل له، ولا يصح شيء منه فلا يقتضي قتله، وذلك لما ثبت من إيمانه وثبوت بيعته ووجوب طاعته والقوم الذين قصدوه من غير أهل الحل والعقد في الإمامة، وإنما حملهم على ذلك أمور دنيوية فمنهم من طلب امرأة فمنع منها، ومنهم من حمله على ذلك الغيظ على أمرائه وعماله1. ومما يرويه الشيعة وأهل البدعة من الأخبار أن عليا وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة كاتبوا أهل الآفاق وأمروهم بخلعه أو قتله2 فأخبار آحاد لا يثبتها أهل النقل ولا يبطل بها ما ثبت من نزاهة الصحابة وفضلهم. وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله"3. وروي أنه قيل لعائشة - رضي الله عنها ـ: إن الناس قد أكثروا في عثمان وشتموه ولعنوه، قالت: لعن الله من لعنه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى صدري وجبريل يوحي إليه وعثمان عن يمينه وهو يقول4:
" اكتب يا عثمان فما1 نزل تلك المنزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كريم على الله ورسوله"2. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس ثم ذبحتموه كما تذبح الكبش، فقال لها مسروق: هذا عملك كتبت إلى الناس تأمرينهم أن يجروا3 إليه، فقالت: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سوداء ولا بيضاء4 حتى جلست مجلسي هذا".قال الأعمش: وكانوا قد كتبوا على لسانها5. وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ابن عفان اللهم لا أرضى قتله ولا آمر به"6.ويدل على ما ذكرناه ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون بعدي أمور فقلنا فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال: إلى الأمير وحزبه فأشار إلى عثمان بن عفان"7.
وروى كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: "ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فتنة فمر بنا رجل مقنع1، فقال: "هذا يومئذ على الهدى فأخذت بضبعه فقتلته أو قلبته، فاستقبلت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا يا رسول الله قال: هذا فإذا هو عثمان ابن عفان"2. وروت عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعثمان: "إن الله سيقمصك قميصا إن روادوك على خلعه فلا تخلعه"3.
وروى ابن عمر أن عثمان - رضي الله عنه - أصبح يحدث الناس فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا عثمان أفطر عندنا فأصبح صائما وقتل من يومه"1. وروي عن أبي جعفر الأنصاري2 قال: "لما دخل علي عثمان يوم الدار مررت مجتازا في المسجد، فإذا رجل عليه عمامة سوداء وحوله نحو من عشرة فإذا هو علي، قال: ما فعل الرجل؟ قلت: قتل، قال: تبا لهم3 آخر الدهر4، وروي أنه قال: "لو أعلم ان بني أمية يذهب ما في أنفسهم لحلفت لهم خمسين يميناً مرردة بين الركن والمقام أني لم أقتل عثمان ولم آمال على قتله"5.
فإن قيل: فإذا كان الأمر في الصحابة1 فما منعهم عن نصرته ولم خذلوه. قيل لهم: معاذ الله أن يكون فيهم من خذله أو قعد عن نصرته، وإنما نهاهم عن ذلك وناشدهم الله، وعرف أن الجيوش قد سارت إليه من الأمصار، ولم ير أن في الصحابة من يماثل عددهم، وخاف إراقة دماءهم، لما روي أن المغيرة بن شعبة قال له: إنه قد نزل بك ما ترى، وأنا أعرض عليك خصالا ثلاثا: إن شئت خرقنا لك بابا من الدار سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، أو تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، وإن شئت خرجت بمن معك فقاتلهم وإن معك عدة وقوة، وإنك على حق وهم على باطل، فقال عثمان: أما قولك تخرق لي بابا من الدار فاقعد على رواحلي فألحق بمكة فإنهم لن يستحلوني وأنا فيها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يلحق2 رجل من قريش بمكة3عليه نصف عذاب العالم فلن أكون إياه4، وأما قولك الحق بالشام فهم أهل الشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وأما قولك: إن معي عدة فأخرج فأقاتلهم فإني على الحق وهم على الباطل فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بإهراق ملء5 محجم من دم بغير حق"6.
وروي أن ابن عمر دخل على عثمان - رضي الله عنه - وعرض عليه نصرته وذكر بيعته1، وكذلك أبو هريرة - رضي الله عنه - دخل وعرض عليه نصرته، وقال: اليوم طاب أمضرب2 فقال: أنتم في حل من بيعتي وإني لأرجوا أن ألقى الله سالما مظلوما3 وقال لعبيدة وكانوا أربعمائة عبد من أغمد سيفه فهو حر، بل4 منعهم من القتال فأغمدوا كلهم سيوفهم إلا العبد الأسود الذي قاتل حتى قتل معه، وقاتل معه الحسن بن علي حتى حمل من الدار مغلوبا من الجراحات5. وإنما فعل عثمان ذلك لما علم أنه مقتول فبذل دمه دون دماء الصحابة والمسلمين6. والدليل عليه ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعوا لي بعض أصحابي قلت: ادعو لك أبا بكر فسكت، قلت: أدعو لك فسكت قلت: أدعو لك ابن عمك عليا فسكت قلت: ادعو لك عثمان فقال: نعم، فجاء عثمان فقال لي: هكذا أي
تنحي عني، قال: فرأيته يقول لعثمان ولونه يتغير ووجهه، فلما كان يوم الدار قيل له: ألا تقاتل؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا وإني صابر نفسي"1. قال عبد الرحمن بن مهدي2: "لو لم يكن في عثمان إلا خصلتان لكفتاه جمعه المصحف وبذله دمه دون دماء المسلمين"3. وروي "أن عليا وطلحة والزبير وكثيرا من الصحابة - رضي الله عنهم - خاطبوا هؤلاء القوم وأغلظوا عليهم القول بسبب ما يريدونه، فلما أحسوا منهم نصرته وأنهم منكرون عليهم فعلهم أظهرت فرقة منهم موالاة علي ولزموا باب علي، وأظهرت فرقة منهم موالاة طلحة ولزموا بابه، وأظهرت فرقة منهم موالاة الزبير ولزموا بابه ومنعوهم من الخروج وقد برأهم الله منهم، وكان قتله بذي الحجة سنة خمسين وثلاثين من الهجرة، وله إحدى وثمانون سنة وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة ولم يستخلف أحدا ... "4.
126- فصل: في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ذلك أنه لم يكن أحد بعد عثمان - رضي الله عنه - أحق بالخلافةمن علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - لما جمع الله به من الفضائل وشرفه به من سني المنازل ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم وزوج فاطمة البتول وأبو الحسن والحسين ريحانتي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من السابقين ممن عظم بلاؤه وجهاده في سبيل الله، فختم الله به الخلافة كما ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم النبوة، قال صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة" 1. وتمام الثلاثين بخلافة علي - رضي الله عنه -. وأما بيان عقد إمامته فما روي: "أن عمثان - رضي الله عنه - لما قتل مظلوما ودخل علي - رضي الله عنه - داره وأغلق عليه بابه غضبا منه على ما فعل بعثمان فاستولى الغافقي ومن معه من قتلة عثمان وأهل الفتنة على المدينة وهم بالفتك بهم، وحلفوا للصحابة2. لإن لم يعقدوا الإمامة لرجل منهم ليعيدوها جَذّعَة3 فيهم، فأتى المصريون منهم إلى علي فعرضوها عليه فأبى، وأتى البصريون إلى طلحة فعرضوها عليه فأبى، ثم عرضوها على الزبير فأبي، وكل ذلك منهم إنكار وإعظام لما فعلوا بعثمان، فلما كان عشي يوم الثالث من قتل عثمان - رضي الله عنه - خاف أهل المدينة المهاجرون والأنصار من فتك أهل الفتنة4 بالمدينة، فاجتمعوا وأتوا إلى باب علي، فضربوا عليه
الباب واستأذنوا بالدخول عليه، فدخولوا وقالوا: إن عثمان قد قتل ولا بد للناس من خليفة، ولا نعلم أحدا أحق بها منك فامتنع عليهم وقال: كوني وزيرا خيرا من أمير، قالوا: لا والله ما نعلم أحدا أحق بها منك، قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سرا ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني، فخرج إلى المسجد، فبايعه خزيمة بن ثابت وأبو الهيثم النبهان ومحمد بن مسلمة وعمار ورجال يكثر عددهم وبايعه الناس1، فلما بايعوه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أما بعد: فإن الدنيا قد أدبرت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدا السباق، ألا وإنكم في أيام أمل ومن ورائها أجل، فمن قصر في أيام عمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله، ثم إن الله في سمائه وعرشه ليعلم أني كنت كارها للولاية على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأني سمعته يقول: "أيما وال ولي أمر أمتي بعدي أقيم على الصراط ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلا نجاه الله تعالى بعدله، وإن كان جائرا انتقض به الصراط انتقاضا يتزايل ما بين مفاصله حتى يكون بين كل عضو من أعضائه مسيرة مائة عام، ثم ينحرف به الصراط فأول ما يتقي به النار أنفه وحر وجهه"2 ولكن لما اجتمع رأيكم علي لم يسعني ترككم. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، ونزل"3 والدليل على علو منزلة علي عندي النبي صلى الله عليه وسلم ما روي أنه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر
قال: "لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" قال عمر: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ فتطاولت لها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا فدفع اللواء إليه، وقال: "اذهب فلا تلتفت حتى يفتح الله عليك فمشى هنيئة، ثم قام ولم يلتفت للعزمة فقال: علام أقاتل الناس؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "علي مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي"2. وروي عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه"3. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالا من ماله، رحمه الله عمر يقول الحق وإن كان4 مرا تركه الحق وماله من صديق، رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة, رحم الله عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار"5.
قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه ـ: "إن كنا لنعرف المنافقين نحن معاشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب".1 وقالت أم سلمة - رضي الله عنها ـ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول2: " لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن".3 وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربي أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم قيل يا رسول الله: منهم قال علي منهم، قالها ثلاثا وأبو ذر والمقداد وسلمان" 4. وروى أنس بن مالك قال: "كان عند النبي صلى الله عليه وسلم طير فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي - رضي الله عنه - فأكل
معه"1. وروي أن عمر - رضي الله عنه - قال: "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فجاء علي - رضي الله عنه - تدمع عيناه فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم توآخي بيني وبين أحد، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت أخي في الدنيا والآخرة"2. وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا دار الحكمة وعلي بابها"3. وروي عن سعيد بن أبي وقاص أنه قال: "ثلاث قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم
في علي لأن يكون لي واحدة منهن إلي من حمر النعم. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي وخلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي". وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فتطاولنا لها فقال: ادعوا عليا فأتي وبه رمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه، وأنزلت هذه الآية {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ... } 1. الآية، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم فقال: هؤلاء أهلي"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عليا ليقرأ براءة على المشركين بمكة وقال: "لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي" 3. وهذا كله يدل على أنه يصلح للخلافة. وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء بين أهل اليمن فقال رسول الله: "إنك بعثتني للقضاء إلى أقوام ذوي أسنان، وإني شاب لا أحسن القضاء وإني أخاف ألا أصيب، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: اللهم علمه القضاء، وقال له: إن الله سيثبت قلبك ويهديك، ثم قال له: إذا جلس الخصمان بين يديك فلا تقضين حتى تسمع كلام آخر منهما، قال علي: "فما شككت في قضاء بعده"4.
ولقد ظهر منه من الفقه في قتال أهل البغي وفي مناظرته لهم ما لم يسبقه إليه أحد، حتى قال الشافعي - رضي الله عنه -: لولا حرب علي لمن خالفه ما عرفت السنة في قتال أهل القبلة1. هذا مع ما2 فيه من الشجاعة وتدبير الحرب والجيوش على ما عرفه3 المخالف والمؤالف، حتى إنه بلغه عن بعض أهل زمانه أنه قال إن ابن أبي طالب رجل شجاع، لكن لا رأي له في الحرب فقال: "من ذا يكون أبصر بها مني وأشد لها مراسا، والله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا اليوم قد زدت على الستين ولكن لا إمرة لمن لا يطاع"4. احتجت الخوارج ومن يطعن في إمامة علي - رضي الله عنه - من أهل الزيغ بأن بيعته لم تقع عن إجماع من الصحابة، لأنه روي أن طلحة والزبير قعدا في بيوتهما عن بيعته، فأخرج أهل البصرة طلحة فجاؤا به وخلفه حكيم بن جبلة يحذوه بالسيف، وأحدق أهل الكوفة بالزبير واخرجوه من بيته وخلفه
مالك بن الأشتر يحدوه بالسيف، فقيل لهما: بايعا فبايعا مكرهين، ولهذا قال طلحة: بايعت واللّج يعني السيف1 على قفىّ"2 والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما أن نقول: هذه الرواية من الخوارج من قبيل الرواية التي يرويها الشيعة أن عليا وطلحة والزبير أكرهوا علي بيعة أبي بكر، وأن عمر أتى بعلي يقوده بحبل أسود في عنقه مما لا يثبته أهل النقل وأصحاب الحديث، وبمثل هذه الرواية الشاذة لا يحكم بتفسيق اصحابة مع صحة الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بتفضيلهم وشهادته لهم بأنهم من أهل الجنة. ويحمل قول طلحة واللج على قفىّ - يعني سيفه لنصرة علي - على لالج غيري3. والجواب الثاني أن نقول: قد ثبتت بيعة علي وإمامته بيعة الجمهور من الصحابة قبل ذلك، وانقادوا له وصارت له الشوكة بطاعتهم له، فلا يقدح بها تخلف الواحد والاثنين وإكرههما على بيعته إكراه على حق كالحربي إذا أكره على كلمة الإسلام.4 احتجوا بأن طلحة والزبير قال: "إنما بايعنا عليا على أن يقتل قتلة عثمان". وهذه مبايعة على شرط فإذا لم يوجد كانت باطلة ولهذا قال علي - رضي الله عنه -: "بايعاني في المدينة وخلعاني بالعراق".
والجواب: أنه لا يظن بعلي وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - عقد الإمامة على الحكم بمذهب بعينه كما لا يصح عقد القضاء على الحكم بمذهب بعينه، وقتل الجماعة بالواحد مسئلة فقهية مختلف فيها والاعتماد فيها هلى حكم الإمام أو الحاكم وعلى أن قتلة عثمان كانوا قوما متفرقين في العسكر غير معنيين لم تقم عليهم بينه، ولا ثبت إقرارهم ولا حضر أولياء دم عثمان فكيف يجوز عقد الإمامة على حكم مخالف للشريعة1، والله أعلم.
تم الكتاب بحمد الله ومنّه وحسن توفيقه وكان الفراغ منه في يوم الإثنين لثمان عشرة ليلة من شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعمائة غفر الله لكاتبه ولمالكه ولمقابله وللناظر إليه ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
ورد في آخر النسخة اليمانية - ح - ما نصه: وكان الفراغ من زبرة نهار الجمعة تاسع عشرة من شعبان الكريم الواقع في سنة ست بعد الألف، وذلك في كنف تربة المؤلف سيدي الشيخ الإمام العالم العامل والنور الكامل والضياء الشامل العارف بالله الولي الرباني من شيد للملة أركان المباني، عماد الدين يحيى بن أبي الخير العمراني مصنف هذا الكتاب المسمى بالانتصار، رحمه الله رحمة الأبرار ودمّث الله مسالكه، وجعل الفردوس فذالكه. غفر الله لكاتبه وأصلح أحواله، وجعل استقباله أحسن من ماضيه وحاله، رحم الله عبدا قال، آمينا. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد من للرسل ختم، وعلى آله وصحبه وسلم عدد كل حرف جرى به القلم، وما نسجت السحب بمعذوذق الديم ومن يجد عيبا سد الخللا ... فجل من لا عيب فيه وعلا
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... قائمة المراجع 1 - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية - تأليف الإمام أبي عبد الله بن بطة العبكري - تحقيق رضاء بن نعسان معطي - دار الراية للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى 1409هـ. 2 - الإبانة عن أصول الديانة - تأليف أبي الحسن الأشعري - تحقيق عبد القادر الأرناؤوط - مكتبة دار البيان - الطبعة الأولى 1401هـ. 3 - إبطال التأويلات لأخبار الصفات - تأليف القاضي أبي يعلى - مخطوط مصور في الجامعة الإسلامية المنورة. 4 - أبو الحسن الأشعري وعقيدته - تأليف الشيخ حماد بن محمد الأنصاري - الطبعة الثانية 1395هـ. 5 - إثبات صفة العلو - تأليف الإمام موفق الدين بن قدامة - تحقيق بدر بن عبد الله بن البدر - الدار السلفية - الطبعة الأولى 1406هـ. 6 - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية - تأليف الإمام ابن قيم الجوزية - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 7 - الأحكام السلطانية - تأليف أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي - راجعه محمد فهمي الشرجان - الناشر المكتبة التوفيقية. 8 - الإحكام في أصول الأحكام - تأليف سيف الدين علي بن محمد الآمدي - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - الطبعة الأولى 1401هـ. 9 - إحياء علوم الدين - تأليف أبي حامد الغزالي - مطبعة مصطفى البابي الحلبي - بمصر 1358هـ. 10 - أخبار البحتري - تأليف أبي بكر محمد الصولي - تحقيق د. صالح الأشتر - دار الفكر بدمشق - الطبعة الثانية 1384هـ. 11 - الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية - تأليف الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة - ضمن عقائد السلف. 12 - أديان الهند الكبرى - تأليف د. أحمد شلبي - الطبعة الثانية 1984م مكتبة النهضة المصرية. 13 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل - تأليف محمد ناصر الدين الألباني - بإشراف محمد زهير الشاويش - المكتب الإسلامي - الطبعة الثانية 1405هـ.
14 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد - تأليف إمام الحرمين أبي المعالي الجويني - تحقيق أسعد تميم - مؤسسة الكتب الثقافية - الطبعة الأولى 1405هـ. 15 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب بهامش الإصابة - تأليف الإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر - تحقيق طه محمد الزينى - الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - الطبعة الأولى. 16 - الإصابة في تمييز الصحابة - تأليف الحافظ ابن حجر - تحقيق طه محمد الزيني - الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - الطبعة الأولى. 17 - أصول الدين - تأليف أبي منصور عبد القاهر البغدادي - دار الكتب العلمية - بيروت لبنان - مصورة عن الطبعة الأولى في استنبول 1346هـ. 18 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - تأليف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية الرياض 1403هـ. 19 - الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد - تأليف الحافظ أبي بكر البيهقي - تعليق كمال يوسف الحوت - عالم الكتب. 20 - الإمامة والرد على الرافضة - تأليف الحافظ أبي بكر نعيم الأصبهاني تحقيق د. علي بن محمد ناصر الفقيهي - مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة - الطبعة الأولى 1407هـ. 21 - الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة - تأليف عبد الله بن عمر بن سليمان الدميحي - دار طيبة للنشر والتوزيع - الرياض - الطبعة الأولى 1407هـ. 22 - الأموال - للحافظ أبي عبيد القاسم بن سلام - تحقيق محمد خليل هراس - مكتبة الكليات الأزهرية 1395هـ. 23 - الأنساب - تأليف أبي سعيد عبد الكريم بن محمد التميمي السمعاني - اعتنى بنشره المستشرق د. س مرجليوت - أعادت طبعة بالوفست مكتبة المثنى ببغداد. 24- الإيمان - تأليف الحافظ أبي بكر بن أبي شيبة - تحقيق محمد ناصر الدين الألباني - نشر وتزيع دار الأرقم - الكويت. 25- الإيمان معالمه وسننه - تأليف الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام - تحقيق محمد ناصر الدين الألباني - نشر وتوزيع دار الأرقم - الكويت. 26- الإيمان - تأليف الحافظ محمد بن إسحاق بن منده - تحقيق د. علي بن محمد ناصر الفقيهي - مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة - الطبعة الأولى 1401هـ. 27 - الإيمان - تأليف الحافظ محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني - تحقيق حمد بن حمدي الجابري الحربي - الدار السلفية - الكويت - الطبعة الأولى 1407هـ.
28 - البداية والنهاية - تأليف المؤرخ الحافظ عماد الدين بن كثير - تحقيق محمد عبد العزيز النجار - دار الصمعي للنشر والتوزيع - الرياض - مطبعة السعادة. 29 - البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان - تأليف عباس بن منصور السكسكي الحنبلي - تحقيق خليل إبراهيم الحاج - دار التراث العربي للطباعة والنشر - الطبعة الأولى 1400هـ. 30 - بغية المستفيد في تاريخ مدينة زبيد - تأليف عبد الرحمن بن علي ابن الربُيَع - تحقيق عبد الله الحبشي مركز الدراسات اليمانية - صنعاء 31 - بيان تلبيس الجهمية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - تصحيح وتكميل محمد بن عبد الرحمن بن قاسم - الطبعة الأولى 1392هـ مطبعة الحكومة - مكتبة المكرمة. 32 - تاريخ الأمم والملوك - تأليف الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - دار سويدان - بيروت، لبنان. 33 - تاريخ بغداد - تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي - دار الكتب العلمية - بيروت العلمية. 34 - تاريخ الخلفاء - تأليف جلال الدين السيوطي - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. 35 - تاريخ الفرقد الزيدية بين القرنين الثاني والثالث الهجري - د. فضيلة بنت عبد الأمير الشامي - مطبعة الآداب - النجف 1394هـ. 36 - تاريخ المدينة المنورة - تأليف أبي زيد عمر بن شبه النميري - تحقيق عبد الله محمد الحبشي. 37 - تاريخ اليمين المسمى بهجة الزمن في تاريخ اليمن - تأليف تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني - تحقيق مصطفى حجازي - دار العودة - بيروت - دار الكلمة - صنعاء. 38 - تأويل مختلف الحديث - تأليف الإمام ابن قتيبة الدينوري - دار الكتاب العربي بيروت. 39 - التبصير في الدين - تأليف أبي المظفر الاسفرائيني - تحقيق كمال يوسف الحوت - عالم الكتب - الطبعة الأولى 1403هـ. 40 - التبيان في أقسان لاقرآن - تأليف الإمام ابن القيم - علق عليه محمد حامد الفقي - المكتبة التجارية -، مصر - الطبعة الأولى 1352هـ. 41 - تبيين كذب المفتري - تأليف الحافظ ابن عساكر الدمشقي - دار الفكر بدمشق - الطبعة الثانية 1399هـ. 42 - تحفة المريد على جوهرة التوحيد - تأليف إبراهيم البيجزري - مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح - القاهرة.
43 - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - تأليف جلال الدين عبد الرحمن السيوطي - حققه عبد الوهاب عبد اللطيف - دار الكتب الحديثة - الطبعة الثانية 1385هـ. 44 - تذكرة الحفاظ - تأليف الحافظ الذهبي - دار إحياء التراث العربي. 45 - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة - تأليف الحافظ أحمد بن علي بن حجر - الناشر دار الكتاب العربي - بيروت، لبنان. 46 - التعريفات - تأليف علي بن محمد الجرجاني - ضبط جماعة من العلماء - الناشر دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1403هـ. 47 - تعظيم قدر الصلاة - تأليف الإمام محمد بن نصر المروزي - حققه د. عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي - مكتبة الدار بالمدينة المنورة الطبعة الأولى 1406هـ. 48 - تفسير الجلالين - تألأيف جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلى بهامش تفسير البيضاوي - مطبعة مصطفى البابي الحلبي - الطبعة الثانية 1388هـ. 49 - تفسير الطبري - تأليف الإمام أبي جعفربن جرير الطبري - تحقيق أحمد محمد شاكر - دار المعارف - مصر. 50 - تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) . تأليف الحافظ أبي الفداء إسماعيل ابن كثير - طبع دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه. 51 - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) تأليف الإمام أبي عبد الله محمد القرطبي - تحقيق أبي إسحاق إبراهيم اصفيش. 52 - تقريب التهذيب - تأليف الحافظ ابن حجر العسقلاني - دار نشر الكتب الإسلامية - كوجرانواله - باكستان - الطبعة الأولى 1393هـ. 53 - تلبيس إبليس - تأليف الإمام أبي عبد الرحمن بن الجوزي - الناشر مكتبة المدني للطباعة والنشر. 54 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - تأليف أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري - طبع وزارة الأوقاف المغربية. 55 - تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل - تأليف القاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني - تحقيق عماد الدين أحمد حيدر - مؤؤسة الكتب الثقافية - الطبعة الأولى 1407هـ. 56 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع - تأليف أبي الحسين محمد بن أحمد الملطي الشافعي - قدم له محمد زاهد الكوثري - مكتبة المثنى ببغداد 1388هـ. 57 - تهافت الفلاسفة - تأليف أبي حامد الغزالي - تحقيق سليمان دنيا - دار المعارف - الطبعة السادسة.
58 - تهذيب التهذيب - تأليف الحافظ شهاب الدين بن حجر العسقلاني - مطبعة مجلس دائر المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن - الطبعة الأولى 1326هـ. 59 - تهذيب الأسماء واللغات - تأليف الإمام أبي زكريا النووي - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان. 60 - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد - تألأيف الشيخ سليمان ابن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - مكتبة الرياض الحديثة. 61 - توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس - تأليف الحافظ ابن حجر - تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي - دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى 1406هـ. 62 - التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل - تأليف الإمام أبي بكر بن خزيمة - دراسة وتحقيق د. عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان - دار الرشد - الرياض - الطبعة الأولى 1408هـ. 63 - تفسير ابن جرير (جامع البيان) تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري - مطبعة مصطفى البابي الحلبي - الطبعة الثالثة 1388هـ. 64 - جامع بين العلم وفضله - تأليف ابن عبد البر النمري - دار الكتب العلمية - بيروت لبنان. 65 - جامع العلوم والحكم - تأليف أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي - الناشر مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي الرابعة 1393هـ. 66 - الجرح والتعديل - تأليف شيخ الإسلام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم - الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية - بحدير آباد الدن - الهند. 67 - جلاء العينين في محاكمة الأحمدين - تأليف السيد نعمان خير الدين ابن الألوسي - مطبعة المدني - القاهرة. 68 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - تأليف ابن القيم - دار الكتب العلمية بيروت، لبنان. 69 - الحركات الباطنية في العالم الإسلامي - تأليف د. محمد أحمد الخطيب - الطابعون: - جمعية عمال المطابع التعاونية - الطبعة الأولى 1404هـ. 70 - حق اليقين في معرفة أصول الدين - تأليف عبد الله شبر - دار الأضواء - بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1404هـ 1983م. 71 - حلية الأولياء - تأليف الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان.
72 - الحيدة - تأليف عبد العزيز الكناني - من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 73 - الخطط للمقريزي (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) - تأليف تقي الدين أبي العباس المقريزي - دار صادر - بيروت. 74 - خلق أفعال العباد - تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - الناشر أبو خالد عبد الوكيل الهامشي - طبع النهضة الحديثة 1389هـ. 75 - خلق أفعال العباد - تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - ضمن عقائد السلف. 76 - درء تعارض العقل والنقل - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق د. محمد رشاد سالم - طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الطبعة الأولى 1401هـ. 77 - الدر المنثور في التفسير المأثور - تأليف جلال الدين السيوطي دار الفكر - بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1403هـ. 78 - دلائل النبة - تأليف الحافظ أبي نعيم الأصبهاني - خرج أحاديثه المعطى قلعجي - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الأولى 1405هـ. 79 - دلائل النبوة - تأليف أبي بكر البيهقي - تعليق د. عبد المعطي قلعجي - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الأولى 1405هـ 80 - ديوان الخطيئة، برواية وشرح ابن السكيت - تحقيق د. نعمان محمد أمين - مكتبة الخانجي - القاهرة - الطبعة الأولى 1407هـ. 81 - ديوان الخنساء - دار صادر - بيروت. 82 - ديوان العجاج - تحقيق د. عبد الحفيظ السطلي - توزيع مكتبة أطلس - دمشق. 83 - ديوان القطامي - تقديم ميسو برت - ليدن 1902م. 84 - ديوان النابغة الذبياني - شرح وتقديم عباس عبد الساتر - دار الكتب العلمية - بروت، لبنان. 85 - رد الدارمي علي بن بشر المريسي - تأليف الإمام عثمان بن سعيد الدارمي - علق عليه محمد حامد الفقي - دار الكتب العلمية - بيروت - عن الطبعة الأولى 1358هـ. 86 - الرد على الزنادقة والجهمية - تأليف الإمام أحمد بن حنبل - ضمن عقائد السلف - بعناية، علي سامي النشار ورفقه - الناشر منشأة المعارف بالاسكندرية. 87 - الرد على من أنكر الحرف والصوت - تأليف الإمام أبي نصر السجزي - تحقيق محمد كريم ابن عبد الله - رسالة ماجستير في الجماعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 88 - رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري - تأليف أبي القاسم عبد الملك بن درباس مع
كتابه الأربعين في التوحيد - تحقيق د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي - الطبعة الأولى 1404هـ. 89 - الرسالة التدمرية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - الكبعة الثالثة 1400هـ. 90 - الرسالة - تأليف الإمام محمد بن إدريس الشافعي - تحقيق أحمد محمد شاكر. 91 - الروح - تأليف الإمام ابن القيم - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان. 92 - روضة الناظر مع شرحها - موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي - المطبعة السلفية - الطبعة الرابعة 1391هـ. 93 - الرياض النضرة في مناقب العشرة - تأليف المحب الطبري - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الأولى 1405هـ. 94 - زاد المعاد في هدي خير العباد - تأليف الإمام ابن القيم - تحقيق شعيب الأرنوؤط وأخيه - مؤسسة الرسالة - الطبعة الثانية 1405هـ. 95 - الزهد - تأليف الإمام وكيع بن الجراح - تحقيق د. عبد الرحمن الفريوائي مكتبة الدار - الطبعة الأولى 1404هـ. 96 - الزيدية - د. أحمد محمود صبحي - الناشر - الزهراء للأعلام العربي الطبعة الثانية 1404هـ. 97 - سنن ابن ماجة - تأليف الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه - تحقيق وترقيم - محمد فؤاد عبد الباقي - دار الفكر للطباعة والنشر. 98 - سنن الدارقطني - تأليف الإمام علي بن عمر الدارقطني مع التعليق المغني - طبع مطبعة فالكن - لاهور بكستان. 99 - سنن الدارمي - تأليف الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - بعناية محمد أحمد دهمان - المطبعة الحديثة - دمشق عام 1349هـ. 100 - سنن الترمذي (الجامع الصحيح) تأليف الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة - تحقيق أحمد شاكر وجماعة - دار إحياء التراث العربي - بيروت. 101 - سنن النسائي مع شرح السيوطي وحاشية السندي - تألأيف الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد ابن شعيب النسائي - دار الفكر - بيروت 1398هـ. 102 - السنة - تأليف الإمام أبي عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل تحقيق د. محمد بن سعيد القحطاني دار ابن القيم الطبعة الأولى 1406هـ. 103 - السنة تأليف الحافظ ابن أبي عاصم النبيل - تحقيق محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - الطبعة الأولى 1400هـ.
104 - السنة - تأليف أبي بكر أحمد بن محمد الخلال - تحقيق د. عطية الزهراني - دار الراية للنشر الوتزيع - الرياض - الطبعة الأولى 1410هـ. 105 - سير أعلام النبلاء - تأليف سمش الدين محمد بن أحمد الذهبي - أشرف علي التحقيق شعيب الأرناؤوط - مؤسسة الرسالة - بيروت - الطبعة الأولى 1402هـ. 106 - السيرة النبوية تأليف أبي محمد عبد الملك بن هشام - تقديم طه عبد الرؤوف - مطبوعات مطبعة الحاج عبد السلام شقرون. 107 - سلسلة الأحاديث الصحيحة - تأليف محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي دمشق - بيروت - الطبعة الثانية 1399هـ. 108 - سلسلة الأحاديث الضعيفة - تأليف محمد ناصر الألباني - المكتب الإسلامي دمشق - بيروت - الطبعة الرابعة 1389هـ. 109 - الأسماء والصفات - تأليف الحافظ أبي بكر البيهقي - دار الكتب العلمية بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1405هـ. 110 - شرح أبيات مغني اللبيب - عبد القادر بن عمر البغدادي - تحقيق عبد العزيز رباح ورفيقه - دار المأمون للتراث - الطبعة الأولى 1398هـ. 111 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - تأليف الإمام أبي القاسم هبة الله اللالكائي - تحقيق د. أحمد سعد حمدان - الناشر دار طيبة للنشر والتوزيع - الرياض. 112 - شرح الأصول الخمسة - تأليف القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني تحقيق د. عبد الكريم عثمان - مكتبة وهبه - مصر - الطبعة الأولى 1384هـ. 113 - شرح ديوان جرير - محمد إسماعيل الصاوي - منشورات مكتبة الحياة بيروت، لبنان. 114 - شرح ديوان الفرزدق - جمع وتعليق عبد الله الصاوي - مطبعة الصاوي - الطبعة الأولى 1354هـ. 115 - شرح السنة - تأليف الإمام البغوي - تحقيق زهير الشاويش - توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية - الرياض - الطبعة الأولى 1400هـ. 116 - شرح العقيدة الأصفهانية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - دم له حسين محمد مخلوف - دار الكتب الإسلامية - القاهرة. 117 - شرح العقيدة الطحاوية - تحقيق جماعة من العلماء - خرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - الطبعة الرابعة 1391هـ. 118 - شرح القصائد العشر - تأليف أبي زكريا يحيى التبريزي - ضبطه وصحح عبد السلام الجوفي - توزيع دار الباز - مكة المكرمة - الطبعة الأولى 1405هـ.
119 - شرح القصيدة الميمية - تأليف الإمام ابن القيم - عرض وتحليل مصطفى عراقي - الناشر مكتبة ابن تيمية - القاهرة. 120 - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري - تأليف الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان - توزيع مكتبة الدار بالمدينة المنورة - الطبعة الأولى 1405هـ. 121 - شرح الكوكب المنير - تأليف أبي البقاء محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي - تحقيق محمد حامد فقي - مكتبة السنة المحمدية - الطبعة الأولى عام 1372هـ. 122 - شرف أصحاب الحديث - تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي - تحقيق د. محمد سعيد أوغلي - نشر دار إحياء السنة النبوية نشر كلية الألهيات - جامعة انفزة. 123 - الشريعة - تأليف الإمام أبي بكر محمد بن الحسن الآجري - تحقيق محمد حامد الفقي - الناشر حديث أكادمي باكستان - الطبعة الأولى 1403هـ. 124 - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - تأليف الإمام ابن القيم - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان 1389هـ. 125 - صحيح البخاري - تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - تحقيق وتعليق محمود النواوي ورفاقه - الناشر مكتبة النهضة الحديثة، مطبعة الفجالة الجديدة 1376هـ. 126 - صحيح مسلم - تأليف الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج - تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه. 127 - صحيح مسلم بشرح النووي - تأليف الإمام محي الدين أبو زكريا النووي دار إحياء التراث العربي - بيروت. 128 - الصفات - تأليف الإمام الحافظ الدارقطني - تحقيق د. علي بن محمد الفقيهي - الطبعة الأولى 1403هـ. 129 - الصفات الإلهية في الكتاب والسنة - د. محمد أمان بن علي الجامي - مطبعة الجامعة الإسلامية - المجلس العلمي - الطبعة الأولى 1408هـ. 130 - صفة النفاق وذم المنافقين - تأليف أبي بكر الفريابي - تحقيق محمد عبد القادر عطا - دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى 1405هـ. 131 - الصلة بين الزيدية والمعتزلة - تأليف د. أحمد عبد الله عارف - تقديم د. محمد عمارة - المكتبة اليمنية - صنعاء - الطبعة الأولى ذ407هـ. 132 - الصواعق المرسلة - تأليف الإمام ابن القيم - تحقيق د. علي بن محمد الدخيل الله - دار العاصمة - الرياض - النشرة الأولى 1408هـ.
133 - ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري. 134 - طبقات الشافعية الكبرى - تأليف تاج الدين عبد الوهاب بن علي السكبي - تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو ورفيقه - الطبعة الأولى 1385هـ - بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. 135 - طبقات الشافعية - تأليف أبي بكر أحمد بن محمد ابن قاضي شهبة علق عليهد. الحافظ عبد العليم خان - مكتبة العلم - مكة المكرمة - الطبعة الأولى - مطبعة مجلس دائرة المعارف - الهند. 136 - طبقات فقهاء اليمن - تأليف عمر بن علي بن سمرة الجعدي - تحقيق فؤاد سيد - دار القلم - بيروت، لبنان. 137 - الطبقات الكبرى - تأليف محمد بن سعد بمن منيع - دار صادر - بيروت. 138 - طريق الهجرتين وباب السعاتين - تأليف الإمام ابن القيم - مراجعة السيد محب الدين الخطيب - المطبعة السلفية - القاهرة - الطبعة الثالثة 1400هـ. 139 - عالم الجن والشياطين - تأليف عمر سليمان الأشقر - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الثانية 1405هـ. 140 - العبر في خبر من غبر - تأليف الحافظ الذهبي - تحقيق وضبط أبو هاجر محمد بسيوني - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1405هـ. 141 - عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن - تأليف حمود بن عبد الله التويجري - دار اللواء للنشر والتوزيع - الرياض. 142 - عقيدة الدروز - تأليف محمد أحمد الخطيب - الطابعون - جمعية عمال المطابع التعاونية - الطبعة الأولى 1400هـ. 143 - العقيدة النظامية - تأليف أبي المعالي عبد الملك الجويني - تقديم وتحقيق د. أحمد حجازي السقا - الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة 1399هـ. 144 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية - تأليف الإمام أبي الفرج بن الجوزي - تحقيق إرشاد الحق الأثري - الناشر إدارة العلوم الأثرية فيصل أباد - الباكستان الثانية 1401هـ. 145 - العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ - تأليف صالح بن محمد المقلبي - دار الحديث للطباعة والنشر - بيروت - الطبعة الثانية 1405هـ. 146 - العلو للعلي الغفار - تأليف الحافظ الذهبي - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 147 - العنوان في القراءات السبع - تأليف أبي طاهر إسماعيل بن خلف الأنصاري - تحقيق د. زهير زاهد ورفيقه - عالم الكتب - الطبعة الثانية 1406هـ.
148 - غاية المرام في علم الكلام - تأليف سيف الدين الآمدي - تحقيق حسن محمود عبد اللطيف - مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في مصر. 149- غربال الزمان في وفيات الأعيان - تأليف يحيى بن أبي بكر العامري الحرضي اليماني - تصحيح وتعليق محمد ناجي زعبي العمر - دار الخير للنشر والتوزيع - دمشق 1405هـ. 150- غريب الحديث - تأليف أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي - مصور عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن 1396هـ. 151- غياث الأمم في التياث الظلم - تأليف إمام الحرمين أبي المعالي الجويني - تحقيق مصطفى حلمي ورفيقه - دار الدعوة للطبع والنشر الاسكندرية - أول مطبعة. 152- الفرق بين الفرق - تأليف عبد القاهر بن طاهر الإسفرائيني - تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان. 153- فرق الشيعة - تأليف الحسن بن موسى النوبختي - منشورات دار الأضواء بيروت - لبنان - الطبعة الثانية 1404هت. 154- فرق وطبقات المعتزلة - تحقيق د. علي سامي النشار - الأستاذ عصام الدين محمد علي - دار المطبوعات الجامعية 1972 م. 155- فردوس الأخبار- تأليف الحافظ شيرويه بن شهر دار الديلمي - قدم له فواز أحمد الزولي ورفيقه - الناشر دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الأولى 1407هـ. 156- فتح الباري شرح صحيح البخاري - تأليف الحافظ ابن حجر - تصحيح وتعليق الشيخ عبد العزيز بن باز - نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية بالمملكة العربية السعودية. 157- فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد - تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة - الطبعة السابعة 1399هـ. 158- فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدارسة - تأليف محمد بن علي الشوكاني - مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - الطبعة الثانية 1383هـ 159- الفتوى الحموية الكبرى - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - نشر قصي محيي الدين الخطيب - المطبعة السلفية - القاهرة - الطبعة الرابعة 1401هـ. 160 الفصل في الملل والأهواء والنحل - تأليف أبي محمد علي بن حزم الناشر مكتبة الخانجي بمصر. 161 فضائل الصحابة - تأليف الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل - تحقيق وصي الله بن محمد عباس مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى - 1403هـ.
162 الفقه الأكبر - تأليف الإمام أبي حنيفة النعمان مع شرحه لملا علي القاري - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان 1399هـ. 163 الفهرست لابن النديم - توزيع دار الباز للنشر والتوزيع - مكة المكرمة الناشر - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان. 164 فيض القدير شرح الجامع الصغير - تأليف المحدث عبد الرؤوف المناوي دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت لبنان - الطبعة الثانية 1391هـ. 165- القاموس المحيط - تأليف مجد الدين الفيروز آبادي - مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية 1408هـ. 166- قواعد القاعدة - تأليف أبي حامد الغزالي - تحقيق موسى محمد علي - عالم الكتب - الطبعة الثانية 1405هـ. 167- الكامل في التاريخ - تأليف أبي الحسن علي بن الأثير - الناشر دار الكتاب العربي بيروت، لبنان. 168- الكامل في ضعفاء الرجال - تأليف الحافظ أبي أحمد بن عدي - دار الفكر للطباعة والنشر - بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1404هـ. 169- الكشاف - تأليف أبي القاسم جار الله محمود الزمخشري - دار المعرفة بيروت، لبنان. 170- كشف الأستار عن زوائد البزار - تأليف الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي - تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي - مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى 1405هـ. 171- الكفاية غب علم الرواية - تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي - تقديم محمد الحافظ التيجاني - طبع ونشر - دار الكتب الحديثة بالقاهرة - الطبعة الثانية. 172- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال - تأليف علي المتقي بن حسام الدين الهندي - ضبطه الشيخ بكري حيان - مؤسسة الرسالة - بيروت لبنان 1399هـ. 173- لباب الآداب - تأليف الأمير أسامة بن منفذ - تحقيق أحمد شاكر - دار الكتب السلفية - القاهرة 1407هـ. 174- لسان العرب - تأليف أبي منظور - دار المعارف. 175- لسان الميزان - تأليف الحافظ ابن حجر - دار الفكر للطباعة والنشر. 176- اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية - تأليف محمد بن إسماعيل الكبسي الصنعاني - بعناية عبد الله بن محمد الكبسي - مطبعة السعادة. 177- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع - تأليف أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري - نشر وتشارد يوسف مكارتي - المطبعة الكاثوليكية - بيروت 1952م.
178- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية - تأليف الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي - مطبعة المدني بمصر - القاهرة. 179- المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين - تأليف الحافظ محمد ابن حبان بن أحمد أبي حاتم البستي - تحقيق محمود إبراهيم زايد الناشر - دار الوعي - حلب، سوريا - الطبعة الثانية 1402هـ. 180- مجمع المثال - تأليف أبي الفضل أحمد بن محمد الميداني - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - طبع عيسى البابي الحلبي وشركاه. 181- مجمع الزوائد - تأليف الحافظ نور الدين الهيثمي - الناشر - دار الكتاب العربي - بيروت، لبنان - الطبعة الثالثة 1402هـ. 182- مجموع الفتاوى - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - طبعة الرئاسة العامة للأفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية - صورة عن الطبعة الأولى 1398هـ. 183- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي - تأليف الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي - تحقيق محمد عجاج الخطيب - دار الفكر للطباعة والنشر الطبعة الثالثة 1404هـ. 184- محمد بن عثمان بن أبي شيبة وكتابه العرش - دراسة وتحقيق د. محمد بن خليفة التميمي - رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 185- مختار الصحاح - تأليف زين الدين محمد الرازي - ترتيب محمود خاطر ورفيقة - دار البصائر - مؤسسة الرسالة 1405هـ. 186 - مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري - تحقيق أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي - توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية - الناشر دار المعرفة - بيروت، لبنان. 187- مختصر الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة- تأليف الإمام ابن القيم - دار الفكر. 188- مختصر العلو للعلي الغفار - اختصار محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - الطبعة الأولى 1401هـ. 189- مختصر المعتمد في أصول الدين - تأليف أبي يعلى الحنبلي - دار المشرق - بيروت - تحقيق وديع زيدان حداد. 190- المدارس الإسلامية في اليمن - تأليف إسماعيل بن علي الأكوع - منشورات جامعة صنعاء 1400هـ.
191- مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر - تأليف الشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي - المكتبة السلفية - المدينة المنورة. 192- المؤتلف والمختلف - أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي - تعليق د./ف. كرنكو - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الثانية 1402هـ. 193- مسائل الإيمان - تأليف القاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي - تحقيق سعود بن عبد العزيز الخلف - دار العاصمة - الرياض - النشرة الأولى 1410هـ. 194- المساعد على تسهيل الفوائد - تأليف الحافظ بهاء الدين بن عقيل - تحقيق د. محمد كامل بركات - مركز البحث العلمي في كلية الشريعة بمكة المكرمة مطبعة دار الفكر بدمشق 1400هـ. 195- المستدرك على الصحيحين - تأليف الحافظ أبي عبد الله الحاكم - بأشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي - دار المعرفة - بيروت، لبنان. 196- مستدرك على نهج البالغة - تأليف الهادي الكاشف الغطا - منشورات مكتبة الأندلس - بيروت، لبنان. 197- المستصفى من علم الأصول - تأليف أبي حامد محمد بن محمد الغزالي - الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان - المطبعة الأميرية ببولاق - مصر 1324هـ الطبعة الأولى. 198- مسند الإمام أحمد بن حنبل - تأليف الإمام أحمد بن حنبل - دار صادر بيروت، لبنان. 199- مسند الشهاب - تأليف القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي - تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي - مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى 1405هـ. 200- مصادر الفكر الإسلامي في اليمن - تأليف عبد الله محمد الحبشي المكتبة المصرية - صيداً بيروت 1408هـ. 201- مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم - تأليف أحمد بن الحسن الرصاص - أعده للطبع محمد عبد السلام كفافي - طبع دار الأحد - بيروت 1971م. المصنف - تأليف الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني - تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي - توزيع المكتب الإسلامي - الطبعة الثانية 1403هـ. 202- المصنف في الأحاديث والآثار - تأليف الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة - بتحقيق مختار أحمد الندوي - الدار السلفية - محمد علي بلديج - بومباي الهند - الطبعة الأولى 1401هـ.
203- معارج القبول - تأليف حافظ بن أحمد الحكمي - أشرف على طبعه أحمد بن حافظ الحكمي - المكتبة السلفية القاهرة - الطبعة الثالثة 1404هـ. 204- معالم السنن بهامش مختصر سنن أبي داود - تأليف أبي سليمان الخطابي تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي - توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية - الرياض - الناشر دار المعرفة - بيروت، لبنان. 205- معاني القرآن - تأليف أبي زكريا يحيى بن زياد الفراء - عالم الكتب بيروت، لبنان - الطبعة الثالثة 1403هـ. 206- معتزلة اليمن دولة الهادي وفكره - تأليف علي محمد زيد - دار الكلمة صنعاء - الطبعة الثانية 1406هـ. 207- المعتمد في أصول الفقه - تأليف أبي الحسين البصري المعتزلي - تهذيب وتحقيق محمد حميد الله ورفيقه - نشر المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق 1384هـ. 208- معجم البلدان - تأليف شهاب الدين أبي عبد الله باقوت الحموي - دار صادر للطباعة والنشر - بيروت 1404هـ. 209- المعجم الصغير - تأليف الحافظ ابن القاسم سليمان الطبراني - صححه عبد الرحمن محمد عثمان - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 2110- المعجم الكبير - تأليف الحافظ أبي القاسم سليمان الطبراني - تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي - الطبعة الثانية 1405هـ. 211- معجم المدن والقبائل اليمنية - إعداد إبراهيم أحمد المقحفي - منشورات دار الكلمة - صنعاء 1985م. 212- المعجم الوسيط. جمع اللغة العربية - المكتبة الإسلامية - استانبول - تركيا. 213- المغني في أبواب التوحيد والعدل - القاضي أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد الهمداني - تحقيق مصطفى السقا ورفاقه - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر 1385هـ. 214- مفتاح دار السعادة - تأليف الإمام ابن القيم - دار الكتب العلمية - بيروت لبنان. 215- المفردات في غريب القرآن - تأليف أبي القاسم الحسين بن محمد الراغب - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان. 216- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة - تأليف الحافظ السخاوي دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان تعليق عبد الله محمد الصديق ورفيقه - الطبعة الأولى 1399هـ. 217- مقالات الإسلاميين - تأليف الشيخ أبي الحسن الأشعري - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - مكتبة النهضة المصرية - الطبعة الثانية 1389هـ.
218- الملل والنحل - تأليف أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني - تحقيق محمد سيد كيلاني - شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي 1396هـ. 219- الملل والنحل - تأليف أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني بهامش الفصل. 220- مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - تأليف أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي - تحقيق د. زينب إبراهيم القاروط - دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الثالثة 1407هـ. 221- المنتظم في تاريخ الأمم والمملوك - تأليف ابن الجوزي - مطبعة دائرة المعارف العثمانية - الهند - الطبعة الأولى 1359هـ. 222- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق د. محمد رشاد سالم - منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1406هـ. 223- منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير - تأليف فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي - مؤسسة الرسالة - الطبعة الثانية 1403هـ. 224- موارد الظمآن إلى زوائد بن حبان - تأليف الحافظ نور الدين الهيثمي تحقيق ونشر - محمد عبد الرزاق حمزة - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان. 225- المواقف في علم الكلام - القاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي - عالم الكتب - بيروت. 226- الموسوعة العربية الميسرة - بإشراف محمد شفيق غرباب - دار الشعب ومؤسسة فرانكلين للطباعة صورة عن طبعة 1965م. 227- الموضوعات - تأليف أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي - تقديم عبد الرحمن محمد عثمان - الناشر المكتبة السلفية - المدينة المنورة. 228- ميزان الاعتدال في نقد الرجال - تأليف أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي - تحقيق علي ابن محمد البجاوي - دار المعرفة - بيروت، لبنان. 229- نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر وجنة المناظر - تأليف الشيخ عبد القادر بن أحمد ابن بدران - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان. 230- نصب الراية لأحاديث الهداية - تأليف العلامة جمال الدين أبي محمد الزيلعي - الناشر المكتبة الإسلامية - الطبعة الثانية 1393هـ. 231- نصرة مذاهب الزيدية - تأليف الصاحب بن عباد - تحقيق د. ناجي حسن. 232- النهاية في غريب الحديث والأثر - تأليف مجد الدين أبي السعادات المبارك الجزري ابن الأثير - الناشر المكتبة الإسلامية.
233- النهاية في الفتن والملاحم - تأليف الحافظ عماد الدين بن كثير تصحيح وتعليق الشيخ إسماعيل الأنصاري - مطابع مؤسسة النور الرياض - الطبعة الأولى 1388هـ. 234- نهج البلاغة - مختارات الشريف الرضى، مع الشرح للشيخ محمد عبده - دار الكتاب العربي - سورية. 235- الوافي بالوفيات - صلاح الدين الصفدي - الناشر فرانز شتاير - الطبعة الثانية 1394هـ. 236- الوصول إلى الأصول - تأليف أحمد بن علي بن برهان البغدادي تحقيق د. عبد الحميد علي أبو زنيد - مكتبة المعارف - الرياض - الطبعة الأولى 1404هـ. 237- الوفاء في أحوال المصطفى - تأليف الإمام أبي الفرج بن الجوزي علق عليه محمد زهري النجار - المؤسسة السعيدية - الرياض. 238- يقظة أولى الاعتبار - تأليف صديق حسن خان - تحقيق أحمد حجازي السقا - الناشر دار التراث الإسلامي - الأزهر.