الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء

أبو الربيع الكلاعي

[المقدمة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ترجمة المصنف «1» هو أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم بن حسان بن سليمان بن أحمد بن عبد السلام الحميري الكلاعي البلنسي الأندلسي المالكي المعروف بابن سالم. ولد سنة خمس وستين وخمسمائة (565 هـ) ، ونشأ ببلنسية، وتلقى العلوم في رحلته إلى إشبيلية وشاطبة وغرناطة والإسكندرية. توفي شهيدا سنة أربع وثلاثين وستمائة للهجرة (634 هـ) في موقعة أنيشة حاملا اللواء بنفسه. من مؤلفاته: 1- أحاديث مصافحة أبي بكر ابن العربي الإمامين. 2- أحاديث مصافحة أبي علي الإمامين. 3- أربعون السباعية من الحديث. 4- الأربعون حديثا عن أربعين شيخا لأربعين من الصحابة في أربعين معنى. 5- الإعلام بأخبار البخاري الإمام ومن بلغت روايته عنه من الأغفال والأعلام.

_ (1) انظر ترجمته في تاريخ الإسلام للذهبي (وفيات سنة 634) ، وتذكرة الحفاظ (4/ 1417) ، وسير أعلام النبلاء (23/ 134) ، والعبر للذهبي (5/ 137) ، والوافي (15/ 432) ، ومرآة الجنان (5/ 85) ، وشذرات الذهب (5/ 164) ، وهدية العارفين (1/ 399) .

6- الاكتفاء؛ وهو الكتاب الذي بين أيدينا. 7- الامتثال لمثال المبهج في ابتداع الحكم واختراع الأمثال. 8- برنامج مروياته. 9- تحفة الرواد في العوالي البلدية الإسناد. 10- جنى الرطب في سني الخطب. 11- جهد النصيح في معارضة المعري في خطبة الفصيح. 12- حلية الأمالي في الواقعات والعوالي. 13- ديوان الرسائل. 14- ديوان شعره. 15- الصحف المبشرة في القطع المعشرة. 16- مجازفة اللحن للاحن الممتحن. 17- المسلسلات والإنشادات. 18- مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام. 19- المعجم فيمن وافقت كنيته زوجته. 20- مفاوضة القلب والعليل في منابذة الأمل الطويل بطريقة المعري وملقى السبيل. 21- ميدان السابقين وحلبة الصادقين المصدقين. 22- نتيجة الحب الصميم وزكاة النثير والنظيم. 23- نكتة الأمثال ونفثة السحر الحلال. بنى فيه الكلام على التوشيح بما تضمنه كتاب أبي عبيد من أمثال العرب واضطرار الكلام إليها.

عملنا في التحقيق 1- قمنا بنسخ المخطوط من النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية بمكتبة طلعت تحت رقم 2074، وهي نسخة جيدة كتبت بخط مشرقي دقيق، ثم قمنا بضبطها بالاستعانة بالنسخة المطبوعة بالقاهرة. 2- قمنا بتخريج آيات القرآن الكريم وإثبات التخريج عقب الآية بين معقوفتين. 3- قمنا بتخريج الأحاديث المذكورة بالكتاب. 4- ترجمنا لبعض الأعلام وإن كان قليلا. 5- قمنا بالتعليق على بعض المواضع بالكتاب، وشرح بعض الألفاظ الغريبة. 6- قمنا بتخريج بعض الأبيات الشعرية. 7- قمنا بعمل عجالة للتعريف بالمؤلف. والله سبحانه المسؤول أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به، إنه بعباده رؤوف رحيم.

المقدمة

الجزء الأول صورة الصفحة الأولى من الخطوط

صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط

الجزء الثاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مقدمة المصنف قال الشيخ الفقيه الخطيب المحدث الثبت الشهيد أبو الربيع، سليمان بن موسى بن سالم، الكلاعى، البلنسى، كرم الله مثواه، وجعل الجنة مستقره ومأواه: الحمد لله الذى منّ علينا بالإسلام، وأكرمنا بنبيه محمد عليه أفضل الصلوات والسلام، وجعل آثاره الكريمة ضالتنا المنشودة، والاقتداء بهديه الأهدى، ونوره الأوضح الأبدى غايتنا المقصودة وأمنيتنا المودودة، وأنعم على قلوبنا بالارتياح والاهتزاز عند سماع مصدره أو إليه منتماه. وإنه لأثر رجاء فى هذه القلوب البطالة وأثاره خير يرجى، أن يذودها عن مشارع الجهالة ومنازع الضلالة، فإن الارتياح للذكر شهادة الحب وأمارة المحب. وقد روى عنه صلوات الله عليه نقلة السنة أن من أحبه كان معه فى الجنة. فنسأل الله أن يكتبنا فى محبيه حقيقة، ويسلك بنا من الوقوف عند مقتضيات أوامره ونواهيه طريقة بالسعادة خليفة. فما نزال طالبين ذلك من أكرم مطلوب لديه، راغبين فيه إلى خير مرغوب إليه. وإن لم نكن أهلا للإسعاف بتقصيرنا فى الأعمال، فإنه جل جلاله أهل الجود والإفضال. ونصلى قبل وبعد على هذا النبى المبارك الكريم، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتخبين، خير صحب وخير آل. وهذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع، وإمتاع النفوس والأسماع، باتساق الخبر عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر نسبه ومولده وصفته ومبعثه، وكثير من خصائصه، وأعلام نبوته ومغازيه، وأيامه من لدن مولده إلى أن استأثر به وقبض روحه الطيبة إليه، صلوات الله وبركاته عليه. مقدما لذلك ما يجب تقديمه، ومتمما من ذكر أوليته المباركة بلدا ومحتدا، بما يحسن علمه وتعليمه، ملخصا جميعه من كتب أئمة هذا الشأن الذين صرفوا إليه اعتناءهم،

ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وما كان من خبر دحية معه

واستنفذوا فى آناءهم، ككتاب محمد بن إسحاق، الذى تولى عبد الملك بن هشام تهذيبه واختصاره، وكتاب موسى بن عقبة، الذى استحسن الأئمة اقتصاده واقتصاره، وغيرهما من المجموعات التى لا يديم الإنصاف قصد جماعها ولا يذم الاختبار اختياره. ولكنه عظم المعول بحكم الخاطر الأول على كتاب ابن إسحاق، إياه أردت وتجريده من اللغات وكثير من الأنساب والأشعار قصدت، وعلى ترتيبه غالبا جريت، ومنزعه فى أكثر ما يخص المغازى تحريت. فإنه الذى شرب ماء هذا الشأن فأنقع، ووقع كتابه من نفوس الخاص والعام أجل موقع. إلا أنه يتخلله، كما أشرنا إليه قبل، أشياء من غير المغازى تقدح عند الجمهور فى إمتاعه، وتقطع بالخواطر المستجمعة لسماعه. وإن كانت تلك القواطع عريقة فى نسب العلم، وحقيقة بالتقييد والنظم. فسعى أن يكون لها مكان هو بإيرادها أخص، إذ لكل مقام لا يحسن فى غيره الإيراد له والنص. ولذلك نويت فيه أن أحذف ما تخلله من مشبع الأنساب التى ليس احتياج كل الناس إليها بالضرورى الحثيث، ونفيس اللغات المعوق اعتراضها اتصال الأحاديث، حتى لا يبقى إلا الأخبار المجردة، وخلاصة المغازى التى هى فى هذا المجموع المقصودة المعتمدة. ظنا منى أنه إذا أذن الله فى تمامه، وتكفل تعالى بتيسير محاولته وفق المأمول وتقريب مرامه، استأنفت النفوس له قبولا وعليه إقبالا، ولم يزده هذا النقص لدى جمهورهم إلا كمالا. ثم بدا لى أن أزيد على هذا المقدار ما يحسن فى هذا المضمار، وأعوض مما حذفت منه من اللغات والأنساب والأشعار، بما يكون له إن شاء الله مزية الاختيار، ويروق عليه رونق الإيثار، منتقيا ذلك من الدواوين التى طار بها فى الناس طائر الاشتهار، ومتخيرا له من الأماكن التى لا يستقل بحصر فوائدها وانتقاء فرائدها كل مختار. ككتاب ابن عقبة، وقد سميته، فإنه وإن اختصره جدا فقد أحسن العبارة، وأتى مواضع من المغازى حذاها بسطه وحماها اختصاره. وسأضع على كثير منها ميسمه وأرسمها فى هذا المختصر على نحو ما رسمه.

وقد وقفت على كتاب محمد بن عمر الواقدى فى المغازى، ولم يحضرنى الآن، لكنى رأيته كثيرا ما يجرى مع ابن إسحاق، فاستغنيت عنه به لفضل فصاحة ابن إسحاق فى الإيراد، وحسن بيانه الذى لا يفقد معه استحسان الحديث المعاد. وللواقدى أيضا كتاب المبعث، وهو مشبع فى بابه، ممتع باستيفائه واستيعابه، قد نقلت هنا منه جملا، تناسب الغرض المسطور، وتصد المعترض أن يجور. وكذلك كتاب الزبير بن أبى بكر القاضى رحمه الله فى أنساب قريش، وهو كما سمعت شيخنا الخطيب أبا القاسم ابن حبيش رحمه الله يحكى عن شيخه أبى الحسن ابن مغيث أنه كان يقول فيه: هو كتاب عجب لا كتاب نسب. التقطت أيضا من درره نفائس معجبة، وتخيرت من فوائده نخبا لمتخيرها موجبة. ومثله التاريخ الكبير لأبى بكر ابن أبى خيثمة، وناهيك به من بحر لا تكدره الدلاء، وغمر لا ينفذه الأخذ الدراك ولا يستنزفه الورد الولاء. وكم شىء أستحسنه من غير هذه الكتب المسماة فأنظمه فى هذا النظام، وأضطر إلى الإفادة به مساق الكلام. إما متمما لحديث سابق، وإما مفيدا بغرض لما تقدمه مطابق. فإن لم يكن بينهم فى الأحاديث اختلاف يشعر بنقض، فكثيرا ما أدخل حديث بعضهم فى حديث بعض، ليكون المساق أبين والاتساق أحسن. وإن عرض عارض خلاف فالفصل حينئذ أرفع للإشكال وأدفع للمقال. وربما فصلت بين بعض أحاديثهم وإن اشتبهت معانيها، بحسب ما تدعو إليه ضرورة الموضع، أو تحمل على إعادته حلاوة الموقع. وكل ذلك يشهد الله أن المراد فيه بالقصد الأول وجهه الكريم، وإحسانه العميم، ورحمته التى منها شق لنفسه أنه الرحمن الرحيم. ثم القصد الثانى متوفر على إيثار الرغبة فى إيناس الناس بأخبار نبيهم صلى الله عليه وسلم، وعمارة خواطرهم بما يكون لهم فى العاجل والآجل أنفع وأسلم. وقد عم عليه الصلاة والسلام ببركة دعائه سامع حديثه ومبلغه، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أفاد المسلم أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه» . ولا أحسن بعد كتاب الله الذى هو أحسن القصص وأصدق القصص، وأفضل

الحصص، وأجلى الأشياء للغصص من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم التى بالوقوف عليها توجد حلاوة الإسلام، ويعرف كيف تمهدت السبل إلى دار السلام. فإنه لا يخلو الحاضرون لهذا الكتاب من أن يسمعوا ما صنع الله لرسوله فى أعداء تنزيله، فيستجزلوا ثواب الفرح بنصر الله، أو يستمعوا ما امتحنه الله به من المحن التى لا يطيق احتمالها إلا نفوس أنبياء الله بتأييد الله، فيعتبروا بعظيم ما لقيه من شدائد الخطوب، ويصطبروا لعوارض الكروب، تأدبا بآدابه، وجريا فى الصبر على ما يصيبهم والاحتساب لما ينوبهم على طريقة صبره واحتسابه. وتلك غايات لن نبلغ عفوها بجهدنا، ولن نصل أدانيها بنهاية ركضنا وشدنا، وإنما علينا بذل الجهد فى قصد الاهتداء، وعلى الله سبحانه المعونة فى الغاية والابتداء. وإذا استوفيت بفضل الله طلق هذا المعنى كما نويت، وبلغت حاجة نفسى منه وقضيت، فلى نية، إن ساعدت المشيئة عليها، فى أن أصل هذا الغرض المتقدم، من ذكر مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذكر مغازى الخلفاء الثلاثة الأول، رضى الله عنهم، منتحلا على رجاء معونة الله أسبابها، ومنتخلا من كتاب شيخنا الخطيب أبى القاسم، رحمه الله، ومن غيره مما هو فى نحو معناه، صفوها ولبابها، لتنتظم الفائدتان معا، ويكون الخبر عن مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازى خلفائه، الذين بهديهم الائتمام، فى مكان واحد مجتمعا. وأرجو بحول الله الذى له الطول وبيده القوة والحول، أن يكون هذا المجموع كافيا فى البابين، وافيا بالغرضين المنتابين، ولذلك ترجمته بكتاب: الاكتفاء بما تضمنه من مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازى الخلفاء. وفضله جل جلاله نعم الكفيل أن يجزى به خير الجزاء، ويجعله من عددنا النافعة يوم اللقاء، فهو عز وجهه الملجأ والمعول، وبه أستعين وعليه أتوكل، لا إله إلا هو سبحانه، هو حسبى وإليه أنيب.

ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما وكيف طهره الله نفسا وخيما وشرفه حديثا وقديما وألقى إلى آبائه الأقدمين من الدلائل على اصطفائه إياه فى الآخرين وابتعاثه له رحمة للعالمين ما صيره لديهم قبل وجوده بطوائل السنين معلوما

ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما وكيف طهره الله نفسا وخيما وشرفه حديثا وقديما وألقى إلى آبائه الأقدمين من الدلائل على اصطفائه إياه فى الآخرين وابتعاثه له رحمة للعالمين ما صيره لديهم قبل وجوده بطوائل السنين معلوما فى الصحيح من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة، واصطفى من بنى كنانة قريشا، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم» «1» . وفى حديث عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يزل الله عز وجل ينقلنى من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، صفيا مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت فى خيرهما» «2» . وخرج أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذى، من حديث المطلب بن أبى وداعة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال: «من أنا» ؟ فقالوا: «أنت رسول الله عليك السلام» قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلنى فى خيرهم فرقة، ثم جعلهم فرقتين، فجعلنى فى خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلنى فى خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلنى فى خيرهم بيتا، وخيرهم نفسا» . وفى رواية: «فأنا خيرهم نفسا، من خيرهم بيتا» «3» .

_ (1) أخرجه الترمذى (3605) ، الإمام أحمد فى المسند (4/ 107) ، الألبانى فى السلسلة الضعيفة (163) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (9/ 89) ، السيوطى فى الدر المنثور (3/ 294، 4/ 274) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (11/ 478) . (2) أخرجه السيوطى فى الدر المنثور (3/ 294، 5/ 98) . (3) أخرجه الترمذى (1/ 76) باب ما جاء فى فضل النبى، البيهقى فى السنن الكبرى (7/ 387، 388، 10/ 57) ، الحاكم فى المستدرك (2/ 64، 3/ 258) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (11/ 20) ، الطبرانى فى الكبير (7/ 383، 17/ 136) ، الهيثمى فى المجمع (1/ 22، -

وصدق صلى الله عليه وسلم، والصدق شيمته، وفوق العالمين طرا قدره الرفيع وقيمته، هو أشرفهم حسبا وأفضلهم نسبا وأكرمهم أما وأبا. هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب «1» بن هاشم- واسمه عمرو- بن عبد مناف- واسمه المغيرة- بن قصى- واسمه زيد- بن كلاب بن مرة بن كعب، ابن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. هذا الصحيح المجتمع عليه فى نسبه، وما فوق ذلك مختلف فيه. ولا خلاف فى أن عدنان من ولد إسماعيل نبى الله، ابن إبراهيم خليل الله، عليهما السلام، وإنما الاختلاف فى عدد من بين عدنان وإسماعيل من الآباء. فمقلل ومكثر. وكذلك من إبراهيم إلى آدم عليهما السلام، لا يعلم ذلك على حقيقته إلا الله. روى عن ابن عباس قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى عدنان أمسك ثم يقول: «كذب النسابون» ، قال الله تعالى: «وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً» [الفرقان: 38] . ومن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل. فولد عدنان رجلين: معد بن عدنان، وعك بن عدنان. فصارت عك فى دار اليمن، لأن عكا تزوج فى الأشعريين منهم وأقام فيهم، فصارت الدار واللغة واحدة. والأشعريون هم بنو أشعر بن نبت بن أدد بن زيد بن هميسع بن عمرو بن عريب ابن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان «2» . وقحطان هو عند جمهور العلماء بالنسب أبو اليمن كلها، وإليه يجتمع نسبها، والعرب كلها عندهم من ولد إسماعيل وقحطان. وبعض اليمن يقول: قحطان من ولد إسماعيل، وإسماعيل أبو العرب كلها. والله أعلم.

_ 4/ 238، 244، 10/ 375) ، شرح السنة للبغوى (3/ 239، 9/ 246) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (2/ 206، 7/ 194) ، المتقى الهندى فى الكنز (29687) . (1) قال ابن إسحاق فى السيرة: اسم عبد المطلب شيبة بن هاشم. وانظر ذكر نسب النبى فى: السيرة (1/ 23، 24) ، والبداية والنهاية كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه (2/ 257) . (2) انظر: السيرة (1/ 27) ذكر نسب ولد إسماعيل.

وأما معد، فذكر الزبير بن أبى بكر رحمه الله، أن بختنصر لما أمر بغزو بلاد العرب وإدخال الجنود عليهم فيها، وقتل مقاتلهم لانتهاكهم معاصى الله، واستحلالهم محارمه وقتلهم أنبياءه، وردهم رسالاته، أمر أرميا بن حلقيا، وكان فيما ذكر نبى بنى إسرائيل فى ذلك الزمان: أن ائت معد بن عدنان الذى من ولده محمد خاتم النبيين، فأخرجه عن بلاده واحمله معك إلى الشام، وتول أمره قبلك. ويقال: بل المحمول عدنان، والأول أكثر. وفى حديث عن ابن عباس، أن الله بعث ملكين، فاحتملا معدا، فلما أدبر الأمر رده فرجع إلى موضعه من تهامة، بعدما دفع الله بأسه عن العرب، فكان بمكة وناحيتها مع أخواله من جرهم، وبها منهم بقية هم ولاة البيت يومئذ، فاختلط بهم وناكحهم. فولد معد بن عدنان نفرا، منهم قضاعة، وكان بكره الذى به يكنى فيما يزعمون، وقنص، ونزار، وإياد. فأما قضاعة فتيامنت إلى حمير بن سبأ وانتمت إلى ابنه مالك بن حمير، حتى قال قائل منهم يفخر بذلك: نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر ... قضاعة بن مالك بن حمير النسب المعروف غير المنكر ... فى الحجر المنقوش تحت المنبر «1» وأنكر كثير من الناس منتماهم هذا، وجرت بينهم وبين من قال به من القضاعيين فى ذلك أقاويل معروفة وأشعار محفوظة. قال الزبير: ولم يجتمع رأى قضاعة على الانتساب فى اليمن، بل أهل العلم منهم والدين مقيمون على نسبهم فى معد. وأما قنص بن معد، فهلكت بقيتهم فيما زعموا، وكان منهم النعمان بن المنذر ملك الحيرة «2» . واحتج من قال ذلك بأن عمر- رضى الله عنه- حين أتى بسيف النعمان بن

_ (1) انظر: السيرة (1/ 28) . (2) انظر: السيرة (1/ 28) .

ذكر توجه عبد الله بن حذافة إلى كسرى بكتاب النبى صلى الله عليه وسلم وما كان من خبره معه

المنذر، دعا جبير بن مطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف بن قصى «1» ، فسلحه إياه، ثم قال: ممن كان يا جبير النعمان بن المنذر؟. فقال: كان من أشلاء، قنص بن معد. وكان جبير أنسب قريش لقريش والعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسب من أبى بكر الصديق. وكان أبو بكر رضى الله عنه، أنسب العرب «2» . وقد قيل فى نسب النعمان غير ذلك، مما سيأتى ذكره عند تأدية الحديث إليه، إن شاء الله تعالى. وقد ذكر أيضا فى بنى معد الضحاك بن معد. ذكر الزبير بإسناد له إلى مكحول قال: أغار الضحاك بن معد على بنى إسرائيل فى أربعين رجلا من بنى معد، عليهم دراريع الصوف خاطمى خيلهم بحبال الليف، وسبوا وظفروا، فقالت بنو إسرائيل: يا موسى، إن بنى معد أغاروا علينا، وهم قليل، فكيف لو كانوا كثيرا وأغاروا علينا وأنت نبينا؟ فادع الله عليهم. فتوضأ موسى وصلى، وكان إذا أراد حاجة من الله صلى، ثم قال: يا رب إن بنى معد أغاروا على بنى إسرائيل فقتلوا وسبوا وظفروا، وسألونى أن أدعوك عليهم. فقال الله تعالى: يا موسى لا تدع عليهم، فإنهم عبادى، وإنهم ينتهون عند أول أمرى، وإن فيهم نبيا أحبه وأحب أمته. قال: يا رب، ما بلغ من محبتك له؟. قال: أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: يا رب ما بلغ من محبتك لأمته؟.

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب (1/ 303) ، الإصابة ترجمة رقم (1094) ، أسد الغابة ترجمة رقم (698) ، نسب قريش (201) ، طبقات خليفة ترجمة رقم (43) ، التاريخ الكبير (2/ 223) ، المعارف (485) ، الجرح والتعديل (2/ 512) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (35) ، جمهرة أنساب العرب (116) ، العقد الثمين (3/ 408) . (2) انظر: السيرة (1/ 28) .

قال: يستغفرنى مستغفرهم فأغفر له، ويدعونى داعيهم فأستجيب له. قال: يا رب فاجعلهم من أمتى. قال: نبيهم منهم. قال: يا رب فاجعلنى منهم. قال: تقدمت واستأخروا. قال الزبير: وحدثنى على بن المغيرة قال: لما بلغ بنو معد عشرين رجلا أغاروا على عسكر موسى عليه السلام، فدعا عليهم فلم يجب فيهم، ثم أغاروا، فدعا عليهم فلم يجب فيهم، ثلاث مرات. فقال: يا رب، دعوتك على قوم فلم تجبنى فيهم بشىء. فقال: يا موسى، دعوتنى على قوم منهم خيرتى فى آخر الزمان. وأما نزار بن معد، واسمه مشتق من النزر وهو القليل، فيقال: إن أباه معدا لما ولد له نظر إلى نور بين عينيه، ففرح لذلك فرحا شديدا، ونحر وأطعم، وقال: إن هذا كله لنزر فى حق هذا المولود. وما كان الذى رآه إلا نور النبوة، الذى لم يزل ينتقل فى الأصلاب، حتى انتهى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فطبق الأرض نورا، وهدى الله به من أراد سعادته من عباده، صراطا مستقيما. وكل هذه الأنوار والآثار شاهدة له- عليه السلام- بعظيم عناية الله، وكريم المكانة عنده، فلم تزل بركته صلى الله عليه وسلم متعرفة فى آبائه الماضين، وظاهرة على أسلافه الأكرمين، تشير المخايل اللائحة فيهم إليه، وتدل الدلائل الواضحة فى أوليتهم عليه، صلوات الله وبركاته عليه. فولد نزار بن معد: مضر وربيعة وأنمارا وإيادا، وإليه دفع أبوه حجابة الكعبة فيما ذكر الزبير. وأمه سودة بنت عك بن عدنان. وقيل هى أم مضر خاصة، وأم إخوته الثلاثة أختها شقيقة ابنة عك بن عدنان. وقد قيل: إن إيادا شقيق لمضر، أمهما معا سودة.

ذكر إسلام النجاشى، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه مع عمرو بن أمية الضمرى

فإنمار هو أبو بجيلة وخثعم، وقد تيامنت بجيلة إلا من كان منهم بالشام والمغرب، فإنهم على نسبهم إلى أنمار بن نزار. وجرير بن عبد الله «1» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سادات بجيلة وله يقول القائل: لولا جرير هلكت بجيلة ... نعم الفتى وبئست القبيلة وكذلك تيامنت الدار أيضا بخثعم، وهم بنو أقيل بن أنمار، وإنما خثعم جبل تحالفوا عنده فسموا به، وهم بالسراة على نسبهم إلى أنمار. وإذا كان بين مضر واليمن فيما هنالك حرب، كانت خثعم مع اليمن على مضر «2» . ويروى أن نزارا لما حضرته الوفاة، قسم ماله بين بنيه الأربع: مضر وربيعة وإياد وأنمار. فقال: هذه القبة لقبة كانت له حمراء من أدم، وما أشبهها من المال لمضر، وهذا الخباء الأسود وما أشبهه لربيعة، وهذه الخادم، وكانت شمطاء، وما أشبها لإياد. وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه. وقال لهم: إن أشكل عليكم الأمر فى ذلك واختلفتم فى القسمة، فعليكم بالأفعى الجرهمى. وكان بنجران. فاختلفوا بعده وأشكل أمر القسمة عليهم، فتوجهوا إلى الأفعى. فبينا هم فى مسيرهم إليه إذ رأى مضر كلأ قد رعى، فقال: إن البعير الذى رعى هذا لأعور. فقال ربيعة: وهو أزور. وقال إياد: وهو أبتر. وقال أنمار: وهو شرود. فلم يسيروا إلا قليلا، حتى لقيهم رجل توضع به راحلته، فسألهم عن البعير، فقال له مضر: أهو أعور؟ قال: نعم. قال ربيعة: أهو أزور؟ قال: نعم. قال إياد: أهو أبتر؟ قال نعم. قال أنمار: وهو شرود؟ قال: نعم، هذه والله صفة بعيرى دلونى عليه. فحلفوا له ما

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (326) ، الإصابة الترجمة رقم (1139) ، أسد الغابة الترجمة (730) ، طبقات ابن سعد (6/ 22) ، طبقات خليفة (116، 138) ، تاريخ خليفة (218) ، التاريخ الكبير (2/ 211) ، الجرح والتعديل (2/ 502) ، تهذيب الكمال (191) ، تاريخ الإسلام (2/ 274) ، العبر (1/ 57) ، تهذيب التهذيب (2/ 73) ، خلاصة تذهيب الكمال (61) ، شذرات الذهب (1/ 57، 58) . (2) انظر: السيرة (1/ 78) .

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب الإسكندرية مع حاطب بن أبى بلتعة

رأوه، فلزمهم وقال: كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيرى بصفته!! فساروا حتى قدموا نجران، فنزلوا بالأفعى الجرهمى، فنادى صاحب البعير: بعيرى، وصفوا لى صفته، ثم قالوا: لم نره! فقال لهم الأفعى: كيف وصفتموه، ولم تروه؟ فقال له مضر: رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا فعرفت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر، فعلمت أنه أفسدها لشدة وطئه لازوراره. وقال إياد: عرفت بتره باجتماع بعره، ولو كان ذيالا لمصع به. وقال أنمار: عرفت أنه شرود، أنه كان يرعى فى المكان المتلف نبته، ثم يجوزه إلى مكان أرق منه وأخبث. قال الشيخ: ليسوا بأصحاب بعيرك، فاطلبه. ثم سألهم من هم؟ فأخبروه، فرحب بهم وقال: تحتاجون إلى وأنتم كما أرى! فدعا لهم بطعام، فأكل وأكلوا وشرب وشربوا. فقال مضر: لم أر كاليوم خمرا أجود لولا أنها نبتت على قبر. وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحما أطيب لولا أنه ربى بلبن كلبة. وقال إياد: لم أر كاليوم رجلا سرنى لولا أنه ليس لأبيه الذى يدعى له. وقال أنمار: لم أر كاليوم كلاما أنفع فى حاجتنا. وسمع صاحبهم كلامهم، فقال: ما هؤلاء؟! إنهم لشياطين. ثم أتى أمه، فسألها، فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك، فأمكنت رجلا نزل بهم من نفسها، فوطئها، فجاءت به. وقال للقهرمان: الخمر التى شربناها ما أمرها؟ قال: من حبلة غرستها على قبر أبيك.

وسأل الراعى عن اللحم، فقال: شاة أرضعناها من لبن كلبة، ولم يكن ولد فى الغنم غيرها. فأتاهم، فقال: قصوا على قصتكم، فقصوا عليه ما أوصى به أبوهم، وما كان من اختلافهم. فقال: ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو لمضر. فصارت إليه الدنانير والإبل، وهى حمر، فسميت مضر الحمراء. قال: وما أشبه الخباء الأسود من دابة ومال فهو لربيعة. فصارت له الخيل، وهى دهم، فسمى ربيعة الفرس. قال: وما أشبه الخادم، وكانت شمطاء، من مال فيه بلق، فهو لإياد. فصارت له الماشية البلق. وقضى لأنمار بالدراهم والأرض. فساروا من عنده على ذلك. وكان يقال: مضر وربيعة هما الصريحان من ولد إسماعيل. وروى ميمون بن مهران، عن عبد الله بن العباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين» «1» . وقال صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه: «إذا اختلف الناس فالحق مع مضر» «2» . وسمع عليه السلام قائلا يقول: إنى امرؤ حميرى حين تنسبنى ... لا من ربيعة آبائى ولا مضرا فقال صلى الله عليه وسلم: «ذلك أبعد لك من الله ومن رسوله» «3» . ومما يؤثر من حكم مضر بن نزار ووصاياه: من يزرع شرا يحصد ندامة، وخير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها فيما أصلحكم، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق. فولد مضر بن نزار رجلين: إلياس بن مضر، وعيلان بن مضر. قال الزبير: وأمهما الحنفاء بنت إياد بن معد.

_ (1) أخرجه ابن حجر فى الفتح (7/ 146) ، المتقى الهندى فى الكنز (23987) . (2) أخرجه المتقى الهندى فى الكنز (33989) ، ابن حجر فى المطالب العالية (4188) ، ابن عدى فى الكامل فى الضعفاء (1456) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (12/ 198) . (3) أخرجه أبو داود فى السنن كتاب البيوع باب (88) ، البيهقى فى السنن الكبرى (6/ 174) ، الزيلعى فى نصب الراية (4/ 128) .

ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى العبدى مع العلاء بن الحضرمى بعد انصرافه من الحديبية

وقال ابن هشام: أمهما جرهمة. ولما أدرك إلياس بن مضر، أنكر على بنى إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم وسيرهم، وبان فضله عليهم ولان جانبه لهم، حتى جمعهم على رأيه، ورضوا به رضا لم يرضوه بأحد من ولد إسماعيل بعد أدد. فردهم إلى سنن آبائهم، حتى رجعت سنتهم تامة على أولها. وهو أول من أهدى البدن إلى البيت، أو فى زمانه. وأول من وضع الركن للناس بعد هلاكه، حين غرق البيت وانهدم زمن نوح عليه السلام. فكان أول من سقط عليه إلياس، أو فى زمانه، فوضعه فى زاوية البيت للناس. ومن الناس من يقول: إنما هلك الركن بعد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وهو الأشبه، إن شاء الله. ولم تبرح العرب تعظم إلياس بن مضر تعظيم أهل الحكمة، كلقمان وأشباهه. فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر: مدركة، وطابخة، وقمعة. وأمهم خندف بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، واسمها ليلى، واسم مدركة عامر، واسم طابخة عمرو، واسم قمعة عمير. وإنما حالت أسماؤهم إلى الذى ذكرنا أولا عنهم، فيما ذكروا، أن أرنبا أنفرت إبل إلياس بن مضر، فصاح ببنيه هؤلاء أن يطلبوا الإبل والأرنب. فأما عمير فاطلع من المظلة ثم قمع. فسمى قمعة. وخرج عامر وعمرو فى آثار الإبل، وخرجت أمهم ليلى تسعى خلفهم. فقال لها زوجها إلياس: أين تخندفين؟ أى أين تسعين. فسميت خندف «1» . ومر عامر وعمرو بظبى، فرماه عمرو فقتله، ويقال: بل رمى الأرنب التى أنفرت الإبل، فقال له عامر: اطبخ صيدك، وأنا أكفيك الإبل. فطبخ عمرو، فسمى طابخة. وأدرك الإبل عامر، فسمى مدركة.

_ (1) قال ابن حجر فى فتح البارى (6/ 633) : خندف هى بكسر المعجمة وسكون النون وفتح الدال بعدها فاء، وهو اسم امرأة إلياس بن مضر، واسمها: ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، لقبت بخندف لمشيتها والخندف: الهرولة.

واشتهر بنو خندف هؤلاء بأمهم خندف للذى سار من فعلها فى الناس. وذلك أنه لما مرض زوجها إلياس وجدت لذلك وجدا شديدا، ونذرت إن هلك، ألا تقيم فى بلد مات فيه، ولا يظلها بيت بعده، وأن تسيح فى الأرض. وحرمت الرجال والطيب. فلما هلك إلياس خرجت سائحة فى الأرض حتى هلكت حزنا. وكانت وفاته يوم الخميس، فكانت كلما طلعت الشمس من ذلك اليوم تبكيه حتى تغيب، فصارت خندف وما صنعت عجبا فى الناس، يتحدثون به ويذكرونه فى أشعارهم. فقيل لرجل من إياد، أو همدان، وقد هلكت امرأته: ألا تبكى عليها؟ فقال: لو كان ذلك يردها لفعلت كما فعلت خندف على إلياس. ثم اندفع يقول: لو أنه يغنى بكيت كخندف ... على إلياس حتى ملها الشر تندب إذا مونس لاحت خراطيم شمسه ... بكت غدوة حتى ترى الشمس تغرب ولم تر عيناها سوى الدفن قبره ... فساحت وما تدرى إلى أين تذهب فلم يغن شيئا طول ما بلغت به ... وما طلها دهر وعيش معذب وفقدت امرأة من غسان أخاها ثم أباها، فمكثت دهرا تبكى عليهما، فنهاها قومها، فقالت: تلحون سلمى أن بكت أباها ... وقبل ما قد ثكلت أخاها فحولوا العذل إلى سواها ... عصتكم سلمى إلى هواها كما عصت خندف من نهاها ... خلت بنيها أسفا وراها تبكى على آلياس فما أتاها فولد مدركة بن إلياس نفرا، منهم خزيمة بن مدركة، وهذيل بن مدركة. وأمهما امرأة من قضاعة، قيل: هى سلمى بنت سويد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. وقيل غير ذلك.

ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى الأزديين، ملكى عمان، مع عمرو بن العاص

فولد خزيمة بن مدركة كنانة وأسدا وأسدة والهون. وأم كنانة منهم، عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. وقيل: هند بنت عمرو بن قيس بن عيلان. قرأته بخط أحمد بن يحيى بن جابر. فولد كنانة بن خزيمة جماعة منهم: النضر، وبه كان يكنى، ونضير، ومالك، وملكان، وعمرو، وعامر، وأمهم برة بنت مر، خلف عليها كنانة بعد أبيه خزيمة، على ما كانت الجاهلية تفعله، إذا مات الرجل خلف على زوجته بعده أكبر بنيه من غيرها. فنهى الله عن ذلك بقوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] «1» . ويقال: إن برة هذه، لما أهديت أولا إلى خزيمة بن مدركة، قالت له: إنى رأيت فى المنام كأنى ولدت غلامين من خلاف بينهما سابياء، فبينا أنا أتأملهما إذا أحدهما أسد يزأر وإذا الآخر قمر ينير. فأتى خزيمة كاهنة بتهامة، فقص عليها الرؤيا، فقالت: لئن صدقت رؤياها لتلدن منك غلاما يكون لولده قلوب باسلة، ثم لتموتن عنها فيختلف عليها ابن لك، فتلد منه غلاما يكون لولده عدل وعدد وقروم مجد وعز إلى آخر الأبد. ثم توفى خزيمة، فخلف عليها كنانة بعد أبيه، فولدت له النضر وإخوته، وإنما سمى النضر، لنضارة وجهه وجماله. وأتى أبوه كنانة بن خزيمة وهو نائم فى الحجر، فقيل له: تخير يا أبا النضر بين الصهيل والهدر وعمارة الجدر وعز الدهر. فقال: كل يا رب. فصار هذا كله فى قريش. والنضر هو جماع قريش فى قول طائفة من أهل العلم بالنسب، والأكثر على أن فهر بن مالك بن النضر هو قريش. فمن كان من ولده فهو قرشى، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشى. وذكر الزبير أن هذا هو رأى كل من أدرك من نساب قريش.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 93) .

فولد النضر بن كنانة مالكا، ويخلد، والصلت «1» . فولد مالك فهر بن مالك. وأمه جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعيد بن الحارث بن مضاض الجرهمى. وهو جماع قريش عند الأكثر. قال الزبير: قد اجتمع النساب من قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت عن فهر. ويقال: إن قريشا هو اسمه الذى سمته به أمه، ولقبته فهرا. فولد فهر بن مالك غالبا ومحاربا والحارث وأسدا، وأختهم جندلة. وأم جميعهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة «2» . ولما حضرت الوفاة فهر بن مالك، قال لابنه غالب: يا بنى، إن فى الحزن إقلاق النفوس قبل المصائب، فإذا وقعت المصيبة برد حرها، وإنما القلق فى غليانها، فإذا أنا مت فبرد حر مصيبتك بما ترى من وقع المنية أمامك وخلفك، وعن يمينك وعن شمالك، وبما ترى من آثارها فى محيى الحياة، ثم اقتصر على قليلك، وإن قلت منفعته، فقليل ما فى يدك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك. فولد غالب بن فهر لؤيا وتيما، وهو الأدرم، كان منقوص الذقن. ويقال لقومه: بنو الأدرم. وأمهما فى قول ابن إسحاق «3» : سلمى بنت عمرو الخزاعى. وفى قول الزبير: عاتكة بنت يخلد بن النضر. وروى أن لؤى بن غالب قال لأبيه، وهو غلام حديث: يا أبت، من رب معروفة قل إخلاقه، ونضر ماؤه. ومن أخلقه أخمله، وإذا أخلق الشىء لم يذكر، وعلى المولى تكبير صغيره ونشره، وعلى المولى تصغير كبيره وستره. فقال له أبوه غالب: إنى لأستدل بما أسمع من قولك على فضلك، وأستدعى لك به الطول على قومك، فإن ظفرت بطول فعد على قومك بفضلك، وكف غرب جهلهم بحلمك، ولم شعثهم برفقك، فإنما تفضل الرجال الرجال بأفعالها، ومن قايسها على أوزانها أسقط الفضل ولم تعل به درجة على أحد، وللعليا فضل أبدا على السفلى.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 94- 95) . (2) انظر: السيرة (1/ 95) . (3) انظر: السيرة (1/ 95) .

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن على مع سليط بن عمرو العامرى، وما كان من خبره معه

فولد لؤى بن غالب كعبا وعامرا، وسامة، وعوفا وسعدا، وخزيمة «1» . فدخل بنو خزيمة فى شيبان، ويسمون فيهم بعائذة، وهى امرأة من اليمن، كانت أم بنى عبيد بن خزيمة فنسبوا إليها. وكذلك دخل بنو سعد، فى شيبان، ويسمون فيهم ببنانة حاضنة كانت لهم من قضاعة، وقيل من النمر بن قاسط، فنسبوا إليها. وأما سامة بن لؤى، فخرج إلى عمان، ويزعمون أن عامر بن لؤى أخرجه. وذلك أنه كان بينهما شىء، ففقأ سامة عين عامر، فأخافه عامر، فخرج إلى عمان. فيزعمون أن سامة بن لؤى بينا هو يسير على ناقته، إذ وضعت رأسها ترتع، فأخذت حية بمشفرها، فهصرتها «2» حتى وقعت الناقعة لشقها، ثم نهشت ساقه فقتلته. فقال سامة حين أحس بالموت، فيما يزعمون: عين فابكى لسامة بن لؤى ... علقت ما بسامة العلاقة لا أرى مثل سامة بن لؤى ... يوم حلوا به قتيلا لناقة بلغا عامرا وكعبا رسولا ... أن نفسى إليهما مشتاقة إن تكن فى عمان دارى فإنى ... غالبى خرجت من غير فاقة رب كأس هرقت يا بن لؤى ... حذر الموت لم تكن مهراقة رمت دفع الحتوف يا بن لؤى ... ما لمن رام ذاك بالحتف طاقة وخروس السرى تركت رديا ... بعد جد وحدة ورشاقة «3» قال ابن هشام: وبلغنى أن بعض ولده أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتسب إلى سامة بن لؤى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألشاعر؟» فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله: رب كأس هرقت يابن لؤى ... حذر الموت لم تكن مهراقة قال: «أجل» «4» .

_ (1) انظر: السيرة (96) . (2) الهصر: هو الكسر، هصر الشىء يهصره هصرا: جبذه وأماله وأهتصره، وقال أبو عبيدة: هصرت الشىء ووقصته إذا كسرته. انظر: اللسان (مادة هصر) . (3) خروس السرى: يعنى ناقة صموتا صبورا. السرى: هو سير الليل، وقيل: سير الليل كله. (4) ذكره الأصفهانى فى كتاب الأغانى (9/ 104) ، وليس له إسناد يعرف.

قال ابن إسحاق «1» : وأما عوف بن لؤى، فإنه خرج فيما يزعمون فى ركب من قريش، حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان أبطئ به، فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، فحبسه والتاطه وآخاه وزوجه، فانتسب بتلك المؤاخاة إلى سعد بن ذبيان أبى ثعلبة. وثعلبة، يزعمون، هو القائل له: احبس على ابن لؤى جملك ... تركتك القوم ولا مترك لك ويروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: لو كانت مدعيا حيا من العرب أو ملحقهم بنا لا دعيت بنى مرة بن عوف، إنا لنعرف منهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع؛ يعنى عوف بن لؤى. وهم فى نسب غطفان مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، وهم يقولون إذا ذكر لهم النسب: ما ننكره ولا نجحده، وإنه لأحب النسب إلينا. وقيل: إن عمر بن الخطاب قال لرجال من بنى مرة: إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه. وكان القوم أشرافا فى غطفان هم سادتهم وقادتهم، منهم هرم بن سنان ابن أبى حارثة، وأخوه خارجة بن سنان، والحارث بن عوف، والحصين بن الحمام، وهشام بن حرملة، قوم لهم صيت وذكر فى غطفان وقيس كلها، فأقاموا على نسبهم. على أن الحصين بن الحمام قد تحير فى هذا واختلف رأيه، فلما سمع قول الحارث ابن ظالم، أحد بنى مرة بن عوف، حين هرب من النعمان بن المنذر ولحق بقريش: وما قومى بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا «2» فقومى إن سألت بنو لؤى ... بمكة علموا مضر الضرابا سفهنا باتباع بنى بغيض ... وترك الأقربين لنا انتسابا سفاهة مخلف لما تروى ... هراق الماء واتبع السرابا «3» فلو طوعت عمرك كنت فيهم ... وما ألفيت انتجع السحابا «4»

_ (1) انظر: السيرة (1/ 98- 99) . (2) الشعر: جمع أشعر، وهو الكثير الشعر. (3) المخلف: الذى يسقى الماء. هراق: أى صبه. (4) انتجع: أى ذهب فى طلب الكلاء فى موضعه. وذكره ابن إسحاق فى السيرة وزاد فى آخره بيت هو: وخش رواحة القرشى رحلى ... بناحية ولم يطلب ثوابا انظر: السيرة (1/ 98- 99) .

قال الحصين بن الحمام يرد عليه وينتمى إلى غطفان: ألا لستم منا ولسنا إليكم ... برئنا إليكم من لؤى بن غالب أقمنا على عز الحجاز وأنتم ... بمعتلج البطحاء بين الأخاشب يعنى قريشا. ثم ندم الحصين على ما قال، وعرف صدق الحارث، فأكذب نفسه وقال: ندمت على قول مضى كنت قلته ... تبينت فيه أنه جد كاذب فليت لسانى كان نصفين منهما ... بكيم ونصف عند مجرى الكواكب أبونا كنانى بمكة قبره ... بمعتلج البطحاء بين الأخاشب لنا الربع من بيت الحرام وراثة ... وربع البطاح عند دار ابن حاطب يعنى أن بنى لؤى كانوا أربعة، كعبا، وعامرا، وسامة، وعوفا. وفى بنى مرة بن عوف كان البسل، وذلك ثمانية أشهر حرم لهم من كل سنة من بين العرب، يسيرون به إلى أى بلاد العرب شاؤا، ولا يخافون منهم شيئا، قد عرفوا ذلك لهم لا يدفعونه ولا ينكرونه. وكان سائر العرب إنما يأمنون فى الأشهر الحرم الأربعة فقط. وذكر الزبير عن أبى عبيدة، أنه كانت لقريش فى هذا مزية على سائر العرب قاطبة، وذلك أن العربى لم يكن ليخرج من داره فى غير الأشهر الحرم إلا فى جماعة، وكان القرشى يخرج حيث شاء وأنى شاء، فيقال: رجل من أهل الله فلا يعرض له عارض، ولا يريبه أحد بمكروه، ويعظمه من لقيه أو ورد عليه، ولذلك قال من قال منهم: القرشى بكل بلد حرام. وأما كعب بن لؤى، وعامر بن لؤى، فهما أهل الحرم وصريح ولد لؤى. وكان كعب منهما عظيم القدر فى العرب، وأرخوا بموته إعظاما له، إلى أن كان عام الفيل فأرخوا به «1» . وكان بين موته والفيل، فيما ذكروا، خمسمائة سنة وعشرون سنة. وكان يوم الجمعة يسمى العروبة، فسماه كعب الجمعة لاجتماع قومه فيه يخطبهم ويذكرهم.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 102) .

ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى مع شجاع بن وهب

فيقول فيما يقول: أيها الناس، اسمعوا وعوا، وافهموا وتعلموا، ليل ساج ونهار ضاح، والسماء بناء، والأرض مهاد، والنجوم أعلام، لم تخلق عبثا فتضربوا عن أمرها صفحا، الآخرون كالأولين، والدار أمامكم، واليقين غير ظنكم، صلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وأوفوا بعهدكم، وثمروا أموالكم، فإنها قوام مروآتكم، ولا تصونوها عما يجب عليكم، وعظموا هذا الحرم وتمسكوا به فسيكون له نبأ عظيم، وسيخرج به نبى كريم. ثم ينشد أبياتا منها: صروف وأنباء تقلب أهلها ... لها عقدة ما يستحيل مريرها على غفلة يأتى النبى محمد ... فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها ثم يقول: يا ليتنى شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغى الحق خذلانا أما والله لو كنت ذا سمع وبصر ويد ورجل لتنصبت فيها تنصب الفحل، ولأرقلت فيها إرقال الجمل، فرحا بدعوته جذلا بصرخته. فولد كعب بن لؤى بن مرة، وهصيصا، وعديا «1» . وأمهم وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك. وقيل: إن أم عدى وحده امرأة من فهر، وهى حبيبة بنت بجالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار. فولد مرة بن كعب كلابا، وتيما، ويقظة «2» . فولد كلاب رجلين: قصيا وزهرة. وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل، أحد الجدرة من خثعمة الأسد من اليمن، حلفاء فى بنى الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ويقال خثعمة الأسد «3» . واسم سيل: خير، وإنما سمى سيلا لطوله. وسيل اسم جبل، وهو خير بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر، بن عمرو بن خثعمة بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن الأزد.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 102) . (2) انظر: السيرة (1/ 102) . (3) انظر: السيرة (1/ 103) .

وسمى عامر الجادر لأنه بنى جدارا للكعبة، كان وهى من سيل أتى أيام ولاية جرهم البيت. وكان عامر تزوج منهم بنت الحارث بن مضاض، وقيل لولده الجدرة لذلك. وذكر الشرفى بن القطامى، أن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة ويأخذون من طينها وحجارتها تبركا بذلك، وأن عامرا هذا كان موكلا بإصلاح ما شعث من جدرها، فسمى الجادر. والله أعلم. وسعد بن سيل جد قصى بن كلاب، وهو أول من حلى السيوف بالفضة والذهب، وأهدى إلى كلاب بن مرة مع ابنته فاطمة سيفين محليين، فجعلا فى خزانة الكعبة. وقصى هو الذى جمع الله به قريشا، وكان اسمه زيدا، فسمى مجمعا لما جمع من أمرها. وسمى قصيا لتقصيه عن بلاد قومه مع أمه فاطمة بعد وفاة أبيه كلاب بن مرة. وحديثه فى ذلك طويل، وسنذكره إن شاء الله عند ذكر ولايته البيت، وهناك نذكر مآثره وعظيم غنائه فى إقامة أمر قومه، إن شاء الله، فإن القصد هنا الإيجاز ما أمكن فى إيراد هذا النسب المبارك، لتحصل لسامعه الفائدة بانتظامه واتصاله، ولا يضل ذلك عليه بما تخلل أثناءه من القواطع التى تباعد بين أطرافه. فولد قصى بن كلاب أربعة نفر وامرأتين «1» : عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبدا، وتخمر، وبرة. وأمهم جميعا حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعى. وساد عبد مناف فى حياة أبيه، وكان مطاعا فى قريش، وهو الذى يدعى القمر لجماله، واسمه المغيرة. ذكر الزبير عن موسى بن عقبة، أنه وجد كتابا فى حجر، فيه: أنا المغيرة بن قصى، آمر بتقوى الله وصلة الرحم. وإياه عنى القائل بقوله: كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصه لعبد مناف فولد عبد مناف أربعة نفر: هاشما، وعبد شمس، والمطلب، ونوفلا «2» .

_ (1) انظر: السيرة (1/ 103- 104) . (2) انظر: السيرة (1/ 104) .

وكلهم لعاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. إلا نوفلا فليس منهم، فإنه لوافدة بنت عمرو المازنية. مازن بن منصور بن عكرمة. فولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمس نسوة «1» . عبد المطلب، وأسدا، وأبا صيفى، ونضلة، والشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقية، وحية، وأم عبد المطلب أمهم سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدى بن النجار. فولد عبد المطلب عشرة نفر وست نسوة «2» . العباس، وحمزة، وعبد الله، وأبا طالب، واسمه عبد مناف، والزبير، والحارث، وهو أكبرهم، والحجل، والمقوم، وضرارا، وعبد العزى أبا لهب، وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرة. فأم عبد الله وأبى طالب وجميع النساء غير صفية، فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى. فولد عبد الله بن عبد المطلب، محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين، ونخبة الخلق أجمعين، فنسبه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنساب، وسببه إلى الله سبحانه باصطفائه إياه واختياره له أفضل الأسباب، وبيته فى قريش أوسط بيوتها الحرمية، وأعرق معادنها الكرمية، لم تخل قط مكة من سيد منهم أو سادات، يكونون خير جيلهم ورؤساء قبيلهم، حتى إذا درجوا سما قسماؤهم فى المجد الصميم، وشركاؤهم فى النسب الكريم إلى ذلك المقام، فعرجوا فصحبوا على ذلك الزمان. لواؤهم على من ناوأهم منصور، وسؤدد البطحاء عليهم مقصور، والعيون إليهم أية سلكوا صور. ثم أتى الوادى فطم على القرى، وشد الله أركان مجدهم العريق العتيق بهذا النبى الأمى، فاحتازوا المجد عن آخره. وفازوا من شرف الدين والدنيا بما تعجز ألسنة البلغاء عن أدنى مفاخره.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 104) . (2) انظر: السيرة (1/ 105) .

وأمه صلى الله عليه وسلم هى آمنة بنت وهب، بن عبد مناف، بن زهرة، بن كلاب «1» ، قسمية أبيه من هذا الأب، وكريمة قومها أولى المكان النبيه والحسب. وحسبها من الشرف المتين والكرم المبين والفخر الممكن غاية التمكين، أن كانت أما لخاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين. فكيف ولها من نصاعة الحسب المحسب، وعتاقة المنسب والمنصب، ما يقف عند البطاح، وتعترف له قريش البطاح. فرسول الله صلوات الله وبركاته عليه، خيرة الخير من كلا طرفيه، وقد اعتنى الناس بنسبه الكريم نثرا ونظما، ونقبوا عن آبائه الأمجاد، وأمهاته الطاهرات الميلاد أبا فأبا وأما فأما. فرادوا من ذلك الفخار حدائق غلبا، وسادوا من شرف تلك الآثار مراقى شمّا. وقد تقدمت من ذلك نبذ منثورة أثناء الكلام، وستأتى إن شاء الله منظومة مع أشكالها، تفوق العقد فى النظام، فى قصيدة فريدة مفيدة، لأبى عبد الله بن أبى الخصال، خاتمة رؤساء الآداب، والعلماء المبرزين فى هذا الباب، سماها «معراج المناقب، ومنهاج الحسب الثاقب، فى ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ومناقب أصحابه» ، قرأتها على شيخنا الخطيب أبى القاسم بن حبيش، عنه فقد رأيت أن أورد منها هنا ما يختص بهذا النسب الكريم على اختصار، يفى إن شاء الله بالغرض المروم، إذ الكلام المنظوم أعذب جريا على الألسان وأهذب رأيا فى الإفادة بالمستحسن. وأولها: إليك فهمى والفؤاد بيثرب ... وإن عاقنى عن مطلع الوحى مغربى أعلل بالآمال نفسا أغرها ... بتقديم غاياتى وتأخير مذهبى ودينى على الأيام زورة أحمد ... فهل ينقضى دينى ويقرب مطلبى وهل أردن فضل الرسول بطيبة ... فيا برد أحشائى ويا طيب مشربى وهل فضلت من مركب العمر فضلة ... تبلغنى أم لا بلاغ لمركب ألا ليت زادى شربة من مياهها ... وهل مثلها ريا لغلة مذنب

_ (1) انظر نسبها فى: السيرة (1/ 105) ، وذكرها هناك من جهة الأب، ومن جهة الأم وقال بعد نسبها من جهة الأب: وأمها برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.

ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى فروة بن عمرو الجذامى ثم النفاتى، وما كان من تبرعه بالإسلام هداية من الله عز وجل له

ويا ليتنى فيها إلى الله صائر ... وقلبى عن الإيمان غير مقلب وإن امرؤ وارى البقيع عظامه ... لفى زمرة تلقى بسهل ومرحب وفى ذمة من خير من وطئ الثرى ... ومن يعتلقه حبله لا يعذب وما لى لا أشرى الجنان بعزمة ... يهون عليها كل طام ويسبسب وماذا الذى يثنى عنانى وإننى ... لجواب آفاق كثير التقلب أفقر ففى كفى لله نعمة ... وبين فقد فارقت قبل بنى أبى وقد مرنت نفسى على البعد وانطوت ... على مثل حد السمهرى المدرب وكم غربة فى غير حق قطعتها ... فهلا لذات الله كان تغربى وكم فاز دونى بالذى رمت فائز ... وأخطأنى ما ناله من تغرب أراه وأهوى فعلة البر قاعدا ... فيا قعدى البر قم وتلبب أمانى قد أفنى الشباب انتظارها ... وكيف بما أعيى الشباب لأشيب وقد كانت أسرى فى الظلام بأدهم ... فهأنا أغدو فى الصباح بأشهب فمن لى وأنى لى بريح تحطنى ... إلى ذروة البيت الرفيع المطنب إلى الهاشمى الأبطحى محمد ... إلى خاتم الرسل المكين المقرب إلى صفوة الله الأمين لوحيه ... أبى القاسم الهادى إلى خير مشعب إلى ابن الذبيحين الذى صيغ مجده ... ولما تصغ شمس ولا بدر غيهب إلى المنتقى من عهد آدم فى الذرى ... يردد فى سر الصريح المهذب إلى من تولى الله تطهير بيته ... وعصمته من كل عيص مؤشب فجاء برىء العرض من كل وصمة ... فما شئت من أم حصان ومن أب كروض الربا كالشمس فى رونق الضحى ... كناشئ ماء المزن قبل التصوب عليه من الرحمن عين كلاءة ... تجنبه إلمام كل مجنب إذا أعرضت أعراقه عن قبيلة ... فما أعرضت إلا لأمر مغيب وما عبرت إلا على مسلك الهدى ... ولا عثرت إلا على كل طيب فمن مثل عبد الله خير لداته ... وآمنة فى خير ضنء ومنصب إذا اتصلت جاءتك أفلاذ زهرة ... كأسد الشرى من كل أشوس أغلب ولا خال إلا دون سعد بن مالك ... ولو كان فى عليا معد ويعرب ومن ذا له جد كشيبة ذى الندى ... وساقى الحجيج بين شرق ومغرب له سؤدد البطحاء غير مدافع ... وحومة ما بين الصفا والمحصب أبو الحارث السامى إلى كل ذروة ... يقصر عن إدراكها كل كوكب

به وبما فى برده من أمانة ... حمى الله ذاك البيت من كل مرهب وأهلك بالطير الأبابيل جمعهم ... فيا لهم من عارض غير خلب وفيما رآه شيبة الحمد آية ... تلوح لعين الناظر المتعجب وفى ضربه عنه القداح مروعا ... ومن يرم بين العين والأنف يرهب وما زال يرمى والسهام تصيبه ... إلى أن وقبه الكوم من نسل أرحب وكانوا أناسا كلما أمهم أذى ... تكشف عن صنع من الله معجب وعاش بنو الحاجات فيهم وأخصبوا ... وإن أصبحوا فى منزل غير مخصب وعمرو المعالى هاشم وثريده ... بمكة يدعو كل أغبر مجدب بمثنى جفان كالجواب منيخة ... ملئن عبيطات السنام المرعب هو السيد المتبوع والقمر الذى ... على صفحته فى الرضا ماء مذهب بنى الله للإسلام عزا بصهره ... إلى منتهى الأحياء من آل يثرب وعبد مناف دوحة الشرف الذى ... تفرع منها كل أروع محرب مطاع قريش والكفيل بعزها ... ومانعها من كل ضيم ومنهب وزيد ومن زيد قصى مجمع ... سمعت وبلغنا وحسبك فاذهب به اجتمعت أحياء فهر وأحرزت ... تراث أبيها دون كل مذبذب وأصبح حكم الله فى آل بيته ... فهم حوله من سادنين وحجب وما أسلمته عن تراخ خزاعة ... ولكن كما عض الهناء بأجرب ولاذت قريش من كلاب بن مرة ... بجذل حكاك أو بعذق مرحب ومرة ذو نفس لدى الحرب مرة ... وفى السلم نفس الصرخدى المذوب وكعب عقيد الجود والحكم والنهى ... وذو الحكم الغر المبشر بالنبى خطيب لؤى واللواء بكفه ... لخطبة ناد أو لخطة مقنب وأول من سمى العروبة جمعة ... وصدر أما بعد يلحى ويطبى وأرخ آل الله دهرا بموته ... سنين سدى يتعبن كف المحسب وأضحى لؤى غالبا كل ماجد ... ومن غالب يمينه للمجد يغلب وفهر أبو الأحياء جامع شملها ... وكاسبها من فخره خير مكسب تقرش فامتازت قريش بفضله ... وسد فسدوا خلة المتأوب وغادره اسما فى الكتاب منزلا ... يمر به فى آية كل معرب ومالك المربى على كل مالك ... فتى النضر حابته السيادة بل حبى هو الليث فى الهيجاء والغيث فى الندى ... وبدر الدياجى حين يسرى ويحتبى

تردى بفضفاض على المجد نسجه ... وليس عليه، فليجر ويسحب وللنضر يا للنضر من كل مشهد ... هو الشمس صعد فى سناها وصوب وأعرض بحر من كنانة زاخر ... يساق إلى أمواجه كل مذنب وخير حكما فى الصهيل أو الوغا فلم ... أو البيت أو عز على الدهر مصحب يقتصر واختار كلا فحازه ... إلى غاية العزم المديد المعقب له البيت محجوبا وعز مخلد ... وأجرد يعبوب إلى جانب أصهب وخزم آناف العتاة خزيمة ... فلاذوا بأخلاق الذلول المغرب عظيم لسلمى بنت سود بن أسلم ... لكل قضاعى كريم مصعب ومدركة ذو اليمن والنجح عامر ... وخير مسمى فى العلا وملقب تراءى مطلا إذ تقمع صنوه ... ففاز بقدح ظافر لم يخيب لأم الجبل الشم والقطر والحصى ... لخندف إن تستركب الأرض تركب وإلياس مأوى الناس فى كل أزمة ... ومهربهم فى كل خوف ومرهب وزاجرهم إذ بدلوا الدين ضيلة ... وأضحوا بلا هاد ولا متحوب وجاءهم بالركن بعد هلاكه ... وقد كان فى صدع من الرض أنكب وما هو إلا معجز لنبوة ... وبشرى وعقبى للبشير المعقب وحج وأهدى البدن أول مشعر ... لها وفروض الحج لم تترتب وكم حكمة لم تسمع الأذن مثلها ... له إن تلح فى ناظر العين تكتب إلى قنص تنميه سوداء نبته ... كلا طرفيه من معد لمنسب وفى مضر تاه الكلام وأقبلت ... مآثر سدت كل وجه ومذهب وحينا وكاثرنا النجوم بجمعها ... بأكثر منها فى العديد وأثقب هنالك آتى الله من شاء فضله ... وقيل لهذا سر وللآخر اركب وكانا شقيقى نبعة فتفاوتا ... لعلم وحكم ماله من معقب وما منهما إلا حنيف ومسلم ... على نهج إسماعيل غير منكب وقد سلم الأفعى بنجران حكمه ... إليهم ولم ينظر إلى متعقب رأى فطنا أبدت له عن نجاره ... وكان لنبع فاستحال لأثأب وتلك علامات النبوة كلها ... تشير إلى منظورها المترقب وقال رسول الله مهما اختلفتم ... ولم تعرفوا قصد السبيل الملحب ففى مضر جرثومة الحق فاعمدوا ... إلى مضر تلفوه لم يتنقب وما سيد إلا نزار يفوته ... ومن فاته بدر الدجى لم يؤنب

قريع معد والذى سد نفده ... متى يأتهم شعب من الدهر يرأب أبو أبحر الدنيا وأطوادها التى ... بها ثبتت طرّا فلم تنقلب ولم يكفه حتى أعانت معانة ... بكل عتيق جرهمى مهذب وجاء والسماء شموسها ... وأقمارها فى ذيله المتسحب وبين يديه الأنجم الزهر بثها ... على الأرض حتى لا مساغ لأجنبى وقدما تحفى الله من يختنصر ... به والورى من هالك ومعذب وجنبه أرض البوار وحازه ... إلى معقل من حرزه متأشب وحل بأرمينية تحت حفظه ... لدى ملك عن جانبيه مذبب فلما تجلى الروع أسرى بعبده ... إلى حرم أمن لأبنائه اجتبى وقد كان رد الله عنهم كليمه ... ليالى يدعو دعوة المتغضب وجاء بنو يعقوب يشكون منهم ... ينادونه هذا قتيل وذا سبى فقال له لا تدع موسى عليهم ... فمنهم نبى أصطفيه وأجتبى أحبهم فيه رضا وأحبه ... كذلك من أحببه يكرم ويحبب وأغفر إن يستغفرونى ذنوبهم ... ومهما دعا داع أجبهخ وأقرب فقال إذن فاجعلهم رب أمتى ... فمن ترضاه يا رب يرض ويرغب فقال هم فى آخر الدهر صفوتى ... يقضون أعدائى ويستنصرون بى دعائم إيمان وأركان سؤدد ... مضت بعلاها مهدد بنت جلحب ومصعد عدنان إلى جذم آدم ... بأبين من قصد الصباح وألحب ونهى رسول الله صد وجوهها ... وكان لنا فى نظمها شد ملهب وإلا فأد بن الهميسع ماثل ... ونبت بن قيدار سلالة أشجب وواجه أعراق الثرى كل من ترى ... وأسمع إسماعيل دعوة مكثب وقام خليل الله يتلوه آزر ... أغر صباحى لأدهم غيهب إلى الناحر ابن الشارع الغمر يرتقى ... وللداع ثم القاسم الشامخ الأب ويعبر ينميه إلى المجد شالخ ... إلى الرافد الوهاب برك وطيب لسام أبى السامين طرا سما بهم ... لنوح للمكان العلى لمثوب لإدريس ثم الرائد بن مهلهل ... لقينن ثم الطاهر المتطيب إلى هبة الرحمن شيث بن آدم ... أبى البشر الأعلى لطين لأثلب فمنه خلقنا ثم فيه معادنا ... ومنه إلى عدن فسدد وقارب وهنا انتهى ما يخص المنتمى العلى من هذه الكلمة، التى فرى ناظمها فى الإحسان

ذكر حجة الوداع وتسمى أيضا حجة التمام، وحجة البلاغ

الفرى المحمود، فاقتصرت منها على ما وفى بالغرض المقصود، واستوفى رجال النسب المجيد والحسب التليد، تعجيلا لقرى المستفيد، واكتفاء من القلادة بالقدر المحيط بالجيد، وإنها إن شاء الله لكافية فى الباب، ومقدمة فى الكلام اللباب، وتحفة إنما يعرف قدرها أولو الألباب. والله يجزى قائلها الحسنى، وينفعه بمقصده الأسنى. وإذ قد انتهينا إلى ما حسن لدينا إيراده فى هذا المعنى وصفا وذكرا، وخدمنا النسب الأشرف نظما ونثرا، فلنعرج على ذكر البقعة التى اختارها الله لرسوله الكريم منشأ، وجعلها لقومه قرارا ومتبوأ، وأولية البيت العتيق الذى جعله الله مثابة وأمنا للناس، ورفعه على أفضل القواعد وأكرم الأساس، ثم دحا الأرض من تحته رفعا للشبهة فى شرفه والالتباس. ثم نذكر من وليه من آبائه الكرام، إذا هم أهله الأعلون وأولياؤه الأحقاء به الأولون، وهو مأثرتهم التى لم يزالوا إياها يرعون، ومن جرائها يراعون، وتراث المجد الذى إليهم يعزى وإليه يعزون، وبسيما شرفه يعرفون وباسمه يدعون. ونشير إلى حرمته العظيمة فى الحرمات، وما أنزل الله تعالى بمن بغاه بسوء أو أتى فيه بأمر مذموم مشنوء من أليم العقوبات وعظيم النقمات. لنخدم البلد كما خدمنا المحتد، ونقضى حق المكان الشريف كما قضينا حق الحسب التليد والطريف. حق نخلص إلى ذكر المولد المبارك الذى منه نتدرج إلى المقصود، الذى نحن عليه عاملون، ولتمامه آملون، رجاء أن نجد ذلك مذخورا عند المولى الذى يضاعف لعبيده الحسنات ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون. ذكر أولية بيت الله المحرم وركنه المستلم ومن تولى بناءه من ملائكته وأنبيائه صلى الله على جميعهم وسلم قال الله العظيم: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آل عمران: 96] .

وفى الصحيح من حديث أبى ذر الغفارى، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أى مسجد وضع فى الأرض أول؟ فقال له: «المسجد الحرام» قال: قلت: ثم أى؟ قال: «ثم المسجد الأقصى» قلت: كم بينهما؟ قال: «أربعون عاما» «1» . وذكر الزبير بن أبى بكر بإسناده إلى جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنه، قال: كنت مع أبى محمد بن على بمكة فى ليالى العشر قبل التروية بيوم أو يومين، وأبى قائم يصلى فى الحجر، وأنا جالس وراءه، فجاء رجل أبيض الرأس واللحية، جليل العظام بعيد ما بين المنكبين عريض الصدر، عليه ثوبان غليظان فى هيئة محرم، فجلس إلى جنبه، فخفف أبى الصلاة، فسلم ثم أقبل عليه، فقال له الرجل: يا أبا جعفر، أخبرنى عن بدء خلق هذا البيت كيف كان؟. فقال له أبو جعفر محمد بن على: ممن أنت يرحمك الله؟ قال: رجل من أهل الشام. فقال له محمد بن على: إن أحاديثنا إذا سقطت إلى الشام جاءتنا صحاحا، وإذا سقطت إلى العراق حجاءتنا وقد زيد فيها ونقص. ثم قال: بدء خلق هذا البيت أن الله تبارك وتعالى، قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فردوا عليه: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها الآية. وغضب عليهم، فعاذوا بالعرش، وطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم، فرضى عنهم وقال لهم: ابنوا لى فى الأرض بيتا فيعوذ به من سخطت عليه من بنى آدم ويطوفون حوله، كما فعلتم بعرشى، فأرضى عنهم. فبنوا له هذا البيت. فهذا يا عبد الله بدء خلق هذا البيت. فقال الرجل: يا أبا جعفر، فما بدء خلق هذا الركن؟. فقال: إن الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق، قال لبنى آدم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. وأقروا. وأجرى نهرا أحلى من العسل وألذ من الزبد، ثم أمر القلم فاستمد من ذلك النهر فكتب إقرارهم وما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم ألقم ذلك الكتاب هذا الحجر، فهذا الاستلام الذى ترى إنما هو بيعة على إقرارهم بالذى كانوا أقروا به.

_ (1) أخرجه البخارى (4/ 177، 197) ، مسلم فى صحيحه كتاب المساجد (1، 2) ، البيهقى فى السنن الكبرى (2/ 433) ، السيوطى فى الدر المنثور (2/ 52) ، ابن كثير فى التفسير (2/ 63، 5/ 409) ، القرطبى فى التفسير (4/ 137) ، أبو نعيم فى الحلية (4/ 216) .

وقال جعفر بن محمد: كان أبى إذا استلم الركن قال: اللهم أمانتى أديتها، وميثاقى وفيت به، ليشهد لى عندك بالوفاء. قال: وقام الرجل فذهب. قال جعفر بن محمد: فأمرنى أبى أن أرده عليه، فخرجت فى أثره وأنا أراه، يحول بينى وبينه الزحام، حتى دخل نحو الصفا، فتبصرته على الصفا فلم أره، ثم ذهبت إلى المروة فلم أره عليها، فجئت إلى أبى فأخبرته فقال لى أبى: لم تكن لتجده، وذلك الخضر عليه السلام؟!! وخرج الترمذى من حديث عبد الله بن عباس وصححه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بنى آدم» «1» . ومن حديث عبد الله بن عمرو، مرفوعا وموقوفا، قال: «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاآ ما بين المشرق والمغرب» «2» . ومن حديث ابن عباس أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحجر: «والله ليبعثه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما ولسان ينطق، يشهد على من استلمه بحق» «3» . وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى من حديث عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض فرأى سعتها ولم ير فيها أحدا غيره، قال: يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبح بحمدك ويقدسك غيرى؟ قال الله تعالى: إنى سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدى ويقدسنى، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى ويسبح فيها خلقى ويذكر فيها اسمى، وسأجعل من تلك البيوت بيتا أخصه بكرامتى وأوثره باسمى، فأسميه بيتى، وعليه وضعت جلالى، ثم أنا

_ (1) أخرجه الترمذى حديث رقم (877) ، ابن خزيمة فى صحيحه (2733) ، المتقى الهندى فى الكنز (34737) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (4/ 344) ، التبريزى فى مشكاة المصابيح (2577) . (2) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (2/ 213) ، الحاكم فى المستدرك (1/ 456) ، المتقى الهندى فى كنز العمال (34741) ، التبريزى فى مشكاة المصابيح (2579) ، السيوطى فى جمع الجوامع (5570) . (3) أخرجه الترمذى فى سننه حديث (961) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (4/ 276) ، المتقى الهندى فى الكنز (34723) .

مع ذلك فى كل شىء ومع كل شىء، أجعل ذلك البيت حرما آمنا، يتحرم بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه، فمن حرمه بحرمتى استوجب بذلك كرامتى ومن أخاف أهله فقد أخفر ذمتى وأباح حرمتى، أجعله أول بيت وضع للناس ببطن مكة مباركا، يأتونه شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق، يزجون بالتلبية زجيجا ويثجون بالبكاء ثجيجا، ويعجون بالتكبير عجيجا. فمن اعتمده لا يريد غيره فقد وفد إلى وزارنى وضافنى، وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه، وأن يسعف كلا بحاجته. تعمره يا آدم ما كنت حى، ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك، أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن «1» . وفى حديث غير هذا عن عطاء وقتادة، أن آدم عليه السلام، لما أهبطه الله من الجنة وفقد ما كان يسمعه ويأنس إليه من أصوات الملائكة وتسبيحهم، استوحش حتى شكا ذلك إلى الله تعالى فى دعائه وصلاته، فوجهه إلى مكة، وأنزل الله تعالى ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن. وقال الله: يا آدم، إنى قد أهبطت لك بيتا تطوف به، كما يطاف حول عرشى وتصلى عنده كما يصلى عند عرشى. فانطلق إليه آدم، فطاف به هو ومن بعده من الأنبياء، إلى أن كان الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى أمر الله إبراهيم عليه السلام ببناء البيت، فبناه، فذلك قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ الآية. وعن ابن عباس، أن الله أوحى إلى آدم: أن لى حرما بحيال عرشى، فانطلق فابن لى بيتا فيه، ثم حف به كما رأيت ملائكتى يحفون بعرشى، فهنالك أستجيب لك ولولدك، من كان منهم فى طاعتى. فقال آدم: أى رب، وكيف لى بذلك؟ لست أقوى عليه ولا أهتدى لمكانه. فقيض الله له ملكا فانطلق به نحو مكة، فكان آدم عليه السلام إذا مر بروضة ومكان يعجبه قال للملك: انزل بنا هاهنا. فيقول له الملك: أمامك. حتى قدم مكة، فبنى البيت من خمسة أجبل، من طور سيناء، وطور زيتا، ومن لبنان، والجودى، وبنى قواعده من حراء.

_ (1) أخرجه الطبرى فى التاريخ (1/ 131) .

فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات، فأراه المناسك كلها، التى يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكة، فطاف بالبيت أسبوعا ثم رجع إلى أرض الهند فمات بها. وفى رواية أنه حج من الهند أربعين حجة على رجليه. وذكر الواقدى عن أبى بكر بن سليمان بن أبى خيثمة العدوى قال: قلت لأبى جهم ابن حذيفة: يا عم، حدثنى عن بناء البيت ونزول إسماعيل عليه السلام الحرم. قال: يا ابن أخى سلنى عنه على نشاط منى فإنى أعلم من ذلك ما لا يعلمه غيرى. قال: فمكثت شهرا أذكره المرة بعد المرة، فيقول مثل قوله الأول، وكان قد كبر ورق وضعف، فدخلت عليه يوما وهو مسرور، فقال لى: اسمع حديثك الذى سألتنى عنه. إن البيت بناؤه حرم فى السماء السابعة وفى الأرض السابعة. يعنى أن ما يقابله حرم. وإن آدم عليه السلام، أمر بأساسه فبناه هو وحواء، أسساه بصخر أمثال الخلفات، يعنى النوق التى فى بطونها أجنة، واحدتها خلفة. أذن الله عز وجل للصخر أن يطيعهما. ثم نزل البيت من السماء من ذهب أحمر، وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك، فوضعوه على رأس آدم عليه السلام، ونزل الركن، وهو يومئذ درة بيضاء، فوضع موضعه اليوم من البيت، وطاف به آدم وصلى فيه. فلما مات آدم عليه السلام وليه بعده ابنه شيث، فكان كذلك حتى حجه نوح عليه السلام. فلما كان الغرق يعنى الطوفان، بعث الله جل ثناؤه سبعين ألف ملك فرفعوه إلى السماء، كى لا يصيبه الماء النجس، وبقيت قواعده، وجاءت السفينة فدارت به سبعا ثم دثر البيت، فلم يحجه من بين نوح وبين إبراهيم أحد من الأنبياء على جميعهم السلام «1» . وعن غير الواقدى فى غير حديث أبى الجهم، أن شيث بن آدم عليهما السلام، هو أول من بنى الكعبة، وأنها كانت قبل أن يبنيها خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم ويأنس بها لأنها أنزلت إليه من الجنة، وكان قد حج إلى موضعها من الهند. وفى الخبر أن موضعها كان غثاء على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض، فلما

_ (1) قد أورد الحافظ ابن كثير فى البداية والنهاية الكثير من الأخبار عن بناء البيت. انظرها فى البداية والنهاية (1/ 167- 170) .

بدأ الله خلق الأشياء، خلق التربة قبل السماء، فلما خلق السماء وقضاهن سبع سماوات، دحا الأرض، أى بسطها، وإنما دحاها من تحت الكعبة، فلذلك سميت مكة أم القرى. وذكر ابن هشام أن الماء لم يصل الكعبة حين الطوفان، ولكنه قام حولها، وبقيت هى فى هواء إلى السماء، وأن نوحا قال لأهل السفينة، وهى تطوف بالبيت: إنكم فى حرم الله عز وجل وحول بيته، فأحرموا لله ولا يمس أحد امرأة. وجعل بينهم وبين النساء حاجزا، فتعدى حام، فدعا عليه نوح بأن يسود الله لون بنيه، فأجابه الله على وفق ما دعاه، واسود كوش بن حام وولده إلى يوم القيامة. وقد قيل فى سبب دعوته غير هذا، فالله أعلم. ويروى أنه لما نضب ماء الطوفان، بقى مكان البيت ربوة من مدرة، فحج إليه بعد ذلك هود وصالح ومن آمن معهما، وأن يعرب قال لهود عليه السلام: ألا تبنيه؟ قال: إنما يبنيه نبى كريم يأتى من بعدى، يتخذه الرحمن خليلا. قال أبو الجهم، من حديث الواقدى «1» : حتى أراد الله بإبراهيم ما أراد، فولد له إسماعيل وهو ابن تسعين سنة، فكان بكر أبيه، فلما أراد الله عز وجل، أن يبوئ لإبراهيم مكان البيت وأعلامه، أوحى الله إليه يأمره بالمسير إلى بلده الحرام، فركب إبراهيم البراق، وحمل إسماعيل أمامه وهو ابن سنتين، وهاجر خلفه، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال له إبراهيم: بهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: لا. حتى قدم به مكة، وهى إذ ذاك عضاة وسلم وسمر، والعماليق يومئذ حول الحرم، وهم أول من نزل مكة ويكونون بعرفة، وكانت المياه يومئذ قليلة، وكان موضع البيت قد دثر وهو ربوة حمراء مدرة، وهو يشرف على ما حوله، فقال جبريل حين دخل من كداء «2» ، وهو الجبل الذى يطلعك على الحجون «3» والمقبرة: بهذا أمرت. قال إبراهيم: بهذا أمرت؟ قال: نعم.

_ (1) انظر ما ذكره ابن كثير فى البداية (1/ 159) . (2) كداء: بفتح أوله ممدود لا يصرف لأنه مؤنث، جبل بمكة، وهو عرفة وهى كلها موقف إلا عرنة فليست فى الحرم بينها وبين الحرم رمية حجر. انظر: الروض المعطار (490) ، معجم ما استعجم (4/ 1117، 1118) . (3) الحجون: بفتح الحاء، موضع بمكة عند المحصب، وهو الجبل المشرف بحذاء المسجد الذى يلى شعب الجزارين إلى ما بين الحوضين اللذين فى حائط عوف، وقيل: الحجون مقبرة أهل مكة تجاه دار أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه. انظر: الروض المعطار (188) .

ذكر مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين

فانتهى إلى موضع البيت، فعمد إبراهيم إلى موضع الحجر فآوى فيه هاجر وإسماعيل، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا، فلما أراد إبراهيم أن يخرج، ورأت أم إسماعيل أنه ليس بحضرتها أحد من الناس ولا ماء ظاهر، تركت ابنها فى مكانه وتبعت إبراهيم، فقالت: يا إبراهيم إلى من تدعنا؟ فسكت عنها، حتى إذا دنا من كداء قال: إلى الله عز وجل أدعكم. فقالت: فالله عز وجل أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: فحسبى تركتنا إلى كاف. وانصرفت هاجر إلى ابنها، وخرج إبراهيم حتى وقف على كداء، ولا بناء ولا ظل ولا شىء يحول دون ابنه، فنظر إليه، فأدركه ما يدرك الوالد من الرحمة لولده، فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. ثم انصرف إبراهيم راجعا إلى الشام، وعمدت هاجر فجعلت عريشا فى موضع الحجر من سمر وثمام ألقته عليه ومعها شن فيه شىء من ماء، فلما نفد الماء عطش إسماعيل وعطشت أمه، فانقطع لبنها، فأخذ إسماعيل كهيئة الموت، فظنت أنه ميت، فجزعت وخرجت جزعا أن تراه على تلك الحال، وقالت: يموت وأنا غائبة عنه أهون على، وعسى الله أن يجعل لى فى ممشاى خيرا. فانطلقت فنظرت إلى جبل الصفا، فأشرفت عليه تستغيث ربها عز وجل وتدعوه، ثم انحدرت إلى المروة، فلما كانت فى الوادى خبت حتى انتهت إلى المروة، فعلت ذلك سبع مرار، كلما أشرفت على الصفا نظرت إلى ابنها، فتراه على حاله، وإذا أشرفت على المروة فمثل ذلك. فكان ذلك أول ما سعى بين الصفا والمروة. وكان من قبلها يطوفون بالبيت ولا يسعون بين الصفا والمروة، ولا يقفون المواقف، حتى كان إبراهيم. فلما كان الشوط السابع ويئست سمعت صوتا، فاستمعت فلم تسمع إلا الأول، فظنت أنه شىء عرض لسمعها من الظمأ والجهد. فنظرت إلى ابنها فإذا هو يتحرك، فأقامت على المروة مليا، ثم سمعت الصوت الأول، فقالت: إنى سمعت صوتك فأعجبنى، فإن كان عندك خير فأغثنى، فإنى قد هلكت وهلك ما عندى.

فخرج الصوت يصوت بين يديها، وخرجت تتلوه قد قويت له نفسها، حتى انتهى الصوت عند رأس إسماعيل، ثم بدا لها جبريل، فانطلق بها حتى وقف على موضع زمزم، فضرب بعقبه مكان البئر، فظهر الماء فوق الأرض حين فحص بعقبه، وفارت بالرواء، وجعلت أم إسماعيل تحظر الماء بالتراب خشية أن يفوتها قبل أن تأتى بشنتها، فاستقت وبادرت إلى ابنها فسقته وشربت، فجعل ثدياها يتقطران لبنا، فكان ذلك اللبن طعاما وشرابا لإسماعيل، وكانت تجتزئ بماء زمزم، فقال لها الملك: لا تخافى أن ينفد هذا الماء، وأبشرى، فإن ابنك سيشب ويأتى أبوه من الشام، فتبنون ها هنا بيتا يأتيه عباد الله من أقطار الأرضين ملبين لله جل ثناؤه شعثا غبرا، فيطوفون به ويكون هذا الماء شرابا لضيفان الله عز وجل، الذين يزورون بيته. فقالت: بشرك الله بخير، وطابت نفسها، وحمدت الله عز وجل. ويقبل غلامان من العماليق يريدان بعيرا لهما أخطأهما، فقد عطشا وأهلهما بعرفة، فنظرا إلى طير يهوى قبل الكعبة فاستنكرا ذلك، وقالا: أنى يكون الطير على غير ماء؟ فقال أحدهما لصاحبه: أمهل حتى نبرد، ثم نسلك فى مهوى الطير. فأبردا ثم تروحا، فإذا الطير ترد وتصدر، فاتبعا الواردة منها حتى وقفا على أبى قبيس، فنظرا إلى الماء وإلى العريش، فنزلا وكلما هاجر وسألاها متى نزلت؟ فأخبرتهما، وقالا: لمن هذا الماء؟ فقالت: لى ولابنى. فقالا: من حفره؟ فقالت: سقيا الله جل ثناؤه. فعرفا أن أحدا لا يقدر على أن يحفر هناك ماء، وعهدهما بما هناك قريب وليس به ماء. فرجعا إلى أهلهما من ليلتهما، فأخبراهم، فتحولوا حتى نزلوا معها على الماء فأنست بهم، ومعهم الذرية، فنشأ إسماعيل مع ولدانهم. وكان إبراهيم يزور هاجر فى كل شهر على البراق يغدو غدوة فيأتى مكة، ثم يرجع فيقيل فى منزله بالشام. فزارها بعد، ونظر إلى من هناك من العماليق وإلى كثرتهم وغمارة الماء، فسر بذلك. ولما بلغ إسماعيل عليه السلام، تزوج امرأة من العماليق، فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل، وإسماعيل فى ماشية يرعاها ويخرج متنكبا قوسه، فيرمى الصيد مع رعيته، فجاء إبراهيم عليه السلام إلى منزله، فقال: السلام عليكم يا أهل البيت.

قال: فسكتت فلم ترد، إلا أن تكون ردت فى نفسها، فقال: هل من منزل؟ فقالت: لا هيم الله إذن، قال: فكيف طعامكم وشرابكم وشاؤكم؟ فذكرت جهدا، فقالت: أما الطعام فلا طعام، وأما الشاء فإنما نحلب الشاة بعد الشاة المصر، وأما الماء فعلى ما ترى من الغلظ، قال: فأين رب البيت؟ قالت: فى حاجته. قال: فإذا جاء فأقرئيه السلام، وقولى له غير عتبة بيتك. ورجع إبراهيم إلى منزله، وأقبل إسماعيل راجعا إلى منزله بعد ذلك بما شاء الله عز وجل، فلما انتهى إلى منزله سأل امرأته هل جاءك أحد؟ فأخبرته بإبراهيم وقوله وما قالت له، ففارقها وأقام ما شاء الله أن يقيم. وكانت العماليق هم ولاة الحكم بمكة فضيعوا حرمة الحرم واستحلوا منه أمورا عظاما ونالوا ما لم يكونوا ينالون، فقام فيهم رجل منهم يقال له عموق، فقال: يا قوم أبقوا على أنفسكم، فقد رأيتم وسمعتم من أهلك من هذه الأمم، فلا تفعلوا، تواصلوا ولا تستخفوا بحرم الله عز وجل وموضع بيته. فلم يقبلوا ذلك منه، وتمادوا فى هلكة أنفسهم. ثم إن جرهما وقطوراء، وهما أبناء عم خرجوا سيارة من اليمن، أجدبت البلاد عليهم، فساروا بذراريهم وأموالهم، فلما قدموا مكة رأوا فيها ماء معينا وشجرا ملتفا، ونباتا كثيرا، وسعة من البلاد، ودفئا فى الشتاء. فقالوا: إن هذا الموضوع يجمع لنا ما نريد. فأعجبهم ونزلوا به، وكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم، سنة فيهم جروا عليها واعتادوها ولو كانوا نفرا يسيرا. فكان مضاض بن عمرو على قومه من جرهم، وكان على قطوراء السميدع، رجل منهم. فنزل مضاض بمن معه من جرهم أعلى مكة بقعيقعان «1» فما حاز. ونزل السميدع بقطوراء أسفل مكة بأجياد «2» ، فما حاز.

_ (1) قعيقعان: جبل بأعلى مكة، قيل سمى قعيقعان لأن مضاض بن عمرو لما سار إلى السميدع معه كتيبة فيها عدتها من الرماح والدرق والسيوف تقعقع بذلك فسمى قعيقعان، والقصة طويلة. انظر: الروض المعطار (477) ، معجم ما استعجم (3/ 1086) . (2) أجياد: بفتح أوله وإسكان ثانية وبالياء أخت الواو والدال المهملة، كأنه جمع جيد، أحد جبال-

وذهبت العماليق إلى أن ينازعوهم أمرهم فعلت أيديهم على العماليق وأخرجوهم من الحرم كله، فصاروا فى أطرافه لا يدخلونه. وجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما فكثروا وأثروا، فكان مضاض يعشر، كل من دخل مكة من أعلاها، وكان السميدع يشعر كل من دخل من أسفلها، وكل على قومه لا يدخل أحدهما على صاحبه، وكانوا قوما عربا وكان اللسان عربيا. وكان إبراهيم يزور إسماعيل، فلما نظر إلى جرهم نظر إلى لسان عجيب وسمع كلاما حسنا، ونظر إسماعيل إلى رعلة بنت مضاض بن عمرو، فأعجبته فخطبها إلى أبيها فتزوجها. فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل، فجاء إلى بيت إسماعيل، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقامت إليه المرأة فردت عليه ورحبت به، فقال: كيف عيشكم ولبنكم وما شيتكم؟ فقالت خير عيش بحمد الله عز وجل، نحن فى لبن كثير ولحم كثير وماؤنا طيب، قال: هل من حب؟ قالت: يكون إن شاء الله ونحن فى نعم. قال: بارك الله لكم. قال أبو جهم: فكان أبى يقول: ليس أحد يخلى عن اللحم والماء بغير مكة إلا اشتكى بطنه، ولعمرى لو وجد عندنا حبا لدعا فيه بالبركة فكانت أرض زرع. ويقال: إن إبراهيم قال لها: ما طعامكم؟ قالت: اللحم واللبن. قال: فما شرابكم؟ قالت: اللبن والماء. قال: بارك الله لكم فى طعامكم وشرابكم، فاللبن طعام وشراب. قالت: فانزل رحمك الله فاطعم واشرب. قال: إنى لا أستطيع النزول. قالت: فإنى أراك شعثا أفلا أغسل رأسك وأدهنه؟ قال: بلى إن شئت. فجاءته بالمقام وهو يومئذ حجر رطب أبيض مثل المهاة، ملقى فى بيت إسماعيل، فوضع عليه قدمه اليمنى وقدم إليها رأسه وهو على دابته فغسلت شق رأسه الأيمن، فلما فرغت حولت له المقام حتى وضع قدمه اليسرى، وقدم إليها رأسه فغسلت شق رأسه الأيسر، فالأثر الذى فى المقام من ذلك. قال أبو الجهم: فقد رأيت موضع العقب والإصبع.

_ - مكة وهو الجبل الأخضر العالى بغربى المسجد الحرام، وفى رأسه منار يذكر أن أبا بكر رضى الله عنه أمر ببنائه ينادى عليه المؤذنون فى رمضان، يقابل من الكعبة الركن اليمانى يخرج إليه من باب إبراهيم عليه السلام، ويقابل قعيقعان من ناحية الغرب. انظر: الروض المعطار (12، 13) .

وعن الواقدى من غير حديث أبى الجهم أن أبا سعيد الخدرى سأل عبد الله بن سلام عن الأثر الذى فى المقام، فقال: كانت الحجارة على ما هى عليه اليوم إلا أن الله جل ثناؤه، أراد أن يجعل المقام آية من آياته. قال أبو الجهم: فلما فرغت يعنى المرأة، من غسل رأس إبراهيم عليه السلام، قال لها: إذا جاء إسماعيل فقولى له: أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة. فلما جاء إسماعيل قال: هل جاءك أحد بعدى؟ فأخبرته بإبراهيم وما صنعت به، ثم قال لها: هل قال لك أن تقولى لى شيئا؟ قالت: قال لى أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة. ففرح إسماعيل وقال: أتدرين من هو؟ قالت: لا. قال: هذا خليل الله إبراهيم أبى، وأما قوله: «أثبت عتبة بابك» فقد أمرنى أن أقرك وقد كنت على كريمة وقد ازددت على كرامة. فصاحت وبكت، فقال: ما لك؟ قالت: ألا أكون علمت بمن هو فأكرمه وأصنع به غير الذى صنعت! فقال لها إسماعيل: لا تبكى ولا تجزعى فقد أحسنت ولم تكونى تقدرين أن تفعلى فوق الذى فعلت، ولم يكن ليزيدك على الذى صنع بك. فولدت لإسماعيل عشرة ذكور أحدهم نابت «1» . فلما بلغ إسماعيل ثلاثين سنة وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة، أوحى الله جل ثناؤه إلى إبراهيم أن ابن لى بيتا. قال إبراهيم: أى رب أين أبنيه؟. فأوحى الله إليه: أن اتبع السكينة، وهى ريح لها وجه وجناحان ومع إبراهيم الملك والصرد. فانتهوا بإبراهيم إلى مكة، فنزل إسماعيل إلى الموضع الذى بوأه الله جل وعز، لإبراهيم، وموضع البيت ربوة حمراء مدرة مشرفة على ما حولها. فحفر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وليس معهما غيرهما، أساس البيت، يريدان أساس آدم الأول.

_ (1) قال ابن هشام فى السيرة (1/ 24- 28) : حدثنا زياد بن عبد الله البكائى، عن محمد بن إسحاق المطلبى، قال: ولد إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، اثنى عشر رجلا: نابتا، وكان أكبرهم، وقيذر، وأذبل، وميشا، ومسمغا، وماشى، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما، وأمهم: رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمى. قال ابن هشام: ويقال: مضاض، وجرهم بن قحطان، وقحطان أبو اليمن كلها، وإليه يجتمع نسبها، ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.

فحفرا عن ربض البيت يعنى حوله، فوجدا صخرة لا يطيقها إلا ثلاثون رجلا، وحفرا حتى بلغا أساس آدم ثم بنى عليه، وحلقت السكينة كأنها سحابة، على موضع البيت، فقالت: ابن علىّ. فلذلك لا يطوف بالبيت أحد أبدا، كافر ولا جبار، إلا رأيت عليه السكينة. فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت، فجعل طوله فى السماء تسع أذرع، وعرضه ثلاثين ذراعا، وطوله فى الأرض اثنين وعشرين ذراعا، وأدخل الحجر وهو سبعة أذرع فى البيت، وكان قبل ذلك زربا لغنم إسماعيل. وإنما بناه بحجارة بعضها على بعض، ولم يجعل له سقفا، وجعل له بابا وحفر له بئرا عند بابه خزانة للبيت، يلقى فيها ما أهدى للبيت وجعل الركن علما للناس. فذهب إسماعيل إلى الوادى يطلب حجرا، ونزل جبريل بالحجر الأسود، وكان قد رفع إلى السماء حين غرقت الأرض، كما رفع البيت، فنزل به جبريل فوضعه إبراهيم موضع الركن، وجاء إسماعيل بالحجر من الوادى فوجد إبراهيم قد وضع الحجر، فقال: من أين هذا؟ من جاءك به؟ قال إبراهيم: من لم يكلنى إليك ولا إلى حجرك «1» . وعن الواقدى أيضا من غير حديث أبى الجهم، أن يزيد بن رومان، قال: سمعت ابن الزبير يقول: إن إبراهيم عليه السلام ابتغى الحجر، فناداه من فوق أبى قبيس: ألا أنا هذا. فرقى إليه إبراهيم فأخذه، فوضعه موضعه الذى هو فيه اليوم. وكان الله جل ثناؤه لما غرقت الأرض استودع أبا قبيس الركن، وقال: إذا رأيت خليلى يا بنى لى بيتا فأعطه الركن فأعطاه الركن. وعن غير ابن الزبير أن أبا قبيس لذلك كان يسمى فى الجاهلية الأمين، لوفائه بما استودعه الله إياه.

_ (1) قال ابن كثير فى البداية باب بناء البيت العتيق: قال السدى: لما أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت، ثم لم يدريا أين مكانه حتى بعث الله ريحا يقال له الخجوج لها جناحان ورأس فى صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس، وذلك حين يقول تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ فلما بلغا القواعد بنيا الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: يا بنى، اطلب لى الحجر الأسود من الهند، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل النعامة، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبتى، من جاءك بهذا؟ قال: جاء به من هو أنشط منك. وانظر ما ورد فى ذكر بناء البيت فى البداية (1/ 167) وما بعدها.

قال أبو جهم: ولما فرغ إبراهيم من بناء البيت وأدخل الحجر فى البيت، جعل المقام لاصقا بالبيت عن يمين الداخل، فلما كانت قريش قصر الخشب عليهم، فأخرجوا الحجر، وكان ما أخرجوا منه سبعة أذرع. وأمر إبراهيم بعد فراغه من البناء أن يؤذن فى الناس بالحج، فقال: يا رب، وما يبلغ صوتى؟! قال الله جل ثناؤه: أذّن وعلىّ البلاغ. فارتفع على المقام وهو يومئذ ملصق بالبيت، فارتفع به المقام حتى كان أطول الجبال، فنادى وأدخل إصبعيه فى أذنيه، وأقبل بوجهه شرقا وغربا، يقول: أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربكم عز وجل. فأجابه من تحت البحور السبعة، ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها: لبيك اللهم لبيك. أفلا تراهم يأتون يلبون؟! فمن حج من يومئذ إلى يوم القيامة فهو ممن استجاب لله عز وجل. وذلك قول الله جل ثناؤه: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آل عمران: 97] يعنى نداء إبراهيم على المقام بالحج فهى الآية. قال الواقدى: وقد روى أن الآية هى أثر إبراهيم على المقام. قال أبو الجهم: فلما فرغ إبراهيم من الأذان ذهب به جبريل فأراه الصفا والمروة، وأقامه على حدود الحرم، وأمره أن ينصب عليها الحجارة، ففعل إبراهيم ذلك، وكان أول من أقام أنصاب الحرم، ويريه إياها جبريل. فلما كان اليوم السابع من ذى الحجة، خطب إبراهيم عليه السلام بمكة، حين زاغت الشمس قائما، وإسماعيل جالس، ثم خرجا من الغد يمشيان على أقدامهما يلبيان محرمين، مع كل واحد منهما إداوة يحملها وعصا يتوكأ عليها، فسمى ذلك اليوم يوم التروية. فأتيا منى فصليا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، وكانا نزلا فى الجانب الأيمن، ثم أقام حتى طلعت الشمس على ثبير، ثم خرج يمشى هو وإسماعيل حتى أتيا

عرفة، وجبريل معهما يريهما الأعلام، حتى نزلا بنمرة، وجعل يريه أعلام عرفات، وكان إبراهيم قد عرفها قبل ذلك، فقال إبراهيم: قد عرفت: فسميت عرفات. فلما زاغت الشمس خرج بهما جبريل عليه السلام، حتى انتهى بهما إلى موضع المسجد اليوم، فقام إبراهيم فتكلم بكلمات، وإسماعيل جالس، ثم جمع بين الظهر والعصر، ثم ارتفع بهما إلى الهضاب، فقاما على أرجلهما يدعوان إلى أن غابت الشمس وذهب الشعاع، ثم دفعا من عرفة على أقدامهما، حتى انتهيا إلى جمع فنزلا، فصلى إبراهيم المغرب والعشاء فى ذلك الموضع الذى يصلى فيه اليوم، ثم باتا حتى إذا طلع الفجر وقفا على قزح، فلما أسفر قبل طلوع الشمس دفعا على أرجلهما حتى انتهيا إلى محسر، فأسرعا حتى قطعاه ثم عادا إلى مشيهما الأول، ثم رميا جمرة العقبة بسبع حصيات حملاها من جمع، ثم نزلا من منى فى الجانب الأيمن، ثم ذبحا فى المنحر اليوم، وحلقا رؤسهما، ثم أقاما أيام منى يرميان الجمار حين تزيغ الشمس ماشيين ذاهبين وراجعين، وصدرا يوم الصدر فصليا الظهر بالأبطح، وكل هذا يريه جبريل عليه السلام. قال أبو الجهم: فلما فرغ إبراهيم من الحج انطلق إلى منزله بالشام، فكان يحج البيت كل عام، وحجته سارة، وحجه إسحاق ويعقوب والأسباط، والأنبياء هلم جرا. وحجه موسى بن عمران عليه السلام. روى الواقدى بإسناد له عن ابن عباس قال: مر موسى عليه السلام، بصفاح الروحاء يلبى، تجاوبه الجبال، عليه عباءتان قطوانيتان من عباء الشام. وعن جابر بن عبد الله قال: حج هارون نبى الله البيت، فمر بالمدينة يريد الشام، فمرض بالمدينة فأوصى أن يدفن بأصل أحد، ولا تعلم به يهود، مخافة أن ينبشوه فدفنوه فقبره هناك. وعن ابن عباس، أن الحواريين كانوا إذا بلغوا الحرم نزلوا يمشون حتى يأتوا البيت. وعن ابن الزبير: أن الحواريين خلعوا نعالهم حين دخلوا الحرم، إعظاما أن ينتعلوا فيه. ثم توفى الله خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بعد أن وجه إليه ملك الموت، فاستنظره إبراهيم، ثم أعاده إليه لما أراد الله قبضه، فأخبره بما أمر به، فسلم إبراهيم لأمر ربه عز وجل فقال له ملك الموت: يا خليل الله، على أى حال تحب أن أقبضك؟ قال: تقبضنى وأنا ساجد، فقبضه وهو ساجد، وصعد بروحه إلى الله عز وجل، ودفن إبراهيم عليه السلام بالشام «1» .

_ (1) قال ابن كثير: قد روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف، عن أخبار أهل الكتاب فى-

وعاش إسماعيل عليه السلام بعد أبيه ما عاش، وتوفى بمكة، فدفن داخل الحجر، مما يلى باب الكعبة، وهنالك قبر أمه هاجر، ودفن معها وكانت توفيت قبله. ولما توفى إسماعيل عليه السلام، ولى البيت بعده ابنه نابت، ولم يله أحد من ولده غيره. ثم مات فدفن فى الحجر مع أمه رعلة بنت مضاض. فولى البيت بعده جده مضاض بن عمرو، ثم أخواله من جرهم، وقاموا عليه، فكانوا هم ولاته وحجابه وولاة الأحكام بمكة. وكان البيت قد دخله السيل من أعلى مكة فانهدم، فأعادته جرهم على بناء إبراهيم، وجعلت له مصراعين وقفلا. قال ابن إسحاق: ثم إن جرهما وقطوراء بغى بعضهم على بعض وتنافسوا الملك بها، ومع مضاض يومئذ إسماعيل وبنو نابت وإليه ولاية البيت دون السميدع. فسار بعضهم إلى بعض، فخرج مضاض من قعيقعان فى كتيبته سائرا إلى السميدع، ومع كتيبته عدتها من الرماح والدرق والسيوف والجعاب يقعقع بذلك معه. فيقال: ما سمى قعيقعان قعيقعان إلا لذلك. وخرج السميدع من أجياد ومعه الخيل والرجال. فيقال: ما سمى أجياد أجيادا إلا لخروج الجياد من الخيل مع السميدع منه «1» . وغير ابن إسحاق يقول: إنما سمى أجياد لأن مضاضا ضرب فى ذلك الموضع أجياد مائة رجل من العمالقة. وقيل: بل أمر بعض الملوك غير مسمى بضرب رقاب فيه، فكان يقول لسيافه: توسط الأجياد. وهذا ونحوه أصح فى تسمية الموضع بأجياد، مما قال ابن إسحاق. قال: فالتقوا بفاضح «2» ، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل السميدع وفضحت قطوراء. فيقال: ما سمى فاضح فاضحا إلا بذلك.

_ - صفة مجىء ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخبارا كثيرة، الله أعلم بصحتها، وقد قيل: إنه مات فجأة، وكذا داود وسليمان، والذى ذكره أهل الكتاب وغيرهم خلاف ذلك، قالوا: ثم مرض إبراهيم عليه السلام، ومات عن مائة وخمس وسبعين، وقيل: وتسعين سنة، ودفن فى المغارة التى كانت بحبرون الحيثى، عند امرأته سارة، التى فى مزرعة عفرون الحيثى، وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد ورد ما يدل أنه عاش مائتى سنة، كما قاله ابن الكلبى. انظر البداية باب ذكر موته عليه السلام (1/ 178) وما بعدها. (1) انظر: السيرة (1/ 107- 108) . (2) فاضح: موضع بمكة. انظر الروض المعطار (ص 433) .

ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح، فساروا حتى نزلوا المطابخ «1» شعبا بأعلى مكة، فاصطلحوا به وأسلموا الأمر إلى مضاض. فلما رجع إليه أمر مكة فصار ملكها له، نحر للناس وأطعمهم، فاطبخ الناس وأكلوا. فيقال: ما سميت المطابخ إلا لذلك. وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما سميت بذلك لما كان تبع نحر بها وأطعم، وكان منزله. فكان الذى كان بين مضاض والسميدع أول بغى كان بمكة، فيما يزعمون. ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة، وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكام بمكة، لا ينازعهم ولد إسماعيل فى ذلك، لخؤولتهم وقرابتهم، وإعظاما للحرمة أن يكون بها بغى أو قتال. فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل، انتشروا فى البلاد، فلا يناوئون قوما إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم فوطئوهم. ثم إن جرهم بغوا بمكة، واستحلوا [خلالا] «2» من الحرمة، وظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذى يهدى لها، فرق أمرهم. فلما رأت ذلك بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة، أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة، فآذنوهم بالحرب. فاقتتلوا فغلبتهم بنو بكر وغبشان، فنفوهم من مكة. وكانت مكة فى الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا، ولا يبغى فيها أحد إلا أخرجته، فكانت تسمى الناسة، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه. فيقال: ما سميت ببكة «3» ، إلا أنها كانت تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا.

_ (1) المطابخ: موضع معروف بمكة. انظر: الروض المعطار (ص 543) . (2) ما بين المعقوفتين فى الأصول: «حلالا» ، وما أوردناه من السيرة. وخلال: جمع خلة وهى الخصلة. (3) قال ابن هشام فى السيرة (1/ 109) : أخبرنى أبو عبيدة: أن بكة اسم لبطن مكة؛ لأنهم يتباكون فيها، أى: يزدحمون، وأنشدنى: إذا الشريب أخذته أكه ... فخله حتى يبك بكه أى: فدعه حتى يبك إبله، أى يخليها إلى الماء، فتزدحم عليه، وهو موضع البيت والمسجد، وهذان البيتان لعامان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم.

فلم يزل أهلها على وجه الدهر يصونون جنابها ويحافظون على حرمتها. يقال: إنه اجتمع رأى بنى إسماعيل وخيارهم على أن لا يدعوا أحدا أحدث فى حرم الله حدثا إلا غربوه منه، ثم لم يرجع فيه. ويقال: بل كان ذلك مما سن لهم أولوهم، فصارت سنة فيهم يدينون بها، ثم خلف من خلف بعدهم على ذلك، يرون فيه رأيهم، وتكبر مواقعة الظلم فى حرم الله والتعدى به فى نفوسهم، ويعتقدون أن الباغى فيه معاقب فى دنياه فى نفسه وماله، وأن الحالف عند البيت حانثا مخوف عليه مما أصاب قبله ممن فعل فعله، وأن دعاء المظلوم عنده وخصوصا فى الشهر الحرام مجاب فى ظالمه، ويوثرون فى ذلك أشياء أراها الله إياهم، صونا لحرمه الكريم، وتنزيها لبيت خليله إبراهيم. ذكر الواقدى من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث، قال: عدا رجل من بنى كنانة بن هذيل على ابن عم له وظلمه واضطهده فناشده بالرحم وعظم عليه، فأبى إلا ظلمه، فقال: والله لألحقن بحرم الله فى هذا الشهر، ولأدعون الله عليك. فقال له ابن عمه مستهزئا به: هذه ناقتى فلانة، فأنا أفقرك ظهرها فاذهب فاجتهد. فأعطاه ناقة، وخرج حتى جاء الحرم فى الشهر الحرام، فقال: اللهم إنى أدعوك جاهدا مضطرا على ابن عمى فلان، ترميه بداء لا دواء له. ثم انصرف، فيجد ابن عمه قد رمى فى بطنه فصار مثل الزق، فمازال ينتفخ حتى انشق. قال عبد المطلب: لحدثت بهذا الحديث ابن عباس، فقال: أنا رأيت رجلا دعا على ابن عم له بالعمى، يعنى فى الحرم، فرأيته يقاد أكمة العميان. وعن ابن عباس، قال: سمعت عمر بن الخطاب يسأل رجلا من بنى سليم عن ذهاب بصره. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، كنا فى بنى ضبعاء عشرة، وكان لنا ابن عم، فكنا نظلمه ونضطهده، فكان يذكرنا بالله والرحم، وكنا أهل بيت نرتكب كل الأمور، فلما رأى ابن عمنا أنا لا نكف عنه ولا نرد إليه ظلامته، أمهل حتى دخلت الأشهر الحرم، انتهى إلى الحرم فجعل يرفع يديه إلى الله جل ثناؤه، ويقول: لاهم «1» أدعوك دعاء جاهدا ... اقتل بنى الضبغاء إلا واحدا

_ (1) لاهم: أى اللهم، والعرب تحذف منها الألف واللام للتخفيف.

ثم اضرب الرجل ودعه قاعدا ... أعمى إذا قيد يعنى القائدا قال: فمات إخوتى تسعة فى تسعة أشهر، فى كل شهر واحد، وبقيت أنا، فعميت، ورمانى الله عز وجل فى رجلى، وكمهت فليس يلائمنى قائد. قال ابن عباس: فسمعت عمر يقول: سبحان الله إن هذا لهو العجب! قال: وسمعت عمر يسأل ابن عمهم الذى دعا عليهم، فقال: دعوت عليهم كل ليلة رجب الشهر كله بهذا الدعاء، فأهلكوا فى تسعة أشهر وأصاب الباقى ما أصابه. قال ابن عباس: وعدا رجل على ابن عم له فاستاق ذودا له، فخرج يطلبه حتى أصابه فى الحرم، فقال: ذودى. فقال اللص: كذبت ليس لك. قال: فاحلف. قال: إذا أحلف. فحلف عند المقام بالله الخالق رب هذا البيت ما هن لك. فقيل له: لا سبيل لك عليه. فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطا يديه يدعو على صاحبه، فما برح مقامه يدعو عليه حتى دله فذهب عقله، فجعل يصيح بمكة: ما لى وللذود، ما لى ولفلان رب الذود. فبلغ ذلك عبد المطلب، فجمع الذود فدفعها إلى المظلوم فخرج بها، وبقى الآخر مدلها حتى تردى من جبل فمات فأكلته السباع. وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يقول: لو وجدت قاتل الخطاب فى الحرم ما هجته. وكان يقول: لأن أذنب بركبة سبعين ذنبا أحب إلى من أن أذنب ذنبا واحدا فى الحرم. وركبه خارج الحرم، محاذية لذات عرق. وذكر رضى الله عنه، يوما وهو خليفة ما كان يعاقب به من حلف ظلما، يعنى فى الحرم، زمن الجاهلية، فقال: إن الناس ليرتكبون ما هو أعظم منها ثم لا يعجل لهم من العقوبة مثل ما كان يعجل لأولئك، فما ترون ذلك؟ فقالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين. قال: إن الله جل ثناؤه، جعل فى الجاهلية، إذ لا دين حرمة حرمها وعظمها وشرفها، وجعل العقوبة لمن استحل شيئا مما حرم، ليتنكب عن انتهاك ما حرم مخافة

تعجيل العقوبة، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أو عدهم فيما انتهكوا مما حرم الساعة، فقال: وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر: 46] . فأخر العقاب إلى يوم القيامة، وأراهم الله الاستجابة بعضهم لبعص ليتناهوا عن الظلم، وأخر أهل الإسلام ليوم الجمع، ويستجب الله لمن يشاء، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين. ومن المشهور فى هذا الباب أمر إساف ونائلة، وهما صنما قريش اللذان أقاموهما على زمزم ينحرون عندهما. ذكروا أنهما كان رجلا وامرأة من جرهم، إساف بن بغى، ونائلة بنت ديك، فوقع إساف على نائلة فى الكعبة، فمسخهما الله حجرين. ويقال: أحدثا فيها فمسخهما الله؛ فالله أعلم. وأمرهما معدود فيما بلغت إليه جرهم من الاستخفاف بحرمة الحرم وقلة مبالاتهم بالبغى فيه، مع ما أراهم الله من عظيم الآية بمسخهما حجرين، فما نهاهم ذلك عن قبيح ما كانوا عليه، حتى أخرجهم الله عن جوار بيته بأيدى آخرين من عباده، فكان من أمرهم مع خزاعة ما كان. فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمى بغزالى الكعبة وبحجر الركن فدفنها فى زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن، وحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا. فقال عمرو بن الحارث بن مضاض فى ذلك، وليس بمضاض الأكبر: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر «1» بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالى والجدود العواثر «2» وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعز فما يحظى لدينا المكاثر ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا ... فليس لحى غيرنا ثم فاخر ألم تنكحوا من خير شخص علمته ... فأبناؤه منا ونحن الأصاهر

_ (1) هذه الأبيات ذكرها فى السيرة وذكر قبل هذا البيت: وقائلة والدمع سكب مبادر ... وقد شرقت بالدمع منها المحاجر انظر: السيرة (1/ 109) . (2) صورف الليالى: شدائدها. والجدود: هو البخت والحظ.

فإن تنثنى الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا وفيها التشاجر فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للناس تجرى المقادر أقول إذا نام الخلى ولم أنم ... إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر وبدلت منها أو جها لا أحبها ... قبائل منها حمير ويحابر وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة ... بذلك عضتنا السنون الغوابر فسحت دموع العين تبكى لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر وتبكى لبيت ليس يؤذى حمامه ... يظل به أمنا وفيه العصافر وفيه وحوش لا ترام أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادر وقال عمرو بن الحارث أيضا يذكر بكرا وغبشان وساكنى مكة الذين خلفوا فيما بعدهم: يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا حثوا المطى وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا قال ابن هشام: هذا ما صح له منها، وحدثنى بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل فى العرب، وأنها وجدت مكتوبة فى حجر باليمن ولم يسم لنا قائلها «1» . ثم إن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بنى بكر بن عبد مناة. وغبشان لقب، واسمه الحارث، وخزاعة يقال: إنهم من ولد قمعة بن إلياس بن مضر، وأن أباهم عمرو بن لحى، هو عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف، وخزاعة يأبون هذا النسب، ويقولون: إنهم من ولد كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن غسان. وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أريت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه فى النار، فسألته عمن بينى وبينه من الأمم، فقال: هلكوا» «2» .

_ (1) انظر: السيرة (1/ 111) . (2) أخرجه البخارى فى صحيحه (4/ 224، 6/ 69) ، كنز العمال للمتقى الهندى (34095) ، الخطيب البغدادى فى تاريخه (5/ 173) ، السيوطى فى الحاوى للفتاوى (2/ 375) ، الطحاوى فى مشكل الآثار (2/ 207) .

بيعة أبى بكر رضى الله عنه وما كان من تحيز الأنصار إلى سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة، ومنتهى أمر المهاجرين معهم

فقيل له: ومن عمرو بن لحى؟ قال: أبو هؤلاء الحى من خزاعة، وهو أول من غير الحنيفية دين إبراهيم، وأول من نصب الأوثان حول الكعبة «1» . فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا، فرسول الله أعلم وما قال فهو الحق. وعمرو بن ربيعة الذى تنتسب إليه خزاعة يقال: هو عمرو بن لحى، وإن حارثة بن ثعلبة بن عمرو خلف على أم لحى، ولحى هو ربيعة، بعد أن تأيمت من قمعة، ولحى صغير، فتبناه حارثة وانتسب إليه. فيكون النسب على هذا صحيحا بالوجهين، إلى قمعة بالولادة وفق ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، وإلى حارثة بن ثعلبة بالتبنى، والانتساب به موجود كثيرا فى العرب. فلما وليت خزاعة البيت حفظوه مما كانت جرهم استباحته، وتوافروا على تعظيمه والذب عنه، وكان الذى يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشانى، ثم قومه من بعده، وقريش إذ ذاك حلول وصرم «2» متقطعون وبيوتات متفرقون فى قومهم من بنى كنانة. فأقامت خزاعة على ولاية البيت، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعى. وبعده انتقلت ولاية البيت إلى قصى بن كلاب. وكان من حديث قصى «3» أنه لما هلك أبوه كلاب بن مرة، خلف ولديه زهرة وقصيا، مع أمهما فاطمة بنت سعد بن سيل من عذرة، وزهرة يومئذ رجل، وقصى فطيم، فقدم مكة بعد مهلك كلاب حاج مع قضاعة فيهم ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد كبير بن عذرة، فتزوج فاطمة بنت سعد فاحتملها إلى بلاده، فاحتملت ابنها قصيا لصغره، وأقام زهرة فى قومه. فولدت فاطمة لربيعة رزاحا، فكان أخا قصى لأمه، وكان لربيعة بنون ثلاثة من امرأة أخرى، وهم: حن ومحمود وجلهمة، بنو ربيعة.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 81) (2) قال فى اللسان (مادة صرم) : الصرم بالكسر: الأبيات المجتمعة المنقطعة من الناس، وهو الفرقة من الناس ليسوا بالكثير والجمع أصرم وأصاريم وصرمان. (3) انظر: السيرة (1/ 115- 120) .

وأقام قصى بأرض قضاعة لا ينسب إلا إلى ربيعة بن حرام. فناضل يوما رجلا من قضاعة يدعى رفيعا، فنضله قصى، وهو يومئذ شاب، فغضب المنضول، فوقع بينهما حتى تقاولا وتنازعا، فقال رفيع: ألا تلحق ببلدك وبقومك، فإنك لست منا!. فرجع قصى إلى أمه، وقد وجد فى نفسه مما قال، فسألها عن ذلك فقالت: أو قد قال هذا؟ أنت والله يا بنى أكرم منه نفسا ووالدا ونسبا وأشرف منزلا، أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشى، وقومك بمكة عند البيت الحرام وفيما حوله، تفد العرب إلى ذلك البيت، وقد قالت لى كاهنة رأتك: هذا يلى أمرا جليلا، فطب نفسا. فأجمع قصى الخروج إلى قومه واللحوق بهم، وكره الغربة بأرض قضاعة، وضاق ذرعا بالمقام فيهم، فقالت له أمه: لا تعجل حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج فى حاج العرب، فإنى أخشى عليك أن يصيبك بعض الناس. فأقام قصى حتى إذا دخل الشهر الحرام وخرج حاج قضاعة خرج معهم، وهم يظنون أنه إنما يريد الحج ثم يرجع إلى بلاده، حتى قدم مكة، فلما فرغ من الحج أقام بها، وعالجه القضاعيون على الخروج معهم فأبى. وكان رجلا جلدا نهدا نسيبا، فلم ينشب أن خطب إلى حليل بن حبشية ابنته حبى، فعرف حليل النسب ورغب فى الرجل فزوجه، وحليل يومئذ يلى أمر مكة والحكم فيها وحجابة البيت. فأقام قصى معه بمكة، وولدت له حبى بنيه عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبدا. فلما انتشر ولد قصى وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل، فرأى قصى أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبنى بكر، وأن قريشا قرعة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وصريح ولده. فكلم رجالا من قريش وبنى كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبنى بكر من مكة، فأجابوه إلى ذلك، فكتب عند ذلك قصى إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة، يدعوه إلى نصرته والقيام معه، فخرج رزاح ومعه إخوته لأبيه، حن ومحمود وجلهمة، فيمن تبعهم من قضاعة فى حاج العرب، وهم مجمعون لنصر قصى والقيام معه.

فلما اجتمع الناس بمكة وفرغوا من الحج ولم يبق إلا أن يصدر الناس، كان أول ما تعرض له قصى من المناسك أمر الإجازة للناس بالحج. وكانت صوفة هى التى تلى ذلك مع الدفع بهم من عرفة ورمى الجمار، وهم ولد الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر «1» . والغوث هو أول من ولى ذلك منهم. وذلك أن أمه كانت امرأة من جرهم، وكانت لا تلد، فنذرت لله إن هى ولدت ولدا أن تصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها ويقوم عليها، فولدت الغوث وكان يقوم على الكعبة فى الدهر الأول مع أخواله من جرهم، فولى الإجازة بالناس من عرفة لمكانه الذى كان به من الكعبة، وولده من بعده حتى انقرضوا. فقال مر بن أد أبو الغوث لوفاء نذر أمه: إنى جعلت رب من بنيه ... ربطة بمكة العليه فباركن لى بها إليه ... واجعله لى من صالح البريه وكان الغوث بن مر، زعموا، إذا دفع بالناس قال: لا هم إنى تابع تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعه وذلك أن قضاعة كان منهم أحياء يستحلون الحرمة فى الجاهلية، فكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيز بهم إذا نفروا من منى إذا كان يوم النفر أتوا لرمى الجمار، ورجل من صوفة يرمى للناس، لا يرمون حتى يرمى، فكان ذوو الحاجات المتعجلون يأتونه فيقولون له: قم فارم حتى نرمى معك. فيقول: لا والله حتى تميل الشمس. فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيل يرمونه بالحجارة ويستعجلونه بذلك، ويقولون له: ويلك قم فارم بنا. فيأبى عليهم، حتى إذا مالت الشمس قام فرمى ورمى الناس معه. فإذا فرغوا من رمى الجمار وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بجانبى العقبة فحبسوا الناس وقالوا: أجيزى «2» صوفة. فلم يجز أحد من الناس حتى يرموا، فإذا نفذت صوفة ومضت خلى سبيل الناس فانطلقوا بعدهم، فكانوا كذلك حتى انقرضوا.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 116) . (2) أجيزى: جزت الطريق وجاز الموضع: أى سار فيه وسلكه، وأجازه: حلفه وقطعه، وأجازه: أنفذه. انظر: اللسان (مادة جوز) .

فورثهم ذلك من بعدهم بالقعدد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم، وكانت من بنى سعد فى آل صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد. فكان صفوان هو الذى يجيز للناس بالحج من عرفة، ثم بنوه من بعده، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام كرب بن صفوان. وفى ذلك يقول ابن مغراء السعدى: لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا فأما قول ذى الإصبع العدوانى، واسمه حرثان بن عمرو، وقيل له ذو الإصبع لحية لدغته فى إصبعه فقطعها: عذير الحى من عدوا ... ن كانوا حية الأرض «1» بغى بعضهم ظلما ... فلم يرع على بعض ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض ومنهم من يجيز النا ... س بالسنة والفرض ومنهم حكم يقضى ... فلا ينقض ما يقضى وإنما قال ذلك لأن الإفاضة من المزدلفة كانت فى عدوان، وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام أبو سيارة عميلة بن الأعزل. قال حويطب بن عبد العزى: رأيت أبا سيارة يدفع بالناس من جمع على أتان له عقوق. وذكروا أنه أجاز عليها أربعين سنة «2» . قالوا: وكان إذا وقف بالناس قال: اتقوا الله ربكم، وأصلحوا أموالكم، واحفظوا جيرانكم، وقاتلوا أعداءكم، اللهم حبب بين نسائنا، وبغض بين رعائنا، واجعل أمر الناس بأيدى صالحائنا؛ ثم يقول: أفيضوا على بركة الله. وفيه يقول شاعر من العرب: نحن دفعنا عن أبى سياره ... وعن مواليه بنى فزاره

_ (1) حية الأرض: يقال حية فلان وحية الوادى، إذا كان مهيبا شديد الشكيمة حاميا لحوزته، أراد أنهم كانوا ذوى إرب وشدة لا يضيعون ثأرا. انظر: اللسان (مادة حيا) . (2) انظر: السيرة (1/ 114) .

حتى أجاز سالما حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره قوله: «حكم يقضى» يعنى عامر بن ظرب العدوانى، وكانت العرب لا يكون بينها ثائرة ولا عضلة «1» فى قضاء إلا أسندوا ذلك إليه ثم رضوا بما قضى فيه. فاختصم إليه، فى بعض ما كانوا يختلفون فيه، فى رجل خنثى له ما للرجل وله ما للمرأة، أيجعله رجلا أو امرأة؟ ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه. فقال: حتى أنظر فى أمركم، فو الله ما نزل بى مثل هذه منكم يا معشر العرب. فاستأخروا عنه، فبات ليلته ساهرا يقلب أمره وينظر فى شأنه فلا يتوجه له من وجه، وكانت له جارية يقال لها: سخيلة، ترعى عليه غنمه، فكان يعاتبها إذا سرحت فيقول: صبحت والله يا سخيل. وإذا راحت عليه يقول: مسيت والله يا سخيل. وذلك أنها كانت تؤخر السرح حتى يسبقها بعض الناس، وتؤخر الإراحة حتى يسبقها بعض الناس. فلما رأت سهره وقلة قراره على فراشه قالت: ما لك لا أبالك! ما عراك فى ليلتك هذه؟! قال: ويلك دعينى، أمر ليس من شأنك. ثم عادت له بمثل قولها، فقال فى نفسه: عسى أن تأتى مما أنا فيه بفرج. فقال: ويحك، اختصم إلى فى ميراث خنثى، أأجعله رجلا أو امرأة؟ فو الله ما أدرى ما أصنع وما يتوجه لى فيه وجه. فقالت: سبحان الله! لا أبالك! اتبع القضاء المبال، أقعده، فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة. قال: مسى سخيل بعدها أو ضحى، فرجتها والله. ثم خرج على الناس حين أصبح، فقضى بالذى أشارت إليه «2» . وهذا كله من الخبر معترض قطع اتصال حديث صوفة وقصى، فنرجع الآن إليه ونصله بموضع انقطاعه. حيث ذكر أن صوفة هى التى كانت تلى الإجازة بالناس من منى والدفع بهم من عرفة، وأن قصيا عزم على انتزاع ذلك من أيديهم والقيام به دونهم، واستدعى لمظاهرته على ذلك أخاه رزاحا فوصله مع من ذكر وصوله معه. فلما كان ذلك العام فعلت صوفة مثل ما كانت تفعل، قد عرفت ذلك لها العرب، وهو دين فى أنفسهم من عهد جرهم وخزاعة.

_ (1) العضلة: الأمر الشديد، وقيل: الإعوجاج، والعضلة أيضا من أسماء الداهية. (2) انظر: السيرة (1/ 115) .

فأتاهم قصى بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقال: لنحن أولى بهذا الأمر منكم. فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة وغلبهم قصى على ما كان بأيديهم من ذلك. وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصى، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا عنه بادأهم وأجمع لحربهم، وخرجت له خزاعة وبنو بكر فالتقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا بالأبطح، حتى كثرت القتلى فى الفريقين جميعا، وفشت الجراح فيهم وأكثر ذلك فى خزاعة. ثم إنهم تداعوا إلى الصلح وإلى أن يحكموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر ابن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن قصى. فقضى بينهم أن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصى من خزاعة وبنى بكر موضوع يشدخه «1» تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلى بين قصى وبين الكعبة ومكة. فسمى يعمر بن عوف يومئذ الشداخ، لما شدخ من الدماء، ووضع منها، ويقال: الشداح أيضا. فولى قصى البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، إلا أنه قد أقر العرب على ما كانوا عليه، وذلك أنه كان يراه دينا فى نفسه لا ينبغى تغييره. فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومرة بن عوف على ما كانوا عليه؛ حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله «2» . وبنو مرة بن عوف هم أهل البسل وقد تقدم ذكرهم. وأما النسأة «3» فهم بنو فقيم بن عدى بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.

_ (1) يشدخه: الشدخ الكسر فى كل شىء رطب، وقيل: هو التهشيم يعنى به كسر اليابس وكل أجوف. وقال الليث: الشدخ كسرك الشىء الأجوف كالرأس ونحوه. انظر: اللسان (مادة اشدخ) . (2) انظر: السيرة (1/ 116) . (3) انظر: السيرة (1/ 54) .

وهم الذين كانوا ينسأون الشهور على العرب فى الجاهلية، فيحلون الشهر من أشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر، ففيه أنزل الله سبحانه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [التوبة: 37] . وكان أول من نسأ الشهور منهم على العرب، فأحلت منها ما أحل وحرمت منها ما حرم: القلمس، وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدى، وتوارث ذلك بنوه من بعده، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة، وهو القلمس. قال الزبير: وكان أبعدهم ذكرا وأطولهم أمرا، يقال: إنه نسأ أربعين سنة. وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فحرم الأشهر الحرم الأربعة: رجبا، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم. فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم فأحلوه، وحرم مكانه صفرا فحرموه، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم. فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال: اللهم إنى قد أحللت أحد الصفرين، الصفر الأول، ونسأت الآخر للعام المقبل. وفى ذلك يقول عمير بن قيس، جذل الطعان، أحد بنى فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، يفخر بالنسأة على العرب: لقد علمت معد أن قومى ... كرام الناس إن لهم كراما «1» فأى الناس فاتونا بوتر ... وأى الناس لم نعلك لجاما «2» ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما فهذا كان شأن النسأة فى الجاهلية، فأقره قصى على ما كان عليه، مع سائر ما ذكر إقراره العرب عليه، حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله. فكان قصى أول بنى كعب بن لؤى أصاب ملكا أطاع له به قومه، فكانت إليه

_ (1) أن لهم كراما: أراد أن لهم آباء كراما أو أخلاقا كراما. (2) الوتر: قيل طالب الثأر، وقيل: هو الظلم فى الزّحل، وقيل هو الزحل عامة. وقوله: لم نعلك لجاما: أى لم نزجرهم كما ينزجر الفرس باللجام. وتقول: أعلكت الفرس لجامه، إذا رددته من نشاطه فعلك اللجام.

الحجابة والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء. فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة رباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التى أصبحوا عليها. ويزعم الناس أن قريشا هابوا قطع الشجر من الحرم فى منازلهم، فقطعها قصى بيده وأعوانه؛ فسمته قريش مجمعا، لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره، فما تنكح امرأة ولا يزوج رجل من قريش، ولا يشاورون فى أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواء لحرب قوم غيرهم إلا فى داره، يعقده لهم بعض ولده، ولا يعذر غلام إلا فى داره، ولا تدرع جارية «1» من قريش إلا فى داره، يشق عليها فيها درعها إذا بلغت ذلك، ثم تدرعه ثم ينطلق بها إلى أهلها. ولا تخرج عير من قريش فيرحلون إلا من داره، ولا يقدمون إلا نزلوا فى داره. فكان أمره فى قريش فى حياته ومن بعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره. واتخذ لنفسه الندوة، وجعل بابها إلى المسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضى أمورها. ولما فرغ قصى من حربه انصرف أخوه رزاح إلى بلاده بمن معه من قومه، فلما استقر فى بلاده نشره الله ونشر حبا، فهما قبيلا عذرة اليوم. فهذا حديث قصى فى ولاية البيت بعد حليل بن حبشية وإخراج خزاعة عنه «2» . وخزاعة تزعم أن حليلا أوصى بذلك قصيا وأمره به حين انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر، وقال: أنت أولى بالكعبة وبالقيام عليها وبأمر مكة من خزاعة فعند ذلك طلب قصى ما طلب. قال ابن إسحاق: ولم يسمع ذلك من غيرهم؛ فالله أعلم. وقد ذكر الواقدى الأمرين على نحو ما ذكر ابن إسحاق. قال: وقد سمعنا فى ذلك وجها آخر، ذكر أن أبا غبشان رجلا من خزاعة، كان ولى الكعبة فباع حجابتها من قصى بن كلاب بيعا. وذكر غيره أنه باع منه مفتاح الكعبة بزق خمر. فلذلك قيل: أخسر صفقة من أبى غبشان.

_ (1) تدرع جارية: من درع: ودرع المرأة: قميصها وهو أيضا الثوب الصغير فى بيتها والجمع أدرع. وفى التهذيب: الدرع: ثوب تجوب المرأة وسطه وتجعل له يدين وتخيط فرجته. انظر: اللسان (مادة درع) . (2) انظر: السيرة (1/ 115) .

ذكر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه، وما يتصل بذلك من أمره صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته

وذكر الواقدى أيضا بإسناد له، أن رجلا من قضاعة يقال له: أبو الشموس؛ حدث عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو خليفة حديث قصى بن كلاب، وكيف استعان بإخوته على خزاعة، فاستمع له عمر وتعجب لأول الحديث وقال: ذكرتنا أمرا كان دثر منا، فالحمد لله رب العالمين، إن الله عز وجل ليصنع لهذا الحى من قريش، وهم أولى الناس أن يتقوا الله وتحسن سيرة من ولى منهم، بصنع الله لهم، جعل فيهم الإمامة وقبل ذلك النبوة. قالوا: فلما كبر قصى ورق، وكان عبد الدار بكره، وكان عبد مناف قد شرف فى زمان أبيه وذهب كل مذهب، وعبد العزى وعبد، قال قصى لعبد الدار: أما والله يا بنى لألحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك. لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له، ولا يعقد لقريش لواء إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الحرم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا فى دارك. فأعطاه دار الندوة التى لا تقضى قريش أمرا من أمورها إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة. وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش فى كل موسم من أموالها إلى قصى بن كلاب، فيصنع به طعاما للحاج فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد «1» . وذلك أن قصيا فرضها على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم، وإن الحجاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم» . ففعلوا، فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاما للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره فى الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام، ثم جرى فى الإسلام إلى يومنا هذا، فهو الطعام الذى يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضى الحج. فمضى أمر قصى فى عبد الدار ابنه، وجعل إليه كل ما كان بيده من أمر قومه؛ وكان قصى لا يخالف ولا يرد عليه شىء صنعه.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 120) .

ثم إن قصيا هلك، فأقام أمره فى قومه وفى غيرهم بنوه من بعده. فاختطوا مكة رباعا بعد الذى كان قصى قطع لقومه بها، فكانوا يقطعونها فى قومهم وفى غيرهم من حلفائهم ويبيعونها. فأقامت قريش على ذلك معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع «1» . ثم إن بنى عبد مناف بن قصى: عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا أجمعوا أن يأخذوا ما فى يدى بنى عبد الدار بن قصى مما كان قصى جعل إلى عبد الدار من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم فى قومهم، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة منهم مع بنى عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحق به من بنى عبد الدار لمكانهم فى قومهم، وكانت طائفة مع بنى عبد الدار يرون ألا ينزع منهم ما كان قصى جعل إليهم. فكان صاحب أمر بنى عبد مناف، عبد شمس بن عبد مناف؛ وذلك أنه كان أسنهم. وكان صاحب أمر بنى عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. وكانت بنو أسد بن عبد العزى بن قصى، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة ابن كعب، وبنو الحارث بن فهر مع بنى عبد مناف. وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص، وبنو عدى بن كعب مع بنى عبد الدار. وخرجت عامر بن لؤى ومحارب بن فهر، فلم يكونوا مع واحد من الفريقين. فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة «2» . فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا «3» فوضعوها لأحلافهم فى المسجد عند

_ (1) انظر: السيرة (1/ 120) (2) قال فى اللسان (مادة صوف) : صوف البحر شىء على شكل هذا الصوف الحيوانى واحدته صوفة، ومن الأبديات قولهم: لا آتيك ما بل بحر صوفة. (3) قال فى السيرة: يزعمون أن بعض نساء بنى عبد مناف قد أخرجته لهما، ولم يسمها. وقال السهيلى فى الروض الأنف: سماها الزبير فى موضعين من كتابه فقال: هى أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه. انظر: الروض الأنف (1/ 153) .

الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، فسموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدواهم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا الأحلاف. ثم سوند بين القبائل ولز بعضها ببعض، فعبئت عبد مناف لبنى سهم، وعبئت بنو أسد لبنى عبد الدار، وعبئت زهرة لبنى جمح، وعبئت تيم لبنى مخزوم، وعبئت بنو الحارث بن فهر لبنى عدى، ثم قالوا: لتغن كل قبيلة من أسند إليها. فبينما الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بنى عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبنى عبد الدار كما كانت، ففعلوا، ورضى كل واحد من الفريقين بذلك، وتحاجز الناس عن الحرب، وثبت كل قوم مع من حالفوا، حتى جاء الله بالإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان من حلف فى الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة» «1» . فهذا حلف المطيبين «2» . وقد كان فى قريش حلف آخر بعده، وهو حلف الفضول «3» ، تداعت إليه قبائل من قريش، فاجتمعوا إليه فى دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، لشرفه وسنه، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول. واختلف فى السبب الذى دعا قريشا إلى هذا الحلف، ولم سمى بهذا الاسم، فأما ما

_ (1) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (6/ 335) . (2) انظر: السيرة (1/ 120- 122) . (3) قال السهيلى فى الروض الأنف (1/ 155) : قال ابن قتيبة: كان قد سبق قريشا إلى مثل هذا الحلف جرهم فى الزمن الأول، فتحالف منهم ثلاثة هم ومن تبعهم، أحدهم: الفضل بن فضالة، والثانى: الفضل بن وداعة، والثالث: فضيل بن الحارث، هذا قول القتبى. وقال الزبير: الفضيل ابن شراعة، والفضل بن وداعة، والفضل بن قطاعة، فلما أشبه حلف قريش الآخر فعل هؤلاء الجرهميين سمى: حلف الفضول، والفضول جمع فضل، وهى أسماء أولئك الذين تقدم ذكرهم، وهذا الذى قال ابن قتيبة حسن.

دعاهم إليه، فذكر الزبير وغيره أن رجلا من أهل اليمن من بنى زبيد قدم مكة معتمرا ومعه بضاعة له، فاشتراها رجل من بنى سهم، ويقال: إنه العاص بن وائل، فلوى الرجل بحقه، فسأله ماله فأبى عليه، وسأله متاعه فأبى عليه، فجاء إلى بنى سهم يستعديهم عليه، فأغلظوا له، فعرف أن لا سبيل إلى ماله، فطوف فى قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل عنه، فلما رأى ذلك قام على الحجر، ويقال: بل أشرف على أبى قبيس حين أخذت قريش مجالسها ثم نادى بأعلى صوته ثم قال: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائى الدار والنفر وأشعث محرم لم يقض حرمته ... بين الإله وبين الحجر والحجر أقائم من بنى سهم بذمتهم ... أم ذاهب فى ضلال مال معتمر فلما سمعت ذلك قريش أعظموه وتكلموا فيه، فقال المطيبون: والله لئن قمنا فى هذا لتغضبن الأحلاف، وقال الأحلاف: والله لئن تكلمنا فى هذا ليغضبن المطيبون. فقال ناس من قريش: تعالوا فلنكن حلفا فضولا دون المطيبين ودون الأحلاف، فلذلك قيل له: حلف الفضول. فاجتمعوا فى دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم طعاما كثيرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل أن يوحى إليه، فاجتمعت بنو هاشم وبنو المطلب وزهرة وأسد وتيم، فتحالفوا على أن لا يظلم بمكة قريب ولا غريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه، حتى يأخذوا له بحقه ويردوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم، ثم عمدوا إلى ماء من ماء زمزم فجعلوه فى جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت فيه أركانه، ثم أتوا به فشربوه، ثم انطلقوا إلى الرجل الذى تعدى على الرجل المستصرخ، العاص بن وائل أو غيره. فقالوا: والله لا نفارقك حتى تؤدى إليه حقه. فأعطى الرجل حقه، فمكثوا كذلك لا يظلم أحد حقه بمكة إلا أخذوه له، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو أدعى به فى الإسلام لأجبت» «1» . وحكى الزبير أيضا أنه إنما سمى حلف الفضول لأنهم تحالفوا على أن لا يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه. وقيل: إنما سمى بذلك لأنه لما تداعى له من ذكر من قبائل قريش كره ذلك سائر المطيبين والأحلاف بأسرهم، وسموه حلف الفضول، عيبا

_ (1) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (6/ 167) ، القرطبى فى تفسيره (6/ 33، 10/ 169) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (2/ 291) .

له، وقالوا: هذا من فضول القوم. وقيل: بل كان هذا الحلف على مثل حلف تقدم إليه نفر من جرهم يقال لهم: الفضل وفضال والفضيل، فسمى لذلك هذا الآخر حلف الفضول، وأيا ما كان من ذلك، فهى مأثره لقريش من مآثرها الكرام، وآثارها العظام، نالتهم فيه بركة حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو وإن كان فعلا جاهليا دعتهم السياسة إليه، فقد صار لحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم له وما قاله بعد النبوة فيه وأكده من أمره، حكما شرعيا وفعلا نبويا. وقد نشأ بين حسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما، وبين الوليد بن عتبة بن أبى سفيان زمن معاوية، والوليد يومئذ أمير المدينة من قبله منازعة فى مال كان بينهما بذى المروة، فكأن الوليد تحامل على حسين فى حقه لسلطانه، فقال له حسين: أحلف بالله لتنصفنى من حقى أو لآخذن سيفى ثم لأقومن فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير وهو عند الوليد: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفى ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا. وبلغت المسور بن مخرمة الزهرى فقال مثل ذلك. وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمى فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد أنصف الحسين من حقه حتى رضى. ولم تكن بنو عبد شمس دخلت فى هذا الحلف. وقد سأل عبد الملك بن مروان عن ذلك محمد بن جبير بن مطعم إذ قدم عليه حين قتل ابن الزبير، واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، وكان محمد بن جبير أعلم قريش، فلما دخل عليه قال: يا أبا سعيد، ألم نكن نحن وأنتم، يعنى بنى عبد شمس وبنى نوفل ابنى عبد مناف، فى حلف الفضول؟ قال: أنت أعلم. قال عبد الملك: لتخبرنى يا أبا سعيد بالحق من ذلك. فقال: لا والله، لقد خرجنا منه نحن وأنتم. قال: صدقت. فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس، حتى أدخل فى حلف الفضول. وكانت لقريش أحلام عظام، كانوا منها فى جاهليتهم على مثل السلطان الضابط، عناية من الله بهم ومنا منه سبحانه عليهم، هم سكان الحرم، وأهل الله وحجاب بيته، وأهل السقاية والرفادة والرياسة واللواء والندوة ومكارم مكة، وكانوا على إرث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما، من قرى الضيف ورفد الحاج وتعظيم

الحرم ومنعه من البغى فيه والإلحاد، وقمع الظالم ومنع المظلوم. إلا أنه دخلت على أوليتهم أحداث غيرت أصول الحنيفية عندهم، وطال الزمان حتى أفضى ذلك بهم إلى جهالات بشرائع الدين وضلالات عن سنن التوحيد فتدارك الله ذلك كله بنبيه صلى الله عليه وسلم، فهدى من الضلالة وعلم من الجهالة. فيقال: إنه كان أول من غير الحنيفية دين إبراهيم ونصب الأوثان حول الكعبة ودعا إلى عبادتها: عمرو بن لحى بن قمعة بن إلياس بن مضر. روى أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعى: «يا أكثم، رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه فى النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه» . فقال أكثم: عسى أن يضرنى بشبهه يا نبى الله، قال: «لا، لأنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامى» «1» . فالبحيرة «2» : عند العرب الناقة تشق أذنها ولا يركب ظهرها ولا يجزّ وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، أو يتصدق به، وتهمل لآلهتهم. والسائبة: التى ينذر الرجل إن برئ من مرضه أو أصاب أمرا يطلبه أن يسيبها ترعى لا ينتفع بها. والوصيلة: التى تلد أمها اثنين فى كل بطن، فيجعل صاحبها لآلهته الإناث منها ولنفسه الذكور، فتلدها أمها ومعها ذكر فى بطن فيقولون: وصلت أخاها، فيسيب أخوها معها فلا ينتفع به. والحامى: الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره، فلم يركب ولم يجز وبره وخلى فى إبله يضرب فيها، لا ينتفع منه بغير ذلك. فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة: 103] .

_ (1) أخرجه الطبرى فى تفسيره (7/ 56) ، ابن كثير فى تفسيره (3/ 204) ، الألبانى فى السلسلة الصحيحة (1677) . (2) انظر: السيرة (1/ 90- 92) ، أمر البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى.

وذكر بعض أهل العلم أن عمرو بن لحى خرج من مكة إلى الشام فى بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم من ولد عملاق، ويقال: عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التى أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها ونستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطوننى منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنما يقال له: «هبل» ؛ فقدم به مكة، فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه. قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة فى بنى إسماعيل، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسيح فى البلاد، إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، فحيثما نزلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة. حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوه من الحجارة، وأعجبهم حتى خلفت الخلوف «1» ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات «2» . وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها، من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدى البدن والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك» ، فيوحدونه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده! يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] ، أى ما يوحدوننى بمعرفة حقى إلا جعلوا معى شريكا من خلقى. وقد كانت لقوم نوح أصنام عكفوا عليها، قص الله تبارك وتعالى خبرها على رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً [نوح: 23] . وذكر الواقدى بإسناد له عن أبى هريرة أن أول ما عبدت الأصنام فى زمن نوح عليه

_ (1) الخلوف: جمع خلاف، وهو القرن بعد القرن. (2) انظر: السيرة (1/ 82) .

السلام، وأن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا رجالا صالحين من قوم نوح، أهل عبادة وفضل، فماتوا، فوجد عليهم أهلوهم وتوحش الناس لفقدهم، فقال لهم رجل: ألا أصورهم لكم صورا من خشب فتنظرون إليهم وتسكنون إلى رؤيتهم؟ قالوا: بلى إن قدرت، قال: أنا أقدر على تصويرهم، ولا أقدر أن أنفخ الروح فيهم. فجاء بالصور كهيئتهم أحياء، فأخذ أهل كل بيت صورة صاحبهم فوضعوها فى منزلهم ينظرون إليها، فأذهب ذلك بعض حزنهم. فكانوا على ذلك ما شاء الله، حتى هلك ذلك القرن، ثم خلف قرن آخر ثم ثالث بعده فكانوا على ما كان عليه القرن الأول حتى هلكوا. ثم خلف القرن الرابع، فقالوا: لو أنا عبدنا هؤلاء لقربونا إلى الله وشفعوا لنا عنده، ولا يزيدونا إلا خيرا إنما نريد ما يقربنا منه، فعبدوها حتى هلكوا، وعبدها من بعدهم. فلما غرقت الأرض زمن نوح عليه السلام، غرقت تلك الأصنام، فمكثت ما شاء الله أن تمكث، ثم استخرجها عمرو بن لحى ففرقها فى القبائل. فالله تعالى أعلم. وقد خرج البخارى فى صحيحه من حديث عبد الله بن عباس موقوفا عليه فى التفسير نحو ما ذكره الواقدى مختصرا، أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشياطين إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون إليها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت. قال ابن إسحاق: واتخذ أهل كل دار فى دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به، وكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله، فلما بعث الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد قالت قريش: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] «1» .

_ (1) ذكر الإمام أحمد فى مسنده (1/ 227) أن هذه الآية نزلت حين مرض أبو طالب فدخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل وشكوا النبى صلى الله عليه وسلم لعمه أبى طالب فقال له أبو طالب: أى ابن أخى ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عم إنى أريدهم على لمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم بها العجم الجزية» ، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة، نعم وأبيك عشرا، قالوا: فما هى؟ قال: «لا إله إلا الله» ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: أَجَعَلَ-

وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهى بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدى إليها كما تهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها، وتنحر عندها، وهى تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده. وسيمر فى تضاعيف هذا الكتاب بعض أخبار هذه الطواغيت وكيف جعل الله عاقبة أمرها خسرا، فأزهق الحق باطلها وعفى الإسلام آثارها، وأكمل الله تعالى دينه، وتم نوره ونعمته، ونصر دين الهدى والحق، فأظهره على الدين كله. ومع إصفاق العرب مضرها ويمنها على هذا الضلال، فقد كان وقع إلى بعضهم باليمن دين اليهودية فدانوا به، ووقع أيضا دين النصرانية بنجران من أرض العرب على ما نذكره. فأما موقع اليهودية باليمن فمن جهة تبع الآخر، وهو تبان أسعد أبو كرب بن كلكى ابن كرب بن زيد، وهو تبع الأول بن عمرو ذى الأذعار بن أبرهة ذى المنار. وتبان أسعد هو الذى قدم المدينة وساق الحبرين من يهود إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه. وكان قد جعل طريقه حين أقبل من المشرق على المدينة، وكان قد مر بها فى بدأته فلم يهج أهلها وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة، فقدمها، وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها. فجمع له هذا الحى من الأنصار، ورئيسهم عمرو بن ظلة أخو بنى النجار، وقد كان رجل من بنى عدى بن النجار يقال له: أحمر، عدا على رجل من أصحاب تبع، حين نزل بهم، فقتله. وذلك أنه وجده فى عذق له يجده «1» ، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما التمر لمن أبره «2» . فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم. فاقتتلوا، فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل! فيعجبه ذلك منهم، ويقول: والله إن قومنا لكرام.

_ - الْآلِهَةَ الآية، فزل فيهم: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. وأخرجه الترمذى فى كتاب التفسير (3232) . وذكره ابن كثير فى البداية (3/ 135) . (1) العذق: كل غصن له شعب، وقيل: هى النخلة عند أهل الحجاز، ويجده: أى يقطعه. (2) أبره: أى أصلحه، والأبر: العامل، والمؤتبر: رب الزرع، والمأبور: الزرع والنخل المصلح. انظر: اللسان (مادة أبر) .

فبينا تبع على ذلك من حربهم إذ جاءه حبران من أحبار يهود من بنى قريظة عالمان راسخان، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك: لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بيتك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة. فقال لهما: ولم ذلك؟ قالا: هى مهاجر نبى يخرج من هذا الحرم من قريش فى آخر الزمان، تكون داره وقراره. فتناهى ورأى أن لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما. وهذا الحى من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحى من يهود، الذين كانوا بين أظهرهم، وإنما أراد هلاكهم فمنعوهم منه، ثم انصرف عنهم، ولذلك قال فى شعره: حنقا على سبطين حلا يثربا ... أولى لهم بعقاب يوم مفسد وذكر ابن هشام أن الشعر الذى فيه هذا البيت مصنوع «1» . وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فوجه إلى مكة وهى طريقه إلى اليمن، حتى إذا كان بين عسفان وأمج «2» أتاه نفر من هذيل بن مدركة فقالوا له: أيها الملك: ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟ قال: بلى. قالوا: بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده «3» . وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك، لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده. فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين، فسألهما عن ذلك، فقالا: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك، وما نعلم بيتا لله اتخذه فى الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا.

_ (1) قال السهيلى فى الروض الأنف (1/ 29) : الشعر الذى زعم ابن هشام أنه مصنوع، قد ذكره فى كتاب التيجان وهو قصيد مطول أوله: ما بال عينيك لا تنام كأنما ... كحلت مآقيها بسم الأسود انتهى باختصار. (2) أمج: بفتح أوله وثانيه وبالجيم، قرية جامعة ما بين مكة والمدينة على أميال من قديد لها سور، وهى كثيرة المزارع وأهلها من خزاعة، وبها آثار كثيرة وبها نخل، وهى محلة بنى نمرة وجماعة من الناس. انظر: الروض المعطار (ص 30، 31) . (3) انظر: السيرة (1/ 37) .

قال: فماذا تأمرانى أن أصنع إذا قدمت عليه؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به وتعظمه وتكرمه، وتحلق رأسك عنده، وتذلل له حتى تخرج من عنده. قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التى نصبوها حوله، وبالدماء التى يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك؛ أو كما قالا له. فعرف نصحهما وصدق حديثهما، فقرب النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم. ثم مضى حتى قدم مكة فطاف بالبيت ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل. ورأى فى المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف «1» ، ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر، ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الملاء والوصائل، فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت. وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وأن لا يقربوه دما ولا ميتة ولا مئلاة «2» وهى المحائض وجعل له بابا ومفتاحا. ثم خرج موجها إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه، فأبوا عليه، حتى يحاكموه إلى النار التى كانت باليمن. ويقال: إنه لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا. فدعاهم إلى دينه وقال: إنه خير من دينكم. قالوا: فحاكمنا إلى النار، قال: نعم. وكان باليمن فيما يزعم أهل اليمن، نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به فى دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما فى أعناقهما متقلديها، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذى تخرج منه، فخرجت النار عليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها. فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من

_ (1) الخصف: سفائف تسف من سعف النخل، فيسوى منها شقائق تلبس بيوت الأعراب، وقيل: هى ثياب غلاظ. انظر: اللسان (مادة/ خصف) . (2) مئلاة: هى خرقة الحائض وهى أيضا خرقة النائحة.

رجال حمير. وخرج الحبران بمصاحفهما فى أعناقهما تعرق جباههما لم تضرهما. فأصفقت عند ذلك حمير على دينه. من هنالك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن. قال ابن إسحاق «1» : وقد حدثنى محدث أن الحبرين ومن خرج من حمير إنما اتبعوا النار ليردوها وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم، وحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها، ودنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وتنكص «2» عنهما حتى رداها إلى مخرجها الذى خرجت منه. فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما. فالله أعلم أى ذلك كان. وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم فخل بيننا وبينه. قال: فشأنكما به. فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن، كلبا أسود، فذبحاه ثم هدما ذلك الييت. قال ابن إسحاق «3» : فبقاياه اليوم كما ذكر لى، بها آثار الدماء التى كانت تهراق عليه. وتبع هذا هو أحد الملوك الذين وطئوا البلاد ودوخوا الأرض ودانت لهم الممالك، ويقال: إنه المسمى فى قوله تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ [الدخان: 37] ، ذلك لأنه لما آمن فى آخر عمره ووحد، خالفته حمير فتفرقوا عنه، فانتقهم الله منهم. وحكى الحسن بن أحمد الهمدانى: أنه أول ملك بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به، وهو رتب الملوك وأبناء الملوك من قومه فى قبائل العرب والعجم ومدائنها وأمصارها، وكان لكل قبيلة من العرب ولكل حى من العجم ملك من قومه، إما حميرى وإما كهلانى يسمع له ويطاع. ويذكر أنه جمع الملوك وأبناء الملوك والأقاول وأبناء الأقاول من قومه، وقال لهم: أيها الناس: إن الدهر نفد أكثره ولم يبق إلا أقله، وإن الكثير إذا قل إلى النقصان

_ (1) انظر: السيرة (1/ 40- 41) . (2) تنكص: من النكوص: وهو الإحجام عن شىء، وقيل: هو الرجوع إلى الوراء، وقيل: هو القهقرى. انظر: اللسان (مادة/ نكص) . (3) انظر: السيرة (1/ 41) .

أجرى منه إلى الزيادة، سارعوا إلى المكارم، فإنها تقربكم إلى الفلاح، واعملوا، على أنه من سلم من يومه لم يسلم من غده، ومن سلم من الغد لا يسلم مما بعده، وإنكم لتؤوبون مآب الآباء والأجداد وتصيرون إلى ما صاروا إليه، والموت كل يوم أقرب إلى المرء من حياته منه، ولكل زمان أهل، ولكل دائرة سبب، وسبب عطلان هذه الفترة التى من عز فيها بز من هو دونه، ظهور نبى يعز الله به دينه ويخصه بالكتاب المبين، على يأس من المرسلين، رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين، فليكن ذلك عندكم وعند أبنائكم بعدكم وأبناء أبنائكم قرنا فقرنا وجيلا فجيلا، ليتوقعوا ظهوره وليؤمنوا به وليجتهدوا فى نصره على كافة الأحياء، حتى يفىء الناس له إلى أمر الله. وأنشد له: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله بارى النسم فلو مد دهرى إلى دهره ... لكنت وزيرا له وابن عم وألزمت طاعته كل من ... على الأرض من عرب أو عجم ولكن قولى له دائما ... سلام على أحمد فى الأمم فى أبيات ذكرها، وأشعار غير هذا أثبت فى «إكليله» كثيرا منها. قال: وذكروا أن الملوك وأبناء الملوك من حمير وكهلان لم تزل تتوقع ظهور النبى صلى الله عليه وسلم وتبشر به، وتوصى بالطاعة له والإيمان به والجهاد معه والقيام بنصره، منذ ذلك العصر إلى أن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا بذلك حين بعث من أحرص الناس على نصره وطاعته. فمنهم من سمع له وأطاع وآمن به قبل أن يراه، ومنهم من وصل إليه كتابه فسمع وأطاع وآمن وصدق، ومنهم من آواه ونصره وأيده وجاهد فى سبيل الله دونه، نطق بذلك الكتاب المنير فى قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] . وقوله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة: 54، 55] إلى آخر الآية. قال الهمدانى: عن أبى الحسن الخزاعى يقال: إنهم همدان. ثم أشار إلى ذكر سيف

ابن ذى يزن للنبى صلى الله عليه وسلم وما ألقاه من أمره إلى جده عبد المطلب عند وفادته عليه. قال: وذكروا أنه لم يكن لسيف بن ذى يزن ذلك العلم فى قصة النبى صلى الله عليه وسلم إلا من جهة تبع، وما تناهى إليه مما كان ألقاه إليهم وعرفهم به من خبر النبى صلى الله عليه وسلم، وسنذكر خبر سيف هذا فى موضعه إن شاء الله. وأما موقع النصرانية «1» بأرض العرب، فقد كان بنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم على الإنجيل، أهل فضل واستقامة من أهل دينهم، لهم رأس يقال له عبد الله ابن الثامر، وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران، وهى بأوسط أرض العرب فى ذلك الزمان، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها أن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين يقال له: «فيميون» ، وقع بين أظهرهم فحملهم عليه فدانوا به. فحدث وهب بن منبه: أن فيميون كان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا فى الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحا ينزل القرى، لا يعرف فى قرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف بها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان بناء يعمل الطين، وكان يعظم الأحد، فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئا، وخرج إلى فلاة من الأرض، فصلى فيها حتى يمسى. قال: وكان فى قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا، ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له صالح، فأحبه صالح حبا لم يحب شيئا كان قبله مثله، فكان يتبعه حيث ذهب ولا يفطن له فيميون، حتى خرج مرة فى يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع، وقد أتبعه صالح، وفيميون لا يدرى، فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا منه لا يحب أن يعلم بمكانه، وقام فيميون يصلى، فبينا هو يصلى إذ أقبل نحوه التنين، الحية ذات الرؤس السبعة، فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت، ورآها صالح ولم يدر ما أصابها فخاف عليه فعيل عوله فصرخ: يا فيميون التنين قد أقبل نحوك. فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى فرغ منها. وأمسى فانصرف وعرف أنه قد عرف، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه، فقال له: يا فيميون تعلم والله أنى ما أحببت شيئا قط حبك، وقد أردت صحبتك والكينونة معك حيثما كنت. قال: ما شئت، أمرى كما ترى، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم. فلزمه صالح، وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه، وكان إذا ما جاءه العبد به الضر دعا له فشفى، وإذا

_ (1) راجع السيرة (1/ 46) ، وما بعدها. أمر عبد الله بن الثامر، وأصحاب الأخدود.

دعى إلى أحد به ضر لم يأته. وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير، فسأل عن شأن فيميون، فقيل له: إنه لا يأتى أحدا دعاه، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر، فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه فى حجرته وألقى عليه ثوبا، ثم جاءه فقال: يا فيميون، إنى قد أردت أن أعمل فى بيتى عملا، فانطلق معى حتى تنظر إليه فأشارطك عليه. فانطلق معه حتى دخل حجرته، ثم قال له: ما تريد أن تعمل فى بيتك هذا؟ قال: كذا وكذا. ثم انتشط الثوب عن الصبى وقال: يا فيميون: عبد من عباد الله أصابه ما ترى فادع الله له. فدعا له فيميون فقام الصبى ليس به بأس «1» . وعرف فيميون أنه قد عرف، فخرج من القرية، واتبعه صالح، فبينا هو يمشى فى بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة فناداه منها رجل فقال: يا فيميون ما زلت أنتظرك وأقول: متى هو جاء، حتى سمعت صوتك فعرفت أنك هو، لا تبرح حتى تقوم على، فإنى ميت الآن. قال: فمات. وقام عليه حتى واراه، ثم انصرف ومعه صالح، حتى وطئا بعض أرض العرب، فاحتفظتهما سيارة من بعض العرب، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران، وأهل نجران يومئذ على دين العرب يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد فى كل سنة، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلى النساء، ثم خرجوا إليها فعكفوا عليها يوما. فابتاع فيميون رجل من أشرافهم، وابتاع صالحا آخر، فكان فيميون إذا قام من الليل يصلى فى بيت أسكنه إياه سيده، استسرج له البيت نورا حتى يصبح، من غير مصباح، فرأى ذلك سيده فأعجبه ما يرى منه، فسأله عن دينه فأخبره به، وقال له فيميون: إنما أنتم فى باطل، إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع، لو دعوت عليها إلهى الذى أعبد أهلكها، وهو الله وحده لا شريك له، فقال له سيده: فافعل، فإنك إن فعلت دخلنا فى

_ (1) قال فى الروض الأنف (1/ 46) : ذكر الطبرى قصة الرجل الذى دعى لابنه فشفى بأتم مما ذكره ابن إسحاق، قال: فيميون حين دخل الرجل وكشف له عن ابنه: اللهم عبد من عبادك دخل عليه عدوك فى نعمتك ليفسدها عليه فاشفه وعافه وامنعه منه، فقام الصبى ليس به بأس، فتبين من هذا أن الصبى كان مجنونا لقوله: دخل عليه عدوك: يعنى الشيطان، وليس هذا فى حديث ابن إسحاق.

دينك وتركنا ما نحن عليه. فقام فيميون فتطهر وصلى ركعتين، ثم دعا الله عليها، فأرسل الله ريحا فجعفتها من أصلها فألقتها. فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم دخلت عليهم الأحداث التى دخلت على أهل دينهم بكل أرض، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران، فيما ذكر وهب بن منبه فى حديثه هذا. وأما محمد بن كعب القرظى، وبعض أهل نجران، فذكروا أن أهل نجران كانوا أهل شرك، يعبدون الأوثان، وكان فى قرية من قراها ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فيميون ولم يسمه محمد بن كعب ولا شركاؤه فى الحديث، قالوا: رجل نزلها ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التى بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر، فبعث الثامر ابنه عبد الله مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام، حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه، فكتمه إياه، فقال: يا ابن أخى إنك لن تحمله، أخشى عليك ضعفك عنه. والثامر أبو عبد الله بن الثامر، لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان. فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه فى قدح، لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أو قد لها نارا، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بذلك الاسم الأعظم قذف فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا، فأخذه ثم أتى صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الذى كتمه، فقال: وما هو؟ قال: هو كذا وكذا قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، قال أى ابن أخى، قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل. فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال له: يا عبد الله، أتوحد الله وتدخل فى دينى فأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم. فيوحد الله ويسلم، ويدعو له فيشفى.

حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفى. حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال: أفسدت على أهل قريتى وخالفت دينى ودين آبائى، لأمثلن بك. قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يقع أحد فيها إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس.. فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلى حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت سلطك الله على، فقتلتنى. فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا فى يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه. واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث. فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران. قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القرظى وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر، فالله أعلم أى ذلك كان «1» . وحديث عبد الله بن الثامر هذا قد ورد فى الصحيح مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم من طرق ثابتة، خرجه مسلم بن الحجاج من حديث صهيب، وبينه وبين حديث ابن إسحاق اختلاف، وفيه مع ذلك زوائد تحسن لأجلها إعادة الحديث. فروى عبد الرحمن بن أبى ليلى، عن صهيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إنى قد كبرت، فابعث إلى غلاما أعلمه السحر. فبعث إليه غلاما يعلمه، فكان فى طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسنى أهلى، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسنى الساحر.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 46- 48) .

فبينما هو كذلك، إذا أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل. فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس. فرماها فقتلها، ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أى بنى، أنت اليوم أفضل منى، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل على. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوى الناس من سائر الأدواء، فسمع به جليس للملك، وكان قد عمى، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتنى. قال: إنى لا أشفى أحدا، إنما يشفى الله، فإن آمنت بالله، دعوت الله فشفاك. فآمن بالله، فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربى، قال: ولك رب غيرى؟! قال: ربى وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجىء بالغلام فقال له الملك: أى بنى، قد بلغ من سحرك ما يبرىء الأكمة والأبرص وتفعل وتفعل. فقال: إنى لا أشفى أحدا، إنما يشفى الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجىء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار فوضع فى مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جىء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى، فدعا بالمنشار فوضع فى مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جىء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به، وصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا. وجاء يمشى إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه فى قرقورة فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشى إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله.

فقال للملك: إنك لست بقاتلى حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟. قال: تجمع الناس فى صعيد واحد، وتصلبنى على جذع، ثم خذ سهما من كنانتى، ثم ضع السهم فى كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمنى، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتنى. فجمع الناس فى صعيد واحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم فى كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم فى صدغه، فوضع يده فى صدغه فى موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام. فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس. فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه، يعنى فأقحموه فيها. أو قيل له: اقتحم. ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبى لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه، اصبرى فإنك على الحق!!. فهذا حديث مسلم عن عبد الله بن الثامر وأهل نجران، وإن وقعت الأسماء فيه مبهمة، فقد فسرها العلماء بما ورد من ذلك مبينا فى حديث ابن إسحاق وغيره، وجعلوا ذلك كله حديثا واحدا «1» . وذكر ابن إسحاق «2» أنه لما كان من اجتماع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر ما تقدم الحديث به، سار إليهم ذو نواس بجنوده، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بينها وبين القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم، حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا. ففى ذى نواس وجنده ذلك أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إلى آخر الآيات «3» . والأخدود هنا هو الحفر المستطيل فى الأرض، كالخندق والجدول، ويقال أيضا لأثر السيف والسوط والسكين ونحوه فى الجلد: أخدود.

_ (1) انظر: غوامض الأسماء المبهمة لابن بشكوال (8/ 534، 535) . وانظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 17) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 334) . (2) انظر: السيرة (1/ 48) . (3) ذكره ابن كثير فى تفسيره (8/ 390) ، والطبرى فى التاريخ (1/ 436) .

قال ابن إسحاق: ويقال: كان فيمن قتل ذو نواس عبد الله بن الثامر رأسهم وإمامهم. وحدث عن عبد الله بن أبى بكر أنه حدث أن رجلا من أهل نجران حفر خربة من خرب نجران فى زمن عمر بن الخطاب، فوجدوا عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا واضعا يده على ضربة فى رأسه ممسكا عليها بيده، فإذا أخرت يده عنها تثعبت دما، وإذا أرسلت يده ردها عليها فأمسك دمها، فى يده خاتم مكتوب فيه: ربى الله. فكتب فيه إلى عمر، فكتب إليهم: أن أقروه على حاله وردوا عليه الدفن الذى كان عليه. ففعلوا «1» . وذو نواس هذا هو زرعة بن تبان أسعد أبى كرب، وهو تبع الآخر، وقد تقدم خبره، وابنه زرعة ذو نواس هذا كان من صغار بنيه، وصار إليه ملك اليمن، وأمر حمير بعد أبيه بزمان. وذلك أنه ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة، ربيعة بن نضر بن أبى حارثة ابن عمرو بن عامر، وكان من سادات اليمن وأهل الشرف منها. وهو صاحب الرؤيا التى يعرف من تأويلها استيلاء الحبشة على اليمن، والبشارة بظهور النبى صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه رأى رؤياه هالته وفظع بها، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إنى قد رأيت رؤيا هالتنى وفظعت بها، فأخبرونى به وبتأويلها. قالوا: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها. قال: إنى إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها. فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح «2» وشق «3» ، فإنه

_ (1) ذكره ابن كثير فى تفسيره (8/ 391) من طريق ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلا.... وساق القصة. (2) اسم سطيح هو: ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدى بن مازن غسان. وقال السهيلى فى الروض الأنف (1/ 27) : كان سطيح جسما ملقى لا جوارح له، فيما يذكرون، ولا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب انتفخ فجلس، وكان شعه شعّة إنسان، فيما يذكرون، إنما له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة، ويذكر عن وهب بن منبه أنه قال: قيل لسطيح: أنى لك هذا العلم؟ فقال: لى صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله تعالى موسى عليه السلام، فهو يؤدى إلىّ من ذلك ما يؤديه. (3) اسم شق هو ابن صعب، بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قسر بن عبقر بن أنمار بن إراش، وأنمار أبو بجيلة وخثعم. قاله ابن إسحاق. انظر: السيرة (1/ 30) وما بعدها.

ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه. فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق، فقال: إنى قد رأيت رؤيا هالتنى وفظعت بها، فأخبرنى بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها. فقال: أفعل. رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة. فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح، فما عندك فى تأويلها؟. فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين «1» إلى جرش» . فقال الملك: وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفى زمانى أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين. قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقاتلون ويخرجون منها هاربين. قال: ومن يلى ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم بن ذى يزن، يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن. قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟ قال: نبى زكى، يأتيه الوحى من قبل العلى. قال: وممن هو هذا النبى؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك فى قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرنى؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والقمر إذا اتسق، إن ما أنبأتك لحق، ثم قدم عليه شق، له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتفقان أم يختلفان. قال: نعم، رأيت حممه خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما قال له ذلك عرف أن قد اتفقا وأن قولهما واحد، إلا أن سطيحا

_ (1) أبين: بلاد باليمن، قيل فيه بكسر الألف وفتحها، وهو اسم رجل فى الزمن القديم إليه تنيب عدن وأبين من بلاد اليمن وبينها وبين عدن اثنا عشر ميلا. انظر: الروض المعطار (ص 11) . (2) جرش: بلاد باليمن، وهى من البلاد التى كان أهلها اتخذوا الأصنام بعد دين إسماعيل عليه السلام، وهم مذحج بن أدد، وهم الذين قالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً انظر: الروض المعطار (ص 159) .

قال: «بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة» ، وقال شق: «وقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة» . فقال: الملك: ما أخطأت يا شق منها شيئا، فما عندك فى تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، ليهبطن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران «1» . قال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفى زمانى أم بعده؟ فقال، لا، بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان. قال: ومن هذا العظيم الشأن؟ قال: غلام ليس بدنى ولا مدن يخرج من بيت ذى يزن. قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل يأتى بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك فى قومه إلى يوم الفصل. قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم يجزى فيه الولاة، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات. قال: أحق ما تقول؟ قال: إى ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك لحق ما فيه أمض، فوقع فى نفس ربيعة بن نضر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاد فأسكنهم الحيرة. فمن بقية ولد ربيعة بن نضر فيما يزعمون، النعمان بن المنذر، فهو فى نسب اليمن وعلمهم: النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدى بن ربيعة بن نضر، ذلك الملك. وقد تقدم قول من قال من العلماء أن النعمان من ولد قنص بن معد. وقد قيل أيضا إن النعمان من ولد الساطرون صاحب الحضر، وهو حصن عظيم كالمدينة على شاطئ الفرات، وهو الذى ذكره عدى بن زيد فى قوله:

_ (1) نجران: من بلاد اليمن، سميت بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. انظر: الروض المعطار (ص 573) .

وأخو الحضر إذا بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور شاده مرمرا وجلله كل ... سا فللطير فى ذراه وكور «1» لم يهبه ريب المنون فباد الم ... لك عنه فبابه مهجور وأما شق وسطيح، فإن شقا هو ابن صعب بن يشكر من بنى أنمار بن نزار أبى بجيلة وخثعم. وكان شق إنسان فيما زعموا، إنما له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحد، ولذلك سمى بشق «2» . وسطيح هو ربيع بن ربيعة من بنى ذبيان بن عدى بن مازن بن غسان، وكانت العرب تسميه الذيبى، وإياه عنى ميمون بن قيس الأعشى بقوله: ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقا كما نطق الذيبى إذ سجعا وإنما قيل له سطيح، لأنه كان جسدا ملقى له رأس وليس له جوارح، فيما ذكروا. وكان لا يقدر على الجلوس، فإذا غضب انتفخ وجلس. وذكر أنه قيل له: أنى لك هذا العلم؟ فقال: لى صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء، حين كلم الله منه موسى عليه السلام، فهو يؤدى إلى من ذلك ما يؤديه. وعاش سطيح بعد هذا الحديث زمانا طويلا، حتى أدرك مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر الخطابى وغيره من حديث هانئ بن هانئ المخزومى، وأتت عليه مائة وخمسون سنة، أنه لما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى فسقط منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادى السماوة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك ألف عام. وأرى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت فى بلادها. فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فصبر عليه تشجعا، حتى إذا عيل صبره رأى ألا يدخر ذلك عن قومه ومرازبته، فلبس تاجه وقعد على سريره، ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيم بعثت فيكم؟ قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك. فبينا هم كذلك، إذ ورد عليه كتاب بخمود النار، فازداد غما إلى غمه، ثم أخبر بما

_ (1) شاده: أى بناه وأعلاه. والمرمر: الرخام. وجلله: أى كساه. وكلسا: هو ما طلى به الحائط من حصى وجيار. وكور: جمع وكر وهو عش الطائر. (2) انظر: السيرة (1/ 31) .

رأى وما هاله من ذلك. فقال الموبذان: وأنا أصلح الله الملك قد رأيت فى هذه الليلة رؤيا. ثم قص عليه رؤيا فى الإبل. فقال: أى شىء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون من ناحية العرب. وكان أعلمهم فى أنفسهم. فكتب عند ذلك كسرى إلى النعمان بن المنذر أن يوجه إليه برجل عالم بما يريد أن يسأله عنه. فوجد إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغسانى. فلما قدم عليه قال له الملك: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليخبرنى الملك عما أحب، فإن كان عندى منه علم وإلا أخبرته بمن يعلمه. فأخبره بالذى وجه إليه فيه. فقال له: علم ذلك عند خال لى يسكن مشارف الشام، يقال له سطيح. قال: فائته فسله عما سألتك عنه، ثم ائتنى بتفسيره. فخرج عبد المسيح حتى أتى إلى سطيح وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وكلمه، فلم يرد عليه سطيح جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول: أصم أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاد فاز لم به شأو العنن يا فاصل الخطة أعيت من ومن ... أتاك شيخ الحى من آل سنن وأمه من آل ذئب بن حجن ... أبيض فضفاض الرداء والبدن رسول قيل العجم ينمى للوسن ... لا يرهب الوغد ولا ريب الزمن تجوب بى الأرض علنداة شزن ... ترفعنى وجنا وتهوى فيه وجن حتى أتى عارى الجاحى والقطن ... تلفه فى الريح بوغاء الدمن فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول: عبد المسيح، أتى إلى سطيح، على جمل مشيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بنى ساسان، لارتجاس الإيوان وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت فى بلادها. عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادى السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه، فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بمقالة سطيح. فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا قد كانت أمور. فملك منهم عشرة إلى أربع سنين وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضى الله عنه.

فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبى كرب، فسار بأهل اليمن يريد أن يطأبهم أرض العرب وأرض الأعاجم حتى إذا كان بأرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم، فكلموا أخا له يقال له عمرو وكان معه فى جيشه فقالوا له: اقتل أخاك حسان ونملكك علينا وترجع بنا إلى بلادنا. فأجابهم. فاجتمعوا على ذلك إلا ذو رعين الحميرى، فإنه نهاه عن ذلك ولم يقبل منه. فقال ذو رعين الحميرى: ألا من يشترى سهرا بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين فإما حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذى رعين ثم كتبهما فى رقعة وختم عليها ثم أتى بها عمرا فقال له: ضع لى هذا الكتاب عندك. ففعل. ثم قتل عمرو أخاه حسان ورجع بمن معه إلى اليمن «1» . فلما نزل اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر، فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحزاة «2» من الكهان والعرافين عما به؛ فقال له قائل منهم: إنه والله ما قتل رجل أخاه أو ذا رحمه بغيا على مثل ما قتلت أخاك عليه إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر. فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن حتى خلص إلى ذى رعين. فقال له ذو رعين: إن لى عندك براءة. قال: وما هى؟ قال: الكتاب الذى دفعت إليك. فأخرجه فإذا فيه البيتان، فتركه ورأى أنه قد نصحه. وهلك عمرو، فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا، فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة، يقال له لخنيعة «3» ينوف ذو شناتر «4» ، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، فقال قائل من حمير: تقتل أبناها وتنفى سراتها ... وتبنى بأيديها لها الذل حمير

_ (1) انظر: السيرة (1/ 41) . (2) الحزاة: جمع حاز، والحازى هو الذى ينظر فى الأعضاء وفى خيلان الوجه يتكهن، وقال الليث: هو الكاهن. (3) لخنيعة: قال ابن دريد: وهو من اللخع، وهو استرخاء فى الجسم. (4) ذو شناتر: الشناتر هو الأصابع بلغة حمير، واحدها: شنترة.

ذكر دخول الحبشة أرض اليمن واستيلائهم على ملكها وذكر السبب فى ذلك مع ما يتصل به من أمر الفيل

تدمر دنياها بطيش حلومها ... وما ضيعت من دينها فهو أكثر كذاك القرون قبل ذاك بظلمها ... وإسرافها تأتى الشرور فتخسر وكان لخنيعة امرآ فاسقا يعمل عمل قوم لوط، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه فى مشربة له قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك، ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه وجنده قد أخذ مسواكا فجعله فى فيه علامة للفراغ من خبيث فعله. حتى بعث إلى زرعة ذى نواس، بن تبان أسعد، أخى حسان، وكان صبيا صغيرا حين قتل حسان، ثم شب غلاما جميلا وسيما ذا هيئة وعقل، فلما أتاه رسوله عرف ما يريد به، فأخذ سكينا حديدا لطيفا فخبأه بين قدمه ونعله، ثم أتاه فلما خلا معه وثب إليه، فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله، ثم حز رأسه فوضعه فى الكوة التى كان يشرف منها، ووضع مسواكه فى فيه ثم خرج على الناس، فسألوه فأشار لهم إلى الرأس فنظروا فإذا رأس لخنيعة مقطوع، فخرجوا فى أثر ذى نواس حتى أدركوه، فقالوا: ما ينبغى أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث فملكوه، واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير، ويسمى يوسف، فأقام فى ملكه سنين «1» . قال ابن قتيبة: ثمانيا وستين سنة. إلى أن كان منه فى أهل نجران ما تقدم ذكره، فكان ذلك سببا لاستئصال ملكه واستيلاء الحبشة على اليمن. ذكر دخول الحبشة أرض اليمن واستيلائهم على ملكها وذكر السبب فى ذلك مع ما يتصل به من أمر الفيل ولما انتهى زرعة ذو نواس إلى ما انتهى إليه بأهل نجران من التحريق والقتل، أفلت منهم رجل من سبأ يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر صاحب الروم، فاستنصره على ذى نواس وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم، فقال له: بعدت بلادك منا، ولكنى سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك. فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 43) .

فقدم دوس على النجاشى بكتاب قيصر، فبعث سبعين ألفا من الحبشة، وأمر عليهم رجلا منهم يقال له أرياط، ومعه فى جنده أبرهة الأشرم، فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس، فسار إليه ذو نواس فى حمير، ومن أطاعه من قبائل اليمن، فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل به، فخاض به ضحضاح «1» البحر حتى أفضى به إلى غمره فأدخله فيه، فكان آخر العهد به. ودخل أرياط اليمن، فملكها «2» . فأقام بها سنين فى سلطانه ذلك، ثم نازعه فى أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشى، حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم، ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط أنك لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا، فابرز لى وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده. فأرسل إليه أرياط: أنصفت. فخرج إليه أبرهة، وكان رجلا قصيرا لحيما، وكان ذا دين فى النصرانية، وخرج إليه أرياط، وكان رجلا عظيما جميلا طويلا، وفى يده حربة له، وخلف أبرهة غلام له يقال له عتودة يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه «3» ، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته، فبذلك سمى أبرهة الأشرم. وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله. فانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وودى أبرهة أرياط. فلما بلغ ذلك النجاشى غضب غضبا شديدا وقال: عدا على أميرى فقتله بغير أمرى! ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته. فحلق أبرهة رأسه وملأ جرابا من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشى، وكتب إليه: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك، وأنا عبدك، اختلفنا فى أمرك، وكل طاعته لك، إلا أنى كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس منه وقد حلقت رأسى كله حين

_ (1) الضحضاح: هو الماء القليل يكون فى الغدير، وقيل: هو الماء اليسير، وقيل: هو ما لا غرق فيه ولا له غمر، وقيل: هو الماء إلى الكعبين إلى أنصاف السوق. انظر: اللسان (مادة، ضحح) . (2) انظر: السيرة (1/ 49- 50) . (3) يافوخه: أى وسط رأسه ويجمع على يآفيخ.

ذكر خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه وما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيماء إليها والإشارات الدالة عليها مع ما كان من تقدمه صلى الله عليه وسلم إلى الإنذار بالفتن الكائنة بعده وما صدر عنه من الأقاويل المنذرة بالردة

بلغنى قسم الملك، وبعثت إليه بجراب من تراب أرضى ليضعه تحت قدميه، فيبر قسمه فى. فلما انتهى ذلك إلى النجاشى رضى عنه، وكتب إليه: أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمرى «1» . فأقام بها، ثم إن أبرهة بنى القليس «2» بصنعاء، فبنى كنيسة لم ير مثلها فى زمانها بشىء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشى: إنى قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشى غضب رجل من النسأة أحد بنى فقيم بن عدى بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، فخرج حتى أتى القليس فأحدث فيها، ثم لحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة؛ فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: رجل من أهل هذا البيت الذى تحج العرب إليه بمكة، لما سمع قولك: «أصرف إليها حج العرب» غضب فجاء فقعد فيها، أى أنها ليست لذلك بأهل «3» . فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم ساروا وخرج معه بالفيل. وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله، وما يريد من هدمه وإخرابه. فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر فأتى به أسيرا، فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلنى، فإنه عسى أن يكون بقائى معك خيرا لك من قتلى. وكان أبرهة رجلا حليما، فتركه من القتل وحبسه عنده فى وثاق.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 53- 54) . (2) القليس: هى الكنيسة التى بناها أبرهة على باب صنعاء، وسميت القليس لارتفاع بنيانها وعلوه. (3) انظر: السيرة (1/ 56) .

ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمى فى قبيلى خثعم «1» : شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به، فلما هم بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلنى فإنى دليلك بأرض العرب، وهاتان يداى لك على قبيلى خثعم، شهران وناهس، بالسمع والطاعة. فخلى سبيله وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب ابن مالك الثقفى فى رجال ثقيف، فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذى تريد. يعنون اللات، إنما تريد البيت الذى بمكة، ونحن نبعث من يدلك عليه. فتجاوز عنهم. واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة، فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة. فخرج أبرهة ومعه أبو رغال، حتى أنزله المغمس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبره العرب، فهو القبر الذى يرجم الناس بالمغمس «2» . فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتى بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها. فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميرى إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إنى لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لى بدمائكم. فإن هو لم يرض حربى فائتنى به.

_ (1) قال فى الروض الأنف: خثعم اسم جبل سمى به بنو عفرس لأنهم نزلوا عنده، ويقال: إنهم تخثعموا بالدم عند حلف عقدوه، وقيل: بل خثعم ثلاث: شهران، وناهس، وأكلب عند أهل النسب هو ابن لهيعة بن نزار. (2) المغمس: مكان يبعد عن مكة بثلثى فرسخ، وهو فى طرف الحرم فيه برك محمود فيل أبرهة حين توجه به إلى مكة لأخراب الكعبة بزعمه، والميم الثانية فى المغمس مكسورة وروى فتحها فأما الأولى فمضمومة.

فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم. فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة؛ فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك منه طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم أو كما قال فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمته، وإن يخل بينه وبينه، فو الله ما عندنا دفع عنه. فقال حناطة: فانطلق إليه، فإنه قد أمرنى أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه، حتى أتى المعسكر فسأل عن ذى نفر، وكان له صديقا، حتى دخل عليه فى محبسه فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير فى يدى ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا! ما عندى غناء فى شىء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لى فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. قال: حسبى. فبعث: ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش فى رؤس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتى بعير، فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل. فكلم أنيس أبرهة، قال له: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، فأذن له فليكلمك فى حاجته. ووصفه له بما وصفه ذو نفر لأنيس. فإذن له أبرهة، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجمله وأعظمه، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه. ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال: حاجتى أن يرد على الملك مائتى بعير أصابها لى. فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتنى حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتنى! أتكلمنى فى مائتى بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمنى فيه!؟. قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع منى. قال: أنت وذاك. ويزعم بعض أهل العلم أنه كان ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة يعمر ابن نفاثة بن عدى بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد بنى بكر، وخويلد بن واثلة الهذلى، وهو يومئذ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة

ذكر بدء الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان من تأييد الله لخليفة رسوله عليه السلام فيها

على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، فأبى عليهم، فالله أعلم أكان ذلك أم لا. فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التى أصاب له، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز فى شعف الجبال والشعاب، تخوفا عليهم من معرة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: لا هم إن العبد يم ... نع رحله فامنع حلالك «1» لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبى جيشه. وكان اسم الفيل محمودا، وأبرهة مجمع لهدم البيت والانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة قام نفيل بن حبيب إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال له: ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك فى بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل يشتد حتى أصعد فى الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى، وضربوه فى رأسه بالطبرزين «2» ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم فى مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، يحملها حجر فى منقاره وحجران فى رجليه، أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذى منه جاؤا ويسألون عن نفيل بن حبيب

_ (1) لا هم: أى اللهم، والعرب تحذف منها الألف واللام للتخفيف، حلالك: جمع حلة وهى جماعة البيوت وربما أريد بها القوم المجتمعون لأنهم يحلون فيها. (2) الطبرزين: آلة من الحديد. وقال السهيلى فى الروض الأنف: طبر هو الفأس، وذكر الطبرستان بفتح الباء وقال معناه: شجر قطع بفأس.

ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته: أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب وقال نفيل أيضا: ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا ردينة لو رأيت ولا تريه ... لدى جنب المحصب ما رأينا إذا لعذرتنى وحمدت أمرى ... ولم تأسى على ما فات بينا حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا فكل القوم يسأل عن نفيل ... كأن علىّ للحبشان دينا «1» فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل، وأصيب أبرهة فى جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة منها اتبعتها مدة تمث قيحا ودما، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، فيما يزعمون. ويقال: إنه أول ما رئيت الحصبة والجدرى بأرض العرب ذلك العام، وإنه أول ما رئى بها مرائر الشجر الحرمل «2» والحنظل والعشر «3» ذلك العام. فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان مما يعد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ. وقالت عائشة رضى الله عنها: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعمين مقعدين يستطعمان. قال ابن إسحاق: فلما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم ما أصابهم به من النقمة،

_ (1) ذكر هذه الأبيات فى السيرة (1/ 62) . فقال: ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا أتانا قابس منكم عشاء ... فلم يقدر لقابسكم لدينا ثم ذكرها سواء. (2) الحرمل: حب نبات معروف يخرج السوداء والبلغم إسهالا. (3) العشر: شجر مر يحمل ثمرا كالأترج وليس فيه منتفع.

أعظمت العرب قريشا، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم، فقالوا فى ذلك أشعارا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة وما رد عن قريش من كيدهم، فقال عبد الله بن الزبعرى السهمى: تنكلوا عن بطن مكة إنها ... كانت قديما لا يرام حريمها لم تخلق الشعرى ليالى حرمت ... إذ لا عزيز من الأنام يرومها سائل أمير الحبش عنها ما رأى ... ولسوف ينبى الجاهلين عليهما ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم ... بل لم يعش بعد الإياب سقيمها كانت بها عاد وجرهم قبلهم ... والله من فوق العباد يقيمها وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصارى ثم الخطمى، من قصيدة سيأتى ذكرها بجملتها: فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب فعندكم منه بلاء مصدق ... غداة أبى يكسوم هادى الكتائب كتيبته بالسهل تمشى ورجله ... على القاذفات فى رؤس المناقب «1» فلما أتاكم نصر ذى العرش ردهم ... جنود المليك بين ساف وحاصب فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى قومه ملحبش غير عصائب «2» وقالت سبيعة بنت الأحب بن زبينة من بنى نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور، لابنها خارجة بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، تعظم عليه حرمة مكة وتنهاه عن البغى فيها وتذكر تبعا وتذلله لها، والفيل وهلاك جيشه عندها: أبنى لا تظلم بمك ... ة لا الصغير ولا الكبير واحفظ محارمها بن ... ى ولا يغرنك الغرور أبنى من يظلم بمك ... ة يلق أطراف الشرور أبنى يضرب وجهه ... ويلح بخديه السعير أبنى قد جربتها ... فوجدت ظالمها يبور الله آمنها وما ... بنيت بعرصتها قصور والله آمن طيرها ... والعصم «3» تأمن فى ثبير ولقد غزاها تبع ... فكسا بنيتها الحبير «4»

_ (1) القاذفات: أعالى الجبال البعيدة. والمناقب: جمع منقبة، وهى الطريق فى رأس الجبل. (2) ملحبش: أى من الحبش، والعصائب: الجماعات. (3) العصم: جمع أعصم، وهو الوعل، قيل له ذلك لأنه يعتصم بالجبال. (4) الحبير: هو الثور الحبير: أى هو الجديد الناعم، وقيل: الثياب الموشية.

وأذل ربى ملكه ... فيها فأوفى بالنذور يمشى إليها حافيا ... بفنائها ألفا بعير ويظل يطعم أهلها ... لحم المهارى والجزور يسقيهم العسل المصف ... ى والرحيض من الشعير والفيل أهلك جيشه ... يرمون فيها بالصخور والملك فى أقصى البلا ... د وفى الأعاجم والجزير فاسمع إذا حدثت واف ... هم كيف عاقبة الأمور ولم يزل شعراء أهل الجاهلية يذكرون ذلك فى أشعارهم معتدين بصنع الله فيه، وقد جرى على ذلك شعراء الإسلام، فقال الفرزدق بن غالب التميمى، يمدح سليمان بن عبد الملك بن مروان ويعرض للحجاج بن يوسف، ويذكر الفيل وجيشه: فلما طغى الحجاج حين طغى به ... غنى قال إنى مرتق فى السلالم فقال كما قال ابن نوح سأرتقى ... إلى جبل من خشية الماء عاصم رمى الله فى جثمانه مثل ما رمى ... عن القبلة البيضاء ذات المحارم جنودا تسوق الفيل حتى أعادهم ... هباء وكانوا مطرخيمى الطراخم «1» نصر كنصر البيت إذ ساق فيله ... إليه عظيم المشركين الأعاجم قال ابن إسحاق «2» : فلما هلك أبرهة ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة، وبه كان يكنى، فلما هلك يكسوم ملك اليمن فى الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة. فلما طال البلاء على أهل اليمن، خرج سيف بن ذى يزن الحميرى حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا إليه ما هم فيه، وسأله أن يخرجهم عنه، ويليهم هو، ويبعث إليهم من شاء من الروم، فلم يشكه. فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر، وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق، فشكا إليه أمر الحبشة، فقال له النعمان: إن لى على كسرى وفادة فى كل عام، فأقم حتى يكون ذلك؛ ففعل. ثم خرج معه فأدخله على كسرى، وكان كسرى يجلس فى إيوان مجلسه الذى فيه تاجه، وكان تاجه مثل القلنقل العظيم، فيما يزعمون، يضرب فيه الياقوت والزبرجد

_ (1) الطراخم: جمع الطراخم وهو الممتلئ كبرا المتعظم. (2) انظر: السيرة (1/ 69) .

واللؤلؤ بالذهب والفضة، معلقا بسلسلة من ذهب فى رأس طاقة فى مجلسه ذلك، وكانت عنقه لا تحمل تاجه، إنما يستر بالثياب حتى يجلس فى مجلسه ذلك، ثم يدخل رأسه فى تاجه، فإذا استوى فى مجلسه كشفت عنه الثياب، فلا يراه رجل لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له. فلما دخل عليه سيف بن يزن برك، وقيل: إنه لما دخل عليه طأطأ رأسه، فقال الملك: إن هذا لأحمق! يدخل على من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه!. فقيل ذلك لسيف، فقال: إنما فعلت هذا لهمى، لأنه يضيق عنه كل شىء. ثم قال: أيها الملك، غلبنا على بلادنا الأغربة. فقال كسرى: أى الأغربة؟ الحبشة أم السند؟ قال: بل الحبشة، فجئتك لتنصرنى ويكون ملك بلادى لك. قال: بعدت بلادك مع قلة خيرها، فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب، لا حاجة لى بذلك. ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف، وكساه كسوة حسنة. فلما قبض ذلك سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس. فبلغ ذلك الملك فقال: إن لهذا لشأنا. ثم بعث إليه فقال: عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس! فقال: وما أصنع بهذا؟! ما جبال أرضى التى جئت منها إلا ذهب وفضة، يرغبه فيها. فجمع كسرى مرازبته «1» فقال: ماذا ترون فى أمر هذا الرجل وما جاء له؟ فقال قائل: أيها الملك إن فى سجونك رجالا حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه، فإن يهلكوا كان ذلك الذى أردت، وإن ظفروا كان ملكا ازددته. فبعث معه كسرى من كان فى سجونه، وكانوا ثمانمائة رجل، واستعمل عليهم رجلا منهم يقال له: وهرز وكان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا، فخرجوا فى ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصلت إلى ساحل عدن ست سفائن. فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له: رجلى مع رجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا. قال وهرز: أنصفت. وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنوده، فأرسل إليهم وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم، فقتل ابن وهرز، فزاده ذلك حنقا عليهم. فلما تواقف الناس

_ (1) مرازبته: أى وزراءه. وقيل: هو الفارس الشجاع المقدم عند الملك.

على مصافهم قال وهرز: أرونى ملكهم. قالوا له: أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه، بين عينيه ياقوتة حمراء؟. قال: نعم. قالوا: ذلك ملكهم. قال: اتركوه. فوقفوا طويلا ثم قال: علام هو؟ قالوا: قد تحول على الفرس. قال: اتركوه. فوقفوا طويلا. ثم قال: علام هو؟ قالوا: على البغلة. قال وهرز: بنت الحمار! ذل وذل ملكه، إنى سأرميه، فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم، فإنى قد أخطأت الرجل، وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به فقد أصبت الرجل، فاحملوا عليهم. ثم أوتر قوسه، وكانت فيما يزعمون، لا يوترها غيره من شدتها، وأمر بحاجبيه فعصبا له، ثم رمى فصك الياقوتة التى بين عينيه فتغلغلت النشابة فى رأسه حتى خرجت من قفاه؟ ونكس عن دابته، واستدارت الحبشة ولاثت به، وحملت عليهم الفرس وانهزموا فقتلوا وهربوا فى كل وجه. وأقبل وهرز ليدخل صنعاء، حتى إذا أتى بابها قال: لا تدخل رايتى منكسة أبدا، اهدموا الباب. فهدم، ثم دخلها ناصبا رايته. وقال فى ذلك أبو الصلت بن أبى ربيعة الثقفى، وتروى لابنه أمية بن أبى الصلت: ليطلب الوتر أمثال ابن ذى يزن ... مذيم فى البحر للأعداء أحوالا يهم قيصر لما حاز رحلته ... فلم يجد عنده بعض الذى سالا حتى أتى ببنى الأحرار يحملهم ... إنك عمرى لقد أسرعت قلقالا «1» لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن أرى لهم فى الناس أمثالا بيضا مرازبة غلبا أساورة ... أسدا تربب فى الغيضات أشبالا أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم فى الأرض فلالا «2» فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا ... فى رأس غمدان دارا منك محلالا «3» واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم فى برديك إسبالا»

_ (1) بنو الأحرار: أراد بهم الفرس، والقلقال: التحرك بسرعة. (2) الفلال: جمع فل وهم القوم المنهزمون. (3) رأس غمدان: قال ياقوت فى معجم البلدان (4/ 210) : قيل إنه قصر بناه يشرح بن يحصب على أربعة أوجه وبنى فى داخله قصرا على سبعة سقوف، وقيل: إن الذى بناه سليمان بن داود عليهما السلام، وقيل: إنه بين صنعاء وطيوه وهدم غمدان فى أيام عثمان بن عفان رضى الله عنه. (4) شالت نعامتهم: أى هلكوا، والإسبال: إرخاء الثوب.

تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وأقام وهرز والفرس باليمن، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم. وكان ملك الحبشة باليمن منذ دخلها أرياط إلى أن أخرجتهم الفرس عنها اثنتين وسبعين سنة، وفق ما ذكره سطيح وشق فى تأويل رؤيا ربيعة بن نصر. ثم مات وهرز، فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن، ثم مات المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان بن المرزبان، ثم مات فأمر كسرى ابن التينجان، ثم عزله وولى باذان، فلم يزل عليها حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم «1» . فلما بلغ مبعثه كسرى كتب إلى باذان: إنه بلغنى أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبى، فسر إليه فاستتبه، فإن تاب وإلا فابعث إلى برأسه. فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد وعدنى أن يقتل كسرى فى يوم كذا من شهر كذا. فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر وقال: إن كان نبيا فسيكون ما قال. فقتل الله كسرى على يد ابنه شيرويه فى اليوم الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلام من معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت الرسل من الفرس: إلى من نحن يا رسول الله، قال: «أنتم منا وإلينا أهل البيت» . قال الزهرى: فمن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلمان منا أهل البيت» «2» . وكأن هذه الأخبار وإن قطعت بعض ما كنا بسبيله من أمر بنى قصى فلها أيضا من الإفادة بنحو ما قصدناه وحسن الإمتاع بالشأن المناسب لما اعتمدناه ما يحسن اعتراضها وينظم فى سلك واحد مع ما مر من ذلك أو يأتى أغراضها. وعلينا بمعونة الله فى تجويد الترتيب لذلك كله تطبيق المنفصل ورد هذه الأحاديث المتفرقة فى حكم الحديث المتصل، فنطيل ولا نمل، ونقصر فلا نخل كل ذلك ببركة

_ (1) انظر: السيرة (1/ 74) . (2) انظر الحديث فى: المستدرك للحاكم (3/ 598) ، المعجم الكبير للطبرانى (6/ 261) ، تفسير الطبرى (21/ 85) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 180، 4/ 99) ، طبقات ابن سعد (7/ 65) ، كنز العمال للمتقى الهندى (33340) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 418) ، كشف الخفاء للعجلونى (1/ 558) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 130) .

المختار الذى يممنا تخليد أوليته، وتيمنا بخدمة آثاره وسيرته، صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين وصحابته. وكنا انتهينا من شأن بنى قصى بعده، إلى ما تراضوا به بينهم من الصلح على أن تكون السقاية والرفادة لبنى عبد مناف، وتكون حجابة البيت واللواء والندوة لبنى عبد الدار، على نحو ما جعله قصى إلى أبيهم. فولى السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف. وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة، وكان مقلا ذا ولد كثير، وكان هاشم موسرا، وكان فيما يزعمون، إذا حضر الحج قام صبيحة هلال ذى الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها، فيحض قومه على رفادة الحاج التى سنها لهم قصى، ويقول لهم فى خطبته: يا معشر قريش، أنتم سادة العرب، أحسنها وجوها، وأعظمها أحلاما، وأوسط العرب أنسابا، وأقرب العرب بالعرب أرحاما. يا معشر قريش، إنكم جيران بيت الله، أكرمكم الله بولايته وخصكم بجواره دون بنى إسماعيل، حفظ منكم أحسن ما حفظ جار من جاره، وإنه يأتيكم فى هذا الموسم زوار الله، يعظمون حرمة بيته، فهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح، وقد أزحفوا وأرملوا فأقروهم وأعينوهم، فورب هذه البنية لو كان لى مال يحمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرج من طيب مالى وحلاله، ما لم تقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام فواضعه، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعله. وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم تقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصبا «1» . فكانت بنو كعب بن لؤى وسائر قريش يجتهدون فى ذلك ويترافدون عليه، ويخرجون ذلك من أموالهم حتى يأتوا به هاشم بن عبد مناف فيضعوه فى داره، حتى أن كان أهل البيت ليرسلون بالشىء اليسير على قدرهم. وكان هاشم يخرج فى كل سنة مالا كثيرا. وكان قوم من قريش أهل يسار، ربما أرسل كل إنسان منهم بمائة مثقال هرقلية. وكان هاشم يأمر بحياض من أدم، فتجعل فى موضع زمزم من قبل أن تحفر، ثم يستقى فيها من البيار التى بمكة، فيشرب الحاج.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 120) .

وكان يطعمهم أول ما يطعمهم بمكة قبل التروية بيوم، ثم بمنى، وبجمع وعرفة، يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن، والسويق والتمر، ويحمل لهم الماء، فيطعمهم ويسقيهم حتى يصدروا. وكان اسم هاشم عمرا، ويقال له: عمرو العلا. وإنما سمى هاشما لهشمه الخبز بمكة لقومه، وهو فيما يذكرون أول من سن الرحلتين لقريش، رحلة الشتاء والصيف. وفى ذلك يقول بعض شعرائهم: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف «1» سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الإصياف وذلك أن قريشا كانوا قوما تجارا، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، إنما يقدم الأعاجم بالسلع فيشترون منهم ويتبايعون فيما بينهم، ويبيعون ممن حولهم من العرب. فلم يزالوا كذلك حتى ذهب هاشم إلى الشام، فكان يذبح كل يوم شاة، فيصنع جفنة ثريد، ويدعو من حوله فيأكلون. وكان هاشم من أحسن الناس وأجملهم، إلى شرف نفسه وكرم فعاله. فذكر لقيصر فدعا به فلما رآه وكلمه أعجب به وأدناه. فلما رأى هاشم مكانه منه، طلب منه أمانا لقومه ليقدموا بلاده بتجاراتهم. فأجابه إلى ذلك. وكتب لهم قيصر كتاب أمان لمن أتى منهم. فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فكلما مر بحى من أحياء العرب أخذ من أشرافهم إيلافا لقومه يأمنون به عندهم وفى أرضهم من غير حلف، وإنما هو أمان الطريق. واستوفى أخذ ذلك ممن بين مكة والشام، فأتى قومه بأعظم شىء أتوا به قط بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم ليوفيهم إيلافهم الذى أخذ لهم من العرب، فلم يزل يوفيهم إياه، ويجمع بينهم وبين العرب حتى قدم بهم الشام. فهلك هاشم فى سفره ذلك بغزة من أرض الشام. وكان أول بنى عبد مناف هلكا. وخرج المطلب بن عبد مناف، وهو يسمى الفيض لسماحته وفضله، إلى اليمن، فأخذ من ملوكهم أمانا لمن تجر من قومه إلى بلادهم، ثم أقبل يأخذ لهم الإيلاف ممن

_ (1) هشم الثريد: به سمى هاشم بن عبد مناف أبو عبد المطلب جد النبى صلى الله عليه وسلم كان يسمى عمرا وهو أول من ثرد الثريد وهشمه فسمى هاشما، فقالت فيه ابنته هذه الأبيات، وقال ابن برى: الشعر لابن الزبعرى. انظر هذا القول والبيت فى اللسان (12/ 611) .

وصية أبى بكر الصديق رضى الله عنه، خالد بن الوليد حين بعثه فى هذا الوجه

كان على طريقه من العرب، كما فعل أخوه هاشم، حتى أتى مكة، ثم رجع إلى اليمن، فمات بردمان. وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى ملك الحبشة، فأخذ منه أمانا كذلك لمن تجر من قريش إلى بلاده، ثم أخذ الإيلاف من العرب الذين على الطريق إليها حتى بلغ مكة، وتوفى بها فقبره بالحجون. وخرج نوفل بن عبد مناف، وكان أصغر ولد أبيه إلى العراق، فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش، ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب حتى قدم مكة، ثم رجع إلى العراق فمات بسلمان من ناحية العراق. فجبر الله قريشا بهؤلاء النفر الأربعة من بنى عبد مناف، فنمت أموالهم، واتسعت تجارتهم، فكان بنو عبد مناف يسمون لأجل ذلك المجيزين، والعرب تسميهم أقداح النضار، لطيب أحسابهم، وكرم فعالهم. وقال مطرود بن كعب الخزاعى يبكيهم جميعا حين أتاه نعى نوفل منهم، وكان آخرهم هلكا: يا ليلة هيجت ليلاتى ... إحدى ليالى القسيات «1» وما أقاسى من هموم وما ... عالجت من رزء المنيات إذا تذكرت أخى نوفلا ... ذكرنى بالأوليات ذكرنى بالأزر الحمر وال ... أردية الصفر القشيبات «2» أربعة كلهم سيد ... أبناء سادات لسادات ميت بردمان وميت بسل ... مان وميت بين غزات «3» وميت أسكن لحدا لدى ال ... حجون شرقى البنيات أخلصهم عبد مناف فهم ... من لوم من لام بمنجاة إن المغيرات وأبناءها ... من خير أحياء وأموات «4»

_ (1) القسيات: من القسوة أى لا لين عندهن ولا رأفة، والقسى: الشديد. (2) القشيبات: واحدها القشب: وهو الجديد والناس تقول ثوب قشيب أى جديد. (3) ردمان: بفتح أوله وهو فعلان من الردم وهو موضع باليمن. اسم ماء قديم جاهلى وبه قبر نوفل بن عبد مناف، وكان فى الجاهلية طريق إلى تهامة من العراق. غزات: أى غزة. (4) المغيرات: المقصود بها بنو المغيرة وهو عبد مناف.

وإنما سماهم المغيرات لأن عبد مناف أباهم كان اسمه المغيرة. فقيل لمطرود فيما يزعمون: لقد قلت فأحسنت، ولو كان أفحل مما هو كان أحسن. فقال: أنظرونى ليالى. فمكث أياما ثم قال: يا عين جودى وأذرى الدمع وانهمرى ... وابكى على السر من كعب المغيرات يا عين واسحنفرى بالدمع واحتفلى ... وابكى خبيئة نفسى فى الملمات «1» وابكى على كل فياض أخى ثقة ... ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات «2» محض الضريبة عالى الهم مختلق ... جلد النجيزة ناء بالعظيمات «3» صعب البديهة لا نكس ولا وكل ... ماضى العزيمة متلاف الكريمات صقر توسط من كعب إذا نسبوا ... بحبوحة المجد والشم الرفيعات ثم اندبى الفيض والفياض مطلبا ... واستخرطى بعد فياض بجمات أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا ... يا لهف نفسى عليه بين أموات وابكى لك الويل إما كنت باكية ... لعبد شمس بشرقى البنيات وهاشم فى ضريح وسط بلقعة ... تسفى الرياح عليه بين غزات ونوفل كان دون القوم خالصتى ... أمسى بسلمان فى رمس بمومات لم ألق مثلهم عجما ولا عربا ... إذا استقلت بهم أدم المطيات أمست ديارهم منهم معطلة ... وقد يكونون زينا فى السريات* أفناهم الدهر أم كلت سيوفهم ... أم كل من عاش أزواد المنيات أصبحت أرضى من الأقوام بعدهم ... بسط الوجوه وإلقاء التحيات يا عين وابكى أبا الشعث الشجيات ... يبكينه حسرا مثل البليات** يبكين أكرم من يمشى على قدم ... يعولنه بدموع بعد عبرات

_ (1) اسحنفرى: أى أديمى الدمع. والخبيئة: الشىء المخبوء يريد أنه ذخيرة عند نزول الشدائد. (2) الدسيعة: العطية وضخم الدسيعة أى كثير العطية. (3) محض الضريبة: أى مخلص الطبيعة. والمختلق: تام الخلق. والنجيزة: الطبيعة من العين المختلف من كل شىء. (*) السريات: جمع سرية وهى طائفة من الجيش يبلغ أقصاه أربعمائة وسموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشىء السرى النفيس وقيل سموا بذلك لأنهم ينفذون سرا وخفية. انظر: اللسان (مادة سرا) . (**) البليات: جمع بلية، وهى: الناقة كانت تشد فى الجاهلية عند قبر صاحبها حتى تموت، وكانوا يقولون: يبعث صاحبها عليها. انظر: اللسان (مادة بلا) .

يبكين شخصا طويل الباع ذا فخر ... أبى الهضيمة فراج الجليلات يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه ... سمح السجية بسام العشيات يبكينه مستكينات على حزن ... يا طول ذلك من حزن وعولات يبكين لما جلاهن الزمان له ... خضر الخدود كأمثال الحميات محتزمات على أوساطهن لما ... جر الزمان من أحداث المصيبات أبيت ليلى أراعى النجم من ألم ... أبكى وتبكى معى شجوى بنياتى ما فى القروم لهم عدل ولا خطر ... ولا لمن تركوا شروى بقيات أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم ... خير النفوس لدى جهد الأليات كم وهبوا من طمر سابح أرن ... ومن طمرة نهب فى طمرات ومن سيوف من الهندى مخلصة ... ومن رماح كأشطان الركيات ومن توابع مما يفضلون بها ... عند المسائل من بذل العطيات فلو حسبت وأحصى الحاسبون معى ... لم أحص أفعالهم تلك الهنيات هم المدلون إما معشر فخروا ... عند الفخار بأنساب نقيات زين البيوت التى خلوا مساكنها ... فأصبحت منهم وحشا خليات أقول والعين لا ترقا مدامعها ... لا يبعد الله أصحاب الرزيات وكان هاشم بن عبد مناف قد قدم المدينة فتزوج بها سلمى بنت عمرو أحد بنى عدى بن النجار، وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح فيما ذكر ابن إسحاق. قال: وكانت لا تنكح الرجال لشرفها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، إن كرهت رجلا فارقته. فولدت لهاشم عبد المطلب فسمته شيبة «1» ، فتركه هاشم عندها حتى كان وصيفا أو فوق ذلك. ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه، فقالت له سلمى: لست بمرسلته معك. فقال لها المطلب: إنى غير منصرف حتى أخرج به معى، إن ابن أخى قد بلغ وهو غريب فى غير قومه، ونحن أهل بيت شرف فى قومنا نلى كثيرا من أمرهم، ورهطه وعشيرته وبلده خير له من الإقامة فى غيرهم. أو كما قال. وقال شيبة لعمه المطلب فيما يزعمون: لست بمفارقها إلا أن تأذن لى. فأذنت له

_ (1) قال الطبرى فى تاريخه (1/ 501) : سمى شيبة لشيبة كانت فى رأسه ويكنى بأبى الحارث والحارث أكبر ولده.

ذكر حفر عبد المطلب زمزم وما يتصل بذلك من حديث مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم

ودفعته إليه، فاحتمله فدخل به مكة مردفه على بعيره، فقالت قريش: عبد المطلب ابتاعه. فبها سمى شيبة: عبد المطلب. فقال المطلب: ويحكم إنما هو ابن أخى هاشم قدمت به من المدينة «1» . وذكر الزبير أن شيبة إنما سمى عبد المطلب، لأن عمه المطلب لما قدم به من يثرب ودخل به مكة ضحوة مردفه خلفه والناس فى أسواقهم ومجالسهم، قاموا يرحبون به ويقولون: من هذا معك؟ فيقول: عبد لى ابتعته بيثرب، فلما كان العشية ألبسه حلة ابتاعها له، ثم أجلسه فى مجلس بنى عبد مناف وأخبرهم خبره، فجعل بعد ذلك يخرج فى تلك الحلة فيطوف فى سكك مكة، وكان أحسن الناس، فيقولون: هذا عبد المطلب، لقول المطلب فيه ذلك، فلج اسمه عبد المطلب، وترك شيبة. وكان يقال لعبد المطلب: شيبة الحمد، وإنما سمى شيبة لأنه كان فى ذؤابته شعرة بيضاء. ثم ولى عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم من أمرهم قبله، وشرف فى قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم. ويقال: كان يعرف فى عبد المطلب نور النبوة وهيبة الملك. قال الزبير: ومكارم عبد المطلب أكثر من أن أحيط بها، كان سيد قريش غير مدافع نفسا وأبا وبيتا وجمالا وبهاء وفعالا وكمالا. فصلى الله على المنتخب من ذريته، المخصوص بأولية الفخر وآخريته، وعلى آله الأكرمين وعترته وسلم تسليما. ذكر حفر عبد المطلب زمزم وما يتصل بذلك من حديث مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تقدم الخبر عن زمزم أنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، التى سقاه الله حين ظمأ وهو صغير.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 125- 126) .

ذكر مسير خالد بن الوليد رضى الله عنه، إلى بزاخة وغيرها

وكانت جرهم دفنتها حين ظعنوا من مكة بين صنمى قريش إساف ونائلة عند منحر قريش، فبقى أمرها كذلك إلى أن أمر عبد المطلب بن هاشم بحفرها. فذكر ابن إسحاق «1» وغيره من حديث على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: قال عبد المطلب: إنى لنائم فى الحجر إذ أتانى آت فقال: احفر طيبة. قلت: وما طيبة؟ ثم ذهب عنى. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعى فنمت فيه، فجاءنى فقال: احفر برة. فقلت: وما برة؟ ثم ذهب عنى. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعى فنمت فيه، فجاءنى فقال: احفر المضنونة. فقلت: وما المضنونة؟ ثم ذهب عنى. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعى فنمت فيه فجاءنى فقال: احفر زمزم. قلت: وما زمزم؟. قال: لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقى الحجيج الأعظم، وهى بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل «2» . فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث، ليس له يومئذ ولد غيره فحفر. فلما بدا لعبد المطلب الطى كبر. فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا فأشر كنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم. قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: اجعلوا بينى وبينكم من شئتم نحاكمكم إليه. قالوا: كاهنة بنى سعد بن هذيم، قال: نعم. وكانت بأطراف الشام. فركب عبد المطلب ومعه نفر من بنى أبيه من بنى عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر. قال: والأرض إذ ذاك مفاوز. قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فنى ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة ونحن نخشى على أنفسا مثل ما أصابكم. فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا

_ (1) انظر: السيرة (1/ 130) . (2) قال السهيلى فى الروض الأنف (1/ 169) : قرية النمل لا تحرث ولا تبذر وتجلب الحبوب إلى قريتها من كل جانب.

ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت. قال: فإنى أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه فى حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا. قالوا: نعم ما أمرت به، فقام كل رجل منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا. ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب فى الأرض ولا نبتغى لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا. فارتحلوا، حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم. ثم دعا القبائل من قريش، فقال: هلم إلى الماء، فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا. فجاؤا فشربوا واستقوا، ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك فى زمزم أبدا، إن الذى سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذى سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا. فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها. وفى غير حديث على ابن أبى طالب رضى الله عنه، أن عبد المطلب قيل له حين أمر بحفر زمزم: ثم ادع بالماء الروى غير الكدر ... يسقى حجيج الله فى كل مبر ليس يخاف منه شىء ما عمر فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش، فقال: تعلمون أنى قد أمرت أن أحفر زمزم، قالوا: فهل بين لك أين هى؟ قال: لا. قالوا: فارجع إلى مضجعك الذى رأيت فيه ما رأيت فإن يك حقا من الله يبين لك، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك. فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتى فقيل له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، وهى تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تذم، تستقى الحجيج الأعظم،

مثل نعام جافل «1» لم يقسم، ينذر فيها ناذر لمنعم، تكون ميراثا وعقدا محكم، ليست كبعض ما قد تعلم، وهى بين الفرث والدم. فزعموا أنه حين قيل له ذلك قال: وأين هى؟ قيل له: عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا. فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره، فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها، بين الوثنين إساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحهما. فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش حين رأوا جده، فقالوا: والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما. فقال عبد المطلب لابنه الحارث: ذب عنى فو الله لأمضين لما أمرت به. فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطى، فكبر وعرف أنه قد صدق، فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب، وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكة، ووجد فيها أسيافا قلعية «2» وأدراعا. فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك فى هذا شرك وحق، قال: لا، ولكن هلموا إلى أمر نصف بينى وبينكم، فضرب عليها بالقداح. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين ولى قدحين ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شىء فهو له ومن تخلف قدحاه فلا شىء له، قالوا: أنصفت. فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش. ثم أعطوا القداح الذى يضرب بها عند هبل، وهبل صنم فى جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم، وهو الذى عنى أبو سفيان بن حرب لما نادى يوم أحد: اعل هبل، أى أظهر دينك. وقام عبد المطلب يدعو الله، وضرب صاحب القداح، فخرج الأصفران على

_ (1) جافل: الجفول هو سرعة الذهاب والندور فى الأرض، يقال: جفلت الإبل جفولا إذا شردت. انظر: اللسان (مادة جفل) . (2) قلعية: اسم معدن ينسب إليه الرصاص الجيد، قيل: وهو جبل بالشام، وقيل أيضا: هو قلعة عظيمة فى أول بلاد الهند من جهة الصين فيه معدن الرصاص القلعى لا يكون إلا فى قلعتها وفى هذه القلعة تضرب السيوف القلعية وهى الهندية العتيقة. انظر: معجم البلدان (4/ 389) .

الغزالين، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش. فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب فى الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حليته الكعبة، فيما يزعمون «1» . وذكر الزبير أن عبد المطلب لما أنبط الماء فى زمزم حفرها فى القرار ثم بحرها حتى لا تنزف، ثم بنى عليها حوضا فطفق هو وابنه ينزعان عليها فيملآن ذلك الحوض، فيشرب منه الحاج. وكان قوم حسدة من قريش لا يزالوان يكسرون حوضه ذلك بالليل ويغتسلون فيه، فيصلحه عبد المطلب حين يصبح. فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه، فقيل له فى المنام: قل: اللهم إنى لا أحلها لمغتسل، وهى لشارب حل وبل. فقام عبد المطلب فى المسجد فنادى بالذى أرى، ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه ذلك عليه أحد من قريش أو يغتسل فيه إلا رمى فى جسده بداء، حتى تركوا حوضه ذلك وسقايته فرقا. وذكر الزبير أيضا أن عبد المطلب لما حفر زمزم وأدرك منها ما أدرك وجدت قريش فى أنفسها مما أعطى، فلقيه خويلد بن أسد بن عبد العزى، فقال: يا ابن سلمى، لقد سقيت ماء رغدا ونثلت عادية حتدا، قال: يا ابن أسد، أما إنك تشرك فى فضلها، والله لا يساعفنى أحد عليها ببر ولا يقوم معى بأزر إلا بذلت له خيرا لصهر. فقال خويلد بن أسد: أقول وما قولى عليهم بسنة ... إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم حفيرة إبراهيم يوم ابن آجر ... وركضة جبريل على عهد آدم فقال عبد المطلب: ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد. ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج، وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة «2» ، وكانت خارجا من مكة آبار حفائر قديمة من عهد مرة بن كعب وكلاب بن

_ (1) انظر: السيرة (1/ 132- 133) . (2) قال ابن هشام فى السيرة (1/ 133- 136) : وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة، فيما حدثنا زياد بن عبد الله البكائى عن محمد بن إسحاق، ثم أخذ يذكر أسماء الآبار التى حفرت قبل زمزم فقال: حفر عبد شمس بن عبد مناف الطوى، وهى البئر التى بأعلى مكة عند البيضاء، دار محمد بن يوسف الثقفى. وحفر هاشم بن عبد مناف بذر، وهى البئر التى-

ذكر رجوع بنى عامر وغيرهم إلى الإسلام

مرة وكبراء قريش الأول، منها يشربون، فعفت زمزم على تلك البئار التى كانت قبلها يسقى عليها الحاج. وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام، ولفضلها على ما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب. وكان عبد المطلب فيما يزعمون «1» والله أعلم، قد نذر حين لقى من قريش ما لقى عند حفر زمزم: لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم لله عز وجل عند الكعبة. فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء به، فأطاعوه وقالوا: وكيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب اسمه فيه ثم ائتونى ففعلوا، ثم أتوه فدخل بهم على هبل فى جوف الكعبة، وكان على بئر فى جوف الكعبة، فيها يجمع ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل قداح سبعة بها يضربون على ما يريدون، وإلى ما تخرج به القداح ينتهون فى أمورهم. فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على بنى هؤلاء بقداحهم هذه. وأخبره بنذره الذى نذر، وأعطاه كل رجل منهم قدحه الذى فيه اسمه. وكان عبد الله بن عبد المطلب أحب بنى أبيه إليه فيما يزعمون، فكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى. فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها، قام عبد المطلب عند هبل يدعو الله،

_ - عند المستنذر، خطم الخندمة على فم شعب أبى طالب، وحفر سجلة، وهى بئر المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف التى يسقون عليها اليوم، ويزعم بنو نوفل أن المطعم ابتاعها من أسد بن هاشم، ويزعم بنو هاشم أنه وهبها له حين ظهرت زمزم، فاستغنوا بها عن تلك الآبار وحفر أمية بن عبد شمس الحفر لنفسه. وحفرت بنو أسد بن عبد العزى: شفية، وهى بئر بنى أسد. وحفرت بنو عبد الدار: أم أحراد. وحفرت بنو جمح السنبلة، وهى بئر خلف بن وهب. وحفرت بنو سهم: الغمر، وهى بئر بنى سهم. وكانت آبار حفائر خارجا من مكة قديمة من عهد مرة بن كعب، وكلاب بن مرة، وكبراء قريش الأوائل منها يشربون، وهى رم، ورم: بئر مرة بن كعب بن لؤى. وخم، وخم: بئر بنى كلاب بن مرة. والحفر. انتهى باختصار. (1) انظر: السيرة (1/ 136- 139) ، تاريخ الطبرى (2/ 239، 243) ، طبقات ابن سعد (1/ 88، 89) .

ثم ضرب صاحب القداح، فخرج القدح على عبد الله، فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها وقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه. فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتى بابنه فيذبحه فما بقاء الناس على هذا؟!. وقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بنم مخزوم، وكان عبد الله بن أخت القوم، أمه وأم أخويه الزبير وأبى طالب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل وانطلق إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع، فتسألها ثم أنت على رأس أمرك، إن أمرتك بذبحه ذبحته وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته. فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها فيما يزعمون، بخيبر، فركبوا حتى جاؤها فسألوها، وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه وما أراد به ونذره فيه. فقالت لهم: ارجعوا عنى اليوم حتى يأتينى تابعى فأسأله. فرجعوا من عندها، فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله، ثم غدوا عليها فقالت لهم: قد جاءنى الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، وكانت كذلك، قالت: فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم. فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا ذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل، وعبد المطلب عند هبل يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الإبل، فبلغت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الإبل، ومازالوا كذلك يزيدون عشرا فعشرا من الإبل ويضربون عليها، كل ذلك يخرج القدح على عبد الله، حتى بلغت الإبل مائة من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش: قد انتهى، رضى ربك يا عبد المطلب. فزعموا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات، فضربوا على عبد الله وعلى الإبل، وقام عبد المطلب يدعو الله، فخرج القدح على الإبل، ثم عادوا الثانية والثالثة وعبد المطلب قائم يدعو الله، فخرج القدح فى كلتيهما على الإبل.

فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع. ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد عبد الله، فمر به فيما يزعمون، على امرأة من بنى أسد بن عبد العزى «1» ، وهى أخت ورقة بن نوفل بن أسد، وهى عند الكعبة. قال الزبير: وكان عبد الله أحسن رجل رئى فى قريش قط، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله. قال: مع أبى. قالت: لك مثل الإبل التى نحرت عنك وقع على الآن، قال: أنا مع أبى ولا أستطيع خلافه ولا فراقه. فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، وهو يومئذ سيد بنى زهرة سنا وشرفا، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبا وموضعا. فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التى عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: مالك لا تعرضين على اليوم ما عرضت بالأمس، قالت له: فارقك النور الذى كان معك بالأمس، فليس لى بك اليوم حاجة، وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل، وكان تنصر واتبع الكتب، أنه كائن فى هذه الأمة نبى. ويقال: إن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة ابنة وهب، وقد عمل فى طين له وبه آثار من الطين، فدعاها إلى نفسها، فأبطأت عليه لما رأت به من آثار الطين، فخرج من عندها، فتوضأ وغسل ما كان به من ذلك، ثم خرج عائدا إلى آمنة، فمر بتلك المرأة فدعته إلى نفسها فأبى عليها، وعمد إلى آمنة فدخل عليها فأصابها، فحملت بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر بامرأته تلك فقال لها: هل لك؟ قالت: لا، مررت بى وبين عينيك غرة فدعوتك فأبيت، ودخلت على آمنة فذهبت بها. فزعموا أن امرأته تلك كانت تحدث: أنه مر بها وبين عينيه مثل غرة الفرس، قالت: فدعوته رجاء أن تكون تلك بى، فأبى على ودخل على آمنة فأصابها فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) قال السهيلى فى الروض الأنف (1/ 180) : واسم هذه المرأة رقية بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل تكنى أم فتال وبهذه التكنية وقع ذكرها فى رواية يونس بن إسحاق وذكر البرقى عن هشام الكلبى، قال: إنما مر على امرأة اسمها فاطمة بنت مر، كانت من أجمل النساء وأعفهن، وكانت قد قرأت الكتب، فرأت نور النبوة فى وجهه فدعته إلى نفسها فلما أبى قالت شعرا. انتهى باختصار.

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط قومه نسبا، وأعظمهم شرفا، من قبل أبيه وأمه صلى الله عليه وسلم، ويزعمون فيما يتحدث الناس، والله أعلم، أن أمه كانت تحدث أنها أتيت حين حملت به، فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولى: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا. ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن هلك وأمه حامل به. هذا قول ابن إسحاق «1» . وخالفه كثير من العلماء، فقالوا: إن النبى صلى الله عليه وسلم كان فى المهد حين توفى أبوه. ذكره الدولابى وغيره. وذكر ابن أبى خيثمة أنه كان ابن شهرين، وقيل أكثر من ذلك. والله أعلم. وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول عام الفيل. قيل: بعد الفيل بخمسين يوما «2» . وحكى الواقدى عن سليمان بن سحيم قال: كان بمكة يهودى يقال له يوسف، فلما كان اليوم الذى ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم به أحد من قريش قال: يا معشر قريش قد ولد نبى هذه الأمة فى بحرتكم هذه اليوم. وجعل يطوف فى أنديتهم فلا يجد خبرا، حتى انتهى إلى مجلس عبد المطلب فسأل فقيل له: ولد لابن عبد المطلب غلام. فقال: هو نبى والتوراة. وقال حسان بن ثابت: والله إنى لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان أعقل كل ما

_ (1) انظر: السيرة (1/ 140- 141) . (2) هذا قول ابن إسحاق. انظر: السيرة (1/ 142) . وذكره ابن كثير فى البداية باب مولد النبى صلى الله عليه وسلم (2/ 264- 267) وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل على قول الجمهور، فقيل: بعده بشهر، وقيل: بأربعين يوما، وقيل: بخمسين يوما، وهو أشهر. وعن أبى جعفر الباقر: كان قدوم الفيل للنصف من المحرم ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة، وقال آخرون: بل كان عام الفيل قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين قاله ابن أبزى. وقيل: بثلاث وعشرين سنة، رواه شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده. وقيل: بعد الفيل بثلاثين سنة، قاله موسى بن عقبة عن الزهرى رحمه الله، واختاره موسى بن عقبة أيضا رحمه الله. وقال أبو زكريا العجلانى: بعد الفيل بأربعين عاما، رواه ابن عساكر وهذا غريب جدا، وأغرب منه ما قال خليفة بن خياط: حدثنى شعيب بن حبان عن عبد الواحد بن أبى عمرو عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وهذا حديث غريب ومنكر وضعيف أيضا، قال خليفة بن خياط: والمجتمع عليه أنه عليه السلام ولد عام الفيل.

أسمع إذا سمعت يهوديا يصرخ على أطمة بيثرب: يا معشر يهود. حتى إذا اجتمعوا قالوا: ويلك! مالك! قال: طلع الليلة نجم أحمد الذى ولد به «1» . وذكر ابن السكن من حديث عثمان بن أبى العاص عن أمه فاطمة بنت عبد الله، أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا. قالت: فما شىء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإنى لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إنى لأقول لتقعن على. وذكر ابن مخلد فى تفسيره أن إبليس رن أربع رنات، رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب! قال ابن إسحاق «2» : فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب أنه قد ولد لك غلام، فائته فانظر إليه. فأتاه ونظر إليه، وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه. فيزعمون أن عبد المطلب أخذه فدخل به الكعبة فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها. ويروى أن عبد المطلب إنما سماه محمدا لرؤيا رآها. زعموا أنه أرى فى منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف فى السماء وطرف فى الأرض وطرف فى المشرق وطرف فى المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب يتعلقون بها. فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض. فلذلك سماه محمدا، مع ما حدثته أمه. ولا يعرف فى العرب أحد تسمى بهذا الاسم قبله، سوى نفر سموا به من أجله منهم محمد بن سفيان بن مجاشع التميمى، ومحمد بن أحيحة بن الجلاح، وآخر من ربيعة. وكان آباؤهم قد وفدوا على بعض الملوك ممن كان عنده علم بالكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث النبى صلى الله عليه وسلم وتقارب زمانه، وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملا، فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر أن يسميه محمدا. ففعلوا ذلك رجاء أن يكونه. والله أعلم حيث يجعل رسالاته. وقد وقع فى مواضع أخر أن هؤلاء النفر كانوا أربعة، ولم يذكر فيهم محمد بن أحيحة، وحديثهم مخالف لما ذكرناه خلافا يسيرا.

_ (1) ذكره البيهقى فى دلائل النبوة (1/ 91) . (2) انظر: السيرة (1/ 143) .

روينا من حديث عبد الملك بن أبى سوية عن أبيه عن جده قال: سألت محمد بن عدى بن ربيعة: كيف سماك أبوك محمدا؟ فقال: سألت أبى عما سألتنى عنه، فقال: خرجت رابع أربعة من بنى تميم أنا فيهم، وسفيان بن مجاشع بن دارم وأسامة بن مالك ابن خندف ويزيد بن ربيعة، نريد ابن جفنة ملك غسان فلما شارفنا الشام نزلنا إلى غدير عليه شجرات وقربه شخص نائم، فتحدثنا فاستمع كلامنا وأشرف علينا فقال: إن هذه لغة ما هى لغة أهل هذه البلاد. فقلنا: نحن قوم من مضر قال: من أى المضريين؟ قلنا: من خندف. قال: أما إنه يبعث فيكم وشيكا نبى خاتم النبيين فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا. فقلت له: ما اسمه؟ قال: محمد: فرجعنا من عند ابن جفنة فولد لكل رجل منا ابن سماه محمدا. والتمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم الرضعاء، فاسترضع له من امرأة من بنى سعد بن بكر يقال لها: حليمة بنت أبى ذؤيب «1» . وكانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها ترضعه، فى نسوة من بنى سعد بن بكر تلتمس الرضعاء. قالت: وفى سنة شهباء «2» لم تبق لنا شيئا. قالت: فخرجت على أتان لى قمراء «3» معنا شارف لنا «4» ، والله ما تبض بقطرة ولا ننام ليلتان أجمع من صبينا الذى معنا من بكائه من الجوع، ما فى ثديى ما يغنيه وما فى شارفنا ما يغذيه، ولكنا نرجو الغيث والفرج. فخرجت على أتانى تلك، فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم، ضعفا وعجفا. حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله

_ (1) هى حليمة بنت أبى ذؤيب، وأبو ذؤيب هو عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناضرة بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن غيلان بن مضر. وانظر ترجمتها: فى الاستيعاب الترجمة رقم (3336) ، الإصابة الترجمة رقم (11056) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6855) . (2) سنة شهباء: إذا كانت مجدبة بيضاء من الجدب لا يرى فيها خضرة، وقيل الشهباء التى ليس فيها مطر. انظر: اللسان (مادة شهب) . (3) القمراء: لون يميل إلى الخضرة، وقيل بياض، فيه كدرة يقال: حمار أقمر وأتان قمراء أى بيضاء وليلة قمراء أى مضيئة. انظر: اللسان (مادة قمر) . (4) الشارف: الناقة التى قد أسنت وقال أبو الأعرابى الشارف الناقة الهمة، والشارف من الإبل المسن والمسنة والجمع شوارف. انظر: اللسان (مادة شرف) .

صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبى الصبى، فكنا نقول: يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده!! فكنا نكرهه لذلك. فما بقيت امرأة قدمت معى إلا أخذت رضيعا غيرى. فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى: والله إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. قال: لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره. فلما أخذته رجعت به إلى رحلى، فلما وضعته فى حجرى أقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن، فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روى. ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجى إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل «1» ، فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا. فبتنا بخير ليلة، يقول صاحبى حين أصبحنا: تعلمى والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة! قلت: والله إنى لأرجو ذلك. ثم خرجنا، وركبت أتانى وحملته عليها معى، فو الله لقطعت بالركب، ما يقدر على شىء من حميرهم، حتى إن صواحبى ليقلن: يا بنت أبى ذؤيب ويحك! اربعى «2» علينا! أليست هذه أتانك التى كنت خرجت عليها؟! فأقول لهن: بلى والله إنها لهى. فيقلن: والله إن لها لشأنا. قالت: ثم قدمنا منازلنا من بنى سعد، ولا أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبنا، فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها فى ضرع، حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذؤيب. فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمى شباعا لبنا. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير، حتى مضت سنتان وفصلته. وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جعفرا. فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شىء على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته.

_ (1) حافل: ممتلئة الضرع من اللبن، والحفل اجتماع اللبن فى الضرع، والمحفلة التى اجتمع لبنها فى ضرعها أياما. (2) اربعى: أى انتظرينا، وهى من ربع يربع إذا وقف وانتظر. انظر: اللسان (مادة ربع) .

قصة مسيلمة الكذاب وردة أهل اليمامة

فكلمنا أمه وقلت لها: لو تركت بنى عندى حتى يغلظ، فإنى أخشى عليه وباء مكة. فلم نزل بها حتى ردته معنا، فرجعنا به. فو الله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مع أخيه لفى بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لى ولأبيه ذاك أخى القرشى قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه. قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائما منتقعا وجهه. قالت: فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا: ما لك يا بنى؟ قال: «جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعانى فشقا بطنى فالتمسا فيه شيئا لا أدرى ما هو» «1» . قالت: فرجعنا به إلى خبائنا وقال لى أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به. قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك به يا ظئر «2» ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟. قلت: قد بلغ والله بابنى، وقضيت الذى على، وتخوفت الأحداث عليه، فأديته عليك كما تحبين. قالت: ما هذا شأنك، فاصدقينى خبرك. قالت: فلم تدعنى حتى أخبرتها. قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟ قلت: نعم. قالت: كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإن لبنى لشأنا، أفلا أخبرك خبره، قلت: بلى. قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج منى نور أضاء لى قصور بصرى من أرض الشام. ثم حملت به، فو الله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء. دعيه عنك وانطلقى راشدة «3» .

_ (1) قصة شق صدر النبى، وهو عند حليمة السعدية مشهوره، وقد رواها الإمام مسلم فى صحيحه (1/ 101، 102) عن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه فاستخرجه، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم ثم لزمه ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه، يعنى مرضعته، أن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون» . (2) الظئر: مهموز العاطفة على غير ولدها المرضعة له من الناس والإبل الذكر والأنثى فى ذلك سواء والجمع اظئار. انظر: اللسان (مادة ظئر) . (3) انظر: السيرة (144- 146) .

ويروى أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله: أخبرنا عن نفسك. قال: «نعم، أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى ابن مريم، ورأت أمى حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت فى بنى سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخ لى خلف بيوتنا نرعى بهما لنا، أتانى رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا، فأخذانى فشقا بطنى ثم استخرجا قلبى فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ثم غسلا قلبى وبطنى بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته فوزننى بعشرة فوزنتهم. ثم قال زنه بمائة من أمته. فوزننى بهم فوزنتهم. ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزننى بهم فوزنتهم. فقال: دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنها» «1» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبى إلا وقد رعى الغنم» . قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا» «2» . وكان يقول لأصحابه: «أنا أعربكم، أنا قرشى واسترضعت فى بنى سعد بن بكر» «3» . وزعم الناس فيما يتحدثون «4» ، والله أعلم، أن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلها فى الناس وهى مقبلة به نحو أهله، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب فقالت له: إنى قدمت بمحمد هذه الليلة فلما كنت بأعلى مكة أضلنى، فو الله ما أدرى أين هو. فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده، فيزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش فأتيا به عبد المطلب فقالا: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة. فأخذه عبد المطلب فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له؛ ثم أرسل به إلى أمه آمنة.

_ (1) انظر الحديث فى: تفسير القرطبى (2/ 131) ، تفسير الطبرى (1/ 435) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 139، 5/ 207) ، كنز العمال للمتقى الهندى (31833، 31834، 31835، 31889) ، دلائل النبوة للبيهقى (1/ 69) ، طبقات ابن سعد (1/ 1/ 96) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 275) . (2) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (9242) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 324) . (3) انظر الحديث فى: كشف الخفاء للعجلونى (1/ 232) ، كنز العمال للمتقى الهندى (31884) ، طبقات ابن سعد (1/ 1/ 71) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 277) . (4) انظر: السيرة (1/ 148) .

وذكر بعض أهل العلم «1» أن مما هاج أمه السعدية على رده، ما ذكرت لأمه وما أخبرتها عنه، أن نفرا من الحبشة نصارى رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه، وقلبوه، ثم قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره. فلم تكد تنفلت به منهم. وذكر الواقدى أن أمه حليمة السعدية بعد أن رجعت به من عند أمه حضرت به سوق ذى المجاز، وبها يومئذ عراف من هوازن يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الحمرة فى عينيه وإلى خاتم النبوة، صاح: يا معشر العرب فاجتمع إليه أهل الموسم، فقال: اقتلوا هذا الصبى. وانسلت به حليمة. فجعل الناس يقولون: أى صبى هو؟ فيقول: هذا الصبى. فلا يرون شيئا، قد انطلقت به أمه، فيقال له: ما هو؟ فيقول: رأيت غلاما، وآلهتكم، ليغلبن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم. فطلب بعكاظ فلم يوجد. ورجعت به حليمة إلى منزلها، فكانت بعد هذا لا تعرضه لأحد من الناس. ولقد نزل بهم عراف، فأخرج إليه صبيان أهل الحاضر، وأبت حليمة أن تخرجه إليه، إلى أن غفلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج من المظلة فرآه العراف فدعاه فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل الخيمة، فجهد بهم العراف أن يخرج إليه فأبت. فقال: هذا نبى. وقد عرضه عمه أبو طالب على عائف من لهب، كان إذا قدم من مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم، فأتاه به أبو طالب وهو غلام مع من يأتيه، قال: فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم شغله عنه شىء فقال: الغلام على به. فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه، فجعل يقول: ويلكم ردوا على الغلام الذى رأيت آنفا، فو الله ليكونن له شأن. وانطلق به أبو طالب. وكانت حليمة بعد رجوعها به من مكة لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا. فغفلت عنه يوما فى الظهيرة، فخرجت تطلبه حتى تجده مع أخته. فقالت: فى هذا الحر؟! فقالت أخته: يا أمه، ما وجد أخى حرا، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت، حتى انتهى إلى هذا الموضع. تقول أمها: أحقا يا بنية؟ قالت: إى والله. قال: تقول حليمة: أعوذ بالله من شر ما يحذر على ابنى. فكان ابن عباس يقول: رجع إلى أمه وهو ابن خمسن سنين. وكان غيره يقول: رجع إليها وهو ابن أربع سنين. هذا كله عن الواقدى.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 148- 149) .

قال ابن إسحاق: فكان النبى صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة وجده عبد المطلب فى كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتا حسنا لما يريد من كرامته. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين توفيت أمه بالأبواء بين مكة والمدينة «1» . وكان قد قدمت به إلى أخواله من بنى عدى بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهى راجعة به إلى مكة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب. وكان يوضع لعبد المطلب فراش فى ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابنى فو الله إن له لشأنا. ثم يجلسه معه عليه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع «2» . قالوا: وكانت أم أيمن تحدث تقول: كنت أحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم فغفلت عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسى يقول: يا بركة، قلت: لبيك، قال: أتدرين أين وجدت ابنى؟ قلت: لا أدرى. قال: وجدته مع غلمان قريبا من السدرة، لا تغفلى عن ابنى، فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابنى نبى هذه الأمة، وأنا لا آمن عليه منهم. وكان لا يأكل طعاما إلا قال: على بابنى. فيؤتى به إليه. وحدث كعب بن مالك عن شيوخ من قومه أنهم خرجوا عمارا، وعبد المطلب يومئذ حى بمكة، ومعهم رجل من يهود تيماء، صحبهم للتجارة يريد مكة أو اليمن، فنظر إلى عبد المطلب، فقال: إنا نجد فى كتابنا الذى لم يبدل أنه يخرج من ضئضى هذا نبى يقتلنا وقومه قتل عاد. وجلس عبد المطلب يوما فى الحجر وعنده أسقف نجران: وكان صديقا له، وهو يحادثه وهو يقول: إنا نجد صفة نبى بقى من ولد إسماعيل، هذه مولده، من صفته كذا وكذا. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الحديث، فنظر إليه الأسقف وإلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدميه، فقال: هو هذا. فقال الأسقف: ما هذا منك؟ قال: ابنى. قال الأسقف: لا،

_ (1) انظر: السيرة (1/ 149) . (2) انظر: السيرة (1/ 149) .

ما نجد أباه حيّا. قال عبد المطلب: هو ابن ابنى مات أبوه وأمه حبلى به. قال: صدقت. قال عبد المطلب: تحفظوا بابن أخيكم، ألا تسمعون ما يقال فيه؟!. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يلعب مع الغلمان حتى بلغ الردم، فرآه قوم من بنى مدلج فدعوه، فنظروا إلى قدميه وإلى أثره، ثم خرجوا فى طلبه حتى صادفوا عبد المطلب قد لقيه فاعتنقه، فقالوا لعبد المطلب: ما هذا منك؟ قال: ابنى. قالوا: فاحتفظ به، فإنا لم نر قدما قط أشبه بالقدم الذى فى المقام من قدمه. فقال عبد المطلب لأبى طالب: اسمع ما يقول هؤلاء. فكان أبو طالب يحتفظ به. وقد روى أبو داود السجستانى من حديث ابن عباس، قال: أتى نفر من قريش امرأة كاهنة، فقالوا: أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام. قالت: إن جررتم على السهلة عباءة ومشيتم عليها أنبأتكم بأقربكم شبها به. فجروا عليها عباءة، ثم مشوا عليها، فرأت أثر قدم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا والله أقربكم شبها به. قال ابن عباس: فمكثوا بعد عشرين سنة، ثم بعث محمد صلى الله عليه وسلم. ولما ظهر سيف بن ذى يزن على الحبشة، وذلك بعد مولد النبى صلى الله عليه وسلم أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها يهنئونه ويمدحونه ويذكرون من حسن بلائه وطلبه بثأر قومه. فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم فى أناس من وجوه قريش، فقدموا عليه صنعاء فأذن لهم، فلما دخلوا عليه دنا عبد المطلب منه فاستأذنه فى الكلام، فقال: إن كنت ممن يتكلم بين يدى الملوك فقد أذنا لك. فقال عبد المطلب: إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا، شامخا باذخا، وأنبتك منبتا طابت أرومته وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، فى أكرم موطن، وأطيب معدن. وأنت أيها الملك رأس العرب الذى به تنقاد، وعمودها الذى عليه العماد، ومعقلها الذى يلجأ إليه العباد، سلفك لك خير سلف، وأنت لنا فيه خير خلف، فلم يخمل من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه، نحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذى أبهجنا بكشف الكرب الذى فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.

فقال له سيف: وأيهم أنت أيها المتكلم؟ فقال: أنت عبد المطلب بن هاشم. قال: ابن أختنا؟ قال: نعم؟ قال: أدنه، فأدناه. ثم أقبل عليه وعلى القوم، فقال لهم: مرحبا وأهلا، قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم، وأنتم أهل الليل والنهار، فلكم الكرامة ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم. ثم أنهضوا إلى دار الضيافة والوفود، فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف. ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب، فقال له: إنى مفوض إليك من سنى علمى أمرا لو يكون غيرك لم أبح له به، ولكنى رأيتك معدنه فأطلعتك عليه، فليكن عندك مكنونا حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره. إنى أجد فى الكتاب المكنون والعلم المخزون الذى اختزناه لأنفسنا واجتبيناه دون غيرنا خيرا عظيما وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة، للناس عامة ولرهطك كافة، ولك خاصة. فقال له عبد المطلب: مثلك أيها الملك سر وبر، فما هو؟ فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر.. فقال: إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة. فقال له عبد المطلب: لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من ساره إياى ما أزداد به سرورا. فقال له ابن ذى يزن: هذا حينه الذى يولد فيه، أو قد ولد، اسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، قد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، ويكسر الصلبان ويخمد النيران ويعبد الرحمن ويدحر الشيطان، قوله فصل وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله. فقال له عبد المطلب: عز جدك وعلا كعبك ودام ملكك وطال عمرك، فهل الملك سارى بإفصاح، فقد أوضح لى بعض الإيضاح. فقال له ابن ذى يزن: والبيت والحجب، والعلامات والنصب، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب. فخر عبد المطلب ساجدا، فقال له: ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك، هل أحسست بشىء مما ذكرت لك؟.

فقال عبد المطلب: كان لى ابن، وكنت عليه رفيقا، فزوجته كريمة من كرائم قومه، فجاء بغلام فسميته محمدا، فمات أبوه وأمه، وكفلته أنا. فقال له ابن ذى يزن: إن الذى قلت لك كما قلت، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم أعداؤه، ولن يجعل الله عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإنى لا آمن أن تدخلهم التعاسة من أن تكون لكم الرياسة، فيطلبون له الغوائل وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون وأبناؤهم، ولولا أنى أعلم أن الموت مخترمى قبل مبعثه لسرت بخيلى ورجلى حتى أصير بيثرب دار ملكه، فإنى أجد فى الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره وأهل النصرة له، وموضع قبره، ولولا أنى أخاف عليه الآفات واحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه بذكره، ولكنى صارف ذلك إليك، من غير تقصير بمن معك. ثم أمر لكل رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء، وحلس من البرود، ومائة من الإبل، وخمسة أرطال ذهب، وعشرة أرطال فضة، وكرش مملوءة عنبرا. وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك كله، وقال له: إذا حال الحول فائتنى. فمات ابن ذى يزن قبل أن يحول الحول، فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول: يا معشر قريش، لا يغبطنى أحدكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر، فإنه إلى نفاد، ولكن ليغبطنى بما يبقى لى ولعقبى من بعدى ذكره، وفخره وشرفه. فإذا قيل له: فما ذاك؟ قال: ستعلمون نبأه ولو بعد حين. وحديث سيف بن ذى يزن هذا عن غير ابن إسحاق وهو عندنا بالإسناد، وقد تقدم ما ألقاه تبع الآخر إلى ملوك حمير وأبنائهم من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن علم سيف بذلك إنما كان من تلك الجهات. والله أعلم. ثم إن عبد المطلب بن هاشم هلك عن سن عالية مختلف فى حقيقتها «1» . أدناها فيما انتهى إلى ووقفت عليه، خمس وتسعون سنة؛ ذكره الزبير. وأعلاها فيما ذكر الزبير أيضا، عن نوفل بن عمارة قال: كان عبيد بن الأبرص ترب عبد المطلب، وبلغ مائة وعشرين سنة، وبقى عبد المطلب بعده عشرين سنة. وقال محمد بن سعيد بن المسيب: لما حضرت الوفاة عبد المطلب وعرف أنه ميت جمع بناته وكن ستا: صفية، وبرة، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وأميمة وأروى، فقال

_ (1) انظر: السيرة (1/ 149) .

ذكر تقديم خالد بن الوليد الطلائع أمامه من البطاح

لهن: ابكين على حتى أسمع ما تقلن قبل أن أموت. فقالت كل واحدة منهن شعرا ترثيه به وأنشدته إياه، فأشار برأسه، وقد أصمت: أن هكذا فابكيننى. وذكر ابن إسحاق تلك الأشعار «1» . وقال ابن هشام: إنه لم ير أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها «2» . قال ابن إسحاق: وقال حذيفة بن غانم أخو بنى عدى بن كعب يبكى عبد المطلب بن هاشم، ويذكر فضله، وفضل قصى على قريش وفضل ولده من بعده عليهم: أعينى جودا بالدموع على الصدر ... ولا تسأما أسقيتما سبل القطر «3» وجودا بدمع واشفحا كل شارق ... بكاء امرئ لم يشوه نائب الدهر «4» وسحا وجما واسجما ما بقيتما ... على ذى حياء من قريش وذى ستر على رجل جلد القوى ذى حفيظة ... جليل المحيا غير نكس ولا هذر على المزد البهلول ذى البأس والندى ... ربيع لؤى فى القحوط وفى العسر على خير حاف من معد وناعل ... كريم المساعى طيب الخيم والنجر «5» على شيبة الحمد الذى كان وجهه ... يضىء سواد الليل كالقمر البدر وساقى الحجيج ثم للخير هاشم ... وعبد مناف ذلك السيد الفهرى طوى زمزما عند المقام فأصبحت ... سقايته فخرا على ذى فخر ليبك عليه كل عان بكربة ... وآل قصى من مقل وذى وفر بنوه سراة كهلهم وشبابهم ... تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر

_ (1) انظر ما ذكره ابن إسحاق فى: السيرة (1/ 150- 154) . (2) هذا قول ابن هشام فى السيرة وقد ذكر أنه ذكرها لأنه رواه عن محمد بن سعيد بن المسيب فكتبه. انظر: السيرة (1/ 150) . (3) سبل: أى المطر، وقيل: هو المطر بين السحاب والأرض حين يخرج من السحاب ويخرج من الأرض. انظر: اللسان (مادة سبل) . (4) كل شارق: الشارق أى كل يوم طلعت فيه الشمس، وقيل: الشارق قرن الشمس. ولم يشوه: الإشواء يوضع موضع الإبقاء، قال أبو منصور: هذا كله من إشواء الرامى وذلك إذا رمى فأصاب الأطراف ولم يصيب المقتل فيوضع الإشواء موضع الخطأ والشىء الهين. (5) أورد فى السيرة بعد هذا البيت بيتين لم يذكرهما هنا هما: وخيرهم أصلا وفرعا ومعدنا ... وأحظاهم بالمكرمات وبالذكر وأولاهم بالمجد والحلم والنهى ... وبالفضل عند المجحفات من الغبر انظر: السيرة (1/ 155) .

قصى الذى عادى كنانة كلها ... ورابط بيت الله فى العسر واليسر فإن تك غالته المنايا وصرفها ... فقد عاش ميمون النقيبة والأمر وأبقى رجالا سادة غير عزل ... مصاليت أمثال الردينية السمر أبو عتبة الملقى إلى حباءه ... أغر هجان اللون من نفر غر وحمزة مثل البدر يهتز للندى ... نقى الثياب والذمام من الغدر وعبد مناف ماجد ذو حفيظة ... وصول لذى القربى رحيم بذى الصهر كهولهم خير الكهول ونسلهم ... كنسل الملوك لا تبور ولا تحرى متى ما تلاقى منهم الدهر ناشئا ... تجده بإجريا أوائله يجرى هم ملأوا البطحاء مجدا وسؤددا ... إذا استبق الخيرات فى سالف العصر وهم حضروا والناس باد فريقهم ... وليس بها إلا شيوخ بنى عمرو بنوها ديارا جمة وطووا بها ... بئرا تسح الماء من ثبج بحر لكى يشرب الحجاج منها وغيرهم ... إذا ابتدروها صبح تابعة النحر ثلاثة أيام تظل ركابهم ... محبسة بين الأخاشب والحجر وقدما غنينا قبل ذلك حقبة ... ولا نستقى إلا بخم أو الحفر هم يغفرون الذنب ينقم دونه ... ويعفون عن قول السفاهة والهجر أخارج إما أهلكن فلا تزل ... لهم شاكرا حتى تغيب فى القبر ولا تنس ما أسدى ابن لبنى فإنه ... قد أسدى يدا محقوقة منك بالشكر وأنت ابن لبنى من قصى إذا انتموا ... بحيث انتهى قصد الفؤاد من الصدر وأمك سر من خزاعة جوهر ... إذا حصل الأنساب يوما ذوو الخبر إلى سبأ الأبطال تنمى وتنتمى ... وأكرم بها منسوبة فى ذرى الدهر* ابن لبنى هذا أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب، وهو أبو عتبة الذى ذكره قبل فى هذا الشعر. وكانت أمه امرأة من خزاعة اسمها لبنى بنت هاجر. ولذلك قال: «وأمك سر من خزاعة» «1» . ونماها إلى سبأ الأبطال بناء على ما قدمناه من انتماء خزاعة إلى عمرو بن عامر، من

_ (*) أورد فى السيرة بعد هذا البيت بيتين لم يذكرهما هنا هما: أبو شمير منهم وعمرو بن مالك ... وذو جدن من قومها وأبو الجبر وأسعد قاد الناس عشرين حجة ... يؤيد فى تلك المواطن بالنصر انظر: السيرة (1/ 157، 158) . (1) انظر: السيرة (1/ 158) .

غسان وانتفائهم من المضرية. واليد التى ذكر هذا الشاعر أنها ترتبت عليه لأبى لهب: وذكر ابن إسحاق أنه كان أخذ بغرم أربعة آلاف درهم بمكة، فوقف بها، فمر به أبو لهب فافتكه. ونسب الزبير هذا الشعر لحذافة بن غانم، ودليله قوله فيه: «أخارج إما أهلكن» ... البيت. فإن خارجة هو ابن حذافة وحذيفة الذى نسب ابن إسحاق إليه الشعر هو أخو حذافة، ولا يعرف له ابن يسمى خارجة، وإنما هو والد أبى جهم بن حذيفة، واسم أبى جهم عبيد «1» ، وهو الذى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخميصة ذات الأعلام التى ألهته عن صلاته، وأمر أن يؤتى بأنبجانية. ولما هلك عبد المطلب، ولى زمزم والسقاية عليها ابنه العباس وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وهى بيده، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما مضى من ولايته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجله إجلال الولد الوالد. يقول كريب مولى ابن عباس: وما ينبغى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجل إلا والدا أو عما، فضيلة خص الله بها العباس دون من سواه. وقال صلى الله عليه وسلم: «احفظونى فى عمى عباس، فإن عم الرجل صنو أبيه» «2» . وطلع يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا العباس أجود قريش كفّا وأوصلها» «3» . ولم يزل العباس سيدا فى الجاهلية والإسلام، يمنع الجار ويبذل المال ويعطى فى النوائب. قال الزبير: وكان يقال: كان للعباس بن عبد المطلب ثوب لعارى بنى هاشم، وجفنة

_ (1) هو: أبو جهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عويج بن عدى بن كعب القرشى العدوى، قيل: اسمه عامر بن حذيفة، وقيل: عبيد الله بن حذيفة. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2929) ، الإصابة الترجمة رقم (9703) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5780) . (2) أخرجه الطبرانى فى الصغير (1/ 207) ، الخطيب البغدادى فى التاريخ (10/ 68) ، الهيثمى فى المجمع (9/ 269) ، المتقى الهندى فى الكنز (33389، 33395، 33396، 33411) ، ابن عدى فى الضعفاء (2/ 768) . (3) أخرجه ابن كثير فى البداية والنهاية (7/ 161) ، السيوطى فى اللآلئ المصنوعة (1/ 223) ، الحاكم فى المستدرك (3/ 328، 329) .

لجائعهم، ومقطرة لجاهلهم. والمقطرة: خشبة ذات سلسلة يحبس فيها الناس. وفى ذلك يقول إبراهيم بن على بن هرمة: وكانت لعباس ثلاث نعدها ... إذا ما جناب الحى أصبح أشهبا فسلسلة تنهى الظلوم وجفنة ... تناخ فيكسوها السنام المرغبا وحلمة عصب ما تزال معدة ... لعار ضريك ثوبه قد تهدبا وقال ابن شهاب: لقد جاء الله بالإسلام وإن جفنة العباس لتدور على فقراء بنى هاشم، وإن قيده وسوطه لمعد لسفهائهم. قال: فكان ابن عمر يقول: هذا والله الشرف، يطعم الجائع ويؤدب السفيه!. وكان أبو بكر وعمر فى ولايتهما لا يلقى العباس واحد منهما وهو راكب إلا نزل عن دابته وقادها ومشى مع العباس حتى يبلغ منزله أو مجلسه فيفارقه. وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مهلك جده عبد المطلب مع عمه أبى طالب. وكان عبد المطلب يوصيه به فيما يزعمون. وذلك أن عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا طالب أخوان لأب وأم، فكان أبو طالب هو الذى يلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، فكان إليه ومعه «1» . وذكر الواقدى أن أبا طالب كان مقلا من المال، وكانت له قطعة من الإبل تكون بعرنة، فيبدو إليها فيكون فيها، ويؤتى بلبنها إذا كان حاضرا بمكة. فكان عيال أبى طالب إذا أكلوا جميعا وفرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا. فكان أبو طالب إذا أراد أن يعشيهم أو يغديهم يقول: كما أنتم حتى يأتى ابنى. فيأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم؛ وإن كان لبنا شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم، ثم يناول العيال القعب فيشربون منه فيروون من عند آخرهم من القعب الواحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعبا!. فيقول أبو طالب: إنك لمبارك!. وكان الصبيان يصبحون شعثا رمضا ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهينا كحيلا. وقالت أم أيمن «2» ، وكانت تحضنه: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا جوعا قط ولا

_ (1) انظر: السيرة (1/ 159) . (2) هى: بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان، غلبت عليها كنيتها. انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3287) ، الإصابة الترجمة رقم (10921) .

عطشا، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة، فربما عرضنا عليه الغذاء فيقول: لا أريده أنا شبعان. قال ابن إسحاق «1» : ثم إن أبا طالب خرج فى ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل صب به «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون، فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معى ولا يفارقنى ولا أفارقه أبدا أو كما قال. فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى «3» من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرى فى صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل فى تلك الصومعة منذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر. فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك فيما يزعمون عن شىء رآه وهو فى صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا فنزلوا فى ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت «4» أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إنى قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك اليوم لشأنا! ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟. قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه فى رحال القوم، فلما نظر بحيرى فى القوم لم ير الصفة التى يعرف

_ (1) هذه قصة بحيرى، وقد ذكرها ابن إسحاق فى السيرة (1/ 160- 162) . (2) صب به: الصبابة الشوق، وقيل: رقته وحرارته، وقيل: رقة الهواء، وصب الرجل إذا عشق يصب صبابا. انظر: اللسان (مادة صبب) . (3) بصرى: موضع بالشام من أعمال دمشق وهى قصبة كورة حوران مشهورة عند العرب. انظر: معجم البلدان (1/ 441) . (4) تهصرت: قال الجوهرى: هصرت الفض بالكسر إذا أخذت برأسه فأملته إليك، وتهصرت أغصان الشجر أى تهدلت عليه. انظر: اللسان (مادة هصر) .

ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامى. فقالوا له: يا بحيرى ما تخلف عنك أحد ينبغى له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سنا، فتخلف فى رحالهم. فقال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. فقال رجل من قريش: واللات والعزى، إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى فقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه. وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسألنى باللات والعزى شيئا، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما» . فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه. قال له: سلنى عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله فى نومه وهيئته وأموره، ويخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته وأموره ويخبره. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده. فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب، فقال: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابنى، قال: ما هو بابنك، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال: فإنه ابن أخى. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده «1» . فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام. فزعموا أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى بحيرى فى ذلك السفر الذى كان فيه مع عمه أبى طالب، فأرادوه فردهم عنه بحيرى، وذكرهم الله

_ (1) ذكر قصة بحيرى: الترمذى فى السنن (3620) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (11/ 479، 14/ 286) ، أبو نعيم فى الدلائل (129) ، الحاكم فى المستدرك (2/ 616) ، ابن حجر فى الفتح (8/ 587) ، ابن هشام فى السيرة (1/ 160) ، ابن سعد فى الطبقات (1/ 120) ، الطبرى فى التاريخ (2/ 277) ، ابن عساكر فى تاريخ دمشق (1، 10) ، السهيلى فى الروض الأنف (1/ 205- 208) .

وما يجدون فى الكتاب من ذكره وصفاته، وأنهم إن أجمعوا إلى ما أرادوا لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه. فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته. حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التى تدنس الرجال، تنزها وتكرما. حتى ما اسمه فى قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة. وكان صلى الله عليه وسلم يحدث عما كان الله يحفظه به فى صغره وأمر جاهليته، أنه قال: لقد رأيتنى فى غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة، فإنى لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمنى لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك. قال: فأخذته فشددته على، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتى وإزارى على من بين أصحابى «1» . وذكر البخارى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما هممت بسوء من أمر الجاهلية إلا مرتين» «2» . وروى غيره أن إحدى المرتين كان فى غنم يرعاها هو وغلام من قريش، فقال لصاحبه: «اكفنى أمر الغنم حتى آتى مكة» ، وكان بها عرس فيها لهو، فلما دنا من الدار ليحضر ذلك ألقى عليه النوم، فنام حتى ضربته الشمس، عصمة من الله له!. والمرة الأخرى مثل الأولى سواء. وذكر الواقدى عن أم أيمن قالت: كانت بوانة صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك له وتحلق عنده وتعكف عليه يوما إلى الليل فى كل سنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد معهم فيأبى ذلك. قالت: حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا. ويقلن: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا؟! فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعوبا فزعا، فقلن له: ما

_ (1) ذكره ابن إسحاق فى السيرة (1/ 162- 163) ، البيهقى فى دلائل النبوة (2/ 31) ، ابن حجر فى فتح البارى (7/ 181) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (2/ 287) . (2) أخرجه الهيثمى فى المجمع (8/ 226) ، المتقى الهندى فى الكنز (35438) .

دهاك؟ قال: إنى أخشى أن يكون بى لمم. فقلن: ما كان الله عز وجل ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذى رأيت؟. قال: إنى كلما دنوت من صنم منها تمثل لى رجل أبيض طويل يصيح بى: وراءك يا محمد لا تمسه. قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى نبئ صلوات الله عليه وعلى آله. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد، فيما ذكره غير واحد من أهل العلم «1» . وذكر الواقدى بإسناد له إلى نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية، وقد رويناه أيضا من طريق أبى على بن السكن، وحديث أحدهما داخل فى حديث الآخر مع تقارب اللفظ، وربما زاد أحدهما الشىء اليسير، وكلاهما ينمى إلى نفيسة. قالت: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين، لما تكاملت فيه من خصال الخير، قال أبو طالب: يا ابن أخى أنا رجل لا مال لى، وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة، وليست لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك فى عيراتها فيتجرون لها فى مالها ويصيبون منافع. فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت لأكره أن تأتى الشام وأخاف عليك من يهود، ولكن لا تجد من ذلك بدا. وكانت خديجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام، فتكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة. وكانت قريش قوما تجارا، ومن لم يكن تاجرا من قريش فليس عندهم بشىء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلها ترسل إلى فى ذلك. فقال أبو طالب: إنى أخاف أن تولى غيرك، فتطلب أمرا مدبرا. فافترقا، وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، وقبل ذلك ما قد بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكريم أخلاقه، فقالت: ما علمت أنه يريد هذا.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 165) ، طبقات ابن سعد (8/ 14- 19) ، الروض الأنف للسهيلى (4/ 267) ، تاريخ الطبرى (3/ 161) .

ثم أرسلت إليه فقالت: إنه دعانى إلى البعث إليك ما بلغنى من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقى أبا طالب فذكر له ذلك، فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك. فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام، وجعل عمومته يوصون به أهل العير، حتى قدم الشام فنزلا فى سوق بصرى فى ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له: نسطورا. فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه، فقال: يا ميسرة، من هذا الذى نزل تحت هذه الشجرة؟. فقال ميسرة: رجل من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبى. ثم قال له: فى عينيه حمرة. قال ميسرة: نعم، لا تفارقه. فقال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليت أنى أدركه حين يؤمر بالخروج. فوعى ذلك ميسرة. ثم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق بصرى، فباع سلعته التى خرج بها واشترى، فكان بينه وبين رجل اختلاف فى سلعة، فقال الرجل: احلف باللات والعزى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حلفت بهما قط. فقال الرجل: القول قولك. ثم قال لميسرة، وخلا به: يا ميسرة، هذا نبى، والذى نفسى بيده إنه لهو، تجده أحبارنا منعوتا فى كتبهم فوعى ذلك ميسرة. ثم انصرف أهل العير جميعا. وكان ميسرة يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره. قال: وكان الله عز وجل قد ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة من ميسرة، فكان كأنه عبد لرسول الله. فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة فى ساعة الظهيرة، وخديجة فى علية لها، معها نساء فيهن نفيسة بنت منية، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره، وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها، فعجبن لذلك. ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا، فسرت بذلك. فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال لها ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام. وأخبرها بقول الراهب نسطورا، وقول الآخر الذى خالفه فى البيع. قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارتها، فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما سمت له. فلما استقر عندها هذا، وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهى

يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو يقدر عليه، عرضت عليه نفسها. فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عم، إنى قد رغبت فيك لقرابتك وصيتك فى قومك وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك. فلما قالت له ذلك، ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب يرحمه الله حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها. هكذا ذكر ابن إسحاق «1» . وذكر الواقدى وغيره من حديث نفيسة، أن خديجة أرسلت إليه دسيسا، فدعته إلى تزوجها. فلما أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى عمها عمرو بن أسد فحضر، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عمومته فزوجه أحدهم. وقال عمرو: هذا الفحل لا يقدح أنفه. قال ابن هشام: وأصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة «2» . وكانت أول امرأة تزوجها، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت. قال ابن إسحاق فولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم، إلا إبراهيم: القاسم وبه كان يكنى والطاهر، والطيب، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة «3» . فأما القاسم والطاهر والطيب فهلكوا فى الجاهلية. وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام، فأسلمن وهاجرن معه. هذا قول ابن إسحاق فى ذكور البنين، أنهم هلكوا فى الجاهلية «4» . وقال الزبير بن بكار، وهو من أئمة هذا الشأن: ولدت له القاسم، وعبد الله وهو الطاهر والطيب، ولد بعد النبوة ومات صغيرا «5» . وفى مسند الفريابى، ما يدل على أنه مات قبل أن يتم رضاعه وبعد النبوة.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 165- 168) . (2) انظر: السيرة (1/ 166) . (3) انظر: السيرة (1/ 166) . (4) انظر: السيرة (1/ 167) . (5) قيل: أن عبد الله يسمى الطيب والطاهر وهو ولد بعد النبوة على الصحيح وهو الذى مات بمكة صغيرا، فقال العاص بن وائل السهمى: قد انقطع ولده فهو أبتر، يعنى النبى، فنزل فيه قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. وانظر: المختصر الصغير (68) ، تاريخ دمشق لابن عساكر (1/ 103- 108) ، ابن الجوزى فى تلقيح فهوم أهل الأثر (30) .

وذلك أن خديجة دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت القاسم وهى تبكى عليه، فقالت: يا رسول الله، لو كان عاش حتى تكمل رضاعته لهون على. فقال: إن له مرضعا فى الجنة تستكمل رضاعته. فقالت: لو أعلم ذلك لهون على. فقال: إن شئت أسمعتك صوته فى الجنة. فقالت: بل أصدق الله ورسوله. قال ابن هشام «1» : وأما إبراهيم فأمه مارية سرية النبى صلى الله عليه وسلم التى أهداها إليه المقوقس من حفن من كورة أنصناء. وهى قبطية من قبط مصر، وهذا هو الصهر الذى ذكره لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله: «الله الله فى أهل الذمة، أهل المدرة السوداء السحم الجعاد، فإن لهم نسبا وصهرا» «2» . قال مولى غفرة: نسبهم أن أم إسماعيل النبى عليه السلام منهم، وصهرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرر فيهم. وفى حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما» . قال ابن إسحاق «3» : وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد ابن عبد العزى وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس، ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه. فقال ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبى هذه الأمة، قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبى ينتظر، هذا زمانه. أو كما قال. فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتى متى؟! وقال فى ذلك: لججت وكنت فى الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا «4» ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظارى يا خديجا ببطن المكتين على رجائى ... حديثك أن أرى منه خروجا بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا «5» بأن محمدا سيسود يوما ... ويخصم من يكون له حجيجا

_ (1) انظر: السيرة (1/ 167) . (2) أخرجه المتقى الهندى فى الكنز (34023) ، الهيثمى فى المجمع (10/ 63) ، السيوطى فى جمع الجوامع (9659) . (3) انظر: السيرة (1/ 167) . (4) النشيجا: هو البكاء مع صوت، والألف الملقحة للإطلاق. (5) القس: هو عابد النصارى.

ذكر بنيان قريش الكعبة مع ذكر ما أحدثوه فى المناسك

ويظهر فى البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا فيا ليتى إذا ما كان ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا ولوجا فى الذى كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا أرجى بالذى كرهوا جميعا ... إلى ذى العرش إن سلفوا عروجا وهل أمر السفاهة غير كفر ... بمن يختار من سمك البروجا فإن يبقوا وأبق تكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا وإن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة حروجا وقال ورقة بن نوفل أيضا فى ذلك، وهو مما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق: أتبكر أم أنت العشية رائح ... وفى الصدر من إضمارك الحزن قادح لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح فتاك الذى وجهت يا خير حرة ... بغدو وبالنجدين حيث الصحاصح إلى سوق بصرى فى الركاب التى غدت ... وهن من الأحمال قعص دوالح فخبرنا عن كل حبر بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح وظنى به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان هود وصالح وموسى وإبراهيم حتى يرى له ... بهاء ومنشور من الذكر واضح ويتبعه حيا لؤى بن غالب ... شبابهم والأشيبون الجحاجح فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فإنى به مستبشر الود فارح وإلا فإنى يا خديجة فاعلمى ... عن أرضك فى الأرض العريضة سائح ذكر بنيان قريش الكعبة مع ذكر ما أحدثوه فى المناسك ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة. قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشا على ذلك أن السيل كان أتى من فوق الردم الذى صنعوا فأخربه، فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له: مليح سرق طيب الكعبة.

فأرادوا أن يشدوا بنيانها، وأن يرفعوا بابها، حتى لا يدخلها إلا من شاؤا وأعدوا لذلك نفقة، وعمالا، ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر من أن يمنعهم الله الذى أرادوا. قال ابن إسحاق «1» : وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما «2» فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون فى بئر فى جوف الكعبة. قال: وكان الذى وجد عنده الكنز دويك مولى لبنى مليح بن عمرو، من خزاعة قال ابن هشام: فقطعت قريش يده. وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك. قال: وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطى نجار، فتهيأ فى أنفسهم بعض ما يصلحها. وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التى كان يطرح فيها ما يهدى لها، فتتشرف على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدخلها أحد إلا احزألت «3» وكشت «4» وفتحت فاها، فكانوا يهابونها. فبينا هى يوما تتشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائرا فاختطفها، فذهب بها. فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضى ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية. فلما أجمعوا أمرهم فى هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا فى بنيانها من كسبكم إلا طيبا، لا تدخلوا فيها معر بغى ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم «5» .

_ (1) انظر: السيرة (1/ 168) . (2) رضما: الرضم الحجارة يجعل بعضها على بعض. (3) احزألت: أى رفعت رأسها. (4) كشت: صوتت باحتكاك بعض جلدها ببعض. (5) ذكره الطبرى فى تاريخه (1/ 525) ، البيهقى فى الدلائل (2/ 61) .

ثم إن قريشا تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليمانى لبنى مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وبنى سهم، وكان شق الحجر لبنى عبد الدار بن قصى، ولبنى أسد بن عبد العزى بن قصى، ولبنى عدى بن كعب رهو الحطيم. ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم فى هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، ويقال: لم نزع اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شىء هدمنا، فقد رضى الله ما صنعنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر، كالأسنة آخذ بعضها بعضا. وقال ابن إسحاق «1» : فحدثنى بعض من يروى الحديث: أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس. قال «2» : وحدثت أن قريشا وجدوا فى الركن كتابا بالسريانية، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها فى الماء واللبن. وحدثت أنهم وجدوا فى المقام كتابا فيه: مكة بيت الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها. وزعم ليث بن أبى سليم أنهم وجدوا حجرا فى الكعبة قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة إن كان ما يذكر حقا، مكتوبا فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يرزع شرا يحصد ندامة، تعملون السيئات، وتجزون الحسنات!! أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 170- 171) . (2) انظر: السيرة (1/ 171) .

قال ابن إسحاق «1» : ثم إن القبائل من قريش، جمعت الحجارة لبنيانها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تجاوزوا وتحالفوا، وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى على الموت، وأدخلوا أيديهم فى ذلك الدم فى تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا فى المسجد، فتشاوروا وتناصفوا. فزعم بعض أهل الرواية، أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلها، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه، أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم؛ ففعلوا. فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه، قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: «هلم إلى ثوبا» . فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا» . ففعلوا: حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه «2» . وكانت الكعبة على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، ثمانى عشرة ذراعا، كانت تكسى القباطى، ثم كسيت البرود. وأول من كساها الديباج، الحجاج بن يوسف. هذا قول ابن إسحاق «3» . وقال الزبير: أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير. وذكر جماعة سواهما منهم الدار قطنى: أن نتلة بنت جناب، أم العباس بن عبد المطلب، كانت قد أضلت العباس يومئذ وهو صغير، فنذرت إن هى وجدته أن تكسو الكعبة الديباج، ففعلت ذلك حين وجدته. وذكر الزبير أن الذى أضلته نتلة بنت جناب إنما هو ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس، ونذرت أن تكسو البيت إن وجدته، فكسته حين وجدته ثيابا بيضا، فالله تعالى أعلم.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 171) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 425) ، مسند أبى داود الطيالسى (113) ، مستدرك الحاكم (1/ 458) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 56، 57) ، مصنف عبد الرزاق (5/ 98، 100) ، الهيثمى فى المجمع (3/ 292) . (3) انظر: السيرة (1/ 173) .

قال ابن إسحاق «1» : وكانت قريش لا أدرى أقبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس «2» ، رأيا رأوه وأداروه. فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقاطن مكة وساكنها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم. فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، وليس ينبغى لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها كما نعظمها، نحن الحمس، والحمس أهل الحرم. ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذى لهم بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم. ثم ابتدعوا فى ذلك أمورا لم تكن لهم، حتى قالوا: لا ينبغى للحمس أن يأتقطوا الأقط «3» ، ولا يسألوا السمن «4» وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا فى بيوت الأدم ما كانوا حرما. ثم رفعوا فى ذلك فقالوا: لا ينبغى لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاؤا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا فى ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة، ولم يجد ثياب أحمس فطاف فى ثيابه التى جاء بها من الحل، ألقاها إذا فرغ من طوافه، ثم لم ينتفع بها، ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا، فكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقى. فحملوا على ذلك العرب فدانت به، فوقفوا على عرفات وأفاضوا منها، وطافوا بالبيت عراة، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا ثوبا مفرجا عليها، ثم تطوف فيه.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 173- 177) . (2) الحمس: جمع أحمس، وهو شديد الصلب. (3) الأقط: شىء يتخذ من المخيض الغنمى، وجمعه أقطان. (4) يسلئوا السمن: يقال سلأت السمن وأستلأته إذا طبخ.

ذكر ما حفظ عن الأحبار والرهبان والكهان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه سوى ما تقدم من ذلك مع ذكر شىء مما سمع من ذلك عند الأصنام أو هتفت به الهواتف

فكانوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه حين أحكم له دينه وشرع له سنن حجه: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ الآية [البقرة: 199] . يعنى قريشا، والناس العرب. فرفعهم فى سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها. وأنزل عليه فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت، حين طافوا عند البيت عراة وحرموا ما جاؤا به من الحل من الطعام: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ الآية كلها [الأعراف: 31- 32] . فوضع الله أمر الحمس، وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس، بالإسلام حين بعث الله به رسوله «1» . ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموافق قومه على تغيير مشاعر الحج والعدول عن مواقف الناس. قال جبير بن مطعم: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحى، وإنه لواقف على بعيره بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقا من الله له «2» . وقد تقدم ما أحدثوه فى النسىء، وما أبطل الله من حكمه بقوله سبحانه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] ، فأغنى ذلك عن إعادته. ذكر ما حفظ عن الأحبار والرهبان والكهان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه سوى ما تقدم من ذلك مع ذكر شىء مما سمع من ذلك عند الأصنام أو هتفت به الهواتف قال ابن إسحاق «3» : وكانت الأحبار من يهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب من زمانه. أما الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، فعما وجدوا فى كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 177) . (2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (2/ 305) . (3) انظر: السيرة (1/ 177- 182) .

وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين فيما تسترق من السمع، إذ كانت لا تحجب عن ذلك، وكان الكاهن والكاهنة، لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره لا تلقى العرب لذلك فيه بالا، حتى بعثه الله ووقعت تلك الأمور التى كانوا يذكرون فعرفوها. فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر مبعثه، حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التى كانت تقعد فيها لاستراقه، فرموا بالنجوم، فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله فى العباد. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: 1، 10] . فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحى بشىء من خبر السماء فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه، لوقوع الحجة وقطع الشبهة، فآمنوا به وصدقوا. ثم: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 29، 30] . وقول الجن: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ الآية [الجن: 6] ، هو أن الرجل من العرب من قريش وغيرهم كان إذا سافر فنزل بطن واد من الأرض ليبيت فيه قال: إنى أعوذ بعزيز هذا الوادى من الجن الليلة من شر ما فيه. وذكر «1» أن أول العرب فزع للرمى بالنجوم، حين رمى بها، ثقيف، وأنهم جاؤا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية، أحد بنى علاج، وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا فقالوا له: يا عمرو، ألم تر ما حدث فى السماء من القذف بهذه النجوم؟. قال: بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التى يهتدى بها فى البر والبحر، وتعرف

_ (1) انظر: السيرة (1/ 179) .

بها الأنواء من الصيف والشتاء، لما يصلح الناس فى معايشهم، هى التى يرمى بها فهو والله طى الدنيا، وهلاك هذا الخلق الذى فيها. وإن كانت نجوما غيرها، وهى ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق. فما هو؟!. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من الأنصار: «ما كنتم تقولون فى هذا النجم الذى يرمى به؟» . قالوا: يا نبى الله، كنا نقول حين رأيناها يرمى بها: مات ملك، ملّك ملك ولد مولود، مات مولود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس ذلك كذلك، ولكن الله تبارك وتعالى، كان إذا قضى فى خلقه أمرا سمعه حملة العرش فسبحوا، فسبح من تحتهم لتسبيحهم، فسبح من تحت ذلك، فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهى إلى السماء الدنيا فيسبحوا. ثم يقول بعضهم لبعض: مم سبحتم؟ فيقولون: سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم. فيقولون: ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك، حتى ينتهوا إلى حملة العرش، فيقال لهم: مم سبحتم؟ فيقولون: قضى الله فى خلقه كذا وكذا؟ للأمر الذى كان. فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهى إلى السماء الدنيا، فيتحدثوا به، فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف، ثم يأتون به الكهان فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا، ثم إن الله حجب الشياطين بهذه النجوم التى يقذفون بها، فانقطعت الكهانة اليوم، فلا كهانة» «1» . وذكر أبو جعفر العقيلى بإسناد له، إلى لهيب بن مالك اللهبى قال: حضرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده الكهانة، فقلت: بأبى أنت وأمى نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين، ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له: خطر بن مالك، وكان شيخا كبيرا، قد أتت عليه مائة سنة وثمانون سنة، وكان من أعلم كهاننا، فقلنا: يا خطر، هل عندك علم من هذه النجوم التى يرمى بها؟ فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها. فقال: ائتونى بسحر، أخبركم الخبر، ألخير أم ضرر، ولأمن أو حذر. قال: فانصرفنا عن يومنا، فلما كان من غد فى وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم على قدميه شاخص فى السماء بعينيه، فناديناه: يا خطر، يا خطر. فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا.

_ (1) أخرجه مسلم فى صحيحه كتاب السلام باب تحريم الكهانة (571) ، الترمذى فى سننه (3224) ، الإمام أحمد فى المسند (1/ 218) ، البيهقى فى الدلائل (2/ 236، 237) .

فانقض نجم عظيم من السماء، وصرخ الكاهن رافعا صوته: أصابه أصابه، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، زايله جوابه، يا ويحه ما حاله، بلبله بلباله، عاوده خباله، تقطعت حباله، وغيرت أحواله. ثم أمسك طويلا وقال: يا معشر بنى قحطان، أخبركم بالحق والبيان، أقسمت بالكعبة والأركان، والبلد المؤتمن السدان، لقد منع السمع عتاة الجان، بثاقب، بكف ذى سلطان من أجل مبعوث عظيم الشأن يبعث بالتنزيل والقرآن وبالهدى وفاصل الفرقان، تبطل به عبادة الأوثان. قال: فقلنا: يا خطر، إنك لتذكر أمرا عظيما، فماذا ترى لقومك؟. فقال: أرى لقومى ما أرى لنفسى ... أن يتبعوا خير بنى الإنس برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث فى مكة دار الحمس بمحكم التنزيل غير اللبس فقلنا له: يا خطر، وممن هو؟ فقال: والحياة والعيش، إنه لمن قريش، ما فى حلمه طيش ولا فى خلقه هيش يكون فى جيش وأى جيش! من آل قحطان وآل أيش. فقلنا: بين لنا من أى قريش هو؟. فقال: والبيت ذى الدعائم، إنه لمن نجل هاشم، من معشر أكارم، يبعث بالملاحم، وقتل كل ظالم. ثم قال: هذا هو البيان، أخبرنى به رئيس الجان. ثم قال: الله أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجن الخبر. ثم سكت وأغمى عليه، فما أفاق إلا بعد ثالثة، فقال: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، لقد نطق عن مثل نبوة، وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده» . قال ابن إسحاق «1» : وحدثنى بعض أهل العلم أن امرأة من بنى سهم يقال لها الغيطلة، كانت كاهنة فى الجاهلية، جاءها صاحبها ليلة من الليالى فانقض تحتها «2» ، ثم قال: بدر ما بدر، يوم عقر ونحر. فقالت قريش حين بلغها ذلك: ما يريد؟ ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها، ثم قال: شعوب ما شعوب، تصرع فيه كعب لجنوب. فلما بلغ

_ (1) انظر: السيرة (1/ 180) . (2) انقض تحتها: أى تكلم بصوت خفى.

ذلك قريشا، قالوا: ماذا يريد؟ إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو. فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب، فعرفوا أنه كان الذى جاء به إلى صاحبته. قال «1» : وحدثنى على بن نافع الجرشى أن جنبا «2» بطنا من اليمن، كان لهم كاهن فى الجاهلية، فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر فى العرب قالت له جنب: انظر لنا فى أمر هذا الرجل. واجتمعوا له فى أسفل جبله. فنزل عليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له، فرفع رأسه إلى السماء طويلا، ثم جعل ينزو ثم قال: أيها الناس، إن الله أكرم محمدا واصطفاه، وطهر قلبه وحشاه، ومكثه فيكم أيها الناس قليل. ثم أسند فى جبله راجعا من حيث جاء. وحدثنى من لا أتهم «3» ، أن عمر بن الخطاب بينا هو جالس فى الناس فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل رجل من العرب يريد عمر، فلما نظر إليه عمر قال: إن الرجل لعلى شركه ما فارقه، أو لقد كان كاهنا فى الجاهلية، فسلم عليه الرجل، ثم جلس، فقال له عمر: هل أسلمت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فهل كنت كاهنا فى الجاهلية؟ فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين! لقد خلت فى واستقبلتنى بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت، فقال عمر: اللهم غفرا، قد كنا فى الجاهلية على شر من هذا، نعبد الأصنام ونعتنق الأوثان، حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام، قال: نعم، والله يا أمير المؤمنين، لقد كنت كاهنا فى الجاهلية. قال: فأخبرنى، ما جاء به صاحبك، قال: جاءنى قبيل الإسلام بشهر أو شيعه، فقال: ألم تر إلى الجن وإبلاسها «4» وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص «5» وأحلاسها «6» !.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 180) . (2) جنبا: جنب من مزحش وهم عبد الله، وأنس الله، وزيد الله، وأوس الله، وجعفى والحكم وجروة بنو سعد العشيرة بن مزحش، ومزحش هو مالك بن أدد وسموا جنبا لأنهم جانبوا بنى عمهم صداء ويزيد ابنى سعد العشيرة بن مزحش. (3) انظر: السيرة (1/ 181) . (4) إبلاسها: أبلس الرجل إذا سكت ذليلا أو مغلوبا. (5) القلاص: القلاص من الإبل: الفتية. (6) أحلاسها: جمع حلاس، وهو كساء جلد يوضع على ظهر البعير ثم يوضع عليه الرجل ليقيه من الدبر.

قال ابن هشام: هذا الكلام سجع وليس بشعر، وأنشدنى بعض أهل العلم بالشعر: عجبت للجن وإبلاسها ... وشدها العيس بأحلاسها تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ما مؤمن الجن كأنجاسها فقال عمر رضى الله عنه، عند ذلك، يحدث الناس: والله إنى لعند وثن من أوثان الجاهلية فى نفر من قريش، قد ذبح لهم رجل من العرب عجلا، فنحن ننتظر قسمه ليقسم لنا منه، إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت قط أنفذ منه، وذلك قبيل الإسلام بشهر أو شيعه يقول: يا ذريح أمر نجيح، رجل يصيح يقول: لا إله إلا الله «1» . قال ابن هشام: ويقال: رجل يصيح بلسان فصيح يقول: لا إله إلا الله. وهذا الرجل الذى ظن به عمر رضى الله عنه، ما ظن، هو سواد بن قارب الدوسى «2» ، وكان يتكهن فى الجاهلية. وقد ذكر خبره غير ابن إسحاق، فساقه سياقة أحسن من هذه وأتم، وذكر فيه أنه كان نائما على جبل من جبال السراة ليلة من الليالى، فأتاه آت، فضربه برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، أتاك رسول من لؤى بن غالب. قال: فرفعت رأسى وجلست فأدبر وهو يقول: عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ما صادق الجن ككذابها فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأذنابها «3» وأتاه فى الليلة الثانية، فضربه برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب، أتاك رسول من لؤى بن غالب. قال: فرفعت رأسى وجلست، فأدبر وهو يقول: عجبت للجن وأخبارها ... ورحلها العيس بأكوارها تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ما مؤمنوها مثل كفارها

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى فى كتاب مناقب الأنصار، باب إسلام عمر، رضى الله عنه (7/ حديث رقم 3866) . (2) هو: سواد بن قارب الدوسى. كذا قال الكلبى، وقال ابن أبى خيثمة: سواد بن قارب سدوسى من بنى سدوس. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1114) ، الإصابة الترجمة رقم (3596) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2334) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 248) ، الوافى بالوفيات (16/ 35) ، التاريخ الكبير (4/ 202) ، الأعلام (3/ 144) . (3) انظر الأبيات فى: الاستيعاب (2/ 224) .

فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأدبارها وأتاه فى الليلة الثالثة بعدما نام، فضربه برجله وقال: قم يا سواد بن قارب أتاك رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤى بن غالب قال: فرفعت رأسى فجلست، فأدبر وهو يقول: عجبت للجن وإبلاسها ... ورحلها العيس بأحلاسها تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها فارحل إلى الصفوة من هاشم ... وارم بعينيك إلى رأسها قال: فلما أصبحت اقتعدت بعيرى فأتيت مكة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر، فأخبرته الخبر وبايعته. وفى بعض طرق حديثه أنه أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرا منه فى معنى ما جاءه به رئيه «1» : أتانى رئى بعد هدء وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤى بن غالب فرفعت أذيال الإزار وشمرت ... بى العرمس الوجنا هجول السباسب فأشهد أن الله لا شىء غيره ... وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك من وحى ربنا ... وإن كان فيما جئت شيب الذوائب وكن لى شفيعا حين لا ذو قرابة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب ولسواد بن قارب هذا مقام حميد فى قومه دوس، حين بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يثبتهم فى الدين ويحضهم على التمسك بالإسلام، سنذكره إن شاء الله مع نظائره بعد استيفاء الخبر عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر الواقدى بإسناد له قال: كان أبو هريرة يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا، وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم، فيقال لأبى هريرة: هل كنت أنت تفعل ذلك؟ فيقول: قد والله فعلت فأكثرت، فالحمد لله الذى تنقذنى بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة: فبينا الخثعميون عند صنمهم إذ سمعوا هاتفا يهتف: يا أيها الناس ذوو الأجسام ... ومسندو الحكم إلى الأصنام أكلكم أوره كالكهام

_ (1) ذكرها فى الاستيعاب (2/ 224) .

ألا ترون ما أرى أمامى ... من ساطع يجلو دجى الظلام ذاك نبى سيد الأنام ... من هاشم فى ذروة السنام مستعلن بالبلد الحرام ... جاء بهدم الكفر بالإسلام أكرمه الرحمن من إمام قال أبو هريرة: فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا، فلم تمض بهم ثالثة حتى فجأهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد ظهر بمكة. قال: فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند صنمهم. وذكر الواقدى أيضا أن رجلا من الأنصار حدث عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: انطلقت أنا وصاحبان لى نريد الشام، حتى إذا كانا بقفرة من الأرض نزلنا بها، فبينا نحن كذلك لحقنا راكب، فكنا أربعة وقد أصابنا سغب شديد، والتفت فإذا أنا بظبية عضباء ترتع قريبا منى فوثبت إليها. فقال الرجل الذى لحقنا: خل سبيلها، لا أبا لك، والله لقد رأيتنا ونحن نسلك هذا الطريق ونحن عشرة أو أكثر فيختطف بعضنا بعضا، فما هو إلا أن كانت هذه الظبية فما يهاج بها أحد. فأبيت وقلت: لا لعمر الله لا أخليها، فارتحلنا وقد شددتها معى، حتى إذا ذهب سدف من الليل إذا هاتف يهتف بنا ويقول: يا أيها الركب السراع الأربعه ... خلوا سبيل النافر المفزعه خلوا عن العضباء فى الوادى سعه ... لا تذبحن الظبية المروعه فيها لأيتام صغار منفعه قال: فخليت سبيلها، ثم انطلقنا حتى أتينا الشام، فقضينا حوائجنا، ثم أقبلنا حتى إذا كنا بالمكان الذى كنا فيه هتف بنا هاتف من خلفنا: إياك لا تعجل وخذها من ثقه ... فإن شر السير سير الحقحقه

قد لاح نجم فأضاء مشرقه ... يخرج من ظلما عسوف موبقه ذاك رسول مفلح من صدقه ... الله أعلى أمره وحققه قال الرجل: فأتيت مكة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام. فقال عمر: الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وروينا عن أبى المنذر هشام بن محمد الكلبى بإسناد متصل إليه قال: لقيت شيوخا من شيوخ طيئ المقدمين، فسألتهم عن قصة مازن يعنى مازن بن الغضوبة الطائى، وسبب إسلامه ووفوده على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقطاعه أرض عمان، وذلك بمن الله وفضله. وكان مازن بأرض عمان بقرية تدعى سنابل. قال مازن: فعترت ذات يوم عتيرة، وهى الذبيحة، فسمعت صوتا من الصنم يقول: يا مازن أقبل أقبل، فاسمع ما لا تجهل، هذا نبى مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كى تعزل، عن حر نار تشعل، وقودها بالجندل. قال مازن: فقلت: إن هذا والله لعجب، ثم عترت بعد أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتا أبين من الأول، وهو يقول: يا مازن اسمع تسر، ظهر خير وبطن شر، بعث نبى من مضر، بدين الله الأكبر، فدع نحيتا من حجر، تسلم من حر سقر. قال مازن: فقلت إن هذا والله لعجب وإنه لخير يراد بى، وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا: ما الخبر وراءك؟ قال: خرج بتهامة رجل يقول لمن أتاه: أجيبوا داعى الله، يقال له: أحمد. فقلت: هذا والله نبأ ما سمعت. فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا وشددت راحلتى ورحلت، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرح لى الإسلام فأسلمت، فأنشأت أقول: كسرت ياجر أجذاذا وكان لنا ... ربا نطيف به ضلا بتضلال بالهاشمى هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه منا على بال يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها ... أنى لمن قال ربى ياجر قالى وقلت: يا رسول الله، إنى امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر وبالهلوك إلى النساء، وألحت على السنون، فأذهبن الأموال وأهزلن الذرارى والرجال، وليس لى ولد، فادع الله أن يذهب عنى ما أجد ويأتينى بالحياء، ويهب لى ولدا. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «اللهم أبدله

ذكر ردة بنى سليم

بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وآتهم بالحياء، وهب له ولدا» «1» . قال مازن: فأذهب الله عنى كل ما أجد، وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر، ووهب الله لى حيان بن مازن، وأنشأت أقول: إليك رسول الله سقت مطيتى ... تجوب الفيافى من عمان إلى العرج لتشفع لى يا خير من وطئ الحصى ... فيغفر لى ربى فأرجع بالفلج إلى معشر خالفت فى الله دينهم ... فلا رأيهم رأيى ولا شرجهم شرجى وكنت امرأ بالزغب والخمر مولعا ... شبابى حتى أذن الجسم بالنهج فأصبحت همى فى جهاد ونيتى ... فلله ما صومى ولله ما حجى ومما يلحق بهذا الباب من حسان أخبار الكهان وإن كان بعد المبعث بزمان ولكنه يجتمع مع الأحاديث السابقة فى الدلالة على صدق الرسول، والإعلام بالغيب المجهول، والإرشاد إلى سواء السبيل، ما ذكره أبو على إسماعيل بن القاسم فى أماليه بإسناد له إلى ابن الكلبى عن أبيه قال: كان خنافر بن التوأم الحميرى كاهنا، وكان قد أوتى بسطة فى الجسم وسعة فى المال، وكان عاتيا، فلما وفدت وفود اليمن على النبى صلى الله عليه وسلم وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر فحالف جودان بن يحيى الفرضمى، وكان سيد منيعا، ونزل بواد من أودية الشحر مخصب كثير الشجر من الأيك والعرين. قال خنافر: وكان رئيى فى الجاهلية لا يغيب عنى، فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة وساءنى ذلك، فبينا أنا ليلة فى ذلك الوادى نائما إذ هوى هوى العقاب، فقال خنافر: قلت شصار؟ فقال: اسمع أقل. قلت: أسمع. فقال: عه تغنم، لكل مدة نهاية وكل ذى أمد إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولة إلى أجل ثم يتاح لها حول، انتسخت النحل ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير موصول والنصح لك مبذول. إنى آنست بأرض الشام نفرا من أهل العزام حكاما على الحكام يذكرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا بالسجع المتكلف فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلفت، فقلت: بم تهينمون وإلام تعتزون؟ فقالوا: خطاب كبار جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار تنج من أوار النار. قلت: وما هذا الكلام؟ قالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مضر، ابتعث

_ (1) أخرجه البيهقى فى الدلائل (2/ 36، 256) ، الهيثمى فى المجمع (8/ 248) .

فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألف بالآى الكبر. فقلت: ومن هذا المبعوث من مضر؟ قالوا: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشبر، وإن خالفت أصليت سقر. فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل نجس كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق عن لا تلاق. قلت: من أين أبغى هذا الدين؟ قال: من ذات الإحرين والنفر الميامين أهل الماء والطين. قلت: أوضح. قال: الحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهنالك أهل الفضل والطول والمواساة والبذل. ثم أملس عنى فبت مذعورا أراعى الصباح، فلما برق لى النور امتطيت راحلتى وآذنت أعبدى واحتملت بأهلى، حتى وردت الجوف فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقايها، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت فيها معاذ بن جبل أميرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعته على الإسلام، وعلمنى من القرآن. فمن الله على بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة، وقلت فى ذلك: ألم تر أن الله عاد بفضله ... فأنقذ من لفح الزخيخ خنافرا وكشف لى عن حجمتى عماهما ... وأوضح لى نهجى وقد كان داثرا دعانى شصار للتى لو رفضتها ... لصليت جمرا من لظى الهوب واهرا فأصبحت والإسلام حشو جوانحى ... وجانبت من أمسى عن الحق نائرا وكان مضلى من هديت برشده ... فلله مغو عاد بالرشد آمرا نجوت بحمد الله من كل قحمة ... تؤرث هلكا يوم شايعت شاصرا فقد أمنتنى بعد ذاك يحابر ... بما كنت أغشى المنديات يحابرا فمن مبلغ فتيان قومى ألوكة ... بأنى من أقتال من كان كافرا عليكم سواء القصد لا فل حذكم ... فقد أصبح الإسلام للكفر قاهرا وذكر ابن هشام أن بعض أهل العلم حدثه، أنه كان لمرداس أبى عباس بن مرداس السلمى وثن يعبده، وهو حجر يقال له: ضمار، فلما حضر مرداسا الموت قال لعباس: أى بنى اعبد ضمار، فإنه ينفعك ويضرك. فبينما العباس يوما عند ضمار، إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول: قل للقبائل من سليم كلها ... أودى ضمار وعاش أهل المسجد

إن الذى ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدى أودى ضمار وكان يعبد مرة ... قبل الكتاب إلى النبى محمد فحرق العباس ضمار، ولحق بالنبى صلى الله عليه وسلم فأسلم. والأخبار فى هذا الباب مما نقل من ذلك عن الكهان، أو سمع عند الأصنام، أو هتفت به هواتف الجان كثيرة جدا، وقد أتينا منها بما استحسناه مما ذكره ابن إسحاق، أو ذكره سواه. قال ابن إسحاق «1» : وحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله لنا وهداه، لما كنا نسمع من أحبار يهود. كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبى يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتواعدوننا به، فبادرنا إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية من البقرة: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة: 89] «2» . قال «3» : وحدثنى صالح بن إبراهيم، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلامة بن وقش، وكان من أصحاب بدر، قال كان لنا جار من يهود فى بنى عبد الأشهل، فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بنى عبد الأشهل، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك، أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان أو ترى هذا كائنا، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم. قال: نعم والذى يحلف به: ولود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور فى الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه، بأن ينجو من تلك النار غدا، فقالوا له: ويحك يا فلان، وما آية ذلك؟ قال: نبى مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة واليمن. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إلى، وأنا من أحدثهم سنا، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 182) . (2) أخرجه الطبرى فى تفسيره (1/ 325) ، ابن كثير فى تفسيره (1/ 178) . (3) انظر: السيرة (1/ 183) .

قال سلمة: فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو حى بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا. فقلنا له: ويحك يا فلان! ألست بالذى قلت لنا فيه ما قلت؟! قال: بلى، ولكن ليس به! «1» . قال «2» : وحدثنى عاصم بن عمر، عن شيخ من بنى قريظة، قال: قال لى: هل تدرى عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد، نفر من هدل إخوة بنى قريظة كانوا معهم فى جاهليتهم، ثم كانوا ساداتهم فى الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: فإن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له: ابن الهيبان، قدم علينا قبل الإسلام بيسير، فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلى الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا. فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدى مخرجكم صدقة. فنقول له: كم؟ فيقول: صاعا من تمر أو مدين من شعير. فنخرجهما ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا فيستسقى لنا، فو الله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث، ثم حضرته الوفاة عندنا. فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود، ما ترون أنه أخرجنى من أرض الخمر والحمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم. قال: فإنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبى قد أظل زمانه، وهذه البلدة مهاجرة، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبى الذرارى والنساء ممن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه. فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وحاصر بنى قريظة قال هؤلاء الفتية، وكنا شبابا أحداثا: يا بنى قريظة، والله إنه للنبى الذى عهد إليكم فيه ابن الهيبان، قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته. فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم «3» . قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود. قال «4» : وحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة الأنصارى، عن محمود، عن ابن عباس، قال: حدثنى سلمان الفارسى من فيه، قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، من

_ (1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (3/ 467) . (2) انظر: السيرة (1/ 183- 184) . (3) أخرجه البيهقى فى الدلائل (2/ 80- 81) ، وذكره ابن سيد الناس فى عيون الأثر (1/ 131) . (4) انظر: السيرة (1/ 184- 185) .

ردة البحرين

أهل قرية يقال لها: جى، وكان أبى دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، لم يزل به حبه إياى حتى حبسنى فى بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت فى المجوسية حتى كنت قطن النار الذى يوقدها، ولا يتركها تخبو ساعة، وكانت لأبى ضيعة عظيمة، فشغل فى بنيان له يوما، فقال لى: يا بنى، إنى قد شغلت فى بنيانى هذا اليوم عن ضيعتى، فاذهب إليها فاطلعها. وأمرنى فيها ببعض ما يريد، ثم قال لى: ولا تحتبس عنى، فإنك إن احتبست عنى كنت أهم إلى من ضيعتى وشغلتنى عن كل شىء من أمرى، فخرجت أريد ضيعته التى بعثنى إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدرى ما أمر الناس، لحبس أبى إياى فى بيته. فلما سمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتنى صلاتهم، ورغبت فى أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدين الذى نحن عليه. فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبى فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فرجعت إلى أبى وقد بعث فى طلبى، وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أى بنى أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟! قلت: يا أبت مررت بأناس يصلون فى كنيسة لهم فأعجبنى ما رأيت فى دينهم، فو الله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أى بنى ليس فى ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، فقلت له: كلا والله، إنه لخير من ديننا، قال: فخافنى، فجعل فى رجلى قيدا ثم حبسنى فى بيته، وبعثت إلى النصارى، فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبرونى بهم، فقدم عليهم تجار من النصارى، فأخبرونى. فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم، فآذنونى بهم. قال: فلما أرادوا الرجعة أخبرونى بهم، فألقيت الحديد من رجلى، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام. فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟ قالوا: الأسقف فى الكنيسة. فجئته فقلت له: إنى قد رغبت فى هذا الدين، وأحببت أن أكون معك وأخدمك فى كنيستك، وأتعلم منك، وأصلى معك. قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق. فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع، ثم مات. واجتمعت النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء،

يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا. فقالوا لى: وما علمك بذلك. فقلت: أنا أدلكم على كنزه فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوها، قالوا: والله لا ندفنه أبدا. فصلبوه ورجموه بالحجارة. وجاؤا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا لا يصلى الخمس، رأى أنه أفضل منه، أزهد فى الدنيا ولا أرغب فى الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه، فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله، فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إنى كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصى بى، وبم تأمرنى. فقال: أى بنى، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل «1» وهو فلان، وهو على ما كنت عليه. فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان، إن فلانا أوصانى عند موته أن ألحق بك، وأخبرنى أنك على أمره. فقال لى: أقم عندى. فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه. فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بى إليك، وأمرنى باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصى بى؟ وبم تأمرنى؟ فقال: يا بنى، والله ما أعلم رجلا على ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين «2» ، وهو فلان فالحق به. فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبرى، وما أمرنى به صاحبى فقال: أقم عندى. فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فو الله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بى إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بى: وبم تأمرنى.

_ (1) الموصل: فى الجانب الغربى من دجلة، وسميت بهذا الاسم؛ لأنها وصلت بين الفرات ودجلة، وشراب أهلها من ماء الدجلة. انظر: الروض المعطار (ص 563) ، نزهة المشتاق (199) . (2) نصيبين: مدينة فى ديار ربيعة العظمى، وهى من بلاد الجزيرة بين دجلة والفرات، وهى قديمة عظيمة كثيرة الأنهار، ولها نهار عظيم، يقال له الهرماس عليه قناطر حجارة، وأهلها قوم من ربيعة من بنى تغلب، وافتتحها عياض بن غنم الفهرى فى خلافة عمر رضى الله عنه سنة ثمان عشرة، وكانت مدينة رومية، فلما افتتحها عياض أسكنها المسلمين. انظر: الروض المعطار (ص 577) ، نزهة المشتاق (199) ، آثار البلاد (467) .

قال: يا بنى، والله ما أعلمه بقى أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه، إلا رجلا بعمورية «1» من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته. فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبرى، فقال: أقم عندى. فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، واكتسبت حتى كانت لى بقرات وغنيمة، ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان، إنى كنت مع فلان فأوصى بى إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بى؟ وبم تأمرنى؟. قال: أى بنى، والله ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظل زمان نبى مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين «2» بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد، فافعل. ثم مات وغيب. فمكثت بعمورية، ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بى نفر من كلب تجار. فقلت لهم: احملونى إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتى هذه وغنيمتى هذه، فقالوا: نعم. فأعطيتهموها وحملونى معهم، حتى إذا بلغوا وادى القرى ظلمونى، فباعونى من رجل يهودى عبدا، فكنت عنده فرأيت النخل، فرجوت أن يكون البلد الذى وصف لى صاحبى، ولم يحق فى نفسى. فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بنى قريظة من المدينة، فابتاعنى منه، فاحتملنى إلى المدينة، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبى فأقمت بها. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر، مع ما أنا فيه من شغل الرق. ثم هاجر إلى المدينة، فو الله إنى لفى رأس عذق لسيدى أعمل له فيه بعض العمل، وسيدى جالس تحتى، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه. فقال: يا فلان قاتل الله بنى قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبى.

_ (1) عمورية: فى بلاد الروم من ناحية بلاد طوس وتفسيره المشرق، وهى مدينة كبيرة مشهورة فى بلاد الروم وبلاد المسلمين، أزلية، غير أن الفتوح تتوالى عليها من عهد المسلمين والروم، ولها سور حصين، وهى على نهر كبير يصب فى الفرات، ومنها الطريق إلى طرسوس، وبين عمورية والخليج مائة وخمسة وسبعين ميلا، وكانت منزلا لبعض ملوك الروم. انظر: الروض المعطار (ص 413، 414) ، نزهة المشتاق (260) . (2) حرتين: الحرة كل أرض ذات حجارة سود متشيطة من أثر احتراق بركانى.

فلما سمعتها أخذتنى العرواء حتى ظننت أنى سأسقط على سيدى، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ فغضب سيدى فلكمنى لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا، أقبل على عملك. فقلت: لا شىء إنما أردت أن أستثبته عما قال. وقد كان عندى شىء جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغنى أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شىء كان عندى للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، فقربته إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «كلوا» . وأمسك يده فلم يأكل. فقلت فى نفسى: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئا، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته به، فقلت: إنى قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها. فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه فأكلوا معه. فقلت فى نفسى هاتان ثنتان. ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع «1» الغرقد قد تبع جنازة من أصحابه، على شملتان لى وهو جالس فى أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذى وصف لى صاحبى؟ فلما رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستدير به، عرف أنى أستثبت فى شىء وصف لى، فألقى الرداء عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكى. فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحول» . فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثى كما حدثتك يا ابن عباس. فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه. ثم شغل سلمان الرق، حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد. قال سلمان: ثم قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كاتب يا سلمان» . فكاتبت صاحبى على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير «2» وأربعين أوقية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعينوا أخاكم» فأعانونى بالنخل، الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت إلى ثلاثمائة ودية، فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتنى، أكن أنا أضعها بيدى» .

_ (1) بقيع: أصل البقيع فى اللغة الموضع الذى فيه أروم الشجر من ضروب شتى وبه سمى بقيع الغرقد، والغرقد كبار العوسج وهو مقبرة أهل المدينة، وهى داخل المدينة. انظر: معجم البلدان (1/ 473) . (2) أحييها له بالفقير: أى بالحفر والغرس، بفقرات الأرض إذا حفرتها، ومنها سميت البئر فقرا.

ففقرت وأعاننى أصحابى حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج معى إليها، فجعلنا نقرب إليه الودى ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغت. فو الذى نفس سلمان بيده، ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقى على المال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال: ما فعل الفارسى المكاتب فدعيت له فقال: «خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان» . قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما على؟! قال: «خذها فإن الله سيؤدى بها عنك» . فأخذتها فوزنت لهم منها، والذى نفس سلمان بيده، أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حرا. ثم لم يفتنى معه مشهد «1» . وعن سلمان أنه قال: لما قلت: وأين تقع هذه من الذى على يا رسول الله؟! أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه. ثم قال: «خذها فأوفهم منها» . فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية «2» . وعنه أيضا أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره خبره: أن صاحب عمورية قال له: أيت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين، يخرج فى كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا، يعترضاه ذوو الأسقام. فلا يدعو لأحد منهم إلا شفى، فسله عن هذا الدين الذى تبتغى، فهو يخبرك عنه. قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصف لى، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك، حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس مرضاهم، لا يدعو لمريض إلا شفى، وغلبونى عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التى يريد أن يدخل، إلا منكبه فتناولته فقال: من هذا؟ والتفت إلى، فقلت: يرحمك الله أخبرنى عن الحنيفية دين إبراهيم. قال: إنك لتسأل عن شىء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك زمان نبى يبعث بهذا الدين من أهل الحرم، فائته فهو يحملك عليه. ثم دخل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن كنت صدقتنى يا سلمان، لقد لقيت عيسى ابن مريم» «3» .

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 443) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 335) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (1/ 169) ، المعجم الكبير للطبرانى (6065) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 444) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 336) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 310) . (3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (1/ 365) ، طبقات ابن سعد (4/ 1/ 57) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 314) .

ومن حديث غير ابن إسحاق، عن أبى سفيان بن حرب قال: خرجت أنا وأمية بن أبى الصلت، وآخر سقط اسمه من كتابى، تجارا إلى الشام. قال أبو سفيان: فكلما نزلنا منزلا أخرج أمية سفرا يقرأه علينا، فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى، فرأوه وعرفوه وأهدوا له فذهب معهم إلى بيعتهم، ثم رجع فى وسط النهار، فطرح ثوبيه، واستخرج ثوبين أسودين، فلبسهما ثم قال: يا أبا سفيان، هل لك فى عالم من علماء النصارى إليه تناهى علم الكتب تسله عما بدا لك؟. قال: قلت لا أرب لى فيه، والله لئن حدثنى ما أحب لا أثق به، ولئن حدثنى ما أكره لأوجلن منه. قال: وذهب يخالفه شيخ من النصارى، فدخل علينا فقال، يعنى له وللآخر الذى كان معه: ما منعكما أن تذهبا إلى هذا الشيخ؟ قلنا: لسنا على دينه. قال: وإن، فإنكما تسمعان عجبا وتريانه. قال: قلنا: لا أرب لنا فى ذلك. قال أثقفيان أنتما؟ قلنا: لا ولكن من قريش. قال: فما منعكما من الشيخ، فو الله إنه ليحبكم ويوصى بكم. وخرج من عندنا، ومكث أمية عنا حتى جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه، فو الله ما قام ولا نام حتى أصبح. قال: فأصبح كئيبا حزينا، ساقطا غبوقه على صبوحه ما يكلمنا، ثم قال: ألا ترحلان؟ قلنا: وهل بك من رحيل؟ قال: نعم، فارحلا. فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين من همه وبثه. ثم قال ليلة: ألا تحدث يا أبا سفيان؟ قلت: وهل بك من حديث! فو الله ما رأيت مثل الذى رجعت به من عند صاحبك. قال: أما إن ذلك شىء لست فيه إنما ذلك شىء وجلت به من منقلبى. قلت: وهل لك من منقلب؟ قال: إى والله لأموتن ولأحاسبن. قلت: فهل أنت قابل أمانى؟ قال: وعلى ماذا؟ قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب؛ فضحك ثم قال: بلى والله يا أبا سفيان لنبعثن ولنحاسبن، وليدخلن فريق فى الجنة وفريق فى النار. قلت: فى أيتهما أنت أخبرك صاحبك. قال: لا علم لصاحبى بذلك فى ولا فى نفسه. فكنا فى ذلك ليلتنا، يعجب منا ونضحك منه، حتى قدمنا غوطة دمشق وإياها كنا نريد، فبعنا متاعنا وأقمنا بذلك شهرين، ثم ارتحلنا حتى نزلنا بتلك القرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاؤه فأهدوا له، وذهب معهم إلى بيعتهم، حتى جاءنا مع نصف النهار، فلبس ثوبيه الأسودين، فذهب ولم يدعنا إليه كما دعانا أول مرة، ثم جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه، ثم رمى بنفسه على فراشه فو الله ما نام ولا قام، فأصبح

ذكر ردة أهل دبا وأزد عمان

مبثوثا حزينا، لا يكلمنا ولا نكلمه ثم قال لى: ألا ترحلان؟ قلت: بلى إن شئت. قال: فارحلا. فرحلنا فسرنا كذلك من بثه وحزنه ليالى. ثم قال لى ليلة: يا أبا سفيان، هل لك فى المسير؟ وتخلف هذا الغلام يستأنس بأصحابنا ويستأنسون به؟ قلت له: ما شئت. قال: فسر. فسرنا حتى برزنا. قال: هى يا صخر!. قلت: ما لك؟. قال: هى عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المحارم والمظالم؟ قلت: إى والله. قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها؟ قلت: نعم ويصل الرحم ويأمر بصلتها. قال: وكريم الطرفين، واسط فى العشيرة؟ قلت: كريم الطرفين واسط فى العشيرة. قال: فهل تعلم قرشيا أشرف منه؟ قلت: لا والله ما أعلم. قال: ومحوج هو؟ قلت: لا بل ذو مال. قال: فكم أتى له؟ قلت: هو ابن سبعين نظر إليها قد قاربها، هو لها، هو ابنها. قال: فالسن والشرف أزريا به؟ قلت: وما لهما أزريا به؟ لا والله بل هما زاداه خيرا. قال: هو ذاك هل لك فى المبيت؟ قلت: هل لك فيه حاجة؟ قال: فاضطجعنا. حتى مر الثقل فسرنا حتى نزلنا فكنا فى المنزل وبتنا. ثم رحلنا، فلما كان الليل قال: يا أبا سفيان. قلت: لبيك. قال: هل لك فى البارحة؟ قلت: هل لى. قال: فسرنا على ناقتين ناجيتين، حتى إذا برزنا قال: يا صخر، إيه عن عتبة. قلت: إيه عنه. قال: أيجتنب المحارم والمظالم ويأمر بصلة الرحم ويصلها؟ قلت: ويفعل. قال: ومحوج؟ قلت: ومحوج. قال: هل تعلم قرشيا أسود منه؟ قلت: والله ما أعلمه. قال: أو كم أتى له؟ قلت: سبعون هو لها هو ابنها قد واقعها. قال: فإن السن والشرف أزريا به. قلت: لا والله ما أزريا به ولكنهما زاداه، وأنت قائل شيئا فقله. قال: والله لا تذكر حديثى حتى يأتى ما هو آت. قلت: والله لا أذكره. قال: الذى رأيت أصابنى فإنى جئت هذا العالم فسألته عن أشياء. قلت: أخبرنى عن هذا النبى الذى ينتظر؟ قال: هو رجل من العرب. قلت: قد علمت فمن أى العرب؟ قال: هو من أهل بيت تحجه العرب. قلت: فينا بيت تحجه العرب. قال: لا، هم إخوتكم وجيرانكم من قريش. قال: فأصابنى والله شىء ما أصابنى مثله قط. وخرج من يدى فوز الدنيا والآخرة، وكنت أرجو أن أكون أنا هو. قلت: فإذا كان ما كان فصفه لى؟ قال: بلى، هو شاب حين دخل فى الكهولة بدء أمره، إنه يجتنب المحارم والمظالم، ويصل الرحم ويأمر بصلتها، وهو محوج ليس ينازع

شرفا كريم الطرفين، متوسط فى العشيرة أكثر جنده من الملائكة قلت: وما آية ذلك؟ قال: قد رجف بالشام منذ هلك عيسى ابن مريم ثمانون رجفة كلها فيهم مصيبة عامة، وبقيت رجفة عامة، فيها مصيبة يخرج على أثرها. قال أبو سفيان: قلت: وإن هذا هو الباطل، لئن بعث الله رسولا، لا يأخذه إلا شريفا مسنا. قال: والذى يحلف به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان. هل لك فى المبيت. فبتنا حتى مر بنا الثقل، فرحلنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة ليلتان، أدركنا الخبر من خلفنا: أصاب الشام بعدكم رجفة دمر أهلها وأصابتهم فيها مصيبة عظيمة. قال: كيف ترى يا أبا سفيان؟ قلت: أرى والله ما أظن صاحبك إلا صادقا. وقدمنا مكة فقضيت ما كان معى، ثم انطلقت حتى جئت أرض الحبشة تاجرا، فمكثت بها خمسة أشهر، ثم أقبلت حتى قدمت مكة فبينا أنا فى منزلى، جاءنى الناس يسلمون على، حتى جاءنى فى آخرهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وعندى هند جالسة تلاعب صبية لها، فسلم على ورحب بى وسألنى عن سفرى ومقدمى، ثم انطلق. فقلت: والله إن هذا الفتى لعجب، ما جاءنا أحد من قريش له معى بضاعة، إلا سألنى عنها وما بلغت وو الله إن له معى لبضاعة، ما هو بأغناهم عنها، ثم ما سألنى فقالت: أو ما علمت بشأنه؟ قلت وفزعت: ما شأنه؟! قالت: والله إنه ليزعم أنه رسول الله. قال: فوقذنى ذلك وذكرنى قول النصرانى، ووجمت حتى قالت لى: ما لك؟ فانتبهت وقلت: إن هذا والله لهو الباطل، لهو أعقل من أن يقول هذا. قالت: بلى والله إنه ليقوله، ويؤتى عليه وإن له لصاحبة معه على أمره. قلت: هو والله باطل. فخرجت فبينا أنا أطوف إذ لقيته، فقلت: إن بضاعتك قد بلغت وكان فيها خير، فأرسل إليها فخذها، ولست آخذا فيها ما آخذ من قومك قال: فإنى غير آخذها حتى تأخذ منى ما تأخذ من قومى. قلت: ما أنا بفاعل. قال: فو الله إذا لا آخذها. قلت: فأرسل إليها. فأخذت منها ما كنت آخذ، وبعثت إليه ببضاعته. ولم أنشب أن خرجت تاجرا إلى اليمن فقدمت الطائف فنزلنا على أمية، فتغديت معه ثم قلت: يا أبا عثمان، هل تذكر حديث النصرانى؟ قال: أذكره. قلت: فقد كان، قال: ومن؟ قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. ثم قصصت عليه خبر هند. قال: فالله يعلم أنه تصبب عرقا ثم قال: يا أبا سفيان لعله، وإن صفته لهيه، ولئن ظهر وأنا حى لأبلين الله فى نصرته عذرا.

ذكر ردة صنعاء

ومضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءنى هناك استهلاله، وأقبلت حتى قدمت الطائف فنزلنا على أمية بن أبى الصلت. قلت: قد كان من هذا الرجل ما قد بلغك وسمعت. قال: قد كان. قلت: فأين أنت؟ قال: ما كنت لأومن برسول ليس من ثقيف! قال أبو سفيان: فأقبلت إلى مكة وو الله ما أنا منه ببعيد حتى جئت فوجدته هو وأصحابه يضربون ويقهرون، فجعلت أقول: فأين جنده من الملائكة؟! ودخلنى ما دخل الناس من النفاسة. ووقع فى هذا الحديث من قول أبى سفيان: أن عتبة بن ربيعة ذو مال، ووقع بعد ذلك من قول أبى سفيان أيضا أنه محوج، ولا يصح أن يجتمع الأمران، وأحدهما غلط من الناقل، والله أعلم. والمشهور من حال عتبة أنه كان فقيرا وكان يقال: لم يسد من قريش مملق إلا عتبة وأبو طالب، فإنهما سادا بغير مال. وأما أمية بن أبى الصلت فرجل من ثقيف، لم يرض دين أهل الجاهلية، ولا وفقه الله للدخول فى السمحة الحنيفية. فكان كما روى عن عروة بن الزبير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمية بن أبى الصلت فقال: «أوتى علما فضيعه» . وكما روى عن الحسن وقتادة أنهما قالا فى قول الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ [الأعراف: 175] أنه أمية بن أبى الصلت. ولغيرهما من العلماء فى المعنى بهذه الآية قول أشهر من هذا، وهو أن المراد بها بلعام بن باعوراء، فالله تعالى أعلم. قال ابن إسحاق «1» : واجتمعت قريش يوما فى عيد لهم عند صنم من أصنامهم، كانوا يعظمونه، وينحرون له، ويعكفون عنده، فخلص منهم أربعة نفر نجيا «2» ، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض. قالوا: أجل. وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وزيد بن عمرو بن نفيل، فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شىء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع!!. يا قوم: التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شىء.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 191- 192) . (2) نجى: النجى جماعة يتحدثون سرا يخفون حديثهم عن غيرهم، وهو لفظ يستوى فيه الواحد والاثنان والجماعة.

فتفرقوا فى البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم. فأما ورقة بن نوفل فاستحكم فى النصرانية، واتبع الكتب من أهلها. وذكر الزبير بن أبى بكر بإسناد له إلى عروة بن الزبير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل. فقال: «لقد رأيته فى المنام عليه ثياب بيض، فقد أظن أن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض» . وكان يذكر الله فى شعره فى الجاهلية، ويسبحه وهو الذى يقول: لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد لا تعبدن إلها غير خالقكم ... فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد سبحان ذى العرش سبحانا يدوم له ... رب البرية فرد واحد صمد سبحان ذى العرش سبحانا نعود له ... وقبل سبحه الجودى والجمد مسخر كل ما تحت السماء له ... لا ينبغى أن ينادى ملكه أحد لا شىء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودى المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجرى الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها برد أين الملوك التى كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا وفى هذا الشعر ألفاظ عن غير الزبير، والبيت الأخير كذلك، وفيه أبيات تروى لأمية بن أبى الصلت. قال ابن إسحاق «1» : وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان مسلمة، فلما قدماها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانيا، وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على امرأته أم حبيبة، وكان حين تنصر يمر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: فقحنا وصأصأتم. أى أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد. وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده. وذكر الزبير: أن قيصر ملكه على أهل مكة، وكتب له إليهم كتابا. فأنفت قريش أن يدنيوا لأحد، وصاح فيه ابن عمه أبو زمعة الأسود بن المطلب بن أسد والناس فى الطواف: إن قريشا لقاح لا تملك ولا تملك فمضت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان

_ (1) انظر: السيرة (1/ 192) .

ما جاء يطلب، فرجع إلى قيصر ومات بالشام مسموما. يقال: سمه عمرو بن حفنة الغسانى الملك، وكان يقال لعثمان: هذا البطريق، ولا عقب له. قال ابن إسحاق «1» : وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل فى يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان، والميتة والدم، والذبائح التى تذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموؤدة، وقال: أعبد رب إبراهيم، وبادى قومه بعيب ما هم عليه. قالت أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة، وهو يقول: يا معشر قريش، والذى نفس زيد بن عمرو بيده، ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيرى. ثم يقول: اللهم لو أنى أعلم أى الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكن لا أعلمه. ثم يسجد على راحلته «2» . وسأل ابنه سعيد بن زيد وابن عمه عمر بن الخطاب بن نفيل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنستغفر لزيد بن عمرو؟ قال: «نعم، فإنه يبعث أمه وحده» «3» . وقال زيد بن عمرو بن نفيل فى فراق دين قومه: أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور فلا عزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمى بنى عمرو أزور ولا غنما* أدين وكان ربا ... لنا فى الدهر إذ حلمى يسير عجبت وفى الليالى معجبات ... وفى الأيام يعرفها البصير بأن الله قد أفنى رجالا ... كثيرا كان شأنهم الفجور وأبقى آخرين ببر قوم ... فيربل منهم الطفل الصغير وبينا المرء يعثر ثاب يوما ... كما يتروح الغصن المطير «4» ولكن أعبد الرحمن ربى ... ليغفر ذنبى الرب الغفور

_ (1) انظر: السيرة (1/ 193) . (2) ذكره البخارى فى صحيحه تعليقا فى كتاب مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل (7/ 143) . (3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 124) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 239) ، المطالب العالية لابن حجر (4055) . (*) هكذا فى الأصول، وفى السيرة (1/ 194) : «ولا هبلا» . (4) ثاب: رجع. يتروح: يهتز ويحتضر، وينبت ورقة بعد سقوطه.

ذكر ردة كندة وحضرموت

فتقوى الله ربكم احفظوها ... متى ما تحفظوها لا تبوروا ترى الأبرار دارهم جنان ... وللكفار حامية سعير وخزى فى الحياة وإن يموتوا ... يلاقوا ما تضيق به الصدور وقال زيد بن عمرو بن نفيل، وذكر ابن هشام: أن أكثرها لأمية بن أبى الصلت «1» ، فى قصيدة له: إلى الله أهدى مدحتى وثنائيا ... وقولا رصينا لا ينى الدهر باقيا إلى الملك الأعلى الذى ليس فوقه ... إله ولا رب يكون مدانيا ألا أيها الإنسان إياك والردى ... فإنك لا تخفى من الله خافيا فإياك لا تجعل مع الله غيره ... فإن سبيل الرشد أصبح باديا حنانيك إن الجن كانت رجاؤهم ... وأنت إلهى ربنا ورجائيا رضيت بك اللهم ربا فلن أرى ... أدين إلها غيرك الله ثانيا وأنت من فضل من ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولا مناديا فقلت له إذهب وهارون فادعوا ... إلى الله فرعون الذى كان طاغيا وقولا له آنت سويت هذه ... بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا وقولا له آنت رفعت هذه ... بلا عمد أرفق إذا بك بانيا «2» وقولا له آنت سويت وسطها ... منيرا إذا ما جنه الليل هاديا وقولا له من يرسل الشمس غدوة ... فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا وقولا له من ينبت الحب فى الثرى ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا ويخرج منه حبه فى رؤسه ... وفى ذاك آيات لمن كان واعيا وأنت بفضل منك نجيت يونسا ... وقد بات فى أضعاف حوت لياليا وإنى وإن سبحت باسمك ربنا ... لأكثر إلا ما غفرت خطائيا فرب العباد ألق سيبا ورحمة ... على وبارك فى بنى وماليا وقال زيد بن عمرو أيضا: وأسلمت وجهى لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا

_ (1) أمية بن الصلت بن أبى ربيعة بن عبد عوف بن عقدة بن غيرة. انظر ترجمته فى: الشعر والشعراء (ص 300) . (2) أرفق إذا بك بانيا: هذا على التعجب، أى أرفقك بانيا؟.

وأسلمت وجهى لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا إذا هى سيقت إلى بلدة ... أطاعت فصبت عليها سجالا ويروى أن زيدا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال: لبيك حقّا حقّا تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم مستقبل القبلة وهو قائم، إذ قال: إنى لك عان راغم، مهما تجشمنى فإنى جاشم، البر أبقى لا الخال، ليس مهجر كمن قال. ويقال: البر أبقى لا الحال «1» . وكان الخطاب بن نفيل قد آذى زيدا حتى أخرجه إلى أعلى مكة. فنزل حرا مقابل مكة. وكان الخطاب عمه وأخاه لأمه، وكل به شبابا من شباب قريش وسفهائهم، فقال لهم: لا تتركوه يدخل مكة. فكان لا يدخلها إلا سرا منهم، فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه، مخافة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراقه «2» . وكان زيد قد أجمع الخروج من مكة ليضرب فى الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم، فكانت امرأته صفية بنت الحضرمى كلما رأته تهيأ للخروج أو أراده، آذنت به الخطاب بن نفيل، وكان الخطاب وكلها به وقال: إذا رأيته هم بأمر فآذنينى به «3» .

_ (1) انظر: السيرة (1/ 196) . (2) انظر: السيرة (1/ 197) ، وهناك أورد شعر قاله فى ذلك وهو: لاهم إنى محرم لا حله ... وإن بيتى أوسط المحله عند الصفا ليس بذى مضله (3) ذكره فى السيرة وذكر هناك شعر يعاتب فى امرأته على ذلك وهو: لا تحبسينى فى الهوا ... ن صفى ما دابى ودابه إنى إذا خفت الهوا ... ن مشيع ذلل ركابه دعموص أبواب الملو ... ك وجائب للخرق نابه قطاع أسباب تذل ... بغير أقران صعابه وإنما أخذ الهوا ... ن العير إذ يوهى إهابه ويقول إنى لا أذل ... بصك جنبيه صلابه وأخى ابن أمى ثم ... عمى لا يواتينى خطابه وإذا يعاتبنى بسو ... ء قلت أعيانى جوابه ولو أشاء لقلت ... ما عندى مفاتحه وبابه انظر السير: (1/ 195- 196) .

ثم خرج يطلب دين إبراهيم ويسأل الرهبان والأحبار، حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كلها، حتى انتهى إلى راهب بميفعة «1» من أرض البلقاء «2» ، كان ينتهى إليه علم النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين براهيم، فقال: إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلك زمان نبى يخرج من بلادك التى خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق به فإنه مبعوث الآن، هذا زمانه. وقد كان زيد رام اليهودية والنصرانية فلم يرض منها شيئا، فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال، يريد مكة، حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه. فقال ورقة بن نوفل يبكيه «3» : رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا بدينك ربا ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغى كما هيا وإدراكك الدين الذى قد طلبته ... ولم تك عن توحيد ربك ساهيا فأصبحت فى دار كريم مقامها ... تعلل فيها بالكرامة لاهيا تلاقى خليل الله فيها ولم تكن ... من الناس جبارا إلى النار هاويا وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض سبعين ودايا قال ابن إسحاق «4» : وكان فيما بلغنى عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله فى الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أثبت لهم يحنس الحوارى حين نسخ لهم الإنجيل من عهد عيسى ابن مريم إليهم فى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أبغضنى فقد أبغض الرب، ولولا أنى صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلى ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بطروا، وظنوا أنهم يعزوننى وأيضا للرب، ولكن لا بد من أن تتم الكلمة التى فى الناموس، أنهم أبغضونى مجانا، أى باطلا، فلو قد جاء المنحمنا هذا الذى يرسله الله إليكم من عند الرب، روح القسط هو الذى من عند الرب خرج

_ (1) ميفعة: أصل الميفعة الموضع المرتفع من البقاع. (2) البلقاء: مدينة بالشام من عمل دمشق سميت بالبلقاء بن سورية من بنى عبيل بن لوط وهو بناها، وبها كان اجتماع الحكمين أبى موسى وعمرو بن العاص، رضى الله عنهما، فكان من أمرهما ما كان، وقيل كان ذلك بدومة الجندل على عشرة أيام من دمشق. انظر: الروض المعطار (ص 96، 97) . (3) انظر الأبيات فى: السيرة (1/ 198) . (4) انظر: السيرة (1/ 198) .

فهو شهيد على، وأنتم أيضا لأنكم قديما كنتم معى، هذا قلت لكم لكيلا تشكوا. والمنحمنا بالسريانية هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو بالرومية البرقليطس. قال ابن هشام: وبلغنى أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التى قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذى كان على عهد النبى صلى الله عليه وسلم يمشى فعثر، فقال ابنه: تعس الأبعد. يريد النبى صلى الله عليه وسلم، فقال له أبوه: لا تفعل فإنه نبى واسمه فى الوضائع. يعنى الكتب. فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد ذكر النبى صلى الله عليه وسلم، فأسلم فحسن إسلامه وحج. وهو الذى يقول: إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا فى بطنها جنينها مخالفا دين النصارى دينها وقد جاءت أحاديث حسان بما وقع من صفة النبى صلى الله عليه وسلم فى التوراة، لم يذكر ابن إسحاق منها شيئا. فمن ذلك ما ذكره الواقدى عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله ابن عمرو بن العاص فقلت: أخبرنى عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التوراة؟ فقال: أجل والله إنه لموصوف فى التوراة بصفته فى الفرقان: يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدى ورسولى، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، يفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا فى حرف! وذكر الواقدى أيضا، عن النعمان السبئى قال: وكان من أحبار اليهود باليمن، فلما سمع بذكر النبى صلى الله عليه وسلم قدم عليه فسأله عن أشياء، ثم قال: إن أبى كان يختم على سفر يقول: لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبى قد خرج بيثرب، فإذا سمعت به فافتحه. قال نعمان: فلما سمعت بك فتحت السفر، فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة، وإذا فيه ما تحل وما تحرم، وإذا فيه أنك خير الأنبياء وأمتك خير الأمم واسمك أحمد صلى الله عليك وسلم، وأمتك الحمادون، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم صدورهم، لا يحضرون

ذكر المبعث

قتالا إلا وجبريل معهم، يتحنن الله إليهم كتحنن الطير على أفراخه. ثم قال لى: إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدق به. فكان النبى صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أصحابه حديثه، فأتاه يوما فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «يا نعمان حدثنا» ، فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، ثم قال: «أشهد أنى رسول الله» «1» ، ويقال: إن النعمان هذا هو الذى قتله الأسود العنسى وقطعه عضوا عضو وهو يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، وأنك كذاب مفتر على الله عز وجل. ثم حرقه بالنار. ذكر المبعث قال ابن إسحاق «2» : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين وكافة للناس. وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبى بعثه قبله بالإيمان به والتصديق له والنصر على من خالفه، وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق. فيه يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أى ثقل ما حملتكم من عهدى قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] . فأخذ الله ميثاق النبيين جميعا بالتصديق له والنصر وأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من أهل هذين الكتابين. وعن عائشة رضى الله عنها، أن أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة، لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، وحبب الله إليه الخلوة، فلم يكن شىء أحب إليه من أن يخلو وحده «3» .

_ (1) أخرجه البخارى (4/ 88، 7/ 103) ، مسلم كتاب الإيمان (178) ، البيهقى فى الدلائل (1/ 142) ، السيوطى فى الدر المنثور (1/ 273) ، ابن كثير فى البداية (6/ 190) ، العجلونى فى كشفا الخفاء (1/ 142) ، أبو نعيم فى الدلائل (165) . (2) انظر: السيرة (1/ 199) . (3) انظر الحديث فى: البخارى فى صحيحه كتاب بدء الوحى (1/ 22) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (1/ 252) ، مسند الإمام أحمد (6/ 153، 232، 233) . مستدرك الحاكم (3/ 183، 184) .

وعن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته وابتدائه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضى إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحجر ولا شجرة إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. فيلتفت حوله عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة، فمكث كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء فى رمضان «1» . وعن عبيد بن عمير بن قتادة الليثى، يحدث كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبريل قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور فى حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تحنث به قريش فى الجاهلية، والتحنث: التبرر. فكان يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله، ثم يرجع إلى بيته «2» . حتى إذا كان الشهر الذى أراد الله به فيه ما أراد من كرامته، وذلك الشهر رمضان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التى أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها جاءه جبريل بأمر الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءنى وأنا نائم بنمط «3» من ديباج فيه كتاب «4» ، فقال: إقرأ. قلت: «ما أقرأ» فغتنى به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ. فقلت: «ما أقرأ» فغتنى «5» به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ، قلت: «ما أقرأ» فغتنى به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ: قلت: «ماذا أقرأ؟» ، ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لى بمثل ما صنع، قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ

_ (1) ذكره ابن سعد فى الطبقات (1/ 157) ، البيهقى فى دلائل النبوة (2/ 146) ، الحاكم فى المستدرك (4/ 70) . (2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 12) . (3) النمط: هو ضرب من البسط. (4) كتاب: قال فى الروض الأنف: قال بعض المفسرين فى قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ إنها إشارة إلى الكتاب الذى جاء به جبريل حين قال له: اقرأ. (5) فغتنى: قال ابن الأثير: الغت والغط سواء كأنه أراد عصرنى عصرا شديدا حتى وجدت منه المشقة، كما يجد من يغمس فى الماء قهرا.

مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1، 5] ، فقرأتها ثم انتهى فانصرف عنى وهببت من نومى، «فكأنما كتبت فى قلبى كتابا» . فخرجت حتى إذا كنت فى وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل، فرفعت رأسى إلى السماء أنظر، فإذا جبريل فى صورة رجل صاف قدميه فى أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهى عنه فى آفاق السماء، فلا أنظر فى ناحية منها إلا رأيته كذلك، فمازلت واقفا ما أتقدم أمامى وما أرجع ورائى، حتى بعثت خديجة رسلها فى طلبى، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف فى مكانى ذلك، ثم انصرف عنى وانصرفت عنه راجعا إلى أهلى حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها. فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعث رسلى فى طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلى، ثم حدثتها بالذى رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عمى واثبت، فو الذى نفس خديجة بيده إنى لأرجو أن تكون نبى هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها، وكان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدوس قدوس، والذى نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتنى يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، وإنه لنبى هذه الأمة، فقولى له فليثبت، فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا ابن أخى، أخبرنى بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة: والذى نفسى بيده، إنك لنبى هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذى جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقيل يا فوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله «1» . ويروى عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أى ابن عم، أتستطيع أن تخبرنى بصاحبك هذا الذى يأتيك إذا جاءك؟ قال: «نعم» . قالت: فإذا جاءك فأخبرنى به،

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 146، 149) ، فتح البارى لابن حجر (8/ 588، 589) .

ذكر بدء الغزو إلى الشام وما وقع فى نفس أبى بكر الصديق رضى الله عنه، من ذلك وما قوى عزمه عليه

فجاءه جبريل كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خديجة، هذا جبريل قد جاءنى» ، قالت: قم يا ابن عم فاجلس على فخذى اليسرى، فقام فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: «نعم» . قالت: فتحول فاقعد على فخذى اليمنى، فتحول فقعد على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: «نعم» . قالت: فتحول فاجلس فى حجرى، فتحول فجلس فى حجرها، ثم قالت له: هل تراه؟ قال: «نعم» ؛ فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: «لا» . قالت: يا ابن عم، اثبت وأبشر، فو الله إنه لملك ما هذا بشيطان «1» . ويروى أن خديجة أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبريل، وابتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل فى رمضان. يقول الله عز وجل: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 181] ، وقال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] إلى خاتمة السورة. وقال: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان: 1، 4] ، وقال: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الأنفال: 42] ، يعنى ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر، وذلك يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان. هكذا أورد ابن إسحاق «2» رحمه الله هذه الآيات كالمستشهد بها على ابتداء التنزيل فى شهر رمضان على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفى صورة هذا الاستشهاد نظر. فإن ظاهر قوله سبحانه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ عموم نزول القرآن بجملته فيه. وكذلك قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وإِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ. ولم يقع الأمر فى إنزاله على رسوله صلى الله عليه وسلم هكذا، بل أنزله الله عليه فى رمضان وفى غيره متفرقا، آيات وسورا، بحسب سؤال السائلين، أو أحداث المحدثين، أو ما شاء الله من هداية العالمين. وقد قيل فى قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ أى

_ (1) انظر الحديث فى: الجامع الكبير (2/ 721) . (2) انظر: السيرة (1/ 204) .

الذى أنزل فى شأنه القرآن، أى نزل الأمر من الله عز وجل، بصيامه كتابا يتلى وقرآنا لا يدرس ولا يبلى. كما يقال: «نزل القرآن بالصلاة» أى نزل جزء منه بفرضها و «نزل القرآن فى عائشة» رضى الله عنها، وإنما نزلت منه آيات ببراءتها من الإفك. ومثل هذا الإطلاق موجود فى الأحاديث والآثار كثيرا. ولنسلم أن معنى قوله: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أى ابتدىء فيه إنزاله، فقد قيل ذلك وليس ببعيد فى المفهوم ولا مما تضيق عنه سعة الكلام، ثم نجرى ذلك المجرى الآيتين الأخيرتين، وهما: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، وإِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وإن بعد ذلك فيهما لما ورد من الآثار المصححة لحكم عمومهما حسبما نذكره بعد، فما بال الآية الأخرى التى هى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ تنتظم فى هذا النظام، وقد أعقبها مفسرا بأن المعنى بذلك يوم بدر، وهو الحق؟!. وهل كان يوم بدر إلا فى السنة الثانية من الهجرة، وبعد اثنتى عشرة سنة من البعث ونزول الوحى، أو بعد خمس عشرة سنة، على ما ورد من الخلاف فى مدة مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة، وما زال القرآن المكى والمدنى ينزل فى ماضى تلك السنين!. فإن كان ابن إسحاق عنى ما ذكرناه عنه ونسبناه إليه فقد بينا وجه رده واستوفينا التنبيه عليه، وإن كان عنى غير ذلك فقصر عنه تحرير عبارته أو سقط على الناقل من كلامه ما كان يفى لو بقى بإفهامه، فالله تعالى أعلم. والرجل أولى منا بأن يصيب ويسلم، إلا أنه لا ينكر أن يغلط هذا البشر. ونعوذ بالله أن نقصد بهذا الاعتداء على ذى علم أو الغض من ذى حق، فإن العلماء هم آباؤنا الأقدمون وهداتنا المتقدمون، بأنوارهم نسرى فنبصر ونستبصر، وإلى غاياتهم نجرى فطورا نصل وأطوارا نقصر، فلهم دوننا قصب السبق، ولهم علينا فى كل الأحوال أعظم الحق، إذا أصابوا اعتمدنا، وإذا أخطأوا استفدنا، وإذا أفادوا استمددنا، فجزاهم الله عنا أفضل الجزاء، ووفقنا لتوفية حقوق الأئمة والعلماء. وبعد: فمن أحسن ما يتقلد فى تلك الآيات الثلاث التى صدر بها كلامه، مما يحفظ حكم عمومها ويطابق ظاهر مفهومها، ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم أجمعين، أن القرآن أنزل جملة واحدة فى شهر رمضان إلى سماء الدنيا، فجعل فى بيت العزة، ثم أنزل على النبى صلى الله عليه وسلم شيئا فشيئا إلى حين وفاته.

وقيل للشعبى: شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن، أما كان ينزل فى سائر السنة؟ قال: بلى، ولكن جبريل عليه السلام، كان يعارض محمدا صلى الله عليه وسلم فى شهر رمضان ما أنزل فى ماضى السنة فيمحو الله ما يشاء ويثبت. قال ابن إسحاق «1» : ثم تتام الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مؤمن بالله مصدق لما جاءه منه، قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم. وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها، ولا يستطيع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله وتوفيقه، لما يلقون من الناس وما يرد عليهم مما جاؤا به عن الله عز وجل. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى. وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، وآزرته على أمره. فكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء منه. فخفف الله بذلك عن رسوله، لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس. يرحمها الله «2» . ثم فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحى حتى شق عليه وأحزنه. فجاءه جبريل بسورة وَالضُّحى، يقسم له ربه جل وعلا، وهو الذى أكرمه بما أكرمه به، ما ودعه ولا قلاة. فقال: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، يقول: ما حرمك فتركك، وما أبغضك منذ أحبك، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أى لما عندى من مرجعك إلى خير لك مما عجلت لك من الكرامة فى الدنيا، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى من الفلج فى الدنيا والثواب فى الآخرة، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى «3» . يعرفه بما ابتدأه به من كرامته فى عاجل أمره، ومنه عليه فى يتمه وعيلته وضلالته، واستنفاذه من ذلك برحمته، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أى لا تكن جبارا ولا متكبرا ولا فحاشا فظا على الضعفاء من بعاد الله، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ اذكرها وادع إليها «4» .

_ (1) انظر: السيرة (1/ 204) . (2) انظر: السيرة (1/ 205) . (3) انظر: السيرة (1/ 206) . (4) انظر: السيرة (1/ 207) .

فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا إلى من يطمئن به إليه من أهله. وافترضت عليه الصلاة، فصلى صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته. قالت عائشة رحمها الله: افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما افترضت ركعتين ركعتين كل صلاة، ثم إن الله أتمها فى الحضر أربعا وأقرها فى السفر على فرضها الأولى ركعتين «1» . وعن بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبة فى ناحية الوادى فانفجرت له منه عين، فتوضأ جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ، ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فتوضأ ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ لها ثم صلى بها كما صلى به جبريل فصلت بصلاته «2» . وعن نافع بن جبير بن مطعم، وكان كثير الرواية عن ابن عباس، قال: لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر. ثم صلى به الظهر حين كان ظله مثله، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل الأول، ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق. ثم قال: يا محمد، الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس «3» .

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 464) ، سنن أبى داود (1198) ، النسائى (1/ 225) ، أحمد فى المسند (6/ 272) . (2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (1/ 535، 536) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 223، 224) ، وذكره السهيلى فى الروض الأنف (1/ 283، 284) . (3) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (1/ 393) ، سنن الترمذى (149) ، مسند الإمام أحمد (3081) ، مستدرك الحاكم (1/ 193) . وذكره السهيلى فى الروض الأنف (1/ 284) ، وقال: هذا الحديث لم يكن ينبغى له أن يذكره فى هذا الموضع، لأن أهل الصحيح متفقون على أن هذه القصة كانت فى الغد من ليلة

قال ابن إسحاق «1» : ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى وصدق بما جاءه من الله تبارك وتعالى، علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وهو ابن عشر سنين يومئذ. وكان مما أنعم الله به عليه أنه كان فى حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام. وذلك أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه، وكان من أيسر بنى هاشم: «يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفهما عنه» ، قال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لى عقيلا فاصنعا ما شئتما، ويقال: عقيلا وطالبا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل علىّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتبعه على وآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه «2» . وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه على بن أبى طالب مستخفيا من أبى طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا. فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان فقال لرسول الله: يا ابن أخى، ما هذا الدين الذى أراك تدين به؟! قال: «أى عم، هذا دين الله ودين ملائكته ورسله، ودين أبينا إبراهيم» . أو كما قال صلى الله عليه وسلم. «بعثنى الله به رسولا إلى العباد، وأنت أى عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابنى إليه وأعاننى عليه» . أو كما قال. فقال أبو طالب: أى ابن أخى، إنى لا أستطيع أن أفارق دين آبائى وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشىء تكرهه ما بقيت «3» .

_ - الإسراء، وذلك بعد ما نبئ بخمسة أعوام، وقد قيل: إن الإسراء كان قبل الهجرة بعام ونصف، وقيل: بعام، فذكره ابن إسحاق فى بدء نزول الوحى، وأول أحوال الصلاة. (1) انظر: السيرة (1/ 208- 209) . (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 162) . (3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 313) .

وذكروا أنه قال لعلى: أى بنى ما هذا الدين الذى أنت عليه؟. فقال: يا أبت، آمنت برسول الله وصدقت بما جاء به وصليت معه لله واتبعته. فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه. قال ابن إسحاق «1» : ثم أسلم زيد بن حارثة الكلبى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ذكر أسلم وصلى بعد على بن أبى طالب، وعن غير ابن إسحاق أن زيدا أصابه فى الجاهلية سباء فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد وقيل: بل وهبه لها، فوهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، وذلك قبل أن يوحى إليه، وكان حارثة أبوه قد جزع عليه جزعا شديدا وبكى عليه حين فقده، فقال: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحى فيرجى أم أتى دونه الأجل فو الله ما أدرى وإنى لسائل ... أغالك بعدى السهل أم غالك الجبل ويا ليت شعرى هل لك الدهر أوبة ... فحسبى من الدنيا رجوعك لى بجل تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا غربها أفل وإن هبت الأرواح هيجن ذكره ... فيا طول ما حزنى عليه وما وجل سأعمل نص العيس فى الأرض جاهدا ... ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل حياتى أو تأتى على منيتى ... فكل امرىء فإن وإن غره الأمل ثم إن أناسا من كلب حجوا فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، فأعلموا أباه ووصفوا له موضعه وعند من هو. فخرج أبوه حارثة وعمه كعب ابنا شراحيل لفدائه. وقدما مكة فسألا عن النبى صلى الله عليه وسلم فدخلا عليه فقالا: يا ابن عبد المطلب بن هاشم، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العانى وتطعمون الأسير، جئناك فى ابننا عبدك، فامنن عليه وأحسن إلينا فى فدائه. قال: «من هو؟» قالوا: زيد بن حارثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلا غير ذلك؟» قالوا: ما هو؟ قال: «أدعوه فأخيره، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارنى فو الله ما أنا بالذى أختار على من اختارنى أحدا» . قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت. فدعاه فقال: «هل تعرف هؤلاء؟» قال: نعم. قال: «من هذا؟» قال: أبى وهذا عمى. قال: «فأنا من قد علمت ورأيت صحبتى لك فاخترنى أو اخترهما» . قال زيد: ما أنا بالذى اختار عليك أحدا، أنت منى مكان الأب والعم!، فقالا: ويحك يا زيد! أتختار

_ (1) انظر: السيرة (1/ 210) .

العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك! قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذى أختار عليه أحدا أبدا. فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه إلى الحجر فقال: «يا من حضر، اشهدوا أن زيدا ابنى يرثنى وأرثه» . فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما، فانصرفوا «1» . فدعى: زيد بن محمد، حتى جاء الله بالإسلام فنزلت: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الآية [الأحزاب: 4] . فدعى من يومئذ زيد بن حارثة «2» . قال ابن إسحاق «3» : ثم أسلم أبو بكر بن أبى قحافة، واسمه عتيق، وقيل: عبد الله، وعتيق لقب، لحسن وجهه وعتقه، فيما قال ابن هشام. واسم أبى قحافة عثمان بن عامر ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى. فلما أسلم أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله. وكان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه. قال «4» : فأسلم بدعائه فيما بلغنى، عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى، والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب، وسعد بن أبى وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بلغنى «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قحافة، ما عكم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه» «5» .

_ (1) انظر الحديث فى: معجم الطبرانى الكبير (5/ 66، 12/ 114) ، تفسير ابن كثير (3/ 469) كنز العمال للمتقى الهندى (36493، 36496) . (2) ذكره الهيثمى فى المجمع (9/ 274) . (3) انظر: السيرة (1/ 211) . (4) انظر: السيرة (1/ 2129) . (5) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (1/ 108، 3/ 27) ، الدلائل للبيهقى (2/ 164) .

قال «1» : فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام فصلوا وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقوا بما جاءه من الله، ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر. وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، والأرقم بن أبى الأرقم بن أسد أبى جندب بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى. وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصى، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدى بن كعب بن لؤى. وامرأته فاطمة بنت عمه الخطاب بن نفيل أخت عمر بن الخطاب، وأسماء بنت أبى بكر الصديق، وعائشة بنت أبى بكر الصديق وهى صغيرة، وخباب بن الأرت حليف بنى زهرة، وعمير بن أبى وقاص، أخو سعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن مسعود الهذلى، حليف بنى زهرة، وجماعة سوى هؤلاء سماهم ابن إسحاق «2» . قال: ثم دخل الناس فى الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به، ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه وأن يبادى الناس بأمره ويدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستسر به إلى أن أمره الله بإظهار ثلاث سنين فيما بلغنى، من مبعثه، ثم قال الله له: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] ، ثم قال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 114، 115] . وفى موضع آخر: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89] . قال «3» : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا فى الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبى وقاص فى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم ناس من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا

_ (1) انظر: السيرة (1/ 212) . (2) انظر: السيرة (1/ 212- 216) . (3) انظر: السيرة (1/ 217) .

عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد يومئذ رجلا من المشركين بلحى بعير «1» فشجه. فكان أول دم هريق فى الإسلام. فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته، إلا من عصم الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون. وحدب «2» على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمره الله مظهرا له، لا يرده عنه شىء. فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شىء أنكروه عليه، من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشرافهم إلى أبى طالب، عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وأبو سفيان بن حرب، وأبو البخترى بن هشام، والحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصى، والأسود ابن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والعاص بن وائل، ومن مشى منهم. فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرى الأمر «3» بينه وبينهم، حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبى طالب مرة أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك فى ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. أو كما قالوا له.

_ (1) لخى بعير: اللحى العظم الذى على الخد، وهو من الإنسان العظم الذى تنبت عليه اللحية. (2) حدب: أى عطف عليه ومنعه، يقال: فلان حدب على فلاذن، إذا كان عاطفا عليه مانعا له. (3) شرى الأمر: أى كثر واستفحل، يقال: شرى البرق إذا كثر لمعانه، ويقال: شرى الرجل إذا غضب.

ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خذلانه. وذكر أن أبا طالب حين قالت له قريش هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: يا ابن أخى، إن قومك قد جاؤنى فقالوا كذا وكذا، للذى قالوا له فأبق على وعلى نفسك ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته!» ، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى! ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا ابن أخى، فأقبل عليه، فقال: اذهب يا ابن أخى فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشىء أبدا «1» . ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى فى قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذى خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل كرجل، قال: والله لبئس ما تسوموننى! أتعطوننى ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابنى تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا. فقال المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا، فقال له أبو طالب: والله ما أنصفونى، ولكنك قد أجمعت خذلانى ومظاهرة القوم على، فاصنع ما بدا لك أو كما قال. فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادى بعضهم بعضا «2» .

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 48) ، الألبانى فى السلسلة الضعيفة (909) ، وقال: هذا إسناد ضعيف معضل، يعقوب بن عتبة هذا من ثقات أتباع التابعين مات سنة ثمان وعشرين ومائة، وقد وجدت للحديث طريقا أخرى بسند حسن لكن بلفظ: «ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك، على أن تستشعلوا لى منها شعلة» يعنى الشمس، وقد خرجته فى الأحاديث الصحيحة (92) . (2) قال فى السيرة بعد أن ذكر ما أورد ابن هشام هنا: فقال أبو طالب عند ذلك، يعرض بالمطعم ابن عدى، ويعم من خذله من بنى عبد مناف، ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه، وما تباعد من أمرهم:

قال «1» : ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من فى القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه. فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم. ومنع الله تبارك وتعالى، رسوله منهم بعمه أبى طالب، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون فى بنى هاشم وبنى المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليهم، إلا ما كان من أبى لهب. فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر قديمهم وفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم وليحدبوا معه على أمره، فقال: إذا اجتمعت يوما قريش لمخفر ... فعبد مناف سرها وصميمها «2» فإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففى هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإن محمدا ... هو المصطفى من سرها وكريمها تداعت قريش غثها وسمينها ... علينا فلم تظفر وطاشت حلومها «3» وكنا قديما لا نقر ظلامة ... إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها

_ - ألا قل لعمرو والوليد ومطعم ... ألا ليت حظى من حياطتكم بكر من الخور حبحاب كثير رغاؤه ... يرش على الساقين من بوله قطر تخلف خلف الورد ليس بلا حق ... إذا ما علا الفيفاء قيل له وبر أرى أخوينا من أبينا وأمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر بلى لهما أمر ولكن تجرجما ... كما جرجمت من رأس ذى علق صخر أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمر هما أغمزا للقوم فى أخويهما ... فقد أصبحا منهم أكفهما صفر هما أشركا فى المجد من لا أبا له ... من الناس إلا أن يرس له ذكر وتيم ومخزوم وزهرة منهم ... وكانوا لنا مولى إذا بغى النصر فو الله لا تنفك منا عداوة ... ولا منهم ما كان من نسلنا شفر فقد أسفهت أحلامهم وعقولهم ... وكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر انظر: السيرة (1/ 219- 220) . (1) انظر: السيرة (1/ 220) . (2) سرها وصميمها: أى خالصها وكريمها. (3) غثها وسمينها: الغث اللحم الضعيف، والسمين الماقبل أو العكس. طاشت حلومها: أى ذهبت عقولها.

ونحمى حماها كل يوم كريهة ... ونضرب عن أحجارها من يرومها بنا انتعش العود الذوى وإنما ... بأكنافنا تندى وتنمى أرومها ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول فيه، قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة «1» الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه «2» ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده «3» ، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق «4» وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشر ذكره فى بلاد العرب كلها «5» . فلما خشى أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التى يعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم فى ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تاركه لشىء أبدا حتى يهلك دونه. وأولها:

_ (1) زمزمة الكاهن: أى كلام خفى لا يهم. (2) التخالج: اختلاج الأعضاء وتحركها عن غير إراده. (3) نفثه وعقده: هذه إشارة إلى ما كان يفعل الساحر إذ كان يأخذ خيطا فيعقده ثم ينفث عليه بلا ريق. (4) العذق: الكثير الشعب والأطراف، ومن رواه عذق فمعناه كثير الماء، والعذق: كل غصن له شعب، وأيضا هو النخلة عند أهل الحجاز. انظر: اللسان (مادة عذق) . (5) انظر: السيرة (1/ 222- 224) .

ولما رأيت القوم لاود فيهم ... وقد قطعوا كمل العرى والوسائل «1» وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل وقد حالفوا قوما علينا أظنة ... يعضون غيظا خلفنا بالأنامل «2» صبرت لهم نفسى بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول وأحضرت عند البيت رهطى وإخوتى ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل قياما معا مستقبلين رتاجه ... لدى حيث يقضى حلفه كل نافل وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضى السيول من إساف ونائل موسمة الأعضاء أو قصراتها ... مخيسة بين السديس وبازل ترى الودع فيها والرخام وزينة ... بأعناقها معقودة كالعثاكل أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة ... ومن ملحق فى الدين ما لم نحاول وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى فى حراء ونازل وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل وبالحجر الأسود إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل وموطىء إبراهيم فى الصخر وطأة ... على قدميه حافيا غير ناعل وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... وما فيهما من صورة وتماثل ومن حج بيت الله من كل راكب ... ومن كل ذى نذر ومن كل راجل وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له ... إلال إلى مفضى الشراج القوابل «3» وتوقافهم فوق الجبال عشية ... يقيمون بالأيدى صدور الرواحل وليلة جمع والمنازل من منى ... وهل فوقها من حرمة ومنازل وجمع إذا ما المقربات أجزنه ... سراعا كما يخرجن من وقع وابل «4» وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها ... يؤمنون قذفا رأسها بالجنادل وكندة إذ هم بالحصاب عشية ... تجيز بهم حجاج بكر بن وائل حليفان شدا عقد ما اختلفا له ... وردا عليه عاطفات الوسائل

_ (1) الوسائل: جمع وسيلة، وهى الوصلة والقربة، وقيل: هى المنزلة عند الملك. (2) أظنة: جمع ظنين، وهو المتهم الذى تظن به التهمة. (3) إلال: بالفتح هو جبل بعرفات، وسمى إلال لأن الحجيج إذا رأوه الوا فى السير واجتهدوا ليدركوا الموقف. (4) المقربات: الخيل التى تقرب مرابطها من البيوت لكرمها. وابل: المطر الشديد.

وحطمهم سمر الصفاح وسرحه ... وشبرقه وخد النعام الجوافل «1» فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ... وهل من معيذ يتقى الله عاذل يطاع بنا الأعدا وودوا لو أننا ... تسد بنا أبواب ترك وكابل كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن إلا أمركم فى بلابل كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل وينهض قوم فى الحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل «2» وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه ... من الطعن فعل الأنكب المتحامل وإنا لعمرو الله إن جد ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل بكفى فتى مثل الشهاب سميدع ... أخى ثقة حامى الحقيقة باسل «3» وما ترك قوم لا أبالك سيدا ... يحوط الذمار غير ذرب مواكل «4» وأبيض يستسقى الغمام بكفه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده فى رحمة وفواضل «5» جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل بميزان قسط لا يخيس شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل

_ (1) سمر: يحتمل أن يكون أصله سمرا بفتح فضم وهو من شجر الطلح. الصفاح: هو جمع صفح، وهو عرض الجبل، ويقال: أسفله حيث يسيل ماؤه، سرحه: السرح: شجر. شبرقة: الشبرق بالكسر نبات غض، وقيل: شجر منبته نجد وتهامة، وثمرته شاكة صغيرة الجرم حمراء مثل الدم وواحدته شبرق. وخد النعام: الوخد ضرب من سير الإبل وهو سعة الخطوة فى المشى. (2) الروايا: الإبل التى تحمل الماء. الصلاصل: واحدتها صلصلة وهى الصوت وذات الصلاصل: الزادات التى فيها بقية من الماء يسمع لها صوت حين تسير الإبل. (3) سميدع: السيد من الرجال. الباسل: الأسد لكراهة منظره وقبحه، والبسالة الشجاعة، والباسل الشديد، وقيل الشجاع، والجمع بسلاء وبسل. (4) جاء فى السيرة قبل هذه البيت بيت آخر وهو: شهورا وأياما وحولا مجرما ... علينا وتأتى حجة بعد قابل وما ترك قوم ... ... ... مواكل انظر: السيرة (1/ 226) . (5) ذكر بعد هذا البيت فى السيرة أبيات آخر لم يذكرها هنا. انظرها فى: السيرة (1/ 227- 228) .

لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا ... بنى خلف قيضا بنا والغياطل «1» ونحن الصميم من ذؤابة هاشم ... وآل قصى فى الخطوب الأوائل وسهم ومخزوم تمالوا وألبوا ... علينا العدى من كل طمل وخامل فعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا فى أمركم كل واغل «2» لعمرى لقد وهنتم وعجزتم ... وجئتم بأمر مخطىء للمفاصل «3» فإن يك قوما نتئر ما صنعتم ... وتحتلبوها لقحة غير باهل «4» فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا ... وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة ... إذا ما لجأنا دونهم فى المداخل ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم ... لكنا أسى عند النساء المطافل فإن نك كعب من لوى صميمة ... فلا بد يوما مرة من تزايل «5» فكل صديق وابن أخت نعده ... لعمرى وجدنا غبه غير طائل سوى أن رهطا من كلاب بن مرة ... براء إلينا من معقة خاذل «6» ونعم ابن أخت القوم غير مكذب ... زهير حساما مفردا من حمائل أشم من الشم البهاليل ينتمى ... إلى حسب فى حومة المجد فاضل «7» لعمرى لقد كلفت وجدا بأحمد ... وإخوته دأب المحب المواصل فلا زال فى الدنيا جمالا لأهلها ... وزينا لمن والاه رب المشاكل فمن مثله فى الناس أى مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالى إلها ليس عنه بغافل «8»

_ (1) انظر: السيرة (1/ 228) . (2) الواغل: هو الداخل على القوم فى شرابهم وهو الذى يهجم على الشراب ليشرب معهم وليس منهم. (3) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيتان لم يذكرهما. انظرهما فى: السيرة (1/ 228) . (4) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت أبيات لم يذكرها هنا، انظرهما فى: السيرة (1/ 229) . (5) هذا البيت لم يذكره فى السيرة. (6) ذكر فى السيرة بعد هذ البيت أبيات لم يذكرها هنا، انظرها فى: السيرة (1/ 229) . (7) أشم: قيل: جبل أشم أى طويل الرأس. البهاليل: جمع بهلول وهو العزيز الجامع لكل خير، وقيل: هو الحيى الكريم. (8) الأبيات التى وردت هنا بعد هذا البيت غير موجود فى السيرة بهذا التريتب فقد ذكرها هناك بترتيب أخر وهو:

فأيده رب العباد بنصره ... وأظهر دينا حقه غير باطل فو الله لولا أن أجئ بسبة ... تجر على أشياخنا فى القبائل لكنا ابتعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول التهازل لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل فأصبح فينا أحمد فى أرومة ... تقصر عنها سورة المتطاول حدبت بنفسى دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل والقصيدة أطول من هذا، وإنما تركنا ما تركنا منها اختصارا. وذكر ابن هشام أن بعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها «1» ، قال: وحدثنى من أثق به قال: أقحط أهل المدينة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه ذلك، فصعد المنبر فاستسقى، فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحى يشكون منه الغرق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حوالينا ولا علينا» . فانجاب السحاب عن المدينة، فصار حواليها كالإكليل «2» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره» ، فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت لقوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل قال: «أجل» «3» .

_ - فو الله لولا أن أجىء بسبة ... تجر على أشياخنا فى المحافل لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول التهازل لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل فأصبح فينا أحمد فى أرومة ... تقصر عنها سورة المتطاول حدبت بنفسى دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرا والكلاكل فأيده رب العباد بنصره ... وأظهر دينا حقه غير باطل رجال كرام غير ميل نماهم ... إلى الخير آباء كرام المحاصل فإن تك كعب من لؤى صقيبة ... فلا بد يوما مرة من تزايل انظر: السيرة (1/ 230) . (1) انظر: السيرة (1/ 230) . (2) الإكليل: هو شبه عصابة مزينة بالجواهر، وقيل: يريد أن الغيم تقشع عنها واستدار بآفاقها، وقيل: هو منزل من منازل القمر وهى أربعة أنجم. انظر: اللسان (مادة كلل) . (3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (2/ 15، 35، 37، 38، 40، 8/ 92) ، مسلم كتاب الاستسقاء (8/ 9) ، النسائى (3/ 160، 161، 162، 166، 167) ، سنن ابن ماجه-

قال ابن إسحاق «1» : فلما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العرب وبلغ البلدان، ذكر بالمدينة، ولم يك حى من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر وقبل أن يذكر من الأوس والخروج، وذلك لما كانوا يسمعون من أخبار يهود، وكانوا لهم حلفاء ومعهم فى بلادهم. فلما وقع ذكره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف، قال أبو قيس بن الأسلت الأوسى، وكان يحب قريشا، وكان يقيم فيهم السنين بامرأته أرنب بنت أسد ابن عبد العزى بن قصى، قصيدة يعظم فيها الحرمة، وينهى قريشا عن الحرب ويذكر فضلهم وأحلامهم، ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه الفيل عنهم فقال: ويا راكبا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عنى لؤى بن غالب «2» رسول امرىء قد راعه ذات بينكم ... على النأى محزون بذلك ناصب وقد كان عندى للهموم معرس ... ولم أقض منها حاجتى ومآربى أعيذكم بالله من شر صنعكم ... وشر تباغيكم ودس العقارب وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة ... كوخز الأثافى وقعها حق صائب «3» فذكرهم بالله أول وهلة ... وإحلال إحرام الظباء الشوازب «4»

_ - (1269) ، مسند الإمام أحمد (3/ 104، 187، 194، 261، 271، 4/ 236) ، البيهقى فى السنن الكبرى (3/ 353، 354، 355، 356، 4/ 221) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 28) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 12) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5902) ، نصب الراية للزيلعى (2/ 239) ، فتح البارى (2/ 413، 501، 508، 510، 512، 519، 10/ 504، 11/ 143) ، صحيح ابن خزيمة (1423، 1789) ، شرح السنة للبغوى (4/ 414) ، كنز العمال للمتقى الهندى (23540، 23548) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 195) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 107، 5/ 89، 6/ 102، 106) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 89، 6/ 139، 144) ، طبقات ابن سعد (1/ 1/ 17، 1/ 2/ 42) ، المعجم الكبير للطبرانى (10/ 346) ، مصنف ابن أبى شيبة (10/ 219، 346، 11/ 481) . (1) انظر: السيرة (1/ 232) . (2) مغلغله: قال السهيلى: المغلغلة: الداخل إلى أقصى ما يراد بلوغه منها أى محموة من بلد إلى بلد وقيل: المسرعة من الفلفلة وهى سرعة السير. انظر: اللسان (مادة غلغل) . (3) الوخز: الطعن الغير نافذ، وقيل: هو الطعن النافذ فى جنب المطعون. الأشافى: جمع إشفى، وهى حديدة يفرز بها الأسكافى. (4) أحرام الظباء: التى يحرم صيدها فى الحرم. الشوازب: المضمرات، وقيل: الشازب الضامر اليابس من الناس وغيرهم.

وقل لهم والله يحكم حكمه ... ذروا الحرب تذهب عنكم فى المراحب متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... هى الغول للأقصين أو للأقارب تقطع أرحاما وتهلك أمة ... وتبرى السديف من سنام وغارب «1» فإياكم والحرب لا تغلقنكم ... وحوضا وخيم الماء مر المشارب «2» تزين للأقوام ثم يرونها ... بعاقبة إذ بينت أم صاحب «3» تحرق لا تشوى ضعيفا وتنتحى ... ذوى العز منكم بالحتوف الصوائب ألم تعلموا ما كان فى حرب داحس ... فتعتبروا أو كان فى حرب حاطب وكم قد أصابت من شريف مسود ... طويل العماد ضيفه غير خائب وماء هريق فى الضلال كأنما ... أذاعت به ريح الصبا والجنائب «4» يخبركم عنها امرؤ حق عالم ... بأيامها والعلم علم التجارب فبيعوا الحراب ملمحارب واذكروا ... حسابكم والله خير محاسب ولى امرىء فاختار دينا فلا يكن ... عليكم رقيبا غير رب الثواقب أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم ... لنا غاية قد يهتدى بالذوائب وأنتم لهذا الناس نور وعصمة ... تؤمون والأحلام غير عوازب وأنتم إذا ما حصل الناس جوهم ... لكم سره البطحاء شم الأرانب «5» تصونون أجسادا كراما عتيقة ... مهذبة الأنساب غير أشائب ترى طالبى الحاجات نحو بيوتكم ... عصائب هلكى تهتدى بعصائب

_ (1) تبرى: تقطع. السديف: هو اللحم الذى يكون فى أعلى ظهر الإبل، وهو ما يسمى بالسنام، والغارب: أعلى الظهر. (2) ذكر فى السيرة قبل هذا البيت بيتان لم يذكرهما هنا وهما: وتستبدلوا بالأتحمية بعدها ... شليلا وأصداء ثياب المحارب وبالمسك الكافور غبرا سوابغا ... كأن قتيريها عيون الجنادب انظر: السيرة (1/ 234) . (3) بينت: أى ظهر أمرها واتضح. أم صاحب: قال السهيلى فى الروض الأنف: أى عجوز كأم صاحب لك إذا لا يصحب الرجل إلا الرجل فى سنه. (4) ريح الصبا: ريح معروفة تقابل الدبور، وقيل: الصبا ريح ومهبها المستوى أن تهب من موضع مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، وينحتها الدبور، وقيل: الصبا ريح تستقبل البيت. انظر: اللسان (مادة صبا) . (5) سرة: قيل: سرة الشىء، خيره وأعلاه. الشم: ارتفاع فى قصبة الأنف مع استواء أعلاه وإشراف الأرنبة قليلا. الأرانب: جمع أرنبة وهى القصبة التى فيها ثقب الأنف.

لقد علم الأقوام أن سراتكم ... على كل حال خير أهل الجباجب «1» فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب فعندكم منه بلاء ومصدق ... غداة أبى يكسوم هادى الكتائب كتيبته بالسهل تمسى ورجله ... على القاذفات فى رؤس المناقب «2» فلما أتاكم نصر ذى العرش ردهم ... جنود إله بين ساف وحاصب فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى قومه ملحبش غير عصائب فإن تهلكوا نهلك وتهلك عصائب ... يعاش بها قول امرىء غير كاذب ثم إن قريشا اشتد أمرهم، للشقاء الذى أصابهم، فى عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءهم، فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفى به، مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم على كفرهم. فحدث عروة بن الزبير أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما فى الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط! سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا، لقد صبرنا معه على أمر عظيم. أو كما قالوا. فبينما هم فى ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: «أتسمعون يا معشر قريش؟! والذى نفسى بيده لقد جئتكم بالذبح» . قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى أن أشدهم وصاة فيه قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولا. قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد

_ (1) الجباجب: بالضم هو المستوى من الأرض وهى هنا أسماء منازل بمنى سميت به لأنه كروش الأضاحى تلقى فيها أيام الحج. (2) القاذفات: أعالى الجبال، وقيل: هى كل ما أشرف من رؤس الجبال وأعاليها. المناقب: جمع منقبة، الطريق الضيق بين دارين أو جبلين لا يستطاع سلوكه.

ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه

اجتمعوا فى الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه!. فبيناهم فى ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون: أنت الذى تقول كذا وكذا، للذى يقول من عيب آلهتهم. فيقول رسول الله: «نعم أنا الذى أقول ذلك» . فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله!! ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط «1» . ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه قال ابن إسحاق «2» : وحدثنى رجل من أسلم، كان واعية، أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينة والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومولاة لعبد الله بن جدعان فى مسكن لها تسمع ذلك. ثم انصرف عنه فعمد إلى نادى قريش عند الكعبة فجلس معهم. فلم يلبث حمزة ابن عبد المطلب أن أقبل متوحشا قوسه راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى فى قريش وأشده شكيمة. فلما مر بالمولاة، وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبى الحكم بن هشام! وجده ها هنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب، لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى لم يقف على أحد، معدا لأبى جهل إذا لقيه أن يقع به. فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا فى القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه بها شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه، فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد على إن استطعت. فقامت رجال بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل،

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 276) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 66) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 15) . (2) انظر: السيرة (1/ 240) .

فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنى والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا. وتم حمزة على إسلامه وعلى ما بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه «1» . وعن محمد بن كعب القرظى، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا، قال يوما وهو جالس فى نادى قريش، والنبى صلى الله عليه وسلم جالس فى المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه. فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخى، إنك منا حيث قد علمت من السطة فى العشيرة والمكان فى النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منا بعضها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع» . قال: يا ابن أخى، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا لا تستطيع رده من نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم. قال: «فاسمع منى» . قال: أفعل، قال: بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: 1، 4] . ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها

_ (1) ذكره أبو نعيم فى حلية الأولياء (1/ 40) ، وفى الدلائل (194) ، الهيثمى فى المجمع (9/ 267) ، ابن عساكر فى التاريخ (12/ 720) .

يستمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك» . فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائى أنى سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعونى واجعلوها بى، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذى سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيى فيه، فاصنعوا ما بدا لكم «1» . قال ابن إسحاق «2» : ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة فى قبائل قريش فى الرجال والنساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين، ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فلما بقى أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا به، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تريد به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك، وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا، فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا فى طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بى ما تقولون، ما جئت بما جئت به أطلب أموالكم ولا

_ (1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (35428) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 204، 205) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 62- 64) . (2) انظر: السيرة (1/ 243) .

الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثنى إليكم رسولا وأنزل على كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتمكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لحكم الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» . أو كما قال صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل شيئا مما عرضنا عليك فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذى بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التى قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصى بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا إلينا كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثنى به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» ، قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغى، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل وما أنا بالذى يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا» . أو كما قال: «فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» . قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن بك إلا أن تفعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل» . قالوا: يا محمد، فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع فى ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به؟ إنه بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك، وما بلغت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهى بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.

فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قام عنهم، وقام معه عبد الله بن أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا، فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك، فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله، فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب، فلم تفعل. أو كما قال له، فو الله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلمأ ثم ترقى فيه وأنا أنظر، حتى تأتيها، ثم تأتى معك بصك معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك ما طننت أنى أصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه. فلما قام عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإنى أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله، أو كما قال، فإذا سجد فى صلاته فضخت به رأسه، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. قالوا: والله لا نسلمك لشىء أبدا فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدر، وكان بمكة وقبلته إلى الشام، فكان إذا صلى صلى بين الركنين: الركن اليمانى والحجر الأسود وجعل الكعبة بينه وبين الشام. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى، وقد غدت قريش فى أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده. وقامت إليه رجال قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل لا والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط، فهم بى أن يأكلنى. قال ابن إسحاق «1» : فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذلك جبريل، لو دنا لأخذه» «2» .

_ (1) انظر: السيرة (1/ 246) . (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 191) .

فلما قال لهم ذلك أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف ابن عبد الدار بن قصى، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر. لا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة نفثهم وعقدهم. وقلتم: كاهن. لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة تخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم: مجنون. لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش، انظروا فى شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم. فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا!. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبى، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا فى أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط حتى قدما مكة، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد. أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء، فإن أخبركم عنها فهو نبى، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. فجاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن تلك الأشياء، فقال لهم: «أخبركم بما سألتم عنه غدا» ، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله عز وجل، إليه فى ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف آل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشىء مما

سألناه عنه. وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحى عنه وشق عليه ما يتلكم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف والروح. فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه: «لقد احتبست عنى يا جبريل حتى سؤت ظنا» . فقال له جبريل: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64] «1» . فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق، وعرفوا صدقه فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه، حال الحسد منهم له بينهم وبين اتباعه وتصديقه، فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا ولجوا فيما هم عليه من الكفر، فقال قائلهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] أى اجعلوه لغوا وباطلا، واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك، فإنكم إن ناظرتموه وخاصمتموه غلبكم. فقال أبو جهل بن هشام يوما وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق: يا معشر قريش، يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم فى النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أعظم الناس عددا وكثرة، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم؟!. فأنزل الله فى ذلك من قوله: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً [المدثر: 31] إلى آخر القصة «2» . فلما قال ذلك بعضهم لبعض، جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو يصلى يتفرقون عنه ويأبون أن يستمعوا له، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلى استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذا هم فلم يستمع، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فظن الذى يستمع أنهم لا يسمعون شيئا من قراءته وسمع هو شيئا دونهم أصاخ يستمع له «3» .

_ (1) ذكره الواحدى فى أسباب النزول (252) ، ابن حجر فى فتح البارى (8/ 284) . (2) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (5/ 471) ، وقال: أخرجه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس ولم يذكر له إسنادا. (3) ذكره الطبرى فى تفسيره (15/ 164) .

وقال عبد الله بن عباس «1» : إنما نزلت هذه الآية: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] من أجل أولئك النفر «2» . يقول: لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيتفرقوا عنك وَلا تُخافِتْ بِها فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم، لعله يرعوى إلى بعض ما يستمع فينتفع بذلك. وكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبد الله بن مسعود فيما حدث به عروة بن الزبير «3» قال: اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال: دعونى فإن الله سيمنعنى. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام فى الضحى، وقريش فى أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ رافعا بها صوته الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. ثم استقبلها يقرؤها، وتأمموه فجعلوا يقولون: ما قال ابن أم عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلوا بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه فجعلوا يضربون فى وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه. فقالوا: هذا الذى خشينا عليك. قال: ما كان أعداء الله أهون على منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها قالوا: لا، حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون «4» . وذكر الزهرى «5» أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى من الليل فى بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم فى نفسه شيئا. ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا

_ (1) انظر: السيرة (1/ 259) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى حديث رقم (7490) ، صحيح مسلم كتاب الصلاة (1/ 145) ، سنن الترمذى (3146) . (3) انظر: السيرة (1/ 259- 260) . (4) ذكره القرطبى فى تفسيره (7/ 147) ، الطبرى فى تاريخه (2/ 334، 335) . (5) انظر: السيرة (1/ 260- 261) .

يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة. ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود. فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان فى بيته فقال: أخبرنى يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذى حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطمعوا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسى رهان قالوا: منا نبى يأتيه الوحى من السماء!!. فمن يدرك هذه؟! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس وتركه «1» . قال ابن إسحاق «2» : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله قالوا يستهزئون به: قلوبنا فى أكنة لا نفقه ما تقول، وفى آذاننا وقر لا نسمع ما تقول، ومن بيننا وبينك حجاب قد حال بيننا وبينك، فاعمل بما أنت عليه إنا عاملون بما نحن عليه، إنا لا نفقه عنك شيئا، فأنزل الله عليه فى ذلك من قولهم: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً إلى قوله: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الإسراء: 45، 46] . أى كيف فهموا توحيدك ربك، إن كنت جعلت على قلوبهم أكنة وفى آذانهم وقرا وبينك وبينهم حجابا بزعمهم؟ أى أنى لم أفعل. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الإسراء: 47] . أى ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثتك به إليهم. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء: 48] ، أى أخطأوا المثل الذى ضربوا لك، فلا يصيبون

_ (1) ذكره ابن كثير فى تفسيره (5/ 81) . (2) انظر: السيرة (1/ 261- 262) .

به هدى ولا يعتدل بهم فيه قول وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء: 49] أى قد جئت تخبرنا أنا سنبعث بعد موتنا إذا كنا عظاما ورفاتا وذلك ما لا يكون. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء: 50، 51] أى الذى خلقكم مما تعرفون، فليس خلقكم من تراب بأعز من ذلك عليه. وسئل ابن عباس عن قول الله عز وجل: أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ما الذى أراد الله به؟ فقال: الموت. قال ابن إسحاق «1» : ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم، منهم من يفتتن من شدة البلاء الذى يصيبه، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. فكان بلال بن رباح وهو ابن حمامة لبعض بنى جمح «2» مولدا من مولديهم، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول وهو فى ذلك البلاء: أحد أحد. وكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك، وهو يقول: أحد أحد، فيقول: أحد أحد والله يا بلال! «3» ثم يقبل على أمية ومن يصنع ذلك به من بنى جمح فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا. أى: لأتخذن قبره منسكا ومسترحما، والحنان: الرحمة. حتى مر به أبو بكر الصديق يوما وهم يصنعون ذلك به فقال لأمية: ألا تتقى الله فى هذا المسكين؟! حتى متى؟!

_ (1) انظر: السيرة (1/ 262) . (2) بنى جمح: ينتسبون إلى جمح بن عمرو، وهو بطن من العدنانية. انظر: معجم قبائل العرب (1/ 202، 203) . (3) قال ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 107) : قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفى بعد البعثة فى فترة الوحى، وإسلام من أسلم إنما كان بعد نزول: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فكيف يمر ورقة ببلال وهو يعذب؟ وفيه نظر.

قال: أنت الذى أفسدته فأنقذه. فقال أبو بكر: أفعل: عندى غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعطيكه به. قال: قد قبلت. قال: هو لك. فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك، وأخذ بلالا فأعتقه «1» . وأعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب، بلال سابعهم، عامر ابن فهيرة، وأم عبيس «2» ، وزنيرة «3» ، فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى. فقالت: كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان. فرد الله إليها بصرها «4» . وأعتق النهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بنى عبد الدار، فمر بهما أبو بكر وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهى تقول: والله لا أعتقكما أبدا. فقال أبو بكر: حلا يا أم فلان. فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما. قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال: قد أخذتهما، وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها. قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: أو ذلك إن شيئتما «5» . ومر بجارية بنى نوفل حى من بنى عدى، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك، فابتاعها أبو بكر فأعتقها. وقال له أبوه أبو قحافة: يا بنى، إنى أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر: يا أبت إنى إنما أريد ما أريد. فيتحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى إلى آخر السورة [الليل: 7] «6» .

_ (1) ذكره أبو نعيم فى حلية الأولياء (1/ 148) ، ابن سعد فى الطبقات (1/ 243) . (2) قال ابن عبد البر فى الاستيعاب (4/ 500) : أم عبيس، قال الزبير: كانت فتاة لبنى تيم بن مرة فأسلمت، وكانت ممن يعذب فى الله فاشتراها أبو بكر فأعتقها. (3) قال ابن عبد البر فى الاستيعاب (4/ 406) : زنيرة: مولاة أبى بكر الصديق، هى أحد السبعة الذين كانوا يعذبون فى الله، فاشتراهم أبو بكر وأعتقهم. انظر ترجمتها فى: أسد الغابة الترجمة رقم (6948) ، الإصابة الترجمة رقم (11222) . (4) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 107) . (5) ذكره ابن كثير فى البداية (3/ 107) . (6) ذكره الطبرى فى تفسيره (30/ 221) ، الحاكم فى المستدرك (2/ 525) ، وابن كثير فى تفسيره (8/ 444) .

ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة

وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول فيما بلغنى: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» «1» . فأما أمه فقتلوها وهى تأبى إلا الإسلام. وكان أبو جهل الفاسق الذى يغرى بهم، فى رجال من قريش، إذا سمع بالرجل له شرف ومنعة قد أسلم أنبه وأخزاه فقال: تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك ولنضعن شرفك. وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به. وقال سعيد بن جبير لعبد الله بن عباس «2» : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به فى ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوى جالسا من شدة الضر الذى به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. افتداء منهم مما يلغون من جهده «3» . ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة قال ابن إسحاق «4» : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد،

_ (1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 383) ، المطالب العالية لابن حجر (4034) ، كنز العمال للمتقى الهندى (37366، 37368) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (1/ 140) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 59) . (2) انظر: السيرة (1/ 265) . (3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 171) . وقال: وفى مثل هذا أنزل الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ الآية، فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته. (4) انظر: السيرة (1/ 266- 268) .

وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» «1» . فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم إلى الله. فكانت أول هجرة كانت فى الإسلام. وكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومى معه امرأته أم سلمة، وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب بن نفيل معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة، وسهل بن بيضاء من بنى الحارث بن فهر، وأبو سبرة بن أبى رهم، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو. ويقال: هو كان أول من قدمها. وكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين، ثم خرج جعفر بن أبى طالب وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة منهم من خرج بأهله ومنهم من خرج بنفسه. فكان جميع من لحق بأرض الحبشة من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشك فيه. وكان مما قيل من الشعر فى الحبشة أن عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدى بن سعيد بن سهم، حين أمنوا بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشى، وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحدا قال: يا راكبا بلغن عنى مغلغلة ... من كان يرجو بلاغ الله والدين «2» كل امرىء من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون أنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تنجى من الذى والمخزاة والهون فلا تقيموا على ذل الحياة وخز ... ى فى الممات وغيب غير مأمون إنا تبعنا رسول الله واطرحوا ... قول النبى وعالوا فى الموازين فاجعل عذابك بالقوم الذين بغوا ... وعائذا بك أن يعلوا فيطغونى وقال عبد الله بن الحارث أيضا، يذكر نفى قريش إياهم من بلادهم ويعاتب بعض

_ (1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 66) . (2) مغلغلة: بفتح العين هى الرسالة المحمولة من بلد إلى بلد.

قومه فى ذلك: أبت كبدى لا أكذبنك قتالهم ... على وتأباه على أناملى وكيف قتالى معشرا أدبوكم ... على الحق ألا تأشبوه بباطل نفتهم عباد الجن من حر أرضهم ... فأضحوا على أمر شديد البلابل «1» فإن تك كانت فى عدى أمانة ... عدى بن سعد عن تقى أو تواصل فقد كنت أرجو أن ذلك فيهم ... بحمد الذى لا يطبى بالجعائل وبدلت شبلا شبل كل ضعيفة ... بذى فجر مأوى الضعاف الأرامل «2» وقال عبد الله بن الحارث أيضا: وتلك قريش تجحد الله حقه ... كما جحدت عاد ومدين والحجر «3» فإن أنا لم أبرق فلا يسعنى ... من الأرض بر ذو فضاء ولا بحر بأرض بها عبد الإلة محمد ... أبين ما فى النفس إذ بلغ النفر فسمى عبد الله يرحمه الله، المبرق ببيته الذى قال. وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف وهو ابن عمه، وكان يؤذيه فى إسلامه، وكان أمية شريف قومه فى زمانه ذلك: أتيم بن عمرو للذى جاء بغضه ... ومن دونه الشرمان والبرك أكتع «4» أأخرجتنى من بطن مكة آمنا ... وأسكنتنى فى صرح بيضاء تقذع تريش نبالا لا يواتيك ريشها ... وتبرى نبالا ريشها لك أجمع وحاربت أقواما كراما أعزة ... وأهلكت أقواما بهم كنت تقرع ستعلم إن نابتك يوما ملمة ... وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع وتيم بن عمرو، الذى يدعو عثمان، هو جمح بن عمرو، كان اسمه تيما. قال ابن إسحاق «5» : فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا

_ (1) حر أرضهم: هى الأرض الكريمة. البلابل: شدة الهم والوساوس فى الصدور وحديث النفس. (2) لا يطبى: أى لا يستمال ولا يستدعى. الجعائل: جمع جعالة وهى الرشوة. (3) الحجر: هو اسم ديار ثمود بوادى القرى من المددينة والشام، وقيل: هو من وادى القرى على يوم بين جبال وبها قامت منازل ثمود. انظر: معجم البلدان (2/ 221) . (4) الشرم: لجة البحر، وقيل: موضع فيه: وقيل: هو أبعد قعره والشروم غمرات البحر واحدها شرم. انظر: اللسان (مادة شرم) . البرك: هو جماعة الإبل الباركة، وقيل: اسم موضع. (5) انظر: السيرة (1/ 275- 279) .

بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشى، فيردهم عليهم، ليفتنوهم فى دينهم، ويخرجوهم من دارهم، التى اطمأنوا بها وأمنوا فيها. فبعثوا عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص وجمعوا لهما هدايا للنجاشى ولبطارقته ثم بعثوهما. فقال أبو طالب، حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه، أبياتا يحض النجاشى على حسن جوارهم والدفع عنهم: ألا ليت شعرى كيف فى النأى جعفر ... وعمرو وأعداء العدو الأقارب وهل نالت أفعال النجاشى جعفرا ... وأصحابه أو عاق ذلك شاغب تعلم أبيت اللعن أنك ماجد ... كريم فلا يشقى لديك المجانب «1» تعلّم فإن الله زادك بسطة ... وأسباب خير كلها بك لازب وأنك فيض ذو سجال غزيرة ... ينال الأعادى نفعها والأقارب وذكر ابن إسحاق: من حديث «2» أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، تعنى مع زوجها الأول أبى سلمة، جاورنا بها خير جار النجاشى، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشى فينا رجلين منهم جليدين، وأن يهدوا للنجاشى هدايا مما يستظرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا لهم، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشى فيهم، ثم قدما إلى النجاشى هداياه، ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما إلى النجاشى، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلماه، وقالا لكل بطريق: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينكم، وجاؤا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم

_ (1) أبيت اللعن: هذه تحية العرب فى الجاهلية للملوك. المجانب: أراد به الداخل فى حماه. (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 202) ، مجمع الزوائد (6/ 24، 27) .

إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا «1» ، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قربا هداياهما إلى النجاشى فقبلها، ثم قالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينك، جاؤا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شىء أبغض إلى عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص من أن لا يسمع كلامهما النجاشى. فقالت بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. فغضب النجاشى، ثم قال: لاها الله، إذا لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاورونى ونزلوا بلادى، واختارونى على من سواى، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم، وأحسنت جوارهم ما جاورونى. ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا كائنا فى ذلك ما هو كائن. فلما جاؤا، وقد دعا النجاشى أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذى قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به فى دينى ولا فى دين أحد من هذه الملل؟. قالت: فكان الذى كلمه جعفر بن أبى طالب، قال: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد عليه أمور الإسلام.

_ (1) أعلى بهم عينا: أى أبصر بهم، وقيل: أى عينهم وأبصارهم فوق عين غيرهم.

وقعة أجنادين

فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك ورغبنا فى جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك، فقال له النجاشى: هل معك مما جاء به عن الله من شىء؟ فقال له جعفر: نعم. قال: فاقرأه علىّ. فقرأ عليه صدرا من: كهيعص، فبكى والله النجاشى حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما يتلى عليهم. ثم قال لهم النجاشى: إن هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة «1» واحدة، انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا ولا يكادون. فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينه عنهم غدا بما أستأصل به خضراءهم «2» . قالت: فقال له عبد الله بن أبى ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد. ثم غدا عليه، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون فى عيسى ابن مريم قولا عظيما، فسلهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه، ولم ينزل مثلها قط. فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون فى عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ فقالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا، كائنا فى ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون فى عيسى ابن مريم؟ قالت: فقال جعفر ابن أبى طالب: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا، نقول: عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشى بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، قالت: فتناخرت «3» بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضى أى آمنون، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، فما أحب أن لى دبرا من ذهب وأنى

_ (1) مشكاة: أى الثقب الذى يوضع فيه الفتيل والمصباح، وهى الكوة غير النافذ. (2) استأصل به خضراءهم: أى جماعتهم وقوتهم ومعظمهم، وقيل: شجرتهم التى تفرعوا منها. (3) تناخرت: أى تكلمت وكأنه كلام من غضب ونفور.

آذيت رجلا منكم. ويقال دبرا، وهو الجبل بلسان الحبشة فيما قال ابن هشام. ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فى فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاآ به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، قالت: فو الله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه فى ملكه فو الله ما علمتنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشى فيأتى رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشى يعرف منه. وسار إليه النجاشى وبينهما عرض النيل، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام: أنا قالوا: فأنت. وكان من أحدث القوم سنا، فنفخوا له قربة فجعلنها فى صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التى بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله للنجاشى بالظهور على عدوه والتمكين له فى بلاده. فو الله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير يسعى، فلمع بثوبه يقول: ألا أبشروا فقد ظهر النجاشى وأهلك الله عدوه فو الله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها. ورجع النجاشى، وقد أهلك الله عدوه ومكن له فى بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده فى خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزهرى «1» : فحدثت عروة بن الزبير هذا الحديث، فقال: هل تدرى ما قوله: «ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فى فأطيع الناس فيه» قلت: لا والله. قال: فإن عائشة أم المؤمنين حدثتنى أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشى، وكان للنجاشى عم له من صلبه إثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشى وملكنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه إثنى عشر رجلا فتوارثوا ملكهم من بعده بقيت الحبشة بعده دهرا. فعدوا على أبى النجاشى فقتلوه وملكوا أخاه، فمكثوا على ذلك حينا ونشأ

_ (1) انظر: السيرة (1/ 279- 281) .

النجاشى مع عمه، وكان لبيبا حازما من الرجال، فغلب على أمر عمه ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا، وإن ملكه علينا ليقتلننا أجمعين، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه. فمشوا إلى عمه، فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى أو لتخرجنه من بين أظهرنا، فإنا قد خفناه على أنفسنا. قال: ويلكم! قتلت أباه بالأمس وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم. فخرجوا به إلى السوق فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم، فقذفه فى سفينة فانطلق به حتى إذا كان العشى من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته. ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هو محمق ليس فى ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه قال بعضهم لبعض: تعلموا والله أن ملككم الذى لا يقيم أمركم غيره الذى بعتموه غدوة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه. قالت: فخرجوا فى طلبه وطلب الرجل الذى باعوه منه حتى أدركوه فأخذوه منه، ثم جاؤا به فعقدوا عليه التاج وأقعدوه على سرير الملك، فجاءهم التاجر الذى كانوا باعوه منه، فقال: إما أن تعطونى مالى وإما أن أكلمه فى ذلك. فقالوا: لا نعطيك شيئا. قال: إذا والله أكلمه. قالوا: فدونك. فجاءه فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاما من قوم بالسوق بستمائة درهم، فأسلموا إلى غلامى وأخذوا دراهمى، حيث إذا سرت أدركونى فأخذوا غلامى ومنعونى دراهمى. فقال لهم النجاشى: لتعطنه دراهمه أو ليضعن غلامه يده فى يده فليذهبن به حيث شاء! قالوا: بل نعطيه دراهمه «1» . وكان ذلك أول ما خبر من صلابته فى دينه وعدله فى حكمه رحمه الله تعالى، وعن عائشة قالت: لما مات النجاشى كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور. وذكر ابن إسحاق «2» أيضا، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن الحبشة اجتمعت، فقالوا للنجاشى، يعنى عندما وافق جعفر بن أبى طالب على قوله فى عيسى ابن مريم:

_ (1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 123- 124) . (2) انظر: السيرة (1/ 281) .

إنك فارقت ديننا. وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه وهيأ سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شيئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم. ثم جعله فى قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: فكيف رأيتم سيرتى فيكم؟ قالوا: خير سيرة. قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون أنتم فى عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله. قال النجاشى، ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئا. وإنما يعنى على ما كتب. فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشى صلى عليه واستغفر له «1» . قال ابن إسحاق «2» : ولما قدم عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبى ربيعة على قريش، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وردهما النجاشى بما يكرهون، وأسلم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره، امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازوا قريشا. فكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه «3» . وقال ابن مسعود فى رواية البكائى عن غير ابن إسحاق: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا وما نصلى عند الكعبة، حث أسلم عمر، وذكر مثل ما تقدم نصا إلى آخره.

_ (1) وردت من الأحاديث الكثير فى صلاة النبى صلى الله عليه وسلم على النجاشى، ومنها ما أخرجه الإمام أحمد فى المسند (4/ 360، 363) عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخاكم النجاشى قد مات فاستغفروا له» . (2) انظر: السيرة (1/ 281- 282) . (3) ذكره الهيثمى فى المجمع (9/ 62) ، ابن سعد فى الطبقات (1/ 270) . الحاكم فى المستدرك (3/ 83، 84) .

ذكر الحديث عن إسلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه

ذكر الحديث عن إسلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه حدث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه، أم عبد الله بنت أبى حثمة قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر فى بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف على، وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا، فقال: إنه للانطلاق يا أم عبد الله! فقلت: نعم، والله لنخرجن فى أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا مخرجا! فقال: صحبكم الله! ورأيت له رقة لم أكن أرها، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا. قالت: فجاء عامر بحاجته تلك، فقلت له: يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته علينا! قال: أطمعت فى إسلامه؟ قالت: نعم. قال: لا يسلم الذى رأيت حتى يسلم حمار الخطاب! قالت: يأسا منه لما كان يرى منه من غلظته وقسوته عن الإسلام «1» . قال ابن إسحاق «2» : وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة. قال: وكان إسلامه فيما بلغنى، أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت قد أسلمت، وأسلم زوجها سعيد بن زيد، وهم مستخفون بإسلامهم من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النحام من بنى عدى قد أسلم، وكان يستخفى بإسلامه فرقا من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن. فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه، قد ذكروا له أنهم اجتمعوا فى بيت عند الصفا، قريبا من أربعين بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة، وأبو بكر الصديق، وعلى بن أبى طالب، فى رجال من المسلمين. فلقيه نعيم فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدا هذا الصابىء الذى فرق أمر قريش وسفه أحلامها وأعاب دينها وسب آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض، وقد قتلت محمدا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 282) . (2) انظر: السيرة (1/ 282- 283) .

وقعة مرج الصفر

قال: أى أهل بيتى؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما. فرجع عمر عائدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب معه صحيفة فيها «طه» يقرؤهما إياها، فلما سمعوا حسّ عمر تغيب خباب فى مخدع لهم، أو فى بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر قراءة خباب، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التى سمعت؟ قالا: ما سمعت شيئا. قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه. وبطش بختنه سعيد، فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك!. ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم وارعوى، وقال لها: أعطينى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرأون آنفا أنظر ما هذا الذى جاء به محمد. وكان عمر كاتبا، فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها. قال: لا تخافى، وحلف لها بآلهته ليردنها إليها إذا قرأها. فلما قال ذلك طمعت فى إسلامه، فقالت له: يا أخى، إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر. فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها «طه» فقرأها، فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه. فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال: يا عمر، والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإنى سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبى الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك: فدلنى يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم. فقال له خباب: هو فى بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه. فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل منهم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف فرجع وهو فزع فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف. فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن له. فأذن له الرجل. ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه فى الحجرة فأخذ بحجرته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة. وقال: «ما جاء بك يا ابن الخطاب، فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة!» ، فقال عمر: يا رسول الله، جئت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عنده. قال: فكبر رسول

الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم. فتفرقوا من مكانهم وقد عزوا فى أنفسهم حين أسلم عمر، مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتصفون بهما من عدوهم «1» . فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر. وقد روى غيرهم إن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول: كنت للإسلام مباعدا وكنت صاحب خمر فى الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة «2» ، فخرجت ليلة أريد جلسائى أولئك فى مجلسهم ذلك فلم أجد فيه منهم أحدا، فقلت: لو أنى جئت فلانا الخمار لعلى أجد عنده خمرا فأشرب منها، فجئته فلم أجده، فقلت: فلو أنى جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين. فجئت أريد ذلك فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى، وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل بينه وبينها الكعبة، فكان مصلاه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليمانى، فقلت حين رأيته: والله لو أنى استمعت لمحمد الليلة حتى أستمع ما يقول. فقلت: لئن دنوت منه لأروعنه، فجئت من قبل الحجر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشى رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى يقرأ القرآن حتى قمت فى قبلته مستقبله ما بينى وبينه إلا ثياب الكعبة. فلما سمعت القرآن رق له قلبى! فبكيت ودخلنى الإسلام، فلم أزل قائما فى مكانى ذلك حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبى حسين، وكانت طريقه حتى يخرج المسعى ثم يسلك بين دار عباس بن عبد المطلب وبين دار ابن أزهر. فتبعته حتى إذا دخل بينهما أدركته، فلما سمع حسى عرفنى، فظن أنى إنما تبعته لأوذيه فنهمنى ثم قال: «ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟» قلت: جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «قد هداك الله يا عمر» ، ثم مسح صدرى ودعا لى بالثبات، ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته «3» .

_ (1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (3/ 91) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 219) . (2) الحزورة: هى الآن قطعة من المسجد فى مكة. (3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 129) .

ذكر الخبر عن وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وما كان من عهده إلى عمر بن الخطاب، جزاهما الله عن دينه الحق أفضل الجزاء

قال ابن إسحاق «1» : فالله أعلم أى ذلك كان. وذكر محمد بن عبد الله بن سنجر الحافظ فى إسلام عمر رضى الله عنه، زيادة لم يذكرها ابن إسحاق، فروى بإسناد له إلى شريح بن عبيد قال: قال عمر بن الخطاب: خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقنى إلى المسجد فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، فقرأ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ [الحاقة: 40، 41] ، قال: قلت: كاهن علم ما فى نفسى فقرأ: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [الحاقة: 42] إأى آخر السورة. قال: فوقع الإسلام فى قلبى كل موقع. قال ابن إسحاق «2» : وحدثنى نافع عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أى قريش أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحى. فغدا عليه وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أنى أسلمت ودخلت فى دين محمد؟! فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتبعه عمر، واتبعت أبى، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم فى أنديتهم حول الكعبة، ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، قال: يقول عمر من خلفه: كذب ولكنى أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤسهم. قال: وطلع فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا، فبيناهم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر. قال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بنى عدى بن كعب يسلمون لكم صاحبهم. هكذا عن الرجل. فو الله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه. فقلت لأبى بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت، من الرجل الذى زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهو يقاتلونك؟ جزاه الله خيرا. قال: أى بنى، ذلك العاص بن وائل السهمى، لا جزاه الله خيرا «3» .

_ (1) انظر: السيرة (1/ 286) . (2) انظر: السيرة (1/ 286) . (3) ذكره ابن كثر فى البداية والنهاية (3/ 129- 130) .

وهذا الدعاء عليه وله مما زاده ابن هشام عن غير ابن إسحاق. وعن بعض آل عمر قال عمر «1» : لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أى الناس أشد عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى آتيه فأخبره أنى قد أسلمت، قال: قلت: أبو جهل. وكان عمر ابنا لحنتمة بنت هشام بن المغيرة، فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلى فقال: مرحبا وأهلا يا ابن أختى، ما جاء بك؟ قلت: جئتك أخبرك أنى قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به، فضرب الباب فى وجهى وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به. وفيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن عمر رضى الله عنه، قال حين أسلم. الحمد لله ذى المن الذى وجبت ... له علينا أياد كلها عبر وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا ... صدق الحديث نبى عنده الخبر وقد ظلمت ابنة الخطاب ثم هدى ... ربى عشية قالوا قد صبا عمر لما دعت ربها ذا العرش جاهدة ... والدمع من عينها عجلان يبتدر أيقنت أن الذى تدعوه خالقها ... تكاد تسبقنى من عبرة درر فقلت أشهد أن الله خلقنا ... وأن أحمد فينا اليوم مشتهر نبى صدق أتى بالحق من ثقة ... وفى الأمانة ما فى عوده خور قال ابن إسحاق «2» : فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا، وأن النجاشى قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشوا فى القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على نبى هاشم وبنى المطلب، على أن لا يتكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوا فى صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة فى جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم. فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب فدخلوا معه فى شعبه واجتمعوا إليه وخرج من بنى هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم، ولقى هندا

_ (1) انظر: السيرة (1/ 287) . (2) انظر: السيرة (1/ 287- 288) .

بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليم قريشا، فقال لها: يا بنت عتبة، هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما؟ قالت: نعم، فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة. وقال أبو طالب فيما صنعت قريش من ذلك واجتمعوا عليه: ألا أبلغا عنى على ذات بيننا ... لؤيا وخصا من لؤى بنى كعب ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... نبيا كموسى خط فى أول الكتب وأن عليه فى العباد محبة ... ولا خير ممن خصه الله بالحب وأن الذى لصقتم من كتابكم ... لكم كائن نحسا كراغية السقب «1» أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى ... ويصبح من لم يجن ذنبا كذى الذنب ولا تبتغوا أمر الوشاة وتقطعوا ... أواصرنا بعد المودة والقرب وتستجلبوا حربا عوانا وربما ... أمر على من ضاقه حلب الحرب فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا ... لعزاء من عض الزمان ولا كرب ولما تبن منا ومنكم سوالف ... وأيد أترت بالقساسية الشهب «2» بمعترك ضنك ترى كسر القنا ... به والنسور الطخم يعكفن كالشرب كأن مجال الخيل فى حجراته ... ومعمعة الأبطال معركة الحرب «3» أليس أبونا هاشم شد أزره ... وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ... ولا نتشكى ما قد ينوب من النكب ولكننا أهل الحفائظ والنهى ... إذا طار أرواح الكماة من الرعب فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شىء إلا سرا، مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش. وقد كان أبو جهل فيما يذكرون، لقى حكيم بن حزام معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشعب فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بنى هاشم؟ فقال له أبو البخترى: طعام كان لعمته عنده، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خل سبيل الرجل.

_ (1) كراغية السقب: الراغية من الرغاء بضم أوله وهو أصوات الإبل. والسقب ولد الناقة. (2) تبن: تنفصل. السوالف: صفحات الأعناق. أثرت: يعنى قطعت. القساسية: سيوف تنسب إلى قساس وهو جعل لبنى أسد فيه معدن الحديد. (3) مجال الخيل: إيجالة الفرسان إياها. حجراته: أى النواحى. معمعة: الصوت.

فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البخترى لحى بعير فضربه، فشجه ووطئه وطأ شديدا، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهرا، مباديا لأمر الله لا يتقى فيه أحدا من الناس. فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بنى هاشم وبنى المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه وجعل القرآن ينزل فى قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته، منهم من سمى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن فى عامة من ذكر الله من الكفار. فكان من سمى لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية، حمالة الحطب، وإنما سماها الله عز وجل حمالة الحطب أنها كانت فيما بلغنى، تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر. وكان أبو لهب يقول فى بعض ما يقول: يعدنى محمد أشياء لا أراها، يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع فى يدى بعد ذلك! ثم ينفخ فى يديه ويقول: تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد! فأنزل الله عز وجل فيهما: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد: 1، 5] «1» . قال ابن إسحاق «2» : فذكر لى أن أم جميل حين سمعت ما نزل فيها وفى زوجها من

_ (1) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (5/ 745) . وروى البخارى فى سبب نزول هذا السورة عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش: فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدم مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقونى؟» قالوا: نعم، قال: «فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد» ، فقال أبو لهب ألهذا جمعتنا؟ تبا لك فأنزل الله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إلى آخرها. وفى رواية فقام ينفض يديه وهو يقول: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ. (2) انظر: السيرة (1/ 291- 292) .

استخلاف عمر بن الخطاب

القرآن، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فى المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفى يدها فهر «1» من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغنى أنه يهجونى، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إنى لشاعرة، ثم قالت: مذ مما عصينا ... وأمره أبينا وعن غير ابن إسحاق: ودينه قلينا، ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال: «ما أرتنى، لقد أخذ الله ببصرها عنى» «2» . وكانت قريش إنما تسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما ثم يسبونه، فكان عليه السلام، يقول: «ألا تعجبون لما صرف الله عنى من أذى قريش! يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد!» «3» . وأمية بن خلف الجمحى، كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه، فأنزل الله فيه: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] إلى آخر السورة «4» . والعاص بن وائل السهمى، كان خباب بن الأرت، قد باع منه سيوفا عملها له وكان قينا بمكة، فجاءه يتقاضاه، فقال له: يا خباب، أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذى أنت على دينه أن فى الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟! قال: بلى. قال: فأنظرنى إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك، فو الله لا تكون أنت وأصحابك يا خباب آثر عند الله منى ولا أعظم حظا فى ذلك!. فأنزل الله فى ذلك: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً [مريم: 77، 80] «5» .

_ (1) الفهر: حجر على مقدار ملء الكف. (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 195) ، تفسير ابن كثير (8 م 536، 357) ، مجمع الزوائد للهيثمى (7/ 144) ، المطالب العالية لابن حجر (3/ 399) . مستدرك الحاكم (2/ 361) . (3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب المناقب (3533) ، مسند الإمام أحمد (2/ 244، 369) . (4) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 135) . (5) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب البيوع (2091) ، صحيح مسلم كتاب صفات المنافقين (4/ 35) .

ولقى أبو جهل بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى، فقال له: والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذى بعثك، فأنزل الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108] ، فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله «1» . والنضر بن الحارث بن كلدة، من شياطين قريش ممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكر فيه بالله ودعا فيه إلى الله وحذر قومه ما أصاب الأمم الخالية من نقمة الله، خلفه فى مجلسه إذا قام ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلم فأنا أحدثكم أحسن من حديثه. ثم يحدثهم عن رستم الشيذ واسبنديار وملوك فارس، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا منى؟ والله ما محمد بأحسن حديثا منى، وما أحاديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله عز وجل فيه: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان: 5، 6] وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن، وأنزل أيضا فيه: يْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الجاثية: 7، 8] «2» . وهو القائل: سأنزل مثل ما أنزل الله! فيما ذكر ابن هشام. قال ابن إسحاق «3» : وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى، يوما مع الوليد بن المغيرة فى المسجد، فجاء النضر بن الحارث فجلس معهم فى المجلس، وفيه غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء: 98، 100] «4» . ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمى حتى جلس، فقال له الوليد: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنا

_ (1) ذكره الطبرى فى تفسيره (7/ 207) . (2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 136) . (3) انظر: السيرة (1/ 294- 295) . (4) ذكره ابن كثير فى تفسيره (5/ 375) .

وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال ابن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكل ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى ابن مريم. فعجب الوليد ومن كان معه من قول ابن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته» . فأنزل الله عليه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ [الأنبياء: 101] ، أى عيسى وعزيرا ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله «1» . ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إلى قوله: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 26، 29] «2» . وأنزل فيما ذكر من أمر عيسى أنه يعبد من دون الله وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ثم قال: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: 57، 61] ، أى ما وضعت على يديه من إحياء الموتى وإبراء الأسقام فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. والأخنس بن شريق الثقفى حليف بنى زهرة، وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه، فكان يصيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرد عليه، فأنزل الله فيه: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [ن: 10، 13] ، إلى قوله: زَنِيمٍ. ولم يقل: «زنيم» لعيب فى نسبه، إن الله لا يعب أحدا بنسبه ولكنه حقق بذلك نعته

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (7/ 104) ، مسند الإمام أحمد (1/ 317) ، مستدرك الحاكم (3/ 284، 285) . (2) انظر: السيرة (1/ 296) .

ليعرف، والزنيم العديد للقوم «1» . قال الخطيم التميمى، فى الجاهلية: زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد فى عرض الأديم الأكارع «2» والوليد بن المغيرة، قال: أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفى سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين! فأنزل الله فيه، فيما بلغنى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا إلى قوله: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 20، 22] . وأبى بن خلف الجمحى وعقبة بن أبى معيط، وكانا متصافيين حسنا ما بينهما، فكان عقبة بن أبى معيط قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فبلغ ذلك أبيا فأتى عقبة فقال: ألم يبلغنى أنك جالست محمدا وسمعت منه؟! ثم قال: وجهى من وجهك حرام أن أكلمك، واستغلظ من اليمين، إن أنت جلست إليه أو سمعت منه، أو لم تأته فتتفل فى وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة، فأنزل الله فيه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا [الفرقان: 27، 29] . ومشى أبى بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم بال قد ارفتّ فقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما [أرمّ] «3» ؟! ثم فته بيده ثم نفخه فى الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك النار» «4» ، فأنزل الله فيه: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس: 78، 80] . واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم [وهو يطوف بالكعبة] «5» ، فيما بلغنى، الأسود بن المطلب

_ (1) العديد للقوم: الذى يعد فى الناس وليس منهم. (2) الأكارع: جمع كراع بضم الكاف بمعنى الأطراف. (3) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «أرى» ، وما أوردناه من السيرة. وأرم: أى بليت. (4) ذكره ابن الجوزى فى زاد المسير (6/ 283) ، الطبرى فى تفسيره (23/ 21) ، الحاكم فى المستدرك (2/ 429) ، الواحدى فى أسباب النزول (308) . (5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وما أوردناه من السيرة، والمصنف ينقل منها.

والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وكانوا ذوى أسنان فى قومهم، فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت فى الأمر، فإن كان الذى تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه!. فأنزل الله فيهم: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، السورة كلها، أى إن كنتم لا تعبدون الله إلا أن أعبد ما تعبدون فلا حاجة لى بذلك منكم، لكم دينكم ولى دين. وأبو جهل بن هشام، لما ذكر الله شجرة الزقوم تخويفا بها لهم، قال يا معشر قريش: هل تدرون ما شجرة الزقوم التى يخوفكم بها محمد؟ قالوا: لا. قال: عجوة يثرب بالزبد! والله لئن استمكنا منها لتنزقمنها تزقما «1» !. فأنزل الله فيه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43] ، ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يكلمه وقد طمع فى إسلامه، فبينا هو فى ذلك مر به ابن أم مكتوم الأعمى، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يستقرئه القرآن، فشق ذلك منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضجره، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا، وتركه، فأنزل الله فيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى إلى قوله: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ [عبس: 1، 14] «2» . أى: إنما بعثتك بشيرا ونذيرا لم أخص بك أحدا دون أحد، فلا تمنعه ممن ابتغاه ولا تتصد به لمن لا يريده. قال ابن إسحاق «3» : ولما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم ذلك، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ذلك كان باطلا، فلم يدخل أحد منهم، إلا بجوار أو مستخفيا. وذكر موسى بن عقبة أن رجوع هؤلاء الذين رجعوا كان قبل خروج جعفر وأصحابه إلى أرض الحبشة، وأنهم الذين خرجوا أولا قبله ثم رجعوا حين أنزل الله سورة النجم.

_ (1) لتزقمنها تزقما: أى تبتلعها ابتلاعا. (2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (5/ 331) ، تفسير الطبرى (30/ 33) ، فتح القدير للشوكانى (5/ 544) ، المستدرك للحاكم (2/ 514) . (3) انظر: السيرة (1/ 300- 302) .

قال: وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارة بمثل الذى يذكر به آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالتهم وكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة «النجم» قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19، 20] ، ألقى الشيطان عندها على لسانه كلمات حين ذكر الطواغيت فقال: وإنهم لمن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهى التى ترتجى «1» . كان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان فى قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين أبائه. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر «والنجم» سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا، فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه. فعجب الفريقان كلاهما من اجتماعهم فى السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذى ألقى الشيطان على ألسنة المشركين. وأما المشركون فاطمأنت نفوسهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما ألقى الشيطان فى أمنية النبى صلى الله عليه وسلم فسجدوا لتعظيم آلهتهم. وفشت تلك الكلمة فى الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين، عثمان بن مظعون وأصحابه، وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفيه، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة. فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته، وقال عز من قائل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ

_ (1) ذكره البيهقى فى دلائل النبوة (2/ 66) ، وأشار إلى أن هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، وقد جرح رواتها. وذكره القاضى عياض فى الشفاء (2/ 116- 123) وقال: يكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، مع ضعف نقلته، واضطراب روايته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلمته.

ذكر الخبر عما صار إليه أمر دمشق من الفتح والصلح بعد طول الحصار فى خلافة عمر بن الخطاب، على نحو ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام

وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج: 52، 54] . فلما بين الله قضاءه فبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم للمسلمين فاشتدوا عليهم. فلهذا الذى ذكره ابن عقبة لم يستطع أحد ممن رجع من أرض الحبشة أن يدخل مكة إلا بجوار أو مستخفيا، كما ذكر ابن إسحاق. قال: فكان جميع من قدم مكة منهم ثلاثة وثلاثين رجلا، دخل منهم بجوار، فيمن سمى لنا: عثمان بن مظعون الجمحى، دخل بجوار من الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد بجوار خاله أبى طالب. فأما عثمان «1» فإنه لما رأى ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء، وهو يغدو ويروح فى أمان الوليد، قال: والله إن غدوى ورواحى آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابى وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى فى الله ما لا يصيا بنى لنقص كبير فى نفسى. فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك، قال: لم يا ابن أخى؟ لعله آذاك أحد من قومى؟ قال: لا ولكنى أرضى بجوار الله ولا أريد أن أستجير بغيره. قال: فانطلق إلى المسجد فرد على جوارى علانية كما أجرتك علانية. فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان جاء يرد على جوارى. قال: صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكنى أحببت أن لا أستجير بغير الله. ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة فى مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد «2» :

_ (1) هو: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص القرشى الجمحى، يكنى أبا السائب، وأمه سخيلة بنت العنبس بن أهبان بن حذافة بن جمح، وهى أم السائب وعبد الله. انظر ترجمته فى: الاستيعاب (3/ 165) الترجمة رقم (1798) . (2) هو: لبيد أبى ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العامرى، ويكنى لبيد بن عقيل وكان من شعراء الجاهلية وأدرك لبيد الإسلام وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وفد بنى كلاب فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم. انظر ترجمته فى: الشعر والشعراء (ص 69) .

ألا كل شىء ما خلا الله باطل قال عثمان: صدقت. قال: وكل نعيم لا محالة زائل قال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول. قال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم! فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه فى سفهاء معه فارقوا ديننا فلا تجدن فى نفسك منه. فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فحضرها والوليد ابن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخى إن كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت فى ذمة منيعة، قال: بل والله إن عينى الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها فى الله: وإنى لفى جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس. فقال له الوليد: هلم يا ابن أخى إن شئت إلى جوارك. فقال: لا «1» . وأما أبو سلمة بن عبد الأسد، فإنه لما استجار بأبى طالب مشى إليه رجال بنى مخزوم فقالوا: يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ فقال: إنه استجار بى وهو ابن أختى، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى. فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون توثبون عليه فى جواره من بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فى كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد. فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة، وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقوا على ذلك. فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما قال، ورجا أن يقوم معه فى شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يحرضه على ذلك: وإن امرآ أبو عتيبة عمه ... لفى روضة ما إن يسام المظالما أقول له وأين منه نصيحتى ... أبا معتب ثبت سوادك قائما «2» ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة ... تسب بها إما هبطت المواسما وول سبيل العجز غيرك منهم ... فإنك لم تخلق على العجز لازما

_ (1) ذكره أبو نعيم فى حلية الأولياء (1/ 103، 104) ، ابن الأثير فى أسد الغابة (3/ 598، 599) . (2) ثبت سوادك: يريد كثر قومك ولا تقللهم بفراقك والسواد الشخص.

وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى ... أخا الحرب يعصى الخسف حتى يسالما وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة ... ولم يخذلوك غانما أو مغارما جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما بتفريقهم من بعد ود وألفة ... جماعتنا كيما ينالوا المحارما كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما تروا يوما لدى الشعب قائما وكان أبو بكر رضى الله عنه، كما حدثت عائشة رضى الله عنها، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى، قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة فأذن له، فخرج مهاجرا حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة، أخو بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد الأحابيش فقال: أين يا أبا بكر؟. قال: أخرجنى قومى وآذونى وضيقوا على. قال: لم؟ فو الله إنك لتزين العشيرة وتعين على النوائب وتفعل المعروف وتكسب المعدوم، فارجع فأنت فى جوارى. فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إنى قد أجرت ابن أبى قحافة فلا يعرضن له أحد إلا بخير، قالت: فكفوا عنه. وكان لأبى بكر مسجد عند باب داره فى بنى جمح فكان يصلى فيه، وكان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى، فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا له: إنك لم تجر هذا ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة ونحو، فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم، فائته فأمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء، فمشى ابن الدغنة فقال: يا أبا بكر، إنى لم أجرك لتؤذى قومك، إنهم قد كرهوا مكانك الذى أنت به وتأذوا بذلك منك فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت، قال: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ قال: فاردد على جوارى. قال: قد رددته عليك. فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبى قحافة قد رد على جوارى فشأنكم بصاحبكم «1» . وعن القاسم بن محمد أن أبا بكر لقيه سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه التراب، فمر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال أبو بكر: ألا ترى

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب الكفالة (2297) ، مسند الإمام أحمد (6/ 198) .

ما يصنع هذا السفيه؟ قال: أنت فعلت هذا بنفسك، وهو يقول: أى رب ما أحلمك أى رب ما أحلمك! «1» . قال ابن إسحاق «2» : ثم إنه قام فى نقض الصحيفة التى تكاتبت فيها قريش على بنى هاشم وبنى المطلب نفر من قريش، ولم يبل أحد فيها أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل، وذلك أنه كان ابن أخى نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، فكان هشام لبنى هشام واصلا، وكان ذا شرف فى قومه، فكان فيما بلغنى ليلا بالبعير قد أوقره طعاما، حتى إذا أقبله فى فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه ليدخل الشعب عليهم، ويأتى به قد أوقره [برّا] «3» فيفعل به مثل ذلك. ثم إنه مشى إلى زهير بن أمية بن المغيرة، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إنى أحلف بالله، أن لو كانوا أخوال أبى الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا. فقال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع؟ أنما أنا رجل واحد. والله لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها حتى أنقضها. قال: قد وجدت رجلا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال له زهير: ابغنا ثالثا. فذهب إلى المطعم بن عدى فقال له: يا مطعم، أرضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانيا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال: أبغنا ثالثا. قال: قد فعلت. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبى أمية. قال: ابغنا رابعا.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 306) . (2) انظر: السيرة (1/ 306- 308) . (3) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل، وفى السيرة: بزا. وقال السهيلى فى الروض الأنف: بزا بالزى المعجمة وفى غير نسخة الشيخ أبى بحر: برا، وفى رواية يونس: بزا أو برا، على الشك من الراوى.

فذهب إلى أبى البخترى بن هشام، فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدى. فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبى أمية والمطعم ابن عدى وأنا معك. قال: ابغنا خامسا. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم ومكانهم. فقال: وهل على هذا الأمر الذى تدعونى إليه من أحد؟ قال: نعم. ثم سمى له القوم. فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك فأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام فى الصحيفة حتى ينقضوها. وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل، وكان فى ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت. قال أبو البخترى: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدى: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قضى بليل تشوور فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس فى ناحية المسجد، وقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم. وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فشلت يده فيما يزعمون. وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى طالب: «يا عم، إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته ونفت منها القطيعة والظلم والبهتان» . قال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: «نعم» . قال: فو الله ما يدخل عليك أحد. ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخى أخبرنى بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا، وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخى. قال القوم: رضينا. فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فزادهم ذلك شرا، فعند ذلك صنع الرهط من قريش فى نقض الصحيفة ما صنعوا «1» .

_ (1) ذكره السيوطى فى الخصائص الكبرى (1/ 250، 251) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 97) .

ذكر بيسان

قال ابن إسحاق «1» : فلما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك الذين قاموا فى نقضها يمدحهم: ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا ... على نأيهم والله بالناس أرود «2» فنخبرهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد تراوحها إفك وسحر مجمع ... ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد «3» جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا ... على ملأ يهدى لحزم ويرشد قعودا لدى خطم الحجون كأنهم ... مقاولة بل هم أعز وأمجد أعان عليها كل صقر كأنه ... إذا ما مشى فى رفرف الدرع أحرد جرى على جل الخطوب كأنه ... شهاب بكفى قابس يتوقد من الأكرمين من لؤى بن غالب ... إذا سيم خسفا وجهه يتربد طويل النجاد خارج نصف ساقه ... على وجهه نسقى الغمام ونسعد عظيم الرماد سيد وابن سيد ... يحض على مقرى الضيوف ويحشد ويا بنى لأفياء العشيرة صالحا ... إذا نحن طفنا فى البلاد ويمهد ألظ بهذا الصلح كل مبرأ ... عظيم اللواء أمره ثم يحمد قضوا ما قضوا فى ليلهم ثم أصبحوا ... على مهل وسائر الناس رقد هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا ... وسر أبو بكر بها ومحمد متى شرك الأقوام فى جل أمرنا ... وكنا قديما قبلها نتودد

_ (1) انظر: السيرة (1/ 309) . (2) بحرينا: يقصد به من هاجر من المسلمين فى البحر. (3) ذكر بعد هذا البيت، أبيات آخره لم يذكرها هنا وهى: تداعى لها من ليس فيها بقرقر ... فطائرها فى رأسها يتردد وكانت كفاء رقعة بأثيمة ... ليقطع منها ساعد ومقلد ويظعن أهل المكتين فيهربوا ... فرائصهم من خشية الشر ترعد ويترك حراث يقلب أمره ... أيتهم فيهم عند ذاك وينجد وتصعد بين الأخشبين كتيبة ... لها حدج سهم وقوس ومرهد فمن ينش من حضار مكة عزه ... فعزتنا فى بطن مكة أتلد نشأنا بها والناس فيها قلائل ... فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد ونطعم حتى يترك الناس فضلهم ... إذا جعلت أيدى المفيضين ترعد انظر: السيرة (1/ 309- 310) .

حديث مرج الروم من رواية سيف أيضا

وكنا قديما لا نقر ظلامة ... وندرك ما شئنا ولا نتشدد فيا لقصى هل لكم فى نفوسكم ... وهل لكم فيما يجىء به غد فإنى وإياكم كما قال قائل ... لديك البيان لو تكلمت أسود أسود هنا اسم جبل كان قتل فيه قتيل لم يعرف قاتله، فقال أولياء المقتول هذه المقالة، يعنون بها أن هذا الجبل لو تكلم لأبان عن القائل ولعرف بالجانى، ولكنه لا يتكلم، فذهبت مقالتهم تلك مثلا. قال ابن إسحاق «1» : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه، وجعلت قريش حين منعه الله منهم يحذرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب. فكان طفيل بن عمرو الدوسى «2» وكان رجلا شريفا شاعرا لبيبا يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش فقالوا له: يا طفيل إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذى بين أظهرنا قد أعضل بنا «3» ، فرق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق به بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه. قال: فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا «4» فرقا من أن يبلغنى شىء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه، قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبى الله إلا أن يسمعنى بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت فى نفسى: واثكل أمى! والله إنى لرجل لبيب شاعر وما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل، فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.

_ (1) انظر: السيرة (1/ 312- 313) . (2) هو: الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس الدوسى من دوس. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1283) ، طبقات ابن سعد (4/ 1/ 175) ، طبقات خليفة (13/ 114) ، تاريخ خليفة (111) الجرح والتعديل (4/ 489) ، العبر (1/ 14) ، تاريخ ابن عساكر (7/ 62) . (3) أعضل بنا: أى أشد أمره ولم يوجد له وجه. (4) كرسفا: الكرسف يعنى القطن.

فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لى كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخوفوننى امرك حتى سددت أذنى بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنى فسمعت قولا حسنا، فاعرض على أمرك، فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا على القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبى الله، إنى امرؤ مطاع فى قومى وإنى راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لى آية تكون لى عونا عليهم فيما أدعوهم إليه. فقال: اللهم اجعل له آية. فخرجت إلى قومى حتى إذا كنت على ثنية تطلعنى على الحاضر وقع نور بين عينى مثل المصباح. قلت: اللهم فى غير وجهى، إنى أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت فى وجهى لفراقى دينهم. قال: فتحول فوقع فى رأس سوطى، فجعل أهل الحاضر يتراؤن ذلك النور فى سوطى كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم، فلما نزلت أتانى أبى وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عنى يا أبا فلست منك ولست منى. قال: لم يا بنى؟ قلت: أسلمت وتابعت دين محمد. قال: أى بنى فدينى دينك. فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت. فذهب فاغتسل وطهر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتنى صاحبتى فقلت لها: إليك عنى فلست منك ولست منى. قالت: لم بأبى أنت وأمى؟! قلت: فرق بينى وبينك الإسلام وتابعت دين محمد. قالت: فدينى دينك. قلت: فاذهبى إلى حنا ذى الشرى. قال ابن هشام «1» : ويقال: حمى ذى الشرى، فتطهرى منه، وكان ذو الشرى صنما لدوس والحنا حمى حموه له، به وشل من ماء يهبط من جبل. فقالت: بأبى أنت وأمى، أتخشى على الصبية من ذى الشرى شيئا؟ قلت: لا أنا ضامن لذلك. فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا على، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقلت يا نبى الله، إنه غلبنى على دوس الزنا فادع الله عليهم. فقال: اللهم اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم. فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معى من قومى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا

_ (1) انظر: السيرة (1/ 314) .

وقعة فحل حسبما فى كتب فتوح الشام

برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين، ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى فتح الله عليه مكة قلت: يا رسول الله، ابعثنى إلى ذى الكفين، صنم عمرو بن حممة، حتى أحرقه. قال ابن إسحاق «1» : فخرج إليه فجعل وهو يوقد عليه النار يقول: يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا إنى حشوت النار فى فؤادكا «2» ثم رجع، فكان بالمدينة حتى قبض الله رسوله، فلما ارتدت العرب خرج مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال لأصحابه: إنى قد رأيت رؤيا فاعبروها لى. رأيت أن رأسى حلق، وأنه خرج من فمى طائر، وأنه لقيتنى امرأة فأدخلتنى فى فرجها وأرى ابنى يطلبنى طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عنى. قالوا: خيرا؛ قال: أما أنا والله فقد أولتها. قالوا: ماذا؟ قال: أما حلق رأسى فوضعه، وأما الطائر الذى خرج من فمى فروحى، وأما المرأة التى أدخلتنى فى فرجها فالأرض تحفر لى وأغيب فيها، وأما طلب ابنى إياى ثم حبسه عنى فإنى أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابنى، فقتل رحمه الله شهيدا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة ثم [استبلّ] «3» منها ثم قتل عام اليرموك فى زمان عمر شهيدا «4» . وذكر ابن هشام «5» أن أعشى بنى قيس بن ثعلبة «6» خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد

_ (1) انظر: السيرة (1/ 314) . (2) انظر: الأبيات فى الاستيعاب الترجمة رقم (1283) ، الإصابة الترجمة رقم (4273) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2613) . (3) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «استقل» ، وما أوردناه من السيرة. واستبل منها: يقال بل وأبل واستبل المريض من مرضه إذا أفاق وبرىء. (4) ذكره بنحوه ابن عبد البر فى الاستيعاب الترجمة رقم (1283) ، ابن حجر فى الإصابة (3/ 287) بنحوه مختصرا، ابن لأثير فى أسد الغابة (3/ 78) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 99) . (5) انظر: السيرة (1/ 317- 319) . (6) قال فى كتاب الشعر والشعراء (154) : هو من سعد بن ضبيعة بن قيس، وكان أعمى، ويكنى أبا بصير، وكان أبوه قيس يدعى قتيل الجوع.

الإسلام، وقال قصيدة يمدحه فيها، نذكرها بعد. فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضاه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم. فقال له: يا أبا بصير، إنه يحرم الزنا. فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لى فيه من أرب. فقال: يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر «1» . فقال: أما هذه فو الله إن فى النفس منها لعلالات، ولكنى منصرف فأتروى منها عامى هذا ثم آتيه فأسلم. فانصرف فمات فى عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا ما ذكر ابن هشام فى قصة الأعشى، وظاهره يقتضى أن قصده كان إلى مكة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها حينئذ لم يهاجر بعد. ويعارض هذا الظاهر ما ذكر من تحريم الخمر، فإن أهل النقل مجمعون على أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد أن مضى بدر وأحد ونزل تحريمها فى سورة المائدة وهى من آخر ما نزل من القرآن فإن صح أن خروج الأعشى كان قبل الهجرة كما فى ظاهر الخبر فلعل المشرك الذى لقيه وأخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر، أراد بهذا القول تنفيره عن الإسلام وإبعاده عنه، مع ما كان من كراهية رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا للخمر وتنزيه الله إياه عنها. ألا تراه ليلة الإسراء لما عرضت عليه آنية الخمر واللبن اختار اللبن فقيل له: هديت للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك. والإسراء إنما كان بمكة فى صدر الإسلام. وقد يمكن أن يكون قصد الأعشى إلى المدينة بعد الهجرة وبعد تحريم الخمر فتلقاه بعض المشركين من قريش ممن لم يكن أسلم بعد. ولعل هذا هو الأولى بدليل قوله فى قصيدته الآتية بعد: ألا أيهذا السائلى أين يممت ... فإن لها فى أهل يثرب موعدا والله أعلم بالحقيقة فى ذلك كله، والقصيدة التى مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هى قوله:

_ (1) قال السهيلى فى الروض الأنف (2/ 136) : هذه غفلة من ابن هشام، ومن قال بقوله: فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا بالمدينة بعد أن مضيت بدر وأحد، وحرمت فى سورة المائدة وهى من أخر ما نزل، وفى الصحيحين من ذلك قصة حمزة حين شربها، وغتنه القينتان: ألا يا حمز للشرف النواء، فبقر خواصر الشارفين، واجتنب أسمنتها، وقوله للنبى صلى الله عليه وسلم: هل أنتم إلا عبيد لآبائى، وهو ثمل، ... الحديث، فإن صح خبر الأعشى وما ذكر له فى الخمر، فلم يكن هذا بمكة، وإنما كان بالمدينة، ويكون القائل له: أما علمت أنه يحرم الخمر من المنافقين أو من اليهود، فالله أعلم.

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا «1» وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم خلة مهددا ولكن أرى الدهر الذى هو خائن ... إذا أصلحت كفاى عاد فأفسدا كهولا وشبابا فقدت وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا وما زلت أبغى المال مذ أنا يافع ... وليدا وكهلا حين شبت وأمردا وأبتذل العيس المراقيل تعتلى ... مسافة ما بين النجير فصرخدا «2» ألا أيهذا السائلى أين يممت ... فإن لها فى أهل يثرب موعدا فإن تسألى عنى فيا رب سائل ... حفى عن الأعشى به حيث [أصهدا] «3» أجدت برجليها النجاء وراجعت ... يداها خنفاا لينا غير أحردا وفيها إذا ما هجرت عجرفية ... إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا «4» وآليت لا آوى لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تلاقى محمدا متى ما تناخى عند باب ابن هشام ... تراحى وتلقى من فواضله ندا نبيا يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمرى فى البلاد وأنجدا «5» له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبى الإله حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولا قيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله ... فترصد للموت الذى كان أرصدا فإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا وذا النصب المنصوب لا تنسكنّه ... ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا «6» ولا تقربن حرة كان سرها ... عليك حراما فانكحن أو تأبدا

_ (1) الأرمد: الذى يشتكى عينيه من الرمد. المسهد: الذى منع النوم. (2) العيس: الإبل البيض يخالطها حمرة. المراقيل: مأخوذ من الإرقال وهو السرعة فى السير. النجير: موضع فى حضرموت فى اليمن. صرخد: موضع بالجزيرة. (3) ما بين المعقفوتين ورد فى الأصل: «أصعدا» ، وما أوردناه من السيرة. وأصهدا: أى ذهب. (4) العجرفية: أى تخليط من غير استقامة. الحرباء: بكسر فسكون دويبة تكون فى أعلى الشجرة. (5) أغار لعمرى: معناه بلغ الغور وهو منخفض من الأرض. أنجد: بلغ النجد وهو ما ارتفع من الأرض. (6) النصب: حجارة كان يذبحون لها. النسك: الدم كانوا يعترون عند أصناهم ثم يطلون رؤس الأصنام بدماء العتائر.

وذا الرحم القربى فلا تقطعنه ... لعاقبة ولا الأسير المقيدا وسبح على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا ولا تسخرن من بائس ذى ضرارة ... ولا تحسبن المال للمرء مخلدا قال ابن إسحاق «1» : وقد كان عدو الله أبو جهل مع عداوته رسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضه إياه، يذله الله إذا رآه. حدثنى «2» عبد الملك بن عبد الله بن أبى سفيان الثقفى، وكان واعية، قال: قدم رجل من إراش «3» بإبل له مكة، فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها، فأقبل الإراشى حتى وقف على ناد من قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش، من رجل يؤدينى على أبى الحكم بن هشام، فإنى غريب ابن سبيل وقد غلبنى على حقى. فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل؟ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يهزأون به لما يعلمون بينه وبين أبى جهل من العداوة، اذهب إليه فهو يؤديك عليه. فأقبل الإراشى حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبد الله، إن أبا الحكم بن هشام غلبنى على حق لى قبله وأنا غريب ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤدينى عليه، يأخذ لى حقى منه، فأشاروا لى إليك فخذ لى حقى منه يرحمك الله. قال: انطلق إليه. وقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع. قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ فقال: محمد. فاخرج إلى. فخرج إليه وما فى وجهه من رائحة، لقد انتقع لونه، فقال: أعط هذا حقه. قال نعم، لا يبرح حتى أعطيه الذى له. فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، فأقبل الإراشى حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا، فقد والله أخذ لى حقى. وجاء الرجل الذى بعثوا معه فقالوا ويحك، ماذا رأيت؟ قال: عجبا من العجب! والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج

_ (1) انظر: السيرة (1/ 318) . (2) انظر: السيرة (1/ 318- 319) . (3) إراش: هو ابن الغوث أو ابن عمرو بن الغوث ابن بنت مالك وهو والد أنمار الذى ولد بجيله وخثعم.

إليه وما معه روحه، فقال: أعط هذا الرجل حقه. قال: نعم، لا يبرح حتى أخرج إليه حقه. فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه، ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا: ويلك! ما لك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط، قال: ويحكم! والله ما هو إلا أن ضرب على بابى وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلنى «1» . وذكر الواقدى عن يزيد بن رومان قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فى المسجد معه رجال من أصحابه أقبل رجل من بنى زبيد يقول: يا معشر قريش، كيف تدخل عليكم المادة أو يجلب إليكم جلب أو يحل تاجر بساحتكم وأنتم تظلمون من دخل عليكم فى حرمكم. يقف على الحلق حلقة حلقة. حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أصحابه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن ظلمك؟ فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال كانت خيرة إبله، فسامه أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم، قال: فأكسد على سلعتى وظلمنى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأين أجمالك؟» قال: هى هذه بالحزورة. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم معه وقام أصحابه، فنظر إلى الجمال فرأى جمالا فرها. فساوم الزبيدى حتى ألحقه برضاه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع جملين منها بالثمن، وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بنى عبد المطلب ثمنه، وأبو جهل جالس فى ناحية من السوق لا يتكلم. ثم أقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عمرو، إياك أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الأعرابى فترى منى ما تكره» . فجعل يقول: لا أعود يا محمد، لا أعود يا محمد، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عليه أمية بن خلف ومن حضر من القوم، فقالوا: ذللت فى يدى محمد، فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه. قال: لا أتبعه أبدا، إن الذى رأيتم منى لما رأيت معه، لقد رأيت رجالا عن يمينه وشماله معهم رماح يشرعونها إلى، لو خالفته لكانت إياها. أى لأتوا على نفسى. وذكر محمد بن إسحاق «2» عن أبيه قال: كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب أشد قريش، فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض شعاب مكة، فقال له: يا ركانة، ألا تتقى الله وتقبل ما أدعوك إليه؟! قال: لو أعلم أن الذى تقول حق لا تبعتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق؟ قال: نعم. قال: فقم

_ (1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 94- 95) . (2) انظر: السيرة (1/ 319- 320) .

حتى أصارعك. فقام إليه ركانة فصارعه، فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه لا يملك من نفسه شيئا، ثم قال: عد يا محمد. فعاد فصرعه. فقال: يا محمد، إن ذا للعجب أتصرعنى!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمرى» ، قال: ما هو؟ قال: «أدعو لك هذه الشجرة التى ترى فتأتينى» . قال: ادعها. فدعا بها، فأقبلت حتى وقفت بين يدى رسول صلى الله عليه وسلم فقال لها: «ارجعى إلى مكانك، فرجعت إلى مكانها» ، فذهب ركانة إلى قومه فقال: يا بنى عبد مناف، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، فو الله ما رأيت أسحر منه قط. ثم أخبرهم بالذى رأى وصنع «1» . قال ابن إسحاق «2» : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك، من النصارى، يقال: إنهم من أهل نجران، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه فى المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش فى أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم فى كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه! ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قالوا. فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا. فيقال والله أعلم: فيهم نزلت هؤلاء الآيات: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ إلى قوله: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: 52، 55] . فقال «3» : وقد سألت الزهرى فقال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلت فى النجاشى وأصحابه. والآيات من المائدة قول الله عز وجل: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً

_ (1) انظر الحديث فى: البدآية والنهاية لابن كثير (3/ 103) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 250) ، أبى داود فى المراسيل (308) ، البيهقى فى السنن الكبرى (10/ 18) . (2) انظر: السيرة (1/ 320- 321) . (3) انظر: السيرة (1/ 321) .

لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 82، 83] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس فى المسجد فجلس إليه المستضعفون من أصحابه، خباب وعمار وأبو فكيهة يسار وصهيب وأشباههم هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى والحق! لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصهم الله به دوننا. فأنزل الله عليهم: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 52، 54] «1» . وهؤلاء أيضا، ومن قال بقولهم هم الذين عنى الله سبحانه بقوله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف: 11] . قال ابن إسحاق «2» : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصرانى يقال له: جبر، عبد لبنى الحضرمى، وكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتى به إلا جبر النصرانى، فأنزل الله فى ذلك من قولهم: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] «3» . وكان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوه، فإنما هو رجل أبتر، لو قد مات لقد انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله عز وجل، فى ذلك من قوله: إِنَّا

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الفضائل (4/ 46) ، سنن ابن ماجه (4127) ، تفسير الطبرى (7/ 127) . (2) انظر: السيرة (1/ 322) . (3) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (2/ 357) ، الواحدى فى أسباب النزول (ص 235) ، تفسير الطبرى (14/ 119، 120) .

ذكر الحديث عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم

أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 1، 4] «1» ، أى أعطيناك ما هو خير من الدنيا وما فيها. والكوثر العظيم. وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر الذى أعطاك الله؟ قال: «نهر كما بين صنعاء إلى أيلة آنيته كعدد نجوم السماء ترده طير لها أعناق كأعناق الإبل» . قال عمر بن الخطاب: إنها يا رسول الله لناعمة. قال: «آكلها أنعم منها» «2» . ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما إلى الإسلام، فقال له زمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد يغوث وأبى بن خلف والعاص بن وائل: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك؟ فأنزل الله فى ذلك: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام: 8، 9] «3» . ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبى جهل، فهمزوه واستهزأوا به، فغاظه ذلك، فأنزل الله عليه: لا وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام: 10] «4» . ذكر الحديث عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق «5» : ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (7/ 143) ، أسباب النزول للواحدى (ص 404) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 220، 221، 236) ، مجمع الزوائد للهيثمى (10/ 360، 361) . (3) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (2/ 147) . (4) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (2/ 148) . (5) انظر: السيرة (2/ 5- 7) . قلت: ولم يذكر ابن إسحاق تحديد السنة التى وقع فيها الإسراء، وقد تعرض ابن كثير فى البداية والنهاية لذلك، فقال: ذكر ابن عساكر أحاديث الإسراء فى أوائل البعثة، وأما ابن إسحاق فذكرها فى هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين، وروى البيهقى من طريق موسى بن عقبة، عن الزهرى أنه قال: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة ... ثم روى عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدى أنه قال: فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ببيت المقدس ليلة أسرى به-

وهو بيت المقدس من إيلياء، وقد فشا الإسلام مكة فى قريش وفى القبائل كلها. فكان من الحديث فيما بلغنى، عن مسراه صلوات الله عليه وسلامه، عن عبد الله بن مسعود، وأبى سعيد الخدرى، وعائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم، ومعاوية بن أبى سفيان، وأم هانىء بنت أبى طالب، والحسن بن أبى الحسن، وابن شهاب الزهرى، وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع فى هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسرى به. وكان فى مسراه وما ذكر منه بلاء وتمحيص وأمر من الله فى قدرته وسلطانه، فيه عبرة لأولى الألباب وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق. وكان من أمر الله على يقين، فأسرى به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التى يصنع بها ما يريد. فكان عبد الله بن مسعود، فيما بلغنى عنه، يقول أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق، وهى الدابة التى كانت تحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها فى منتهى طرفها، فحمل عليه، ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السموات والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى فى نفر من الأنبياء عليهم السلام قد جمعوا له، فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء، قال: فسمعت قائلا يقول: إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هدى وهديت أمته. قال: «فأخذت إناء اللبن فشربت، فقال له جبريل: هديت وهديت أمتك يا محمد» «1» . قال «2» : وحدثت عن الحسن أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم فى الحجر

_ - قبل مهاجره بستة عشر شهرا. فعلى قول السدى يكون الإسراء فى شهر ذى القعدة، وعلى قول الزهرى وعروة يكون فى ربيع الأول. ثم ذكر عن جابر، وابن عباس قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول، وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء وفيه هاجر ومات. وفيه انقطاع، ثم ذكر أن المقدسى أورد حديثا لا يصح سند: أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم. انظر: المنتظم لابن الجوزى (حاشية 3/ 26) تحقيقنا. (1) ذكره ابن كثير فى تفسيره (5/ 28) ، ابن حجر فى فتح البارى (7/ 256) ، الهيثمى فى المجمع (1/ 78) ، السيوطى فى الخصائص الكبرى (1/ 268، 269) . (2) انظر: السيرة (2/ 7) .

جاءنى جبريل فهمزنى بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت لمضجعى، فجاءنى الثانية فهمزنى بقدمه فجلست فلم أر شيئا، فعدت لمضجعى فجاءنى الثالثة فهمزنى بقدمه فجلست فأخذ بعضدى، فقمت معه فخرج بى إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، بين البغل والحمار، فى فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه. يضع يديه فى منتهى طرفه، فحملنى عليه ثم خرج معى لا يفوتنى ولا أفوته» «1» . وفى حديث قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما دنوت منه لأركبه شمش فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال: ألا تستحى يا براق مما تصنع! فو الله ما ركبك عبد الله قبل محمد أكرم عليه منه. فاستحيا حتى ارفض عرقا ثم قر حتى ركبته» «2» . وفى حديث الحسن من انتهاء جبريل بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وإمامته فيه بمن وجد عنده من الأنبياء، على جميعهم السلام، نحو ما تقدم من ذلك فى حديث ابن مسعود. قال: ثم أتى بإناءين فى أحدهما خمر وفى الآخر لبن، فأخذ إناء اللبن وترك إناء الخمر، فقال له جبريل: هديت للفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر. وذكر تحريم الخمر هنا غريب جدا، والذى عليه العلماء أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد سنين من الهجرة. قال الحسن: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر. فقال أكثر الناس: هذا والله الإمر البين «3» ، والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد فى ليلة واحدة ويرجع إلى مكة!. قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبى بكر، فقالوا: هل لك يا أبا بكر فى صاحبك! يزعم أنه جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى ها هو ذاك فى المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟! فو الله إنه

_ (1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (15/ 3، 4) . (2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3331) ، تفسير الطبرى (15/ 12، 13) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 247) ، مسند الإمام أحمد (3/ 164) . (3) الإمر البين: هو الأمر العظيم أو الشنيع، وقيل: هو العجب.

ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد ما تعجبون منه، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبى الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: «نعم» . قال: يا نبى الله، فصفه لى فإنى قد جئته. قال الحسن: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فرفع لى حتى نظرت إليه» ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبى بكر، ويقول أبو بكر: صدقت أشهد أنك رسول الله. كلما وصف له منه شيئا قال: صدقت أشهد رسول الله. حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: وأنت يا أبا بكر الصديق أشهد أنك. فيومئذ سماه الصديق. قال الحسن: وأنزل الله فيمن ارتد عن إسلامه لذلك: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً [الإسراء: 60] ، فهذا حديث عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دخل فيه من حديث قتادة «1» . قال ابن إسحاق «2» : وحدثنى بعض آل أبى بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أسرى بروحه «3» . وكان معاوية بن أبى سفيان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة «4» . فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت فى ذلك، قول الله: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ولقوله تعالى فى الخبر عن إبراهيم إذ قال لابنه: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: 102] ثم مضى على ذلك، فعرفت أن الوحى من الله يأتى الأنبياء أيقاظا ونياما.

_ (1) ذكر البخارى فى صحيحه (4716) كتاب التفسير باب وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، من حديث ابن عباس، قال: هى رؤيا عين رأيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به والشجرة الملعونة هى شجرة الزقوم. وأخرجه أحمد فى مسنده (1/ 221، 370) ، الترمذى فى كتاب التفسير (3134) ، الحاكم فى المستدرك (2/ 362) . (2) انظر: السيرة (2/ 9) . (3) ذكره الطبرى فى تفسيره (15/ 13) . (4) ذكره الطبرى فى تفسيره (15/ 13) .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تنام عينى وقلبى يقظان» «1» . فالله أعلم أى ذلك كان قد جاءه وعاين ما عاين من أمر الله، على أى حاليه كان نائما أو يقظان، كل ذلك حق وصدق. وزعم الزهرى عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لأصحابه إبراهيم وموسى وعيسى حين رآهم فى تلك الليلة صلوات الله على جميعهم، فقال: «أما إبراهيم فلم أر رجلا أشبه بصاحبكم، ولا صاحبكم أشبه به منه، وأما موسى فرجل آدم طويل ضرب جعد أقنى كأنه من رجال شنوءة، وأما عيسى ابن مريم فرجل أحمر بين القصير والطويل، سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس تخال رأسه يقطر ماء وليس فيه ماء، أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفى» «2» . قال ابن هشام «3» : وكانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر عمر مولى غفرة، عن إبراهيم بن محمد بن على بن أبى طالب، قال: كان علىّ إذا نعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: لم يكن بالطويل الممغط ولا القصير المتردد، كان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط كان جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، وكان أبيض مشربا أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاش والكند دقيق المسربة أجرد شئن الكفين والقدمين، إذا تمشى تقلع كأنما يمشى فى صبب، وإذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين أجود الناس كفا وأجرأ الناس صدرا وأصدق الناس لهجة وأوفى الناس بذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وسلم «4» .

_ (1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (15/ 13) . (2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (15/ 12) . (3) انظر: السيرة (2/ 11) . (4) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3638) ، وقال: حديث حسن غريب ليس إسناده بمتصل. وقال أبو عيسى: سمعت أبا جعفر محمد بن الحسين، يقول: سمعت الأصمعى يقول فى تفسير صفة النبى صلى الله عليه وسلم: الممغط: الذاهب طولا، وقال: سمعت أعرابيا يقول فى كلامه تمغط فى نشابته، أى مدها مدا شديدا. والمتردد: الداخل بعضه فى بعض قصرا. وأما القطط: فالشديد الجعودة. والرجل: الذى فى شعره حجونة، أى تثن قليل. وأما المطهم: فالبادن الكثير اللحم. والمكلثم: المدور الوجه. والمشرب: الذى فى بياضه حمرة. والأدعج: الشديد سواد العين. والأهدب: الطويل الأشفار. والكتد: مجتمع الكتفين وهو الكامل. والمسربة: هو الشعر الدقيق الذى كأنه قضيب من الصدر إلى السربة. والشثن: الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين. والتقلع: أن-

قال ابن إسحاق «1» : وكان فيما بلغنى عن أم هانىء بنت أبى طالب أنها كانت تقول: ما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو فى بيتى، نام عندى تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانىء، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادى، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت معكم صلاة الغداة الآن كما ترين، ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه، فتكشف عن بطنه وكأنه قبطية مطوية، فقلت: يا نبى الله، لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك، قال: والله لأحدثنهموه. فقلت لجارية لى حبشية: ويحك، اتبعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسمعى ما يقول للناس وما يقولون له، فلما خرج إلى الناس أخبرهم فعجبوا وقالوا: ما آية ذلك يا محمد، فإنا لم نسمع بمثل هذا قط؟ قال: آية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادى كذا، فأنفرهم حسن الدابة، فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا موجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كانت بضجنان مررت بعير بنى فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشىء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب من البيضاء، ثنية التنعيم، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء، فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل، كما وصف لهم، وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوء ماء ثم غطوه، وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوا ولم يجدوا فيه ماء، وسألوا الآخرين وهم بمكة فقالوا: صدق والله، لقد أنفرنا فى الوادى الذى ذكر وندّ لنا بعير، فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه «2» . قال ابن إسحاق «3» : وحدثنى من لا أتهم، عن أبى سعيد الخدرى أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما فرغت مما كان فى بيت المقدس أتى بالمعراج، ولم أر شيئا قط أحسن منه، وهو الذى يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدنى صاحبى فيه حتى انتهى بى إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحفظة، عليه ملك من الملائكة يقال له:

_ - يمشى بقوة. والصبب: الحدور، يقال: إنحدرنا فى صبوب وصبب. وقوله: جليل المشاش: يريد رؤس المناكب. العشرة: الصحبة. والعشير: الصاحب. والبديهة: المفاجأة، يقال: بدهته بأمر أى فجأته. (1) انظر: السيرة (2/ 12- 13) . (2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (15/ 2) ، تفسير ابن كثير (5/ 39) ، مجمع الزوائد للهيثمى (1/ 76، 9/ 42) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 174) . (3) انظر: السيرة (2/ 13) .

إسماعيل تحت يديه اثنا عشر ألف ملك تحت يدى كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدث بهذا الحديث: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] ، فلما دخل بى قال: «من هذا يا جبريل؟ قال: محمد. قال: أو قد بعث؟ قال: نعم، فدعا لى بخير» . وقاله «1» . قال «2» : وحدثنى بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثم تلقتنى الملائكة حين دخلت السماء الدنيا، فلم يلقنى ملك إلا ضاحكا مستبشرا، يقول خيرا ويدعو به، حتى لقينى ملك من الملائكة فقال مثل ما قالوا ودعا بمثل ما دعوا به، إلا أنه لم يضحك، ولم أر منه من البشر مثل ما رأيت من غيره، فقلت لجبريل: من هذا الملك الذى قال لى مثل ما قالت الملائكة ولم يضحك ولم أر منه من البشر مثل الذى رأيت منهم. فقال جبريل: أما إنه لو كان ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك، ولكنه لا يضحك، هذا مالك صاحب النار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت لجبريل، وهو من الله بالمكان الذى وصف لكم مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 21] ألا تأمره أن يرينى النار؟ فقال: بلى، يا مالك أر محمدا النار، فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذن ما أرى. فقلت لجبريل: مره فليردها إلى مكانها. فأمره، فقال لها: اخبى فرجعت إلى مكانها الذى خرجت منه، فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل، حتى إذا دخلت من حيث خرجت رد عليها غطاءها «3» . قال أبو سعيد الخدرى فى حديثه «4» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لما دخلت السماء الدنيا رأيت بها رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بنى آدم، فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيرا ويسر به، ويقول: روح طيبة خرجت من جسد طيب، ويقول لبعضها إذا عرضت عليه أف، ويعبس بوجهه، روح خبيثة خرجت من جسد خبيث. قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم تعرض عليه أرواح ذريته، فإذا

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 390) ، تفسير ابن كثير (5/ 20، 22) ، البداية والنهاية (3/ 110، 111) ، الكامل فى الضعفاء لابن عدى (5/ 79) . (2) انظر: السيرة (2/ 14) . (3) لم أقف على تخريجه، بهذا اللفظ فيما بين يديه من مصادر. (4) تقدم تخريجه.

مرت به روح المؤمن منهم سر بها وإذا مرت به روح الكافر منهم أنف منها وكرهها. قال: ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر «1» الإبل، فى أيديهم قطع من نار كالأفهار «2» يقذفونها فى أفواههم فتخرج من أدبارهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما. ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط، بسبيل آل فرعون، يمرون عليهم كالإبل المهيومة «3» حتى يعرضوا على النار، يطأونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا. ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن. ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتى أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم. قال: ثم صعد بى إلى السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا. قال: ثم أصعد بى إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر، قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك يوسف بن يعقوب، ثم أصعد بى إلى السماء الرابعة، فإذا فيها رجل، فسألته من هو؟ فقال: هذا إدريس. قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] . قال: ثم أصعد بى إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية عظيم العثنون لم أر كهلا أجمل منه. قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا المحبب فى قومه: هارون بن عمران. قال: ثم أصعد بى إلى السماء السادسة فإذا فيها رجل آدم طويل أقنى كأنه من رجال شنوءة فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران.

_ (1) مشافر: جمع شفر، وهو للبعير كالشفة للإنسان والجعفلة للفرس. انظر: اللسان (مادة شفر) . (2) الأفهار: جمع فهر بكسر فسكون وهو الحجر قدر ما يدق به الجوز ونحوه وتصغيرها فهير. انظر: اللسان (مادة فهر) . (3) المهيومة: العطشى، وقيل: هو من الداء، وقيل: الهيم الإبل التى يصيبها داء فلا تروى من الماء.

ثم أصعد بى إلى السماء السابعة فإذا كهل جالس على كرسى إلى باب البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة، لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه. قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم. ثم دخل بى الجنة فرأيت فيها جارية لعساء فسألتها لمن أنت؟ وقد أعجبتنى فقالت: لزيد بن حارثة. فبشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا. ومن حديث عبد الله بن مسعود «1» أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين يستأذن فى دخولها: من هذا يا جبريل؟ فيقول: محمد. فيقولون: أو قد بعث؟ فيقول: نعم. فيقولون حياه الله من أخ وصاحب. حتى انتهى به إلى السماء السابعة، ثم انتهى به إلى ربه، ففرض عليه خمسين صلاة كل يوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأقبلت راجعا فلما مررت بموسى بن عمران، ونعم الصاحب كان لكم، سألنى: كم فرض عليك من الصلاة؟ فقلت: خمسين صلاة فى كل يوم. قال: إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة، فارجع إلى ربك فسله أن يخفف عنك وعن أمتك. فرجعت فسألت ربى فوضع عنى عشرا، ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لى مثل ذلك، فرجعت فسألت ربى فوضع عنى عشرا ثم لم يزل يقول لى مثل ذلك كلما رجعت إليه، فأرجع فأسأل حتى انتهيت إلى أن وضع عنى ذلك إلا خمس صلوات فى كل يوم وليلة. ثم رجعت على موسى فقال لى مثل ذلك، فقلت: قد راجعت ربى وسألته حتى استحييت منه، فلما أنا بفاعل. فمن أداهن منكم إيمانا واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة «2» . قال ابن إسحاق «3» : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله صابرا محتسبا مؤديا إلى قومه النصيحة، على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى والاستهزاء، وكان عظماء المستهزئين خمسة نفر من قومه، وكانوا ذوى أسنان وشرف فى قومهم: الأسود بن المطلب الأسدى، أبو زمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه

_ (1) انظر: السيرة (2/ 17) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 259) . (3) انظر: السيرة (2/ 19) .

واستهزائه به فقال: «اللهم أعم بصره وأثكله ولده» «1» . والأسود بن عبد يغوث الزهرى، والوليد بن المغيرة المخزومى، والعاص بن وائل السهى، والحارث بن الطلاطله الخزاعى. فلما تمادوا فى الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 94، 96] . فأتى جبريل عليه السلام، رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الأسود بن المطلب فرمى فى وجهه بورقة خضراء فعمى، وسيأتى بعد أنه أصيب له يوم بدر ثلاثة من ولده، ابناه زمعة وعقيل وابن ابنه الحارث بن زمعة، فاستوفى الله سبحانه بذلك فيه لرسوله صلى الله عليه وسلم إجابة دعوته عليه بالعمى والثكل. ثم مر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حبنا، وعن غير ابن إسحاق أنه لما نزل: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] نزل جبريل عليه السلام، فحنا ظهر الأسود بن عبد يغوث الزهرى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خالى خالى فقال له جبريل: خله عنك، ثم حناه حتى قتله. قال ابن إسحاق: ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله أصابه قبل ذلك بسنين وهو يجر سبله، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله، فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت فى أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا فقتله «2» . قال «3» : وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيته أبو لهب، والحكم بن أبى العاص بن أمية، وعقبة بن أبى معيط، وعدى ابن حمراء الثقفى، وابن الأصداء الهذلى، وكانوا جيرانه لم يسلم أحد منهم إلا الحكم. فكان أحدهم فيما ذكر لى، يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها فى برمته إذا نصبت له حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا يستتر به منهم إذا

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 105) ، تفسير الطبرى (14/ 48) ، تفسير ابن كثير (4/ 470) . (2) انظر الحديث فى: تفسير ابن كثير (4/ 470) ، تفسير الطبرى (14/ 48) . (3) انظر: السيرة (2/ 26) .

فتح حمص فيما حكاه أصحاب فتوح الشام

صلى. فكان صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود فيقف به على بابه ثم يقول: يا بنى عبد مناف أى جوار هذا؟! ثم يلقيه فى الطريق «1» . قال ابن إسحاق «2» : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا فى عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الإسلام، يسكن إليها، وبمهلك أبى طالب عمه، وكان له عضدا وحرزا فى أمره ومنعة وناصرا على قومه، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به فى حياة أبى طالب، حتى اعترضاه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهى تبكى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: «لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع أباك. ويقول بين ذلك: ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» «3» . قال: ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله قال بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد فى قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه ولنعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا «4» أمرنا. فمشوا إلى إبى طالب فكلموه، وهم أشراف قومه، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل ابن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب فى رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك، فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب فجاء فقال: يا ابن أخى، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم. فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات، قال: تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه.

_ (1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 201) ، تاريخ الطبرى (1/ 553) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 134، 135) . (2) انظر: السيرة (1/ 27) . (3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (1/ 553) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 122) . (4) يبتزونا: البز هو السلب ومعناه يسلبوننا إياه ويغلوبننا عليه.

قال: فصفقوا بأيديهم ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟! إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض: والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرقوا «1» . فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله يا ابن أخى ما رأيتك سألتهم شططا. فلما قالها طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول له: أى عم، فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة. فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخى والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بنى أبيك من بعدى، وأن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك به. فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنيه، فقال: يا ابن أخى، والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته أن يقولها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أسمع» «2» . وخرج مسلم بن الحجاج فى صحيحه من حديث المسيب بن حزن قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» «3» . فأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة: 113] . وأنزل فى أبى طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56] . وفى الصحيح أيضا أن العباس قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك

_ (1) انظر الحديث فى: المستدرك للحاكم (2/ 432) ، تفسير الطبرى (23/ 79) ، البيهقى فى السنن الكبرى (9/ 188) ، أسباب النزول للواحدى (ص 309) . (2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 234) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 123) . (3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (2/ 119) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (39) ، طبقات ابن سعد (1/ 1/ 77) ، تفسير ابن كثير (6/ 256) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 134) ، تفسير القرطبى (8/ 272) ، تفسير الطبرى (11/ 30) .

وينصرك ويغضب لك، فهل ينفعه ذلك؟ قال: «نعم، وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح» «1» . وفيه أيضا من حديث أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: «لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه» «2» . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلى منهما دماغه» «3» . ويروى أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب، فيكم السيد المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيبا إلا احتزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، وإنى أوصيكم بتعظيم هذه البنية فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثباتا للوطأة، صلوا أرحاكم ولا تقطعوها فإن فى صلة الرحم منسأة فى الأجل وزيادة فى العدد، واتركوا البغى والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم، أجيبوا الداعى وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات، عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فإن فيها محبة فى الخاص ومكرمة فى العام، وإنى أوصيتم بمحمد خيرا فإنه الأمين فى قريش والصديق فى العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن، وأيم الله لكأنى أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر فى الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (195) ، مسند الحميدى (460) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 66، 8/ 144) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (10/ 513) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 347) ، كنز العمال للمتقى الهندى (34092) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 125) ، تفسير القرطبى (8/ 163) ، فتح البارى لابن حجر (11/ 417) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (1/ 54) . (3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الإيمان (362) ، مسند الإمام أحمد (1/ 290) ، مستدرك الحاكم (4/ 581) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5668) ، مسند أبو عوانة (1/ 98) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 348) ، كنز العمال للمتقى الهندى (91512) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 125) .

ذكر خروج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بعد مهلك عمه أبى طالب

فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أخطأهم عنده، قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم، كونوا له ولاة ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد منهم سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسى مدة ولأجلى تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدافعت عنه الدواهى. ذكر خروج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بعد مهلك عمه أبى طالب قال ابن إسحاق «1» : ولما هلك أبو طالب ونالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنال منه فى حياته، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وحده يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله. فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ، سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة، عبد ياليل ومسعود وخبيب، بنو عمرو بن عمير بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بنى جمح، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك؛ وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا! لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم فيما ذكر لى: إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا على. وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيذئرهم ذلك عليه. فلم يفعلوا، أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس. قال موسى بن عقبة: وقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، حتى أدموا رجليه. وزاد سليمان التيمى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون!.

_ (1) انظر: السيرة (2/ 29) .

قال ابن عقبة: فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من حوائطهم فاستظل فى ظل حبلة منه وهو مكروب موجع، وإذا فى الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله. وذكر ابن إسحاق «1» : أن الحائط كان لهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اطمأن، يعنى فى ظل الحبلة، قال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى أم إلى عدو ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى ولكن عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بى غضبك أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» «2» . قال: فلما رآه ابنا ربيعة وما لقى، تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له: عداس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب، فضعه فى هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه. ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: له: كل. فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده قال: بسم الله ثم أكل، فنظر عداس فى وجهه ثم قال له: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أى البلاد أنت يا عداس وما دينك؟ قال: نصرانى وأنا من أهل نينوى «3» . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن قرية الرجل الصالح يونس ابن متى؟ قال له عداس: وما يدريك ما يونس ابن متى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخى كان نبيا وأنا نبى. فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه. فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدى ما فى الأرض شىء خير من هذا، لقد أعلمنى بأمر لا يعلمه إلا نبى. قالا: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه «4» .

_ (1) انظر: السيرة (2/ 30) . (2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (1/ 80، 81) ، وضعفه الألبانى فى ضعيف الجامع (1/ 358) . (3) نينوى: هى قرية يونس بن متى عليه السلام بالموصل وبسواد الكوفية، ناحية يقال لها نينوى منها كربلاء. (4) انظر تخريج الحديث السابق.

حديث حمص آخر

وقد خرج البخارى ومسلم من حديث عائشة رضى الله عنها، أنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت على وجهى وأنا مهموم، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فنادانى وقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم» . فنادانى ملك الجبال فسلم على فقال: يا محمد ذلك لك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا» «1» . وذكر ابن هشام «2» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته، سار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بنى عامر لا تجير على بنى كعب. فبعث إلى المطعم بن عدى فأجابه إلى ذلك، ثم تسلح المطعم وأهل بيته، وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله. ولأجل هذه السابقة التى سبقت للمطعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أسارى بدر: لو كان المطعم بن عدى حيّا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى، لتركتهم له. وفى انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف مر به النفر من الجن الذين ذكر الله تعالى، فى كتابه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة «3» قد قام من جوف الليل يصلى، فمر به أولئك النفر من الجن فيما ذكر ابن إسحاق قال: وهم فيما ذكر لى سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 139) ، صحيح مسلم كتاب الجهاد (112) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (9/ 88) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5848) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 166) ، كنز العمال للمتقى الهندى (31982) ، تفسير ابن كثير (3/ 259) . (2) انظر: السيرة (2/ 31) . (3) نخلة: موضع على ليلة من مكة، وكان بها لقريش وبنى كنانة بعض الطواغيت التى كانت تعظمها مع الكعبة لأنهم قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً فكانت لهم بيوت تعظمها وتطوف بها كطوافها بالكعبة. انظر الروض المعطار (ص 576) .

ذكر عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب

قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم «1» ، قال عز من قائل: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 29، 31] . ذكر عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب قال ابن إسحاق «2» : ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه فى المواسم إذا كانت على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبى مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به «3» . قال ربيعة بن عباد الدؤلى: إنى لغلام شاب مع أبى بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: يا بنى فلان إنى رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بى وتصدقونى وتمنعونى حتى أبين عن الله ما بعثنى به، وخلفه رجل أحول وضىء له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بنى فلان إن هذا يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بنى مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه. قال ربيعة: فقلت لأبى: من هذا الرجل الذى يتبعه يرد عليه ما قال؟ قال: هذا عمه

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 240) ، سنن الترمذى (3379) . (2) انظر: السيرة (2/ 33) . (3) انظر الحديث فى: الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 93) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (2/ 257) .

فتح قنسرين

عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب «1» . وعن غير ربيعة «2» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كندة فى منازلهم، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه «3» . وأتى كلبا فى منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول لهم: «يا بنى عبد الله: إن الله قد أحسن اسم أبيكم» . فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم «4» . وعرض نفسه على بنى حنيفة فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم «5» . ذكر الواقدى بإسناد له عن عامر بن سلمة الحنفى، وكان قد أسلم فى آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: نسأل الله عز وجل، أن لا يحرمنا الجنة، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ وبمجنة وبذى المجاز يدعونا إلى الله عز وجل، وأن نمنع له ظهره حتى يبلغ رسالات ربه، ويشرط لنا الجنة، فما استجبنا له ولا رددنا جميلا، لقد أفحشنا عليه وحلم عنا. قال عامر: فرجعت إلى حجر فى أول عام فقال لى هوذة بن على: هل كان فى موسمكم هذا خبر؟ فقلت: رجل من قريش يطوف على القبائل، يدعوهم إلى الله وحده، وإلى أن يمنعوا ظهره حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة. فقال هوذة: من أى قريش؟ قلت: هو من أوسطهم نسبا من بنى عبد المطلب. قال هوذة: أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قلت: هو هو. قال: أما إن أمره سيظهر على ما ها هنا، فقلت: ها هنا قط من بين البلدان؟ قال: وغير ما ها هنا. ثم وافيت السنة الثانية فقدمت حجرا، فقال: ما فعل الرجل؟ فقلت: رأيته على حاله فى العام الماضى. قال: ثم وافيت فى السنة الثالثة وهى آخر ما رأيته، وإذا بأمره قد أمر،

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 492، 493) ، مستدرك الحاكم (1/ 15) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 35) ، تاريخ الطبرى (1/ 556) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 138) . (2) ذكر فى السيرة (2/ 34) هذا الحديث عن ابن شهاب الزهرى. (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 139) ، تاريخ الطبرى (1/ 556) . (4) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 418) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 139) ، تاريخ الطبرى (1/ 556) . (5) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 139) ، تاريخ الطبرى (1/ 556) .

جمع الروم للمسلمين

وإذا ذكره كثير فى الناس، وأسمع أن الخزرج تبعته، فقدمت حجرا، فقال لى هوذة: ما فعل الرجل؟ فقلت: رأيت أمره قد أمر ورأيت قومه عليه أشداء. فقال هوذة: هو الذى قلت لك، ولو أنا تبعناه كان خيرا لنا، ولكنا نضن بملكنا. وكان قومه قد توجوه وملكوه. قال عامر: فمر بى سليط بن عمرو العامرى، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة، فضيفته وأكرمته وأخبرنى من خبر هوذة، أنه لم يسلم، وقد رد ردا دون رد. قال: فأخبرت سليطا خبرى لهوذة، فأخبره سليط رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم عامر بن سلمة، ومات هوذة بن على سنة ثمان من الهجرة كافرا على نصرانيته. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى عبس إلى الإسلام فلم يقبلوا. قال أبو وابصة العبسى فيما ذكر الواقدى: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منزلنا بمنى، فدعانا إلى الله، فو الله ما استجبنا له، وما خير لنا، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسى فقال لنا: أحلف بالله لو صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط رحالنا لكان الرأى. فقال له القوم: من بين العرب نفعل هذا؟ قال: نعم من بين العرب، فأحلف بالله ليظهرن أمره، حتى يبلغ كل مبلغ. فقال له القوم: دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به. وطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ميسرة، فكلمه، فقال ميسرة: ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومى يخالفوننى، وإنما الرجل بقومه. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج القوم صادرين إلى أهليهم، فقال لهم ميسرة: ميلوا بنا إلى فدك فإن بها يهود، نسألهم عن هذا الرجل. فمالوا إلى يهود، فأخرجوا سفرا لهم فوضعوه، ثم درسوا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم، الأمى العربى يركب الحمار ويجتزىء بالكسرة، وليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالجعد ولا بالبسط، فى عينيه حمرة مشرب اللون. قالوا: فإن كان هذا الذى دعاكم فأجيبوه، وادخلوا فى دينه، فإنا نحسده ولا نتبعه ولنا منه فى مواطن بلاء عظيم، ولا يبقى فى العرب أحد إلا تبعه أو قتله، فكونوا ممن يتبعه. قال ميسرة: يا قوم والله ما بقى شىء، إن هذا لأمر بين. قال القوم: نرجع إلى الموسم ونلقاه، ورجع القوم إلى بلادهم، فأبى ذلك عليهم رجالهم، فلم يتبعه أحد منهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقيه ميسرة، فعرفه فقال: يا رسول الله، والله مازلت حريصا على اتباعك منذ يوم رأيتك أنخت بنا حتى

كان ما كان، وأبى الله عز وجل، إلا ما ترى من تأخر إسلامى، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معى، فأين مدخلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات على غير الإسلام فهو فى النار» . فقال ميسرة: الحمد لله الذى تنقدنى. فأسلم، فحسن إسلامه، وكان له عند أبى بكر الصديق رضى الله عنه، مكان. وعن ابن إسحاق «1» : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بنى عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» . قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك «2» . فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافى معهم موسمهم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون فى ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان فى موسمهم، فقالوا جاءنا فتى من قريش ثم أحد بنى عبد المطلب يزعم أنه بنى، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا. فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بنى عامر، هل لنا من تلاف، هل لذباباها من مطلب؟ «3» والذى نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلى قط وإنها لحق، فأين رأسكم كان عنكم؟!. وزاد الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قام عن بنى عامر وانصرف إلى راحلته ليركبها أتاه بيجرة، ونسبه الواقدى: بيجرة بن عبد الله بن سلمة، ورجلان معه فنخسوا به راحلته حتى سقط عنها، ويقال: قطعوا بطان راحلته. قال: فقامت امرأة منهم يقال لها: ضباعة بنت قرط، وكانت قد أسلمت وكانت تحت عبد الله بن جدعان، فكرهته ففارقها وخلف عليها بعده هشام بن المغيرة، وهى أم ابنه سلمة، وصاحت: يا بنى عامر أيؤذى محمد وأنا شاهدة؟! فقام إليهم غطيف

_ (1) انظر: السيرة (2/ 34- 35) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 139، 140) ، تاريخ الطبرى (1/ 556) . (3) قال السهيلى فى الروض الأنف (2/ 181) : هو مثل يضرب لما فاته منها، وأصله: من ذنابى الطائر إذا أفلت من حباله فطلبت الأخذ بذنابيه.

وغطفان ابنا سهيل وعذرة بن عبد الله بن سلمة بن قشير، فضربوهم حتى هزموهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم صنعوا ما صنعوا: اللهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء الآخرين. فأسلم الذين بارك عليهم جميعا ومات الذين لعن وهم كفار. وذكر الواقدى أيضا، من حديث جهم بن أبى جهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على بنى عامر يدعوهم إلى الله، فقام رجل منهم فقال له: عجبا لك والله، أعياك قومك ثم أعياك أحياء العرب كلها، حتى تأتينا وتردد علينا مرة بعد مرة! والله لأجعلنك حديثا لأهل الموسم. ونهض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جالسا فكسر الله عز وجل ساقه، فجعل يصيح من رجله، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. قال الواقدى بإسناد ذكره: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم غسان فى منازلهم بعكاظ، وهم جماعة كثيرة، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله تعالى، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. قال: وأن تمنعوا لى ظهرى حتى أبلغ رسالات ربى ولكم الجنة. فقال رجل منهم: هذا والله يا قوم الذى تذكر النصارى فى كتبها والذى يقولون: بقى من الأنبياء نبى اسمه أحمد، فتعالوا نؤمن به ونتبعه فنكون من أنصاره وأوليائه، فإنهم يزعمون أنه يظهر على ما بلغ الخف والحافر، فيجتمع لنا شرف الدنيا مع ما يكون بعد الموت. قال القوم: فنكون نحن أول العرب دخل فى هذا الأمر فتنصب لنا العرب قاطبة ويبلغ ملوك بنى الأصفر فيخرجوننا من ديارهم، ولكننا نقف عنه وننظر ما تصنع العرب، ثم ندخل فيما يدخل فيه الناس. قال الرجل: يا محمد تأبى عشيرتى أن يتبعوا قولى فيك، ولو أطاعونى رشدوا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه القلوب بيد الله عز وجل. فانصرف عنهم، ثم عاد بعد ذلك إليهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: نرجع إلى من وراءنا ثم نلقاك قابلا. فرجعوا فوفد منهم نفر إلى الحارث بن أبى شمر، فذكروا له أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الحارث: إياكم أن يتبعه رجل منكم، إذا يبيد ملكى من الشام ويتهمنى هرقل. قال: فأمسكوا عن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى محارب بن خصفة بعكاظ فوجدهم فى محالهم فيهم شيخ منهم وهو جالس فى أصحابه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته ودعا إلى الله

وطلب المنعة حتى يبلغ رسالات ربه، فرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد وقال له: عجبا لك! يأبى قومك أن يتبعوك، وتأتى إلى محارب تدعوهم إلى ترك ما كان عليه آباؤهم! اذهب فإنه غير متبعك رجل من محارب آخر الدهر. ويقبل إليه سفيه منهم فقال: يا محمد، ما فى بطن ناقتى هذه إن كنت صادقا؟ فلعمرى إنك لتدعى من العلم أعظم مما سألتك عنه، تزعم أن الله يوحى إليك ويكلمك. فأسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل إليه رجل منهم يقال له: سلمة بن قيس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا قريبا من منزلهم، فأراد أن يطرحه فى البئر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى عن البئر، فجعل سلمة يقول: لو وقعت فى البئر استراح منك أهل الموسم. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بزمام راحلته يقودها وهم يرمونها بالحجارة حتى توارى عنهم وهو يقول: «اللهم إنك لو شئت لم يكونوا هكذا، وإن قلوبهم بيدك وأنت أعلم بهم، فإن كان هذا عن سخط بك على فلك العتبى، ولا حول ولا قوة إلا بك» . وذكر قاسم بن ثابت بن حزم العوفى من حديث عبد الله بن عباس، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، أنه قال: لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر الصديق؛ حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وكان رجلا نسابة ومقدما فى كل خير، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال: ومن رأى ربيعة؟ أمن هامتها أم من لهازمها: قالوا: بل من هامتها العظمى، قال: وأى هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر «1» . فذكر الحديث فى مناسبة أبى بكر إياهم ومقاولته لهم، وانبراء دغفل بن حنظلة النسابة إليهم من بينهم وهو يومئذ غلام حين بقل وجهه، وموافقته لأبى بكر، حتى اجتذب أبو بكر زمام الناقة ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث مشهور تركته لشهرته، مع أن المقصود فيما بعده. قال على بن أبى طالب رضى الله عنه: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم وكان مقدما فى كل خير، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: بأبى أنت وأمى هؤلاء غرر فى قومهم. وفيهم مفروق بن عمرو وهانىء بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك، وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على تربيتيه وكان أدنى القوم مجلسا من أبى بكر.

_ (1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 184- 185) .

فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال له مفروق: إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة. فقال أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟ قال: علنيا الجهد ولكل قوم جد، قال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا، لعلك أخو قريش؟. فقال أبو بكر: أو قد بلغكم أنه رسول الله؟ فها هو ذا. فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، فالإم تدعو يا أخا قريش؟. فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله، وإلى أن تتؤونى وتنصرونى، فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغنى الحميد» . فقال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151] . فقال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] . فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. وكأنه أراد أن يشركه فى الكلام هانىء بن قبيصة. فقال: وهذا هانىء بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا. فقال هانىء: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإنى أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك، لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، زلة فى الرأى وقلة نظر فى العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا. فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانىء بن قبيصة

فى ترك ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإنما منزلنا بين صريى اليمامة والسمامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذان الصريان؟ فقال: أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ولا نؤوى محدثا، وإنى أرى أن هذا الأمر الذى تدعونا إليه هو مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلى مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم فى الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان: اللهم لك ذا. فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45] . ثم نهض النبى صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدى فقال: يا أبا بكر، يا أبا حسن، أية أخلاق فى الجاهلية! ما أشرفها! بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم «1» . قال ابن إسحاق «2» : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله تعالى من الهدى والرحمة، ولا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده. وقدم سويد بن صامت «3» أخو بنى عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الله وإلى الإسلام فقال له سويد: فلعل الذى معك مثل الذى معى.

_ (1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 184- 185) . (2) انظر: السيرة (2/ 35) . (3) هو: سويد بن الصامت الأوسى، لقى النبى صلى الله عليه وسلم بسوق ذى المجاز من مكة فى حجة حجها سويد على ما كانوا يحجون عليه فى الجاهلية. انظر ترجمته فى: الاستيعاب (2/ 235، 236) الترجمة رقم (1121) .

قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الذى معك؟» قال: مجلة لقمان «1» ، يعنى حكمة لقمان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها على فعرضها عليه. فقال: «إن هذا الكلام حسن والذى معى أفضل من هذا، قرآن أنزله الله على هو هدى ونور» . فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن. ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل بعاث. فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم «2» . وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه وهو القائل: ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقاتله بالغيب ساءك ما يفرى مقالته كالشهد ما كان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر يسرك باديه وتحت أديمه ... نميمة غش تبترى عقب الظهر «3» تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الغل والبغضاء بالنظر الشزر فرشنى بخير طال ما قد بريتنى ... وخير الموالى من يريش ولا يبرى ولما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بنى عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم: هل لكم فى خير مما جئتم له؟ فقالوا له: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله بعثنى إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأنزل على الكتاب. ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.

_ (1) قال السهيلى فى الروض الأنف (2/ 183) : مجلة لقمان وهى الصحيفة وكأنها مفصلة من الجلال والجلالة: أما الجلالة فمن صفة المخلوق، والجلال من صفة الله تعالى وقد أجاز بعضهم أن يقاس المخلوق: جلا وجلالة وأنشد: فلا ذا جلال هبته لجلالة ... ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر ولقمان كان نوبيا من أهل آيلة، وهو لقمان بن عنقاء بن سرور فيما ذكروا وابنه الذى ذكر فى القرآن هو ثاران فيما ذكر الزجاج وغيره، وقد قيل فى اسمه غير ذلك، وليس بلقمان بن عاد الحميرى. انتهى. (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 419) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 147) . (3) ذكر هذا البيت ابن عبد البر فى الاستيعاب (2/ 236) فذكر شطره الأول كما ورد هنا أما الثانى: ... ... منحية شر يفترى عقب الظهر وانظر الأبيات أيضا فى أسد الغابة الترجمة رقم (2348) .

بدء إسلام الأنصار وذكر العقبة الأولى

فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: أى قوم، هذا والله خير لكم مما جئتم له. فيأخذ أبو الحيسر جفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال: دعنا منك، فلعمرى لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج «1» . ثم لم يلبث إياس أن هلك، فأخبر من حضر من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام فى ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع. بدء إسلام الأنصار وذكر العقبة الأولى قال ابن إسحاق «2» : فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه وإنجاز موعوده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الموسم الذى لقى فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فقال لهم: «من أنتم؟» قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أمن موالى يهود؟» قالوا: نعم، قال: «أفلا تجلسون أكلمكم؟» قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله به فى الإسلام أن يهود كانوا معهم فى بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكان قد عزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا لهم: «إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم» . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبى الذى توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 427) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 420، 421) ، المستدرك للحاكم (3/ 180، 181) . (2) انظر: السيرة (2/ 38) .

وقعة اليرموك على نحو ما حكاه أصحاب كتب فتوح الشام

فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له: إنا تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا «1» . وهم فيما ذكر لى «2» ، ستة نفر من الخزرج: منهم من بنى النجار: أسعد بن زرارة أبو أمامة «3» ، وعوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء «4» . ومن بنى زريق: رافع بن مالك بن العجلان «5» ، ومن بنى سلمة: قطبة بن عامر بن حديدة «6» وعقبة بن عامر بن نابى «7» ، وجابر بن عبد الله بن رئاب «8» . فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم؛ فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فيهم من الستة المسمين قبل: أبو أمامة وعوف ورافع وقطبة وعقبة، ومن غير الستة من الخزرج أيضا:

_ (1) انظر الحديث فى: عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 262) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 433، 434) ، تاريخ الطبرى (1/ 588) . (2) انظر: السيرة (2/ 39- 40) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (30) ، الإصابة الترجمة رقم (111) ، أسد الغابة الترجمة رقم (98) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2025) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4128) . (5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (739) ، الإصابة الترجمة رقم (2550) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1598) ، الثقات (3/ 123) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 174) ، تقريب التهذيب (1/ 241) ، الجرح والتعديل (3/ 2159) ، تهذيب التهذيب (3/ 232) ، سير أعلام النبلاء (1/ 219) ، دائرة معارف الأعلمى (18/ 202) . (6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2140) ، الإصابة الترجمة رقم (7173) ، أسد الغابة الترجمة (4308) ، الثقات (3/ 347) ، الطبقات الكبرى (9/ 159) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 15) ، الاستبصار (163) . (7) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1844) ، الإصابة الترجمة رقم (5619) . (8) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (289) ، الإصابة الترجمة رقم (1027) ، أسد الغابة الترجمة رقم (646) ، طبقات خليفة الترجمة رقم (623) ، التاريخ الكبير (2/ 207) ، الجرح والتعديل (2/ 492) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (25) ، تهذيب الكمال (182) ، تاريخ الإسلام (3/ 143) ، تذكرة الحفاظ (1/ 40) ، تذهيب التهذيب (1/ 99) ، خلاصة تذهيب الكمال (50) ، شذرات الذهب (1/ 84) ، تهذيب ابن عساكر (3/ 389) .

ذكوان بن عبد قيس بن خلدة الزرقى «1» ، وعبادة بن الصامت «2» ، ويزيد بن ثعلبة «3» من بنى غصينة من بلى حليف لهم، والعباس بن عبادة بن نضلة العجلانى «4» ، ومعاذ بن الحارث بن رفاعة «5» ، وهو ابن عفراء، ومن الأوس: أبو الهيثم بن مالك بن التيهان «6» ، وعويم بن ساعدة «7» ، فلقوه بالعقبة، وهى العقبة الأولى. قال عبادة بن الصامت: كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلا، بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزنى ولا نقتل أولادنا ولا نأتى بهتانا نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه فى معروف. قال: «فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأصبتم بحد فى الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر» «8» .

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (710) ، الإصابة الترجمة رقم (2442) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1531) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 167) ، الوافى بالوفيات (14/ 38) ، الاستبصار (47) ، الجرح والتعديل (3/ 2038) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1380) ، الإصابة الترجمة رقم (4515) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2791) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2791) ، الإصابة الترجمة رقم (9261) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5536) ، الثقات (3/ 445) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 135) ، الطبقات الكبرى (1/ 220) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1385) ، الإصابة الترجمة رقم (2525) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2798) ، الوافى بالوفيات (16/ 634) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 295) ، الثقات (3/ 288) . (5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2450) ، الإصابة الترجمة رقم (8068) . (6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3246) ، الإصابة الترجمة رقم (10689) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6331) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 210) ، التاريخ لابن معين (2/ 148) ، تنقيح المقال (3/ 24) . (7) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2075) ، الإصابة الترجمة رقم (6127) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4138) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 30) ، مشاهير علماء الأمصار (107) ، حلية الأولياء (2/ 11) ، تهذيب الكمال (1068) ، تهذيب التهذيب (8/ 174) ، خلاصة تذهيب الكمال (306) . (8) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب مناقب الأنصار (3892، 3893) ، صحيح-

إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير على يدى مصعب بن عمير رضى الله عنه

قال ابن إسحاق «1» : فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم فى الدين، فكان مصعب يسمى المقرىء بالمدينة، وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبى أمامة، وكان يصلى بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض «2» . إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير على يدى مصعب بن عمير رضى الله عنه ذكر ابن إسحاق عمن سمى من شيوخه «3» أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بنى عبد الأشهل ودار بنى ظفر، فدخل به حائطا من حوائط بنى ظفر، فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم. فلما سمع بذلك سعد بن معاذ «4» وأسيد بن حضير «5» وهما يومئذ سيدا قومهما بنى عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، قال سعد لأسيد: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة منى حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتى ولا أجد عليه مقدما.

_ - مسلم كتاب الحدود (3/ 43) ، مسند الإمام أحمد (5/ 316) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 246، 247) ، مستدرك الحاكم (2/ 624) . (1) انظر: السيرة (2/ 43) . (2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (1/ 559) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 264) . (3) انظر: السيرة (2/ 44) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (963) ، الإصابة الترجمة رقم (3213) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2046) ، طبقات خليفة (77) ، التاريخ الكبير (4/ 65) ، الجرح والتعديل (4/ 93) ، تهذيب الكمال (477) ، العبر (1/ 7) ، تهذيب التهذيب (3/ 481) ، خلاصة تذهيب الكمال (635) ، شذرات الذهب (1/ 11) . (5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (54) ، الإصابة الترجمة رقم (185) ، أسد الغابة الترجمة رقم (170) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 21) ، تهذيب الكمال (1/ 113) ، تقريب التهذيب (1/ 78) ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (1/ 98) ، الوافى بالوفيات (9/ 258) ، سير الإعلام (1/ 299) ، تهذيب التهذيب (1/ 347) ، الجرح والتعديل (2/ 1163) ، الأنساب (1/ 278) ، الرياض المستطابة (29) .

فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه. قال: فوقف عليهما متشتما فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره. قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما ذكر عنهما: والله لعرفنا فى وجهه الإسلام قبل أن يتكلم فى إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا فى هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تتشهد شهادة الحق ثم تصلى. فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما: إن ورائى رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد ابن معاذ. ثم انصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس فى ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذى ذهب به، فلما وقف على النادى قال له سعد: ما فعلت؟ قال كلمت الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت. وقد حدثت أن بنى حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك «1» . فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا للذى ذكر له من بنى حارثة، فأخذ الحربة من يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا. ثم خرج إليهما فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما ثم قال: يا أبا أمامه، والله لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت هذا منى، أتغشانا فى دارينا بما نكره!. وقد قال أسعد لمصعب بن عمير: أى مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره. قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن. قالا: فعرفنا والله فى وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم فى هذا الدين؟. قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى ركعتين. فقام فاغتسل

_ (1) ليخفروك: أخفره أى نقض عهده وخاس به وغدره، وأخفر الذمة لم يف بها.

وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادى قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذى ذهب به. فلما وقف عليهم قال: يا بنى عبد الأشهل كيف تعلمون أمرى فيكم؟ قالوا: سيدنا، أفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة «1» . قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام على حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فو الله ما أمسى فى دار بنى عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة. ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون «2» ، إلا ما كان من دار بنى أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله، وهم من الأوس بن حارثة. وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت «3» وكان شاعرا لهم قائدا يسمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى بدر وأحد والخندق، وقال فيما رأى من الإسلام وما اختلف الناس فيه من أمره: أرب الناس أشياء المت ... يلف الصعب منها بالذلول أرب الناس إما إن ضللنا ... فيسرنا لمعروف السبيل فلولا ربنا كنا يهودا ... وما دين اليهود بذى شكول «4» ولولا ربنا كنا نصارى ... مع الرهبان فى جبل الجليل ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيفا ديننا عن كل جيل «5» نسوق الهدى ترسف مذعنات ... مكشفة المناكب فى الجلول

_ (1) أيمننا نقيبة: النقيبة أيمن النعل، وقال ابن بزرج: اللهم نقيبة أى نفاذ رأى، ورجل ميمون النقيبة: مبارك النفس، مظفر بما يحاول. انظر: اللسان (مادة نقب) . (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 438، 439) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 42) . (3) انظر ترجمته فى: طبقات فحول الشعراء (1/ 226) . (4) قال السهيلى فى الروض الأنف: شكول جمع شكل، وشكل الشىء بالفتح هو مثله، والشكل بالكسر الدل والحسن، فكأنه أراد أن دين اليهود بدع فليس له شكول أى: ليس له نظير فى الحقائق ولا مثيل يعضده من الأمر بالمعروف المقبول. (5) خنيفا: من حنف إذا مال، أى مائلا عن الأديان الباطلة، والميل هو الصنف من الناس.

ذكر العقبة الثانية

ذكر العقبة الثانية قال ابن إسحاق «1» : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، حين أراد الله ما أراد من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله. حدث كعب بن مالك «2» ، وكان ممن شهد العقبة وبايع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: خرجنا فى حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور «3» سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال لنا البراء: يا هؤلاء، إنى قد رأيت رأيا وو الله ما أدرى أتوافقونى عليه أم لا. فقلنا: وما ذاك؟ قال: رأيت ألا أدع هذه البنية منى بظهر، يعنى الكعبة، وأن أصلى إليها. فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا يصلى إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. فقال: إنى لمصل إليها. فقلنا له: لكنا لا نفعل. فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة، فلما قدمناها وقد كنا عبنا عليه ما صنع، قال لى: يا ابن أخى انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت فى سفرى هذا فإنه والله لقد وقع فى نفسى منه شىء لما رأيت من خلافكم إياى فيه، فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عنه فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا. فقال: هل تعرفان العباس عمه؟ قلنا: نعم. وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا. قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس. فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك، فو الله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ (1) انظر: السيرة (2/ 48- 49) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2231) ، الإصابة الترجمة رقم (7447) ، شذرات الذهب (1/ 56) ، تهذيب الكمال (1147) ، تاريخ الإسلام (2/ 243) ، تهذيب التهذيب (8/ 440، 441) ، خلاصة تذهيب الكمال (321) ، طبقات خليفة (103) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (171) ، الإصابة الترجمة رقم (622) ، أسد الغابة الترجمة رقم (392) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 146) ، شذرات الذهب (1/ 9) ، العبر (1/ 3) ، الاستبصار (142) .

ألشاعر؟ قال: نعم. فقال له البراء بن معرور: يا نبى الله، إنى خرجت فى سفرى هذا وقد هدانى الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية منى بظهر، فصليت إليها، وخالفنى أصحابى فى ذلك، حتى وقع فى نفسى منه شىء فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها. فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس كما قالوا، نحن أعلم به منهم «1» . قال كعب «2» : ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام «3» ، أبو جابر، سيد من ساداتنا أخذناه معنا وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك أن تكون حطبا للنار غدا. ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، فأسلم وشهد معنا وكان نقيبا. فنمنا تلك الليلة مع قومنا فى رجالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا فى الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب أم عمارة «4» ، إحدى نساء بنى مازن بن النجار، وأسماء بنت [عمرو بن عدى بن نابى] «5» ، أم منيع» ، إحدى نساء بنى سلمة، فاجتمعنا فى الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 461) ، صحيح ابن خزيمة (429) ، الهيثمى فى المجمع (6/ 42، 43) . (2) انظر: السيرة (2/ 49- 50) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1633) ، الإصابة الترجمة رقم (4856) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3086) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 325) ، تاريخ الإسلام (2/ 205) ، سير أعلام النبلاء (1/ 324) ، حلية الأولياء (2/ 4) ، الأعلام (4/ 11) . (4) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3624) ، الإصابة الترجمة رقم (12183) ، أسد الغابة الترجمة رقم (7550) ، تهذيب التهذيب (12/ 474) ، خلاصة تذهيب الكمال (499) . (5) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «عدى بن عمرو» ، والتصحيح من السيرة والاستيعاب. (6) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3263) ، الإصابة الترجمة رقم (6712) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3274) .

فلما جلس كان أول متكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج، وكانت العرب إنما يسمون هذا الحى من الأنصار الخزرج، خزرجها وأوسها، إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو فى عز من قومه ومنعة فى بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه فى عز ومنعة من قومه وبلده. فقلنا له: قد سمعنا ما قلت. فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب فى الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذى بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر. فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا ونحن قاطعوها، يعنى اليهود، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. قال كعب: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، من الخزرج: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع «1» ، وعبد الله بن رواحة «2» ، ورافع بن مالك

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (936) ، الإصابة الترجمة رقم (3161) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1994) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 77) ، تاريخ خليفة (71) ، الجرح والتعديل (4/ 82- 83) ، الاستبصار (114) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1548) ، الإصابة الترجمة رقم (4694) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2943) ، الثقات (3/ 221) ، حلية الأولياء (1/ 118، 121) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 310) ، تهذيب التهذيب (5/ 212) ، تهذيب الكمال (2/ 681) ، تقريب التهذيب (1/ 415) ، خلاصة تذهيب (2/ 55) ، الوافى بالوفيات (17/ 168) ، سير أعلام النبلاء (1/ 230) ، الأعلام (4/ 86) .

ابن العجلان، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عبادة بن دليم «1» ، والمنذر بن عمرو «2» . ومن الأوس: أسيد بن حضير، وسعد ابن خيثمة «3» ، ورفاعة بن عبد المنذر «4» . قال ابن هشام «5» : وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولا يعدون رفاعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفاله الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومى» ، قالوا: نعم «6» . وحدث «7» عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة، أخو بنى سالم بن عوف: يا معشر الخزرج: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر، والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (949) ، الإصابة الترجمة رقم (3181) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2012) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 142) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (201) ، تهذيب الكمال (474) ، تهذيب التهذيب (3/ 475) ، خلاصة تذهيب الكمال (2134) ، شذرات الذهب (1/ 28) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2523) ، الإصابة الترجمة رقم (8242) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5114) ، الثقات (3/ 386) ، الاستبصار (100) ، الأعلام (7/ 294) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 95) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (934) ، الإصابة الترجمة رقم (3155) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1986) ، شذرات الذهب (1/ 9) ، سير أعلام النبلاء (1/ 266) ، الوافى بالوفيات (15/ 216) ، الأعلام (3/ 84) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 213) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (780) ، الإصابة الترجمة رقم (2675) ، أسد الغابة الترجمة (1692) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 184) ، سير أعلام النبلاء (1/ 135، 185) ، الوافى بالوفيات (14/ 171) ، تهذيب التهذيب (3/ 282) ، تقريب التهذيب (1/ 251) ، حلية الأولياء (1/ 366) ، خلاصة تذهيب (1/ 327) . (5) انظر: السيرة (2/ 54) . (6) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 162) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 292) ، تاريخ الطبرى (1/ 562، 563) . (7) انظر: السيرة (2/ 55) .

نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه «1» . قال عاصم: والله، ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى أعناقهم. وقال غيره: ما قاله إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبى بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم. فالله أعلم أى ذلك كان. قال ابن إسحاق «2» : فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان. وفى حديث معبد بن كعب عن أخيه عبد الله، عن أبيه قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم بايع القوم، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب، وهى المنازل، هل لكم فى مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب، ويقال ابن أزيب، أتسمع أى عدو الله، أما والله لأفرغن لك» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفضوا إلى رحالكم» ، فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذى بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أومر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» . فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا فى منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حى من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. فانبعث من هنالك من مشركى قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شىء، وما علمناه. وصدقوا، لم يعلموه، وبعضنا ينظر إلى بعض. ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام المخزومى «3» ، وعليه نعلان له جديدان فقلت

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 48) ، مسند الإمام أحمد (4/ 119، 120) ، تاريخ الطبرى (1/ 563) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 162) . (2) انظر: السيرة (2/ 56- 57) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (452) ، الإصابة الترجمة رقم (1509) ، أسد الغابة الترجمة رقم (979) ، تهذيب الكمال (223) ، تذهيب التهذيب (1/ 116) ، خلاصة تذهيب الكمال (69) ، تهذيب ابن عساكر (4/ 8) ، العقد الثمين (4/ 32) .

له كلمة، كأنى أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر ما تستطيع وأنت سيد من ساداتنا أن تتخذ مثل نعلى هذا الفتى من قريش؟! فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إلى فقال: والله لتنتعلنهما، قال: يقول أبو جابر: مه، أحفظت والله الفتى، فاردد إليه نعليه. قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح، والله لئن صدق الفأل لأسلبنه «1» . وفى حديث غير كعب أنهم أتوا عبد الله بن أبى سلول، فقالوا: مثل ما ذكر كعب من القول، فقال لهم: إن هذا لأمر جسيم، ما كان قومى ليتفوتوا على بمثل هذا، وما علمته كان، فانصرفوا عنه. ونفر الناس من منى، فتنطس «2» القوم الخبر، فوجدوه قد كان، وخرجوا فى طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر والمنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة، وكلاهما كان نقيبا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع «3» رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة، يضربونه ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير. قال سعد: فو الله، إنى لفى أيديهم إذ طلع علىّ نفر من قريش فيهم رجل وضىء أبيض شعشاع حلو من الرجال، قال فقلت فى نفسى: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا، فلما دنا منى، رفع يده فلكمنى لكمة شديدة، فقلت فى نفسى: لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير، فو الله إنى لفى أيديهم يسحبوننى إذ أوى إلى رجل ممن معهم، فقال لى: ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش تجارة ولا عهد؟ فقلت: بلى والله لقد كنت أجيز لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادى، وللحارث بن حرب ابن أمية. قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما. قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ليهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جوارا، قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله، إن كان ليجيز لنا تجارنا ويمنعهم

_ (1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 181) ، فتح البارى لابن حجر (3/ 262) . (2) تنطس القوم: تنطس عن الأخبار أى بحث وكل مبالف فى شىء متنطس وتنتطست الأخبار تجسستها. انظر: اللسان (مادة تنطس) . (3) النسع: هو سير يضفر على هيئة لأعنة النعال تشد به الرحال، والجمع أنساع ونسوع ونسع، والقطعة منه نسعة، وقيل: هو سير مضفور يجعل زماما وغيره وقد تنسج عريضة تجعل على صدور البعير. انظر: اللسان (مادة نسع) .

أن يظلموا ببلده، قال: فجاآ فخلصا سعدا من أيديهم، وكان الذى لكم سعدا سهيل ابن عمرو «1» . قال ابن هشام: والذى أوى له أبو البحترى بن هشام. قال ابن إسحاق «2» : فكان أول شعر قيل فى الهجرة بيتين قالهما ضرار بن الخطاب ابن مرداس «3» ، أخو بنى محارب بن فهر. قال: تداركت سعدا عنوة فأخذته ... وكان شفاء لو تداركت منذرا ولو نلته ظلت هناك جراحة ... وكان حقيقا أن يهان ويهدرا فأجابه حسان بن ثابت «4» فقال: ولست إلى عمرو ولا المرء منذر ... إذا ما مطايا القوم أصبحن ضمرا فلولا أبو وهب لمرت قصائد ... على شرف البرقاء يهوين حسرا أتفخر بالكتان لما لبسته ... وقد تلبس الأنباط ريطا مقصرا فلا تك كالوسنان يحلم أنه ... بقرية كسرى أو بقرية قيصرا ولا تك كالثكلى وكانت بمعزل ... عن الثكل لو كان الفؤاد تفكرا ولا تك كالشاة التى كان حتفها ... بحفر ذراعيها فلم ترض محفرا ولا تك كالعاوى فأقبل نحره ... ولم يخشه سهم من النبل مضمرا فإنا ومن يهدى القصائد نحونا ... كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا قال «5» : فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام، وفى قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم: عمرو بن الجموح، وكان ابنه معاذ شهد العقبة وبايع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو سيدا من سادات بنى سلمة، وشريفا من أشرافهم، وكان

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 44، 449) ، مسند الإمام أحمد (3/ 460، 462) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 45) ، مستدرك الحاكم (3/ 252) . (2) انظر: السيرة (2/ 58- 59) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1260) ، الإصابة الترجمة رقم (4193) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2563) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 271) ، الثقات (3/ 200) ، الوافى بالوفيات (16/ 363) ، تاريخ بغداد (1/ 200) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب (1/ 400) الترجمة رقم (525) ، الإصابة الترجمة رقم (1709) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1153) . (5) انظر: السيرة (2/ 60) .

قد اتخذ فى داره صنما من خشب، يقال له: مناة، كما كانت الأشراف يصنعون، يتخذه إلها يعظمه، ويطهره، فلما أسلم فتيان بنى سلمة، ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل فى فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة، كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه فى بعض حفر بنى سلمة، وفيها عذر الناس، منكسا على رأسه. فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم، من عدا على آلهتنا هذه الليلة، ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله، لو أعلم من فعل بك هذا لأخزيته، فإذا أمسى ونام عمرو، عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك، فيغدو فيجده فى مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال له: إنى والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك، فلما أمسى ونام عمرو، عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه فى بئر من آبار بنى سلمة فيها عذر من عذر الناس، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده فى مكانه. فخرج يتتبعه حتى وجده فى تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف يذكر صنمه ذلك، وما أبصره من أمره، ويشكر الله الذى أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة: والله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر فى قرن «1» أف لملقاك إلها مستدن ... الآن فتشناك من سوء الغبن «2» الحمد لله العلى ذى المنن ... الواهب الرزاق ديان الدين هو الذى أنقذنى من قبل أن ... أكون فى ظلمة قبر مرتهن قال ابن إسحاق «3» : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له فى الحرب ولم تحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله تبارك وتعالى، والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، فكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم

_ (1) القرن: بفتح القاف والراء، قيل: هو شىء من لحاء شجر يفتل منه حبل، وقيل: الحبل من اللحاء، وقيل: هو الخصلة المفتولة من العهن. (2) مستدن: أى ذليل مستبعد، وقال السهيلى فى الروض الأنف: هو من السدانة وهى خدمة البيت. والغبن: يكون فى الرأى تقول غبن رأى فلان كما تقول سفهت نفس فلان. (3) انظر: السيرة (2/ 74- 75) .

بدء الهجرة إلى المدينة

عن بلادهم، فهم من بين مفتون فى دينه وبين معذب فى أيديهم وبين هارب فى البلاد، منهم بأرض الحبشة، ومنهم بالمدينة وفى كل وجه. فلما عتت قريش على الله وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه، أذن الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فى القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، فكانت أول آية أنزلت فى إذنه فى الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم، فيما بلغنى عن عروة بن الزبير، وغيره من العلماء «1» ، قول الله تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 39، 41] . ثم أنزل الله عليه: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أى حتى لا يفتن مؤمن عن دينه وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة: 193] أى وحتى يعبد الله لا يعبد غيره. بدء الهجرة إلى المدينة قال ابن إسحاق «2» : فلما أذن الله تبارك وتعالى لرسوله فى الحرب، وبايعه هذا الحى من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها، فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه فى الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة «3» . فكان أول من هاجر إليها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش من بنى مخزوم: أبو

_ (1) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3171) ، سنن النسائى الكبرى (6/ 411) ، المستدرك للحاكم (2/ 66) ، تفسير ابن كثير (5/ 430) . (2) انظر: السيرة (2/ 77) . (3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 169) .

سلمة بن عبد الأسد «1» ، هاجر إليها قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قدم مكة من أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجرا «2» . قالت أم سلمة: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لى بعيره ثم حملنى عليه وحمل معى ابنى سلمة فى حجرى، ثم خرج بى يقود بعيره، فلما رأته رجال بنى المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها فى البلاد؟! قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذونى منه، وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبى سلمة، فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. فتجاذبوا بنى سلمة بينهم حتى خلعوا يده! وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسنى بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجى أبو سلمة إلى المدينة، ففرق بينى وبين زوجى وبين ابنى، فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكى حتى أمسى، سنة أو قرييا منها. حتى مر بى رجل من بنى عمى فرأى ما بى فرحمنى فقال لبنى المغيرة: ألا تحرجون من هذه المسكينة! فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها. فقالوا لى: الحقى بزوجك إن شئت. ورد بنو عبد الأسد إلى عند ذلك ابنى، فارتحلت بعيرى ثم أخذت بنى فوضعته فى حجرى، ثم خرجت أريد زوجى بالمدينة وما معى أحد من خلق الله، قلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجى. حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبى طلحة «3» ، أخا بنى عبد الدار، فقال: إلى أين يا بنت أبى أمية؟ قلت: أريد زوجى بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قلت: لا والله، إلا الله وبنى هذا! قال: والله مالك من مترك. فأخذ بخطام البعير يقودنى معه يهوى بى، فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3043) ، الإصابة الترجمة رقم (10049) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5978) ، تهذيب الكمال (1610) ، تقريب التهذيب (2/ 430) ، تهذيب التهذيب (12/ 115) . (2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 268) ، تاريخ الطبرى (1/ 565) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1790) ، الإصابة الترجمة رقم (5456) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3580) ، الثقات (3/ 260) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 373) ، تقريب التهذيب (2/ 10) ، تهذيب التهذيب (7/ 124) ، تهذيب الكمال (2/ 910) ، الجرح والتعديل (6/ 1055) ، سير أعلام النبلاء (3/ 10) .

المنزل أناخ بى ثم استأخر عنى، حتى إذا نزلت استأخر ببعيرى فحط عنه ثم قيده فى الشجر، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيرى فرحله ثم استأخر عنى فقال: اركبى، فإذا ركبت واستويت على بعيرى أتى فأخذ بخطامه فقادنى حتى ينزل بى، فلم يزل يصنع ذلك بى حتى أقدمنى المدينة، فلما نظرنا إلى قرية بنى عمرو بن عوف وكان أبو سلمة بها، قال: زوجك فى هذه القرية فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعا إلى مكة، فكانت أم سلمة تقول: ما أعلم أهل بيت فى الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبى سلمة، وما رأيت صاحبا كان أكرم من عثمان بن طلحة «1» . قال ابن إسحاق «2» : ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبى سلمة، عامر بن ربيعة» حليف بنى عدى بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة بن غانم «4» ، ثم عبد الله بن جحش بن رئاب من بنى غنم بن ذودان بن أسد بن خزيمة حليف بنى أمية ابن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه أبى أحمد [عبد] «5» بن جحش «6» ، وكان أبو أحمد رجلا ضرير يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعرا وكانت عنده الفرعة بنت أبى سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب. فغلقت دار بنى جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس فيها ساكن، فتنفس الصعداء ثم قال: وكل دار وإن طالت سلامتها ... يوما ستدركها النكباء والحوب ولما خرج بنو جحش من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخى بنى عامر بن لؤى، فذكر ذلك عبد الله بن جحش، لما بلغه لرسول الله صلى الله عليه وسلم،

_ (1) ذكر هذه القصة ابن حجر فى الإصابة (8/ 240) ، البخارى فى التاريخ الكبير (4/ 80) . (2) انظر: السيرة (2/ 77- 79) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1335) ، الإصابة الترجمة رقم (4339) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2693) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 284) . (4) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3516) ، الإصابة الترجمة رقم (11712) ، أسد الغابة الترجمة رقم (7261) . (5) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «عبيد» ، والتصحيح من السيرة، والاستيعاب. (6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1388، 2860) ، الإصابة الترجمة رقم (9505) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5669) .

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا فى الجنة خيرا منها؟» قال: بلى. قال: «فذلك لك» . فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كلمة أبو أحمد فى دارهم، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس لأبى أحمد: يا أبا أحمد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا فى شىء أصيب منكم فى الله. فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان بنو غنم بن ذودان أهل الإسلام قد أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرة رجالهم ونساءهم، فقال أبو أحمد بن جحش يذكر هجرة بنى أسد بن خزيمة من قومه إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله، وإيعابهم فى ذلك حين دعوا إلى الهجرة: ولو حلفت بين الصفا أم أحمد ... ومروتها بالله برت يمينها لنحن الأولى كنا بها ثم لم نزل ... بمكة حتى عاد غثا سمينها بها خيمت غنم بن ذودان وانبنت ... وما أرعدت غنم وخف قطينها إلى الله تعدو بين مثنى وواحد ... ودين رسول الله بالحق دينها وقال أبو أحمد أيضا: ولما رأتنى أم أحمد غاديا ... بذمة من أخشى بغيب وأرهب تقول فإما كنت لا بد فاعلا ... فيمم بنا البلدان ولتنأ يثرب فقلت لها ما يثرب بمظنة ... وما يشأ الرحمن فالعبد يركب إلى الله وجهى والرسول ومن يقم ... إلى الله يوما وجهه لا يخيب فكم قد تركنا من حميم مناصح ... وناصحة تبكى بدمع وتندب يرى أن وترا نأينا عن بلادنا ... ونحن نرى أن الرغائب نطلب «1» دعوت بنى غنم لحقن دمائهم ... وللحق لما لاح للناس ملحب أجابوا بحمد الله لما دعاهم ... إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى ... أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا «2» كفوجين أما منهما فموفق ... على الحق مهدى وفوج معذب طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم ... عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا

_ (1) الوتر: طلب الثأر، يريد أنه يستحق أن يطالبوا مخرجهم به. النأى: البعد. الرغائب: جمع رغيبة، وهى من العطاء الكثير. (2) أجلبوا: يروى بالجيم وبالحاء المهملة فمن رواه بالحاء المهملة فمعناه أعانوا، ومن واه بالجيم فمعناه أحدثوا جلبه وهى الصياح.

ورغنا إلى قول النبى محمد ... فطاب ولاة الحق منا وطيبوا نمت بأرحام إليهم قريبة ... ولا قرب بالأرحام إذ لا تقرب فأى ابن أخت بعدنا يأمننكم ... وأية صهر بعد صهرى يرقب ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا ... وزيل أمر الناس للحق أصوب ثم خرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وعياش بن أبى ربيعة المخزومى «1» ، حتى قدما المدينة. قال عمر رضى الله عنه: لما أردنا الهجرة إلى المدينة اتعدت أنا وعياش بن أبى ربيعة، وهشام بن العاص التناضب من أضاة بنى غفار «2» فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. فأصبحت أنا وعياش عندها وحبس عنا هشام وفتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا بقباء، وخرج أبو جهل والحارث أخوه إلى عياش، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا فقالا له: إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط حق تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك. فرق لها، فقلت له: يا عياش، والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو قد آذى أمك لا متشطت! ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت. فقال: أبر قسم أمى، ولى هناك مال فآخذه. قلت: والله إنك لتعلم أنى لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما. فأبى على إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتى هذه فإنها نجيبة ذلول، فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها. فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: والله يا أخى لقد استغلظت بعيرى هذا أفلا تعقبنى على ناقتك هذه؟ قال: بلى. قال: فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن!.

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2032) ، الإصابة الترجمة رقم (6138) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4145) . (2) أضاة بنى غفار: الأضاءة الماء المستنقع من سيل، ويقال: هو مسيل الماء إلى الغدير، وغفار قبيلة من كنانة على عشرة أميال من مكة. انظر: معجم البلدان (1/ 214) .

وفى غير حديث عمر أنهما دخلا به مكة نهارا موثقا ثم قالا: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا «1» . قال عمر رضى الله عنه، فى حديثه: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تبارك وتعالى، فيهم وفى قولنا وقولهم لأنفسهم: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر: 53] «2» . قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: فكتبتها بيدى فى صحيفة وبعثت بها إلى هشام ابن العاص، قال: فقال هشام: لما أتتنى جعلت أقرؤها بذى طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها. فألقى الله فى قلبى أنها إنما نزلت فينا وفيما كنا نقول فى أنفسنا ويقال فينا. فرجعت إلى بعيرى فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. هذا ما ذكر ابن إسحاق فى شأن هشام. وذكر ابن هشام عمن يثق به «3» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: من لى بعياش ابن أبى ربيعة، وهشام بن العاص؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما. فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا، فلقى امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ فقالت: أريد هذين المسجونين تعنيهما، فتبعها حتى عرف موضعيهما، وكانا محبوسين فى بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهما ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه ذو المروة لذلك. ثم حملهما على بعيره وساق بهما فعثر فدميت إصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفى سبيل الله ما لقيت

_ (1) انظر: السيرة (2/ 82) . (2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (2/ 435) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 14) ، دلائل النبوة (2/ 146) ، تفسير الطبرى (24/ 11) ، طبقات ابن سعد (3/ 271) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 61) ، كشف الأستار (2/ 370) . (3) انظر: السيرة (2/ 83) .

ثم قدم بهما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . ثم تتابع المهاجرون أرسالا، فنزل طلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب ابن إساف. بالسبخ، ويقال: بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة. قال ابن هشام «2» : وذكر لى أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذى بلغته، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك! والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى؟ قالوا: نعم. قال: فإنى قد جعلت لكم مالى. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» «3» !. قال ابن إسحاق «4» : وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين، ينتظر أن يؤذن له فى الهجرة، ولم يتخلف معه أحد بمكة من المهاجرين، إلا من حبس أو فتن، إلا على بن أبى طالب وأبو بكر الصديق، وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة فيقول له: لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحبا. فيطمع أبو بكر أن يكونه «5» . ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أنه مجمع لحربهم، فاجتمعوا له فى دار الندوة، وهى دار قصى بن كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها، يتشاورون ما يصنعون فى أمره. فاعترض لهم إبليس فى هيئة شيخ جليل عليه بت «6» ، فوقف على باب الدار فى

_ (1) ذكره ابن حجر فى فتح البارى (1/ 557) ، وقال: من زيادات ابن هشام فى السيرة. (2) انظر: السيرة (2/ 84) . (3) انظر الحديث فى: الحلية لأبى نعيم (1/ 151، 153) ، مستدرك الحاكم (3/ 398) ، طبقات ابن سعد (3/ 227، 228) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 173، 174) ، المطالب العالية لابن حجر (3/ 3552) . (4) انظر: السيرة (2- 87) . (5) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 62) ، وقال: رواه الطبرانى وفيه عبد الرحمن بن بشير الدمشقى ضعفه أبو حاتم. (6) بت: بفتح الباء وتشديد التاء، الكساء الغليظ من صوف جيد أو خز يلبس كالعباءة ويدل على المكانة والشرف، وجمعه بتوت.

اليوم الذى اتعدوا له، ويسمى يوم الزحمة، فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذى اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا: أجل، فادخل. فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش وغيرهم. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا، فتشاوروا ثم قال قائل: احبسوه فى الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم. فقال الشيخ النجدى: لا والله، ما هذا لكم برأى، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذى أغلقتم دونه إلى أصحابه. فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى فانظروا فى غيره. فتشاوروا ثم قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فو الله ما نبالى أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدى: لا والله، ما هذا لكم برأى، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال لما يأتى به؟! والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حى من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا، فقال أبو جهل: والله إن لى فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم، قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم. فقال الشيخ النجدى: القول ما قاله الرجل، هو الرأى لا رأى غيره. فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه، فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه

حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلى بن أبى طالب: نم على فراشى وتسج بردى هذا الحضرمى الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شىء تكرهه منهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام فى برده ذلك إذا نام «1» . فاجتمعوا له وفيهم أبو جهل، فقال وهو على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان لكم فيه ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها! وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب فى يده ثم قال: نعم، أنا الذى أقول ذلك، أنت أحدهم. وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، وجعل ينثر ذلك التراب على رؤسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إلى قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 9] . حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمدا. قال: خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته، أفلا ترون ما بكم؟! فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا برد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله، إن هذا لمحمد نائما عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام على عن الفراش، فقالوا: والله لقد صدقنا الذى كان حدثنا «2» . فكان مما أنزل الله من القرآن فى ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قول الله سبحانه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال: 30] «3» .

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 468) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 176) ، طبقات ابن سعد (1/ 212) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 177) ، فتح القدير للشوكانى (4/ 510) . (3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 348) ، مجمع الزوائد للهيثمى (7/ 27) ، مستدرك الحاكم (3/ 4) .

ذكر الحديث عن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر الصديق رضى الله عنه مهاجرين إلى المدينة

وأذن الله تبارك وتعالى، عند ذلك لنبيه فى الهجرة. ذكر الحديث عن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر الصديق رضى الله عنه مهاجرين إلى المدينة حدث «1» عروة بن الزبير، عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان لا يخطىء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى بيت أبى بكر أحد طرفى النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذى أذن الله فيه لرسوله فى الهجرة والخروج من مكة من بين ظهرانى قومه، أتانا بالهاجرة فى ساعة كان لا يأتى فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا من حدث. فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبى بكر إلا أنا وأختى أسماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج عنى من عندك. فقال: يا نبى الله، إنما هما ابنتاى، وما ذاك فداك أبى وأمى؟. فقال: «إن الله قد أذن لى فى الخروج والهجرة» . فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: «الصحبة» . قالت: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك أن أحدا يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكى يومئذ!. ثم قال: يا نبى الله، إن هاتين الراحلتين قد كنت أعددتهما لهذا. وكان أبو بكر رجلا ذا مال، فكان حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة، فقال له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا» ، قد طمع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعنى نفسه، فابتاع راحلتين، فحبسهما فى داره يعلفهما إعدادا لذلك. واستأجر عبد الله بن أريقط رجلا من بنى الديل بن بكر وكان مشركا، يدلهما الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. قال ابن إسحاق «2» : ولم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج أحد، إلا على بن أبى طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبى بكر. أما على فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت

_ (1) انظر: السيرة (2/ 91) . (2) انظر: السيرة (2/ 92) .

عنده للناس، ولم يكن بمكة أحد عنده شىء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته. فلما أجمع عليه السلام الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة «1» لأبى بكر فى ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور، جبل بأسفل مكة، فدخلاه. وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهارا ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر، فكان يفعل ذلك، وأمر عامر بن فهيرة «2» مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى فى الغار، فكان عامر يرعى رعيان أهل مكة فإذا أمسى أراح عليهما، فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبى بكر من عندهما إلى مكة، تبع عامر أثره بالغنم حتى يعفى عليه، وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما من الطعام بما يصلحهما. وذكر ابن هشام «3» عن الحسن بن أبى الحسن قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا فدخل أبو بكر قبله فلمس الغار لينظر فيه سبع أو حية، يقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه «4» . ولما فقدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبوه بمكة أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة يتبعون أثره فى كل وجه، فوجد الذى ذهب قبل ثور أثره هناك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع له لما انتهى إلى ثور. وشق على قريش خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وجزعوا لذلك، فطفقوا يطلبونه بأنفسهم فيما قرب منهم، ويرسلون من يطلبه فيما بعد عنهم، وجعلوا مائة ناقة لمن رده عليهم، ولما انتهوا إلى فم الغار، وقد كانت العنكبوت ضربت على بابه بعشاش بعضها على بعض، بعد أن دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكروا، قال قائل منهم: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم إلى الغار؟ إن عليه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد!.

_ (1) خوخة: هى الكوة فى الجدار تؤدى الضوء، وقيل: هى باب صغير كالنافذة الكبيرة تكون بين بيتين ينصب عليها باب. انظر: اللسان (مادة خوخ) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1346) ، الإصابة الترجمة رقم (4433) ، تلقيح المقال (2/ 6059) . (3) انظر: السيرة (2/ 92- 93) . (4) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 180) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 279) .

قالوا: فنهى النبى صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العنكبوت، وقال: «إنها جند من جنود الله» «1» . وخرج أبو بكر البزار فى مسنده من حديث أبى مصعب المكى، قال: أدركت زيد ابن أرقم، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، يحدثون: أن النبى صلى الله عليه وسلم لما كان ليلة بات فى الغار، أمر الله تبارك وتعالى شجرة فنبتت فى وجه الغار فسترت وجه النبى صلى الله عليه وسلم، وأمر الله العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأمر الله عز وجل، حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وأتى المشركون من كل بطن حتى إذا كانوا من النبى صلى الله عليه وسلم على قدر أربعين ذراعا، معهم قسيهم وعصيهم، تقدم رجل منهم فنظر فرأى الحمامتين، فرجع فقال لأصحابه: ليس فى الغار شىء، رأيت حمامتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد. فسمع قول النبى صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله قد درأ بهما عنه، فشمت عليهما وفرض جزاءهما، واتخذت فى حرم الله ففرخن. أحسبه قال: فأصل كل حمام فى الحرم من فراخهما. وذكر قاسم بن ثابت فيما تولى شرحه من الحديث أن الله أنبت الراءة على باب الغار لما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضى الله عنه، قال: وهى شجرة معروفة. قال غيره: تكون مثل قامة الإنسان، ولها زهر أبيض تحشى به المخاد للينه وخفته. وحكى الواقدى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار، دعا بشجرة كانت أمام الغار، فأقبلت حتى وقفت على باب الغار، فحجبت أعين الكفار وهم يطوفون فى الجبل. وقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما!» «2» . وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه فى الغار ثلاثا، حتى إذا مضت الثلاثة وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذى استأجرا ببعيريهما، وأتتهما أسماء بنت أبى بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما «3» ، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس

_ (1) ذكره السيوطى فى الدر المنثور (3/ 240) . (2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3096) ، مسند الإمام أحمد (1/ 4) ، طبقات ابن سعد (3/ 1/ 123) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 242) ، كنز العمال للمتقى الهندى (32614، 32568) ، شرح السنة للبغوى (13/ 366) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 68، 111) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5868) . (3) العصام: الحبل أو شبهه يشد على فم المزادة ونحوها ليحفظ باقيها أو تعلق منها فى وتد.

فيها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما، ثم تعلقها به، فكان يقال لها: ذات النطاق لذلك فيما ذكر ابن إسحاق «1» . وأما ابن هشام «2» فذكر أنها إنما يقال لها: ذات النطاقين، وهو المشهور عنها رضى الله عنها، وذكر أنه سمع غير واحد من أهل العلم يفسره بأنها شقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد وانتطقت بالآخر. قال ابن إسحاق: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما، ثم قال: اركب فداك أبى وأمى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لا أركب بعيرا ليس لى. قال: فهى لك يا رسول الله بأبى أنت وأمى. قالا: لا، ولكن ما الثمن الذى ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا. قال: قد أخذتها بذلك. فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر خلفه مولاه عامر بن فهيرة ليخدمهما فى الطريق «3» . قال» : فحدثت عن أسماء بنت أبى بكر قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فقالوا: أين أبوك يا ابنة أبى بكر؟ قلت: لا أدرى والله. فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدى لطمة طرح منها قرطى، ثم انصرفوا فمكثنا ثلاث ليال ما ندرى أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتى أم معبد هما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن وجهه إلى المدينة «5» .

_ (1) انظر: السيرة (2/ 93) . (2) انظر: السيرة (2/ 93- 94) . (3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب الإيجارة (2263) ، مسند الإمام أحمد (6/ 473، 475) . (4) انظر: السيرة (2/ 94) . (5) انظر الحديث فى: الحاكم فى المستدرك (3/ 9، 10) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 192- 194) .

وعن غير ابن إسحاق وهو عندنا بالإسناد من طرق، أن أم معبد هذه امرأة من بنى كعب من خزاعة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر ومولاة عامر بن فهيرة ودليلهما الليثى عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتى أم معبد الخزاعية «1» وكانت امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء القبة ثم تسقى وتطعم، فسألوها لحما وتمرا ليشتروه منها فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة فى كسر الخمية فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت: شاة خلفها الجهد عن المغنم. قال: «هل بها من لبن؟» قالت: هى أجهد من ذلك. قال: «أتأذنين أن أحلبها؟» قالت: نعم، بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها فى شاتها فتفاجت عليه ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم، ثم أراضوا، ثم حلب فيه ثانيا بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا عنها. فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد «2» يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا ضخامهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد؛ والشاء عازب حيال ولا حلوب فى البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. قال: صفيه لى يا أم معبد: قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم يعبه ثجلة ولم تزر به صعلة وسيم قسيم فى عينيه دعج وفى وعج وفى أشفاره غطف وفى عنقه سطع وفى صوته صحل وفى لحيته كثافة، أزج أقرن إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل وأبهاه من بعيد وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا يائس من طول ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر تبادروا لأمره محفود محشود لا عابس ولا مفند.

_ (1) هى: عاتكة بنت خالد بن منقذ بن ربيعة، أم معبد الخزاعية، ويقال: عاتكة بنت خالد بن مهاجرا. انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3457) ، الإصابة الترجمة رقم (11451) ، أسد الغابة الترجمة رقم (7086) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3209) ، الإصابة الترجمة رقم (10551) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6262) .

قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذى ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا «1» . وأصبح صوت بمكة عال يسمعون الصوت بمكة علا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه، وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتى أم معبد هما نزلاها بالهدى فاهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد فيا لقصى ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد ليهن بنى كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها فى مصدر ثم مورد فلما سمع بذلك حسان بن ثابت جعل يجاوب الهاتف ويقول: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسرى إليهم ويغتدى ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد وهل يستوى ضلال قوم تسكعوا ... عمى وهداة يهتدى بمهتدى لقد نزلت منهم على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد نبى يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله فى كل مسجد وإن قال فى يوم مقالة غائب ... فتصديقها فى اليوم أو فى ضحى الغد ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد وذكر أبو منصور محمد بن سعد الماوردى بإسناد له إلى قيس بن النعمان قال: لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه يستخفيان فى الغار فمرا بعبد يرعى غنما فاستسقياه من اللبن فقال: والله ما لى شاة تحلب، غير أن هاهنا عناقا حملت أول الشاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتنا بها» . فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم حلب عسا فسقى أبا بكر، ثم حلب آخر فسقى الراعى، ثم حلب فشرب. فقال العبد: من أنت؟ فو الله ما رأيت مثلك قط! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتراك إن

_ (1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 1/ 155) ، دلائل النبوة للبيهقى (1/ 278) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 56) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 159، 186) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5943) ، كنز العمال للمتقى الهندى (46300) .

حدثتك تكتم على؟» قال: نعم، قال: «فإنى محمد رسول الله» . قال: أنت الذى تزعم قريش أنك صابئ؟ قال: «إنهم ليقولون ذلك» . قال العبد: فإنى أشهد أنك رسول الله، وأن ما جئت به الحق، وأنه ليس يفعل فعلك إلا نبى، ثم قال العبد: أتبعك؟ قال: «لا، حتى تسمع بنا أنا قد ظهرنا» «1» . وخرج البرقانى فى مصافحته من حديث البراء بن عازب «2» رضى الله عنهما، وأورده الإمامان البخارى ومسلم فى صحيحيهما من حديثه قال: اشترى أبو بكر رضى الله عنه، من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء أن يحمله إلى أهلى. فقال له عازب: حتى تحدثنى كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم. قال: ارتحلنا من مكة فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصرى هل أرى من ظل نأوى إليه، فإذا أنا بصخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظل لها، فنظرت بقية ظلها فسويته وفرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة وقلت: اضطجع يا رسول الله، فاضطجع، ثم ذهبت أنظر ما حوله هل أرى من الطلب أحدا، فإذا أنا براعى غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذى أريد، يعنى الظل. فسألته فقلت: لمن أنت يا غلام؟ قال: فلان، رجل من قريش سماه، فعرفته، فقلت: هل فى غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت: هل أنت حالب لى؟ قال: نعم، فاعتقل شاة من غنمه فأمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا، فضرب إحدى يديه على الأخرى فحلب لى كثبة من لبن وقد رويت معى لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استيقظ، قلت: يا رسول الله اشرب، فشرب حتى رضيت، وقلت: قد آن الرحيل يا رسول الله، فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم «3» على فرس له،

_ (1) ذكره ابن حجر فى المطالب العالية (4295) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (174) ، الإصابة الترجمة رقم (618) ، أسد الغابة الترجمة رقم (389) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (272) ، جمهرة أنساب العرب (341) ، العقد الفريد (5/ 282) ، الوافى بالوفيات (10/ 104) ، مرآة الجنان (1/ 145) ، تقريب التهذيب (1/ 94) ، خلاصة تذهيب التهذيب (46) ، شذرات الذهب (1/ 77، 78) ، طبقات الفقهاء (52) ، تاريخ الطبرى (10/ 192) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (921) ، الإصابة الترجمة رقم (3122) ، أسد الغابة-

فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، وبكيت، قال: «لا تحزن إن الله معنا!» . قال: فلما دنا فكان بيننا وبينه قدر رمحين أو ثلاثة قلت: هذا الطلب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغنا، وبكيت، قال: «ما يبكيك؟» فقلت: أما والله ما على نفسى أبكى، ولكنى أبكى عليك، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اكفناه بما شئت» ، فساخت فرسه فى الأرض إلى بطنها، فوثب عنها وقال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجينى مما أنا فيه، فو الله لأعمين على من ورائى من الطلب، وهذه كنانتى فخذ منها سهما فإنك ستمر على إبلى وغنمى بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لى فى إبلك» ، ودعا له، فانطلق راجعا إلى أصحابه. وفى حديث البخارى ومسلم: فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتكم ما هنا. فلا يلقى أحدا إلا ردة. قال: ووفى لنا «1» . وعن سراقة بن مالك بن جعشم فيما أورده ابن إسحاق «2» قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم. قال: فبينما أنا جالس فى نادى قومى أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا على آنفا، إنى لأراهم محمدا وأصحابه، قال: فأومأت إليه، يعنى أن أسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم. قال: لعله. ثم سكت. فمكثت قليلا ثم قمت فدخلت بيتى، ثم أمرت بفرسى فقيد لى إلى بطن الوادى وبسلاحى فأخرج لى من دبر حجرتى، ثم أخذت قداحى التى أستقسم بها، ثم انطلقت فلبست لامتى، ثم أخرجت قداحى، فاستقسمت بها فخرج السهم الذى أكره: لا يضره. وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة، فركبت على أثره، فبينا فرسى يشتد بى عثر بى فسقطت عنه، فقلت: ما هذا؟! ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها

_ - الترجمة رقم (1955) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 210) ، تقريب التهذيب (1/ 284) ، تهذيب التهذيب (3/ 456) ، تهذيب الكمال (1/ 466) ، شذرات الذهب (1/ 35) ، الأعلام (3/ 80) ، الأنساب (7/ 116) ، العقد الثمين (4/ 523) . (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 246، 5/ 4) ، صحيح مسلم (2310) ، مسند الإمام أحمد (1/ 2، 3) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 328) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 478، 485) ، امجمع الزوائد للهيثمى (6/ 52) ، شرح السنة للبغوى (13/ 369) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 239) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 8) . (2) انظر: السيرة (2/ 96- 97) .

فخرج السهم الذى أكره: لا يضره. فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت فى أثره، فبينا فرسى يشتد بى عثر بى فرسى وذهبت يداه فى الأرض وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعها دخان كالإعصار، فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع منى وأنه ظاهر، فناديت القوم: أنا سراقة بن جعشم، انظرونى أكلمكم، فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم منى شىء تكرهونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر رضى الله عنه: «قل له: ما تبتغى؟» قال: تكتبوا لى كتابا يكون آية بينى وبينك. قال: «اكتب يا أبا بكر» . فكتب لى كتابا فى عظم أو فى رقعة أو فى خرقة ثم ألقاه إلى، فأخذته فجعلته فى كنانتى، ثم رجعت فلم أذكر شيئا مما كان، حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرغ من حنين والطائف خرجت ومعى الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت فى كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعوننى بالرماح ويقولون: إليك إليك ماذا تريد؟، فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، والله لكأنى أنظر إلى ساقه فى غرزه كأنها جمارة، فرفعت يدى بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابك لى، أنا سراقة بن جعشم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم وفاء وبر ادن. فدنوت فأسلمت. ثم تذكرت شيئا أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فما أذكره، إلا أنى قلت: يا رسول الله الضالة من الإبل تغشى حياضى وقد ملأتها لإبلى، هل لى من أجر فى أن أسقيها؟ قال: «نعم، فى كل ذات كبد حرى أجر» «1» . ثم رجعت إلى قومى فسقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقتى. وفى حديث آخر عن غير ابن إسحاق أن سراقة بن مالك بن جعشم هذا كان شاعرا مجيدا، وأنه قال يخاطب أبا جهل بن هشام بعد انصرافه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادى إذ تسوخ قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه عليك بكف القوم عنه فإننى ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه بأمر يود الناس فيه بأسرهم ... بأن جميع الناس طرا يسالمه وذكر ابن إسحاق من رواية يونس بن بكير عنه شعرا نسبه إلى أبى بكر الصديق

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 175) ، سنن ابن ماجه (3686) ، مستدرك الحاكم (3/ 619) ، مسند الحميدى (902) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 131) ، وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات.

رضى الله عنه يذكر فيه مسيره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصة الغار وأمر سراقة، وهو: قال النبى ولم يجزع يوقرنى ... ونحن فى سدفة من ظلمة الغار لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ... وقد توكل لى منه بإظهار وإنما كيد من تخشى بوادره ... كيد الشياطين كادته لكفار والله مهلكهم طرا بما كسبوا ... وجاعل المنتهى منهم إلى النار وأنت مرتحل عنهم وتاركهم ... إما غدوا وإما مدلج سارى وهاجر أرضهم حتى يكون لنا ... قوم عليهم ذوو عز وأنصار حتى إذا الليل وارتنا جوانبه ... وسد دون الذى نخشى بأستار سار الأريقط يهدينا وأنيقه ... ينعين بالقرم نعيا تحت أكوار يعسفن عرض الثنايا بعد أطولها ... وكل سهب رقاق الترب موار حتى إذا قلت قد أنجدن عارضها ... من مدلج فارس فى منصب وار يردى به مشرف الأقطار معتزم ... كالسيد ذى اللبدة المستأسد الضارى فقال كروا فقلنا إن كرتنا ... من دونها لك نصر الخالق البارى إن يخسف الأرض بالأحوى وفارسه ... فانظر إلى أربع فى الأرض غوار فهيل لما رأى أرساغ مقربه ... قد سخن فى الأرض لم تحفر بمحفار فقال هل لكم أن تطلقوا فرسى ... وتأخذوا موثقى فى نصح أسرار وأصرف الحى عنكم إن لقيتهم ... وأن أعور منهم عين عوار فادع الذى هو عنكم كف عدوتنا ... يطلق جوادى وأنتم خير أبرار فقال قولا رسول الله مبتهلا ... يا رب إن كان منه غير إخفار فنجه سالما من شر دعوتنا ... ومهر مطلقا من كلم آثار فأظهر الله إذ يدعو حوافره ... وفاز فارسه من هول أخطار وسراقة بن مالك هذا الذى أظهر الله فيه هذا العلم العظيم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قد أظهر الله فيه أثرا آخر من الآثار الشاهدة له عليه السلام بأن الله أطلعه من الغيب فى حياته ما ظهر مصداقه بعد وفاته. روى سفيان بن عيينة، عن أبى موسى، عن الحسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك: «كيف بك إذا لبست سوارى كسرى؟!» «1» قال: فلما أتى عمر رضى الله عنه، بسوارى كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة بن مالك فألبسه إياهما.

_ (1) انظر الحديث فى: إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 18) ، كشفا الخفاء للعجلونى (1/ 674) .

وكان سراقة رجلا أزب كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك فقل: الله أكبر! الحمد لله الذى سلبهما كسرى بن هرمز الذى كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيا من بنى مدلج!! ورفع بها عمر رضى الله عنه، صوته. قال ابن إسحاق «1» : وذكر إسنادا رفعه إلى أسماء بنت أبى بكر، قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر ماله كله، خمسة آلاف أو ستة، فدخل علينا جدى أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إنى لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. فقلت: يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا. فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوة كان أبى يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه ثم قال: لا بأس إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفى هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكنى أردت أن أسكن الشيخ بذلك «2» . وذكر ابن إسحاق الطريق التى سلك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبى بكر الصديق رضى الله عنه دليلهما عبد الله بن أريقط، والمناقل التى سار بهما عليهما إلى أن قدم بهما قباء على بنى عمرو بن عوف لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين، حين اشتد الضحى وكادت الشمس تعتدل «3» . وقال غير ابن إسحاق: قدمها لثمان خلون من ربيع الأول. وقال ابن الكلبى: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول، ووصل المدينة يوم الجمعة لاثنتى عشرة منه. فالله تعالى أعلم. وذكر ابن إسحاق «4» : من حديث عبد الرحمن بن [عويم] «5» بن ساعدة، قال: حدثنى رجال من قومى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة توكفنا قدومه، فكنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظره، فو الله

_ (1) انظر: السيرة (2/ 95- 96) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 350) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 59) . (3) انظر: السيرة (2/ 98- 99) . (4) انظر: السيرة (2/ 100) . (5) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «عويمر» ، والتصحيح من السيرة والاستيعاب. وانظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1456) ، الإصابة الترجمة رقم (6244) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3372) ، التاريخ الكبير (5/ 325) .

ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك فى أيام حارة. حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أول من رآه رجل من يهود وقد رأى ما كنا نصنع وأنا ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فصرخ بأعلى صوته: يا بنى قيلة هذا جدكم قد جاء. فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى ظل نخلة ومعه أبو بكر فى مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وركبه الناس، وما يعرفونه من أبى بكر حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك «1» . قال ابن إسحاق «2» : فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون على كلثوم بن هدم «3» ، أخى بنى عمرو بن عوف. ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة. ويقول من يذكر نزوله على كلثوم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من منزل كلثوم جلس للناس فى بيت سعد بن خيثمة، لأنه كان عزبا لا أهل له، فمن هناك يقال: نزل عليه. وكان يقال لبيت سعد: بيت العزاب، لأنه كان منزل المهاجرين منهم. فالله أعلم أى ذلك كان «4» . ونزل أبو بكر الصديق رضى الله عنه، على خبيب بن إساف «5» ، أحد بنى الحارث ابن الخزرج بالسنج، ويقال: على خارجة بن زيد بن أبى زهير «6» منهم.

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب مناقب الأنصار (7/ 281، 282) ، طبقات ابن سعد (1/ 233) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 498، 499) ، شرح السنة للبغوى (7/ 109) . (2) انظر: السيرة (2/ 100) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2237) ، الإصابة الترجمة رقم (7459) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4494) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 149) ، تاريخ خليفة (55) ، الاستبصار (293) . (4) ذكره الطبرى فى تاريخه (1/ 571) ، ابن كثير فى السيرة (2/ 270) ، ابن سعد فى الطبقات (1/ 233) . (5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (651) ، الإصابة الترجمة رقم (2224) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1413) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 156) ، الاستبصار (186) ، تبصير المنتبه (3/ 927) ، الطبقات الكبرى (8/ 360) . (6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (608) ، الإصابة الترجمة رقم (2140) ، أسد الغابة-

وأقام على بن أبى طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل معه. فكان على رضى الله عنه، وإنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين، يقول: كانت بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها، فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه. قال: فاستربت شأنه، فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الذى يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدرى ما هو، وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف، قد عرف أنى امرأة لا أحد لى، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءنى بها فقال: احتطبى بهذا! فكان على رضى الله عنه، يأثر ذلك فى أمر سهل بن حنيف، حين هلك عنده بالعراق «1» . قال ابن إسحاق «2» : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء فى بنى عمرو بن عوف يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم «3» ، ثم أخرجه الله تعالى، من بين أظهرهم يوم الجمعة. وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك، فالله أعلم. فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة فى بنى سالم بن عوف فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى، وادى رانوناء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة «4» . فأتاه عتبان بن مالك «5» ، وعباس بن عبادة بن نضلة «6» ، فى رجال من بنى سالم، فقالوا: يا رسول الله، صلى الله عليك، أقم عندنا فى العدد والعدة والمنعة. قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة لناقته، فخلوا سبيلها» .

_ - الترجمة رقم (1330) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 147) ، سير أعلام النبلاء (4/ 437، 446) ، روضات الجنات (3، 275) ، الاستبصار (1/ 115) ، الثقات (3/ 111) . (1) ذكره الصالحى فى السيرة الشامية (3/ 379) ، ابن سيد الناس فى عيون الأثر (1/ 312) . (2) انظر: السيرة (2/ 102) . (3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب مناقب الأنصار (3932) . (4) ذكره الطبرى فى تاريخه (2/ 7) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 213، 214) . (5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2042) ، الإصابة الترجمة رقم (5412) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3541) . (6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب (1385) ، الإصابة الترجمة رقم (2525) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2798) .

فانطلقت حتى إذا وازنت دار بنى بياسة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو، فى رجال من بنى بياضة، فقالوا: يا رسول الله، هلم إليها إلى العدد والعدة والمنعة. «قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها» . حتى إذا مرت بدار بنى ساعدة اعترضاه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو فى رجال منهم، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة، قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بنى الحارث بن الخزرج اعترضاه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد بن أبى زهير، وعبد الله بن رواحة فى رجال من بلحارث، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة. قال: خلو سبيلها فإنها مأمورة. فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا مرت بدار بنى عدى بن النجار وهم أخواله دنيا أم عبد المطلب، سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم، اعترضاه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن أبى خارجة، فى رجال منهم، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخواله دنيا أم عبد المطلب، سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم، اعترضاه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن أبى خارجة، فى رجال منهم، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمنعة. قال. «خلوا سبيلها» ، حتى إذا أتت دار بنى مالك بن النجار بركت على باب مسجده، وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بنى مالك بن النجار، فى حجر معاذ بن عفراء، فلما بركت ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليها لم ينزل وثبت، فسارت غير بعيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتمل أبو أيوب رحله فوضعه فى بيته. ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بنى مسجده ومساكنه، وسأل عن المربد لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابنى عمرو، وهما يتيما له وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدا، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يا بنى، وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب المسلمين فى العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا «1» . فقال قائل من المسلمين: لئن قعدنا والنبى يعمل ... لذاك منا العمل المضلل وحدث «2» أبو أيوب قال: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيتى نزل فى السفل وأنا

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب مناقب الأنصار (3906) ، صحيح مسلم كتاب الجهاد (3/ 129) ، مسند الإمام أحمد (2/ 381) ، سنن أبى داود حديث رقم (453) . سنن ابن ماجه (742) . (2) انظر: السيرة (2/ 106- 107) .

وأم أيوب فى العلو، فقلت له: يا نبى الله بأبى أنت وأمى! إنى لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتى، فاظهر أنت فكن فى العلو وننزل نحن فنكون فى السفل. فقال: «يا أبا أيوب، إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن تكون فى سفل البيت» «1» . فلقد انكسر حب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء، تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شىء فيؤذيه. فكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه، نبتغى بذلك البركة، حتى بعثنا إليه بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر ليده فيه أثرا، فجئته فزعا فقلت: يا رسول الله، بأبى أنت وأمى رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك، وكنت إذا رددته علينا تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغى بذلك البركة. قال: إنى وجدت فيه ريح هذه الشجرة وأنا رجل أناجى، فأما أنتما فكلوه. فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد «2» . قال ابن إسحاق «3» : وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس، ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أهل دور مسمون، بنو مظعون من بنى جمح، وبنو جحش ابن رئاب، حلفاء بنى أمية، وبنو البكير من بنى سعد بن ليث، حلفاء بنى عدى بن كعب، فإن دورهم غلقت بمكة هجرة، ليس فيها ساكن. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة، بنى له فيها مسجده ومساكنه. قال: وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، نعوذ بالله أن نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، أيها الناس، فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولى فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 415) ، صحيح مسلم كتاب الفتن (3/ 171) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 201) ، مستدرك الحاكم (3/ 460) ، ورواه أبو بكر بن أبى شيبة وابن أبى عاصم كما فى الإصابة (1/ 405) . (3) انظر: السيرة (2/ 107) .

يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» «1» . قال ابن إسحاق «2» : ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى فقال: «إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله فى قلبه، وأدخله فى الإسلام بعد الكفر، فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا ما أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفى، فقد سماه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث ومن كل ما أوتى الناس الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، والسلام عليكم» «3» . قال ابن إسحاق «4» : وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم «5» .

_ (1) انظر ذكر أول خطبة للنبى صلى الله عليه وسلم فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 65) ، تاريخ الطبرى (2/ 394) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 213) . (2) انظر: السيرة (2/ 109) . (3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 214) . (4) انظر: السيرة (2/ 109) . (5) ذكر ابن هشام فى السيرة نص ما اشتراطه النبى صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار، فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبى صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون الأولى، كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على رعبتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم- - الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف فى فداء أو عقل «وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا فى كافر، ولا ينصر كافر على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن فى قتال فى سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا، وإن المؤمنين يبىء بعضهم على بعض بما نال دماءهم فى سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة، فإنه قود به إلا أن يرضى ولى المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما فى هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغصبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شىء، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته، وإن اليهود بنى النجار مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى ساعدة مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى جشم مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى الأوس مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى ثعلبة مثل ما ليهود بنى عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبنى الشطيبة مثل ما ليهود بنى عوف، وإن البر دون الإثم، وإن موالى ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لا ينحجز على ثار جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى-

وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل: تآخوا فى الله أخوين أخوين. ثم أخذ بيد على بن أبى طالب فقال: هذا أخى. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين الذى ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلى بن أبى طالب أخوين. ثم سمى ابن إسحاق نفرا ممن آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه تركنا ذكرهم اختصارا «1» . قال: وهلك فى تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة، والمسجد يا بنى، أخذته الذبحة أو الشهقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس الميت أبو أمامة ليهود ولمنافقى العرب، يقولون: لو كان نبيا لم يمت صاحبه! ولا أملك لنفسى ولا لصاحبى من الله شيئا» «2» . ولما مات أبو أمامة اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو أمامة نقيبهم، فقالوا: يا رسول الله، إن هذا كان منا حيث قد علمت، فاجعل منا رجلا مكانه يقيم فى أمرنا ما كان يقيم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم أخوالى وأنا أولى بكم، فأنا نقيبكم» «3» . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض. فكان من فضل بنى النجار الذى يعدون على قومهم أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبهم.

_ - الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه وتلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب فى الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذى قبلهم، وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة» . قال ابن هشام: ويقال: مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة. قال ابن إسحاق: «وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما فى هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم» . انظر: السيرة (2/ 109- 112) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 224، 225) ، (1) انظر السيرة (2/ 113- 116) . (2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (3492) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 98) ، مستدرك الحاكم (4/ 214) . (3) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 186) ، طبقات ابن سعد (3/ 611) .

قال ابن إسحاق «1» : فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع أمر الأنصار، استحكم أمر الإسلام فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام وتبوأ الإسلام بين أظهرهم، وكان هذا الحى من الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع إليه الناس للصلاة فى حين مواقيتها بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل بوقا كبوق يهود الذى يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة. فبيناهم على ذلك رأى عبد الله بن زيد أخو بلحارث بن الخزرج النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، إنه طاف فى هذه الليلة طائف، مر بى رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا فى يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعوا به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حى على الصلاة، حى على الصلاة، حى على الفلاح، حى على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك» . فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو فى بيته، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبى الله والذى بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذى رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلله الحمد» «2» . وذكر ابن هشام «3» عن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب بينا هو يريد أن يشترى خشبتين للناقوس عندما ائتمر به النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ رأى فى المنام أن لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا بالصلاة، فذهب عمر إلى النبى صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذى رأى، فما راعه إلا

_ (1) انظر: السيرة (2/ 117) . (2) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (499) ، مسند الإمام أحمد (4/ 43) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 391) ، سنن الدارمى (1187) ، سنن الترمذى (189) ، سنن الدارقطنى (1/ 241) ، تلخيص الحبير لابن حجر (2/ 208) ، البخارى فى خلق أفعال العباد (ص 48) ، الإرواء للألبانى (1/ 265) . (3) انظر: السيرة (2/ 118) .

بلال يؤذن، وقد جاء النبى صلى الله عليه وسلم الوحى بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره: «سبقك بذلك الوحى» «1» . قال ابن إسحاق «2» : فلما اطمأنت برسول الله صلى الله عليه وسلم داره وأظهر الله بها دينه وسره بما جمع من المهاجرين والأنصار من أهل ولايته. قال أبو قيس صرمة بن أبى أنس «3» ، أخو بنى عدى بن النجار، يذكر ما أكرمهم الله تبارك وتعالى، به من الإسلام، وما خصهم به من نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم: ثوى فى قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا ويعرض فى أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوى ولم ير داعيا فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسرورا بطيبة راضيا وألفى صديقا واطمأنت به النوى ... وكان له عونا من الله [هاديا] * يقص لنا ما قال نوح لقومه ... وما قال موسى إذ أجاب المناديا فأصبح لا يخشى من الناس واحدا ... قريبا ولا يخشى من الناس نائيا بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا ونعلم أن الله لا شىء غيره ... ونعلم أن الله أفضل هاديا نعادى الذى عادى من الناس كلهم ... جميعا وإن كان الحبيب المصافيا أقول إذا أدعوك فى كل بيعة ... تباركت قد أكثرت لاسمك داعيا أقول إذا جاوزت أرضا مخوفة ... حنانيك لا تظهر على الأعاديا فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة ... وإنك لا تبقى لنفسك باقيا فو الله ما يدرى الفتى كيف يتقى ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا ولا تجعل النخل المقيمة ربها ... إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا وكان أبو قيس هذا رجلا قد ترهب فى الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض من النساء وهم بالنصرانية، ثم أمسك عنها، ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه طامث ولا جنب، وقال: أعبد رب

_ (1) انظر الحديث فى: مصنف عبد الرازق (1/ 456) . (2) انظر: السيرة (2/ 119) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1244) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2501) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 264) ، الأعلام (30/ 203) ، تبصرة المنتبه (3/ 998) . (*) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل وورد فى السيرة «باديا» .

قصة صلح إيلياء وقدوم عمر رضى الله عنه الشام

إبراهيم. حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير، وكان قوالا بالحق معظما لله فى جاهليته يقول فى ذلك أشعارا حسانا، هو الذى يقول «1» : يقول أبو قيس وأصبح غاديا ... ألا ما استطعتم من وصاتى فافعلوا أوصيكم بالله والبر والتقى ... وأعراضكم والبر بالله أول وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم ... وإن كنتم أهل الرياسة فاعدلوا وإن نزلت إحدى الدواهى بقومكم ... فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا وإن ناب غرم فادح فارفقوهم ... وما حملوكم فى الملمات فاحملوا وإن أنتم أمعرتم فتعففرا ... وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا «2» وقال أبو قيس أيضا «3» : سبحوا الله شرق كل صباح ... طلعت شمسه وكل هلال عالم السر والبيان لدينا ... ليس ما قال ربنا بضلال وله الطير تستدير وتأوى ... فى وكور من آمنات الجبال وله الوحش بالفلاة تراها ... فى حقاف وفى ظلال الرمال وله هودت يهود ودانت ... كل دين إذا ذكرت عضال وله شمس النصارى وقاموا ... كل عيد لديهم واحتفال وله الراهب الحبيس تراه ... رهن بؤس وكان ناعم بال يا بنى الأرحام لا تقطعوها ... وصلوها قصيرة من طوال واتقوا الله فى ضعاف اليتامى ... ربما يستحل غير الحلال واعلموا أن لليتيم وليا ... عالما يهتدى بغير السؤال ثم مال اليتيم لا تأكلوه ... إن مال اليتيم يرعاه والى يا بنى النجوم لا تخزلوها ... إن خزل النجوم ذو عقال يا بنى الأيام لا تأمنوها ... واحذروا مكرها ومر الليالى واعلموا أن أمرها لنفاد ال ... خلق ما كان من جديد وبالى واجمعوا أمركم على البر والتق ... وى وترك الخنا وأخذ الحلال

_ (1) انظر الأبيات فى: السيرة (2/ 119) . (2) أمعرتم: قال السهيلى: معناها افتقرتم، وقيل أمعر: أى افتقر وفنى زاده كمعر تمعيرا، وأمعرت الأرض: لم يكن فيها نبات أو قل ماؤها. (3) انظر الأبيات فى: السيرة (2/ 120) .

قال ابن إسحاق «1» : ونصب عند ذلك أحبار يهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة بغيا وحسدا وضغنا لما خص الله به العرب من أخذه رسوله منهم. وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج، ممن كان عسى على جاهليته فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه، فظهروا بالإسلام واتخذوه جنة من القتل، ونافقوا فى السر فكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبى صلى الله عليه وسلم وجحودهم الإسلام. وكانت أحبار يهودهم الذين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل، إلا ما كان من عبد الله بن سلام ومخيريق فكان القرآن ينزل فيما يسألون عنه إلا قليلا من المسائل فى الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها. وكان من حديث عبد الله بن سلام «2» وإسلامه، وكان حبرا عالما، قال: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذى كنا نتوكف له، فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم المدينة، فلما نزل بقباء فى بنى عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا فى رأس نخلة لى أعمل فيها، وعمتى خالدة بنت الحارث تحتى جالسة، لما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لى عمتى حين سمعت تكبيرتى: خيبك الله! لو كنت سمعت موسى بن عمران قادما ما زدت!. فقلت لها: أى عمة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به. فقالت: أى ابن أخى، أهو النبى الذى كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ فقلت لها: نعم. فقالت: فذاك إذا، قال: ثم رحت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ثم رجعت إلى أهلى فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامى من يهود. ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن يهود قوم بهت، وإنى أحب أن تدخلنى فى بعض بيوتك وتغيا بنى عنهم، ثم تسألهم عنى حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامى، فإنهم إن علموا به بهتونى وعابونى.

_ (1) انظر: السيرة (2/ 122) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1579) ، الإصابة الترجمة رقم (4743) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2986) ، شذرات الذهب (1/ 40، 53) ، تهذيب التهذيب (5/ 249) ، تقريب التهذيب (1/ 422) ، خلاصة تذهيب (2/ 64) ، الوافى بالوفيات (17/ 198) ، الأعلام (4/ 90) ، الثقات (3/ 228) ، الرياض المستطابة (193) .

قال: فأدخلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض بيوته، ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم: أى رجل الحصين بن سلام فيكم؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا. فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة باسمه وصفته، فإنى أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأومن به وأصدقه وأعرفه. قالوا: كذبت. ثم وقعوا بى! فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أخبرك يا نبى الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؟! قال: فأظهرت إسلامى وإسلام أهل بيتى، وأسلمت عمتى خالدة فحسن إسلامها «1» . قال ابن إسحاق «2» : وكان من حديث مخيريق، وكان حبرا عالما غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد فى علمه، وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم فأموالى لمحمد يصنع فيها ما أراه الله. فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فعامة صدقاته بالمدينة منها. وكان صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى يقول: «مخيريق خير يهود» «3» . قال «4» : وحدثنى عبد الله بن أبى بكر، قال: حدثت عن صفية ابنة حيى أنها قالت: كنت أحب ولد أبى إليه وإلى عمى أبى ياسر، لم ألقهما مع ولد لهما إلا أخذانى دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدا عليه أبى وعمى مغلسين، فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما التفت إلى واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمى أبا ياسر وهو يقول لأبى: أهو هو؟ قال: نعم والله.

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب الأنبياء (3329) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 530، 531) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 211) . (2) انظر: السيرة (2/ 126) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 237، 4/ 36) ، طبقات ابن سعد (1/ 502) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 334) . (4) انظر: السيرة (2/ 126- 127) .

قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما فى نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت «1» . وكان هذان الأخوان الشقيان من أشد يهود للعرب حسدا لما خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا جاهدين فى رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله عز وجل فيهما: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 109] . ومر شأس بن قيس، وكان شيخا قد [عمى] «2» عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج فى مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذى كان بينهم من العداوة فى الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بنى قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر شابا من يهود كان معه فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث وما كان فيه وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس، وكان عليها يومئذ حضير أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضى فقاتلا جميعا. ففعل الشاب ما أمره به شأس، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب وهما أوس بن قيظى وجبار بن صخر فتاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة. وغضب الفريقان جميعا وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة وهى الحرة، السلاح السلاح. فخرجوا إليها، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الحاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم. فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوههم فبكوا وعانق الرجال من

_ (1) ذكره ابن سيد الناس فى عيون الأثر (1/ 335) . (2) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل وورد فى السيرة «عسا» ، وعسا: أى اشتد وقوى، يريد أنه تمكن فى كفره فصعب إخراجه منه. انظر: السيرة (2/ 162) .

الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، وقد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس. فأنزل الله تبارك وتعالى، فى شأن شأس وما صنع: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران: 99] «1» . وأنزل الله فى أوس بن قيظى وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 100، 103] . قال «2» : وحدثت عن سعيد بن جبير أنه قال: أتى رهط من يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمد، هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه، فجاءه جبريل فسكنه فقال: خفض عليك يا محمد، وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. فلما تلاها عليهم قالوا: فصف لنا يا محمد كيف خلقه؟ كيف ذراعة؟ كيف عضده؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول وساورهم، فأتاه جبريل فقال له مثل ما قال أول مرة، وجاءه من الله تبارك وتعالى بجواب ما سألوه عنه، يقول الله جل وعلا: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] «3» .

_ (1) ذكره الطبرى فى تفسيره (4/ 16) . (2) انظر: السيرة (2/ 178) . (3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب التفسير (4/ 19) ، صحيح البخارى (4811) ، تفسير ابن جرير (1/ 378) .

ودخل أبو بكر الصديق رضى الله عنه، بيت المدراس على يهود، فوجد منهم ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم يقال له: أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص: ويلك يا فنحاص؟ اتق الله وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة والإنجيل. فقال فنحاص لأبى بكر: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغنى، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا! فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال: والذى نفسى بيده لولا العهد الذى بيننا وبينك لضربت رأسك أى عدو الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، انظر ما صنع بى صاحبك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولا عظيما، إنه زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله عز وجل، فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبى بكر: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [آل عمران: 181] » . ونزل فى أبى بكر وما بلغه فى ذلك من الغضب: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186] . وكان ممن انضاف إلى يهود من المنافقين من الأوس والخزرج فيما ذكروا والله أعلم «2» : من الأوس: جلاس بن سويد بن الصامت من بنى حبيب بن عمرو بن عوف، وهو القائل، وكان ممن تخلف عن غزوة تبوك: لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر.

_ (1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (4/ 129) ، تفسير ابن كثير (2/ 153) . (2) انظر: السيرة (2/ 127- 130) .

وكان فى حجره عمير بن سعد، خلف جلاس على أمه بعد أبيه، فقال له عمير: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلىّ، وأحسنه عندى وأعزهم علىّ أن يصيبه شىء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لفضحنك، ولئن صمت عليها ليهلكن دينى، ولإحداهما أيسر على من الأخرى. ثم مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال جلاس، فحلف جلاس لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالله لقد كذب على عمير وما قلت ما قال. فأنزل الله فيه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة: 74] «1» . فزعموا أنه تاب فحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير. وأخوه الحارث بن سويد، قتل المجذر بن زياد البلوى. وذلك أن المجذر فيما ذكر ابن هشام، قتل أباه سويد بن الصامت بعض الحروب إذ كانت بين الأوس والخزرج، فلما كان يوم أحد طلب الحارث غرة المجذر ليقتله بأبيه، فقتله. وذكر ابن إسحاق «2» أن سويدا إنما قتله معاذ بن عفراء غيلة فى غير حرب، رماه بسهم فقتله قبل يوم بعاث. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون قد أمر عمر بن الخطاب بقتل الحارث إن هو ظفر به ففاته فكان بمكة، ثم بعث إلى أخيه جلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه. فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 86] . إلى آخر القصة. ونبتل بن الحارث من بنى ضبيعة بن زيد بن مالك، وهو القائل: إنما محمد أذن، من حدثه شيئا صدقه. فأنزل الله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 61] «3» .

_ (1) ذكره الطبرى فى تفسيره (10/ 127) ، ابن كثير فى تفسيره (4/ 120) . (2) انظر: السيرة (2/ 129) . (3) انظر الحديث فى: أسباب النزول للواحدى (ص 206) ، الشوكانى فى فتح القدير (2/ 529) .

وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر: «من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل ابن الحارث» «1» ، وكان جسميا أدلم ثائر شعر الرأس أحمر العينين. وذكر أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه يجلس إليك رجل أدلم «2» ثائر شعر الرأس أسفع الخدين «3» أحمر العينين كأنهما قدران من صفر كبده أغلظ من كبد الحمار، ينقل حديثك إلى المنافقين، فاحذره. وكان تلك صفة نبتل بن الحارث فيما يذكرون. وعمرو بن خذام، وعبد الله بن نبتل، وحارثة بن عامر بن العطاف وابناه زيد ومجمع وهم ممن اتخذ مسجد الضرار. وكان مجمع، غلاما حدثا قد جمع من القرآن أكثره، وكان يصلى بهم فيه، فلما كان زمان عمر بن الخطاب كلم فى مجمع ليصلى بقومه بنى عمرو بن عوف فى مسجدهم، فقال: لا، أو ليس بإمام المنافقين فى مسجد الضرار!. فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، والله الذى لا إله إلا هو ما علمت بشىء من أمرهم، ولكنى كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا لا قرآن معهم، فقدمونى أصلى بهم وما أرى أمرهم إلا على أحسن ما ذكروا. فزعموا أن عمر رضى الله عنه، تركه فصلى بقومه «4» . ومن الخزرج، ثم من بنى عوف: عبد الله بن أبى بن سلول، وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون. وهو الذى قال فى غزوة بنى المصطلق: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وسيأتى ذكر ذلك مستوفى وبيان سببه عند الانتهاء إلى غزوة بنى المصطلق، إن شاء الله تعالى. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أبى هذا، لا يختلف عليه فى شرفه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين، حتى جاء الإسلام، ومعه فى الأوس رجل، هو فى قومه من الأوس شريف مطاع، أبو عامر عبد عمرو بن صيفى بن النعمان أحد بنى ضبيعة بن زيد، وهو أبو حنظلة الغسيل يوم أحد، وكان قد ترهب ولبس المسوح، فكان يقال له الراهب، فشقيا بشرفهما!. أما عبد الله بن أبى فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ويملكوه عليهم، فجاءهم

_ (1) انظر: الحديث فى: البداية والنهاية (3/ 238) . (2) أدلم: الرجل الأدلم: الطويل الأسود، ويقال: هو المسترخى الشفتين. (3) أسفع الخدين: أسفع من السفعة وهى حمرة تضرب إلى السواد. (4) انظر: السيرة (2/ 131) .

الله تبارك وتعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن «1» . وحدث أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار عليه ألحاف فوقه قطيفة فركبه فخطمه «2» بحبل من ليف وأردفنى خلفه، فمر بعبد الله بن أبى وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تذمم أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلم ثم جلس فتلا القرآن ودعا إلى الله وذكر به وحذر وبشر وأنذر، وعبد الله زام لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا، فاجلس فى بيتك فمن جاءك فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغشه به ولا تأته فى مجلسه بما يكره. فقال عبد الله بن رواحة فى رجال كانوا عنده من المسلمين: بل فاغشنا به وائتنا فى مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله ما نحب ومما أكرمنا الله به وهدانا له. فقال عبد الله حين رأى من خلاف قومه ما رأى: متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل ... تذل ويصرعك الذين تصارع وهل ينهض البازى بغير جناحه ... وإن جد يوما ريشه فهو واقع «3» قال: وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على سعد بن عبادة وفى وجهه ما قال عدو الله ابن أبى، فقال: والله يا رسول الله، إنى لأرى فى وجهك شيئا: لكأنك سمعت شيئا تكرهه؟ قال: «أجل» . ثم أخبره بما قال ابن أبى. فقال سعد: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا!. وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فقال: ما هذا الدين الذى جئت به؟ قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم» . قال: فأنا عليها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لست عليها» . قال: إنك أدخلت يا محمد فى الحنيفية ما ليس منها. قال: «ما فعلت ولكنى جئت بها بيضاء نقية» . قال: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا، يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) انظر: السيرة (2/ 189- 190) . (2) الاختطام: أن يجعل على رأس الدابة وأنفها حبل يمسك منه الراكب. (3) انظر الأبيات فى: السيرة (191- 192) .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل، فمن كذب يفعل الله ذلك به» «1» . فكان هو ذلك عدو الله، خرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا مفارقا للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا: الراهب، ولكن قولوا الفاسق» «2» . فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها طريدا غريبا وحيدا!. قال ابن إسحاق «3» : وكان ممن تعوذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق من أحبار يهود، من بنى قينقاع: سعد بن حنيف، ونعمان بن أوفى، وعثمان بن أوفى، وزيد بن اللصيت، وهو الذى قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودل على ناقته وجاءه الخبر بما قال عدو الله فى رحله: «إن قائلا قال: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته، وإنى والله ما أعلم إلا ما علمنى الله، وقد دلنى الله عليها فهى فى هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها» . فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما وصف «4» . وكان هؤلاء المنافقون المسلمون وغيرهم ممن لم يسم يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم. فاجتمع يوما فى المسجد منهم ناس فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضى أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا. فقام أبو أيوب خالد بن زيد إلى عمرو بن قيس أحد بنى غنم بن مالك بن النجار، وكان صاحب آلهتهم فى الجاهلية، فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه من المسجد، وهو يقول: أتخرجنى يا أبا أيوب من مربد بنى ثعلبة!. ثم أقبل أبو أيوب أيضا، إلى رافع بن وديعة أحد بنى النجار فلببه بردائه ثم نتره نترا شديدا ثم لطم وجهه وأخرجه من المسجد وهو يقول: أف لك منافقا خبيثا، أدراجك يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) انظر الحديث فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 184) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 351) . (2) انظر الحديث فى: عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 351) . (3) انظر: السيرة (2/ 135) . (4) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 232) .

وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو، وكان طويل اللحية، فأخذ بلحيته فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد، ثم جمع عمارة يديه فلدمه بهما فى صدره لدمة خر منها. قال: يقول: خدشتنى يا عمارة! قال: أبعدك الله يا منافق، فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام أبو محمد، رجل من بنى النجار، وكان بدريا، إلى قيس بن عمرو فجعل يدفع فى قفاه حتى أخرجه من المسجد. وكان قيس غلاما شابا لا يعلم فى المنافقين شاب غيره. وقام رجل من بلحارث يقال له: عبد الله بن الحارث إلى رجل يقال له: الحارث بن عمرو وكان ذا جمة فأخذ بجمته يسحبه عنيفا على ما مر به من الأرض حتى أخرجه من المسجد. قال: يقول المنافق: لقد أغلظت يا ابن الحارث. فقال له: إنك أهل لذلك يا عدو الله لما أنزل الله فيك، فلا تقرب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك نجس. وقام رجل من بنى عمرو بن عوف إلى أخي ذوى بن الحارث فأخرجه من المسجد إخراجا عنيفا وأفف منه «1» وقال: غلب عليك الشيطان وأمره. فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ، من المنافقين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهم «2» . ففى هؤلاء من أحبار يهود والمنافقين من الأوس والخزرج نزل صدر سورة البقرة إلى المائة منها، فيما بلغنى والله أعلم. وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وفد نصارى نجران، ستون راكبا، فدخلوا عليه المسجد حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية، فى جمال رجال بنى الحارث بن كعب، يقول بعض من رآهم يومئذ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم. وحانت صلاتهم فقاموا يصلون فى المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فصلوا إلى المشرق، وكان فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، فى الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم الذى لا يصدرون

_ (1) أقف منه: أى قال له أف، وهى كلمة تقال لكل ما يتقل ويضجر منه. (2) انظر: السيرة (2/ 137) .

إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بنى بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم وكان أبو حارثة هذا قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه فى دينهم، فكان ملوكهم قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده فى دينهم «1» . فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له موجها [إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] «2» وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة، ويقال كوز بن علقمة، فعثرت بغلة أبى حارثة فقال كوز: تعس الأبعد. يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست: قال: ولم يا أخى؟ قال: والله إنه للنبى الذى كنا ننتظره. فقال له كوز: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟! قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك، فهو كان يحدث عنه هذا الحديث «3» . وكان أبو حارثة هذا ممن كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والعاقب والسيد، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم فى عيسى عليه السلام، يقولون: هو الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ويقولون: هو ولد الله كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله، إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض. سبحان الله عما يصفون، عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون. ويقولون: هو ثالث ثلاثة. وما من إله إلا إله واحد. ففى كل هذا من قولهم قد نزل القرآن مدحضا حججهم ومبطلا دعاويهم، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل. قال الله العظيم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [المائدة: 72] .

_ (1) انظر: السيرة (2/ 180) . (2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وما أوردناه من السيرة. (3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 382، 383) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 59) ، طبقات ابن سعد (1/ 357) .

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة: 72، 75] . وقال عز من قائل: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 30، 31] . ولما كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإسلام، فقال له حبران ممن كلمه منهم: قد أسلمنا. فقال لهما: «إنكما لم تسلما فأسلما» . فقالا: بلى قد أسلمنا قبلك. فقال: «كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير» . قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجيبهما «1» . فأنزل الله فى ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. فافتتح السورة بتنزيه نفسه سبحانه مما قالوا، وتوحيده إياها بالخلق والأمر، ردا عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد ليعرفهم بذلك ضلالتهم. فقال جل قوله وتعالى جده: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 1، 6] . ثم استمر سبحانه فيما شاء من التبيان لهم والإعذار إليهم والاحتجاج عليهم، وإرشاد عباده المؤمنين إلى سبيل الضراعة إليه بأن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم، وأن يهب لهم من لدنه رحمة، وما وصل بذلك من قوله الحق وذكره الحكيم.

_ (1) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 699) ، تفسير ابن كثير (2/ 41) ، فتح القدير للشوكانى (1/ 466) .

ثم استقبل لهم أمر عيسى وكيف كان بدء ما أراد به، فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ثم ذكر امرأة عمران ونذرها لله ما فى بطنها محررا، أى تعبده له سبحانه لا ينتفع به لشىء من الدنيا، ثم ما كان من وضعها مريم وتعويذها إياها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم. يقول الله تبارك وتعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أى ضمها وقام عليها بعد أبيها وأمها. ثم قص خبرها وخبر زكريا وما دعا به وما أعطاه، إذ وهب له يحيى، ثم ذكر مريم وقول الملائكة لها: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ . يقول الله جل وعز: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ أى يستهمون عليها، أيهم يخرج سهمه يكفلها. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ أى ما كنت معهم إذ يختصمون فيها. يخبره بخفى ما كتموا منه من العلم، تحقيقا لنبوته وإقامة للحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه. ثم قال تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ. أى هكذا كان أمره لا ما يقولون فيه، وإن هذه حالاته التى يتقلب بها فى عمره كتقلب بنى آدم فى أعمارهم صغارا وكبارا، إلا أن الله خصه بالكلام فى مهده آية لنبوته، وتعريفا للعباد مواقع قدرته. قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ. أى يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر. ويصور فى الأرحام ما يشاء وكيف يشاء بذكر وبغير ذكر. إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. ثم أخبرها بما يريد به من كرامته وتعليمه الكتاب والحكمة والتوراة المنزلة على موسى قبله والإنجيل المنزل عليه، وجعله رسولا إلى بنى إسرائيل، مؤيدا من الايات بما

هو صادر عن إذنه موقوف على مشيئته تحقيقا لما أراد من نبوته، كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وغير ذلك مما أيده الله به من العجائب المصدقة له، وأمره إياهم بتقوى الله وطاعته وقوله لهم: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ تبريا من الذى يقولون فيه واحتجاجا لربه عليهم. فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أى هذا الهدى قد حملتكم عليه وجئتكم به. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ إلى آخر قولهم. ثم ذكر رفعه إياه إليه حين اجتمعوا لقتله، فقال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. ثم أخبرهم ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصلبه، كيف رفعه وطهره منهم فقال: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثم القصة حتى انتهى إلى قوله: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. أى قد جاءك الحق من ربك فلا ترتابن به ولا تمترين فيه، وإن قالوا: كيف خلق عيسى من غير ذكر فقد خلقت آدم من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كان عيسى لحما ودما وشعرا وبشرا، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أى من بعد ما قصصت عليك من خبره وكيفية أمره فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ. نبتهل: ندعو باللعنة، ونبتهل أيضا، نجتهد بالدعاء. إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ أى ما أخبرتك به من أمر عيسى وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. فدعاهم الله إلى النصف وقطع عنهم الحجة. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عز وجل، فى شأن عيسى وفصل القضاء بينه وبينهم بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر فى أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه.

فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: «والله، يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمدا لنبى مرسل، ولقد جاءكم من خبر صاحبكم بالحق، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم» . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع إلى ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا فى أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضى. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتونى العشية أبعث معكم القوى الأمين» . فكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يقول: ما أحببت الإمارة قط حبى إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجرا، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه ويساره فجعلت أتطاول له ليرانى، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة ابن الجراح، فدعاه فقال: أخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة «1» . ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهى أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم حتى جهدوا فما كانوا يصلون إلا وهم قعود، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم صلوات الله عليه، وهم يصلون كذلك، فقال لهم: «اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» . فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل! «2» . وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه، ممن أصابته الحمى، وكذلك مولياه عامر بن فهيرة وبلال، قالت عائشة: فدخلت أعودهم قبل أن يضرب علينا الحجاب وهم فى بيت واحد وبهم ما لا يعلمه إلا الله من الوعك، فدنوت من أبى بكر فقلت له: كيف

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب المغازى (4380) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (4/ 55) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين (1/ 120) ، سنن النسائى (1658) ، سنن أبى داود (950) ، سنن ابن ماجه (1229، 1230، 1231) ، مسند الإمام أحمد (2/ 193، 3/ 425، 6/ 61، 71) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 224) ، فتح البارى لابن حجر (2/ 682) .

شروع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حرب المشركين وذكر مغازيه التى أعز الله بها الإيمان والمؤمنين

كل امرىء مصبح فى أهله ... والموت أدنى من شراك نعله فقلت: والله ما يدرى أبى ما يقول، ثم دنوت إلى عامر فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال: لقد وجدت الموت دون ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه كل امرىء مجاهد بطوقه ... كالثور يحمى جلده بروقه قالت: وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته وقال: ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بواد وحولى إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لى شامة وطفيل قالت عائشة: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب لنا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا فى مدها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة» «1» ، وهى الجحفة. شروع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حرب المشركين وذكر مغازيه التى أعز الله بها الإيمان والمؤمنين قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لحربه وقام فيما أمره الله تبارك وتعالى به من جهاد عدوه وقتال من أمره الله بقتاله ممن يليه من مشركى العرب. وخرج غازيا فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة. حتى بلغ ودّان وهى غزوة الأبواء «2» ، يريد قريشا وبنى ضمرة من بكر بن عبد مناة ابن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الذى وادعه منهم عليهم مخشىّ بن عمرو الضمرى، وكان سيدهم فى زمانه ذلك.

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب مناقب الأنصار (3926) ، صحيح مسلم كتاب الحج (2/ 480) ، مسند الإمام أحمد (5/ 309) ، السنن الكبرى للبيهقى (3/ 332) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (2/ 226) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 569) ، موطأ الإمام مالك (2/ 14) . (2) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 11، 12) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 3، 4) ، تاريخ الطبرى (2/ 407) ، البداية والنهاية (3/ 246) .

ذكر ما وعدنا به قبل من سياقة فتح قيسارية حيث ذكرها أصحاب فتوح الشام خلافا لما أوردناه قبل ذلك عن سيف بن عمر، مما لا يوافق هذا مساقا ولا زمانا، حسب ما يوقف عليه فى الموضعين إن شاء الله تعالى

ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا، فأقام بها. وبعث فى مقامه ذلك عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصى «1» فى ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد. فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرّة، فلقى بها جمعا عظيما من قريش، فلم يكن بينهم قتال، إلّا أن سعد بن أبى وقاص قد رمى يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمى به فى سبيل الله. وقال سعد فى رميته تلك فيما يذكرون: ألا هل أتى رسول الله أنى ... حميت صحابتى بصدور نبلى أذود بها أوائلهم ذيادا ... بكل حزونة وبكل سهل فما يعتد رام فى عدوّ ... بسهم يا رسول الله قبلى فى أبيات ذكرها ابن إسحاق، وذكر ابن هشام أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لسعد. ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حامية. وفرّ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهرانى «2» وعتبة بن غزوان «3» ، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار. ويقال: إن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال فى غزوة عبيدة هذه:

_ (1) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 312) ، الاستبصار (158، 301) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 369) ، الأعلام (4/ 198) ، سير أعلام النبلاء (1/ 256) ، الإصابة ترجمة رقم (5391) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3534) . (2) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (3/ 1/ 144) ، طبقات خليفة (61، 67، 168) ، التاريخ الكبير (8/ 54) ، التاريخ الصغير (60، 61) ، المعارف (263) ، الجرح والتعديل (8/ 426) ، حلية الأولياء (1/ 172، 176) ، تهذيب التهذيب (10/ 285) ، شذرات الذهب (1/ 39) ، الإصابة ترجمة رقم (8201) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5076) . (3) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (3/ 1/ 69) ، التاريخ الكبير (6/ 520، 521) ، المعارف (275) ، الجرح والتعديل (6/ 373) ، حلية الأولياء (1/ 171، 172) ، تهذيب التهذيب (7/ 100) ، شذرات الذهب (1/ 27) ، سير أعلام النبلاء (1/ 304) ، الإصابة ترجمة رقم (5427) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3556) .

أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ... أرقيت وأمر فى العشيرة حادث «1» ترى من لؤى فرقة لا يصدها ... عن الكفر تذكير ولا بعث باعث رسول أتاهم صادق فتكذبوا ... عليه وقالوا لست فينا بماكث إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا ... وهروّا هرير المحجرات اللواهث «2» فكم قد متتنا فيهم بقرابة ... وترك التقى شىء لهم غير كارث فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم ... فما طيبات الحلّ مثل الخبائث وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم ... فليس عذاب الله عنهم بلابث ونحن أناس من ذؤابة غالب ... لنا العز منها فى الفروع الأثائث فأولى بربّ الراقصات عشية ... حراجيج تجرى فى السريح الرّثائث كأدم ظباء حول مكة عكف ... بردن حياض البئر ذات النّبائث لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم ... ولست إذا آليت قولا بحانث لتبتدرنهم غارة ذات مصدق ... تحرم أطهار النساء الطوامث وكانت راية عبيدة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الإسلام. وبعض العلماء يزعم أنه بعثه حين أقبل من غزوة الإبواء قبل أن يصلى إلى المدينة، وأنه بعث فى مقامه بالمدينة حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر من ناحية العيص فى ثلاثين راكبا من المهاجرين، فلقى أبا جهل بذلك الساحل فى ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجز مجدى بن عمرو الجهنى، وكان موادعا للفريقين. فانصرف بعض القوم عن بعض، ولم يك بينهم قتال. وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا، فشبه ذلك على الناس. وقد زعموا أن حمزة قال فى ذلك شعرا يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن كان حمزة قال ذلك فقد صدق إن شاء الله، لم يكن يقول إلا حقّا، فالله أعلم أى ذلك كان.

_ (1) الدمائث: أى الرمال اللينة. (2) هروا: أى وثبوا كما تثب الكلاب. والمجحرات: أى الكلاب التى اجحرت، أى لجئت إلى مواضعها.

فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا: فعبيدة بن الحارث أول من عقد له. والشعر المنسوب لحمزة رضى الله عنه: ألا يا لقومى للتحكم والجهل ... وللنقص من رأى الرجال وللعقل وللراكبينا بالمظالم لم نطأ ... لهم حرمات من سوام ولا أهل «1» كأنا تبلناهم ولا تبل عندنا ... لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل» وأمر بإسلام فلا يقبلونه ... وينزل منهم مثل منزلة الهزل فما برحوا حتى انتدبت بغارة ... لهم حيث حلوا ابتغى راحة الفضل بأمر رسول الله أول خافق ... عليه لواء لم يكن لاح من قبل لواء لديه النصر من ذى كرامة ... إله عزيز فعله أفضل الفعل عشية ساروا حاشدين وكلنا ... مراجله من غيظ أصحابه تغلى فلما تراءينا أناخوا فعقلوا ... مطايا وعقلنا مدى غرض النبل فعلنا لهم حبل الإله نصيرنا ... وليس لكم إلا الضلالة من حبل فثار أبو جهل هنالك باغيا ... فخاب ورد الله كيد أبى جهل وما نحن إلا فى ثلاثين راكبا ... وهم مئتان بعد واحدة فضل فيال لؤى لا تطيعوا غواتكم ... وفيئوا إلى الإسلام والمنهج السهل «3» فإنى أخاف أن يصب عليكم ... عذاب فتدعوا بالندامة والثّكل ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ربيع الأول يريد قريشا حتى بلغ بواط «4» من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا. ثم غزاهم فسلك على نقب بنى دينار على فيفاء الحبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها، فثمّ مسجده صلى الله عليه وسلم، وصنع له عندها طعام فأكل منه وأكل الناس معه، فموضع أثافى البرمة معلوم هنالك، واستقى له من ماء يقال له: المشرب المشترب. ثم ارتحل حتى هبط بليل، ثم سلك فرش ملل حتى لقى الطريق بصحيرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع، فأقام بها جمادى الأولى وليالى من

_ (1) السوام: أى الإبل الراعية، وقيل: هى المرسلة فى المرعى. (2) تبلناهم: أى عاديناهم. (3) فيئوا: أى ارجعوا. والمنهج: أى الطريق الواضح. (4) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 8) ، البداية والنهاية (3/ 246) .

جمادى الآخرة. ووادع فيها بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا. وبعث سرية فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبى وقاص فى ثمانية رهط من المهاجرين، فبلغ الخرّار من أرض الحجاز، ثم رجع ولم يلق كيدا. ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة «1» إلا ليالى قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر الفهرى «2» على سرح المدينة. فخرج صلى الله عليه وسلم فى طلبه حتى بلغ واديا يقال له: سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يدركه. وهى غزوة بدر الأولى. ثم رجع إلى المدينة. وبعث عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدى «3» فى رجب مقفلة من تلك الغزاة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وسعد بن أبى وقاص، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمى، وخالد بن البكير، وسهيل بن بيضاء. وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضى لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا. فلما سار عبد الله يومين فتح الكتاب فإذا فيه: «إذا نظرت فى كتابى هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم» . فقال عبد الله: سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضى إلى نخلة أرصد فيها قريشا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهانى أن أستكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها، فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمضى ومضى معه أصحابه، لم يختلف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز حتى إذا

_ (1) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 12، 13) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 4، 5) ، تاريخ الطبرى (2/ 408) ، البداية والنهاية (3/ 246) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7409) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4449) . (3) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 237) ، صفوة الصفوة (1/ 385) ، حلية الأولياء (1/ 108، 109) ، شذرات الذهب (1/ 54) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 302) ، تهذيب التهذيب (5/ 143) ، الجرح والتعديل (5/ 22، 101) .

ذكر فتح مصر

كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بحران أضل سعد بن أبى وقاص وعتبه بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا فى طلبه. ومضى عبد الله فى بقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا، وأدما، وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو بن الحضرمى، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومى وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم، وتشاور القوم فيهم، وذلك فى آخر يوم من رجب، فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمنعن منكم به، ولئن قتلتوهم لتقتلنهم فى الشهر الحرام. فتردد القوم وهابوا ثم شجعوا أنفسهم وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمى بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم، وأفلت القوم نوفل فأعجزهم. وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وعزل عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس تلك الغنيمة وقسم سائرها بين أصحابه، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم فلما أحل الله الفىء بعد ذلك وأمر بقسمه وفرض الخمس فيه، وقع على ما كان عبد الله صنع فى تلك العير. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام» «1» . فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط فى أيدى القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال. فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا فى شعبان. وقالت يهود، تفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمى قتله واقد بن عبد

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 249) .

الله: عمرو: عمرت الحرب، والحضرمى: حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب: فجعل الله تبارك وتعالى ذلك عليهم لا لهم. فلما أكثر الناس فى ذلك، أنزل الله على رسوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 217] . أى إن كنتم قتلتم فى الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم، والفتنة أكبر من القتل، أى قد كانوا يفتنون المسلم فى دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشّفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت قريش فى فدائهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، حتى يقدم صاحبانا، يعنى سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم» . فقدم سعد وعتبة، فأفدى الأسيرين عند ذلك منهم. فأما الحكم فأسلم فحسن أسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد يوم بئر معونة، وأما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا. فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن طمعوا فى الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 218] ، فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء. وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه فى تلك الغزوة أبياتا، ويقال بل عبد الله بن جحش، قالها حين قالت قريش: قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدم وأخذوا المال وأسروا الرجال: تعدون قتلا فى الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد

غزوة بدر الكبرى

وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى فى البيت الله ساجد فإنا وإن عيرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمى رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد دما وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازعه غلّ من القيد عاقد غزوة بدر الكبرى «1» قال ابن إسحاق «2» : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبى سفيان بن حرب مقبلا من الشام فى عير لقريش عظيمة. فندب المسلمين إليهم، وقال: «هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها» «3» . فانتدب الناس، فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار، ويسأل من لقى من الرّكبان، تخوفا، حتى أصاب من بعضهم خبرا باستنفار رسول الله صلى الله عليه وسلم له ولعيره، فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفارى، فبعثه إلى مكة ليخبر قريشا بذلك، ويستنفرهم إلى أموالهم، فخرج ضمضم سريعا. وكانت عاتكة بنت عبد المطلب «4» قد رأت قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث رؤيا أفزعتها، فقالت لأخيها العباس: يا أخى، والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد أفظعتنى وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عنى ما أحدثك، فقال لها: وما رأيت؟.

_ (1) ذكرها ابن الجوزى فى المنتظم (3/ 97) ، الواقدى فى المغازى (1/ 19) ، ابن سعد فى الطبقات (2/ 1/ 6 ط الشعب) ، الطبرى فى تاريخه (2/ 421) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 256) ، ابن الأثير فى الكامل فى التاريخ (2/ 14) . (2) انظر السيرة (2/ 211) . (3) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 6) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 168) ، تفسير ابن كثير (3/ 557) ، تفسير القرطبى (7/ 373) ، تفسير الطبرى (9/ 122) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 256) . (4) انظر ترجمتها فى: طبقات ابن سعد (8/ 43) ، المعارف (118) ، الإصابة ترجمة رقم (11455) ، أسد الغابة ترجمة رقم (7088) .

قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته: ألا أنفروا يالغدر لمصارعكم فى ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبيناهم حوله، مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها، ألا أنفروا يالغدر إلى مصارعكم فى ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبى قبيس «1» فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقى بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة. قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد. ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقا، فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل فى رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآنى قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا. فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال لى أبو جهل يا بنى عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النّبيئة؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: الرؤيا التى رأت عاتكة، فقلت: وما رأت؟. قال يا بنى عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم؟ قال: زعمت عاتكة فى رؤياها أنه قال: انفروا فى ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقّا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شىء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت فى العرب. قال العباس: فو الله، ما كان منى إليه كبير، إلا أنى جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأيت شيئا، ثم تفرقنا. فلما أمسيت لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب إلا أتتنى، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع فى رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة بشىء مما سمعت؟ فقلت: قد والله فعلت، وما كنا منى إليه من كبير، وإيم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفيكنّه. قال: فغدوت فى اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب، أرى أنه قد فاتنى

_ (1) أبو قبيس: جبل مشرف على مكة من شرقيها. انظر: معجم البلدان (1/ 80) .

أمر أحب أن أدركه منه، فدخلت المسجد فرأيته، وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر، فو الله، إنى لأمشى نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال، فأقع به، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد، فقلت فى نفسى: ماله، لعنة الله؟! أكل هذا فرقا منى أن أشاتمه! وإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو [الغفارى] وهو يصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره قد جدعه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث. قال: فشغلنى عنه، وشغله عنى ما جاء من الأمر. فتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمى؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا. وأو عبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد، إلا أن أبا لهب تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة. وكانت عليه لأبى لهب أربعة آلاف درهم، فاستأجره بها على أن يجزىء عنه بعثة. وأجمع أمية بن خلف القعود- وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا- فأتاه عقبة بن أبى معيط وهو جالس فى المسجد بين ظهرى قومه بمجمرة فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا على، استجمر فإنما أنت من النساء! فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به. ثم تجهز وخرج مع الناس. ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير ذكروا حربا كانت بينهم وبين بنى بكر ابن عبد مناة بن كنانة، وقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، فكاد ذلك يثبتهم، فتبدى لهم إبليس فى صورة سراقة بن جعشم المدلجى، وكان من أشراف بنى كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشىء تكرهونه. فخرجوا سراعا. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ليال مضت من شهر رمضان فى أصحابه، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار «1» ، وكان أبيض، وكان أمام

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8020) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4936) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان، إحداهما مع على بن أبى طالب- رضى الله عنه- والأخرى مع بعض الأنصار، وجعل على الساقة قيس بن أبى صعصعة أخا بنى مازن بن النجار، وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ فيما قال ابن هشام. فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقة من المدينة إلى مكة حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو «1» ، وعدى بن أبى الزغباء «2» الجهينيين إلى بدر يتجسسان له الأخبار عن أبى سفيان وغيره. فمضيا حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، فسمعا جاريتين من جوارى الحاضر تتلازما على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما ترد العير غدا أو بعده فأعمل لهم ثم أقضيك. فقال مجدى بن عمرو، وكان على الماء: صدقت، ثم خلص بينهما. فلما سمع بذلك عدى وبسبس، انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه. ثم تقدم أبو سفيان العير حذرا حتى ورد الماء، فقال لمجدى: هل أحسست أحدا؟ قال: لا، إلا أنى قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا فى شن لهما، ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب! فأسرع إلى اصحابه فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها، وترك بدرا بيساره. ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى واديا يقال له: «ذفران» ، فجزع فيه، ثم نزل. وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فأخبر الناس واستشارهم. فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون» ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (810) ، أسد الغابة ترجمة رقم (405) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 48) ، معرفة الصحابة (3/ 175) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (5498) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3613) ، الثقات (3/ 316) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 377) .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا على» «1» . وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم إلى عدو، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: «أجل» «2» ، قال: فقد آمنا بك وصدقناك؛ وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذاى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بناعدونا غدا، إنا لصبر فى الحرب صدق عند اللقاء لعل يريك منا ما تقربه عينك، فسر بنا على بركة الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال: «سيروا وأبشروا فإن الله تبارك وتعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن انظر إلى مصارع القوم» «3» . ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من «ذفران» «4» حتى نزل قريبا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه، قيل: هو أبو بكر الصديق، حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا اخبر كما حتى تخبرانى ممن أنتما؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أخبرتنا أخبرناك» . قال: أو ذاك بذاك، قال: «نعم» ، قال الشيخ: فإنى بلغنى أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذى أخبرنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغنى أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذى أخبرنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذى به قريش. فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن من ماء» «5» . ثم انصرف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 356) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 377، 381) . (2) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (5233) ، مسند الإمام أحمد (1/ 255، 284، 3/ 438، 5/ 286، 372، 381) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 205) ، كنز العمال للمتقى الهندى (31379) . (3) انظر الحديث فى: تفسير ابن كثير (3/ 72) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 336) . (4) ذفران: واد قرب واد الصفراء والذفر كل ريح من طيب أو نتن. انظر: معجم البلدان (3/ 6) . (5) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 264) .

قال: يقول الشيخ: ما من ماء! أمن ماء العراق؟ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث على بن أبى طالب والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص فى نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه، فأصابوا راوية لقريش فيهما غلامان لبعضهم، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبى سفيان، فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبى سفيان، فتركوهما. وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه، ثم سلم وقال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما! صدقا والله، إنهما لقريش، أخبرانى عن قريش. فقالا: هم وراء هذا الكثيب الذى ترى» . قال: «كم القوم؟» قالا: كثير. قال: «ما عدتهم؟» قالا: ما ندرى. قال: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يوما تسعا ويوما عشرا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة والألف» «1» . ثم قال لهما: «من فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البخترى بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدى، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية ابن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» «2» . وأقبلت قريش؛ فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال: إنى أرى فيما يرى النائم، وإنى لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وابو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف وفلان، فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب فى لبة بعيره ثم أرسله فى العسكر فيما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه.

_ (1) انظر الحديث فى: تفسير ابن كثير (2/ 13، 4/ 11) ، تفسير الطبرى (3/ 131) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 166) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 277، 278) ، تاريخ الطبرى (2/ 28) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 75، 76) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 42) .

فبلغت أبا جهل فقال: وهذا- أيضا- نبى آخر من بنى المطلب! سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا. قال: ولما رأى أبو سفيان قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها اله، فارجعوا. قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، وكان موسما للعرب لهم به سوق كل عام، فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا. وقال الأخنس بن شريق الثقفى: يا بنى زهرة، وكان حليفا لهم: قد نجى الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوه بن جنبها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا فى غير ضيعة، لا ما يقول هذا. فرجعوا فلم يشهدها زهرى واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا. ولم يكن بقى من قريش بطن إلا قد نفر منهم ناس إلا بنو عدى بن كعب، لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس، فلم يشهد بدرا من هذين القبيلين أحد. وكان بين طالب بن أبى طالب وكان فى القوم، وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله لقد عرفنا يا بنى هاشم وإن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمد. فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، وقال: لا هم إما يغزون طالب ... فى عصبة مخالفا محارب فى مقنب من هذه المقانب ... فليكن المسلوب غير السالب وليكن المغلوب غير الغالب ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادى خلف العقنقل والقلب ببدر فى العدوة الدنيا إلى المدينة. وبعث الله- عز وجل- السماء، وكان الوادى دهسا، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاؤا أدنى ماء من بدر نزلوا به.

فذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصارى قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتاخر عنه؟ أم هو الرأى والجرب والمكيدة؟ فقال: «بل هو الرأى والحرب والمكيدة» . قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأنى أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبنى عليه حوضا فنملأه ماء ثم نتقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأى» «1» . فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فساروا حتى إذا اتى ماء إلى القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه فملىء ماء ثم قذفوا فيه الآنية. وقال سعد بن معاذ: يا نبى الله، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبى الله ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله- عز وجل- بهم يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه خيرا ودعا له بخير، ثم بنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش فكان فيه. وارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من الكثيب الذى جاؤا منه، قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى به، اللهم أحنهم الغداة» «2» . وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفارى أو أبوه بعث إلى قريش حين مروا به ابنا له بجزائر أهداها لهم، وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. فأجابوه: أن وصلتك رحم، قد قضيت الذى عليك، فلعمرى لئن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد ما لأحد بالله من طاقة! فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش فيهم حكيم بن حزام حتى وردوا حوض رسول

_ (1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (4/ 426، 427) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (3/ 58) ، مسند الإمام أحمد (208، 221) ، تاريخ الطبرى (2/ 30) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 268) .

الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «دعوهم» . فما شرب منه يومئذ رجل إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد فى يمينه قال: لا، والذى نجانى من يوم بدر «1» . ولما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد. فدار بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصونه، ولكن أمهلونى حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد، وضرب فى الوادى حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم. فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى فى الناس فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر، قال: وما ذلك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى. قال: قد فعلت، أنت على بذلك إنما هو حليفى فعلى عقله وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية- يعنى أبا جهل- فإنى لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر فى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد، وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذى أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم، ولم تعرضوا منه ما تريدون. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عتبة فى القوم على جمل له أحمر فقال: «إن يك عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا» «2» . قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد نثل درعا له من جرابها فهو يهيئها، فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلنى إليك بكذا وكذا، للذى قال. فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا

_ (1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 298) ، الطبرى فى تاريخه (2/ 30) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 117) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 75، 76) .

وبين محمد وما بعتبة ما قال: ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه، فقد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمى، فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينيك، فقم فانشد خفرتك، ومقتل أخيك. فقام عامر بن الحضرمى فاكتشف ثم صرخ: واعمراه، واعمراه! فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأى الذى دعاهم إليه عتبة. فلما بلغ عتبة قول أبى جهل: انتفخ والله سحره، قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو؟! ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها فى رأسه فما وجد فى الجيش بيضة تسعة من عظم هامته، فلما ذلك اعتجر على رأسه ببرد له. وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومى وكان رجلا شرسا سيىء الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فضربه فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد. زعم أن يبر يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله فى الحوض. ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين اخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة حتى إذا نصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة، وهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء، وعبد الله بن رواحة. فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة وقم يا علىّ» «1» . فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم، فقال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال على: على. قالوا: نعم، أكفاء كرام. فبارز عبيدة، وكان أسن القوم، عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علىّ الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله. وأما علىّ فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة

_ (1) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (2665) ، من حديث على بن أبى طالب رضى الله عنه.

وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلىّ بأسيافهما على عتبة فذففا عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه. وذكر ابن عقبة، أنه لما طلب القوم المبارزة فقام إليهم ثلاثة نفر من الأنصار، استحيا النبى صلى الله عليه وسلم من ذلك لأنه كان أول قتال التقى فيه المسلمون والمشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد معهم، فأحب النبى صلى الله عليه وسلم أن تكون الشوكة ببنى عمه، فناداهم أن ارجعوا إلى مصافكم، وليقم إليهم بنو عمهم. فعند ذلك قام حمزة وعلىّ وعبيدة. ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: «إن أكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل» «1» . ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى العريش معه أبو بكر الصديق، وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحد، أحد. وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم- يومئذ- صفوف أصحابه وفى يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية- حليف بنى عدى بن النجار- وهو مستنثل من الصف- أى بارز- فطعن فى بطنة بالقدح وقال: «استو يا سواد» . فقال: يا رسول الله أو جعتنى، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدنى. فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: «استقد» ، فاعتنقه فقبل بطنه، فقال له: «ما حملك على هذا يا سواد؟» «2» قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك، فدعا له بخير، وقاله له. ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش، فدخله ومعه فيه أبو بكر، ليس معه فيه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد» . وأبو بكر يقول: يا نبى الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك. وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو فى العريش، ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله! هذا جبريل آخذا بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع» «3» . يريد الغبار. ورمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المسلمين.

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (3984، 3985) ، سنن أبى داود (2663) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 271) ، تاريخ الطبرى (2/ 32) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 284) .

ثم رمى حارثة بن سراقة- أحد بنى عدى بن النجار- وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فقتله. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم، ثم قال: «والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» «1» . فقال عمير بن الحمام، أخو بنى سلمة وفى يده تمرات يأكلهن: بخ بخ! أفما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء! ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل. وقال- يومئذ- عوف بن الحارث وهو ابن عفراء: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ فقال: «غمسه يده فى العدو حاسرا» «2» فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل. وقاتل عكاشة بن محصن الأسدى حليف بنى عبد شمس يوم بدر بسيفه حتى انقطع فى يده، فاتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا من حطب، فقال: «قاتل بهذا يا عكاشة» » ، فلما أخذه هذه فعاد فى يده سيفا طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل فى الردة وهو عنده، قتله طليحة الأسدى. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال: «شاهت الوجوه» «4» ، ثم نفحهم بها، ثم أمر أصحابه فقال: «شدوا» ، فكانت الهزيمة عليهم.

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الإمارة (3/ 145) ، مسند الإمام أحمد (3/ 136، 137) ، مستدرك الحاكم (3/ 426) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 271) . (3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 98، 99) ، المغازى للواقدى (1/ 93) . (4) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب الجهاد باب (28) رقم (81) ، مسند الإمام أحمد (1/ 303، 368، 5/ 286) ، مستدرك الحاكم (1/ 163، 3/ 157) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 84، 184، 8/ 4، 228) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 141، 6/ 240) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 169، 8/ 32) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 174، 224، 226، 345) ، كنز العمال للمتقى الهندى (3697، 29924، 29925، 30213، 30204) ، تفسير ابن كثير (3/ 571، 586، 4/ 69) ، تفسير القرطبى (8/ 98، 16، 263) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 284) .

وجعل الله تلك الحصباء عظيما شانها، لم تترك من المشركين رجلا إلا ملأت عينيه. واستولى عليهم المسلمون معهم الله وملائكته يقتلونهم ويأسرونهم ويجدون النفر كل رجل منهم منكبّ على وجهه لا يدرى أين يتوجه، يعالج التراب ينزعه من عينيه. فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم. فلما وضع القوم أيديهم يأسرون وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشح السيف فى نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم خوف كرة العدو عليه، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال له: «لكأنك والله يا سعد تكره ما يصنع القوم؟» «1» فقال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان فى القتل أحب إلى من استقبال الرجال. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لأصحابه: «إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله، ومن لقى أبا البخترى بن هشام فلا يقتله، ومن لقى العباس عم رسول الله فلا يقتله، فإنه إنما خرج مستكرها» . فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس! والله لئن وجدته لألحمنه السيف. فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر بن الخطاب: «يا أبا حفص» . قال عمر: والله، إنه لأول يوم كنانى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى حفص. «أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟» «2» فقال عمر: يا رسول الله، دعنى فلأضرب عنقه بالسيف، فو الله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عنى الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا رحمه الله. وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبى البخترى لأنه كان أكف القوم عنه بمكة، وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شىء يكرهه، وكان ممن قام فى نقض الصحيفة التى كتبت قريش على بنى هاشم وبنى المطلب. فلقيه المجذر بن زياد البلوى حليف الأنصار- يوم بدر- فقال له: إن رسول الله

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 284) ، تاريخ الطبرى (2/ 34) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 126) . (2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 34) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 398) .

صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك، ومع أبى البخترى زميل له خرج معه من مكة، قال: وزميلى؟ قال المجذر: لا والله ما نحن بتاركى زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك. قال: إذا والله لأموتن أنا وهو جميعا، لا تحدث عنى نساء مكة إنى تركت زميلى حريصا على الحياة، وقال يرتجز: لن يسلم ابن حرة زميله ... حتى يموت أو يرى سبيله ثم اقتتلا فقتله المجذر، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذى بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلنى فقاتلته فقتلته. هذا الذى ذكر ابن إسحاق فى قتل أبى البخترى «1» . وقال موسى بن عقبة: يزعم ناس أن أبا اليسر قتل أبا البخترى ويأبى أعظم الناس إلا أن المجذر هو الذى قتله. ثم أضرب ابن عقبة عن القولين، وقال: بل قتله- غير شك- أبو داود المازنى وسلبه سيفه فكان عند بنيه حتى باعه بعضهم من بعض بنى أبى البخترى. وكان المجذر قد ناشده أن يستأسره، وأخبره بنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله، فأبى أبو البخترى أن يستأسر وشد عليه المجذر بالسيف وطعنه الأنصارى، يعنى أبا داود المازنى، بين ثدييه فأجهز عليه فقتله. ويومئذ قال المجذر فيما ذكروا: إما جهلت أو نسيت نسبى ... فأثبت النسبة أنى من بلى الطاعنين برماح اليزنى ... والضاربين الكبش حتى ينحنى بشر بيتم من أبوه البخترى ... أو بشرن بمثلها منى بنى أنا الذى يقال أصلى من بلى ... أطعن بالصعدة حتى تنثنى وأعبط القرن بعضب مشرفى ... أرزم للموت كإرزام المرى فلا ترى مجذرا يفرى فرى وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه: كان أمية بن خلف لى صديقا بمكة، وكان اسمى عبد عمرو، فلما أسلمت تسميت عبد الرحمن، فكان يلقانى فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبوك؟ فأقول نعم. فيقول: فإنى. لا أعرف الرحمن،

_ (1) انظر السيرة (2/ 233) .

فاجعل بينى وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيا بنى باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. فقلت له: يا أبا علىّ، اجعل ما شئت. قال: فأنت عبد الإله. فقلت: نعم. حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه على آخذ بيده ومعى أدراع لى قد استلبتها فأنا أحملها، فلما رآنى قال: يا عبد عمرو. فلم أجبه فقال: يا عبد الإله. فقلت: نعم. قال: هل لك فىّ فأنا خير لك من هذه الأدراع؟ قلت: نعم. فطرحت الأدراع من يدى وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط! أما لكم حاجة فى اللبن؟ يريد الفداء. وقال عبد الرحمن: قال لى أمية وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما: من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة فى صدره؟ زائده قلت: ذلك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذلك الذى فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن: فو الله، إنى لأقودهما إذ رآه بلال، وكان هو الذى يعذبه بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد. فيقول بلال: أحد أحد. فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجوت، قال: قلت أى بلال أبأسيرى؟! قال: لا نجوت إن نجا. قلت: أتسمع يا ابن السوداء؟ قال: لا نجوت إن نجا. ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. فأحاطوا بنا حتى جعلونا فى مثل المسكة، وأنا اذب عنه، فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنة فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت: انج بنفسك، ولا نجاء به، فو الله ما أغنى عنك شيئا، فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالا، ذهبت أدراعى وفجعنى بأسيرى. وقاتلت الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: ولم تقاتل فى يوم سواه، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون، وكانت سماهم يوم بدر عمائم بيضاء، قد أرسلوها فى ظهروهم، ويوم حنين عمائم حمرا.

وذكر ابن هشام «1» عن على- رضى الله عنه- فى سيماهم يوم بدر مثل ما قال ابن عباس، إلا جبريل، فإن فى حديث على أنه كانت عليه عمامة صفراء. وقال ابن عباس: حدثنى رجل من غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لى حتى أصعدنا فى حيل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان ننظر لمن تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب؛ فبينا نحن فى الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم. فأما ابن عمى فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت. وقال أبو أسيد الساعدى بعد أن ذهب بصره، وكان شهد بدرا: لو كنت اليوم ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشعب الذى خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى. وقال أبو داود المازنى: إنى لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفى، فعرفت أنه قد قتله غيرى. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه أمر بأبى جهل أن يلتمس فى القتلى، وقال لهم: «انظروا إن خفى عليكم فى القتلى إلى أثر جرح فى ركبته، فإنى ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحشت فى إحداهما جحشا لم يزل أثره به» «2» .

_ (1) انظر السيرة (2/ 237) . (2) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم (3/ 115) فى ذكر مقتل أبى جهل قصة أصح من هذا وهى فى صحيح البخارى، فقال: أخبرنا عبد الأول، قا: أخبرنا الداوودى، قال: أخبرنا ابن أعين، قال: أخبرنا الفربرى، قال: حدثنا البخارى، قال: أخبرنا مسدد، قال: حدثنا يوسف بن يعقوب الماجشون، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده عبد الرحمن، أنه قال: بينا أنا واقف فى الصف يوم بدر، فنظرت عن يمينى وعن شمالى، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثه أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضله منهما، فغمزنى أحدهما، فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخى؟ قال: بلغنى أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذى نفسى بيده لئن رأيته لم يفارق سوادى سوداه حتى يموت الأعجل منا، قال: فغمزنى الآخر، فقال لى مثلها، فتعجبت لذلك ثم لم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل يجول فى الناس، فقلت لهما: ألا تريان هذا صاحبكما الذى تسألان عنه، فابتدراه فاستقبلهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟» فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: «مسحتما سيفيكما؟» ، قالا: لا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السيفين، فقال: «كلا كما قتله» ، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.

وكان من حديث عدو الله يوم بدر أنه لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قال: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. فكان هو المستفتح، وأقبل يرتجز وهو يقول: ما تنقم الحرب العوان منى ... بازل عامين حديث سنى لمثل هذا ولدتنى أمى وكان أول من لقيه ذكر معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بنى سلمة، قال: سمعت القوم وأبو جهل فى مثل الحربة يقولون: أبو الحكم لا يخلصن إليه. فلما سمعتها جعلته من شأنى فصمدت نحوه، فلما أمكننى حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقة، فضربنى ابنه عكرمة على عاتقى فطرح يدى فتعلقت بجلدة من جنبى، وأجهضنى القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومى وإنى لأسحبها خلفى، فلما آذتنى وضعت عليها قدمى ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها وعاش بعد ذلك معاذ هذا- رحمه الله- إلى زمان عثمان رضى الله عنه. ثم مر بأبى جهل، وهو عقير، معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل. فمر عبد الله بن مسعود بأبى جهل حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتماسه فى القتلى. قال عبد الله: وقد كان ضبث بى مرة بمكة فآذانى ولكزنى، فوجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلى على عنقه ثم قلت له: أخزاك الله يا عدو الله! قال: وبماذا أخزانى؟ أعمد من رجل قتلتموه، أخبرنى لمن الدائرة اليوم؟ قلت: لله ولرسوله. ثم احتززت رأسه، ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبى جهل. فقال: «آلله الذى لا إله غيره؟» «1» وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نعم، والله الذى لا إله غيره. ثم ألقيت رأسه بين يديه، فحمد الله. وخرج مسلم فى صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف، قال: بينا أنا واقف فى الصف

_ - وقال ابن الجوزى هما: معاذ بن عمرو، ومعاذ بن عفراء. قلت: والحديث أخرجه: البخارى فى صحيحه (6/ 246) ، مسلم فى صحيحه كتاب الجهاد والسير (3/ 42) ، أحمد فى المسند (1/ 193) . (1) انظر الحديث فى: السنن الكبر للبيهقى (9/ 62) ، تاريخ الطبرى (2/ 37) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 288) .

يوم بدر نظرت عن يمينى وشمالى، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثه أسنانهما، فتمنيت لو كنت بين اضلع منهما فغمزنى أحدهما، فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخى؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذى نفسى بيده لئن رأيته لا يفارق سوادى سواده حتى يموت الأعجل منا. قال: فتعجبت لذلك، فغمزنى الآخر فقال مثلها. قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل يجول فى الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذى تسألان عنه. فابتدراه، فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟» فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا، فنظر فى السيفين، فقال: «كلاكما قتله» . وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. والرجلان: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء. وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم بدر على القتلى، فالتمس أبا جهل فلم يجده، حتى عرف ذلك فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم لا يعجزن فرعون هذه الأمة» . فسعى له الرجال حتى وجده عبد الله بن مسعود مصروعا، بينه وبين المعركة غير كبير، مقنعا فى الحديد واضعا سيفه على فخذيه، ليس به جرح ولا يستطيع أن يحرك منه عضوا، وهو مكب ينظر إلى الأرض، فلما رآه ابن مسعود طاف حوله ليقتله وهو خائف أن ينوء إليه، فلما دنا منه وأبصره لا يتحرك ظن أنه مثبت جراحا، فأراد أن يضربه بسيفه، فخاف أن لا يعنى شيئا فأتاه من ورائه، فتناول قائم سيف أبى جهل فاستله وهو مكب لا يتحرك، ثم رفع سابغة البيضة عن قفاه، فضربه فوقع رأسه بين يديه، ثم سلبه، فلما نظر إليه إذا هو ليس به جراح وأبصر فى عنقه حدرا وفى يديه وكتفه مثل آثار السياط. فأتى ابن مسعود النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره بقتله، والذى رأى به، فقال النبى صلى الله عليه وسلم، زعموا: «ذلك ضرب الملائكة» . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا فى القليب فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية ابن خلف، فإنه انتفخ فى درعه فملأها، فذهبوا ليحركوه فتزايل، فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.

ويقال: إنهم ألقوا فى القليب وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أهل القليب، بئس عشيرة النبى كنتم لنبيكم، كذبتمونى وصدقنى الناس، وأخرجتمونى وآوانى الناس، وقاتلتمونى ونصرنى الناس. يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا» . فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوما موتى؟ فقال لهم: «لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق» . قالت عائشة: والناس يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد علموا» «1» . وفى حديث أنس أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نادى أصحاب القليب: يا رسول الله، أتنادى قوما قد جيفوا. فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبونى» «2» . وذكر ابن عقبة نحوا من ذلك عن نافع عن عبد الله بن عمر. وقال حسان بن ثابت: عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحى فى الورق القشيب تداولها الرياح وكل جون ... من الوسمى منهمر سكوب فأمسى رسمها خلقا وأمست ... يبابا بعد ساكنها الحبيب فدع عنك التذكر كل يوم ... ورد حرارة الصدر الكئيب وخبر بالذى لا عيب فيه ... بصدق غير أخبار الكذوب بما صنع المليك غداة بدر ... لنا فى المشركين من النصيب غداة كأن جمعهم حراء ... بدت أركانه جنح الغروب فلا قيناهم منا بجمع ... كأسد الغاب مردان وشيب أمام محمد قد وازروه ... على الأعداء فى لقح الحروب بأيديهم صوارم مرهفات ... وكل مجرب ماضى الكعوب

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 276) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 90، 91) ، مستدرك الحاكم (3/ 224) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 292) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الجنة (4/ 77) ، سنن النسائى (2074) ، مسند الإمام أحمد (2/ 31) .

بنو الأوس الغطارف وآزرتها ... بنو النجار فى الدين الصليب فغادرنا أبا جهل صريعا ... وعتبة قد تركنا بالحبوب وشيبة قد تركنا فى رجال ... ذوى حسب إذا نسبوا حسيب يناديهم رسول الله لما ... قذفناهم كباكب فى القليب ألم تجدوا كلامى كان حقا ... وأمر الله يأخذ بالقلوب فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا ... صدقت وكنت ذا رأى مصيب ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوا فى القليب أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر- فى وجه أبى حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: «يا أبا حذيفة، لعلك دخلك من شأن أبيك شىء؟» «1» أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قال: لا والله يا رسول الله، ما شككت فى أبى ولا فى مصرعه، ولكنى كنت أعرف من أبى رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذى كنت أرجو له، أحزننى ذلك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيرا. وكان فى قريش فتية أسلموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر إلى المدينة حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة، وفتنوهم فافتتنوا، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا به جميعا، فنزل فيهم من القرآن فيما ذكر: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً [النساء: 97] . وأولئك الفتية: الحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلى بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما فى العسكر مما جمع الناس فجمع. فاختلف فيه المسلمون، فقال من جمعه: هو لنا. وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: والله لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم. وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يخالف إليه العدو: والله، ما أنتم بأحق به منا، ولقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا الله أكتافهم، ولقد

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (2/ 294) .

رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو فقمنا دونه، فما أنتم بأحق به منا. فكان عبادة بن الصامت إذا سئل عن الأنفال، قال: فينا معاشر أصحاب بدر أنزلت حين اختلفنا فى النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمه بيننا عن بواء. يقول: على السواء. فكان فى ذلك تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله، وصلاح ذات البين. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية بما فتح الله على رسوله وعلى المسلمين، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر- حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفنى عليها مع زوجها عثمان- أن زيد بن حارثة قد قدم. قال: فجئته وهو واقف بالمصلى وقد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأبو البخترى بن هشام، وأمية ابن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج. قلت: يا أبه أحق هذا؟ قال: نعم والله يا بنى. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة ومعه الأسارى من المشركين، وفيهم عقبة بن أبى معيط والنضر بن الحارث، حتى إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضيق الصفراء، نزل على كثيب يقال له: سير إلى سرحة به، فقسم هنالك النفل الذى أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء. ثم ارتحل حتى إذا كان بالروحاء، لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين، فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش: ما الذى تهنئوننا به؟ فو الله، إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعلقة فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أى ابن أخى؟ أولئك الملأ» «1» . حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء، قتل النضر بن الحارث، قتله على بن أبى طالب- رضى الله عنه- ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية، قتل عقبة بن أبى معيط، فقال عقبة حين أمر بقتله: فمن للصبية يا محمد؟ قال: «النار» «2» .

_ (1) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 38) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 305) . (2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 38) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 89) .

فقتله عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، فى قول ابن عقبة وابن إسحاق. وقال ابن هشام «1» : قتله على بن أبى طالب رضى الله عنه. وقالت قتيلة أخت النضر بن الحارث لما بلغها مقتل أخيها: يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق «2» أبلغ بها ميتا بأن تحية ... ما إن تزال بها النجائب تخفق «3» منى إليك وعبرة مسفوجة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق هل يسمعنى النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق أمحمد يا خير ضنء كريمة ... فى قومها والفحل فحل معرق «4» ما كان ضرك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق أو كنت قابل فدية فلينفقن ... بأعز ما يغلو به ما ينفق فالنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق قال ابن هشام: فيقال، والله أعلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال: «لو بلغنى هذا قبل مقتله لمننت عليه» «5» . ثم مضرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم، وقد كان فرقهم بين أصحابه، وقال: استوصوا بالأسارى خيرا. وكان أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه فى الأسارى، قال: وكنت فى رهط من الأنصار حين أقبلوا بى من بدر، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصونى بالخبز، وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع فى يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحنى بها، قال: فاستحى فأردها عليه فيردها على ما يمسها! قال: ومر بى أخى مصعب ورجل من الأنصار يأسرنى، فقال له: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، فقال له أبو عزيز- فيما ذكر ابن هشام- يا أخى،

_ (1) انظر السيرة (2/ 249) . (2) الأثيل: تصغير أثل، والأثل: هو شجر الطرفاء، ثم سمى به موضع قرب المدينة بين بدر، ووادى الصفراء. ومظنة: موضع لحصول الظن. (3) النجائب: كرام الإبل. تخفق: تسرع. (4) ضن: النسل والولد. المعرق: الكريم الذى يأتى بنسل كرام. (5) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 306) .

هذه وصاتك بى! فقال له مصعب: إنه أخى دونك، فسألت أمه عن أغلى ما فدى به قرشى، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت ففدته بها. وذكر قاسم بن ثابت فى دلائله: أن قريشا لما توجهت إلى بدر مر هاتف من الجن على مكة- فى اليوم الذى أوقع بهم المسلمون- وهو ينشد بأبعد صوت ولا يرى شخصه: أزار الحنيفيون بدرا وقيعة ... سينقض منها ركن كسرى وقيصرا أبادت رجالا من لؤى وأبرزت ... خرائد يضربن الترائب حسرا فيا ويح من أمسى عدو محمد ... لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا فقال قائلهم: من الحنيفيون؟ فقالوا: هو محمد وأصحابه، يزعمون أنهم على دين إبراهيم الحنيف، ثم لم يلبثوا أن جاءهم الخبر اليقين. وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش: الحيسمان بن عبد الله الخزاعى. فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البخترى بن هشام، فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية وهو قاعد فى الحجر: والله إن يعقل هذا، فسلوه عنى. قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو ذاك جالس فى الحجر، وقد والله رأيت اباه وأخاه حين قتلا. وقال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت فأسلم العباس، وأم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، فكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق فى قومه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا فى أنفسنا قوة وعزة، وكنت أعمل الأقداح فى حجرة زمزم، فو الله، إنى لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس إلى طنب الحجرة ظهره إلى ظهرى. فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. فقال أبو لهب: هلم إلى فعندك لعمرى الخبر، فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخى، أخبرنى كيف كان أمر الناس؟ قال: والله، ما هو إلا أن لقينا القوم منحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤا ويأسروننا كيف شاؤا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس،

لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض، واله ما تليق شيئا، ولا يقوم لها شىء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدى ثم قلت: تلك والله الملائكة! فرفع أبو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة، وثاورته فاحتملنى وضرب بى الأرض، ثم برك علىّ يضربنى وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فضربته به ضربة فلقت فى رأسه شجة منكرة. وقالت أتستضعفه أن غاب عنه سيده! فقام موليا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته. وذكر محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه أن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدى أشد العدوى. فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه، وبقى بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السّبّة فى تركه حفروا له ثم دفعوه بعود فى حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد، حتى واروه. وقال ابن إسحاق فى رواية يونس بن بكير عنه: إنهم لم يحفروا له ولكن أسندوه إلى حائط وقذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط، حتى واروه. ويروى أن عائشة- رضى الله عنها- كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها. وخرج البخارى فى صحيحه: أن أبا لهب رآه بعض أهله فى المنام بشرحيبة، أى حالة، فقال: ما لقيت بعدكم راحة، غير أنى سقيت فى مثل هذه- وأشار إلى النقرة بين السبابة والإبهام- بعتقى ثويبة. وثويبة هذه أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وارضعت عمه حمزة وابا سلمة بن عبد الأسد. وروى غير البخارى أن الذى رأى أبا لهب من أهله هو أخوه العباس، وأنه قال: مكثت حولا بعد موت أبى لهب لا أراه فى نوم، ثم رأيته فى شر حال، فقال: ما لقيت بعدكم راحة، إلا أن العذاب يخفف عنى كل يوم اثنين. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، فبشرت أبا لهب بمولده ثوبية مولاته، فقالت له: أشعرت أن آمنة ولدت غلاما لأخيك عبد الله؟ فقال لها: اذهبى فأنت حرة، فنفعه ذلك وهو فى النار، كما نفع أخاه ابا طالب ذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهاده فى منعه ونصرته، فهو أهون أهل النار عذابا.

ويفعل الله ما يشاء مما يطابق سابق تقديره، وقد قضى الله- سبحانه- بإحباط عمل الكافرين، فمحال أن يقيم لهم يوم القيامة وزنا، أو ينالوا عنده بشىء قدموه مما يتصور بصورة الأعمال الصالحة نعيما، إلا أنه ربما جعل التفاوت بين جماهيرهم وبين شاء منهم بمقدار العذاب، فيضاعفه على قوم أضعافا، ويضع من شدائده عن آخرين تخفيفا. وكل عذاب الله شديد، فنعوذ برضا مولانا الكريم من سخطه، وبمعافاته من عقوبته. وحدث محمد بن إسحاق بن يسار عن يحيى بن عباد، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا فى أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه فى الفداء. قال: وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة وعقيل ابناه، والحارث بن زمعة وهو ابن ابنه، وكان يحب أن يبكى عليهم، فسمع نائحة من الليل فقال لغلام له وقد ذهب يصره، انظر هل أحل النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلى ابكى على أبى حكيمة- يعنى زمعة- فإن جوفى قد احترق! فلما رجع إليه الغلام، قال: إنما هى امرأة تبكى على بعير لها أضلته. قال: فذاك حين يقول الأسود: أتبكى أن يضل لها بعير ... ويمنعها من النوم السهود فلا تبكى على بكر ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود فى أبيات ذكرها ابن إسحاق «1» . وقد تقدم دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأسود بن عبد المطلب هذا بأن يعمى الله بصره ويثكله ولده، فاستجيب له وفق دعائه، سبق العمى أولا إلى بصره، ثم أصيب يوم بدر بمن سمى آنفا من ولده، فتمت إجابة الله سبحانه رسوله فيه. وكان فى الأسارى أبو وداعة السهمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاءكم فى طلب فداء أبيه» «2» ، فلما قالت قريش: لا

_ (1) انظر السيرة (2/ 253) . (2) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 90) ، تاريخ الطبرى (2/ 41) .

تعجلوا بفداء أسراكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبى وداعة، وهو الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى، صدقتم لا تعجلوا. وانسل من الليل فقدم المدينة فأخذ اباه بأربعة آلاف درهم. ثم بعثت قريش فى فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص بن الأحتف فى فداء سهيل بن عمرو وكان الذى أسره مالك بن الدخشم أخو بنى سالم بن عوف، فلما قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضاهم قالوا: هات الذى لنا، قال: اجعلوا رجلى مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه. فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزا مكانه عندهم، فقال مكرز: فديت بأذواد ثمان سبا فتى ... ينال الصميم غرمها لا المواليا رهنت يدى والمال أيسر من يدى ... على ولكنى خشيت المخازيا وقلت سهيل خيرنا فاذهبوا به ... لأبنائنا حتى ندير الأمانيا وكان سهيل قد قام فى قريش خطيبا عندما استنفرهم أبو سفيان، فقال: يا لغالب أتاركون أنتم محمدا والصبا من أهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم، من أراد مالا فهذا مالى، ومن أراد قوة فهذه قوة. فيروى أن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسر سهيل يوم بدر: يا رسول الله، انزع ثنتيتى سهيل بن عمرو يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا فى موطن أبدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أمثل به، فيمثل الله بى، وإن كنت نبيا! إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمة» «1» . فصدق الله ورسوله، وكان لسهيل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فى تثبيت أهل مكة على الإيمان مقام سيأتى ذكر حديثه فى موضعه إن شاء الله. وكان عمرو بن أبى سفيان بن حرب أسيرا فى يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسارى بدر، فقيل لأبى سفيان بن حرب: أفد عمرا ابنك. فقال: أيجمع على دمى ومالى، قتلوا حنظلة وأفدى عمرا؛ دعوه فى أيديهم يمسكونه ما بدا لهم!

_ (1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (13395، 13447، 13448) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 310) .

فبينا هو كذلك محبوس بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بنى عمرو بن عوف معتمرا، ومعه مرية له، وكان شيخا مسلما فى غنم له بالبقيع، فخرج من هنالك معتمرا ولا يخشى الذى صنع به، لم يظن أنه يحبس بمكة، إنما جاء معتمرا، وقد كان عهد قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة فحبسه بابنه عمرو. ثم قال: أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه ... تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا فإن بنى عمرو لئام أذلة ... لئن لم تفكوا عن أسيرهم الكبلا فأجابه حسان بن ثابت فقال: ولو كان سعد يوم مكة مطلقا ... لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا بعضب حسام أو بصفراء نبعة ... تحن إذا ما أنبضت تحفز النبلا ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبى سفيان، فيفكوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا به إلى أبى سفيان، فخلى سبيل سعد. وكان فى الأسارى- أيضا- أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنته زينب، وكان صلى الله عليه وسلم يثنى عليه فى صهره خيرا، وكان من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، وهو ابن أخت خديجة- رضى الله عنها- وهى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحى أن يزوجه، وكان لا يخالفها، فزوجه، وكانت تعده بمنزلة ولدها. فلما أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بنبوته، آمنت به خديجة وبناته، فصدقنه ودن بدينه، وشهدن أن الذى جاء به هو الحق، وثبت أبو العاص على شركه. فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا بأمر الله تبارك وتعالى وبالعداوة، قالوا: إنكم فرغتم محمدا من همه، فردوا عليه بناته فاشغلوه بهن. فمشوا إلى أبى العاص فقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوجك أى امرأة من قريش شئت. قال: لا ها الله، إذا لا أفارق صاحبتى، وما أحب أن لى بها امرأة من قريش. ثم مشوا إلى عتبة بن أبى لهب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجه رقية أو أم كلثوم، فقالوا له: طلق ابنة محمد ونحن ننكحك أى امرأة من قريش شئت، فقال: إن زوجتمونى ابنة أبان بن سعيد بن العاص، أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه بنت سعيد بن

العاص وفارقها، ولم يكن دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها وهوانا له. وخلف عليها عثمان بن عفان بعده. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل بمكة ولا يحرم، مغلوبا على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب ابنته وبين أبى العاص، إلا أنه كان لا يقدر أن يفرق بينهما، فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص فأصيب فى الأسارى، فكان بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث أهل مكة فى فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى فداء أبى العاص بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبى العاص حين بنى بها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذى لها فافعلوا» «1» قالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه وردوا عليها مالها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلى سبيل زينب إليه، أو وعده أبو العاص بذلك، أو شرطه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إطلاقه، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ما هو. إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه زيد بن حارثة، ورجلا من الأنصار، فقال: كونا ببطن يأجح حتى تمر بكما زينب فتصحباها، حتى تأتيانى بها. فخرجا وذلك بعد بدر بشهر أو سبعة، فلما قدم أبو العباس مكة أمرها باللحوق بأبيها، فخرجت تتجهز. قالت زينب: بينا أنا أتجهز بمكة لقيتنى هند ابنة عتبة، فقالت: يا ابنة محمد ألم يبلغنى أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ قالت: ما أردت ذلك. قالت: أى ابنة عم لا تفعلى، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك فى سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك، فإن عندى حاجتك، فلا تضطنى منى فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال. قالت زينب: فو الله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، ولكنى خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك، وتجهزت.

_ (1) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (2692) ، مسند الإمام أحمد (6/ 276) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 322) ، مستدرك الحاكم (4/ 45) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (3970) .

ولما فرغت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهازها قدم إليها كنانة بن الربيع «1» أخو زوجها بعيرا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته ثم خرج بها نهارا يقود بها وهى فى هودج لها، وتحدث بذلك رجال قريش، فخرجوا فى طلبها حتى أدركوها بذى طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود الفهرى، فروعها هبار بالرمح وهى فى هودج لها، وكانت حاملا- فيما يزعمون- فلما ريعت طرحت ذا بطنها. وبرك حموها كنانة ونثر كنانته ثم قال: والله، لا يدنو منى رجل إلا وضعت فيه سهما. فتكر كر الناس عنه، وأتى أبو سفيان بن حرب فى جلة من قريش فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك. فكف، فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رؤس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد. فيظن الناس إذا خرجت إليه ابنته علانية على رؤس الناس من بين أظهرنا أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا التى كانت، وأن ذلك من ضعف ووهن، ولعمرى! ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا فى ذلك من ثورة ولكن أرجع المرأة، حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها، فسلها سرا وألحقها بأبيها. ففعل، فأقامت ليالى حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما انصرف الذين خرجوا إلى زينب لقيتهم هند بنت عتبة فقالت لهم: أفى السلم أعيار جفاء وغلظة ... وفى الحرب أشباه النساء العوارك وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرية بعثها بتحريق هبار بن الأسود أو الرجل الذى سبق معه إلى زينب إن ظفروا بهما، ثم بعث إليهم فقال: «إنى كنت قد أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما، ثم رأيت أنه لا ينبغى أن يعذب بالنار إلا الله عز وجل، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما» «2» . وأقام أبو العاص بمكة وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام، وكان رجلا مأمونا، بمال له وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابوا ما معه وأعجزهم هاربا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7479) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4506) . (2) انظر الحديث فى: مصنف ابن أبى شيبة (12/ 389) .

أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستجار بها فأجارته، وجاء فى طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح فكبر وكبر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس: إنى قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس فقال: «أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟» قالوا: نعم، قال: «أما والذى نفس محمد بيده، ما علمت بشىء حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم» . ثم انصرف، فدخل على ابنته فقال: «أى بنية، أكرمى مثواه ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له» «1» . وبعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبى العاص فقال لهم: «إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذى له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فىء الله الذى أفاء عليكم، فأنتم أحق به» «2» . قالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوه عليه، حتى إن الرجل ليأتى بالدلو ويأتى الرجل بالشنه والإداوده، حتى إن الرجل ليأتى بالشظاظ حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا، ثم احتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذى مال من قريش ماله ثم قال: يا معشر قريش، هل بقى لأحد منكم عندى مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما. قال: فإنى أشهد لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعنى من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أنى إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها، أسلمت. ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكى ابن هشام عن أبى عبيدة «3» ، أن أبا العاص لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين قيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال، فإنها للمشركين؟ فقال: بئس ما أبدأ به إسلامى أن أخون أمانتى. ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من الأسارى من قريش بغير فداء، منهم أبو عزة عمرو ابن عبد الله الجمحى، كان متحاجا ذا بنات، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لقد عرفت مالى من مال، وإنى لذو حاجة وذو عيال، فامنن على. فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا، فقال أبو عزة فى ذلك يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) انظر الحديث فى: نصب الراية للزيلعى (3/ 211) ، سنن البيهقى (9/ 95) ، مستدرك الحاكم (3/ 236، 237) . (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 85) ، مستدرك الحاكم (3/ 237) . (3) انظر السيرة (2/ 264) .

ذكر فتح أنطابلس

ويذكر فضله على قومه: ومن مبلغ عنى الرسول محمدا ... بأنك حق والمليك حميد وأنت امرؤ تدعو إلى الحق والهدى ... عليك من الله العظيم شهيد وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة ... لها درجات سهلة وصعود فإنك من حاربته لمحارب ... شقى ومن سالمته لسعيد ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله ... تأوب ما بى حسرة وقعود «1» وذكر موسى بن عقبة أن المسلمين جهدوا على أبى عزة هذا عندما أسر ببدر أن يسلم، فقال: لا، حتى أضرب فى الخزرجية يوما إلى الليل. وما وقع فى شعره ومحاورته رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقتضى التصريح برسالته، فلا أعلم له مخرجا، إن صح، إلا أن يكون ذلك من جملة ما قصد به أبو عزة أن يخدع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاد على عدو الله ما ائتمر، ولم يخدع إلا نفسه وما شعر، وذلك أنه لما أخذت قريش قبل أحد فى الإعداد لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبا بثأرهم فى يوم بدر قال صفوان ابن أمية لأبى عزة هذا: يا أبا عزة، إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك، فاخرج معنا، فقال: إن محمدا قد منّ علىّ فلا أريد أن أظاهر عليه. قال: بلى، فأعنا بنفسك، فلك الله على إن رجعت أن أعينك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتى، يصيبهن ما أصابهن من عز ويسر. فخرج أبو عزة يسير فى تهامة ويدعو بنى كنانة ويقول: أيا بنى عبد مناة الرزام ... أنتم حماة وأبو كم حام لا تعدمونى نصركم بعد العام ... لا تسلمونى لا يحل إسلام ثم كان من الأمر يوم أحد ما كان، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الوقعة مرهبا لعده حتى انتهى إلى حمراء الأسد، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجهه ذلك أبا عزة الجمحى، فقال: يا رسول الله، أقلنى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا تمسح عارضيك بمكة، تقول: خدعت محمدا مرتين، اضرب عنقه يا زبير» «2» . فضرب عنقه. وذكر ابن هشام- فيما بلغه عن سعيد بن المسيب- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إن

_ (1) ذكر قصته ابن حجر فى فتح البارى (10/ 547) ، العجلونى فى كشف الخفاء (2/ 505) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 312، 313) ، ابن سيد الناس فى عيون الأثر (1/ 412) . (2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (10/ 547) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 65) .

فتح أطرابلس

المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه، يا عاصم بن ثابت» «1» فضرب عنقه. وكان عمير بن وهب «2» شيطانا من شياطين قريش، وممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة ويلقون منه عنتا، وكان ابنه وهب بن عمير فى أسارى بدر، فجلس عمير مع صفوان بن أمية فى الحجر بعد مصاب أهل بدر بيسير، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال له صفوان: فو الله، إن فى العيش خير بعدهم. فقال عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين على ليس له عندى قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لى فيهم علة، ابنى أسير فى أيديهم. فاغتنمها صفوان فقال: على دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالى أواسيهم ما بقوا لا يسعنى شىء ويعجز عنهم، قال: عمير: فاكتم عنى شأنى وشأنك، قال: أفعل. ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم المدينة. فبينا عمر بن الخطاب فى نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهذا الذى حرش بيننا «3» وحرزنا للقوم «4» يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بنى الله، هذا عدو الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحا سيفه. قال: «فأدخله علىّ» . فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه فى عنقه فلببه بها وقال لرجال من الأنصار كانوا معه: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه هذا الخبيث فإنه غير مأمون. ثم دخل به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك قال: «أرسله يا عمر، أدن يا عمير» . فدنا ثم قال: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام، تحية أهل الجنة» قال: أما والله إن كنت بها يا محمد لحديث عهد. قال: «فما جاء بك يا عمير؟» قال: جئت لهذا الأسير الذى فى أيديكم فأحسنوا فيه، قال: «فما

_ (1) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (9/ 65) ، مشكل الآثار للطحاوى (2/ 197) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 51) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 30) . (2) انظر ترجمته فى: الجرح والتعديل (6/ 2091) ، الإصابة ترجمة رقم (6073) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4096) ، البداية والنهاية (3/ 113، 5/ 8) . (3) حرش بيننا: أى أفسد بيننا. (4) حزرنا للقوم: أى قدر عددنا.

ذكر انتقاض الإسكندرية فى خلافة عثمان رضى الله عنه

بال السيف فى عنقك؟» فقال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئا! قال: «أصدقنى، ما الذى جئت له؟» قال: ما جئت إلا لذلك. قال: «بلى، قعدت أنت وصفوان بن أمية فى الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين على وعيال عندى لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلنى له، والله حائل بينك وبين ذلك» . قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحى، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فو الله إنى لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام وساقنى هذا المساق. ثم شهد بشهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقهوا أخاكم فى دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره» «1» ففعلوا. ثم قال: يا رسول الله، إنى كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لى فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم فى دينهم كما كنت أوذى أصحابك فى دينهم. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة. وكان صفوان حين خرج عمير يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن فى أيام تنسيكم وقعة بدر. وكان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدا ولا ينفعه بنفع أبدا، فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام ويؤذى من خالفه أذى شديدا، فأسلم على يديه ناس كثير. وعمير هذا أو الحارث بن هشام- يشك ابن إسحاق- هو الذى رأى إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر فقال: أين أى سراق؟ ومثل عدو الله فذهب. فأنزل الله- تبارك وتعالى- فيه: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [الأنفال: 48] فذكر استدراج إبليس إياهم بتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم حين ذكروا ما بينهم وبين بنى بكر من الحرب، يقول الله عز وجل: فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ ونظر عدو الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوهم نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ وصدق عدو الله الكذوب، رأى ما لم يروا وقال: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 286، 287) ، الخصائص الكبرى للسيوطى (1/ 344) ، تاريخ الطبرى (2/ 44، 46) ، المغازى للواقد (1/ 125) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 413، 414) .

وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ فذكر أنهم كانوا يرونه فى كل منزل فى صورة سراقة لا ينكرونه، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان نكص على عقبية فأوردهم ثم أسلمهم. وفى ذلك يقول حسان بن ثابت: قومى الذين هم آووا نبيهم ... وصدقوه وأهل الأرض كفار إلا خصائص أقوام هم سلف ... للصالحين مع الأنصار أنصار مستبشرين بقسم الله قولهم ... لما أتاهم كريم الأصل مختار أهلا وسهلا ففى أمن وفى سعة ... نعم النبى ونعم القسم والجار فأنزلوه بدار لا يخاف بها ... من كان جارهم دارا هى الدار وقاسموهم بها الأموال إذ قدموا ... مهاجرين وقسم الجاحد النار سرنا وساروا إلى بدر لحينهم ... لو يعلمون يقين العلم ما ساروا دلاهم بغرور ثم أسلمهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار وقال إنى لكم جار فأوردهم ... شر الموارد فيه الخزى والعار ثم التقينا فولوا عن سراتهم ... من منجدين ومنهم فرقة غاروا ويروى أن قريشا رأوا سراقة المدلجى بعد وقعة بدر، وهو الذى تمثل لهم إبليس فى صورته يوم بدر كما تقدم، فقالوا له: يا سراقة، أخرمت الصف وأوقعت فينا الهزيمة؟! فقال: والله ما علمت بشىء من أمركم حتى كانت هزيمتكم، وما شهدت معكم. فما صدقوه حتى اسلموا وسمعوا ما أنزل الله فى ذلك، فعلموا أنه كان إبليس تمثل لهم. ولما انقضى أمر بدر، أنزل الله- تبارك وتعالى- فيه من القرآن «الآنفال» بأسرها. وكان جميع من شهد بدرا من المسلمين من المهاجرين والأنصار، من شهدها ومن ضرب له بسهمه وأجره ثلاثمائة رجل وأربعة عشر رجلا، من المهاجرين ثلاثة وثمانون رجلا: ثلاثة منهم ضرب لهم بسهامهم وأجورهم ولم يشهدوا، وهم: عثمان بن عفان، تخلف على امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لمرضها الذى توفيت فيه قبل أن يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه. قال: وأجرى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «وأجرك» . وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، كانا بالشام فرجعا بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، فضرب لكليهما بسهمه. قال: وأجرى يا رسول الله؟ قال: وأجرك. ومن الأوس: واحد وستون، اثنان منهم ضرب لهما بسهميهما: عاصم بن عدى

ذكر غزو أفريقية وفتحها

العجلانى، رده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خرج معه وضرب له بسهم، وخوّات بن جبير ضرب له، أيضا، بسهمه. ومن الخزرج مائة وسبعون رجلا، منهم الحارث بن الصمة كسر به بالروحاء فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه. واستشهد يومئذ من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر رجلا: ستة من قريش: عبيدة بن الحارث بن المطلب، وعمير بن أبى وقاص الزهرى، وذو الشمالين بن عبد عمرو حليف بنى زهرة، وعاقل بن البكير حليف لبنى عدى، ومهجع مولى عمر بن الخطاب، وصفوان بن بيضاء. ومن الأنصار ثمانية نفر، خمسة من الأوس: سعد بن خيثمة، ومبشر بن عبد المنذر من بنى عمرو بن عوف، ويزيد بن الحارث الذى يقال له: ابن فسحم من بنى الحارث ابن الخزرج، وعمير بن الحمام من بنى سلمة، ورافع بن المعلى من بنى جشم. وثلاثة من الخزرج من بنى النجار: حارثة بن سراقة، وعوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة منهم، وهم ابنا عفراء، رحمة الله على جميعهم ورضوانه. وكان من المسلمين يوم بدر من الخيل فرس الزبير بن العوام، وفرس مرثد بن أبى مرثد الغنوى، وفرس المقداد بن عمرو البهرانى. وذكر ابن إسحاق أن جميع من أحصى له من قتلى قريش من المشركين يوم بدر خمسون رجلا. وقال ابن هشام «1» : حدثنى أبو عبيدة عن أبى عمرو أن قتلى بدر من المشركين كانوا سبعين رجلا والأسرى كذلك، وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب. وفى كتاب الله تبارك وتعالى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يقول لأصحاب أحد، وكان من أستشهد منهم سبعين رجلا، يقول: قد أصبتم يوم بدر مثلى من استشهد منكم يوم أحد: سبعين قتيلا وسبعين أسيرا. وأنشدنى أبو زيد الأنصارى لكعب بن مالك من قصيدة له ينعى قتلى بدر: فأقام بالعطن المعطن منهم ... سبعون عتبة منهم والأسود وكان مما قيل فى يوم بدر من الشعر: قول حمزة بن عبد المطلب يرحمه الله، ومن أهل العلم من ينكرها له:

_ (1) انظر السيرة (2/ 307) .

ألم تر أمرا كان من عجب الدهر ... وللحين أسباب مبينة الأمر وما ذاك إلا أن قوما أفادهم ... فخانوا تواص بالعقوق وبالكفر عشية راحوا نحو بدر بجمعهم ... فكانوا رهونا للركية من بدر «1» وكنا طلبنا العير لم نبغ غيرها ... فساروا إلينا فالتقينا على قدر فلما التقينا لم تكن مثنوية ... لنا غير طعن بالمثقفة السمر وضرب ببيض يختلى الهام حدها ... مشهرة الألوان بينة الأثر ونحن تركنا عتبة الغى ثاويا ... وشيبة فى القتلى تجرجم فى الجفر وعمرو ثوى فيمن ثوى من حماتهم ... فشقت جيوب النائحات على عمرو جيوب نساء من لؤى بن غالب ... كرام تفر عن الذوائب من فهر أولئك قوم قتلوا فى ضلالهم ... وخلوا لواء غير محتضر النصر لواء ضلال قاد إبليس أهله ... فخاس بهم إن الخبيث إلى غدر وقال لهم إذ عاين الأمر واضحا ... برئت إليكم ما بى اليوم من صبر فإنى أرى ما لا ترون وإننى ... أخاف عقاب الله والله ذو قسر «2» فقدمهم للحين حتى تورطوا ... وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر «3» فكانوا غداة البئر ألفا وجمعنا ... ثلاث مئين كالمسدمة الزهر «4» وفينا جنود الله حين يمدنا ... بهم فى مقام ثم مستوضح الذكر فشد بهم جبريل تحت لوائنا ... لدى مأزق فيه مناياهم تجرى «5» وقال على بن أبى طالب- رضى الله عنه- فى يوم بدر، ولم ير ابن هشام أحدا يعرفها من أهل العلم بالشعر: ألم تر أن الله أبلى رسوله ... بلاء عزيز ذى اقتدار وذى فضل «6» بما أنزل الكفار دار مذلة ... فلاقوا هوانا من إسار ومن قتل فآمسى رسول الله قد عز نصره ... وكان رسول الله أرسل بالعدل فجاء بفرقان من الله منزل ... مبينة آياته لذوى العقل

_ (1) الرهون: جمع رهن. والركية: البئر المطوية بالحجارة. (2) القسر: الغابة والقهر. (3) تورطوا: وقعوا فى هلكة. (4) المسدمة: الفحول من الإبل. والزهر: جمع أزهر وأراد به البيض. (5) المأزق: الموضع الضيق فى الحرب. (6) أبلى رسوله: منّ عليه وصنع له صنعا حسنا.

فأمن أقوام بذاك وأيقنوا ... فأمسوا بحمد الله مجتمعى الشمل وأنكر أقوام فزاغت قلوبهم ... فزادهم ذو العرش خبلا على خبل وأمكن منهم يوم بدر رسوله ... وقوما غضابا فعلهم أحسن الفعل بأيديهم ببعض خفاف عصوا بها ... وقد حادثوها بالجلاء وبالصقل فكم تركوا من ناشئ ذى حمية ... صريع ومن ذى نجدة منهم كهل تبيت عيون النائحات عليهم ... تجود بإسيال الرشاش وبالوبل نوائح تنعى عتبة الغى وابنه ... وشيبة تنعاه وتنعى أبا جهل وذا الرجل تنعى وابن جدعان فيهم ... مسلبة حرى مبينة الثكل «1» ثوى منهم فى بئر بدر عصابة ... ذوى نجدات فى الحروب وفى المحل دعا الغى منهم من دعا فأجابه ... وللغى أسباب مرمقة الوصل فأضحوا لدى دار الجحيم بمعزل ... عن الشغب والعدوان فى أشغل الشغل وقال كعب بن مالك أخو بنى سلمة يذكر بدرا: عجبت لأمر الله والله قادر ... على ما أراد ليس لله قاهر قضى يوم بدر أن نلاقى معشرا ... بغوا وسبيل البغى فى النار جائر وقد حشدوا واستنفروا من يليهم ... من الناس حتى جمعهم متكاثر وسارت إلينا لا تحاول غيرنا ... بأجمعها كعب جميعا وعامر وفينا رسول الله والأوس حوله ... له معقل منهم عزيز وناصر وجمع بنى النجار تحت لوائه ... يمشون فى الماذى والنقع ثائر فلما لقيناهم وكل مجاهد ... لأصحابه مستبسل النفس صابر شهدنا بأن الله لا رب غيره ... وأن رسول الله بالحق ظاهر وقد عريت بيض خفاف كأنها ... مقاييس يزهيها لعينيك شاهر بهن أيدنا جمعهم فتبددوا ... وكان يلاقى الحين من هو فاجر فكب أبو جهل صريعا لوجهه ... وعتبة قد غادرته وهو عائر وشيبة والتيمى غادرن فى الوغى ... وما منهم إلا بذى العرش كافر فأمسوا وقود النار فى مستقرها ... وكل كفور فى جهنم صائر

_ (1) ذا الرجل: أراد به الأسود بن المطلب بن عبد المخزومى، الذى خرج من صفوف المشركين يريد أن يقتحم على المسلمين ليشرب من حوضهم، وقد عاهد الله أن يشرب منه أو يموت فضربه حمزة فقطع قدمه. والحرى: المحترقة الجوف.

تلظى عليهم وهى قد شب حميها ... بزبر الحديد والحجارة ساجر وكان رسول الله قد قال أقبلوا ... فولوا وقالوا إنما أنت ساحر لأمر أراد الله أن يهلكوا به ... وليس لأمر حمه الله زاجر ولضرار بن الخطاب الفهرى فى هذا الروى شعر، ذكر ابن إسحاق أن كعب بن مالك أجابه عنه بهذا الشعر الذى كتبناه آنفا، والأظهر من مقتضى الشعر أن ضرارا هو الذى أجاب كعب بن مالك ونقض عليه. وهذا شعر ضرار: عجبت لفخر الأوس والحين دائر ... عليهم غدا والدهر فيه بصائر وفخر بنى النجار إن كان معشر ... أصيبوا ببدر كلهم ثم صابر فإن تك قتلى غودرت من رجالنا ... فإنا رجال بعدهم سنغادر وتردى بنا جرد عناجيج وسطكم ... بنى الأوس حتى يشفى النفس ثائر ووسط بنى النجار سوف نكرها ... لها بالقنا والدارعين زوافر فنترك صرعى تعصب الطير حولهم ... وليس لهم إلا الأمانى ناصر وتبكيهم من أهل يثرب نسوة ... لهن بها ليل عن النوم ساهر وذلك أنا لا تزال سيوفنا ... بهن دم ممن يحاربن مائر فإن تظفروا فى يوم بدر فإنما ... بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر وبالنفر الأخيار هم أولياؤه ... يحامون فى اللأواء والموت حاضر يعد أبو بكر وحمزة فيهم ... ويدعى على وسط من أنت ذاكر أولئك لا من نتجت فى ديارها ... بنو الأوس والنجار حين تفاخر ولكن أبوهم من لؤى بن غالب ... إذا عدت الأنساب كعب وعامر هم الطاعنون الخيل فى كل معرك ... غداة الهياج الأطيبون الأكاثر ومن شعر حسان بن ثابت يعرض بالحارث بن هشام وفراره عن يوم بدر: إن كنت كاذبة الذى حدثتنى ... فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام «1» فأجابه الحارث بن هشام- فيما ذكر- فقال: الله أعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسى بأشقر مزبد وعرفت أنى إن أقاتل واحد ... أقتل ولا ينكى عدوى مشهدى فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مفسد

_ (1) الطمرة: الفرس الكثير الجرى.

ذكر صلح النوبة

وقال حسان بن ثابت أيضا، ويقال: إنها لعبد الله بن الحارث السهمى، يشبه أنها من قصيدة: مستشعرى حلق الماذى يقدمهم ... جلد النحيزة ماض غير رعديد «1» أعنى رسول الإله الحق فضله ... على البرية بالتقوى وبالجود وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم ... وماء بدر زعمتم غير مورود «2» ثم وردنا ولم نسمع لقولكم ... حتى شربنا رواء غير تصريد «3» مستعصمين بحبل غير منجذم ... مستحكم من حبال الله ممدود فينا الرسول وفينا الحق نتبعه ... حتى الممات ونصر غير محدود وقال حسان بن ثابت أيضا: ألا ليت شعرى هل أتى أهل مكة ... إبارتنا الكفار فى ساعة العسر قتلنا سراة القوم عند مجالنا ... فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر فكم قتلنا من كريم مرزء ... له حسب فى قومه نابه الذكر تركناهم للعاويات يتبنهم ... ويصلون نارا بعد حامية القعر لعمرك ما حامت فوارس مالك ... وأشياعهم يوم التقينا على بدر وقال عبيدة بن الحارث بن المطلب فى يوم بدر، يذكر مبارزته هو وحمزة وعلىّ عدوهم، وما كان من إصابة رجله يومئذ. قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له: ستبلغ عنا أهل مكة وقعة ... يهب لها من كان عن ذاك نائيا بعتبة إذ ولى وشيبة بعده ... وما كان فيها بكر عتبة راضيا «4» فإن تقطعوا رجلى فإنى مسلم ... أرجى بها عيشا من الله دانيا مع الحور أمثال التماثيل أخلصت ... مع الجنة العليا لمن كان عاليا وبعت بها عيشا نغرفت صفوه ... وعالجته حتى فقدت الأدانيا «5»

_ (1) مستشعرى: لابس، تقول: استشعرت الثوب إذا لبسته. والماذى: الدروع اللينة البيض. والنحيزة: الطبيعة. والرعديد: الجبان. (2) الرواء: التملؤ من الماء. والتصريد: تقليل الشرب. (3) الذمار: ما وجب على المرء أن يحميه. (4) بكر عتبة: يريد ولده الأول. (5) تعرقت: مزجت، تعرقت التراب إذا مزجته.

ذكر البحر والغزو فيه

وأكرمنى الرحمن من فضل منه ... بثوب من الإسلام غطى المساويا وما كان مكروها إلىّ قتالهم ... غداة دعا الأكفاء من كان داعيا لقيناهم كالأسد تعثر بالقنا ... نقاتل فى الرحمن من كان عاصيا فما برحت أقدامنا من مقامنا ... ثلاثتنا حتى أزيروا المنانيا قال ابن هشام «1» : لما أصيبت رجل عبيدة قال: أما والله لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لعلم أنى أحق منه بما قال حين يقول: كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن حوله ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ولما هلك عبيدة بن الحارث من مصاب رجله قالت هند ابنة أثاثة بن عباد بن المطلب ترثيه وكانت وفاته بالصفراء، وبها دفن يرحمه الله تعالى: لقد ضمن الصفراء مجدا وسؤددا ... وحلما أصيلا وافر اللب والعقل عبيدة فابكيه لأضياف غربة ... وأرملة تهوى لأشعث كالجذل وبكيه للأقوام فى كل شتوة ... إذا احمر آفاق السماء من المحل وبكيه للأيتام والريح زفزف ... وتشتيت قدر طال ما أزبدت تغلى فإن تصبح النيران قد مات ضوؤها ... فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل لطارق ليل أو لملتمس القرى ... ومستنبح أضحى لديه على رسل وقال طالب بن أبى طالب يمدح النبى صلى الله عليه وسلم، ويبكى أصحاب القليب من قريش: ألا إن عينى أنفدت ماءها سكبا ... تبكى على كعب وما إن ترى كعبا ألا إن كعبا فى الحروب تخاذلوا ... وأرادهم ذا الدهر واجترحوا ذنبا وعامر تبكى للملمات غدوة ... فياليت شعرى هل أرى لهما قربا هما أخواى لن يعدا لغية ... تعد ولن يستام جارهما غصبا فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا ... فدا لكما لا تبعثوا بيننا حربا ولا تصحبوا من بعد ود وألفة ... أحاديث فيها كلكم يشتكى النكبا ألم تعلموا ما كان فى حرب داحس ... وجيش أبى يكسوم إذ ملأوا الشعبا فلولا دفاع الله لا شىء غيره ... لأصبحتم لا تمنعون لكم سربا فما إن جنينا فى قريش عظيمة ... سوى أن حمينا خير من وطئ التربا أخا ثقة فى النائبات مرزأ ... كريما ثناه لا بخيلا ولا ذربا

_ (1) انظر السيرة (2/ 327) .

غزو معاوية بن أبى سفيان قبرس

يطيف به العافون يغشون بابه ... يؤمون بهرا لا نزورا ولا صربا فو الله لا تنفك نفسى حزينة ... تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا وكانت وقعة بدر يوم الجمعة، لسبع عشرة من شهر رمضان، وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فى عقبة أو فى شوال بعده. فلما قدم المدينة لم يقم بها إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بنى سليم، فبلغ ماء من مياههم يقال له: الكدر «1» ، فأقام عليه ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وأفدى فى إقامته تلك جل الأسارى من قريش «2» . وكان أبو سفيان بن حرب حين رجع فل قريش من بدر نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، فخرج فى مائتى راكب من قريش لتبر يمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة، على بريد أو نحوه من المدينة، ثم خرج من الليل حتى أتى بنى النضير تحت الليل، فأتى حيى بن أخطب فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له وخافه، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم، وكان سيد بنى النضير فى زمانه ذلك وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس، ثم خرج فى عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالا منهم، فأتوا ناحية العريض فحرقوا بها أصوار نخل وقتلوا رجلا من الأنصار وحليفا له فى حرث لهما، ثم انصرفوا راجعين، ونذر بهم الناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف وقد فاته أبو سفيان بن حرب وأصحابه، وطرحوا من أزوادهم يتخففون منها للنجاء، وكان أكثر ما طرحوه السويق، فهجم المسلمون على سويق كثير، فسميت غزوة السويق، فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: «نعم» «3» . ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدا يريد غطفان، وهى غزوة ذى أمر، فأقام بنجد ثم رجع ولم يلق كيدا.

_ (1) وهذه الغزوة تعرف بغزوة: قرقرة الكدر، كما فى الطبقات الكبرى (2/ 31) ، أو: قرارة الكدر، كما فى المغازى للواقدى (1/ 196) . وتراجع هذه الغزوة فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 344) ، المنتظم لابن الجوزى (3/ 156) . (2) انظر السيرة (3/ 5) . (3) انظر الحديث فى: الدلائل للبيهقى (3/ 166) ، التاريخ للطبرى (2/ 50) ، الكامل فى التاريخ (2/ 39، 40) .

أمر بنى قينقاع

ثم غزا قريشا حتى بلغ بحران «1» ، معدنا بالحجاز من ناحية الفرع، ثم رجع منه إلى المدينة ولم يلق كيدا، وذلك بعد مقامه به نحوا من شهرين، ربيع الآخر وجمادى الأولى من سنة ثلاث. أمر بنى قينقاع وكان فيما بين ما ذكر من غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بنى قيقناع. وكانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوا فيما بين بدر وأحد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم فى سوقهم، ثم قال: «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنى نبى مرسل، تجدون ذلك فى كتابكم وعهد الله إليكم» «2» . قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا قومك! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس. فقال ابن عباس «3» : ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيهم: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: 12، 13] . وكان منشأ أمرهم: أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق قينفاع" وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع.

_ (1) ذكرها ابن الأثير فى الكامل (2/ 142) ، والطبرى فى تاريخه (2/ 52) ، والواقدى فى المغازى (1/ 196، 197) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 3) . (3) انظر السيرة (3/ 8) .

سرية زيد بن حارثة

فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبىّ بن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن فى موالى، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أحسن فى موالى، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخل يده فى جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقال لها: ذات الفضول، فقال له: «أرسلنى» ! وغضب صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: «ويحك أرسلنى» . قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن فى موالى، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعونى من الأحمر والأسود تحصدهم فى غداة واحدة! إنى والله امرؤا أخشى الدوائر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم لك» «1» . ولما حاربت بنو قينقاع تشبث عبد الله بن أبى بأمرهم وقام دونهم، قال: مشى عبادة بن الصامت، وكان أحد بنى عوف، لهم من حلفه مثل الذى لهم من عبد الله بن ابى، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلعهم إليه وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. ففيه وفى عبد الله بن أبى نزلت [هذه] القصة من المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يريد عبد الله بن أبىّ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ. ثم القصة فى قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وذلك لتولى عبادة بن الصامت الله ورسوله والذين آمنوا، وتبرية، من بنى قينقاع وحلفهم وولايتهم وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة: 51- 56] . سرية زيد بن حارثة «2» ولما كان من وقعة بدر ما كان، خافت قريش طريقهم التى كانوا يسلكون إلى

_ (1) انظر الحديث فى: تاريخ للطبرى (2/ 49) ، الطبقات لابن سعد (2/ 29) . (2) هذه السرية ذكرها الواقدى فى المغازى (1/ 197، 198) ، وابن سعد فى الطبقات (2/ 36) ، وابن الأثير فى التاريخ (2/ 145) .

مقتل كعب بن الأشرف

الشام، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب، ومعه فضة كثيرة وهى عظم تجارتهم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فلقيهم على القردة- ماء من مياه نجد- فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزه الرجال فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذلك الذى يعنى حسان بن ثابت بقوله فى غزوة بدر الآخره يؤنب قريشا فى أخذهم تلك الطريق: دعو فلجات الشام قد حال دونها ... جلاد كأفواه المخاض الأوارك «1» بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم ... وأنصاره حقا وأيدى الملائك إذا سلكت للغور من بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك «2» مقتل كعب بن الأشرف ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة بشيرين إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عليه وقتل من قتل من المشركين ببدر، قال كعب بن الأشرف وكان رجلا من طيىء، ثم أحد بنى نبهان، وأمه من بنى النضير، حين بلغه هذا الخبر: أحق هذا؟ أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان؟ فهؤلاء اشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لى من ظهرها. فلما تبين عدو الله الخبر، خرج حتى قدم مكة، فجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار، ويبكى أصحاب القليب من قريش، ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لى من ابن الأشراف؟ فقال له محمد بن مسلمة الأشهلى: أنا لك به يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أقتله قال: فافعل إن قدرت على ذلك. فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ فقال يا رسول الله،

_ (1) الفلجات: العيون الجارية. والمخاض: الإبل الحوامل. والأوارك: الإبل التى ترعى الآراك، وهو شجر السواك. (2) الغور: الأرض المنخفضة. وبطن عالج: أى موضع كثير الرمل.

ذكر فتح العراق وما والاه على ما ذكره سيف بن عمر وأورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى عنه وعن غيره

قلت لك قولا لا أدرى هل أفين لك به أم لا. قال: إنما عليك الجهد، قال: يا رسول الله، لا بد لنا من أن نقول. قال: قولوا ما بدا لكم فأنتم فى حل من ذلك. فاجتمع فى قتله محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة أبو نائلة، وعباد بن بشر والحارث بن أوس، وكلهم من بنى عبد الأشهل، وأبو عبس بن جبر أخو بنى حارثة، ثم قدموا إلى عدو الله ابن الأشرف سلكان بن سلامة وكان أخاه من الرضاعة، فجاءه فتحدث معه ساعة ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف! إنى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عنى، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس. فقال كعب: أنا ابن الأشرف! أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول. فقال له سلكان: إنى قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك. قال: أترهنونى نساءكم؟ قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم. قال: أترهنونى أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا، يسب ابن أحدنا فيقال: رهن فى وسق شعير! ثم قال له: إن معى أصحابا لى على مثل رأيى وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن فى ذلك ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاؤا بها. قال: إن فى الحلقة لوفاء. فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم وأمرهم أن يأخذوا السلاح ويجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى معهم صلوات الله عليه إلى بقيع الغرقد فى ليلة مقمرة، ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. ثم رجع إلى بيته. فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب فى ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون هذه الساعة. قال: إنه أبو نائلة لو وجدنى نائما ما أيقظنى. فقالت: والله إنى لأعرف فى صوته الشر. فقال لها كعب: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب! فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه، فقالوا له: هل لك يا ابن الأشرف إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه. قال: إن شئتم. فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شام يده فى فود رأسه ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها، حتى اطمأن، ثم مشى ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه.

ثم قال: اضربوا عدو الله، فضربوه فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا. قال محمد ابن مسلمة: فتذكرت معولا كان فى سيفى حين رأيت أسيافنا لا تغنى شيئا، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، قال: فوضعته فى ثنيته ثم تحاملت عليه حتى بلغت غايته فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح فى رجله أو رأسه أصابه بعض أسيافنا، فخرجنا حتى أسندنا فى حرة العريض وقد ابطأ علينا الحارث بن أوس صاحبنا ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قاءم يصلى، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، ثم رجعنا إلى أهلينا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودى إلا وهو يخاف على نفسه. وذكر ابن عقبة أن كعب بن الأشرف لما قدم على قريش يستنفرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو سفيان والمشركون، نناشدك الله، أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى فى رأيك وأقرب إلى الحق، فإنا نطعم الجزور الكوماء ونسقى اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال. فقال: ابن الأشرف: أنتم أهدى سبيلا، فأنزل الله فيه والله أعلم بما ينزل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء: 51] . وذكر ابن إسحاق أن هذه الآية إنما نزلت فى حيى بن أخطب وسلام بن أبى الحقيق وجماعة غيرهما من أحبار يهود، ليس ابن الأشرف مذكورا فيهم، وهم الذين حزيوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول فسلوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله تعالى فيهم الآية المذكورة. فالله تعالى أعلم. قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه. فوثب محيصة بن مسعود الأوسى على ابن سنينة من تجار يهود، وكان يلابسهم ويبايعهم فقتله، فلما قتله جعل أخوه حويصة بن مسعود ولم يكن أسلم يومئذ وكان أسن من محيصة، يضربه ويقول: أى عدو الله أقتلته، وأما والله لرب شحم فى بطنك من ماله فقال محيصة: والله لقد أمرنى بقتله من لو أمرنى بقتلك لضربت عنقك! قال: فو الله إن كان

غزوة أحد

لأول إسلام حويصة. قال: أو الله لو أمرك محمد بقتلى لقتلتنى؟ قال: نعم، والله لو أمرنى بضرب عنقك لضربتها، قال: والله إن دينا بلغ منك هذا لعجب! فأسلم حويصة، وقال محيصة فى ذلك: يلوم ابن أمى لو أمرت بقتله ... لطبقت ذفراه بأبيض قاضب «1» حسام كلون الملح أخلص صقله ... متى ما أصوبه فليس بكاذب «2» وما سرنى أنى قتلتك طائعا ... وأن لنا ما بين بصرى ومأرب «3» وذكر ابن هشام أن هذا عرض لمحيصة بعد غزوة بنى قريظة وظفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إليهم منهم كعب بن يهوذا. قال: وكان عظيما فيهم، ليقتله، فقال له أخوه حويصة وكان كافرا: أقتلت كعب بن يهوذا؟ قال: نعم. قال: أما والله لرب شحم قد نبت فى بطنك من ماله، إنك للئيم. فقال له محيصة: لقد أمرنى بقتله من لو أمرنى بقتلك لقتلتك. فعجب من قوله، ثم ذهب عنه متعجبا فذكروا أنه جعل ينتفض من الليل فيعجب من قول أخيه محيصة حتى أصبح وهو يقول: والله إن هذا لدين. ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم فأسلم. غزوة أحد «4» وكان من حديث أحد أنه لما قتل الله من قتل من كفار قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيرهم، مشى عبد الله بن أبى ربيعة وعكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أمية فى رجال ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا ابا سفيان ومن كانت له فى تلك العير تجارة من قريش، وقالوا لهم: إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينوا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن اصاب منا. ففعلوا. ففيهم يقال: أنزل الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36] .

_ (1) طبقت: قطعت. والزفران: عظمان ناتئان خلف الأذنين. والقاضب: القاطع. (2) الحسام: السيف القاطع. (3) بصرى: مدينة بالشام. ومأرب: مدينة باليمن. (4) انظر السيرة (3/ 20) .

فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير، وحركوا لذلك من أطاعهم من القبائل وحرضوهم عليه وخرجوا بحدهم وجدهم وأحابيشهم «1» ومن تابعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا، فخرج أبو سفيان بن حرب وكان قائد الناس بهند بنت عتبة، وكذلك سائر أشراف قريش وكبرائهم خرجوا معهم بنسائهم. وكان جبير بن مطعم قد أمر غلامه وحشيا الحبشى بالخروج مع الناس وقال له: إن قتلت حمزة عم محمد بعمى طعيمة بن عدى فأنت عتيق. فكانت هند بنت عتبة كلما مرت بوحشى أو مر بها قالت: ويها أبا دسمة، وهى كنيته، اشف واشتف. فأقبلوا حتى نزلوا بعينين- جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادى مقابل المدينة. فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال عليه السلام: «إنى قد رأيت والله خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت فى ذباب سيفى ثلما، فأما البقر، فهى ناس من أصحابى يقتلون، وأما الثلم الذى فى ذباب سيفى فهو رجل من أهل بيتى يقتل، ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها» «2» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج، وكان عبد الله بن أبى يرى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك، فقال رجل من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره ممن كان فاته بدر: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم. فقال عبد الله بن أبى: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم ورماهم الصبيان والنساء بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤا.

_ (1) أحابيشهم: أحياء من القارة انضموا إلى بنى ليث فى الحرب التى وقعت بينهم وبين قريش قبل الإسلام. (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 351) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 107) ، الدلائل للبيهقى (3/ 225، 266) ، تفسير الطبرى (4/ 46، 47) .

أخبار الأيام فى زمان خالد بن الوليد رضى الله عنه

فلم يزل برسول الله صلى الله عليه وسلم الناس الذين كان من أمرهم حب لقاء العدو، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، وقد مات فى ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له: مالك بن عمرو، أخو بنى النجار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، فقالوا: يا رسول الله، استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليه وسلم عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغى للنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» «1» . فخرج فى ألف من أصحابه، حتى إذا كانوا بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بن أبى بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصانى، ما ندرى علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الإنصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغنى الله عنكم نبيه. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك فى حرة بنى حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلّاب سيف فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف: «يا صاحب السيف، شم سيفك، فإنى أرى السيوف ستسل اليوم» «2» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب، أى من قرب، من طريق لا تمر بنا عليهم» ، فقال أبو خيثمة أخو بنى حارثة: أنا يا رسول الله. فنفذ به فى حرة بنى حارثة وبين أموالهم حتى سلك فى مال لمربع بن قيظى، وكان منافقا ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين قام يحثى فى وجوههم التراب ويقول: إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل حائطى. وذكر أنه أخذ حفنة من تراب فى يده ثم قال: والله لو أعلم أنى لا اصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» «3» .

_ (1) انظر الحديث فى: الدر المنثور للسيوطى (2/ 68) ، تفسير الطبرى (4/ 46) ، تفسير ابن كثير (2/ 91) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 14) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 14) .

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشّعب من أحد فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: «لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال» «1» . وقد سرحت قريش الظهر والكراع فى زروع كانت للمسلمين، فقال رجل من الأنصار: أترعى زرع بنى قيلة ولما نضارب! وتعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو فى سبعمائة رجل، وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بنى عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلا، فقال: انضح الخيل عنا لا يأتوننا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك. وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخى بنى عبد الدار. وتعبأت قريش وهم ثلاث آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل. وقد كان أبو عامر عبد عمرو بن صيفى من الأوس، خرج عن قومه إلى مكة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يعد قريشا أن لو لقى قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر فى الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر. قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق. وبذلك سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسمى فى الجاهلية الراهب، فلما سمع ردهم عليه، قال: «لقد أصاب قومى بعدى شر! ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم راضخهم «2» بالحجارة» «3» . وقال أبو سفيان- يومئذ- لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم بذلك: يا بنى عبد الدار، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه. فهموا به وتواعدوه قالوا: أنحن نسلم إليك لواءنا! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع. وذلك أراد أبو سفيان. فاقتتل الناس حتى حميت الحرب.

_ (1) انظر الحديث فى: الدر المنثور للسيوطى (5/ 61) . (2) راضخهم: رماهم. (3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 512) .

وقاتل أبو دجانة «1» سماك بن خرشة أخو بنى ساعدة، حتى أمعن فى الناس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسيف عنده: «من يأخذ هذا السيف بحقه؟» فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به فى العدو حتى ينحنى» «2» . قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه. فأعطاه إياه، وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء فاعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، ثم جعل يتبختر بين الصفين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه يتبختر: «إنها لمشية يبغضها الله إلا فى مثل هذا الموطن» «3» . وكان الزبير بن العوام قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك السيف مع من سأله منه فمنعه إياه، فقال: وجدت فى نفسى حين سألته إياه فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه قبله فأعطاه إياه وتركنى! والله لأنظرن ما يصنع، فأتبعه، فأخرج عصابة حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت! وهكذا كانت تقول له إذا تعصب لها، فخرج وهو يقول: أنا الذى عاهدنى خليلى ... ونحن بالسفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر فى الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول «4» فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله، وكان فى المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه: فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها، قال الزبير: فقلت الله ورسوله أعلم.

_ (1) انظر ترجمته فى: أسد الغابة ترجمة رقم (5863) ، الإصابة ترجمة رقم (9866) ، تنقيح المقال (3/ 15) ، ريحانة الأدب (7/ 95) ، معجم رجال الحديث (21/ 151) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 123) ، مستدرك الحاكم (3/ 230) ، مصنف ابن أبى شيبة (12/ 206، 14/ 401) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 109، 9/ 124) ، كنز العمال للمتقى الهندى (10972، 10973) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 15) . (3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 234) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 15) . (4) الكيول: آخر الصفوف فى الحرب.

وقال أبو دجانة: رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت إليه، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أحد النفر الذين كانوا يحملون اللواء من بنى عبد الدار، وكان جبير بن مطعم قد وعد غلامه وحشيا بالعتق إن قتل حمزة بعمه طعيمة ابن عدى المقتول يوم بدر، قال وحشى: فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قل ما أخطىء بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة حتى رأيته فى عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شىء، فو الله إنى لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو منى إذ تقدمنى إليه سباع بن عبد العزى الغبشانى، فلما رآه حمزة قال له: هلم إلى يا بن مقطعة البظور. وكانت أمه ختّانة بمكة، قال: فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه، قال: وهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فى ثنته حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوى فغلب وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتى ورجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم تكن لى بغيره حاجه، إنما قتلته لأعتق. فلما قدمت مكة عتقت، ثم أقمت حتى افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هربت إلى الطائف فكنت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا تعيت على المذاهب، فو الله إنى لفى ذلك إذ قال لى رجل: ويحك إنه والله ما يقتل أحدا من الناس دخل فى دينه، فلما قال لى ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرعه إلا بى قائما على رأسه أتشهد شهادة الحق، فلما رآنى قال: أو حشىّ؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: أقعد فحدثنى كيف قتلت حمزة، فحدثته فلما فرغت قال: ويحك! غيب عنى وجهك. فكنت أتنكّبه صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يرانى حتى قبضه الله تعالى. فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب خرجت معهم وأخذت بحربتى التى قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس رأيت مسيلمة قائما فى يده السيف وما أعرفه، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده، فهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه وشدّ عليه الأنصارى فضربه بالسيف، فربك أعلم أينا قتله، فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قتلت شر الناس! وذكر ابن إسحاق «1» بإسناد له إلى عبد الله بن عمر، وكان شهد اليمامة قال: سمعت يومئذ صارخا يقول: قتله العبد الأسود.

_ (1) انظر السيرة (3/ 33) .

حديث الثنى والمذار

قال ابن إسحاق: فبلغنى أن وحشيا لم يزل يحد فى الخمر حتى خلع من الديوان. فكان عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، يقول: قد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة. قال ابن إسحاق «1» : وقاتل مصعب بن عمير «2» دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، قتله ابن قميئة الليثى، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا. فلما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء على بن أبى طالب، فقاتل على ورجال من المسلمين. ولما اشتد القتال يومئذ جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار وأرسل إلى على أن قدم الراية، فتقدم فقال: أنا أبو القصم، فناداه أبو سعد بن أبى طلحة: هل لك يا أبا القصم فى البراز من حاجة؟ قال: نعم. فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه على فصرعه ثم انصرف ولم يجهز عليه، فقال له أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلنى بعورته فعطفتنى عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله. ويقال: إن أبا سعد هذا خرج بين الصفين وطلب من يبارزه مرارا فلم يخرج إليه أحد، فقال: يا أصحاب محمد، زعمتم أن قتلاكم فى الجنة وقتلانا فى النار، كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلى بعضكم. فخرج إليه علىّ فاختلفا ضربتين فقتله علىّ. وقد قيل: إن سعد بن أبى وقاص هو الذى قتل أبا سعد هذا. وقاتل عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح «3» ، فقتل مسافع بن طلحة وأخاه الجلاس ابن طلحة، كلاهما يشعره سهما «4» فيأتى أمه فيضع رأسه فى حجرها فتقول: يا بنى من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا يقول رمانى: خذها وأنا ابن أبى الأقلح. فندرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وكان عاصم قد عاهد الله أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا، فتمم الله له ذلك حيا وميتا حسب ما نذكره عند مقتل عاصم على الرجيع- ماء لهذيل- إن شاء الله تعالى.

_ (1) انظر السيرة (3/ 34) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8020) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4936) . (3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4365) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2665) . (4) يشعره سهما: أى يصيبه به فى جسده، فيصير له مثل الشعار، والشعار ما ولى الجسد من الثياب.

والتقى يوم أحد حنظلة بن أبى عامر الغسيل وأبو سفيان، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود بن شعوب قد علا أبا سفيان فضربه شداد فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم- يعنى حنظلة- لتغسله الملائكة فسلوا أهله ما شأنه؟ فسئلت صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لذلك غسلته الملائكة» «1» . ثم أنزل نصره على المسلمين وصدقهم وعده فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر ونهكوهم قتلا. وقد حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة، وكانت الهزيمة لا شك فيها. فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس هنا لشىء، قد أهلك الله العدو، وإخواننا فى عسكر المشركين، فتركوا منازلهم التى عهد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا، وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا، ولم يكن نبل ينضحها ووجدت مدخلا عليهم، فكان ذلك سبب الهزيمة على المسلمين بعد أن كانت لهم. قال الزبير بن العوام رضى الله عنه: والله، لقد رأيتنى أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها منكشفات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذا مالت الرماة إلى العسكر حتى كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتتنا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنو منه أحد من القوم. وانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو، ويقال: إن الصارخ هو الشيطان. وكان يوم بلاء وتمحيص أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة. حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته وكلمت شفته وشج فى وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل صلى الله عليه وسلم يمسحه وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» «2» .

_ (1) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (4/ 15) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 246) ، إرواء الغليل للألبانى (3/ 167) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (1/ 581) . (2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (4027) ، مسند الإمام أحمد (3/ 206) ، الدر المنثور-

حديث الولجة وهى مما يلى كسكر من البر

فأنزل الله عليه فى ذلك: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [آل عمران: 128] . وكان الذى كسر رباعيته وجرح شفته عتبة بن أبى وقاص وشجه عبد الله بن شهاب الزهرى فى جبهته وجرح ابن قميئة وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر فى وجنته، ووقع صلوات الله عليه فى حفرة من الحفر التى عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، فأخذ على بن أبى طالب بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما. ومص مالك بن سنان والد أبى سعيد الخدرى الدم من وجهه ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مس دمه دمى لم تصبه النار» «1» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على الأرض فلينظر إلى طلحة» «2» . ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، فكان ساقط الثنيتين. وكان سعد بن أبى وقاص يقول: والله، ما حرصت على قتل رجل قط حرصى على قتل عتبة بن أبى وقاص- وهو أخوه- وإن كان ما علمت لسىء الخلق مبغضا فى قومه، ولقد كفانى منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله» «3» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غشيه القوم: «من رجل يشرى لنا نفسه؟» فقام زياد بن السكن فى نفر خمسة من الأنصار، وبعض الناس يقولون: إنما هو عمارة بن زياد بن السكن، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ثم رجلا، يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم جاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه،

_ - للسيوطى (2/ 71) ، إتحاف السادة المتقين (7/ 92) ، تفسير ابن كثير (2/ 98) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 366) ، المغنى عن حمل الأسفار للعراقى (2/ 352) ، أخلاق النبوة (72) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 23) . (1) انظر الحديث فى: تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 112) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 24) . (2) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (1/ 76) ، السنة لابن أبى عاصم (2/ 614) ، كنز العمال للمتقى الهندى (33369) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (7/ 80) . (3) انظر الحديث فى: موارد الظمآن للهيثمى (2212) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 265) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 30) .

حديث أليس، وهى على صلب الفرات

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدنوه منى» «1» . فأدنوه منه فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقاتلت أم عمارة نسيبه بنت كعب المازنية، يومئذ قالت: خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعى سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس، حتى خلصت الجراح إلىّ. قالت أم سعد بنت سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جراحا أجوف له غور فقلت: من أصابك بهذا، قالت: ابن قميئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلونى على محمد فلا نجوت إن نجا. فاعترضته أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربنى هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان. وترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه، يقع النبل فى ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل. ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: «أرم فداك أبى وأمى» «2» حتى إنه ليناولنى السهم ماله من نصل فيقول: «ارم به» . ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد عن قوسه حتى اندقت سيتها. وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان «3» فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما.

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 235) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 47، 5/ 124، 8/ 52) ، صحيح مسلم فى كتاب فضائل الصحابة (41، 42) ، سنن الترمذى (2829، 3753) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 162) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 239) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 27، 8/ 72) . (3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7091) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4277) ، طبقات خليفة (81، 96) ، تاريخ خليفة (153) ، التاريخ الكبير (7/ 184، 185) ، تاريخ الفسوى (1/ 320) ، الجرح والتعديل (7/ 132) ، تاريخ ابن عساكر (14/ 200) ، تهذيب الكمال (1123) ، تاريخ الإسلام (2/ 50) ، العبر (1/ 27) ، تهذيب التهذيب (8/ 357، 358) ، خالصة تذهيب الكمال (315) ، شدرات الذهب (1/ 34) .

وأصيب فم عبد الرحمن بن عوف فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها فى رجله فعرج. وأتى أنس بن النضر عم أنس بن مالك وبه سمى، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله فى رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قد قتل محمد رسول الله. قال: فما تصنعون بالحياة بعده! قوموا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل، رحمه الله تعالى. وروى حميد عن أنس، أن عمه أنس بن النضر هذا غاب عن قتال يوم بدر، فقال: غبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين لئن أشهدنى الله قتالا ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إنى أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعنى المشركين، وأعتذر إليك مما جاء به هؤلاء، يعنى المسلمين، ثم مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال: أى سعد، والذى نفسى بيده إنى لأجد ريح الجنة دون أحد! واها لريح الجنة. فقال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. فوجدناه بين القتلى وبه بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وقد مثلوا به حتى عرفته أخته ببنانه. قال أنس: كنا نقول أنزلت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] فيه وفى أصحابه. قال ابن إسحاق «1» : وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وتحدث الناس بقتله: كعب بن مالك الأنصارى، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر فناديت بأعلى صوتى: يا معشر المسلمون أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى أن أنصت. فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض معهم نحو الشّعب، معه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة، ورهط من المسلمين. فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشعب أدركه أبى بن خلف وهو يقول: أين محمد: لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال: «دعوه» «2» .

_ (1) انظر السيرة (3/ 46) . (2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 624) ، سنن ابن ماجه (530) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 19) .

فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، يقول بعض القوم: فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء من ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه فى عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا. وكان أبى بن خلف يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فيقول: يا محمد، إن عندى العوذ، فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أقتلك إن شاء الله» «1» . فلما رجع إلى قريش وقد خدشه فى عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم قال: قتلنى والله محمد! فقالوا له: ذهب والله فؤادك! والله إن بك بأس. قال: إنه قد كان قال لى بمكة: أنا أقتلك. فو الله لو بصق على لقتلنى. فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قاله يومئذ: «اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله» «2» . فسحقا لأصحاب السعير. ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعب خرج على بن أبى طالب حتى ملأ درقته من المهراس، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم فصب على رأسه وهو يقول: «اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله» «3» . فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشعب معه أولئك النفر من أصحابه إذا علت عالية من قريش الجبل فقال: «اللهم إنه لا ينبغى لهم أن يعلونا» «4» فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع، وقد كان بدن

_ (1) انظر الحديث فى: تفسير القرطبى (7/ 385) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 35) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 32) . (2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (4/ 275) ، شرح السنة للبغوى (12/ 337) ، كنز العمال للمتقى الهندى (29885، 29887) . (3) سبق تخريجه. (4) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (4/ 90) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 36) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 238) .

حديث أمغيشيا وكيف أفاءها الله بغير قتال

وظاهر بين درعين فجلس تحته بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: «أوجب طلحة» «1» . وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر- يومئذ- قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا. ولما خرج صلى الله عليه وسلم إلى أحد رفع حسيل بن جابر وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان، وثابت بن قيس فى الآكام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: لا اب لك! ما ننتظر؟ فو الله إن بقى لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله يرزقنا شهادة معه؟ فأخذا اسيافهما ثم خرجا حتى دخلا فى الناس ولم يعلم بهما. فأما ثابت فقتله المشركون، وأما حسيل فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه وهم لا يعرفونه، فقال حذيفة: أبى! قالوا: والله إن عرفناه. وصدقوا. قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده عند رسول الله خيرا. وكان ممن قتل يوم أحد مخيرق من أحبار اليهود، وقد تقدم خبره وكيف قال- يومئذ- ليهود: لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق. فتعللوا عليه بأنه يوم السبت، فقال لهم: لا سبت لكم. وأخذ سيفه وعدّته فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل بعد أن قال: إن أصبت فمالى لمحمد يصنع فيهما يشاء. وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مخيريق خير يهود» «2» . وكان عمرو بن ثابت وقش أصيرم بنى عبد الأشهل يأبى الإسلام على قومه، فلما

_ (1) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3738) ، مسند الإمام أحمد (1/ 165) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 370، 9/ 46) ، مستدرك الحاكم (3/ 25، 373) ، موارد الظمآن للهيثمى (2212) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (2/ 281) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 361، 12/ 91) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (6112) ، شرح السنة للبغوى (14/ 120) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 1/ 155) ، السنة لابن أبى عاصم (2/ 612) ، كنز العمال للمتقى الهندى (33364) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 238) . (2) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 2/ 183) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (1/ 18) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 237، 4/ 36) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (3/ 245، 10/ 87) .

كان يوم أحد بدا له فى الإسلام فأسلم، ثم أخذ سيفه فغزا حتى دخل فى عرض الناس فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فبينا رجال من بنى الأشهل يلتمسون قتلاهم فى المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث. فسألوه ما جاء بك عمرو؟ أحدب على قومك أم رغبة فى الإسلام؟ قال: بل رغبة فى الإسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ثم أخذت سيفى فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاتلت حتى أصابنى ما أصابنى. ثم لم يلبث أن مات فى ايديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لمن أهل الجنة» «1» . وكان أبو هريرة يقول: حدثونى عن رجل دخل الجنة لم يصل قط؟ فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ فيقول: أصيرم بنى عبد الأشهل؟ وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له: إن الله قد عذرك. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنى يريدون أن يحبسونى عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فو الله إنى لأرجو أن أطأ بعرجتى هذه فى الجنة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك» . وقال لبنيه: «ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة» «2» فخرج معه فقتل، يرحمه الله. ووقعت هند بنت عتبة «3» والنسوة اللاتى معها يمثلن بالقتلى من المسلمين يجدعن الاذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا قاتل حمزة، وبقرت عن كبد حمزة- رضى الله عنه- فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها: نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر «4» ما كان عن عتبة لى من صبر ... ولا أخى وعمه وبكر

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 428، 429) . (2) انظر الحديث فى: إتحاف السادة المتقين (10/ 332) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 37) . (3) انظر ترجمتها فى: الإصابة ترجمة رقم (11860) ، أسد الغابة ترجمة رقم (7350) ، الثقات (2/ 439) ، أعلام النساء (5/ 239) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 310) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (1008) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (319) ، ودر السحابة (824) . (4) السعر: أى الالتهاب.

شفيت نفسى وقضيت نذرى ... شفيت وحشى غليل صدرى فشكر وحشى علىّ عمرى ... حتى ترم أضلعى فى قبرى فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب، فقالت: خزيت فى بدر وبعد بدر ... يا منه وقاع عظيم الكفر صبحك الله غداة الفجر ... بالهاشمين الطوال الزهر بكل قطاع حسام يفرى ... حمزة ليثى وعلى صقرى إذ رام شيب وأبوك غدرى ... فخضبا منه ضواحى النحر ونذرك السوء فشر نذر وقد كان الحليس بن زبان أخو بنى الحارث بن عبد مناة، وهو يومئذ سيد الأحابيش، مر بأبى سفيان وهو يضرب فى شدق حمزة بن عبد المطلب بزح الرمح ويقول: ذق عقق، فقال الحليس: يا بنى كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما. فقال: ويحك، اكتمها عنى فإنها كانت زلة. ثم إن أبا سفيان حين أراد الإنصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال يوم بيوم بدر، اعل هبل. أى ظهر دينك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار» «1» . وفى الصحيح من حديث البراء أن أبا سفيان قال: إنه لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» . قالوا: ما نقول؟ قال قالوا: «الله مولانا ولا مولى لكم» «2» . وفيه أيضا: أن أبا سفيان أشرف يوم أحد فقال: أفى القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه. فقال: أفى القوم ابن أبى قحافة؟ قال: لا تجيبوه. قال: أفى القوم ابن الخطاب؟ فلما لم يجبه أحد قال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يخزيك. قال ابن إسحاق: فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له: هلم إلى يا عمر، فقال رسول

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 38) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 80) ، مسند الإمام أحمد (4/ 293) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 213) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 398) .

الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «ايته فانظر ما شأنه» «1» . فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر: أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندى من ابن قميئه وابر. لقول ابن قميئة لهم: إنى قد قتلت محمدا، ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان فى قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت. ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل: «نعم، هو بيننا وبينكم موعد» «2» . ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب فقال: «اخرج فى آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذى نفسى بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم» «3» ؛ فخرج على فرآهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة. وفرغ الناس لقتلاهم وانتشروا يبتغونهم، فلم يجدوا قتيلا إلا وقد مثلوا به إلا حنظلة ابن أبى عامر فإن أباه كان مع المشركين فتركوه له، وزعموا أن أباه وقف عليه قتيلا فدفع صدره بقدمه وقال: قد تقدمت إليك فى مصرعك هذا، ولعمر الله إن كنت لواصلا للرحم برا بالوالدة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رجل ينظر لى ما فعل سعد بن الربيع، أفى الأحياء هو أم فى الأموات؟» «4» فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل. فنظر فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق، قال فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى أن أنظر أفى الأحياء أنت أم فى الأموات؟ قال: أنا فى الأموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيّا عن أمته، وأبلغ قومك السلام عنى وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف. قال: ثم لم أبرح حتى مات. فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.

_ (1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (2/ 90) . (2) انظر الحديث فى: التاريخ لابن كثير (4/ 38) ، تاريخ الطبرى (2/ 71) . (3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 71) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 138) ، المغازى للواقدى (1/ 298) . (4) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 285) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 39) .

وفى سعد هذا يقول أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- وقد دخل عليه رجل وعلى صدره بنت لسعد جارية صغيرة يرشفها ويقبلها فقال الرجل: من هذه؟ فقال أبو بكر رضى الله عنه: بنت رجل خير منى، سعد بن الربيع، كان من النقباء ليلة العقبة وشهد بدرا، واستشهد يوم أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة بن عبد المطلب فوجده ببطن الوادى قد بقر بطنه عن كبده ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما رأى: «لولا أن تحزن صفية ويكون سنّة من بعدى لتركته حتى يكون فى بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرنى الله على قريش فى مواطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم» «1» . فلما رأى المسلمون حزن الرسول صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثله لم يمثلها أحد من العرب. فأنزل الله تعالى، فيما قاله من ذلك رسوله صلوات الله عليه وسلامه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 126، 127] ، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة. ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقف على حمزة قال: «لن أصاب بمثلك أبدا! ما وقفت موقفا قط أغيظ إلى من هذا» «2» . ثم قال: «جاءنى جبريل فأخبرنى أن حمزة مكتوب فى أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله» «3» . ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجى ببرده، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى، يوضعون إلى حمزة وصلى عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة. وأقبلت صفية بنت عبد المطلب «4» إليه، وكان أخاها لأبيها وأمها فقال رسول الله

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 39) . (2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (1/ 371) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 40) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 40) . (4) انظر ترجمتها فى: طبقات ابن سعد (8/ 41) ، طبقات خليفة (331) ، تاريخ خليفة (147) ، المعارف (128) ، تاريخ الإسلام (3812) ، الإصابة ترجمة رقم (11411) .

صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: «القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها» . فقال لها: يا أمه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعى. قالت ولم؟ وقد بلغنى أن قد مثّل بأخى، وذلك فى الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فلما أخبر الزبير بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «خل سبيلها» . فأتته فنظرت إليه فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له. ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن. وزعم آل عبد الله بن جحش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن عبد الله بن جحش مع حمزة فى قبره، وهو ابن أخته أميمة بنت عبد المطلب، وكان قد مثل به كما مثل بخاله حمزة، إلا أنه لم يبقر عن كبده وجدع أنفه وأذناه، فلذلك يقال له: المجدع فى الله. وكان فى أول النهار قد لقى سعد بن أبى وقاص فقال له عبد الله: هلم يا سعد فلندع الله وليذكر كل واحد منا حاجته فى دعائه وليؤمن الآخر. فقال سعد: يا رب إذا لقيت العدو فلقنى رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلنى ثم ارزقنى الظفر عليه حتى أقتله وأسلبه سلبه. فأمن عبد الله بن جحش ثم قال: اللهم ارزقنى رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلنى فيقتلنى ثم يجدع أنفى وأذنى، فإذا لقيتك غدا قلت لى: يا عبد الله، فيم جدع أنفك وأذناك؟ فأقول: فيك يا رب وفى رسولك. فتقول لى: صدقت. فأمن سعد على دعوته. قال سعد: كانت دعوة عبد الله خيرا من دعوتى، لقد رأيته النهار وإن أذنيه وأنفه معلقان فى خيط، ولقيت أنا فلان من المشركين فقتلته وأخذت سلبه. وذكر الزبير أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجونا فعاد فى يده سيفا منه، فقاتل به فكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل هذا يتوارث حتى بيع من بغا التركى بمائتى دينار. واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: «ادفنوهم حيث صرعوا» «1» . ولما أشرف صلوات الله عليه وسلامه يوم أحد على القتلى قال: «أنا شهيد على هؤلاء، إن ما من جريح يجرح فى الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه اللون لون

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 290) .

دم والريح ريح مسك، انظروا أكثر هؤلاء جمعا للقرآن فاجعلوه أمام أصحابه فى القبر» «1» . وكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة فى القبر الواحد. وقال- يومئذ- حين أمر بدفن القتلى: «انظروا عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام، فإنهما كانا متصافيين فى الدنيا فاجعلوهما فى قبر واحد» «2» . وذكر مالك بن أنس فى موطّئه أن السيل حفر قبرهما بعد زمان فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش، فلما لقيت الناس نعى لها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن زوج المرأة منها لبمكان» «3» لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها وصياحها على زوجها. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عيناه فبكى، ثم قال: «لكن حمزة لا بواكى له» «4» . فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بنى عبد الأشهل أمرا نساءهما أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلن فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن على حمزة خرج عليهن وهن على باب المسجد يبكين عليه، فقال: «ارجعن

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 41، 42) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 1/ 7) . (2) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 562) ، موطأ مالك (2/ 470/ 49) . (3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 301) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 46) . (4) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (1591) ، مسند الإمام أحمد (2/ 40، 84، 92) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 70) ، مستدرك الحاكم (1/ 381، 3/ 195) ، المعجم الكبير للطبرانى (3/ 159، 11/ 392) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 120) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 31، 3/ 1/ 5، 10، 11) ، مصنف ابن أبى شيبة (3/ 394) ، مصنف عبد الرزاق (6694) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 216، 301) ، كنز العمال للمتقى الهندى (36945) .

يرحمكن الله، فقد آسيتن «1» بأنفسكن» «2» . وقيل: إنه لما سمع بكاءهن قال: «رحم الله الأنصار، فإن المواساة منهم ما علمت لقديمة، مروهن فلينصرفن» . ومر رسول الله فى انصرافه بامرأة من بنى دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل! تريد صغيرة. فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال: «اغسلى عن هذا دمه يا بنية، فو الله لقد صدقنى اليوم» «3» ، وناولها على بن أبى طالب سيفه فقال: وهذا فاغسلى عنه دمه، فو الله لقد صدقنى اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة» «4» . وكان يقال لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذو الفقار. ونادى مناد يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقا ... ر ولا فتى إلا على وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى بن أبى طالب: «لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا» «5» . وكان يوم أحد السبت للنصف من شوال. فلما كان الغد منه يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو، وأذن مؤذنه: أن لا يخرجن معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: يا رسول الله، كان أبى خلفنى على أخوات لى سبع وقال: «يا بنى لا ينبغى لى ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذى أو ثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسى، فتخلف على أخواتك. فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج فى طلبهم فيظنوا به قوة، وأن الذى أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.

_ (1) آسيتن: أى عزيتن وعاونتن. (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 47) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 301، 302) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 47) . (4) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 24) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 47) . (5) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 47) .

حديث الأنبار وهى ذات العيون

وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أخوان من بنى الأشهل فرجعا جريحين، قال أحدهما: فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج فى طلب العدو قلت لأخى أو قال لى: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل. فخرجنا وكنت أيسر جرحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خروجه ذلك إلى حمراء الأسد، على ثمانية أميال من المدينة. فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة. وقد مر به هنالك معبد بن أبى معبد الخزاعى، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك فى أصاحبك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم. ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، حتى لقى ابا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج فى أصحابه يطلبكم فى جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه فى يومكم وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شىء لم أر مثله قط. فقال: ويحك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصى الخيل. قال: فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإنى أنهاك عن ذلك، والله لقد حملنى ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من الشعر. قال: وما قلت؟ قال قلت: كادت تهد من الأصوات راحلتى ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل «1» تردى بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل «2» فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل «3»

_ (1) تهد: تسقط من الإعياء لهول ما رأت من صوت الجيش وكثرته. والجرد: الخيل العتاق. والأبابيل: الجماعات. (2) تردى: أى تسرع. والتنابلة: القصار. والميل: أى الذى لا رمح له. (3) أبو حرب: هو أبو سفيان. وتغطمطت: أى اهتزت وارتجت. والجيل: الصنف من الناس.

حديث عين التمر

إنى نذير لأهل البسل ضاحية ... لكل ذى إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخشا قنابلة ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر به ركب من عبد القيس فقال: أبن تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلغون عنى محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم بهذه غدا زبيبا بعكاظ إذا ما أتيتموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذى قال أبو سفيان وأصحابه فقالوا: «حسبنا الله ونعم الوكيل» «1» . ويقال: إنهم لما هموا بالرجعة إلى المدينة ليستأصلوا- كما زعموا- بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم صفوان بن أمية: لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذى كان، فارجعوا. فرجعوا. فقال النبى صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد حين بلغه أنهم هموا بالرجعة: «والذى نفسى بيده لقد سومت «2» لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب» «3» . وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجهه قبل رجوعه إلى المدينة معاوية بن المغيرة بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس جد عبد الملك بن مروان أبا أمه وأبا عزة الجمحى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسره ببدر ثم من عليه، وقد تقدم ذكر ذلك وذكر مقتله إياه فى هذه الأخذة الثانية صدر غزوة أحد، ولجأ معاوية بن المغيرة إلى عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتل، فأقام بعدها وتوارى. فبعث النبى زيد بن حارثة وعمار بن ياسر وقال: «إنكما ستجدانه بموضع كذا» «4» . فوجداه فقاتلاه.

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 326) ، المعجم الكبير للطبرانى (12/ 128) ، الدر المنثور للسيوطى (2/ 101، 5/ 338) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 317) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 48) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 50) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (1079) ، زاد المسير لابن الجوزى (5/ 336، 505) ، تفسير ابن كثير (5/ 196) ، تفسير الطبرى (4/ 119، 29/ 95) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (11/ 86) . (2) سومت: علمت. (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 51) . (4) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 51) .

حديث دومة الجندل وما بعدها من الأيام بحصيد والخنافس ومصيخ والبشر والفراض

وكان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين ومحن به المنافقين ممن كان يظهر الإيمان بلسانه وهو مستخف بالكفر فى قلبه، وأكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته. وكان مما أنزل الله- تبارك وتعالى- من القرآن فى شأن أحد ستون آية من آل عمران فى طاعة من أطاع، ونفاق من نافق، وصفة ما كان فى يومهم، وتعزية المؤمنين فى مصيبتهم ومعاتبة من عاتب منهم. يقول الله تبارك وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. أى سميع لما يقولون عليم بما يخفون. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا أى تتخاذلا. والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان، يقول الله تبارك وتعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أى المدافع عنهما ما همتا به من ذلك برحمته وعائذته حتى سلمتا ولحقتا بنبيهما. وقيل: إنه لما أنزل الله- تعالى- فى هاتين الطائفتين قالتا: ما نحب أنا لم نهم بما هممنا لتولى الله إيانا فى ذلك. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، أى من كان به ضعف من المؤمنين فليتوكل على وليستعن بى أعنه على أمره وأدفع عنه حتى أبلغ به وأقويه على نيته. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أقل عددا وأضعف قوة فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أى فاتقونى فإنه شكر نعمتى. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، أى إن تصبروا لعدوى وتطيعوا أمر ويأتوكم من وجههم هذا أمددكم بهذا العدد من الملائكة مسومين أى معلمين. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، أى ما سميت لكم من سميته من جنود ملائكتى إلا لتستبشروا بذلك وتطمئن قلوبكم إليه، لما أعرف من ضعفكم، وما النصر إلا من عند الله لسلطانى وقدرتى، وذلك أن العزة والحكم لى لا إلى أحد من خلقى. ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ

ظالِمُونَ، أى ليس لك من الحكم شىء فى عبادى إلا ما أمرتك به فيهم، أو أتوب عليهم برحمتى فإن شئت فعلت، أو أعذبهم بذنوبهم فبحقى فإنهم ظالمون أى عصوا فاستوجبوا ذلك بمعصيتهم إياى. ثم استقبل ذكر المصيبة التى نزلت بهم والبلاء الذى أصابهم والتمحيص لما كان فيهم واتخاذه الشهداء منهم، فقال تعزية لهم وتعريفا لهم فيما صنعوا وفيما هو صانع بهم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، أى قد مضت منى وقائع نقمة فى أهل التكذيب برسلى والشرك، فى عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين، فرأوا مثلات قد مضت منى فيهم ولمن هو على مثل ما هم عليه: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، أى نور وأدب لمن أطاعنى وعرف أمرى. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا، أى لا تضعفوا ولا تبتئسوا على ما أصابكم وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ لكم تكون العاقبة والظهور إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى أن كنتم صدقتم نبيى بما جاءكم به عنى. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ أى جراح فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ أى جراح مثلها وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أى نصرفها للبلاء والتمحيص وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، أى حسبتم أن تدخلوا الجنة فتصيبوا كرامة ثوابى ولم أختبركم بالشدة وأبتليكم بالمكاره حتى أعلم صدق ذلك منكم، الإيمان بى والصبر على ما أصابكم فىّ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أى الشهادة مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ يعنى الذين استنهضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخروج بهم إلى عدوهم يوم أحد لما فاتهم من يوم بدر رغبة فى الشهادة، يقول: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، أى لقول الناس: قتل محمد. وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم. أفئن مات أو قتل رجعتم عن دينكم كفارا كما كنتم، وتركتم جهاد عدوكم وكتاب ربكم وما خلف نبيه من دينه معكم وعندكم وقد بين لكم فيما جاءكم به عنى أنه ميت عنكم ومفارق لكم؟! وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أى يرجع عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ

اللَّهَ شَيْئاً أى لن ينقص ذلك عز الله ولا ملكه ولا سلطانه ولا قدرته وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أى من أطاعه وعمل بأمره. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أى من أراد الدنيا خاصة أتاه منها ما كتب له وما له فى الآخرة من نصيب، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن آتاه منها ما وعد به مع ما يجرى عليه فى دنياه من رزقه المقدر له، وذلك هو جزاء الشاكرين أى المتقين. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا، أى وكم من نبى أصابه القتل ومعه جماعات من أنصاره، فما وهنوا لفقد نبيهم وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم فى الجهاد عن الله وعن دينهم، وذلك هو الصبر وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ، أى فقولوا مثل ما قالوا، واعلموا أن ذلك بذنوب منكم فاستغفروه كما استغفروا كما استغفروا، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين، وسلوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم وينصركم على القوم الكافرين. فكل هذا من قولهم كان وقد قتل نبيهم، ولم يفعلوا كما فعلتم. فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا بالظهور على عدوهم وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ الذى به وعدهم وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أى عن عدوكم فتذهب دنياكم وآخرتكم. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فإن كان ما تقولون بألسنتكم صدقا عن قلوبكم فاعتصموا به ولا تنتصروا بغيره، ولا ترجعوا كفارا على أعقابكم مرتدين عن دينه. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الذى به كنت أنصركم عليهم جزاء لهم بما أشركوا بى، فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ولا ظهورا عليكم ما اعتصمتم بى

واتبعتم أمرى، وإنما أصابكم منهم ما أصابكم بذنوب قدمتموها لأنفسكم خالفتم بها أمرى وعصيتم فيها نبيى. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، أى لقد وفيت لكم ما وعدتكم من النصر على عدوكم إذ تحسونهم بالسيوف أى تستأصلونهم قتلا بإذنى وتسليطى أيديكم عليهم وكفى أيديهم عنكم حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أى تخاذلتم وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ اختلفتم فيه وَعَصَيْتُمْ بترك أمر نبيكم، يعنى الرماة الذين عهد إليهم ألا يفارقوا مكانهم فخالفوا أمره حتى أتى المسلمون من قبلهم مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ أى الفتح لا شك فيه وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا أى النهب وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أى الذين جاهدوا فى الله ولم يخالفوا إلى ما نهوا عنه ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أى أنه سبحانه وإن عاقب من يشاء من عباده ببعض الذنوب فى عاجل الدنيا أدبا وموعظة، فإنه غير مستوف كل ماله فيهم من الحق بما أصابوا من معصية، فضلا من الله ورحمة. ثم أنبهم بالفرار عن نبيهم وهو يدعوهم ولا يعطفون عليه فقال: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أى كربا بعد كرب بقتل من قتل من إخوانكم وعلو عدوكم عليكم وما وقع فى أنفسكم حين سمعتم أنه قتل نبيكم لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الظهور على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم وَلا ما أَصابَكُمْ من قتل إخوانكم بما فرجت عنكم من الكرب بوقاية نبيكم وكشف كرب الشيطان فى الصراخ بقتله بينكم، فكان هذا هو الذى فرج الله به عنهم ما تابع عليهم من الغم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا بين أظهرهم هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور عليهم والمصيبة التى أصابتهم فيمن قتل منهم. ثم قال تعالى بعد آيات ذكر فيها ما ذكر من قصة أحد وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ يعنى عبد الله بن أبى والراجعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى عدوه عن المشركين. يقول الله تبارك وتعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.

ثم قال لنبيه عليه السلام يرغب المؤمنين فى الجهاد ويهون عليهم القتل: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا فى الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب» قال الله تبارك وتعالى: فأنا أبلغهم عنكم» «1» ؛ فأنزل الله- عز ذكره- على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى آخرها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فى قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا» «2» . وسئل عبد الله بن مسعود عن هؤلاء الآيات: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً فقال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب فى ظل العرش فيطلع الله إليهم اطلاعة، فيقول: يا عبادى، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا، الجنة نأكل منها حيث شئنا. ثم يطلع الله إليهم اطلاعه فيقول: يا عبادى، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا، الجنة نأكل منها حيث نشاء، ثم يطلع إليهم اطلاعة فيقول: يا عبادى، ما

_ (1) انظر الحديث فى: سنن أبو داود (2520) ، مسند الإمام أحمد (1/ 266) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 163) ، مستدركم الحاكم (2/ 88، 297) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 304) ، مصنف ابن أبى شيبة (5/ 294) ، الدر المنثور للسيوطى (2/ 95) ، زاد المسير لابن الجوزى (1/ 499) ، تفسير ابن كثير (2/ 141) ، تفسير الطبرى (4/ 113) ، تفسير القرطبى (4/ 268) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 266) ، مستدرك الحاكم (2/ 74) ، المعجم الكبير للطبرانى (10/ 405) ، مصنف ابن أبى شيبة (5/ 290) ، إتحاف السادة المتقين (10/ 338) ، موارد الظمآن للهيثمى (1611) ، الدر المنثور للسيوطى (2/ 96) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 294، 298) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11099) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (2/ 323) ، تفسير الطبرى (2/ 34، 4/ 113) ، تفسير ابن كثير (2/ 142) .

تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا، الجنة نأكل منها حيث شئنا، إلا أنا نحب أن ترد أرواحنا فى أجسادنا ثم تردنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله: «ألا أبشرك يا جابر؟» «1» قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: «إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله، ثم قال: ما تحب يا عبد الله ابن عمرو أن أفعل بك؟ قال: أى رب أحب أن تردنى إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى» «2» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذى نفسى بيده ما من مؤمن يفارق الدنيا يحب أن يرجع إليها ساعة من النهار وأن له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد فإنه يحب أن يرد إلى الدنيا فيقاتل فى الله فيقتل مرة أخرى» . واستشهد من المسلمين يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار خمسة وستون رجلا، أربعة من المهاجرين وسائرهم من الأنصار وقتل الله من المشركين يومئذ اثنتين وعشرين رجلا. وكان مما قيل من الشعر فى يوم أحد قول كعب بن مالك الأنصارى رحمه الله: ألا هل أتى غسان عنا ودونهم ... من الأرض خرق سيره متنعنع صحار وأعلام كأن قتامها ... من البعد نقع هامد متقطع تظل به البزل العراميس رزحا ... ويخلو به غيث السنين فيمرع به جيف الحسرى يلوح صليبها ... كما لاح كتان التجار الموضع به العين والآرام يمشين خلفة ... وبيض نعام قيضه يتقلع مجالدنا عن ديننا كل فخمة ... مذربة فيها القوانس تلمع وكل صموت فى الصوان كأنها ... إذا لبست نهى من الماء مترع ولكن ببدر سائلوا من لقيتم ... من الناس والأنباء بالغيب تنفع وإنا بأرض الخوف لو كان أهلها ... سوانا لقد أجلوا بليل فأقشعوا

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 317) ، إتحاف السادة المتقين (5/ 24، 10/ 383) ، المغنى عن حمل الأسفار للعراقى (1/ 205، 4/ 480) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 44) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 44) .

حديث المثنى بعد خالد

إذا جاء منا راكب كان قوله ... أعدوا لما يزجى ابن حرب ويجمع ولما ابتنوا بالعرض قال سراتنا ... علام إذا لم نمنع العرض نزرع وفينا رسول الله نتبع أمره ... إذا قال فينا القول لا نتطلع تدلى عليه الروح من عند ربه ... ينزل من جو السماء ويرفع نشاوره فيما نريد وقصدنا ... إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع وقال رسول الله لما بدوا لنا ... ذروا عنكم هول المنيات واطمع وكونوا كمن يشرى الحياة تقربا ... إلى ملك يحيا لديه ويرجع ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا ... على الله إن الأمر لله أجمع فسرنا إليهم جهرة فى رحالهم ... ضحيا علينا البيض لا نتخشع بملمومة فيها السنور والقنا ... إذا ضربوا أقدامها لا تورع فجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسر ومقنع ثلاثة آلاف ونحن نصيبة ... ثلاث مئين إن كثرنا وأربع نعاورهم تجرى المنية بيننا ... نشارعهم حوض المنايا ونشرع تهادى قسى النبع فينا وفيهم ... وما هو إلا اليثربى المقطع ومنجوفة حرمية صاعدية ... يذر عليها السم ساعة تصنع وخيل تراها بالفضاء كأنها ... جراد صبا فى قرة يتريع فلما تلاقينا ودارت بنا الرحى ... وليس لأمر حمه الله مدفع ضربناهم حتى تركنا سراتهم ... كأنهم بالقاع خشب مصرع لدن غدوة حتى استفقنا عشية ... كأن ذكاها حر نار تلفع وراحوا سراعا موجفين كأنهم ... جهام هراقت ماءه الريح مقلع ورحنا وأخرانا بطاء كأنها ... أسود على لحم ببيشة ظلع فنلنا ونال القوم منا وربما ... فعلنا ولكن ما لدى الله أوسع ودارت رحانا واستدارت رحاهم ... وقد جعلوا كل من الشر يشبع ونحن إناس لا نرى القتل سبة ... على كل من يحمى الذمار ويمنع جلاد على ريب الحوادث لا ترى ... على هالك عين لنا الدهر تدمع بنو الحرب لا نعيا بشئ نقوله ... ولا نحن مما جرت الحرب نجزع وقال حسان بن ثابت يجيب عبد الله بن الزبعرى عن كلمة له على روى هذا الجواب يفخر فيها بيوم أحد، وكلتا الكلمتين ينكرها بعض أهل العلم لمن نسبت إليه:

أشاقتك من أم الوليد ربوع ... بلاقع ما من أهلهن جميع عفاهن ضيفى الرياح وواكف ... من الدلو زجاف السحاب هموع فلم يبق إلا موقد النار حوله ... رواكد أمثال الحمام كنوع «1» فدع ذكر دار بددت بين أهلها ... نوى لمتينات الحبال قطوع وقل إن يكن يوم بأحد يعده ... سفيه فإن الحق سوف يشيع فقد صابرت فيه بنو الأوس كلهم ... وكان لهم ذكر هناك رفيع وحامى بنو النجار فيه وصابروا ... وما كان منهم فى اللقاء جزوع أمام رسول الله لا يخذلونه ... لهم ناصر من ربهم وشفيع وفوا إذ كفرتم يا سخين بربكم ... ولا يستوى عبد وفى ومضيع بأيديهم بيض إذا حمش الوغى ... فلا بد أن يردى لهن صريع «2» كما غادرت فى النقع عتبة ثاويا ... وسعدا صريعا والوشيج شروع «3» وقد غادرت تحت العجاجة مسندا ... أبيا وقد بل القميص نجيع يكف رسول الله حيث تنصبت ... على القوم مما قد يثرن نقوع أولئك قوم سادة من فروعكم ... وفى كل قوم سادة وفروع بهن نعز الله حتى يعزنا ... وإن كان أمر يا سخين فظيع فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم ... قتيل ثوى لله وهو مطيع فإن جنان الخلد منزلة له ... وأمر الذى يقضى الأمور سريع وقتلاكم فى النار أفضل رزقهم ... حميم معا فى جوفها وضريع «4» وقال كعب بن مالك يجيب ابن الزبعرى وعمرو بن العاص عن كلمتين قالاها فى ذلك: أبلغ قريشا وخير القول أصدقه ... والصدق عند ذوى الألباب مقبول أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم ... أهل اللواء ففيما يكثر القيل ويوم بدر لقيناكم لنا مدد ... فيه مع النصر ميكال وجبريل إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا ... والقتل فى الحق عند الله تفضيل

_ (1) رواكد: الحجارة التى كانوا ينصبونها لوضع القدور عليها. وكنوع: أى لاصقة بالأرض. (2) حمش: أى اشتد وقوى. ويردى: أى يهلك. (3) ثاويا: أى مقيما. (4) الضريع: نبات أخضر يرمى به البحر.

ذكر ما كان من خبر العراق فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وما كان من أمر المثنى بن حارثة معه، وذكر أبى عبيد بن مسعود، على ما فى ذلك كله من الاختلاف بين رواة الآثار

وإن تروا أمرنا فى رأيكم سفها ... فرأى من خالف الإسلام تضليل فلا تمنوا لقاح الحرب واقتعدوا ... إن أخا الحرب أصدى اللون مشغول إنا بنو الحرب نمريها وننتجها ... وعندنا لذوى الأضغان تنكيل «5» إن ينج منها ابن حرب بعدما بلغت ... منه التراقى وأمر الله مفعول «6» فقد أفادت له حلما وموعظة ... لمن يكون له لب ومعقول ولو هبطتم ببطن السيل كافحكم ... ضرب بشاكلة البطحاء ترعيل «7» تلقاكم عصب حول النبى لهم ... مما يعدون للهيجا سرابيل «8» من جذم غسان مسترخ حمائلهم ... لا جبناء ولا ميل معازيل يمشون تحت عمايات القتال كما ... تمشى المصاعبة الأدم المراسيل «9» أو مثل مشى أسود الظل ألثقها ... يوم رذاذ من الجوزاء مشمول فى كل سابغة كالنهى محكمة ... قيامها فلح كالسيف بهلول «10» ترد حد قدان النبل خاسئة ... ويرجع السيف عنها وهو مفلول ولو قذفتم بسلع عن ظهوركم ... وللحياة ودفع الموت تأجيل «11» ما زال فى القوم وتر منكم أبدا ... تعفو السلام عليه وهو مطلول «12» وقال كعب- أيضا فى يوم أحد من قصيدة يفخر فيها بقومه: فإن كنت عن شأننا سائلا ... فسل عنه ذا العلم ممن يلينا بنا كيف نفعل إن قلصت ... عوانا ضروسا عضوضا حجونا ألسنا نشد عليها العقا ... ب حتى تدر وحتى تلينا ويوم له وهج دائم ... شديد التهاول حامى الأرينا طويل شديد أوار القتا ... ل يبغى حواقره المقرفينا تخال الكماة بأعراضه ... ثمالى على لذة منزفينا

_ (5) نمريها: نستدرها. والأضغان: أى العداوة. (6) التراقى: عظام الصدر. (7) شاكلة البطحاء: أى جانبها. والترعيل: أى الضرب السريع. (8) الهيجا: أى الحرب. (9) المصاعبة: الفحول من الإبل. (10) السالفة: الدرع الكاملة الشاملة. (11) سلع: اسم جبل. (12) تعفو: تذهب آثارها. والسلام: الحجارة. ومطول: لم يؤخذ بثأره.

تعاور أيمانهم بينهم ... كؤوس المنايا بحد الظبينا شهدنا فكنا أولى بأسه ... وتحت العماية والمعلمينا بخرس الحسيس حسان رواء ... وبصرية قد أجمن الجفونا فما ينفللن وما ينحنين ... وما ينتهين إذا ما نهينا كبرق الخريف بأيدى الكماة ... يفجعن بالطل هاما سكونا وعلمنا الضرب آباؤنا ... وسوف نعلم أيضا بنينا جلاد الكماة وبذل التلا ... د عن جل أحسابنا ما بقينا إذا مر قرن كفى نسله ... وأورثه بعده آخرينا تشب وتهلك آباؤنا ... وبينا نربى بنينا فنينا وقال حسان بن ثابت يبكى حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه: أتعرف الدار عفا رسمها ... بعدك صوب السبل الهاطل «1» بين السراديح فأدمانة ... فمدفع الروحاء فى حائل «2» سألتها عن ذاك فاستعجمت ... لم تدر ما مرجوعة السائل «3» دع عنك دارا قد عفا رسمها ... وابك على حمزة ذى النائل «4» المالئ الشيزى إذا أعصفت ... غبراء فى ذى الشبم الماحل «5» والتارك القرن لدى لبدة ... يعثر فى ذى الخرص الذابل «6» واللابس الخيل إذ أجحمت ... كالليث فى غابته الباسل أبيض فى الذروة من هاشم ... لم يمر دون الحق بالباطل مال شهيدا بين أسيافكم ... شلت يدا وحشى من قاتل «7» أى امرئ غادر فى ألة ... مطرورة مارنة العامل «8»

_ (1) عفا: أى غير ودرس. ورسمها: أى أثرها. (2) السراديح: جمع سرادح، وهو الوادى. وأدمانة: اسم موضع. والروحاء: اسم موضع. وحائل: جبل. (3) استعجمت: أى لم ترد جوابا. ومرجوعة السائل: أى رجوع جوابه. (4) النائل: أى العطاء. (5) الشيزى: الجفان التى تصنع من خشب الشيز. (6) القرن: الذى يقاومك فى القتال. واللبدة: أى الغبار الملبد. (7) وحشى: هو قاتل حمزة. (8) والألة: الحربة التى لها سنان طويل. والمطرورة: أى المحددة. والمارنة: أى اللينة. والعامل: أعلى

أظلمت الأرض لفقدانه ... واسود نور القمر الناصل صلى عليه الله فى جنة ... عالية مكرمة الداخل كنا نرى حمزة حرزا لنا ... فى كل أمر نابنا نازل وكان فى الإسلام ذا تدرأ ... يكفيك فقد القاعد الخاذل لا تفرحى يا هند واستحلبى ... دمعا وأذرى عبرة الثاكل وابك على عتبة إذ قطه ... بالسيف تحت الرهج الجائل إذا خر فى مشيخة منكم ... من كل عات قلبه جاهل أرداهم حمزة فى أسرة ... يمشون تحت الحلق الفاضل غداة جبريل وزير له ... نعم وزير الفارس الحامل وقال عبد الله بن رواحة يبكى حمزة، وتروى- أيضا- لكعب بن مالك رضى الله عنهم أجمعين: بكت عينى وحق لها بكاها ... وما يغنى البكاء ولا العويل على أسد الإله غداة قالوا ... أحمزة ذاكم الرجل القتيل أصيب المسلمون به جميعا ... هناك وقد أصيب به الرسول أبا يعلى لك الأركان هدت ... وأنت الماجد البر الوصول عليك سلام ربك فى جنان ... مخالطها نعيم لا يزول وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكى أخاها حمزة رضى الله عنهما: أسائلة أصحاب أحد مخافة ... بنات أبى من أعجم وخبير فقال الخبير إن حمزة قد ثوى ... وزير رسول الله خير وزير دعاه الإله الحق ذو العرش دعوة ... إلى جنة يحيا بها وسرور فذلك ما كنا نرجى ونرتجى ... لحمزة يوم الحشر خير مصير فو الله لا أنساك ما هبت الصبا ... بكاء وحزنا محضرى ومسيرى على أسد الله الذى كان مدرها ... يذود عن الإسلام كل كفور فيا ليت شلوى عند ذاك وأعظمى ... لدى أضبع تعتادنى ونسور أقول وقد أعيى النعى عشيرتى ... جزى الله خيرا من أخ ونصير وقالت نعم امرأة شماس بن عثمان تبكى زوجها شماسا وأصيب يوم أحد:

_ أعلى الرمح.

يا عين جودى بفيض غير إبساس ... على كريم من الفتيان لباس صعب البديهة ميمون نقيبته ... حمال ألوية ركاب أفراس «1» أقول لما أتى الناعى له جزعا ... أودى الجواد وأودى المطعم الكاسى «2» وقلت لما خلت منه مجالسه ... لا يبعد الله عنا قرب شماس فأجابها أخوها يعزيها فقال: اقنى حياءك فى ستر وفى كرم ... فإنما كان شماس من الناس «3» لا تقتلى النفس إذ حانت منيته ... فى طاعة الله يوم الروع والباس «4» قد كان حمزة ليث الله فاصطبرى ... فذاق يومئذ من كأس شماس وقالت هند بنت عتبة حين انصرف المشركون عن أحد: رجعت وفى نفسى بلابل جمة ... وقد فاتنى بعض الذى كان مطلبى «5» من أصحاب بدر من قريش وغيرهم ... بنى هاشم منهم ومن أهل يثرب ولكننى قد نلت شيئا ولم يكن ... كما كنت أرجو فى مسيرى ومركبى وهذه هند أم معاوية بن أبى سفيان، وكانت امرأة فيها مكارة وذكورة ولها نفس وأنفة، وكان المسلمون قد أصابوا يوم بدر أباها عتبة وعمها شيبة وأخاها الوليد، فأصابها من ذلك ما يصيب من مثله النفوس الشهمة والقلوب الكافرة، فخرجت إلى أحد مع زوجها أبى سفيان تبتغى الانتصار وتطلب الأوتار، فهذا قولها- يرحمها الله- والوتر يقلقها والكفر يحنقها والحزن يحرقها والشيطان ينطقها. ثم إن الله سبحانه هداها إلى الإسلام وأخذ بحجزتها عن سواء النار، فصلحت حالها وتبدلت أقوالها، حتى قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قالت له: والله يا رسول الله، ما كان على الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك، وما أصبح اليوم الأرض خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك. أو نحو هذا من القول. فالحمد لله الذى هدانا برسوله أجمعين، وإياه سبحانه نسأل أن يميتنا على خير ما هدانا إليه، لا مبدلين ولا مغيرين. ***

_ (1) البديهة: أول الأمر والرأى. وميمون نقيبته: أى مسعود الفأل. والألوية: جمع لواء، وهو العلم. (2) الناعى: الذى يأتى بخبر الميت. (3) اقنى حياءك: أى حافظى عليه ولا تخرجى عنه. (3) اقنى حياءك: أى حافظى عليه ولا تخرجى عنه. (4) المنية: أى الموت. والروع: أى الفزع. والبأس: أى الشجاعة. (5) البلابل: أى الأحزان.

غدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

غدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة، وهم بنو الهون ابن خزيمة بن مدركة، فقالوا له: يا رسول الله، إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا فى الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام. فبعث معهم ستة من أصحابه: مرثد بن أبى مرثد الغنوى «1» وأمره عليهم، وخالد بن البكير «2» ، وعاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، وخبيب بن عدى «3» ، وزيد بن الدثنة «4» ، وعبد الله بن طارق «5» . فخرجوا حتى إذا كانوا على الرجيع، ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدر الهدأة «6» ، غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم وهم فى رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم. فأما مرثد وخالد وعاصم فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا. وقال عاصم: ما علتى وأنا جلد نابل ... والقوس فيها وتر عنابل «7»

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7895) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4831) ، البداية والنهاية (6/ 353) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 68) ، تهذيب الكمال (3/ 1314) ، تهذيب التهذيب (10/ 82) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2153) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1348) ، طبقات ابن سعد (3/ 1/ 283) . (3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2227) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1417) ، حلية الأولياء (1/ 112، 114) . (4) انظر ترجمته فى: أسد الغابة ترجمة رقم (1835) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 199) ، الإصابة ترجمة رقم (2605) . (5) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4787) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3026) . (6) الهدأة: موضع بين عسفان ومكة. (7) النابل: صاحب النبل. وعنابل: أى غليظ شديد.

تزل عن صفحتها المعابل ... الموت حق والحياة باطل وكل ما حم الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آثل إن لم أقاتلكم فأمى هابل ثم قاتل القوم حتى قتل وقتل صاحباه رحمهم الله. فلما قتل عاصم ارادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد بمكة، وكانت حين أصاب ابنيها يوم أحد نذرت لئن قدرت على راس عاصم لتشربن فى قحفة الخمر، فمنعه الدبر فقالوا: دعوه حتى يمسى فتذهب عنه فنأخذه. فبعث الله الوادى فاحتمل عاصما فذهب به. وقد كان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمس مشركا وألا يمسه مشرك أبدا، تنجسا! فكان عمر بن الخطاب يقول: يحفظ الله العبد المؤمن! كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا فى حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه فى حياته. وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدى وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا فى الحياة، فأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران «1» انتزع عبد الله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران. وأما خبيب بن عدى وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فابتاع خبيبا حجير بن أبى إهاب التميمى لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل ليقتله بأبيه. وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، فبعث به مع مولى له يقال له: نسطاس إلى التنعيم، فأخرجوه من الحرم ليقتلوه، واجتمع رهط من قريش منهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان لما قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك فى أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدا الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنى جالس فى أهلى! يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا. ثم قتله- رحمه الله- نسطاس مولى صفوان.

_ (1) الظهران: واد قرب مكة عنده قرية يقال لها: مرّ، تضاف إلى هذا الوادى، فيقال: واد الظهران. انظر: معجم البلدان (4/ 63) .

قال ابن عقبة: وزعموا أنهم رموه بالنبل وأرادوا فتنته فلم يزده إلا إيمانا ويقينا. وأما خبيب بن عدى فجلس بمكة فى بيت ماوية مولاة حجير بن أبى إهاب، فكانت تخبر بعد ما أسلمت، قالت: لقد اطلعت عليه يوما وإن فى يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وو الله ما أعلم فى أرض الله عنبا يؤكل! قالت: وقال لى حين حضره القتل: ابعثى إلى بحديدة أتطهر بها للقتل، فأعطيت الموسى غلاما من الحى فقلت: ادخل بها على هذا الرجل، قالت: فو الله ما هو إلا أن ولى الغلام بها إليه، فقلت: ماذا صنعت؟ أصاب والله الرجل ثأره يقتل هذا الغلام، فيكون رجلا برجل. فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدرى حين بعثتك بهذه الحديدة إلىّ؟ ثم خلى سبيله. ثم خرجوا بخبيب حتى إذا جاؤا به التنعيم ليصلبوه قال لهم: إن رأيتم أن تدعونى حتى أركع ركعتين فافعلوا. قالوا له؛ دونك فاركع. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا تظنوا أنى إنما طولت جزعا من القتل لا ستكثرت من الصلاة. فكان خبيب أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين. ثم رفعوه على خشبة، فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا. ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا. ثم قتلوه. فكان معاوية بن أبى سفيان يقول: حضرت- يومئذ- فيمن حضره مع أبى أبى سفيان، فلقد رأيته يلقينى فى الأرض فرقا من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: الرجل إذا دعى عليه فاضطجع لجنبه زلت عنه. وكان ممن حضره- يومئذ- سعيد بن عامر بن جذيم الجمحى «1» ، ثم أسلم بعد ذلك واستعمله عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- على بعض الشام، فكانت تصيبه غشية بين ظهرى القوم، فذكر ذلك لعمر وقيل: إن الرجل مصاب. فسأله عمر- رحمه الله- فى قدمة قدمها عليه فقال: يا سعيد، ما هذا الذى يصيبك؟ قال: والله يا أمير

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3280) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2084) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 223) ، شذرات الذهب (2) ، الجرح والتعديل (4/ ترجمة 205) ، حلية الأولياء (1/ 368) ، الطبقات الكبرى (7/ 242، 402) ، صفة الصفوة (1/ 660) ، الوافى بالوفيات (15/ 320) ، البداية والنهاية (6/ 103) .

حديث وقعة الجسر

المؤمنين ما بى من بأس، ولكنى كنت فيمن حضر خبيب بن عدى حين قتل وسمعت دعوته، فو الله ما خطرت على قلبى وأنا فى مجلس قط إلا وغشى على فزادته عند عمر خيرا. وذكر ابن عقبة أن خبيبا وزيدا قتلا فى يوم واحد، قال: وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو جالس فى ذلك اليوم الذى قتلا فيه: «وعليكما أو وعليك السلام، خبيب قتلته قريش» ، لا ندرى أذكر ابن الدثنة معه أم لا. وقال خبيب- رحمه الله- لما اجتمع القوم لصلبه: لقد جمع الأحزاب حولى وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع «1» وكلهم مبدى العداوة جاهد ... علىّ لأنى فى وثاق بمضيع وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتى ثم كربتى ... وما أرصد الأحزاب لى عند مصرعى فذا العرش صبرنى على ما يراد بى ... فقد بضعوا لحمى وقد ياس مطمعى وذلك فى ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع وقد خيرونى الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناى من غير مجزع «2» وما بى حذار الموت إنى لميت ... ولكن حذارى جحيم نار ملفع «3» ولست أبالى حين أقتل مسلما ... على أى جنب كان فى الله مصرعى فلست بمبد للعدو تخشعا ... ولا جزعا إنى إلى الله مرجعى وقال حسان بن ثابت يبكى خبيبا: يا عين جودى بدمع منك منسكب ... وابكى خبيبا مع الفتيان لم يؤب صقرا توسط فى الأنصار منصبه ... سمح السجية محضا غير مؤتشب قد هاج عينى على علات عبرتها ... إذ قيل نص إلى جذع من الخشب يا أيها الراكب الغادى لطيته ... أبلغ اليك وعيدا ليس بالكذب «4» بنى كهينة أن الحرب قد لقحت ... محلوبها الصاب إذ تمرى لمحتلب فيها أسود بنى النجار تقدمهم ... شهب الأسنة فى معصوصب لجب

_ (1) ألبوا: أى جمعوا. ومجمع: مكان الاجتماع. (2) هملت عيناى: أى سال دمعها. (3) الجحيم: أى الملتهب المتقد. والملفع: أى المشتمل. (4) الطية: ما انطوت عليه نيتك من الجهة التى تريد أن تتوجه إليها.

غزوة بئر معونة

وقال حسان- أيضا- يهجو هذيلا: لعمرى لقد شانت هذيل بن مدرك ... أحاديث كانت فى خبيب وعاصم أحاديث لحيان صلوا بقبيحها ... ولحيان جرامون شر الجرائم «1» أناس هم من قومهم فى صميمهم ... بمنزلة الزمعان دبر القوائم هم غدروا يوم الرجيع وأسلمت ... أمانتهم ذا عفة ومكارم رسول رسول الله غدرا ولم تكن ... هذيل توقى منكرات المحارم فسوف يرون النصر يوما عليهم ... بقتل الذى يحميه دون المحارم أبابيل دبر شمس دون لحمه ... حمت لحم شهاد عظام الملاحم لعل هذيلا أن يروا بمصابه ... مصارع قتلى أو مقاما لمأتم ويوقع فيهم وقعة ذات صولة ... يوافى بها الركبان أهل المواسم بأمر رسول الله إن رسوله ... رأى رأى ذى حزم بلحيان عالم قبيلته ليس الوفاء يهمهم ... وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم إذا الناس حلوا بالقضاء رأيتهم ... بمجرى مسيل الماء بين المخارم «2» محلهم دار البوار ورأيهم ... إذا نابهم أمر كرأى البهائم غزوة بئر معونة «3» وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بئر معونة فى صفر على رأس أربعة أشهر من أحد. وكان من حديثهم أن أبا براء ملاعب الأسنة، واسمه عامر بن مالك بن جعفر قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ودعاه إليه، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنى أخشى عليهم أهل نجد» «4» . قال: أنا لهم جار فابعثهم.

_ (1) صلوا بقبيحها: أى أصابهم شرها. وجرامون: أى كاسبون. (2) المخارم: مسايل الماء التى يخرمها السيل، أى يقطعها. (3) راجع الغزوة فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 51، 54) ، المنتظن لابن الجوزى (3/ 198) ، المغازى للواقدى (1/ 346) . (4) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 128) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 339) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 73) .

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة، المعنق ليموت، فى أربعين رجلا من أصحابه، منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمى، ونافع بن بديل بن ورقاء، وعامر بن فهيرة، فى رجال مسمين من خيار المسلمين. فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهى بين أرض بنى عامر وحرة بنى سليم، كلا البلدين منها قريب، وهى إلى حرة بنى سليم أقرب. فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاهم لم ينظر فى كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بنى عامر فأبوا أن يجيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدا وجوارا. فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم: عصية ورعلا وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم فى رحالهم فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم رحمهم الله، إلا كعب بن زيد أخا بنى دينار بن النجار- يرحمه الله- فإنهم تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا. وكان فى سرح القوم عمرو بن أمية الضمرى، ورجل من الأنصار من بنى عمرو بن عوف قيل: إنه المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذا الطير لشأنا. فأقبلا لينظرا فإذا القوم فى دمائهم وإذا الخيل التى اصابهم واقفة. فقال الأنصارى لعمرو بن أمية: ما ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر. فقال الأنصارى: لكنى ما كنت لأرغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرنى عنه الرجال. ثم قاتل القوم حتى قتل. وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بنى عامر حتى نزلا معه فى ظل هو فيه فسألهما ممن أنتما؟ فقالا: من بنى عامر. فأمهلهما حتى

ذكر غزوة بنى النضير والسبب الذى هاج الخروج إليهم

إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بنى عامر فى ما أصابوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية، فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر قال: لقد قتيلين لأدينهما. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا عمل أبى براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا» «1» . وكان فيمن أصيب- يومئذ- عامر بن فهيرة، فكان عامر بن الطفيل يقول: من رجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه؟ قالوا: هو عامر بن فهيرة. وذكر ابن عقبة أنه لم يوجد جسد عامر بن فهيرة يومئذ، فيرون أن الملائكة هى وارته، رحمة الله عليه. وكان جبار بن سلمى فيمن حضرها- يومئذ- مع عامر بن الطفيل ثم أسلم فكان يقول: إن مما دعانى إلى الإسلام أنى طعنت رجلا منهم بالرمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول: فزت والله! فقلت فى نفسى: ما فاز! ألست قد قتلت الرجل؟! حتى سألت بعد ذلك عن قوله فقالوا: الشهادة. فقلت: فاز لعمر الله. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو فى صلاة الغداة على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة، يدعو على رعل وذكوان وعصية الذين عصوا الله ورسوله، وأنزل فيمن قتل هنالك قرآن ثم رفع: «بلغوا عنا قومنا أن لقينا ربنا فرضى عنا ورضينا عنه» . ذكر غزوة بنى النضير «2» والسبب الذى هاج الخروج إليهم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يستعينهم فى دية العامرين، اللذين قتل عمرة

_ (1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 37) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 341) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 129) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 73) . (2) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 363) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 40) ، تاريخ الطبرى (2/ 550) ، الكامل (2/ 64) ، صحيح البخارى (5/ 88) ، فتح البارى (7/ 329) ، عيون الأثر (2/ 61) ، الدرر لابن عبد البر (164) ، البداية والنهاية (4/ 74) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 176، 354) .

ابن أمية الضمرى، للجور الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما، فقالوا له لما كلمهم فى ذلك: نعم، يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ظل جدار من جدر بيوتهم معه نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلى، ينتظرون أن يصلحوا أمرهم. فخلا بعضهم ببعض والشيطان معهم لا يفارقهم، فائتمروا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيقلى عليه صخرة فيريحنا منه. فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك وصعد ليفعل. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام راجعا إلى المدينة وترك أصحابه فى مجلسهم، فلما استلبث النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا فى طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال: لقيته داخلا المدينة، فأقبلوا حتى انتهوا إليه فأخبرهم بما كانت يهود أرادت من الغدر به. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم، ثم سار بالناس ونزل بهم، فتحصنوا منه فى الحصون. وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجلاء عن أوطانهم وأن يسيروا حيث شاؤا فراسلهم أولياؤهم من المنافقين- عبد الله بن أبى فى رهط من قومه- حين سمعوا ما يراد منهم: أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قاتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم. فغرتهم أمانى المنافقين، ونادوا النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إنا والله لا نخرج، ولئن قاتلتنا لنقاتلنك. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر الله فيهم، فلما انتهى إلى أزقتهم وحصونهم كره أن يمكنهم من القتال فى دورهم وحصونهم، فحفظ الله له أمره وعزم له على رشده، فأمر بالأدنى فالأدنى من دورهم أن تهدم وبالنخيل أن تحرق وتقطع، وكف الله أيديهم وأيدى المنافقين فلم ينصروهم، وألقى الله فى قلوب الفريقين كليهما الرعب، فهدموا الدور التى هم فيها من أدبارها، فلما كادوا يبلغون آخر دورهم وهم ينتظرون المنافقين

ويتربصون من نصرهم ما كانوا يمنونهم به حتى يئسوا مما عندهم، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كان عرض عليهم قبل ذلك. فقاضاهم- صلوات الله عليه وسلامه- على أن يجليهم ويكف عن دمائهم وعلى أن لهم ما استقلت به الإبل من أموالهم إلا الحلقة فقط. فطاروا بذلك كل مطير وتحملوا بما أقلت إبلهم، حتى إن الرجل ليهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وكان أشرافهم بنو أبى الحقيق وحيى بن أخطب فيمن سار إلى خيبر، فلما نزلوها دان لهم أهلها. وخلى بنو النضير الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت له خاصة بحكم الله له بها ليضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منها. وكانت اليهود قد عيروا المسلمين حين يهدمون الدور ويقطعون النخل فنادوا: أن محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ وما ذنب شجرة وأنتم تزعمون أنكم مصلحون فى الأرض؟! فأنزل الله- سبحانه- فى قصتهم وما ذكروه من قولهم وبيان وجه الحكم فى أموالهم سورة الحشر بأسرها. فقال عز من قائل: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ، للذى كان منهم من الهدم من أدبار بيوتهم وهدم المسلمين لما يليهم منها. وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا أى بالسيف وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ أى مع ما لقوه فى الدنيا من النقمة. ثم قال- تعالى- فيما عابوه من قطع النخيل وعدوه من ذلك فسادا: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ أى فبأمر الله قطعت، لم يكن ذلك فسادا بل نقمة أنزلها بهم وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ.

ثم بين تعالى لرسوله الحكم فى أموالهم وأنها نفل له لا سهم لأحد فيها معه فقال عز ذكره وجل قوله: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أراه الله من المهاجرين الأولين كما تقدم، وأعطى منها الرجلين المسميين من الأنصار. وقال على بن أبى طالب يذكر إجلاء بنى النضير وما تقدم قبل ذلك من قتل كعب ابن الأشرف، ويقال: بل قالها رجل من المسلمين غير علىّ: عرفت ومن يعتدل يعرف ... وأيقنت حقا ولم أصدف «1» عن الكلم المحكم اللاء من ... لدى الله ذى الرأفة الأراف رسائل تدرس فى المؤمنين ... بهن اصطفى أحمد المصطفى فأصبح أحمد فينا عزيزا ... عزيز المقامة والموقف «2» فيا أيها الموعدوه سفاها ... ولم يأت جورا ولم يعنف «3» ألستم تخافون أدنى العذاب ... وما آمن الله كالأخوف وأن تصرعوا تحت أسيافه ... كمصرع كعب أبى الأشرف غداة رأى الله طغيانه ... وأعرض كالجمل الأحنف فأنزل جبريل فى قتله ... بوحى إلى عبده ملطف فدس الرسول رسولا له ... بأبيض ذى هبة مرهف فباتت عيون له معولات ... متى ينع كعب لها تذرف «4» وقلن لأحمد ذرنا قليلا ... فإنا من النوح لم نشتف فخلاهم ثم قال اظعنوا ... دحورا على رغم الآنف وأجلى النضير إلى غربة ... وكانوا بدار ذوى زخرف إلى أذرعات ردافى وهم ... على كل ذى دبر أعجف «5»

_ (1) لم أصدف: لم أعرض. (2) المقامة: موضع الإقامة. (3) السفاه: الضلال. لم يعتف: أى لم يأتى غير العفة. (4) معولات: باكيات بصوت مرتفع. ينعى: يذكر خبر قتله. تذرف: تسيل بالدموع. (5) أذرعات: بلد فى أطراف الشام يجاور أرض البلقاء ينسب إليها الخمر. انظر: معجم البلدان (1/ 130) .

غزوة ذات الرقاع

ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب «1» ، ابن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب «2» ، أسلما خوفا على أموالهما فأحرزاها، وحدث بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: «ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأنى؟» «3» فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله، فيما يزعمون. غزوة ذات الرقاع «4» ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بنى النضير شهر ربيع وبعض جمادى، ثم غزا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلا. وهى غزوة ذات الرقاع وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، وقيل: لأجل شجرة بذلك الموضع يقال لها: ذات الرقاع. وقيل: لما كانوا يعصبون على أرجلهم من الخرق إذ نقبت أقدامهم. فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك جمعا من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وخاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف بهم. وفى هذه الغزوة عرض له رجل من محارب يقال له: غورث، وقد قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به. فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه فى حجره فقال: يا محمد، أنظر إلى سيفك هذا؟ قال: «نعم» «5» . فأخذه فاستله ثم جعل يهزه ويهم به فيكبته الله، ثم قال: يا محمد، أما

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (9233) . (2) انظر ترجمته فى: الإكمال (1/ 3960) ، الإصابة ترجمة رقم (10010) ، أسد الغابة (5955) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 76) . (4) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 395) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 43) ، تاريخ الطبرى (2/ 55) ، الكامل (2/ 66) ، دلائل النبوة (3/ 369) ، البداية والنهاية (4/ 83) . (5) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 9، 10، 13، 7/ 189، 1/ 5، 16، 63، 153) ، صحيح مسلم (42، 44، 56، 61، 167، 251، 275) ، سنن الترمذى (669، 726، 1204) ، سنن ابن ماجه (181، 557، 842، 1235، 1414، 435، 550، 696، 973، 1135، 1254، 1759، 1835، 2716، 2717، 1425، 1475، 1476، -

حديث البويب ووقعة مهران

تخافنى؟ قال: «لا والله ما أخاف منك» . قال: أما تخافنى وفى يدى السيف؟ قال: «بلى يمنعنى الله منك» «1» . ثم عمد إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده عليه. فأنزل الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة: 11] . وقيل: إنها إنما نزلت فى عمرو بن جحاش وما هم به من إلقاء الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وصل إلى بنى النضير مستعينا بهم فى دية العامريين. فالله أعلم أى ذلك كان. وحدث جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة ذات الرقاع من نخل فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا أتى زوجها وكان غائبا، فلما أخبر الخبر حلف أن لا ينتهى حتى يهريق فى أصحاب محمد دما، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا، فقال: «من رجل يكلؤنا «2» ليلتنا؟» «3» قال: فانتدب رجل من المهاجرين، قيل: هو عمار بن ياسر، ورجل من الأنصار، قيل: هو عباد بن بشر، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب قال الأنصارى

_ - 1510، 1718، 1915، 1945، 2907، 3236، 3451) ، مسند الإمام أحمد (1/ 27، 2041، 5/ 100) ، سنن الدارمى (1/ 12) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 158، 168، 442، 9/ 43) ، مستدرك الحاكم (2/ 214) ، مصنف ابن أبى شيبة (8/ 431، 480، 9/ 88، 10/ 521، 564، 11/ 8، 10، 12/ 41، 42، 45، 141، 14/ 149، 305، 324، 435، 439، 594) ، المعجم الكبير للطبرانى (1/ 172، 2/ 29، 231، 7/ 21، 11/ 246، 247، 270، 331، 12/ 134، 153، 167، 168، 185، 199، 200، 431، 436، 437) ، كنز العمال للمتقى الهندى (4660/ 128846، 12855، 35346، 35446، 35488، 35493، 35866، 37527، 37566، 37669، 45891) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 87، 11/ 491) ، زاد المسير لابن الجوزى (5/ 69) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (3/ 595) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 340، 354) . (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 84) . (2) يكلؤنا: أى يحفظنا. (3) انظر الحديث فى: سنن أبى داود باب (79) ، مسند الإمام أحمد (3/ 344) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 140، 9/ 150) ، مستدرك الحاكم (1/ 156) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 85) .

للمهاجرى: أى الليل تحب أن أكفيكه أوله أو آخره؟ قال: بل اكفنى أوله فاضطجع المهاجرى فنام، وقام الأنصارى يصلى، وأتى الرجل فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم فوضعه فيه، قال: فانتزعه عنه وثبت قائما، ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه، وثبت قائما، ثم عاد له بثالث، فوضعه فيه فنزعه ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه فقال: اجلس فقد أثبت. قال: فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به فهرب، فلما رأى المهاجرى ما بالأنصارى من الدماء، قال: سبحان الله، أفلا أهببتنى أول ما رماك؟ قال: كنت فى سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها فلما تابع على الرمى ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسى قبل أن أقطعها أو أنفذها! وقال جابر بن عبد الله: خرجت إلى غزوة ذات الرقاع على جمل لى ضعيف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضى وجعلت أتخلف، حتى أدركنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لك يا جابر؟» قلت: يا رسول الله، أبطأ بى جملى، قال: «أنخه» «1» فأنخته وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أعطنى هذه العصا من يدك أو اقطع لى عصا من شجرة» «2» ، ففعلت، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات ثم قال: «اركب» » ، فركبت فخرج- والذى بعثه بالحق- يواهق ناقته مواهقة، وتحدثت معه فقال لى: «أتبيعنى جملك هذا يا جابر؟» «4» قلت: يا رسول الله، بل أهبه لك. قال: «لا ولكن بعينه» . قلت: فسمنيه. قال: «قد أخذته بدرهم» . قلت: لا إذن تغبننى يا رسول الله. قال: «فبدرهمين» . قلت: لا. فلم يرفع لى حتى بلغ الأوقية فقلت: أقد رضيت؟ قال: «نعم» . قلت: فهو لك. قال: «قد أخذته» «5» . ثم قال: «يا جابر، هل تزوجت بعد؟» «6» قلت: نعم يا رسول الله، قال: «أثيبا أم بكرا؟» قلت: بل ثيبا. قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟» قلت: يا رسول الله، إن

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 382) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 517، 3/ 375) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 86) . (3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 376) ، المعجم الكبير للطبرانى (17/ 336) . (4) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 316) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 382) . (5) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (916) ، مسند الإمام أحمد (3/ 376) ، سنن الدارقطنى (3/ 45) . (6) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 376) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (3/ 390) .

أبى أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤسهن وتقوم عليهن. قال: «أصبت إن شاء الله، أما إنه لو قد جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذلك وسمعت بنا فنفضت نمارقها» «1» . قلت: والله يا رسول الله مالها من نمارق. قال: «إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا» «2» . قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى دخل ودخلنا، فحدثت المرأة الحديث وما قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فدونك فسمع وطاعة. فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلست فى المسجد قريبا منه، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل، فقال: «ما هذا؟» «3» فقالوا: يا رسول الله، هذا جمل جاء به جابر. قال: «فأين جابر؟» فدعيت له. فقال: «يا ابن أخى خذ برأس جملك فهو لك» . ودعا بلالا وقال: «اذهب بجابر فأعطه أوقية» «4» .

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 123) ، صحيح مسلم فى كتاب الفضائل (84) ، سنن النسائى (1/ 172) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 254، 6/ 67) ، مستدرك الحاكم (3/ 306) ، سنن الدارقطنى (4/ 229) ، المعجم الكبير للطبرانى (1/ 87، 2/ 290) ، موارد الظمآن للهيثمى (999، 1334) ، مسند الإمام أحمد (3/ 308، 376) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 453) ، كنز العمال للمتقى الهندى (13567، 45632) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 240) ، 4/ 110) ، منحة المعبود للساعاتى (1049) ، تفسير الطبرى (1/ 13، 14) ، تفسير ابن كثير (8/ 475) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 64) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 1/ 88، 4/ 1/ 163) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 29) ، موطأ مالك (366) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 376) . (3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب صلاة المسافرين (291) ، سنن الترمذى (1094) ، سنن النسائى (3/ 72، 4/ 84، 6/ 164، 280، 7/ 30، 273) ، مسند الإمام أحمد (5/ 438) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 2/ 157، 4/ 1/ 16، 24، 58، 59) ، سنن الدارقطنى (2/ 55، 8/ 86، 215) ، مصنف ابن أبى شيبة (1/ 122، 337، 3/ 225، 6/ 552، 8/ 76، 80، 379، 11/ 437، 14/ 280، 323) ، المعجم الكبير للطبرانى (11/ 320، 12/ 5، 94، 95، 17/ 13، 249، 18/ 172، 189) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 99) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 86، 7/ 260، 8/ 68، 121، 9/ 35، 85، 86، 96، 336، 338، 10/ 241، 242، 852) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (3/ 179، 447) ، سنن أبى داود (4068، 5236، 4748) ، سنن ابن ماجه (2136، 4160) . (4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 2097) ، مسند الإمام أحمد (3/ 375، 376) .

قال: فذهبت معه فأعطانى أوقية وزادنى شيئا يسيرا، فو الله ما زال ينمى عندى ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا! يعنى يوم الحرة. قال ابن إسحاق «1» : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى الآخرة ورجب. ثم خرج فى شعبان إلى بدر لميعاد أبى سفيان، حتى نزله فأقام عليه ثمانى ليال ينتظره. وخرج أبو سفيان، فى أهل مكة، حتى نزل مجنة من ناحية، الظهران- وبعض الناس يقول غسفان- ثم بداله فى الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب، وإنى راجع فارجعوا. فرجع الناس، فسماهم أهل مكة جيش السويق يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بدر ينتظر ابا سفيان لميعاده، فأتاه مخشى بن عمرو الضمرى، وهو الذى كان وادعه على بنى ضمرة فى غزوة ودان فقال: يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: «نعم يا أخا بنى ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك» «2» . قال: لا والله يا محمد، مالنا بذلك منك من حاجة. ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو هناك ينتظر أبا سفيان معبد بن أبى معبد الخزاعى فقال وناقته تهوى به، وقد رأى مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد نفرت من رفقتى محمد ... وعجوة من يثرب كالعنجد «3» تهوى على دين أبيها الأتلد ... قد جعلت ماء قديد موعدى وماء ضجان لها ضحى الغد وقال عبد الله بن رواحة فى ذلك، ويقال: إنها لكعب بن مالك: وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد ... لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... لأبت ذميما وافتقدت المواليا

_ (1) انظر السيرة (3/ 178) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 88) . (3) العنجد: حب الزبيب.

غزوة الخندق

تركنا به أوصال عتبة وابنه ... وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا عصيتم رسول الله أف لدينكم ... وأمركم السيئ الذى كان غاويا فإنى وإن عنفتمونى لقائل ... فدا لرسول الله أهلى وماليا أطعناه لم نعدله فينا بغيره ... شهابا لنا فى ظلمة الليل هاديا وقال حسان بن ثابت فى ذلك: دعوا فلجات الشام قد حال دونها ... جلاد كأفواه المخاض الأوارك بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم ... وأنصاره حقا وأيدى الملائك إذا سلكت للغور من بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك أقمنا على الرس النزوع ثمانيا ... بأرعن جرار عريض المبارك بكل كميت جوزه نصف خلقه ... وقب طوال مشرفات الحوارك ترى العرفج العامى تذرى أصوله ... مناسم أخفاف المطى الرواتك «1» فإن نلق فى تطوافنا والتماسنا ... فرات بن حيان يكن رهن هالك وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده ... يزد فى سواد لونه لون حالك فأبلغ أبا سفيان عنى رسالة ... فإنك من غر الرجال الصعالك ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقام بها حتى مضى ذو الحجة، وهى سنة أربع من مقدمه المدينة، ثم غزا دومة الجندل «2» ، ثم رجع قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا، صلى الله عليه وسلم. غزوة الخندق «3» وكانت فى شوال من سنة خمس فى قول ابن إسحاق. وكان من الحديث عن الخندق أنه لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى النضير خرج نفر من اليهود- سلام بن أبى الحقيق وحيى بن أخطب وكنانة بن الربيع النضريون، وهوذة بن

_ (1) مناسم: جمع منسم، وهو طرف خف البعير. والرواتك: أى المسرعة. (2) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 402) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 44) ، تاريخ الطبرى (2/ 564) ، البداية والنهاية (4/ 92) ، دلائل النبوة (3/ 389) . (3) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (2/ 440) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 47) ، تاريخ الطبرى (2/ 564) ، الكامل (2/ 70) ، البداية والنهاية (4/ 92) ، دلائل النبوة (13/ 392) .

قيس وأبو عمارة الوائليان- فى نفر من بنى النضير وبنى وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قدموا مكة على قريش فاستفزوهم واستنفروهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى حربه، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين الله عز وجل فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [النساء: 51- 52] . فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا لذلك واتعدوا له. ثم خرج أولئك النفر حتى جاؤا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى مثل ما دعوا إليه قريشا، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك. وجعلت يهود لغطفان تحريضا على الخروج نصف تمر خيبر كل عام. فزعموا أن الحارث بن عوف أخا بنى مرة قال لعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ولقومه من غطفان: يا قوم أطيعونى، دعوا قتال هذا الرجل وخلوا بينه وبين عدوة من العرب، فغلب عليهم الشيطان وقطع أعناقهم الطمع ونفذوا لأمر عيينة على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتبوا إلى حلفائهم من بنى أسد، فأقبل طليحة الأسدى، فيمن اتبعه من بنى أسد، وهما الحليفان أسد وغطفان. وكتبت قريش إلى رجال من بنى سليم أشراف بينهم وبينهم أرحام استمدادا لهم، فأقبل أبو الأعور بمن اتبعه من سليم مددا لقريش. فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن فى بنى فزارة والحارث بن عوف فى بنى مرة ومسعر بن رخلية الأشجعى فيمن تابعه من قومه من أشجع، وتكامل لهم ولمن استمدوه فأمدهم جمع عظيم، هم الذين سماهم الله «الأحزاب» . فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجهم وبما أجمعوا له من الأمر أخذ فى حفر الخندق وضربه على المدينة، فعمل فيه صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين فى العمل والأجر وعمل معه المسلمون، فدأب فيه ودأبوا حتى أحكموه.

وأبطأ عنهم فى عملهم ذلك رجال من المنافقين وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ويتسللون إلى أهلهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التى لا بد له منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه فى اللحوق بحاجته فيأذن له فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة فى الخبر واحتسابا له، فأنزل الله فى أولئك من المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 62] . فنزلت هذه الآية فيمن كان من المسلمين من أهل الحسبة والرغبة فى الحرب والطاعة لله ولرسوله. ثم قال تبارك وتعالى، يعنى المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النبى صلى الله عليه وسلم: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] . وكانت فى حفر الخندق أحاديث فيها من الله عبرة فى تصديق رسوله وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون. فمنها: أنه اشتد عليهم فى بعض الخندق كدية فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية فيقول من حضرها: فو الذى بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا مسحاة. ودعت عمرة بنت رواحة أم النعمان بن بشير ابنة لها من بشير فأعطتها حفنة من تمر فى ثوبها ثم قالت: أى بنية، اذهبى إلى ابيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما. قالت: فأخذتها فانطلقت فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبى وخالى، فقال: تعالى يا بنية، ما هذا معك؟ قالت: قلت: يا رسول الله، هذا تمر بعثتنى به أمى إلى أبى، بشير بن سعد وخالى عبد الله بن رواحة يتغديانه. قال: هاتيه. قالت: فصببته فى كفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتهما ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ فى أهل الخندق: أن هلم إلى الغداء. فاجتمع اهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق وإنه ليسقط من أطراف الثوب!

وقال جابر بن عبد الله: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخندق وكنا نعمل فيه نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فكانت معى شويهة غير جد سمينة، فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمرت امرأتى فطحنت لنا شيئا من شعير فصنعت لنا منه خبزا وذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الخندق قلت: يا رسول الله، إنى قد صنعت لك شويهة كانت عندنا وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فأحب أن تنصرف معى إلى منزلى. وإنما أريد أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم معى وحده. فلما قلت له ذلك قال: «نعم» . ثم أمر صارخا فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله. قال: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فجلس وأخرجناها إليه، فبرك وسمى الله ثم أكل وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها. وحدث سلمان الفارسى قال: ضربت فى ناحية من الخندق فغلظت على ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب منى، فلما رآنى أضرب ورأى شدة المكان على نزل فأخذ المعول من يدى فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله! ما هذا الذى رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: «أوقد رأيت ذلك يا سلمان» : قلت: نعم. قال: «أما الأولى فإن الله فتح على بها اليمن، وأما الثانبة فإن الله فتح على بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح بها على المشرق» «1» . فكان أبو هريرة يقول حين فتحت الأمصار فى زمان عمر وزمان عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فو الذى نفس أبى هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة فى عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع- فى ثلاثة آلاف

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 99) .

من المسلمين- فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذرارى والنساء فجعلوا فى الآطام. وخرج عدو الله حيى بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد صاحب عقد بنى قريظة، وعهدهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده على ذلك وعاهده، فلما سمع كعب بحيى بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حيى: ويحك يا كعب افتح لى. فقال: ويحك يا حيى إنك امرؤ مشؤوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا، قال: ويحك افتح لى أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال والله: إن أغلقت دونى إلا على جشيشتك أن آكل معك منها. فأحفظ الرجل ففتح له فقال: ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر وببحر طام! جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جنب أحد، قد عاهدونى وعاقدونى على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. فقال له كعب: جئتنى والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه فهو يرعد ويبرق وليس فيه شىء، ويحك يا حيى فدعنى وما أنا عليه فإنى لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حيى بكعب يفتله فى الذروة والغارب حتى سمح له، على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك فى حصنك حتى يصيا بنى ما أصابك. فنقض كعب بن أسد عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وهو- يومئذ- سيد الأوس وسعد بن عبادة، وهو- يومئذ- سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير فقال: «انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقا فالحنوا إلى لحنا أعرفه ولا تفتوا فى أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فأجهروا به الناس» . فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: من رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد؛ فشاتمهم سعد ابن معاذ وشاتموه، وكان رجلا فيه حدة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا أربى من المشاتمة.

ثم أقبلا ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسلموا عليه، ثم قالوا: عضل والقارة. أى كعذر عضل والقارة بأصحاب الرجيع- خبيب وأصحابه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين» «1» . وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين، وحتى قال قائل منهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!. وأقام عليه المشركون قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمياء. بالنبل والحصار. فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما المراوضة فى الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله، أمرا تحبه فتصنعه؟ أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: «بل شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا انى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما» «2» . فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنت وذلك» «3» . فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتب ثم قال: ليجهدوا علينا. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وعدوهم محاصروهم، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبى جهل وهبيرة بن أبى وهب

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 104) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 430) . (2) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (3/ 57) . البداية والنهاية لابن كثير (4/ 105) . (3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 430، 431) .

وضرار بن الخطاب تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خليهم حتى مروا بمنازل بنى كنانة فقالوا: تهيأوا يا بنى كنانة للحرب فستعلمون من الفرسان اليوم. ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها! ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربووا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم فى السبخة بين الخندق وسلع، وخرج على بن أبى طالب فى نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التى أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله قال: من يبارز؟ فبرز على بن أبى طالب فقال له: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، فقال له: أجل؛ فقال له على: فإنى أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لى بذلك. قال: فإنى أدعوك إلى النزال. قال له: ولم يا ابن أخى! فو الله ما أحب أن أقتلك. قال على: لكنى والله أحب أن أقتلك! فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على على فتنازلا وتجاولا، فقتله علىّ. وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة. وذكر ابن إسحاق فى غير رواية البكائى أن عمرا لما نادى يطلب من يبارزه قام على- رضى الله عنه- وهو مقنع فى الحديد فقال: أنا له يا نبى الله فقال له: «اجلس إنه عمرو» ثم ذكر عمرو النداء وجعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التى تزعمون أنه من قتل منكم دخلها! أفلا تبرزون إلى رجلا؟! فقام على فقال: أنا له يا رسول الله. قال: «اجلس إنه عمرو» . ثم نادى الثالثة وقال: ولقد بححت من الندا ... أبجمعكم هل من مبارز ووقفت إذ جبن المشجع ... وقفة الرجل المناجز وكذاك أنى لم أزل ... متسرعا نحو الهزاهز إن الشجاعة فى الفتى ... والجود من خير الغرائز فقال علىّ- رضى الله عنه- فقال: أنا له يا رسول الله. فقال: «إنه عمرو» فقال: وإن كان عمرا. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه علىّ وهو يقول: لا تعجلن فقد أتا ... ك مجيب صوتك غير عاجز

حديث غارة المثنى على سوقى الخنافس وبغداد

ذو نية وبصيرة ... والصدق منجى كل فائز إنى لأرجو أن أقي ... م عليك نائحة الجنائز من ضربة نجلاء يب ... قى ذكرها عند الهزاهز فقال عمرو: من أنت؟ قال: أنا على، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا على بن أبى طالب. فقال: غيرك يا ابن أخى من أعمامك من هو أسن منك، فإنى أكره أن أهريق دمك. فقال على: لكنى والله ما أكره أن أهريق دمك. فغضب ونزل فسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو على مغضبا. ويقال: إنه كان على فرسه فقال له على: كيف أقاتلك وأنت على فرسك؟ ولكن تنزل معى. فنزل عن فرسه ثم أقبل نحوه فاستقبله علىّ بدرقته فضربه عمرو فيها فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وضربه علىّ على حبل العاتق فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير فعرف أن عليا قد قتله، فثم يقول على رضى الله عنه: أعلى تقتحم الفوارس هكذا ... عنى وعنه أخبروا أصحابى فاليوم يمنعنى الفرار حفيظتى ... ومصمم فى الرأس ليس بنابى أدى عمير حين أخلص صقله ... صافى الحديدة يستفيض ثوابى فغدوت ألتمس القراع بمرهف ... عضب مع النتراء فى إقراب قال ابن عبد حين شد ألية ... وحلفت فاستمعوا من الكذاب أن لا يفر ولا يهلل فالتقى ... أسدان يضطربان كل ضراب نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت دين محمد بصواب فصددت حين تركته متجدلا ... كالجذع بين دكادك وروابى وعففت عن أثوابه ولو أننى ... كنت المجدل بزنى أثوابى لا تحسبن الله خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبنى قريظة: «حم لا ينصرون» . وكانت عائشة- رضى الله عنها- يوم الخندق فى حصن بنى حارثة، وكان من أحرز حصون المدينة، وكانت أم سعد بن معاذ معها فى الحصن، قالت عائشة: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، فمر سعد وعليه درع له مقصلة وقد خرجت منها ذراعه كلها وفى يده حربته يرقد بها- أى يسرع بها- فى نشاط، وهو يقول: لبث قليلا يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل فقالت أمه: الحق أى بنى فقد والله أخرت. قالت عائشة: فقلت لها: يا أم سعد،

والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هى. قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، فرمى سعد بسهم فقطع منه الأكحل، رماه حبان بن قيس بن العرقة أحد بنى عامر لؤى، فلما أصابه قال: خذها وأنا ابن العرقة. فقال له سعد: عرق الله وجهك فى النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقى لها فإنه لا قوم أحب إلى أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لى شهادة ولا تمتنى حتى تقرعينى من بنى قريظة. وكان عبد الله بن كعب بن مالك يقول: ما أصاب سعدا- يومئذ- إلا أبو أسامة الجشمى حليف بنى مخزوم، وقال فى ذلك شعرا يخاطب به عكرمة بن أبى جهل: أعكرم هلا لمتنى إذ تقول لى ... فداك بآطام المدينة خالد ألست الذى ألزمت سعدا مرشة ... لها بين أثناء المرافق عاند قضى نحبه منها سعيد فأعولت ... عليه مع الشمط والعذارى النواهد «1» فى أبيات ذكرها ابن إسحاق. ويقال: إن الذى رمى سعدا خفافة بن عاصم بن حبان. فالله أعلم أى ذلك كان. وكانت صفية بنت عبد المطلب فى فارع، أطم حسان بن ثابت، قالت: وحسان معنا فيه مع النساء والصبيان. قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فى نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت، قالت: قلت يا حسان، إن هذا اليهودى كما ترى يطيف بالحصن، وإنى والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فقتله. قال: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب! والله لقد علمت ما أنا بصاحب هذا. فلما قال لى ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت لحسان: انزل فاسلبه فإنى لم يمنعنى من سلبه إلا أنه رجل. قال: مالى بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.

_ (1) النحب: الأصل. والشمط: جمع شمطاء، وهى المرأة التى خالط شعرها الشيب. والنواهد: جمع ناهد، أى التى ظهر نهدها.

حديث السرايا من الأنبار

ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى قد أسلمت وإن قومى لم يعلموا بإسلامى، فمرنى بما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» «1» . فخرج نعيم حتى أتى بنى قريظة، وكان لهم نديما فى الجاهلية فقال: يا بنى قريظة، قد عرفتم ودى إياكم وخاصة ما بينى وبينكم. قالوا: صدقت فلست عندنا بمتهم. فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم به أموالكم وابناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، فلا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم تأخذوا حتى منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه. قالوا: لقد أشرت بالرأى. ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبى سفيان ومن معه من رجالهم، قد عرفتم ودى لكم وفراقى محمدا، وإنه قد بلغنى أمر رأيت على حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عنى قالوا: نفعل. قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من اشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلى وعشيرتى وأحب الناس إلىّ، ولا أراكم تتهموننى. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم؛ قال: فاكتموا عنى. قالوا: نفعل. ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم. فلما كانت ليلة السبت، وكان ذلك من صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل فى نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 445) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 111) .

ذكر ما هيج حرب القادسية على ما ذكره سيف عن أشياخه

ونفرغ مما بيننا وبينه؛ فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل فى بلادنا ولا طاقة لنا بذلك. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: والله، إن الذى حدثكم نعيم بن مسعود لحق. فأرسلوا إلى بنى قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذى ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل فى بلدكم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم. وخذل الله بينهم، وبعث عليهم الريح فى ليال شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم. فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه ليلا لينظر ما فعل القوم، فحدث حذيفة- رحمه الله- وقد قال له رجل من أهل الكوفة: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال نعم يا ابن أخى. قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. قال الرجل: والله لو أدركناه ما تركناه يمشى على الأرض ولحملناه على أعناقنا. فقال حذيفة: يا بن أخى، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق وصلى هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع- يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة- أسال الله أن يكون رفيقى فى الجنة؟» «1» فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعانى فلم يكن لى بد من القيام حين دعانى فقال: «يا حذيفة، اذهب فادخل فى القوم فانظر ما يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا» «2» .

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 392) ، تفسير الطبرى (21/ 80) ، تفسير ابن كثير (6/ 386) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 113) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 392) ، تفسير ابن كثير (6/ 386) ، تفسير الطبرى (21/ 80) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 113) .

فذهبت فدخلت فى القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذى إلى جنبى فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان. وذكر ابن عقبة أنه فعل ذلك بمن يلى جانبيه يمينا ويسارا، قال: وبدرهم بالمسألة خشية أن يظنوا له. قال حذيفة: ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذى نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنى مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى: «أن لا تحدث شيئا حتى تأتينى» ثم شئت لقتلته بسهم. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلى فى مرط «1» لبعض نسائه، فلما رآنى أدخلنى إلى رجليه وطرح على طرف المرط ثم ركع وسجد وإنى لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم. ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون معه وقد عضهم الحصار، فرجعوا مجهودين فوضعوا السلاح. فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج. ويقولون فيما ذكر ابن عقبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى المغتسل عندما جاءه جبريل وهو يرجل رأسه قد رجّل أحد شقيه. فجاءه جبريل على فرس عليه اللأمة حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز، وإن على وجه جبريل لأثر الغبار، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل: غفر الله لك! أقد وضعتم السلاح؟ قال: «نعم» . قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم.

_ (1) المرط: أى الكساء.

تأمير عمر، رضى الله عنه، سعد بن أبى وقاص على العراق وذكر الخبر عن حرب القادسية

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن فى الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب برايته إلى بنى قريظة وابتدرها الناس، فسار علىّ- رضى الله عنه- حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع حتى لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فقال: يا رسول الله، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابيث. قال: «لم؟ أظنك سمعت منهم لى أذى» قال: نعم. قال: «لو رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا «1» » . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: «يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟» «2» قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولا. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من أصحابه فى طريقة قبل أن يصل إلى بنى قريظة، فقال: «هل مرّ بكم أحد؟» قالوا: يا رسول الله، مر بنا دحية بن خليفة الكلبى على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك جبريل بعث إلى بنى قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب فى قلوبهم» «3» . وتلاحق الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة لم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا ببنى قريظة» «4» فصلوا العصر بها من بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك فى كتابه ولا عنفهم به رسوله. وذكر ابن عقبة أن الناس لما حانت العصر وهم فى الطريق ذكروا الصلاة فقال بعضهم: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمركم أن تصلوا العصر فى بنى قريظة. وقال آخرون: هى الصلاة. فصلى منهم طائفة وأخرت الصلاة طائفة حتى صلوها فى بنى قريظة بعد أن غابت الشمس، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عجل الصلاة ومن أخرها، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحدة من الطائفتين.

_ (1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 95، 96) . (2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 96) . (3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (8/ 117) ، إرواء الغليل للألبانى (3/ 403) . (4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (2/ 19، 5/ 143) ، صحيح مسلم فى كتاب الجهاد باب (23) ، رقم (69) ، شرح السنة للبغوى (14/ 11) ، تغليق التعليق لابن حجر العسقلانى (377) ، فتح البارى لابن حجر (2/ 436، 7/ 408، 409، 13/ 240) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 110، 117) .

وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى قريظة خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله فى قلوبهم الرعب. وكان حيى بن أخطب دخل مع بنى قريظة فى حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب بن أسد: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنى عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم. فقالوا: وما هى؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبى مرسل وأنه للذى تجدونه فى كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. وقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم على هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد واصحابه رجالا مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وإن نظهر فلعمرى لنجدن النساء والأبناء. قالوا: أنقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير العيش بعدهم! قال: فإذا أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه حازما ليلة واحدة من الدهر! ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، أخا بنى عمرو ابن عوف، وكانوا حلفاء الأوس، نستشيره فى أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه، فرق لهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم. وأشار بيده إلى حلقة: إنه الذبح. قال أبو لبابة: فو الله مازالت قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله. ثم أنطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده. وقال: لا أبرح مكانى هذا حتى يتوب الله على مما صنعت، وعاهد الله: أن لا أطأ بنى قريظة أبدا ولا أرى فى بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال: «أما إنه لو كان جاءنى لا ستغفرت له، فأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب الله

عليه» «1» . فنزلت توبته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى بيت أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك؛ قلت: مم تضحك أضحك الله سنك؟ قال: «تيب على أبى لبابة» «2» . قالت: قلت: أفلا أبشره يا رسول الله. قال: «بلى إن شئت» «3» . قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى يطلقنى بيده. فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه. وذكر ابن هشام «4» أن أبا لبابة أقام مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته فى كل وقت صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع. والآية التى نزلت فى توبته: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 102] ، وأنزل الله فى أبى لبابة، فيما روى عن عبد الله بن قتادة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] . ثم إن ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عمير وهم نفر من بنى هدل ليسوا من بنى قريظة ولا بنى النضير، نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم، أسلموا تلك الليلة التى نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحرزوا دماءهم وأموالهم، وكان إسلامهم فيما زعموا عما كان ألقاه إليهم من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن الهيبان القادم عليهم قبل الإسلام متوكفا لخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحققا لنبوته، فنفع الله هؤلاء الثلاثة بذلك واستنقذهم به من النار. وقد تقدم ذكر خبره فيما مضى من هذا الكتاب.

_ (1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 97) . (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 17) . (3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (1412، 2151) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (313) ، صحيح البخارى (4/ 26، 125) ، المعجم الكبير للطبرانى (6/ 109، 8/ 275) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 312، 5/ 67) ، كنز العمال للمتقى الهندى (17905، 29993، 30154، 37155) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 8) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 1/ 20) . (4) انظر السيرة (3/ 207) .

وخرج فى تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظى. فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه محمد بن مسلمة، فلما رآه قال: «من هذا؟» قال: أنا عمرو بن سعدى. وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بنى قريظة فى غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا أغدر بمحمد أبدا. فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمنى إقالة عثرات الكرام! ثم خلى سبيله، فخرج على وجهه حتى بات فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا. فذكر شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ذلك رجل نجاه الله برفائه» «1» . وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بنى قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت رمته ملقاة ولا يدرى أين ذهب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تلك المقالة. فالله أعلم أى ذلك كان. ولما نزل بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم تواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت فى موالى إخواننا بالأمس ما قد علمت- يريدون بنى قينقاع- وما كان من حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ونزولهم على حكمه، وكيف سأله إياهم عبد الله بن أبىّ بن سلول فوهبهم له. فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم» قالوا: بلى. قال: «فذاك إلى سعد بن معاذ» » . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ فى خيمة لامرأة من أسلم يقال لها: رفيدة فى مسجده، كانت تداوى الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم فى الخندق: «اجعلوه فى خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب» «3» . فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بنى قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن فى مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فلما أكثروا قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه فى الله لومة لائم! فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بنى عبد الأشهل فنعى لهم رجال بنى قريظة قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التى سمع منه.

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 121) . (2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 97) . (3) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 97) .

فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» «1» فاما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد الأنصار. وأما الأنصار فيقولون: قد عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين. فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم. فقال سعد بن معاذ: عليكم عهد الله وميثاقه: أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ها هنا- فى الناحية التى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» . قال سعد: فإنى أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» «2» . ثم استنزلوا فحسبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة فى دار امرأة من بنى النجار، ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم فى تلك الخنادق، يخرج بهم إليها أرسالا. وفيهم عدو الله حيى بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر يقول: كانوا بين الثمان المائة والتسع المائة. وقالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفى كل موطن لا تعقلون! ألا ترون أن الداعى لا ينزع وأن من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو والله القتل. فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى بعدو الله حيى بن أخطب وعليه حلة فقاحية قد شقها عليه من كل ناحيه قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسى فى عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل! ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بنى إسرائيل! ثم جلس فضربت عنقه. فقال فى ذلك

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 81، 5/ 44، 6/ 72، 134) ، صحيح مسلم فى كتاب الجهاد باب (22) رقم (64) ، سنن أبى داود (5215، 5216) ، سنن الترمذى (856) ، مسند الإمام أحمد (3/ 22، 71) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 58، 9/ 63، 97) ، المعجم الكبير للطبرانى (6/ 6) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 138) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 425) ، دلائل النبوة (4/ 18) ، كنز العمال للمتقى الهندى (25483) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (4695، 39635) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 320، 5/ 51، 177، 78، 7/ 411، 11/ 49) ، زاد المسير لابن الجوزى (8/ 193) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 2/ 4، 5) ، شرح السنة للبغوى (11/ 92) ، السلسلة الصعيفة للألبانى (346) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 108) .

جبل ابن جوال الثعلبى: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ... وقلقل يبغى العز كل مقلقل «1» بل ابتغى عدو الله ذل الأبد فوجده، وجاهد الله فجهده، فأصبح برأيه القائل وسعيه الخاسر من الذين لهم خزى فى الدينا ولهم فى الآخرة عذاب النار. وقتل من نساء بنى قريظة امرأة واحدة لم يقتل من نسائهم غيرها، قالت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها: والله إنها لعندى تحدث معى وتضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها فى السوق إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة قالت: أنا والله، قلت لها: ويلك مالك؟ قالت: أقتل. قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته. فانطلق بها فضربت عنقها. فكانت عائشة تقول: والله لا أنسى عجبا منها، طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد علمت أنها تقتل. قال ابن هشام «2» : هى التى طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته. وكان الزبير بن باطا القرظى قد من على ثابت قيس بن شماس فى الجاهلية، أخذه يوم بعاث فجز ناصيته ثم خلى سبيله. فجاءه ثابت لما قتل بنو قريظة وهو شيخ كبير فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفنى؟ قال: وهل يجهل مثلى مثلك. قال: فإنى أردت أن أجزيك بيدك عندى. قال: إن الكريم يجزى الكريم. ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه كان للزبير على منة وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لى دمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لك» «3» . فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لى دمك فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبى أنت وأمى يا رسول الله امرأته وولده. قال: «هم لك» . فأتاه فقال: قد وهب لى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك فهم لك. قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ماله. قال: هو لك. فأتاه ثابت فقال: قد أعطانى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك فهو لك، فقال: أى ثابت ما فعل الذى كان وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحى، كعب بن أسد؟ قال: قتل. قال:

_ (1) مقلقل: تحرك. (2) انظر السيرة (3/ 211) . (3) انظر الحديث فى: سنن النسائى فى كتاب البيوع باب (77) ، مسند الإمام أحمد (3/ 303) ، تغليق التعليق لابن حجر العسقلانى (736) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 141) .

فما فعل سيد الحاضر والبادى حيى بن أخطب؟ قال: قتل. قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا عزال بن شموال. قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان؟، يعنى بنى كعب بن قريظة وبنى عمرو بن قريظة. قال: ذهبوا فقتلوا. قال: فإنى أسألك يا ثابت بيدى عندك إلا ألحقتنى بالقوم، فو الله ما فى العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله فيلة دلو ناضح حتى ألقى الأحبة. فقدمه ثابت فضرب عنقه. فلما بلغ أبا بكر الصديق- رضى الله عنه- قوله: «ألقى الأحبة» قال: يلقاهم والله فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل كل من أنبت منهم. قال عطية القرظى: وكنت غلاما فوجدونى لم أنبت فخلوا سبيلى. وكان رفاعة بن شموال القرظى رجلا قد بلغ فلاذ بسلمى بنت قيس أم المنذر، أخت سليط بن قيس، وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلت القبلتين معه وبايعته بيعة النساء، فقالت: يا نبى الله، بأبى أنت وأمى هب لى رفاعة، فإنه زعم أنه سيصلى ويأكل لحم الجمل. فوهبه لها فاستحيته. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بنى قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم فى ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم، للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل من ليس له فرس سهم. وكانت الخيل يوم بنى قريظة ستة وثلاثين فرسا، وكان أول فىء وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس، فعلى سنتها وما مضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وقعت المقاسم ومضت السنة فى المغازى. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصارى الأشهلى بسبايا من سبايا بنى قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلا وسلاحا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة من بنى عمرو بن قريظة، فكانت عنده حتى توفى عنها وهى فى ملكه، وكان عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت يا رسول الله، بل تتركنى فى ملكك فهو أخف على وعليك فتركها. وكانت حين سباها قد تعصت بالإسلام وابت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد فى نفسه لذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع

وقع نعلين خلفه فقال: «إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرنى بإسلام ريحانة» «1» . فجاءه فقال: يا رسول الله، قد أسلمت ريحانة. فسره ذلك من أمرها. وأنزل الله- عز وجل- فى أمر الخندق وبنى قريظة القصة فى سورة الأحزاب يذكر فيها ما نزل بهم من البلاء، ويذكر نعمته عليهم وكفايته إياهم حتى فرج عنهم ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 9- 12] فى آيات استوفى فيها تعالى ذكر ما شاء من قصتهم. ثم قال سبحانه: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [الأحزاب: 24- 27] . فلما انقضى شأن بنى قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه فمات شهيدا، يرحمه الله. فذكروا أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبض سعد من خوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق فقال: يا محمد، من هذا الميت الذى فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد بن معاذ فوجده قد مات. وقد كان سعد رجلا بادنا، فلما حمله الناس وجدوا له خفة، فقال رجال من المنافقين: والله إن كان لبادنا، وما حملنا من جنازة أخف منه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن له حملة غيركم، والذى نفس محمد بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد واهتز له العرش» «2» .

_ (1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 131) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 24) . (2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (5/ 3849) ، مستدرك الحاكم (3/ 207) .

وقالت عائشة- رضى الله عنها- لأسيد بن حضير، وهو قافل معها من مكة وبلغه موت امرأة فحزن عليها بعض الحزن: يغفر الله لك أبا يحيى، اتحزن على امرأة وقد أصبت بابن عمك وقد اهتز له العرش؟ تعنى سعدا. وقال جابر بن عبد الله: لما دفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس معه وكبر فكبر الناس معه فقالوا: يا رسول الله، مم سبحت؟ قال: «لقد تضايق على هذا الرجل الصالح قبره حتى فرجه الله عنه» «1» . ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن للقبر لضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد ابن معاذ» «2» . ولسعد يقول رجل من الأنصار: وما اهتز عرش الله من موت هالك ... سمعنا به إلا لسعد أبى عمرو وقالت أم سعد حين احتمل نعشه وهى تبكيه: ويل أم سعد سعدا ... صرامة وحدا وسؤددا ومجدا ... وفارسا معدا سد به مسدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ» «3» . وقال حسان بن ثابت يبكى سعدا: لقد سجمت من فيض عينى عبرة ... وحق لعينى أن تفيض على سعد قتيل ثوى فى معرك فجعت به ... عيون ذوارى الدمع دائمة الوجد «4» على ملة الرحمن وارث جنة ... مع الشهداء وفدها أكرم الوفد فإن تك قد ودعتنا وتركتنا ... وأمسيت فى غبراء مظلمة اللحد فأنت الذى يا سعد أبت بمشهد ... كريم وأثواب المكارم والحمد بحكمك فى حيى قريظة بالذى ... قضى الله فيهم ما قضيت على عمد

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 360) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (135) ، إرواء الغليل للألبانى (3/ 166) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 128) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 128) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 130) . (4) ثوى: أى أقام. والمعرك: موضع القتال. وذوارى الدمع: أى تسكبه. والوجد: أى الحزن.

فوافق حكم الله حكمك فيهم ... ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد فإن كان ريب الدهر أمضاك فى الألى ... شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد فنعم مصير الصادقين إذا دعوا ... إلى الله يوما للوجاهة والقصد وقال حسان يبكى سعدا ورجالا من الشهداء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا يا لقومى هل لما حم دافع ... وهل ما مضى من صالح العيش راجع تذكر عصرا قد مضى فتهافتت ... بنات الحشا وانهل منى المدامع صبابة وجد ذكرتنى أخوة ... وقتلى مضى فيها طفيل ورافع وسعد فأضحوا فى الجنان وأوحشت ... منازلهم فالأرض منهم بلاقع وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم ... ظلال المنايا والسيوف اللوامع دعا فأجابوه بحق وكلهم ... مطيع له فى كل أمر وسامع فما نكلوا حتى تولوا جماعة ... ولا يقطع له فى كل أمر وسامع فما نكلوا حتى تولوا جماعة ... ولا يقطع الآجال إلا المصارع لأنهم يرجون منه شفاعة ... إذا لم يكن إلا النبيون شافع فذلك يا خير العباد ملاذنا ... إجابتنا لله والموت نافع لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ... لأولنا فى ملة الله تابع ونعلم أن الملك لله وحده ... وأن قضاء الله لا بد واقع ولم يستشهد من المسلمين يوم الخندق إلا ستة نفر كلهم من الأنصار: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهل الأشهليون، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة الجشميان. ومن بنى دينار بن النجار كعب بن زيد، أصابه سهم غرب فقتله، رحمة الله عليهم. واستشهد يوم بنى قريظة من المسلمين خلاد بن سويد من بنى الحارث بن الخزرج، طرحت عليه رحى فشدخته شدخا شديدا، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن له لأجر شهيدين» . ومات أبو سنان بن محصن أخو عكاشة بن محصن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بنى قريظة. ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: محاصر بنى قريظة. ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم» «1» .

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 458) ، تفسير ابن كثير (6/ 396) .

فكان كذلك لم تغزوهم قريش بعد ذلك وكان هو صلى الله عليه وسلم يغزوهم حتى فتح الله عليه مكة. وقال حسان بن ثابت فى يوم الخندق يجيب عبد الله بن الزبعرى شاعر قريش عن كلمة قالها فى ذلك: هل رسم دارسة المقام بباب ... متكلم لمحاور بجواب قفر عفا رهم السحاب رسومه ... وهبوب كل مظلة مرباب ولقد رأيت بها الحلول يزينهم ... بيض الوجوه ثواقب الأحساب «1» فدع الديار وذكر كل خريدة ... بيضاء آنسة الحديث كعاب «2» واشك الهموم إلى الإله وما ترى ... من معشر ظلموا الرسول غضاب ساروا بأجمعهم إليه وألبوا ... أهل القرى وبوادى الأعراب جيش عيينة وابن حرب فيهم ... متخمطين بحلية الأحزاب حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا ... قتل الرسول ومغنم الأسلاب وغدوا علينا قادرين بأيدهم ... ردوا بغيظهم على الأعقاب بهبوب معصفة تفرق جمعهم ... وجنود ربك سيد الأرباب فكفى الإله المؤمنين قتالهم ... وأثابهم فى الأجر خير ثواب من بعد ما قنطوا ففرق جمعهم ... تنزيل نصر مليكنا الوهاب وأقر عين محمد وصحابه ... وأذل كل مكذب مرتاب عاتى الفؤاد موقع ذى ريبة ... فى الكفر ليس بطاهر الأثواب «3» علق الشقاء بقلبه ففؤاده ... فى الكفر آخر هذه الأحقاب وقال كعب بن مالك فى ذلك- أيضا- يجيب ابن الزبعرى عن كلمته: أبقى لنا حدث الحروب بقية ... من خير نحلة ربنا الوهاب بيضاء مشرقة الذرى ومعاطنا ... حم الجذوع غزيرة الأحلاب كاللوب يبذل جمعها وحفيلها ... للجار وابن العم والمنتاب ونزائعا مثل السراج نمى بها ... علف الشعير وجزة المقضاب

_ (1) الحلول: البيوت المجتمعة. وثواقب: أى مشرقة. (2) الخريدة: أى المرأة الناعمة. والكعاب: أى التى نهد ثديها فى أول ما نهد. (3) عاتى الفؤاد: أى قاسيه. وموقع ذى ريبة: أصله من التوقيع فى ظهر الدابة، وهو انسلاخ يكون فيه.

عرى الشوى منها وأردف نحضها ... جرد المتون وسار فى الآراب قودا تراح إلى الصياح إذ غدت ... فعل الضراء تراح للكلاب وتحوط سائمة الذمار وتارة ... تردى العدى وتؤوب بالأسلاب يعدون بالزغف المضاعف شكة ... وبمترصات فى الثقاف صياب وصوارم نزع الصياقل غلبها ... وبكل أروع ماجد الأنساب يصل اليمين بمارن متقارب ... وكلت وقيعته إلى خباب وكتيبة ينفى القران قتيرها ... وترد حد قواجز النشاب أعيت أبا كرب وأعيت تبعا ... وأبت بسالتها على الأعراب ومواعظ من ربنا نهدى بها ... بلسان أزهر طيب الأثواب عرضت علينا فاشتهينا ذكرها ... من بعد ما عرضت على الأحزاب حكما يراها المجرمون بزعمهم ... حرجا ويفهمها ذوو الألباب جاءت سخينة كى تغالب ربها ... فليغلبن مغالب الغلاب ولما قال كعب بن مالك هذا البيت: «جاءت سخينة» إلى آخره. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا» «1» . وقال كعب أيضا: لقد علم الأحزاب حين تألبوا ... علينا وراموا ديننا ما نوادع أضاميم من قيس بن عيلان أصفقت ... وخندف لم يدروا بما هو واقع «2» يذودوننا عن ديننا ونذودهم ... عن الكفر والرحمن راء وسامع إذا غايظونا فى مقام أعاننا ... على غيظهم نصر من الله واسع وذلك حفظ الله فينا وفضله ... علينا ومن لم يحفظ الله ضائع هدانا لدين الحق واختاره لنا ... ولله فوق الصانعين صنائع وقال كعب أيضا: ألا أبلغ قريشا أن سلعا ... وما بين العريض إلى الصماد نواضح فى الحروب مدربات ... وخوص بقيت من عهد عاد رواكد يزخر المران فيها ... فليست بالجمام ولا الثماد بلاد لم تثر إلا لكيما ... نجالد إن نشطتم للجلاد

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 134) . (2) أضاميم: أى جماعات انضم بعضها إلى بعض. وأصفقت: أى اجتمعت وتوافقت على الأمر.

أثرنا سكة الأنباط فيها ... فلم نر مثلها جلهات وادى قصرنا كل ذى حضر وطول ... على الغايات مقتدر جواد أجيبونا إلى ما نجتذيكم ... من القول المبين والسداد وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... لكم منا إلى شطر المذاد نصبحكم بكل أخى حروب ... وكل مطهم سلس القياد وكل طمرة خفق حشاها ... تدف دفيف صفراء الجراد وكل مقلص الآراب نهد ... تميم الخلق من أخر وهاد خيول لا تضاع إذا أضيعت ... خيول الناس فى السنة الجماد ينازعن الأعنة مصغيات ... إذا نادى إلى الفزع المنادى إذا قالت لنا النذر استعدوا ... توكلنا على رب العباد وقلنا لن يفرج ما لقينا ... سوى ضرب القوانس والجهاد ولم فلم نر عصبة فيمن لقينا ... من الأقوام من قار وباد أشد بسالة منا إذا ما ... أردناه وألين فى الوداد إذا ما نحن أشرجنا عليها ... جياد الجدل فى الأرب الشداد قذفنا فى السوابغ كل صقر ... كريم غير معتلث الزناد أشم كأنه أسد عبوس ... غداة بدا ببطن الجزع غادى ليظهر دينك اللهم إنا ... بكفك فاهدنا سبل الرشاد وقال حسان بن ثابت يذكر بنى قريظة: تفاقد معشر نصروا قريشا ... وليس لهم ببلدتهم نصير «1» هم أوتوا الكتاب فضيعوه ... وهم عمى من التوراة بور فهان على سراة بنى لؤى ... حريق بالبويرة مستطير ولما سمع ذلك أبو سفيان بن الحارث قال: أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق فى طرائقها السعير فى أبيات ذكرها ابن إسحاق لم يأل قائلها أن صدق حسان. وقال فى ذلك- أيضا- جبل بن جوال الثعلبى، وبكى النضير وقريظة ونعى على سعد بن معاذ إسلامه مواليه منهم خلاف ما فعل عبد الله بن أبى فى بنى قينقاع:

_ (1) تفاقد: أى فقد بعضهم بعضا.

مقتل سلام بن أبى الحقيق

ألا يا سعد سعد بنى معاذ ... لما لقيت قريظة والنضير لعمرك إن سعد بنى معاذ ... غداة تحملوا لهو الصبور فأما الخزرجى أبو حباب ... فقال لقينقاع لا تسيروا ويقول فى آخرها: تركتم قدركم لا شىء فيها ... وقدر القوم حامية تفور فقال سعد حين بلغه هذا الشعر: من لقيهم فليحدثهم أنهم خانوا الله ورسوله فأخزاهم الله. مقتل سلام بن أبى الحقيق وكان سلام بن أبى الحقيق أبو رافع فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار- الأوس والخزرج- كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى الإسلام. فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك. وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف فى عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريضه عليه، فقالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا. فتذاكروا بعد أن انقضى شأن الخندق وبنى قريظة: من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبى الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قتله فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج من بنى سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعى، وخزاعى بن أسود حليف لهم من أسلم. فخرجوا، وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة. فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبى الحقيق ليلا، فلم يدعوا لهم بيتا فى الدار إلا أغلقوه على أهله، وكان فى علية له إليها عجلة فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا، فخرجت عليهم امرأة فقالت من أنتم؟ فقالوا: أناس من العرب نلتمس

الميرة. قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا إليه. قال: فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفا أن يكون دونه مجادلة تحول بيننا وبينه. قال: وصاحت امرأته فنوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، والله ما يدلنا عليه فى سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة. قال: ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل، فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله ابن أنيس بسيفه فى بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطنى قطنى، أى حسبى حسبى. قال: وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك رجلا سىء البصر، فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئا شديدا، قال ابن هشام: ويقال: رجله، وحملناه حتى نأتى منهرا من عيونهم فندخل فيه. قال: وأوقدوا النيران واشتدوا فى كل وجه يطلبون، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه وهو يقضى بينهم. فقلنا كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات؟ فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل فى الناس، قال: فوجدتها ورجال يهود حوله وفى يدها المصباح تنظر فى وجهه وتحدثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت وقلت أنى ابن عتيك بهذه البلاد. ثم أقبلت عليه تنظر فى وجهه ثم قالت: فاظ وإله يهود. فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسى منها. قال: ثم جاءنا فأخبرنا الخبر، فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بقتل عدو الله واختلفنا عنده فى قتله، كلنا ندعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هاتوا أسيافكم» . فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: «هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام» «1» . وقال حسان بن ثابت يذكر قتل كعب بن الأشرف وقتل سلام بن أبى الحقيق: لله در عصابة لاقيتهم ... يابن الحقيق وأنت يابن الأشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد فى عرين مغرف «2» حتى أتوكم فى محل بلادكم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفف «3» مستنصرين لنصر دين نبيهم ... مستصغرين لكل أمر مجحف

_ (1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 66) . (2) مغرف: ملتف الشجر. (3) ذفف: سريعة القتل.

ذكر إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضى الله عنهما

ذكر إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضى الله عنهما حدث عمرو بن العاص- رحمه الله- قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يريون رأيى ويسمعون منى فقلت لهم: تعلموا والله إنى أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإنى قد رأيت أمرا فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشى فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشى، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدى محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير. قالوا: إن هذا لرأى. قلت: فاجمعوا ما نهدى له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فو الله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمرى، بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لأصحابى: هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشى سألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أنى قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد: قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع فقال لى: مرحبا بصديقى، أهديت لى من بلدك شيئا؟ قلت: نعم أيها الملك، قد أهديت لك أدما كثيرا. ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك، إنى قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا فأعطينيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا. قال: فغضب ثم مد يده وضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لى الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألنى أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى لتقتله؟! قلت أيها الملك أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعنى واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. فقلت: أفتبايعنى له على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام. ثم خرجت إلى أصحابى وقد حال رأيى عما كان عليه، وكتمت أصحابى إسلامى، ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم وإن الرجل

لنبى، أذهب والله فأسلم، حتى متى؟! قلت: والله ما جئت إلا لأسلم. فقدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إنى أبايعك على أن يغفر لى ما تقدم من ذنبى ولا أذكر ما تأخر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمرو بايع، فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها» «1» ، قال: فبايعته وانصرفت. وذكر ابن إسحاق عمن لا يتهم أن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة أخا بنى عبد الدار كان معهما أسلم حين أسلما. وذكر غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رآهم: «رمتكم مكة بأفلاذ كبدها» . وحدث الواقدى بإسناد له قال: قال عثمان بن طلحة: لقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فدعانى إلى الإسلام فقلت: يا محمد، العجب لك حين تطمع أن أتبعك وقد خالفت قومك وجئت بدين محدث ففرقت جماعتهم وألفتهم وأذهبت بهاءهم. فانصرف، وكنا نفتح الكعبة فى الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فغلظت عليه ونلت منه وحلم عنى ثم قال: يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت. فقلت: لقد هلكت قريش- يومئذ- وذلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل عمرت وعزت يومئذ» . ودخل الكعبة فوقعت كلمته منى موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال: فأردت الإسلام، فإذا قومى يزبروننى زبرا شديدا ويزرون برأيى، فأمسكت عن ذكره. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جعلت قريش تشفق من رجوعه عليها، فهم على ما هم عليه حتى جاء النفير إلى بدر، فخرجت فيمن خرج من قومنا وشهدت المشاهد كلها معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام القضية غير الله قلبى عما كان عليه ودخلنى الإسلام وجعلت أفكر فيما نحن عليه وما نعبد من حجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر، وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظلف أنفسهم عن الدنيا فيقع ذلك منى فأقول: ما عمل القوم إلا على الثواب لما يكون بعد الموت.

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 199) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 123) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 348) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 142) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 351) .

غزوة بنى لحيان

وجعلت أحب النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن رأيته خارجا من باب بنى شيبة يريد منزله بالأبطح، فأردت أن آتيه وآخذ بيده وأسلم عليه فلم يعزم لى على ذلك، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، ثم عزم لى على الخروج إليه، فأدلجت إلى بطن يأجج فألقى خالد بن الوليد، فاصطحبنا حتى نزلنا الهدة فما شعرنا إلا بعمرو بن العاص فانقمعنا عنه وانقمع منا، ثم قال: أين يريد الرجلان؟ فأخبرناه فقال: وأنا أريد الذى تريدان. فاصطحبنا جميعا حتى قدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام وأقمت حتى خرجت معه فى غزوة الفتح ودخل مكة، فقال لى: «يا عثمان، ايت بالمفتاح» ، فأتيته به فأخذه منى ثم دفعه إلى وقال: «خذوها تالدة خالدة ولا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف» «1» . قال عثمان: فلما وليت نادانى فرجعت إليه فقال: «ألم يكن الذى قلت لك؟» فذكرت قوله لى قبل الهجرة بمكة: «لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت» ، فقلت بلى، أشهد أنك رسول الله! قال الواقدى: فهذا أثبت الوجوه فى إسلام عثمان. غزوة بنى لحيان «2» وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس ستة أشهر من فتح بنى قريظة إلى لحيان يطلبهم بأصحاب الرجيع- خبيب وأصحابه- وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة. فلما انتهى إلى منازلهم بغران وهو واد بين أمج وعسفان وجدهم قد حذروا وتمنعوا فى رؤس الجبال. فلما أخطأه من غرتهم ما أراد قال: لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة. فخرج فى مائتى راكب من أصحابه حتى نزل عسفان ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم كرا وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا.

_ (1) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (11/ 120) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 285) ، الدر المنثور (2/ 175) ، كنز العمال للمتقى الهندى (34766) . (2) راجع هذه الغزوة فى: طبقات ابن سعد (2/ 1/ 56) ، المغازى للواقدى (2/ 535) ، تاريخ الطبرى (2/ 595) ، البداية والنهاية (4/ 81) .

غارة عيينة بن حصن على سرح المدينة وخروج النبى صلى الله عليه وسلم فى أثره، وهى غزوة ذى قرد

فكان جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين وجه راجعا: «آيبون تائبون إن شاء الله، لربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر فى الأهل والمال» «1» . غارة عيينة بن حصن على سرح المدينة وخروج النبى صلى الله عليه وسلم فى أثره، وهى غزوة ذى قرد «2» ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة بنى لحيان لم يقم بالمدينة إلا ليال قلائل، حتى أغار عيينة بن حصن فى جبل من غطفان على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، وفيها رجل من بنى غفار وامرأة له، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة فى اللقاح. وكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمى، غدا يريد الغابة متوشحا سيفه ونبله ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم فأشرف فى ناحية سلع ثم صرخ: واصباحاه. ثم خرج يشد فى آثار القوم وكان مثل السبع، حتى لحق القوم فجعل يردهم بالنبل ويقول إذا رمى: خذها وانا ابن الأكوع ... اليوم يوم الرضع فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمى رمى ثم قال: خذها وانا ابن الأكوع ... اليوم يوم الرضع فيقول قائلهم: أأكيعنا هو أول النهار. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح ابن الأكوع فصرخ بالمدينة: الفزع الفزع. فترامت الخيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول من انتهى إليه من الفرسان المقداد بن عمرو، وهو الذى يقال له: المقداد بن الأسود. ثم كان أول فارس وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المقداد من الأنصار عباد بن بشر وسعد بن زيد الأشهليان وأسيد بن ظهير الحارثى، يشك فيه، وعكاشة بن محصن، ومحرز بن نضلة الأسديان وأبو قتادة السلمى وأبو عياش، الزرقى.

_ (1) انظر الحديث فى: عمل اليوم والليلة لابن السنى (525) ، مصنف ابن أبى شيبة (12/ 519، 520) . (2) راجع هذه الغزوة فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 150) ، طبقات ابن سعد (2/ 80) .

فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليهم سعد بن زيد وقال: «اخرج فى طلب القوم حتى ألحقك فى الناس» «1» . وقال لأبى عياش: «يا أبا عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك فلحق بالناس» . قال أبو عياش: فقلت: يا رسول الله، أنا أفرس الناس. ثم ضربت الفرس فو الله ما جرى بى خمسين ذراعا حتى طرحنى، فعجبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أعطيته أفرس منك» وأقول: أنا أفرس! فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس أبى عياش هذا- فيما زعموا- معاذ ابن ماعص أو عائذ بن ماعص، فكان ثامنا. فخرج الفرسان فى طلب القوم حتى تلاحقوا، وكان أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة الأخرم، ويقال له أيضا: قمير، ولما كان الفزع جال فرس لمحمود بن مسلمة فى الحائط وهو مربوط بجذع نخل حين سمع صاهلة الخيل، وكان فرسا صنيعا جاما، فقال بعض نساء بنى عبد الأشهل: يا قمير، هل لك فى أن تركب هذا الفرس فإنه كما ترى، ثم تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين؟ قال: نعم فأعطينه إياه فخرج عليه فلم يلبث أن بز الخيل بجمامه حتى أدرك القوم، فوقف لهم بين أيديهم ثم قال: قفوا بنى اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من المهاجرين والأنصار، وحمل عليه رجل منهم فقتله، وجال الفرس فلم يقدر عليه حتى وقف على أرية فى بنى عبد الأشهل. فقيل: إنه لم يقتل من المسلمين- يومئذ- غيره، وقد قيل: إنه قتل معه وقاص بن محرز المدلجى. ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة بن حصن وغشاه برده ثم لحق بالناس، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسلمين فإذا حبيب مسجى ببرد أبى قتادة، فاسترجع الناس وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس بأبى قتادة، ولكنه قتيل لأبى قتادة وضع عليه برده ليعرفوا أنه صاحبه» «2» . وأدرك عكاشة بن محصن أو بارا وابنه عمرو بن أوبار وهما على بعير واحد فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا، واستنقذوا بعض اللقاح. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذى قرد وتلاحق به الناس، وأقام عليه يوما وليلة، وقال له أبو سلمة بن الأكوع: يا رسول الله، لو سرحتنى فى مائة رجل لاستنقذت بقية السرح وأخذت بأعناق القوم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنهم الآن ليغبقون فى غطفان» «3» .

_ (1) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (7/ 32) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 143) . (2) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (7/ 31) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 143) . (3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب الجهاد (3/ 132/ 1433، 1441) .

فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فى أصحابه فى كل مائة رجل جزورا. وأقاموا عليها ثم رجع قافلا إلى المدينة. وأفلتت ارمأة الغفارى على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر، فلما فرغت قالت: يا رسول الله، إنى قد نذرت لله أن أنحرها إن نجانى الله عليها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر فى معصية الله ولا فيما لا تملكين، إنما هى ناقة من إبلى، ارجعى إلى أهلك على بركة الله» «1» . فهذا حديث ابن إسحاق عن غزوة ذى قرد. وخرج مسلم بن الحجاج- رحمه الله- حديثا فى صحيحه بإسناده إلى سلمة بن الأكوع فذكر حديثا طويلا خالف به حديث ابن إسحاق فى مواضع منه، فمن ذلك: أن هذه الغزوة كانت بعد انصراف الرسول صلى الله عليه وسلم الحديبية، وجعلها ابن إسحاق قبل ذلك، وكذلك فعل ابن عقبة. وفيه أن سلمة بن الأكوع» استنقذ سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بجملتة، قال سلمة: فو الله مازلت أرميهم وأعقر بهم فإذا رجع إلى فارس أتيت شجرة فجلست فى أصلها ثم رميته فعقرت به حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا فى تضايقه علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة. قال: فمازلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وزاء ظهرى وخلوا بينى وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا يستخفون، ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى أتوا متضايقا من ثنية فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزارى، فجلسوا يتضخون- أى يتغدون- وجلست على رأس قرن. قال الفزارى: ما هذا الذى أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح، والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شىء فى أيدينا. قال فليقم إليه نفر منكم أربعة، قال: فصعد إلى

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 187) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3374) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2155) ، طبقات ابن سعد (305) ، طبقات خليفة ترجمة رقم (689) ، التاريخ الكبير (4/ 69) ، المعارف (212) ، المعرفة والتاريخ (1/ 336) ، مشاهير علماء الأنصار ترجمة رقم (80) ، تهذيب الكمال (525) ، تاريخ الإسلام (3/ 158) ، العبر (1/ 84) ، البداية والنهاية (9/ 6) ، تهذيب التهذيب (4/ 150) ، شذرات الذهب (1/ 81) ، تهذيب ابن عساكر (6/ 232) .

منهم أربعة فى الجبل، فلما أمكنونى من الكلام قلت: هل تعرفوننى؟ قالوا: لا، ومن أنت؟ قلت: أنا سلمة بن الأكوع والذى كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا اطلب رجلا منكم إلا أدركته ولا يطلبنى فيدركنى. قال أحدهم: أنا أظن ذلك، فرجعوا. فما برحت مكانى حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر، فإذا أولهم الأخرم الأسدى، على أثره أبو قتادة الأنصارى وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندى فأخذت بعنان الأخرم فولوا مدبرين، قلت: يا أخرم احذرهم لا يقتطعونك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: يا سلمة، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بينى وبين الشهادة. قال: فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن، قال: فعقر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه. ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن فطعنه فقتله، فو الذى كرم وجه محمد لتبعتهم أعدو على رجلى حتى ما أرى من ورائى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئا، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له: ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش فنظروا إلى أعدو وراءهم فحلأتهم عنه. فما ذاقوا منه قطرة، ويخرجون فيشتدون فى ثنية فأعدو فألحق منهم فأمكسه بسهم فى نغض كتفه، قلت: خذها وانا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع قال: يا ثكلته أمه أأكوعه بكرة؟ قلت: نعم يا عدو نفسه أكوعه بكرة. قال: وأردوا فرسين على ثنية فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحقنى عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء فتوضأت وشربت ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذى حلأتهم عنه قد أخذ تلك الإبل وكل شىء استنقذته من المشركين وكل رمح وكل بردة، وإذا بلال نحر ناقة من الإبل التى استنقذت من القوم، وإذا هو يشتوى لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها، قلت: يا رسول الله، خلنى فأنتحب من القوم مائة رجل فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلنه. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه فى ضوء النار قال: «يا سلمة، أتراك كنت فاعلا؟» قلت: نعم، والذى أكرمك، قال: «إنهم الآن ليقرون بأرض غطفان» . قال: فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلان جزورا فلما كشطوا جلدها رأوا غبارا فقالوا: إياكم القوم فخرجوا هاربين. فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالنا

سلمة» . ثم أعطانى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لى جميعا. وذكر الزبير بن أبى بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر فى غزوة قرد هذه على ماء يقال له: بيسان، فسأل عنه فقيل: اسمه يا رسول الله: بيسان وهو مالح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟: «لا، بل اسمه نعمان وهو طيب» . فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسم وغير الله- تعالى- الماء. فاشتراه طلحة بن عبيد الله ثم تصدق به وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنت يا طلحة إلا فياض» . فسمى طلحة الفياض. وكان مما قيل من الشعر فى يوم ذى قرد قول حسان بن ثابت: أظن عيينة إذا زارها ... بأن سوف يهدم فيها قصورا فأكذبت ما كنت صدقته ... وقلتم سنغنم أمرا كبيرا وولوا سراعا كشد النعام ... ولم يكشفوا عن ملط حصيرا أمير علينا رسول الملي ... ك أحبب بذاك إلينا أميرا رسول نصدق ما جاءه ... ويتلوا كتابا مضيئا منيرا وقال كعب بن مالك: أيحسب أولاد اللقيطة أننا ... على الخيل لسنا مثلهم فى الفوارس وإنا أناس لا نرى القتل سبة ... ولا ننثنى عند الرماح المداعس وإنا لنقرى الضيف من قمع الذرى ... ونضرب رأس الأبلخ المتشاوس «1» نرد كماة المعلمين إذا انتحوا ... بضرب يسلى نخوة المتقاعس بكل فتى حامى الحقيقة ماجد ... كريم كسرحان الغضاة مخالس يذودون عن أحسابهم وتلادهم ... ببيض تقد الهام تحت القوانس فسائل بنى بدر إذا ما لقيتهم ... بما فعل الإخوان يوم التمارس إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم ... ولا تكتموا أخباركم فى المجالس وقولوا زللنا عن مخالب خادر ... به وحر فى الصدر ما لم يمارس وقال شداد بن عارض الجشمى فى يوم ذى قرد لعيينة بن حصن وكان عيينة يكنى أبا مالك:

_ (1) القمع: جمع قمعة، وهى أعلى سنام البعير. والذرا: أى الأسنمة. والأبلخ: أى المتكبر. والمتشاوس: هو الذى ينظر بمؤخر عينه نظرة المتكبر.

غزوة بنى المصطلق وهى غزوة المريسيع

فهلا كررت أبا مالك ... وخيلك مدبرة تقتل ذكرت الإياب إلى عسجر ... وهيهات قد بعد المقفل «1» وطمنت نفسك ذا ميعة ... مسح الفضاء إذا يرسل إذا قبضته إليك الشما ... ل جاش كما اضطرم المرجل فلما عرفتم عباد الإل ... هـ لم ينظر الآخر الأول عرفتم فوارس قد عودوا ... طراد الكماة إذا أسهلوا إذا طردوا الخيل تشقى بهم ... فضاحا وإن يطردوا ينزلوا فيعتصموا فى سواء المقا ... م بالبيض أخلصها الصيقل «2» غزوة بنى المصطلق وهى غزوة المريسيع «3» وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى المصطلق من خزاعة فى شعبان سنة ست، وكان بلغه أنهم يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبى ضرار أبو جويرية زوج النبى صلى الله عليه وسلم. فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع، فتزاحف الناس واققتلوا، فهزم الله بنى المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل رسوله أبناءهم ونساءهم وأموالهم. وكان شعار المسلمين فى ذلك اليوم: يا منصور أمت أمت. وأصاب- يومئذ- رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت رجلا من المسلمين من بنى كلب بن عوف بن عامر بن أمية بن ليث بن بكر يقال له: هشام ابن صبابة، وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ. فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنى حليف بنى عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهنى: يا معشر الأنصار.

_ (1) عسجر: موضع بالقرب من مكة. والمقفل: أى الرجوع. (2) أخلصها الصقيل: أى أزال ما عليها من الصدأ. (3) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 404) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 45) ، تاريخ الطبرى (2/ 593) ، الكامل (2/ 81) ، البداية والنهاية (4/ 156) .

وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبى بن سلول فقال: أقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا فى بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش هؤلاء إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وأما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه- وفيهم زيد بن أرقم غلام حدث- فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وذلك عند فراغه من عدوه، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لا ولكن أذن بالرحيل» «1» . وذلك فى ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها. فارتحل الناس وقد مشى عبد الله بن أبى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغة أن زيدا بلغه ما سمع منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان فى قومه شريفا عظيما، فقال من حضر من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم فى حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل. حدبا على ابن أبى ودفعا عنه. فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال: يا نبى الله، والله لرحت فى ساعة منكرة ما كنت تروح فى مثلها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟» قال: وأى صاحب يا رسول الله؟ قال: «عبد الله بن أبى» . قال: وما قال؟ قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل» «2» . قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله صلى الله عليك ارفق به، فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أن قد استلبته ملكا! ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح، وسار يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذى كان بالأمس ثم راح

_ (1) انظر الحديث فى: مصنف ابن أبى شيبة (12/ 540، 14/ 432) . (2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (28/ 75) .

بالناس، فهبت عليهم ريح شديدة آذتهم وتخوفوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخافوها فإنما هبت لموت عظيم من الكفار» «1» . فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت- أحد ينى قينقاع- وكان من عظماء يهود وكهفا للمنافقين مات ذلك اليوم. ونزلت السورة التى ذكر الله فيها المنافقين فى عبد الله بن أبى ومن كان على مثل أمره. فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ثم قال: «هذا الذى أوفى الله بأذنه» «2» . وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبى الذى كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أبى فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرنى فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده منى، إنى أخشى أن تأمر به غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبى يمشى فى الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا» «3» . وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويؤاخذونه ويعنفونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتله يوم قلت لى اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته» «4» ! فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمرى. وقدم مقيس بن صبابة من مكة متظاهرا بالإسلام، فقال يا رسول الله، جئتك مسلما، وجئتك اطلب دية أخى قتل خطأ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله. ثم خرج إلى مكة مرتدا وقال فى شعر له: شفى النفس أن بات بالقاع مسندا ... تضرج ثوبيه دماء الأخادع «5»

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 61) . (2) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (4413) ، سنن الترمذى (5/ 3313) ، فتح البارى لابن حجر (8/ 514) . (3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 62) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 158) . (4) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (28/ 76) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 158) . (5) تضرج: أى تلطخ. والأخادع: عروق القفا.

وكانت هموم النفس من قبل قتله ... تلم فتحمينى وطاء المضاجع حللت به وترى وأدركت ثؤرتى ... وكنت إلى الأوثان أول راجع ثأرت به فهرا وحملت عقله ... سراة بنى النجار أرباب فارع وقال أيضا: جللته ضربة باتت لها وشل ... من ناقع الجوف يعلوه وينصرم فقلت والموت تغشاه أسرته ... لا تأمنن بنى بكر إذا ظلموا وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى المصطلق سبيا كثيرا، فشا قسمة فى المسلمين، وكان فيمن أصيب- يومئذ- من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار، فوقعت فى السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها. قال عائشة رضى الله عنها: وكانت- تعنى جويرية- امرأة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه فى كتابتها، فو الله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتى فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها ما رايت، فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار سيد قومه، وقد أصابنى من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت فى السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسى، فجئتك أستعينك على كتابتى، قال: «فهل لك فى خير من ذلك؟» قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقضى كتابتك وأتزوجك» «1» . قالت: نعم يا رسول الله. قال: «قد فعلت» «2» . وخرج الخبر إلى الناس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية. فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بنى المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها. وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبى معيط، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم هابهم فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن القوم هموا بقتله ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأكثر المسلمون فى ذكر غزوهم حتى هم رسول

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 277) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 78) ، المعجم الكبير للطبرانى (7/ 205) ، موارد الظمآن للهيثمى (1213) ، الطبقات الطبرى لابن سعد (8/ 83، 107) ، إتحاف السادة المتقين (5/ 41) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 12) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11530) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (1/ 306) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 64) .

الله صلى الله عليه وسلم يأن يغزوهم، فبينا هم فى ذلك قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدى إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعا، فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خرجنا إليه لنقتله وو الله ما جئنا لذلك. فأنزل الله فيه وفيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [الحجرات: 6] . هكذا ذكر ابن إسحاق «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بنى المصطلق بعد إسلامهم الوليد بن عقبة ولم يعين مدة توجيهه إياه إليهم، وقد يوهم ظاهره أن ذلك كان بحدثان إسلامهم، ولا يصح ذلك، إذ الوليد من مسلمة الفتح، وإنما كان الفتح فى سنة ثمان بعد غزوة بنى المصطلق وإسلامهم بسنتين، فلا يكون هذا التوجيه إلا بعد ذلك ولا بد. وقد قال أبو عمر بن عبد البر: لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ نزلت فى الوليد بن عقبة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بنى المصطلق مصدقا، والله سبحانه أعلم. وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك حتى إذا كان قريبا من المدينة قال: «أهل الإفك فى الصديقة المبرأة المطهرة عائشة بنت الصديق، رضى الله عنهما، ما قالوا» . فحدثت- يرحمها الله- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. فلما كانت غزوة بنى المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع فخرج سهمى عليهن معه فخرج بى صلى الله عليه وسلم. قالت: وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يهبجهن اللحم فيثقلن، وكنت إذا رحّل لى بعيرى جلست فى هودجى ثم يأتى القوم الذين يرحلون لى ويحملوننى فيأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات به بعض الليل ثم أذن فى الناس بالرحيل، فارتحل الناس وخرجت لحاجتى وفى عنقى عقد لى فيه جزع ظفار فلما فرغت انسل من عنقى ولا أدرى، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه فى عنقى فلم أجده وقد أخذ الناس فى الرحيل، فرجعت إلى مكانى الذى ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته، وجاء خلافى القوم الذين كانوا يرحلون لى البعير وقد فرغوا من رحلته فأخذوا الهودج وهم يظنون أنى فيه كما

_ (1) انظر: السيرة (3/ 269) .

كنت أصنع، فاحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أنى فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، ورجعت إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب قد انطلق الناس، قالت: فتلففت بجلبابى ثم اضطجعت فى مكان وعرفت أنه لو قد افتقدت لرجع إلى. فو الله إنى لمضطجعة إذ مر بى صفوان بن المعطل السلمى، وكان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس، فرأى سوادى، فأقبل حتى وقف على، وقد كان يرانى قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآنى قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأنا متلففة فى ثيابى. قال: ما خلفك، رحمك الله؟ قالت: فما كلمته، ثم قرب البعير فقال: اركبى. واستأخر عنى، فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعا يطلب الناس، فو الله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت، ونزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودنى، فقال أهل الإفك ما قالوا. فارتعج العسكر، والله ما أعلم بشىء من ذلك. ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوا شديدا لا يبلغنى من ذلك شىء وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوى لا يذكرون لى منه قليلا ولا كثيرا، إلا أنى قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بى، كنت إذا اشتكيت رحمنى ولطف لى فلم يفعل ذلك فى شكوى ذلك فأنكرت ذلك منه، كان إذا دخل على وعندى أمى تمرضنى قال: كيف تيكم، لا يزيد على ذلك حتى وجدت فى نفسى حين رأيت من جفائه لى. فقلت: يا رسول الله لو أذنت لى فانتقلت إلى أمى فتمرضنى؟ قال: «لا عليك» . فانتقلت إلى أمى ولا علم لى بشىء مما كان، حتى نقهت من وجعى بعد بضع وعشرين ليلة، وكنا قوما عربا لا نتخذ فى بيوتنا هذه الكنف التى تتخذ الأعاجم نعافها ونكرهها، إنما كنا نذهب فى فسح المدينة، وإنما كان النساء يخرجن كل ليلة فى حوائجهن، فخرجت ليلة لبعض حاجتى ومعى أم مسطح بنت أبى رهم بن المطلب بن عبد مناف، وكانت أمها خالة أبى بكر الصديق، فو الله إنها لتمشى معى إذ عثرت فى مرطها فقالت: تعس مسطح. قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا. قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبى بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتنى بالذى كان من قول أهل الإفك. قلت: أوقد كان هذا؟ قالت: نعم والله لقد كان. فو الله ما قدرت على أن أقضى حاجتى ورجعت، فوالله مازلت أبكى حتى ظننت

أن البكاء سيصدع كبدى. وقلت لأمى: يغفر الله لك! تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لى من ذلك شيئا؟ قالت: أى بنية خفضى عليك الشأن، فو الله لقل ما كنت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها. قالت: وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الناس فخطبهم ولا أعلم بذلك، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، ما بال رجال يؤذوننى فى أهلى ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتى إلا وهو معى» . قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبى فى رجال من الخزرج مع الذى قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن من نسائه امرأة تناصينى فى المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضادنى لأختها، فشقيت بذلك. فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة قال أسيد بن خضير: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك فو الله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد بن عبادة فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد: كذبت لعمر الله ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت: وتثاور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا على بن أبى طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا، ثم قال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل. وأما على فإنه قال: يا رسول الله، إن النساء لكثير وإنك لتقدر أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ليسألها، فقام إليها على فضربها ضربا شديدا ويقول: اصدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أنى كنت أعجن عجينى فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتى الشاة فتأكله. قالت: ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندى أبواى وعندى امرأة من الأنصار فأنا أبكى وهى تبكى معى، فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقى الله وإن كنت قارفت سوآ مما يقول الناس فتوبى إلى الله

فإن يقبل التوبة عن عباده» «1» . قالت: فو الله إن هو إلا أن قال لى ذلك فقلص دمعى حتى ما أحس منه شيئا. وانتظرت أبوى أن يجيبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما. قالت: وأيم الله لأنا كنت أحقر فى نفسى وأصغر شأنا من أن ينزل الله فى قرآنا يقرأ به فى المسجد ويصلى به، ولكنى كنت أرجوا أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منامه شيئا يكذب الله به عنى لما يعلم من براءتى أو يخبر خبرا، فأما قرآن ينزل فى فو الله لنفسى كانت أحقر عندى من ذلك. قالت: فلما لم أرى أبوى يتكلمان قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: والله ما ندرى بماذا نجيبه. قالت: وو الله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبى بكر فى تلك الأيام. قالت: فلما استعجما على استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا، والله إنى لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أنى منه بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقوننى، ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت: ولكنى سأقول كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: 18] . قالت: فو الله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجى بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فو الله ما فرغت ولا باليت، قد عرفت أنى بريئة وأن الله غير ظالمى، وأما أبواى فو الذى نفس عائشة بيده ما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس. ثم سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان وفى يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: «أبشرى يا عائشة فقد أنزل الله براءتك» «2» قلت: بحمد الله. ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن فى ذلك ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش وحسان بن ثابت، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم. قالت: فلما نزل القرآن ذكر من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك فقال: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ

_ (1) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (8/ 475) ، البدآية والنهاية لابن كثير (4/ 163) . (2) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (4/ 4735) ، سنن الترمذى (5/ 3180) .

مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ [النور: 11] قيل: إنه حسان بن ثابت وأصحابه، ويقال: عبد الله بن أبى وأصحابه. ثم قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أى هلا قلتم إذ سمعتموه كما قال أبو أيوب الأنصارى وصاحبته أم أيوب، وذلك أنها قالت لزوجها: يا أبا أيوب، ألا تسمع ما يقول الناس فى عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلته؟ قال: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك. ثم قال تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. فلما نزل هذا فى عائشة وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر- رحمه الله وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته: والله لا أنفق على مسطح أبدا ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذى قال لعائشة وادخل علينا. قالت: فأنزل الله فى ذلك وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] قالت: فقال أبو بكر: بلى، والله إنى لأحب أن يغفر الله لى فرجع إلى مسطح نفقته التى كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. وذكر ابن إسحاق «1» : أن حسان بن ثابت مع ما كان منه فى صفوان بن المعطل من القول السىء قال مع ذلك شعرا يعرض فيه بصفوان ومن أسلم من مضر يقول فيه: أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة- البلد فلما بلغ ذلك ابن المعطل اعترض حسان بن ثابت فضربه بالسيف ثم قال: تلق ذباب السيف عنى فإننى ... غلام إذا هو جيت لست بشاعر فوثب عند ذلك ثابت بن قيس بن شماس على صفوان فجمع يديه إلى عنقه بحبل ثم انطلق به إلى دار بنى الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك ضرب حسان بالسيف؟ والله ما أراه إلا قد قتله. فقال له ابن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء مما صنعت؟ قال: لا والله. قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل. فأطلقه.

_ (1) انظر السيرة (3/ 278) .

ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فدعا حسان وصفوان، فقال صفوان: يا رسول الله، آذانى وهجانى فاحتملنى الغضب فضربته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: «يا حسان، أتشوهت على قومى أن هداهم الله للإسلام؟» ثم قال: «أحسن يا حسان فى الذى أصابك» «1» . قال: هى لك. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوضا منها بئر «حاء» ماء كان لأبى طلحة بالمدينة فتصدق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضعه حيث شاء فأعطاه حسان فى ضربته، وأعطاه «سيرين» أمة قبطية ولدت له ابنه عبد الرحمن. وقد روى من وجوه أن إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه سيرين إنما كان لذبه بلسانه عن النبى صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. وكانت عائشة- رحمها الله- تقول: لقد سئل عن ابن المعطل فوجدوه حصورا لا يأتى النساء ثم قتل بعد ذلك شهيدا. وقال بعد ذلك حسان يمدح عائشة- رضى الله عنها- ويعتذر من الذى كان فى شأنها: حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «2» عقيلة حى من لؤى بن غالب ... كرام المساعى مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله جنبها ... وطهرها من كل سوء وباطل فإن كنت قد قلت الذى قد زعمتم ... فلا رفعت سوطى إلى أناملى وكيف وودى ما حييت ونصرتى ... لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلهم ... تقاصر عنه سورة المتطاول فإن الذى قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بى ماحل وقال قائل من المسلمين فى ضرب حسان وصاحبيه فى فريتهم على عائشة رضى الله عنها: لقد ذاق حسان الذى كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطة ذى العرش الكريم فأترحوا وآذوا رسول الله فيها فجللوا ... مخازى تبقى عمموها وفضحوا

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 163) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 234) . (2) الحصان: أى العفيفة. والرزان: أى الملازمة موضعها. وما تزن: أى ما تتهم. وغرثى: أى جائعة.

غزوة الحديبية

وصبت عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر الحافظ أن قوما أنكروا أن يكون حسان خاض فى الإفك أو جلد فيه، ورووا عن عائشة- رحمها الله- أنها برأته من ذلك، ثم ذكر عن الزبير بن بكار وغيره أن عائشة كانت فى الطواف مع أم حكيم بنت خالد بن العاص وابنة عبد الله بن أبى ربيعة، فتذاكرن حسان فابتدرتاه بالسب فقالت لهما عائشة: ابن الفريعة تسبان! إنى لأرجوا أن يدخله الله الجنة بذبه عن النبى صلى الله عليه وسلم بلسانه، أليس القائل: هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله فى ذاك الجزاء فإن أبى ووالده وعرضى ... لعرض محمد منكم وقاء فقالتا لها: أليس ممن لعنه الله فى الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ قلت: لم يقل شيئا، ولكنه القائل: حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل فإن كان ما قد قيل عنى قلته ... فلا رفعت سوطى إلى أناملى غزوة الحديبية وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذى القعدة من سنة ست معتمرا لا يريد حربا، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادى من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذى صنعوا، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدى وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له. حتى إذا كان بعسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبى «1» فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذى طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا وهذا خالد بن الوليد فى خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (646) ، أسد الغابة ترجمة رقم (411) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 48) ، الوافى بالوفيات (10/ 133) ، العقد الثمين (9/ 367) ، تقريب التهذيب (2/ 95، 160، 4/ 294) .

يوم أرماث

لو خلوا بينى وبين سائر العرب فإن هم أصابونى كان الذى أرادوا، وإن أظهرنى الله عليهم دخلوا فى الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة؛ فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذى بعثنى الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» «1» . ثم قال: «من رجل يخرج بنا على غير طريقهم؟» «2» فقال رجل من أسلم: أنا، فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق عليهم وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه» . فقالوا ذلك، فقال: «والله إنها للحطة التى عرضت على بنى إسرائيل فلم يقولوها» «3» . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين بين ظهرى الحمص فى طريق تخرج على ثنية المرار «4» » ، فهبط الحديبية من أسفل مكة. فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش هدة الجيش قد خالفوا عن طريقهم وكفوا راجعين إلى قريش، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك فى ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلأت. فقال: «ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسلون فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها «5» » ، ثم قال للناس: «انزلوا» . قيل: يا رسول الله، ما بالوادى ماء ننزل عليه. فأخرج صلى الله عليه وسلم سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل فى قليب من تلك القلب، فغرزه غى جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن. فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء فى رجال من خزاعة فكلموه وسألوه ما الذى جاء له، فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، ثم قال لهم نحوا قال لبسر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: إنكم تعجلون على محمد، إن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت. فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: إن كان جاء ولا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تحدث بذلك عنا العرب. ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بنى عامر بن لؤى، فلما رآه رسول

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 323) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11307) ، تفسير ابن كثير (7/ 328) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 165) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 165) . (3) انظر الحديث السابق. (4) ثنية المرار: حشيشة مرة إذا أكلتها الإبل قلصت مشافرها. (5) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 323) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 165) .

الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: «هذا رجل غادر» «1» . فلما انتهى إليه وكلمة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه. فرجع إلى قريش فأخبرهم. ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان، أحد بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة- وكان يومئذ سيد الأحابيش- فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه» «2» . فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادى فى قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى؛ فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس. فإنما أنت أعرابى لا علم لك؛ فغضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر القوم، والله ما على هذا حالفناكم وما على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟! والذى نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له: كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفى فقال: يا معشر قريش إنى قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفت أنكم والد وأنى ولد- وكان لسبيعة بنت عبد شمس- وقد سمعت بالذى نابكم فجمعت من أطاعنى من قومى ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد، أجمعت أوشاب الناس ثم جئت إلى بيتك لتقضهابهم؟! إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأنى بهؤلاء قد انكشفوا عنك. فرد عليه أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- وقال: أنحن ننكشف عنه! ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كلمة والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله فى الحديد، فجعل يقرع يده إذا فعل ذلك ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة» «3» . قال: أى غدر هل غسلت سوءتك إلا بالأمس! يريد أن المغيرة

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 324) ، تفسير ابن كثير (7/ 328) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 166) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 166) . (3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 324) ، المطالب العالية لابن حجر (4347) ، تفسير ابن كثير (7/ 329) .

كان قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين والأحلاف رهط المغيرة، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح ذلك الأمر. وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بنحو مما كلم به أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا حربا فقام من عنده وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شىء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إنى قد جئت كسرى فى ملكة وقيصر فى ملكه والنجاشى فى ملكه، وإنى والله ما رأيت ملكا فى قوم قط مثل محمد فى أصابه! ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا فروا رأيكم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية الخزاعى «1» فحمله على بعير له وبعثه إلى قريش ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به الجمل وأرادوا قتله فمنعته الاحابيش، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعثت قريش أربعين رجلا أو خمسين وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا، فأخذوا أخذا، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلى سبيلهم. ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول الله، إنى أخاف قريشا على نفسى، وليس بمكة من بنى عدى بن كعب أحد يمنعنى، وقد عرفت قريش عداوتى إياها وغلظتى عليها، ولكنى أدلك على رجل أعز بها منى: عثمان بن عفان. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إلى أبى سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته؛ فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره. وقال له فيما ذكره غير ابن إسحاق: أقبل وأدبر ولا تخف أحدا بنو سعيد أعزة الحرم. فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا له حين فرغ: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. قال: ما كنت لأفعل

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2238) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1428) ، الثقات (3/ 107) ، الطبقات الكبرى (4/ 139) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 157) ، المغازى للواقدى (600) ، الجرح والتعديل (3/ 392) ، تاريخ الطبرى (3/ 631) ، الوافى بالوفيات (13/ 301) .

حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل، فقال حين بلغه ذلك: «لا نبرح حتى نناجز القوم» «1» . ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم على الموت. وكان جابر يقول: بايعنا على ألانفر. فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ولم يختلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس لصق بإبط ناقته يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذى كان من أمر عثمان باطل. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان: ضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: «هذه يد عثمان» . ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو وقالوا: إيت محمدا فصالحه ولا يكون فى صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتى سهيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» «2» . فلما انتهى إليه سهيل تكلم فأطال الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح. فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطى الدنية» فى ديننا! قال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه فإنى أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: «بلى» . قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى» . قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى» «4» . قال: فعلام

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 167) . (2) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (9/ 221) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 145) . (3) الدنية: الذل والصغار والخسيس من الأمر. (4) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (1412، 2151) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (313) ، صحيح البخارى (4/ 26، 125) ، المعجم الكبير للطبرانى (6/ 109، 8/ 275) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 312، 5/ 67) ، كنز العمال للمتقى الهندى (17905، 29993، 30154، 37155) ، فتح البارى لا بن حجر (7/ 8) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 1/ 20) .

نعطى الدنية فى ديننا؟! قال: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعنى» «1» . فكان عمر يقول: مازلت أتصدق واصوم واصلى وأعتق من الذى صنعت- يومئذ- مخافة كلامى الذى تكلمت به حين رجوت أنه يكون خيرا. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب رضى الله عنه فقال اكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» «2» ، فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب باسمك اللهم» «3» . فكتبها ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو» . فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال «4» ، وأنه من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه» «5» . فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن فى عقد محمد وعهده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن فى عقد قريش وعهدهم.

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 201) ، صحيح مسلم فى كتاب النكاح (135) ، السنن الكبرى للبيهقى (7/ 229) ، التاريخ الكبير للبخارى (3/ 217) ، تفسير ابن كثير (4/ 69، 7/ 330) ، زاد المسير لابن الجوزى (7/ 425) ، موارد الظمآن للهيثمى (1305، 1705، 2128) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 356) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 109، 113) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 268، 4/ 86، 325، 330) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 220، 227) ، مصنف عبد الرزاق (9720) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 145، 146) ، تفسير ابن كثير (1/ 36، 7/ 324) ، تفسير الطبرى (26/ 59، 63) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 502) ، كنز العمال للمتقى الهندى (1627، 30151، 30154) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 175) . (3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 86، 325، 330) ، تفسير ابن كثير (7/ 324) ، تفسير الطبرى (26، 59، 63) ، فتح البارى لابن حجر (5/ 331، 7/ 502) ، كنز العمال للمتقى الهندى (30154) . (4) الأسلال: أى السرقة الخفية. والأغلال: أى الخيانة. (5) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 342، 4/ 87) ، تفسير الطبرى (13/ 101) .

«وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب: السيوف فى القرب لا تدخلها بغيرها» . فبينا رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل ابن عمرو يرسف «1» فى الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون فى الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما يحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفسه دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبة ثم قال: يا محمد، قد لجت القضية بيتى وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت. فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنونى فى دينى؟! فزاد الناس ذلك إلى ما بهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صالحا وأعطيناهم على ذلذك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدرهم» «2» . فوثب عمر بن الخطاب مع أبى جندل يمشى إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب! - ويدنى قائم السيف منه- يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية. فلما فرغ من الكتاب اشهد رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين، أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد ابن أبى وقاص ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص وهو مشرك وعلى بن أبى طالب وهو كان كاتب الصحيفة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا فى الحل وكان يصلى فى الحرم، فلما فرغ من الصلح

_ (1) انظر ترجمته فى: الثقات (5/ 568) ، الإصابة ترجمة رقم (9699) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5775) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 325) ، تفسير ابن كثير (7/ 330) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (7/ 135) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 169) .

قام إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق رأسه وأهدى عامئذ فى هداياه جملا لأبى جهل فى رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين. فلما رآه الناس قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون، وكان فيهم- يومئذ- من قصر فقال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله المحلقين» . قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» . قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» «1» . قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين» «2» . فقالوا: يا رسول الله، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: «لم يشكوا» «3» . ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة ذلك قافلا، حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. ثم ذكر القصة فيه وفى أصحابه، حتى إذا انتهى إلى ذكر البيعة فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. ثم ذكر من تخلف عنهم من الأعراب فاستوفى قصتهم. ثم قال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ. عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. ثم قال: وَهُوَ

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 353، 2/ 16، 4/ 70، 6/ 402) ، السنن الكبرى للبيهقى (5/ 134) ، مشكل الآثار للطحاوى (2/ 144) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (2/ 101) ، كنز العمال للمتقى الهندى (12738، 12739) ، البدآية والنهاية لابن كثير (4/ 169، 5/ 189) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 452، 453) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 151) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (945، 649) ، سنن الترمذى (912) ، سنن ابن ماجه (3044) ، مسند الإمام أحمد (1/ 253، 2/ 79، 138، 231، 411، 4/ 70، 5/ 381، 6/ 393، 402) ، سنن الدارمى (2/ 64) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 452، 453) ، موطأ مالك (395) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 151) ، المعجم الكبير للطبرانى (19/ 275) ، شرح السنة للبغوى (7/ 202) . (3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 353) .

الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، يعنى النفر الذين وجهت قريش بهم ليصيبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا فلم ينالوا شيئا وأخذوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بجملتهم وسيقوا إليه فخلى سبيلهم. ثم قال بعد: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ يعنى سهيل ابن عمرو حين حمى أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. وأن محمدا رسول الله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها، أى التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد ورسوله. ثم قال: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا أى لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التى رأى أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف. وقد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة بعض من كان معه: ألم تقل يا رسول الله أنك تدخل مكة آمنا؟ قال: «بلى» ، قال: «أفقلت لكم من عامى هذا؟» قالوا: لا. قال: «فهو كما قال لى جبريل» «1» فحقق له سبحانه من موعده ما أنجزه له بعد وصدقه بقوله جل قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ معه فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً صلح الحديبية. يقول الزهرى: فما فتح فى الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا فى الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل فى تينك السنتين مثل من كان فى الإسلام قبل ذلك وأكثر. قال ابن هشام «2» : والدليل على ما قال الزهرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية فى ألف وأربعمائة فى قول جابر بن عبد الله ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين فى عشرة آلاف. وذكر ابن عقبة أنه لما كان صلح الحديبية قال رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصد هدينا. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول أولئك فقال:

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 331) ، تفسير ابن كثير (8/ 120) . (2) انظر السيرة (3/ 296) .

«بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، قد رضى المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم فى الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أتنسون يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم فى أخراكم؟! أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟» «1» فقال المسلمون: صدق الله ورسوله فهو أعظم الفتوح، والله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وأمره منا. وفى الصحيح من حديث سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم، فلقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أستطيع أن أراد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته والله ورسوله أعلم. وخرج البخارى من حديث البراء بن عازب قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا. وعن سالم بن أبى الجعد عن جابر بن عبد الله قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا يشرب إلا ما فى ركوتك. قال: فوضع النبى صلى الله عليه وسلم يده فى الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال: فشربنا وتوضانا؛ فقلت لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة «2» .

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 160) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 68) . (2) الحديث عن نبع الماء من بين أصابع النبى صلى الله عليه وسلم وانبجاسه وتدفقه وفورانه متعدد المواضع لتكرر حدوثه، وهو محكى فى البخارى الصحيح ج 1 ص 89، 100، 102 (كتاب الوضوء) ، ج 5 ص 35، 36، 38 (كتاب المناقب) ، ج 4 ص 260، (باب غزوة الحديبية) ، مسلم. الجامع الصحيح ج 2 ص 138- 141 (كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها) ، ج 7 ص 59 (كتاب الفضائل، باب معجزات النبى صلى الله عليه وسلم) ، ج 8 ص 235، 236 (كتاب الزهد والرقائق، حديث جابر الطويل وقصة أبى اليسر) . وراجع: ابن جماعة، المختصر الصغير (ص 60) .

وذكر ابن عقبة عن ابن عباس قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كلمة بعض أصحابه فقالوا: جهدنا وفى الناس ظهر فانحروه لنا فلنأكل من لحومه ولندهن من شحومه ولنحتذ من جلوده. فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله، فإن الناس إن يكن فيهم بقية ظهر أمثل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابسطوا أنطاعكم وعباءكم» «1» ففعلوا، ثم قال: «من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينثره» ودعا لهم، ثم قال لهم: «قربوا أوعيتكم» «2» . فأخذوا ما شاؤا. قال ابن إسحاق «3» : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة- يعنى من الحديبية- أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن حارثة «4» - وكان ممن حبس بمكة- فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا رجلا من بنى عامر بن لؤى ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح لنا فى ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» «5» . فانطلق معهما حتى إذا كان بذى الحليفة جلس إلى جدار وجلس معه صاحباه، فقال أبو بصير. أصارم سيفك هذا يا أخا بنى عامر؟ فقال: نعم. قال أنظر إليه قال: إن شئت فاستله أبو بصير ثم علاه به حتى قتله. وذكر ابن عقبة أن الرجل هو الذى سل سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفى هذا فى الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال له أبو بصير: وصارم سيفك هذا؟ فقال: نعم. فقال: ناولنيه أنظر إليه؛ فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد. قال: ويقال: بل تناول أبو بصير سيف الرجل بفيه وهو نائم فقطع إساره ثم ضربه به حتى برد، وطلب الآخر، فجمز مرعوبا مستخفيا حتى دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيه يطن الحصباء من شدة سعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرا» . قال ابن

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 354) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 116) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (5/ 479) ، فتح البارى لابن حجر (8/ 46) . (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 119) . (3) انظر السيرة (3/ 296) . (4) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (9633) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5734) . (5) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (9/ 227) .

إسحاق: فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويحك مالك؟» «1» قال: قتل صاحبكم صاحبى. فو الله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف فقال: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك، أسلمتنى بيد القوم وقد امتنعت بدينى أن أفتن فيه أو يعبث بى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلمه محش حرب «2» لو كان معه رجال» «3» . ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص من ناحية المروة على ساحل البحر بطريق قريش التى كانوا يأخذوا إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتسبوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بصير: «ويلمه محش حرب لو كان معه رجال» فخرجوا إلى أبى بصير بالعيص، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم. وذكر موسى بن عقبة أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو الذى رد على قريش مكرها يوم القضية هو الذى انفلت فى سبعين راكبا أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبى بصير وكرهوا الثواء بين أظهر قومهم، فنزلوا مع أبى بصير فى منزل كريه إلى قريش فقطعوا مادتهم من طريق الشام. قال: وكان أبو بصير- زعموا- وهو فى مكانه ذلك يصلى لأصحابه، فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمهم. واجتمع إلى أبى جندل ناس من غفار وأسلم وجهينه وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون، فأقاموا مع أبى جندل وأبى بصير، لا يمر بهم عير لقريش إلا اخذوها وقتلوا أصحابها. وقال فى ذلك أبو جندل فيما ذكره غير ابن عقبة: أبلغ قريشا عن أبى جندل ... أنا بذى المروة بالساحل فى معشر تخفق أيمانهم ... بالبيض فيها والقنا الذابل يأبون أن يبقى لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحق لا يغلب بالباطل فيسلم المرء بإسلامه ... أو يقتل المرء ولم يأتل

_ (1) انظر الحديث فى: سنن أبو داود (4519) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 226) . (2) محش حرب: أى أنه يوقد الحرب ويهيجها ويشعل نارها. (3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (3/ 257) ، سنن أبى داود فى كتاب الجهاد باب (167) ، مسند الإمام أحمد (4/ 331) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 221، 222، 226، 228) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 107، 673) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 78) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 176) ، مصنف عبد الرزاق (9720) .

فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبى بصير وإلى أبى جندل بن سهيل ومن معهم فيقدموا عليه وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه فى غير حرج، فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره. فلما كان ذلك من أمرهم علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع أبا جندل من ابيه بعد القضية أن طاعة رسول الله خير فيما أحبوا وفيما كرهوا، وأن رأيه أفضل من رأيهم ومن رأى من ظن أن له قوة ورأيا، وعلم أن ما خص الله به نبيه من العون والكرامة أفضل. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى جندل وأبى بصير يأمرهم أن يقدموا عليه ويأمر من معهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم ولا يعرضوا لأحد مر بهم من قريش وعيراتها، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- زعموا- على أبى جندل وأبى بصير وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يده يقترئه. فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا. وقدم أبو جندل على رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم وأمنت عيرات قريش. فلم يزل أبو جندل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد ما أدرك من المشاهد بعد ذلك وشهد الفتح، ورجع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل معه بالمدينة حتى توفى صلوات الله عليه وسلامه وقدم أبوه سهيل بن عمرو المدينة أول إمارة عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فمكث بها أشهر ثم خرج مجاهدا إلى الشام وخرج معه ابنه أبو جندل، فلم يزالا مجاهدين حتى ماتا جميعا هناك، يرحمهما الله. وهاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك المدة أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط «1» ، فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذى بينه وبين قريش فى الحديبية، فلم يفعل، أبى الله ذلك وأنزل فيه على رسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَ

_ (1) انظر ترجمتها فى: الإصابة ترجمة رقم (12231) ، أسد الغابة ترجمة رقم (7585) ، الطبقات الكبرى (8/ 230) ، تهذيب التهذيب (12/ 476) .

غزوة خيبر

أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة: 9- 10] . غزوة خيبر ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية مكث بها ذا الحجة منسلخ سنة ست، وبعض المحرم من سنة سبع. ثم خرج فى بقية منه إلى خيبر غازيا. وكان الله وعده إياها وهو بالحديبية بقوله عز من قائل: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [الفتح: 20] يعنى بالمعجل صلح الحديبية، والمغانم الموعود بها فتح خيبر. فخرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنجزا ميعاد ربه وواثقا بكفايته ونصره، ودفع الراية إلى على بن أبى طالب- وكانت بيضاء- فسلك على عصر فبنى له فيها مسجدا، ثم على الصهباء، ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له الرجيع فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أن غطفان لما سمعت منزله من خيبر جمعوا ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم حسا ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم فأقاموا فى أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيبر. قال أبو معتب بن عمرو: لما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر قال لأصحابه وأنا فيهم: «قفوا» «1» . ثم قال: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها» ثم قال: «أقدموا بسم الله» «2» . قال: وكان يقولها لكل قرية دخلها.

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (1/ 134) . (2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (1/ 446، 2/ 100) ، تفسير القرطبى (8/ 175) ، مشكل الآثار للطحاوى (2/ 312، 3/ 215) ، زاد المسير لابن الجوزى (8/ 299) ، الدر المنثور للسيوطى (4/ 224) ، التاريخ الكبير للبخارى (6/ 472) ، المعجم الكبير للطبرانى (8/ 39) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 183) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 204) .

ذكر اليوم الثانى من أيام القادسية، وهو يوم أغواث

وقال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك وإن لم يسمع أذانا أغار، فنزلنا خيبر ليلا، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اصبح لم يسمع أذانا فركب وركبنا معه، فركبت خلف أبى طلحة وإن قدمى لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش قالوا: محمد والخميس معه. فأدبروا هرابا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت حيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «1» . قال ابن إسحاق «2» : وتدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال يأخذها مالا مالا ويفتحها حصنا حصنا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فقتله، ثم القموص حصن أبى الحقيق، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا منهن صفية بنت حيى بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق وبنتى عم لها، فاصطفى صفية لنفسه بعد أن سأله إياها دحية بن خليفة الكلبى، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتى عمها، وكان بلال هو الذى جاء بصفية وبأخرى معها فمر بها على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التى مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أغربوا عنى هذه الشيطانة» «3» ، وأمر بصفية فحيزت خلفه وألقى عليها رداؤه، فعرف المسلمون أنه قد اصطفاها لنفسه، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال حين رأى بتلك اليهودية ما رأى: «أنزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بامراتين على قتلى رجالهما؟!» «4» . وكانت صفية قد رأت فى المنام وهى عروس بكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق أن قمرا وقع فى حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا! فلطم وجهها لطمة حضر عينها منها. فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منه فسألها ما هو فأخبرته الخبر.

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 104، 159، 2/ 19، 4/ 58، 253) ، صحيح مسلم (1043، 1044) ، سنن النسائى (6/ 132) ، مسند الإمام أحمد (2/ 102، 164، 186، 246، 263) ، السنن الكبرى للبيهقى (2/ 230، 9/ 55، 79، 80، 152) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 215) ، موطأ مالك (469) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 461) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 77، 79) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 183، 184، 196) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 203، 227) . (2) انظر السيرة (3/ 304) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 197) . (4) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 197) .

ولما أعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر أو ببعض الطريق وبات بها فى قبة له، بات أبو أيوب الأنصارى متوشحا السيف يحرسه ويطيف بالقبة حتى أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى مكانه قال: «ما لك يا أبا أيوب؟» قال: يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى» «1» . وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع- وكان عنده كنز بنى النضير- فساله عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من يهود فقال: إنى رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك؟ قال: نعم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقى فأبى أن يريه، فأمر به الزبير بن العوام فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده. فكان الزبير يقدح بزند فى صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة. وفشت السبايا من خيبر فى المسلمين وأكل المسلمون لحوم الحمر من حمرها. قال ابن عقبة: كانت أرضا وخيمة شديدة الجهد، فجهد المسلمون جهدا شديدا وأصابهم مسغبة شديدة فوجدوا أحمرة إنسية ليهود لم يكونوا أدخلوها الحصن فانتحروها، ثم وجدوا فى أنفسهم من ذلك، فذكروها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن أكلها. قال أبو سليط فيما ذكر ابن إسحاق: أتانا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية والقدور تفور بها فكأناها على وجوهها. وذكر- أيضا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام- يومئذ- فى الناس فنهاهم عن أمور سماها لهم، قال مكحول: نهاهم- يومئذ- عن أربع: عن إتيان الحبالى من النساء، وعن أكل الحمار الأهلى، وعن أكل كل ذى ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم. وحدث جابر بن عبد الله ولم يشهد خيبر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر أذن لهم فى لحوم الخيل.

_ (1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (37805) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 212) .

وافتتح رويفع بن ثابت قرية من قرى المغرب يقال لها: جربه، فقاك خطيبا فقال: يا أيها الناس، إنى لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم خيبر، قام فينا فقال: «لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أ، يصيب امرأة من السبى حتى يستبرئها، ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن يالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فىء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فىء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه» » . وقال عبادة بن الصامت: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين، وتبر الفضة بالورق العين، وقال: «ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين، وتبر الفضة بالذهب العين» . ولما أصاب المسلمين بخيبر ما أصابهم من الجهد أتى بنو سهم من أسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: يا رسول الله، لقد جهدنا وما بأيدينا من شىء. فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يعطيهم إياه، فقال: «اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست بهم قوة وأن ليس بيدى شىء أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء وأكثرها طعاما وودكا» «2» . فغدا الناس وفتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر كان أكثر طعاما وودكا منه. ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنيهم «الوطيح» و «السلالم» وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة، وخرج مرحب اليهودى من حصنهم قد جمع سلاحه وهو ينادى: من يبارز، ويرتجز: قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكى السلاح بطل مجرب أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرب إن حماى للحمى لا يقرب

_ (1) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (2158، 2159) ، مسند الإمام أحمد (4/ 108، 6/ 385) ، إرواء الغليل للألبانى (1/ 201) ، شرح السنة للبغوى (9/ 321) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (4/ 30) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 192) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 124) . (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 223) .

فأجابه كعب بن مالك فقال: قد علمت خيبر أنى كعب ... مفرج الغمى جرىء صلب حيث تشب الحرب ثم الحرب ... معى حسام كالعقيق عضب نطؤكم حتى يذل الصعب ... نعطى الجزاء أو يفاء النهب بكف ماض ليس فيه عتب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لهذا؟» قال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور الثائر، قتل أخى بالأمس. قال: «فقم إليه، اللهم أعنه عليه» «1» . فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر فجعل أحدهما يلوذ بها من صحابه، كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن، ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فاتقاه بدرقته فوقع سيفه فيها فعضت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله. ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يقول: من يبارز؟ فخرج إليه الزبير بن العوام، فيما ذكر هشام بن عروة- فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: يقتل ابنى يا رسول الله، قال: بل ابنك يقتله إن شاء الله. فخرج الزبير فالتقيا فقتله الزبير. وحدث سلمة بن عمرو بن الأكوع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار «2» » فدعا على بن أبى طالب- رضى الله عنه- وهو أرمد فتفل فى عينيه ثم قال: «خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك» «3» . فخرج وهو يهرول بها هرولة وإنا لخلفه نتبع أثره، حتى ركز رايته فى رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع إليه يهودى من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قال: أنا على بن أبى طالب. قال: اليهودى: علوتم وما أنزل على موسى- أو كما قال- فما رجع حتى فتح الله على يديه. وقال أبو رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرجنا مع على- رضى الله عنه- حين بعثه

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 385) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 131) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 150) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 215) ، كنز (30122) . (2) انظر الحديث فى: السنة لابن أبى عاصم (2/ 608) ، الأسماء والصفات للبيهقى (498) . (3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 210) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علىّ بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل فى يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتنى فى نفر معى سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه. وحدث أبو اليسر كعب بن عمرو قال: إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم ونحن محاصروهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رجل يطعمنا من هذه الغنم؟» «1» فقال أبو اليسر: أنا يا رسول الله، قال: «فافعل» . قال: فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا قال: «اللهم أمتعنا به!» «2» قال: فأدركت الغنم وقد دخلت أولاها الحصن فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدى ثم أقبلت بهما أشتد كأنه ليس معى شىء حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوهما فأكلوهما. فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتا، فكان إذا حدث هذا الحديث بكى ثم قال: أمتعوا بى لعمرى حتى كنت من آخرهم! وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر فى حصنيهم «الوطيح» و «السلالم» حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ففعل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الأموال كلها: الشق ونطاة والكتيبة؛ وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين، فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ويخلوا له الأموال ففعل. فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم فى الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، فصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئا بين المسلمين. وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب. فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية. وقد سألت أى عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها من السم. ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 427) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 149) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 427) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 195) .

منها مضغة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ثم قال: «إن هذا العظم ليخبرنى أنه مسموم» «1» . ثم دعا بها فاعترفت. فقال: «ما حملك على ذلك؟» «2» قالت: بلغت من قومى ما لم يخف عليك فقلت: إن كان ملكا استرحت منه؛ وإن نبيا فسيخبر. فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومات بشر بن البراء من أكلته التى أكل. وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الكتف من تلك الشاة فانتهش منها وتناول بشر عظما فانتهش منه؛ فلما استرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمته استرط بشر ما فى فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرنى أنى بغيت فيها» . فقال بشر بن البراء: والذى أكرمك لقد وجدت ذلك فى أكلتى التى أكلت فما منعنى أن ألفظها إلا أنى اعظمت أن أنغصك طعامك، فلما أسغت ما فى فيك لم أكن أرغب بنفسى عن نفسك، ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها بغى. فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه مثل الطيلسان وماطله وجعه حتى كان لا يتحول إلا ما حول. قال جابر بن عبد الله: واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم- يومئذ- على الكاهل، حجمه أبو طيبة مولى بنى بياضة. وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذى توفى منه، فدخلت عليه أم بشر، بنت البراء بن معرور تعوده فيما ذكر ابن إسحاق فقال لها: «يا أما بشر: إن هذه لأوان وجدت انقطاع أبهرى من الأكلة التى أكلت مع أخيك بخيبر» «3» .

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 211) . (2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (2065) ، السنن الكبرى للبيهقى (7/ 386، 9/ 147) ، مستدرك الحاكم (1/ 483، 3/ 301) ، المعجم الكبير للطبرانى (1/ 227، 11/ 236) ، مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 295، 296، 9/ 303، 304) ، مصنف عبد الرزاق (1525، 1526) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 109) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 353، 6/ 183) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (3302) ، فتح البارى لابن حجر (17/ 497) ، إرواء الغليل للألبانى (7/ 179) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (5/ 100) ، العلل المتناعية لابن الجوزى (1/ 229) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 211) .

حديث يوم عماس، وهو اليوم الثالث من أيام القادسية

قال: فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله من النبوة. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إلى وادى القرى فحاصر أهله ليالى ثم انصرف راجعا إلى المدينة. قال أبو هريرة: لما انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر إلى وادى القرى نزلناها أصلا مع مغرب الشمس، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام أهداه له رفاعة بن زيد الجذامى ثم الضبيبى، فو الله إنه ليضع رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه سهم غرب فأصابه فقتله، فقلنا: هنيئا له الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا والذى نفس محمد بيده، إن شملته- الآن- لتحرق عليه فى النار، كان غلها من فىء المسلمين يوم خيبر» «1» . فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال له: يا رسول الله، أصبت شراكين لنعلين لى. فقال: «يقد لك مثلهما من النار» «2» . وخرج مسلم فى صحيحه من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا، إنى رأيته فى النار فى بردة غلها أو عباءة» . ثم قال: «يا بن الخطاب، أذهب فناد فى الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» «3» . قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء من نساء المسلمات، فرضخ لهن عليه السلام من الفىء، ولم يضرب لهن بسهم. حدثت بنت [أبى] الصلت عن امرأة غفارية سمتها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نسوة من بنى غفار وهو يسير إلى خيبر: فقلن يا رسول الله، قد أردنا الخروج معك إلى وجهك هذا فنداوى الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال: «على بركة الله» «4» . قالت: فخرجنا معه، فلما افتتح خيبر رضح لنا من

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (8/ 179) ، صحيح مسلم فى كتاب الإيمان باب (48) ، رقم (183) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 100) ، مستدرك الحاكم (3/ 40) ، التمهيد لابن عبد البر (2/ 3) . (2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 40) . (3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم، الجامع الصحيح (1/ 75) ، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول. (4) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 380) ، السنن الكبرى للبيهقى (2/ 407) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 214) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 204) .

الفىء وأخذ هذه القلادة التى تزين فى عنقى فأعطانيها وعلقها بيده فى عنقى، فو الله لا تفارقنى أبدا. قالت: فكانت فى عنقها حتى ماتت ثم أوصت أن تدفن معها. واستشهد بخيبر من المسلمين نحو من عشرين رجلا منهم عامر بن الأكوع عم سلمه ابن عمرو بن الأكوع؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال له فى مسيره إلى خيبر: «انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك» «1» فنزل يرتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا إنا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحمك الله» «2» . فقال عمر بن الخطاب: وجبت والله يا رسول الله لو أمتعتنا به! فقتل يوم خيبر شهيدا، وكان قتله أن سيفه رجع عليه وهو يقاتل فكلمه كلما شديدا فمات منه، فكان المسلمون قد شكوا فيه وقالوا: إنما قتله سلاحه، حتى سأل ابن أخيه سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأخبره بقول الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لشهيد» «3» ، وصلى عليه. فصلى عليه المسلمون. ومنهم الأسود الراعى من أهل خيبر، وكان من حديثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر ومعه غنم كان فيها أجيرا لرجل من يهود، فقال: يا رسول الله، أعرض علىّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه، فلما أسلم قال: يا رسول الله، إنى كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهى أمانة عندى فكيف أصنع بها؟ قال: «اضرب فى وجوهها فإنها سترجع إلى ربها» - أو كما قال- فقام الأسود فأخذ حفنة من الحصباء فرمى بها فى وجهها وقال: ارجعى إلى صاحبك فو الله لا أصحبك. وخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم الأسود إلى ذلك الحصن ليقتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله، وما صلى لله صلاة قط، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع خلفه وسجى بشملة كانت عليه فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه ثم أعرض

_ (1) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (4/ 16) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 148) ، التاريخ الكبير للبخارى (8/ 100) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 465) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 2/ 37) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 182) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 183) . (3) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (4/ 16) .

عنه فقالوا: يا رسول الله، لم أعرضت عنه؟ قال: «إن معه- الآن- زوجتيه من الحور العين!» . وذكر ابن إسحاق «1» عن عبيد بن أبى نجيح أن الشهيد إذا ما أصيب نزلت زوجتاه من الحور العين عليه ينفضان التراب عن وجهه ويقولان: ترب الله وجه من تربك وقتل من قتلك. قال: ولما افتتحت خيبر كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجاج بن علاط السلمى ثم البهزى فقال: يا رسول الله، إن لى بمكة مالا عند صاحبتى أم شيبة بنت أبى طلحة ومالا متفرقا فى تجار أهل مكة، فأذن لى يا رسول الله فأذن له؛ قال: إنه لا بد لى يا رسول الله من أن أقول. قال: قل. قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالا من قريش يتسمعون الأخبار ويسألون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر وعرفوا أنها قرية الحجاز ريفا ومنعة وجالا، فهم يتحسسون الأخبار ويسألون الركبان، فلما رأونى ولم يكونوا علموا بإسلامى قالوا: الحجاج بن علاط؟ عنده والله الخبر، أخبرنا يا أبا محمد فإنه بلغنا أن القاطع سار إلى خيبر وهى بلد يهود وريف الحجاز. قلت: قد بلغنى ذلك وعندى من الخبر ما يسركم. قال: فالتبطوا بجنبى ناقتى يقولون: إيه يا حجاج؟ قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط وأسر محمد أسرا، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم. قال: فقاموا وصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر وهذا محمد إنما تنظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم. قال: فقلت أعينونى على جمع مالى بمكة على غرمائى فإنى أريد أن أقدم خيبر فأصيب به من أهل محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار إلى ما هنالك. فقاموا فجمعوا إلى مالى كأحث جمع سمعت به وجئت صاحبتى فقلت: مالى- وقد كان لى عندها مال موضوع- لعلى ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقنى التجار. قال: فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وجاءه عنى أقبل حتى وقف إلى جنبى وأنا فى خيمة من خيام التجار فقال: يا حجاج، ما هذا الذى جئت به؟ قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال: نعم. قلت: فاستأخر عنى حتى ألقاك على خلاء

_ (1) انظر السيرة (3/ 320) .

فإنى فى جمع مالى كما ترى فانصرف عنى حتى أفرغ قال: حتى إذا فرغت من جمع كل شىء كان لى بمكة وأجمعت الخروج لقيت العباس فقلت: احفظ على حديثى يا أبا الفضل- فإنى أخشى الطلب- ثلاثا ثم قل ما شئت. قال: أفعل. قلت: فإنى والله لقد تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم- يعنى صفية بنت حيى- ولقد افتتح خيبر وانتثل ما فيها وصارت له ولأصحابه. قال: ما تقول يا حجاج؟ قلت: إى والله فاكتم عنى، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآحذ مالى فرقا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب. قال: حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة! قال: كلا والله الذى حلفتم به، لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على ابنة ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر، قال: الذى جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما وأخذ ماله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه. قالوا: يال عباد الله! انفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن. ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك. وقال كعب بن مالك الأنصارى فى يوم خيبر: ونحن وردنا خيبرا وفروضه ... بكل فتى عارى الأشاجع مذود جواد لدى الغايات لا واهن القوى ... جرىء على الأعداء فى كل مشهد عظيم رماد القدر فى كل شتوة ... ضروب بنصل المشرفى المهند يرى القتل مدحا إن أصاب شهادة ... من الله يرجوها وفوزا بأحمد يذود ويحمى عن ذمار محمد ... ويدمع عنه بالسان وباليد وينصره من كل أمر يريبه ... يجود بنفس دون نفس محمد وذكر ابن عقبة أن بنى فزارة قدموا على أهل خيبر فى أول أمرهم ليعينوهم، فراسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوهم وأن يخرجوا عنهم على أن يعطيهم من خيبر شيئا سماه لهم، فأبوا عليه وقالوا: جيراننا وحلفاؤنا. فلما فتح الله خيبر أتاه من كان هناك من بنى فزارة فقالوا: الذى وعدتنا؟ فقال: «لكم ذو الرقيبة» - لجبل من جبال خيبر- قالوا: إذن نقاتلك؛ قال: «موعدكم جنفاء» فلما سمعوا ذلك من رسول الله خرجوا هاربين.

خبر اليوم الرابع من أيام القادسية

قال ابن إسحاق «1» : وكانت المقاسم على أموال خيبر على الشق ونطاة والكتيبة، وكانت الشق ونطاة فى سهمان المسلمين، وكانت الكتيبة خمس الله وسهم النبى صلى الله عليه وسلم وسهم ذوى القربى والمساكين وطعم أزواج النبى صلى الله عليه وسلم وطعم رجال مشوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل فدك بالصلح. وقسمت خيبر على أهل الحديبية من شهد خيبر، ومن غاب عنها، ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضرها. وفى هذه الغزوة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمان الخيل والرجال، فجعل للفرس سهمين ولفارسه سهما وللراجل سهما، فجرت المقاسم على ذلك فيما بعد، ويومئذ عرب العربى من الخيل وهجن الهجين. وذكر ابن عقبة أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر نفر من الأشعريين فيهم أبو عامر الأشعرى، قدموا المدينة مع مهاجرة الحبشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فمضوا إليه وفيهم أبان بن سعيد بن العاص والطفيل- يعنى ابن عمرو الدوسى ذا النور- وأبو هريرة ونفر من دوس، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه الحق أن لا يخيب مسيرهم ولا يبطل سفرهم فشركهم فى مقاسم خيبر وسأل أصحابه ذلك فطابوا به نفسا. ولم يذكر ابن عقبة جعفر بن أبى طالب فى هؤلاء القادمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر من أرض الحبشة وهو أولهم وأفضلهم، وما مثل جعفر يتخطى ذكره، ومن البعيد أن يغيب ذلك عن ابن عقبة، فالله أعلم بعذره. وقد ذكر ابن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث مرو بن أمية الضمرى إلى النجاشى فيمن كان أقام بأرض الحبشة من أصحابه فحملهم فى سفينتين فقدم بهم عليه وهو بخيبر بعد الحديبية. فذكر جعفرا أولهم وذكر معه ستة عشر رجلا قدموا فى السفينتين صحبته. وذكر ابن هشام عن الشعبى أن جعفرا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين عينيه والتزمه وقال: «ما أدرى بأيتهما أنا أسر، أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟» «2» . ولما جرت المقاسم فى أموال خيبر اتسع فيها المسلمون ووجدوا بها مرفقا لم يكونوا

_ (1) انظر السيرة (3/ 324) . (2) انظر الحديث فى: مصنف ابن أبى شيبة (12/ 106، 14/ 349) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 78) ، المعجم الكبير للطبرانى (2/ 107) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 206) .

وجدوه قبل، حتى لقال عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- فيما خرج له البخارى فى صحيحه: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر. وأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر فى أموالهم يعملون فيها للمسلمين على النصف مما يخرج منها كما تقدم. قال ابن إسحاق: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصا بين المسلمين وبين يهود فيخرص عليهم، فإذا قالوا: تعديت علينا. قال: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا. فتقول يهود: بهذا قامت السموات والأرض! قال: وإنما خرص عليهم عبد الله عاما واحدا ثم أصيب بمؤته- يرحمه الله- فكان جبار بن صخر أخو بنى سلمة هو الذى يخرص عليهم بعده. فأقامت يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأسا فى معاملتهم حتى عدوا فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن سهل أخى بنى حارثة فقتلوه، فأتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون عليه وكتب إليهم أن يدوه أو يأذنوا بحرب. فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده وأقرهم على ما سبق من معاملته إياهم. فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرهم أبو بكر الصديق على مثل ذلك حتى توفى، ثم أقرهم عمر صدرا من إمارته، ثم بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى وجعه الذى قبضه الله فيه: «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» . ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود فقال: إن الله قد أذن فى جلائكم، قد بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» «1» فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتنى به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله فليتجهز للجلاء. فأجلى عمر منهم من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن عمر: خرجت أنا والزبير والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها، فلما قدمنا تفرقنا فى أموالنا فعدى على تحت الليل فقرعت يداى من مرفقى، فلما أصبحت استصرخ على صاحباى فأتيانى فأصالحا من يدى؛ ثم قاما بى على عمر فقال: هذا عمل يهود، ثم قام فى الناس خطيبا فقال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 121) .

عمرة القضاء وهى غزوة الأمن

ففدعوا يديه كما بلغكم مع عدوتهم على الأنصارى قبله لا نشك أنهم أصحابه ليس لنا هناك عدو غيرهم، فمن كان له مال بخيبر فليلحق به فإنى مخرج يهود. فأخرجهم. ولما أخرج عمر- رضى الله عنه- يهود خيبر ركب فى المهاجرين والأنصار وخرج معه بجبار بن صخر- وكان خارص أهل المدينة وحاسبهم- ويزيد بن ثابت، فهما قسما خيبر على أصحاب السهمان التى كانت عليها، وذلك أن الشق والنطاة اللتين هما سهم المسلمين قسمت فى الأصل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثمانية عشر سهما: نطاة من ذلك خمسة أسهم والشق ثلاثة عشر سهما، ثم قسم كل قسم من هذه الثمانية عشر سهما إلى مائة سهم، لكل رجل سهم ولكل فرس سهمان؛ وكانت عدة الذين قسمت عليهم ألف رجل وأربعمائة رجل ومائتى فرس، فذلك ألف سهم وثمانمائة سهم. عمرة القضاء «1» وهى غزوة الأمن قال ابن إسحاق «2» : ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة أقام بها شهرى ربيع وما بعده إلى شوال، يبعث فيما بين ذلك سراياه. ثم خرج فى ذى القعدة فى الشهر الذى صده فيه المشركون معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التى صدوه عنها، وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه فى عمرته تلك، وهى سنة سبع، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه. قال ابن عقبة: وتغيب رجال من أشرافهم خرجوا إلى بوادى مكة كراهية أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظا وحنقا ونفاسة وحسدا. وتحدثت قريش بينها فيما ذكر ابن إسحاق: أن محمدا وأصحابه فى عسرة وجهد وشدة فصفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال:

_ (1) انظر: المغازى للواقدى (2/ 731) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 87) ، البداية والنهاية (4/ 226) . (2) انظر السيرة (4/ 5) .

«رحم الله امرء أراهم اليوم من نفسه قوة» «1» ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه، حتى إذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليمانى مشى حتى يستلم الركن الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صنعها لهذا الحى من قريش الذى بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها. ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فى تلك العمرة وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يديه: خلوا بنى الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير فى رسوله يا رب إنى مؤمن بقيله ... أعرف حق الله فى قبوله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بين يديه جعفر بن أبى طالب إلى ميمونة بنت الحارث ابن حزن الهلالية، فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، وكانت تحته أختها أم الفضل بنت الحارث، وقيل: جعلت أمرها إلى أم الفضل، فجعلت أم الفضل أمرها إلى العباس فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عنه أربعمائة درهم. وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه، وأقام بمكة ثلاث ليال، وكان ذلك أجل القضية يوم الحديبية. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب عبد العزى. [فى نفر من قريش] ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن بن عبادة فصاح حويطب: نناشدك الله والعقد إلا خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث. فقال سعد: كذبت لا أم لك إنها ليست بأرضك ولا أرض أبيك والله لا يخرج إلا راضيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك: «يا سعد، لا تؤذ قوما زارونا فى رحالنا» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما عليكم لو تركتمونى فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه؟» «2» قالوا: لا حاجة لنا بطعامك فاخرج عنا. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع مولاه فأذن بالرحيل، وخلف أبا رافع على ميمونة حتى أتاه بها بسرف وقد لقيت ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين وصبيانهم، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف ثم أدلج فسار حتى قدم المدينة. ثم كان من قضاء الله سبحانه أن ماتت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين، فتوفيت حيث بنى بها. قال موسى بن عقبة: وذكر أن الله- تعالى- أنزل فى تلك العمرة: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة: 194] .

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 240، 923) ، مسند الإمام أحمد (1/ 305، 306) . (2) انظر الحديث فى: الحاكم فى المستدرك (4/ 31) .

غزوة مؤتة من أرض الشام

وذكر ابن هشام أنها يقال لها: «عمرة القصاص» لأنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة فى ذى القعدة فى الشهر الحرام من سنة ست فاقتص منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل مكة فى ذى القعدة فى الشهر الحرام الذى صدوة فيه من سنة سبع. غزوة مؤتة من أرض الشام «1» ولما صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء إلى المدينة أقام بها نحوا من ستة أشهر، ثم بعث إلى الشام فى جمادة الأولى من سنة ثمان بعثة الذين أصيبوا بمؤنة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبى طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة» . فتجهز الناس ثم تهيأوا للخروج، وهم ثلاثة الآف، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم، فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى فقالو: ما يبكيك يا بن رواحة؟ فقال: والله ما بى حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله ويذكر فيها النار: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا [مريم: 71] فلست أدرى كيف لى بالصدر بعد الورود! فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين. فقال عبد الله بن رواحة: لكنى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدى حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا جتى يقال إذا مروا على جدثى ... ما أرشد الله من غاز وقد رشدا ثم إن القوم تهيأو للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه ثم قال: أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر فثبت الله ما آتاك من حسن ... فى المرسلين ونصرا كالذى نصروا إنى تفرست فيك الخير نافلة ... فرأسة خالفت فيك الذى نظروا يعنى المشركين. ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيعهم، جتى إذا ودعهم وانصرف عنهم

_ (1) راجع هذه الغزوة فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 318) ، المغازى للواقدى (2/ 755) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 2/ 92) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 241) .

قال عبد الله بن رواحة: خلف السلام على امرىء ودعته ... فى النخل خير مشيع وخليل وحدث زيد بن أرقم قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة فى حجرة، فخرج بى فى سفره ذلك مردفى على حقيبة رحلة، فواله إنه ليسير ليلة إذ سمعته ينشد أبياته هذه: إذ أدنيتنى وحملت رحلى ... مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك فانعمى وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلى ورائى وجاء المسلمون وغادرونى ... بأرض الشام مشتهى الثواء وردك كل ذى رحم قريب ... إلى الرحمن منقطع الرجاء هنالك لا أبالى طلع بعل ... ولا نخل أسافلها وراء فلما سمعتهن بكيت فخفقنى بالدرة وقال: وما عليك يا لكع أن يرزقنى الله الشهادة وترجع بين شعبتى الرحل؟! ثم مضى القوم حتى نزلوا معان من أرض الشام فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء فى مائة ألف من الروم وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون فى أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضى له. فشجع الناس عبد الله بن رواحة فقال: يا قوم، والله إن الذى تكرهون للذى خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به فانطلقوا، فإنما هى إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، فقال الناس: صدق والله ابن رواحة. فمضى الناس وقال عبد الله فى مجلسهم ذلك: جلبنا الخيل من أجأ وفرع ... تعر من الحشيش لها العكوم حذوناها من الصوان سبتا ... أزل كأن صفحته أديم «1» أقامت ليلتين على معان ... فأعقب بعد فترتها جموم فرحنا والجياد مسومات ... تنفس فى مناخرها السموم

_ (1) حذوناها: أى جعلنا لها حذاء، وهو النعل. والصوان: حجارة ملس. والسبت: النعال المصنوعة من الجلد المدبوغ.

فلا وأبى مآب لنأتينها ... وإن كانت بها عرب وروم فعبأنا أعنتها فجاءت ... عوابس والغبار لها بريم بذى لجب كأن البيض فيه ... إذا برزت قوانسها النجوم فراضية المعيشة طلقتها ... أسنتها فتنكح أو تئيم ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها: مشارف. ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة، فالتقى الناس عندها. فتعبى لهم المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عذرة يقال له: قطبة بن قتادة وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له: عبابة بن مالك، ويقال: عبادة. ثم التقى الناس فاقتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط فى رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء. قال أحد بنى مرة بن عوف وكان فى تلك الغزوة: والله لكأنى أنظر إليه حين اقتحم عنها ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... على إذ لا قيتها ضرابها وكان جعفر أول من عقر فى الإسلام فرسه. ولما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... ما لى أراك تكرهين الجنه قد طال ما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفة فى شنه وقال أيضا: يا نفس إلا تقتلى تموتى ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلى فعلهما هديت يعنى صاحبيه زيدا وجعفرا. ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت فى أيامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده فانتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة فى ناحية الناس فقال: وأنت فى الدنيا! ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.

ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم أخو بنى العجلان فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت. قال ما أنا بفاعل، فاصطلح القوم على خالد بن الوليد. فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس. ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا» ، ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان فى عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: «أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا» . ثم قال: «لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت فى سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريرى صاحبيه فقلت: عم هذا؟ فقيل لى: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى» «1» . وذكر ابن هشام أن جعفرا أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين يطير بهما حيث شاء. ويقال: إن رجلا من الروم ضربه- يومئذ- فقطعه نصفين. وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالمدينة لما أصيبوا، قبل أن يأتيه نعيهم: «مر على جعفر بن أبى طالب فى الملائكة يطير كما يطيرون له جناحان» . قال: وقدم يعلى ابن منبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت فأخبرنى وإن شئت أخبرتك» . قال: فأخبرنى يا رسول الله فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم كله ووصفه له. فقال: والذى بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفع لى الأرض حتى رأيت معتركهم» . وحدثت أسماء بنت عميس امرأة جعفر قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ايتينى ببنى جعفر» . وقد كانت غسلتهم ودهنتهم ونظفتهم. قالت: فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله بأبى أنت ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شىء؟ قال: «نعم، أصيبوا هذا اليوم» . قالت: فقمت أصيح واجتمع إلى النساء. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: «لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» «2» .

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 160) . (2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (1/ 1610) ، سنن الترمذى (3/ 998) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 61) .

وقالت عائشة رضى الله عنها: لما أتى نعى جعفر عرفنا فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن. ولما انصرف خالد قافلا بالناس ودنوا من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطونى ابن جعفر. فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه فحمله بين يديه وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار، فررتم فى سبيل الله! فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» «1» . وقالت أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم لامرأة سلمة بن هشام بن العامر بن المغيرة: مالى لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله ما يستطع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس: يا فرار، فررتم فى سبيل الله! حتى قعد فى بيته فما يخرج. وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد ومخاشاته بالناس وانصرافه بهم- قيس ابن المسحر اليعمرى يعتذر مما صنع يومئذ وصنع الناس: وو الله لا تنفك نفسى تلومنى ... على موقفى والخيل قابعة قبل وقفت بها لا مستجيزا فنافذا ... ولا مانعا من كان حم له القتل «2» على أننى آسيت نفسى بخالد ... ألا خالد فى القوم ليس له مثل وجاشت إلى النفس من نحو جعفر ... بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل وضم إلينا حجزتيهم كليهما ... مهاجرة لا مشركون ولا عزل فبين قيس فى شعره ما اختلف الناس فيه من ذلك: أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وحقق انحياز خالد بمن معه. وكان مما بكى به أصحاب مؤتة قول حسان بن ثابت: تأوبنى ليل بيثرب أعسر ... وهم إذا ما هوم الناس مسهر «3» لذكرى حبيب هيجت لى عبرة ... سفوحا وأسباب البكاء التذكر بلى إن فقدان الحبيب بلية ... وكم من كريم يبتلى ثم يصبر رأيت خيار المؤمنين تواردوا ... شعوب وخلفا بعدهم يتأخر

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 253) . (2) مستجيزا: أى منحازا إلى ناحية. (3) تأوبنى: أى عاودنى ورجع إلىّ.

فلا يبعدن الله قتلى تباعدوا ... جميعا وأسباب المنية تخطر إلى غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم ... الموت ميمون النقيبة أزهر أغر كضوء البدر من آل هاشم ... أبى إذا سيم الطلامة يجسر فطاعن حتى مال غير موسد ... بمعترك فيه قنا متكسر فصار مع المستشهدين ثوابه ... جنان وملتف الحدائق أخضر وكنا نرى فى جعفر من محمد ... وفاء وأمرا حازما حين يأمر وما زال فى الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا يزلن ومفخر هم جبل الإسلام والناس حولهم ... رضام إلى طود يروق ويقهر بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علىّ ومنهم أحمد المتخير وحمزة والعباس منهم ومنهم ... عقيل وماء العود من حيث يعصر بهم تفرج الأواء فى كل مأزق ... عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر هم أولياء الله أنزل حكمه ... عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر وقال كعب بن مالك فى ذلك: نام العيون ودمع عينك يهمل ... سحا كما وكف الطباب المخضل فى ليلة وردت علىّ همومها ... طورا أحن وتارة أتململ واعتادنى حزن فبت كأننى ... ببنات نعش والسماك موكل وكأنما بين الجوانح والحشا ... مما تأوبنى شهاب مدخل وجدا على النفر الذين تتابعوا ... يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا صلى الإله عليهم من فتية ... وسقى عظامهم الغمام المسبل صبروا بمؤتة للإله نفوسهم ... حذر الردى ومخافة أن ينكلوا فمضوا أمام المسلمين كأنهم ... فنق عليهن الحديد المرفل إذ يهتدون بجعفر ولوائه ... قدام أولهم فنعم الأول حتى تفرجت الصفوف وجعفر ... حيث التقى وعث الصفوف مجدل فتغير القمر المنير لفقده ... والشمس قد كسفت وكادت تأفل قوم علا بنيانه من هاشم ... فرعا أشم وسؤددا ما ينقل قوم بهم عصم الإله عباده ... وعليهم نزل الكتاب المنزل فضلوا المعاشر عزة وتكرما ... وتغمدت أحلامهم من يجهل لا يطلقون إلى السفاه جباهم ... ويرى خطيبهم بحق يفصل

غزوة الفتح

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم ... تندى إذا اعتذر الزمان الممحل وبهديهم رضى الإله لخلقه ... وبحدهم نصر النبى المرسل وقال حسان بن ثابت يبكى جعفرا: ولقد بكيت وعز مهلك جعفر ... حب النبى على البرية كلها ولقد جزعت وقلت حين نعيت لى ... من للجلاد لدى العقاب وظلها» بالبيض حين تسل من أغمادها ... ضربا وإنهال الرماح وعلها بعد ابن فاطمة المبارك جعفر ... خير البرية كلها وأجلها رزآ وأكرمها جميعا محتدا ... وأعرها متظلما وأذلها للحق حين ينوب غير تنحل ... كذبا وأنداها يدا وأبلها بالعرف غير محمد لا مثله ... حى من أحيا البرية كلها وقال شاعر من المسلمين ممن رجع عن غزوة مؤتة: كفى حزنا أنى رجعت وجعفر ... وزيد وعبد الله فى رمس أقبر قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم ... وخلفت للبوى مع المتغير واستشهد يوم مؤتة من المسلمين سوى الأمراء الثلاثة- رضى الله عنهم- من قريش ثم من بنى عدى بن كعب: مسعود بن الأسود بن حارثة. ومن بنى مالك بن حسل: وهب بن سعد بن أبى سرح. ومن الأنصار: عباد بن قيس من بنى الحارث بن الخزرج، والحارث بن النعمان بن إساف من بنى غنم بن مالك بن النجار، وسراقة بن عمر بن عطية بن خنساء من بنى مازن بن النجار، وأبو كليب ويقال: أبو كلاب، وجابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول وهما لأب وأم. وعمر وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد من بنى مالك بن أفصى. وهؤلاء الأربعة عن ابن هشام. غزوة الفتح وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجبا. ثم عدت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة على خزاعة، ولم يزالوا قبل ذلك متعادين، وكان الذى هاج ما بينهم أن حليفا للأسود بن رزن الديلى خرج تاجرا، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة

_ (1) العقاب: اسم لراية الرسول صلى الله عليه وسلم.

فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بنى الأسود بن رزن سلمى وكلثوم وذؤيب وهم منحر بنى كنانة وأشرافهم كانوا فى الجاهلية يودون ديتين ديتين لفضلهم فى قومهم، فقتلتهم خزاعة بعرفة عند أنصاب الحرم ثم حجز بينهم الإسلام وتشاغل الناس به. فلما كان صلح الحديبية دخلت خزاعة فى عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر فى عقد قريش. فلما كانت الهدنة اغتنمتها بنو الديل فخرجوا حتى بيتوا خزاعة على الوتير «1» - ماء لهم- فأصابوا منهم رجلا وتحاجزوا واقتتلوا ورفدت قريش بنى بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا. فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا منهم وكانوا فى عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعى الكعبى حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوقف عليه وهو جالس فى المسجد بين ظهرى الناس فقال: يا رب إنى ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل البدر يسمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا ... فى فيلق كالبحر يجرى مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لى فى كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا يقول: قتلنا وقد أسلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت يا عمرو بن سالم» ، ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء فقال: «إن هذه السحابة لتستهل بنصر بنى كعب» «2» . ثم خرج بديل بن ورقاء فى نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبروه بما أصيب منهم

_ (1) الوتير: اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة. (2) انظر الحديث فى: «دلائل النبوة للبيهقى (5/ 6، 7) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 163، 164) .

ومظاهرة قريش بنى بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: «كأنكم بأبى سفيان قد جاءكم ليشد العقد وليزيد فى المدة» «1» . ومضى بديل بن ورقاء فى أصحابه حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد فى المدة وقد رهبوا الذى صنعوا، فلما لقى أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: سيرت فى خزاعة فى هذا الساحل وفى بطن هذا الوادى. قال: أو ما جئت محمدا؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان بديل جاء المدينة لقد علف بها النوى. فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا. ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال: يا بنية، ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل نجس مشرك، فلم أحب أن تجلس عليه. قال: والله يا بنية لقد أصابك بعدى شر! ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبى بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم خرج حتى دخل على علىّ بن أبى طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها حسن بن على غلام يدب بين يديها فقال: يا على، إنك أمس القوم بى رحما وإنى قد جئت فى حاجة فلا أرجعن كما جئت فاشفع لى، قال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكمله فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر. قالت: والله ما بلغ بنى ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا حسن، إنى أرى الأمور قد اشتدت على فانصحنى. قال: والله ما أعلم شيئا يغنى عنك شيئا ولكنك سيد بنى كنانة فقم فأجر بين الناس ثم ألحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عنى شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه ولكننى لا اجد لك غير ذلك. فقام أبو

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 281) .

سفيان فقال: أيها الناس، إنى قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره فانطلق. فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته فو الله ما رد على شيئا ثم جئت ابن أبى قحافة فلم أجد فيه خيرا. ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو. ويقال: أعدى العدو، ثم أتيت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار على بشىء صنعته فو الله ما أدرى هل يغنى شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرنى أن أجير بين الناس ففعلت. قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك! والله ما زاد الرجل على أن لعب بك فما يغنى عنك ما قلت. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهى تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أى بنية أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم فتجهز. قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدرى. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها» «1» ؛ فتجهز الناس. وكتب حاطب بن أبى بلتعة عند ذلك كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر فى السير إليهم ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا. فجعلته فى رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث على بن أبى طالب والزبير بن العوام فقال: أدركا امرأة كتب معها حاطب إلى قريش يحذرهم ما أجمعنا له فى أمرهم. فخرجا حتى أدركاها فاستنزلاها والتمسا فى رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها على: أحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه استخرجت الكتاب من قرون رأسها فدفعته إليه. فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال: «يا حاطب، ما حملك على هذا؟» قال: يا رسول الله، أما والله إنى لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكنى كنت امرء ليس لى فى القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه؛ فقال عمر: يا رسول الله دعنى فلأضرب عنقه فإن الرجل نافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «2» .

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 164) . البداية والنهاية لابن كثير (4/ 2883) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 79، 80، 105) ، سنن الترمذى (5/ 3305) ، صحيح البخارى فى كتاب الجهاد والسير (6/ 3007) .

فأنزل الله فى حاطب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ الآيات كلها إلى قوله: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 1- 4] إلى آخر القصة. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره حتى نزل بمر الظهران فى عشرة آلاف من المسلمين، وقيل فى اثنى عشر ألفا، فسبعت سليم وقيل: ألفت وألفت مزينة، وفى كل القبائل عدد وإسلام. وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار فلم يتخلف عنه منهم أحد. وقد كان ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمته عبد الله بن أبى أمية بن المغيرة لقياه بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه وكلمته أم سلمة فيهما وهى أخت عبد الله منهما فقالت: يا رسول الله، ابن عمك وابن عمتك وصهرك. قال: «لا حاجة لى بهما، أما ابن عمى فهتك عرضى وأما ابن عمتى وصهرى فهو الذى قال لى بمكة ما قال» . فلما خرج الخبر إليهما بذلك قال أبو سفيان- ومعه بنى له- والله ليأذنن لى أو لآخذن بيد بنى هذا ثم لنذهبن فى الأرض حتى نموت عطشا وجوعا. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما ثم أذن لهما، فدخلا عليه فأسلما، وأنشده أبو سفيان: لعمرك إنى يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أوانى حين أهدى وأهتدى هدانى هاد غير نفسى وقادنى ... مع الله من طردت كل مطرد فزعموا أنه لما أنشده هذا البيت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صدره وقال: «أنت طردتنى كل مطرد» «1» . وعميت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش، فلا يأتيهم خبر عنه ولا يدرون ما هو فاعل. وخرج فى تلك الليالى أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار. وكان العباس بن عبد المطلب قد لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مهاجرا بعياله، وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض.

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 165- 167) ، مستدرك الحاكم (3/ 43، 44) .

قال العباس: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قلت: واصباح قريش والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقلت: لعلى أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتى مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه. فو الله إنى لأسير عليها والتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبى سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا. قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمستها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتى فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك فداك أبى وأمى؟! قلت: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الناس واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة فداك أبى وأمى؟ قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب فى عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك. فركب خلفى ورجع صاحباه، فجئت به كلما مر بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله على بغلته. حتى مررت بنار عمر ابن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلى، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذى أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطىء فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعنى فلأضرب عنقه. قلت: يا رسول الله، إنى قد أجرته؛ ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دونى. فلما أكثر عمر فى شأنه قلت: مهلا يا عمر، فو الله لو كان من رجال بنى عدى بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بنى عبد مناف. فقال: مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بى إلا أنى عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فائتنى به» ؛ فذهبت به إلى رحلى فبات عندى، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟» قال: بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد. قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول

ذكر فتح المدائن وما نشأ بينه وبين القادسية من الأمور

الله؟» قال: بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما والله هذه فإن فى نفسى منها شيئا حتى الآن. قال له العباس: ويحك، أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق وأسلم. قال العباس: قلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا. قال: «نعم، من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» . فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عباس، احبسه بمضيق الوادى عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها» . قال: فخرجت فحبسته حيث أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه «1» . فمرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم. فيقول: مالى ولسليم. ثم تمر القبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: مالى ولمزينة. حتى نفذت القبائل ما تمر قبيلة إلا سألنى عنها فإذا أخبرته بهم قال: مالى ولبنى فلان. حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد قال: سبحان الله، يا عباس من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قلت يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذن. قلت: النجاء إلى قومك. حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن. فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم. قال: ويحكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم مالا قبل لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغنى عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذى طوى وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وإنه ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن عثنونه ليكاد يمس وسط الرحل. ولما وقف هناك قال أبو قحافة- وقد كف بصره- لابنة له من أصغر ولده: أى بنية

_ (1) سبق تخريجه.

اظهرى بى على أبى قبيس. فأشرفت به عليه، فقال: أى بنية ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا قال: تلك الخيل. قالت: وأرى رجلا يسعى بين يدى السواد مقبلا ومدبرا. قال: أى بنية ذلك الوازع الذى يأمر الخيل ويتقدم إليها. ثم قالت: قد والله انتشر السواد. فقال: قد والله إذن دفعت الخيل فأسرعى بى إلى بيتى. فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته وفى عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها. قالت: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودخل المسجد أتاه أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: «هلا تركت الشيخ فى بيته حتى أكون أنا آتيه فيه!» فقال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشى إليك من أن تمشى إليه. قال: فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره ثم قال له: «أسلم» . فاسلم. ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن رأسه ثغامة فقال: «غيروا هذا من شعره» «1» . ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشد الله والإسلام طوق أختى. فلم يجبه أحد، فقال: أى أخية احتسبى طوقك فو الله إن الأمانة اليوم فى الناس لقليل! وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذى طوى الزبير بن العوام أن يدخل فى بعض الناس من كدى، وكان على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل فى بعض الناس من كدا، فذكروا أن سعدا حين وجه داخلا قال: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة» . فسمعها رجل من المهاجرين، قيل: هو عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فقال: يا رسول الله اسمع ما قال سعد، ما نأمن أن تكون له فى قريش صولة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى بن أبى طالب: «أدركه فخذ الراية فكن أنت تدخل بها» «2» . ويقال: إنه أمر الزبير بذلك وجعله مكان سعد على الأنصار مع المهاجرين. فسار الزبير بالناس حتى وقف بالحجون وغرز بها راية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر غير ابن إسحاق أن ضرار بن الخطاب قال- يومئذ- شعرا استعطف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش حين سمع قول سعد، وهو من أجود شعر قاله: يا نبى الهدى إليك لحاجى قريش ولات حين لجاء

_ (1) ذكره الحاكم فى المستدرك (3/ 46، 47) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 173، 174) . (2) انظر الحديث فى: الإصابة لابن حجر (5/ 254) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 169) .

حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السماء والتقت حلقتا البطان على القو ... م ونودوا بالصيلم الصلعاء إن سعدا يريد قاصمة الظه ... ر بأهل الحجون والبطحاء خزرجى لو يستطيع من الغي ... ظ رمانا بالنسر والعواء فانهينه فإنه الأسد الأس ... ود والليث والغ فى الدماء فلئن أقحم اللواء ونادى ... يا حماة اللواء أهل اللواء لتكونن بالبطاح قريش ... فقعة القاع فى أكف الإماء فحينئذ انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية من سعد بن عبادة فيما ذكروا. والله أعلم. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد- وكان على المجنبة اليمنى- فدخل من الليط أسفل مكة، فلقيته بنو بكر فقاتلوه فقتل منهم قريب من عشرين رجلا ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا وقتلوا بالحزورة حتى بلغ قتلهم باب المسجد، وهرب فضضهم حتى دخلوا الدور، وارتفعت طائفة منهم على الجبال واتبعهم المسلمون بالسيوف. وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاخر فى المهاجرين الأولين حتى نزل بأعلى مكة وضربت هناك قبته. ولما علا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنية كداء نظر إلى البارقة على الجبل مع فضض المشركين فقال: ما هذا وقد نهيت عن القتال؟ فقال المهاجرون: نظن أن خالدا قوتل وبدىء بالقتال فلم يكن بد من أن يقاتل من قاتله، وما كان يا رسول الله ليعصيك ولا ليخالف أمرك. فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثنية فأجاز على الحجون. واندفع الزبير بن العوام بمن معه حتى وقف بباب الكعبة. وجرح رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد فى نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم: عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وكان قد أسلم وكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتد مشركا ففر يومئذ إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن الناس فاستأمن له. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صمت طويلا ثم قال: «نعم» . فلما انصرف عنه عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن

حوله من أصحابه: «لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» . فقال رجل من الأنصار: فهلا أو مأت إلى يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن النبى لا يقتل بالإشارة» «1» . وفى رواية: «إن النبى لا ينبغى أن تكون له خائنة أعين» . ومنهم: عبد الله بن خطل- رجل من بنى تيم بن غالب- كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا وكان معه رجل مسلم يخدمه فأمره أن يصنع له طعاما ونام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما معه، فقتلت إحداهما وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها. وقيل- يومئذ- لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة؛ فقال: «اقتلوه» . فقتله سعيد بن حريث المخزومى وأبو برزة الأسلمى اشتركا فى دمه. ومنهم: الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصى وكان ممن يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولما حمل العباس بن عبد المطلب فاطمة وأم كلثوم بنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة نخس بهما الحويرث هذا فرمى بهما إلى الأرض، فقتله يوم الفتح على بن أبى طالب. ومنهم: مقيس بن صبابة الليثى، وكان أخوه هشام بن صبابة قد قتله رجل من الأنصار خطأ فقدم مقيس بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مظهرا الإسلام حتى إذا وجد غرة من قاتل أخيه عدا عليه فقتله ثم لحق بقريش مشركا. وقد تقدم ذكر ذلك فلأجله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقتله نميلة بن عبد الله- رجل من قومه- فقالت أخت مقيس فى ذلك: لعمرى لقد أخزى نميلة رهطه ... وفجع أضياف الشتاء بمقيس فلله عينا من رأى مثل مقيس ... إذا النفساء أصبحت لم تخرس ومنهم سارة مولاة لبنى عبد المطلب ولعكرمة بن أبى جهل، وكانت تؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فاستؤمن لها فأمنها وبقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرسا فى زمان عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها. وكان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو قد جمعوا أناسا بالخندمة ليقاتلوا، فيهم حماس بن قيس بن خالد أخو بنى بكر، وكان قد أعر سلاحا

_ (1) انظر الحديث فى: سنن أبو داود (3/ 2683) . سنن النسائى (7/ 4078) .

وأصلح منها فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد واصحابه. قالت: والله ما أراه يقوم لمحمد شىء! قال: والله إنى لأرجو أن أخدمك بعضهم! ثم قال: إن يقبلوا اليوم فما لى عله ... هذا سلاح كامل وأله وذو غرارين سريع السله «1» ثم شهد الخندمة، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر وخنيس بن خالد كانا فى خيل خالد فشذا عنه وسلكا طريقا غير طريقه فقاتلا جميعا وأصيب سلمة بن الميلاء الجهنى من خيل خالد، وأصيب من المشركين ناس ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته وقال لامرأته: أغلقى على بابى. قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه واستقبلتهم بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه ضربا فلا يسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقى فى اللوم أدنى كلمه «2» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: «لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟» قال: هم بدأونا ووضعوا فينا السلاح وأشعرونا النبل، وقد كففت يدى ما استطعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قضاء الله خير» . وفر- يومئذ- صفوان بن أمية عامدا للبحر وعكرمة بن أبى جهل عامدا لليمن، فأقبل عمير بن وهب بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبى الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه فى البحر فأمنه صلى الله عليك فإنك قد أمنت الأحمر والأسود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدرك ابن عمك فهو آمن» . قال: يا رسول الله، فأعطنى آية يعرف بها أمانك. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التى دخل فيها مكة. فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة وهو يريد أن يركب البحر فقال: يا صفوان فداك أبى وأمى! الله الله فى نفسك أن تهلكها فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به قال: ويلك اغرب عنى فلا تكلمنى.

_ (1) ذو غرارين: أى بها سيفا، والغرار: الحد. (2) النهيب: نوع من صياح الأسد. والهمهمة: صوت فى الصدر.

قال: أى صفوان فداك أبى وأمى! أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس ابن عمك، عزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك. قال: إنى أخافه على نفسى. قال: هو أحلم من ذلك وأكرم. فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك أمنتنى. قال: «صدق» . قال: فاجعلنى فيه بالخيار شهرين. قال: «أنت بالخيار أربعة أشهر» «1» . وأقبلت أم حكيم بنت الحارث بن هشام وكانت تحت عكرمة بن أبى جهل وهى مسلمة- يومئذ- فقالت: يا رسول الله، آمن زوجى وائذن لى فى طلبه. فأذن لها وأمنه فأدركته ببعض تهامة وقيل: باليمن فأقبل معها وأسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحا وما عليه رداء. وكانت فاختة بنت الوليد تحت صفوان بن أمية، وكانت أسلمت أيضا، فلما أسلم عكرمة وصفوان أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحدة منهما عند زوجها على النكاح الأول. وقالت أم هانىء بنت أبى طالب وكانت عند هبيرة بن أبى وهب المخزومى: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إلى رجلان من أحمائى من بنى مخزوم فدخل على أخى على بن أبى طالب فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما بيتى ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ثم صلى ثمانى ركعات من الضحى ثم انصرف إلى فقال: «مرحبا وأهلا يا أم هانىء، ما جاء بك؟» فأخبرته خبر الرجلين وخبر على فقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء وأمنا من أمنت فلا يقتلهما» «2» . قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام وزهير بن أبى أمية بن المغيرة. ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعا على راحلته ليستلم الركن بمحجن فى يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده، ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة فقال: «لا إله إلا الله، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 97) ، موطأ مالك (2/ 543، 544/ 44) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب المسافرين (1/ 498/ 82) ، سنن أبى داود (3/ 2763) ، سنن الترمذى (4/ 1579) .

أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمى هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد السوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها فى بطونها أولادها، يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب» . ثم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13] . ثم قال: «يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. ثم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» «1» . ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد فقام إليه على بن أبى طالب- رضى الله عنه- ومفتاح الكعبة فى يديه، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين عثمان بن طلحة» ؟ فدعى له فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء» . وقال لعلى فيما حكى ابن هشام: «إنما أعطيكم ما ترزأون لا ما ترزأون» «2» . وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى طوافه نزل فأخرجت الراحلة فركع ركعتين ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها وقال: «لولا أن يغلب بنو عبد المطلب على سقياتهم لنزعت منها بيدى» . ثم انصرف إلى ناحية المسجد قريبا من مقام إبراهيم- وكان المقام لاصقا بالكعبة- فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسجل من ماء فشرب وتوضأ والمسلمون يبتدرون وضوءه يصبونه على وجوههم والمشركون ينظرون إليهم ويعجبون ويقولون: ما راينا ملكا قط بلغ هذا ولا سمعنا به! وذكر ابن هشام- أيضا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم مصورا فى يده الأزلام يستقسم بها، فقال: «قاتلهم الله! جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام؟! ما شأن إبراهيم والأزلام» ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» [آل عمران: 67] ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست «3» .

_ (1) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 612) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 118) . (2) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 177) . (3) انظر الحديث فى: سنن أبو داود (2/ 2027) ، سنن البيهقى (5/ 158) ، المطالب العالية لابن حجر (4/ 4364) .

وعن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته فطاف عليها وحول البيت أصنام مشددة بالرصاص فجعل النبى يشير بقضيب فى يده إلى الأصنام وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: 81] فما أشار إلى صنم منها فى وجهه إلا وقع لقفاه ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقى صنم إلا وقع. فقال تميم بن أسد الخزاعى: وفى الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا وأراد فضالة بن عمير بن الملوح الليثى قتل النبى صلى الله عليه وسلم وهو بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضالة؟» قال: نعم فضالة يا رسول الله قال: «ماذا كنت تحدث نفسك؟» فقال: لا شىء، كنت أذكر الله. فضحك النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: «استغفر الله» ، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدرى حتى ما من خلق الله شىء أحب إلى منه. قال فضالة: فرجعت إلى أهلى فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت: هلم إلى الحديث: فقلت لا. وانبعث فضالة يقول: قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليك الله والإسلام لو ما رأيت محمد وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة عام الفتح بلالا أن يؤذن، وكان دخل معه، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه محق لا تبعته. وقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرته عنى هذه الحصباء! فخرج عليهم النبى صلى الله عليه وسلم فقال: «قد علمت الذى قلتم» «1» ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة على الصفا يدعو وقد أحدقت به الأنصار، فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها. فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شىء يا رسول الله. فلم يزل بهم حتى

_ (1) انظر الحديث فى: تفسير ابن كثير (3/ 132) .

أخبروه فقال: «معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم» «1» . وعدت خزاعة الغد من يوم الفتح على رجل من هذيل يقال له: ابن الأثوع فقتلوه وهو مشرك برجل من أسلم يقال له: أحمر بأسا وكان رجلا شجاعا وكان إذا نام غط غطيطا منكرا لا يخفى مكانه فكان يبيت فى حيه معتنزا، فإذا بيت الحى صرخوا: يا أحمر. فيثور مثل الأسد لا يقوم لسبيله شى. فأقبل غزى من هذيل يريدون حاضره، حتى إذا دنوا من الحاضر قال ابن الأثوع الهذلى: لا تعجلوا حتى أنظر فإذا كان فى الحاضر أحمر فلا سبيل إليهم فإن له غطيطا لا يخفى. فاستمع فلما سمع غطيطه مشى إليه حتى وضع السيف فى صدره ثم تحامل عليه حتى قتله. ثم أغاروا على الحاضر فصرخوا: يا أحمر ولا أحمر لهم! فلما كان الغد من يوم الفتح أتى ابن الأثوع الهذلى حتى دخل مكة ينظر ويسأل عن أمر الناس وهو على شركه فرأته خزاعة فعرفوه فأحاطوا به وهو إلى جنب جدار من جدر مكة يقولون: أنت قاتل أحمر؟ قال: نعم أنا قاتل أحمر فمه. إذ أقبل خراش بن أمية مشتملا على السيف فقال: هكذا عن الرجل. قال بعض من حضرهم: وو الله ما نظن إلا أنه يريد أن يفرج الناس عنه، فلما تفرجوا حمل عليه فطعنه بالسيف فى بطنه، فو الله لكأنى أنظر إليه وحشوته تسيل من بطنه وإن عينيه لترنقان فى رأسه وهو يقول: أقد فعلتموها يا معشر خزاعة! حتى انجعف فوقع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ما صنع خراش بن أمية: «إن خراشا لقتال» . يعيبه بذلك. وقام صلى الله عليه وسلم فى الناس خطيبا فقال: «يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهى حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا، لم تحلل لأحد كان قبلى ولا تحل لأحد يكون بعدى، ولم تحل لى إلا هذه الساعة غضبا على أهلها؛ ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله قد قاتل. فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم. يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل أن يقع لقد قتلتم قتيلا لأدينه؛ فمن قتل بعد مقامى هذا فهم بخير النظرين إن شاؤا فدم قاتله وإن شاؤا فعقله» «2» . ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذى قتلت خزاعة.

_ (1) انظر الحديث فى: سنن الدار قطنى (3/ 232/ 59، 60) ، مسند الإمام أحمد (2/ 538) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 987، 988، 446) ، سنن الترمذى (3/ 809) .

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة. وكان فتحها لعشر ليال بقين من رمضان سنة ثمان. وكان مما قيل من الشعر فى فتح مكة قول حسان بن ثابت، وذكر ابن هشام أنه قالها قبل الفتح: عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء «1» ديار من بنى الحسحاس قفر ... تعفيها الروماس والسماء «2» وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء فدع هذا ولكن من لطيف ... يؤرقنى إذا ذهب العشاء لشعثاء التى قد تيمته ... فليس لقلبه منه شفاء كأن سيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهن لطيب الراح الفداء نوليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء ينازعن الأعنة مصغيات ... على أكتافها الأسل الظماء «3» تظل جيادنا متمطرات ... يلطمهن بالخمر النساء فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يغر الله فيه من يشاء وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق إن نفع البلاء شهدت به فقوموا صدقوه ... فقلتم لا نقوم ولا نشاء وقال الله قد يسرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء لنا فى كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء فنحكم بالقوافى من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء

_ (1) عفت: أى درست وتغيرت. (2) الحسحاس: الرجل الجواد الذى يطرد الجوع بسخائه. والروامس: الرياح التى تثير التراب فترمى به الآثار. (3) مصغيات: أى مستمعات. والأسل: أى الرماح.

ألا أبلغ أبا سفيان عنى ... مغلغلة فقد برح الخفاء هجوت محمدا وأجبت عنه ... وعند الله فى ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخير كما الفداء هجوت مباركا برا حنيفا ... أمين الله شيمته الوفاء أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء فإن أبى ووالده وعرضى ... لعرض محمد منكم وقاء لسانى صارم لا عيب فيه ... وبحرى لا تكدره الدلاء وقول ابن هشام: إن حسان قال هذا الشعر قبل الفتح ظاهر فى غير ما شىء من مقتضياته، ومن ذلك: مقاولته لأبى سفيان وهو ابن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أسلم قبل الفتح فى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة كما تقدم. وكذلك ذكر ابن عقبة أن حسان قاله فى مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة نظر إلى النساء يلطمن الخيل بالخمر فالتفت إلى أبى بكر فتبسم لقول حسان فى ذلك: يلطمهن بالخمر النساء. وقال أنس بن زنيم الديلى يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعى: وأنت الذى تهدى معد بأمره ... بل الله يهديهم وقال لك اشهد وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد أحث على خير وأسبغ نائلا ... إذ راح كالسيف الصقيل المهند وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله ... وأعطى لرأس السابق المتجرد تعلم رسول الله أنك مدركى ... وأن وعيدا منك كالأخذ باليد تعلم رسول الله أنك قادر ... على كل صرم متهمين ومنجد تعلم بأن الركب ركب عويمر ... هم الكاذبون المخلفون كل موعد ونبوا رسول الله أنى هجوته ... فلا حملت سوطى إلى إذن يدى سوى أننى قد قلت ويلم فتية ... أصيبوا بنحس لائط وبأسعد ذويب وكلثوم وسلمى تتابعوا ... جميعا فإن لا تدمع العين أكمد أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفاء فعزت عبرتى وتبلدى وقال بجير بن زهير بن أبى سلمى فى يوم الفتح:

نفى أهل الحبلق كل فج ... مزينة غدوة وبنو خفاف ضربناهم بمكة يوم فتح الن ... بى الخير بالبيض الخفاف صبحناهم بسلع من سليم ... وألف من بنى عثمان واف نطا أكتافهم ضربا وطعنا ... ورشقا بالمريشة اللطاف «1» ترى بين الصفوف لها حفيفا ... كما انصاع الفواق من الرصاف فرحنا والجياد تجول فيهم ... بأرماح مقومة الثقاف فأبنا غانمين بما اشتهينا ... وآبوا نادمين على الخلاف وأعطينا رسول الله منا ... مواثقنا على حسن التصافى وقد سمعوا مقالتنا فهموا ... غداة الروع منا بانصراف وقال عباس بن مرداس السلمى فى فتح مكة: منا بمكة يوم فتح محمد ... ألف تسيل به البطاح مسوم «2» نصروا الرسول وشاهدوا أيامه ... وشعارهم يوم اللقاء مقدم فى منزل ثبتت به أقدامهم ... ضنك كأن الهام فيه الحنتم جرت سنابكها بنجد قبلها ... حتى استعاد لها الحجاز الأدهم الله مكنه له وأذله ... حكم السيوف لنا وجد مزحم وقال نجيد بن عمران الخزاعى: وقد أنشأ الله السحاب بنصرنا ... ركام صحاب الهيدب المتراكب وهجرتنا فى أرضنا عندنا بها ... كتاب أتى من خير ممل وكاتب ومن أجلنا حلت بمكة حرمة ... لندرك ثأرا بالسيوف القواضب ولما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة بعث السرايا فيما حولها يدعو إلى الله، ولم يأمرهم بقتال. وكان ممن بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العرب، فوطئوا بنى جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا. فقال رجل منها يقال له جحدم: ويلكم يا بنى جذيمة إنه خالد! والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحى أبدا. فأخذه رجال من قومه

_ (1) رشقا: أى الرمى السريع. والمريشة: أى السهام التى لها ريش. (2) البطاح: جمع بطحاء، وهى الأرض السهلة المتسعة. مسوم: أى مرسل.

فقالوا: يا جحدم، أتريد أن تسفك دماءنا؟ إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب وأمن الناس، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه ووضع القوم السلاح لقول خالد. فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم. وقال لهم جحدم حين وضعوا سلاحه ورأى ما يصنع بهم: يا بنى جذيمة ضاع الضرب! قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه. فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» «1» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل انفلت منهم فأتاه بالخبر: «هل أنكر عليه أحد؟» فقال: نعم، قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة فنهمه خالد فسكت عنه، وأنكر عليه رجل أحمر مضطرب فرجعه فاشتدت مراجعتهما. فقال عمر بن الخطاب: أما الأول يا رسول الله فابنى عبد الله، وأما الآخر فسالم مولى أبى حذيفة. وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت كأنى لقمت لقمة من حيس فالتذذت طعمها فاعترض فى حلقى منها شىء حين ابتعلتها فأدخل على يده فنزعه» . فقال أبو بكر: هذه سرية من سراياك تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحب ويكون فى بعضها اعتراض فتبعث عليا فيسهله «2» . ثم لما كان من خالد فى بنى جذيمة ما كان دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب فقال: «يا على اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر فى أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك» . فخرج على حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال حتى إنه ليدى لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شىء من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال فقال لهم على حين فرغ منه: هل بقى دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا؛ قال: فإنى أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون. ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال: «أصبت وأحسنت» . ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: «اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» «3» ، ثلاث مرات.

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 6382) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 115) . (2) ذكره ابن حجر فى فتح البارى (7/ 655) . (3) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 655) .

وقد قال بعض من يعذر خالدا: إنه قال: ما قاتلت حتى أمرنى بذلك عبد الله بن حذافة السهمى وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام. وحدث ابن أبى حدرد الأسلمى قال: كنت يومئذ فى خيل خالد بن الوليد فقال لى فتى من بنى جذيمة وهو فى سنى وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى. قلت: ما تشاء؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدى إلى هؤلاء النسوة حتى أقضى إليهن حاجة ثم تردنى بعد فتصنعوا بى بعد ما بدا لكم؟ قال قلت: والله ليسير ما طلبت. فأخذت برمته فقدته بها أو قفته عليهن فقال: اسلمى حبيش على نفد العيش: أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو ألفيتكم بالخوانق ألم يك أهلا أن ينول عاشق ... تكلف إدلاج السرى والودائق فلا ذنب لى قد قلت إذا أهلنا معا ... أثيبى بود قبل إحدى الصفائق أثيبى بود قبل أن تشحط النوى ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق فقالت: وأنت فحييت سبعا وعشرا وترا وثمانيا تترى. قال: ثم انصرفت به فضربت عنقه. فحدث من حضرها أنها قامت إليه حين ضربت عنقه فما زالت تقبله حتى ماتت عنده. وخرج النسائى هذه القصة فى مصنفة فى باب «قتل الأسارى» من حديث ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا وفيهم وفيهم رجل قال: إنى لست منهم، عشقت امرأة فلحقتها فدعونى أنظر إليها نظرة ثم اصنعوا بى ما بدا لكم. قال: فإذا امرأة طويلة أدماء فقال: اسلمى حبيش قبل نفد العيش وذكر بعض الشعر المتقدم وبعده: قالت: نعم فديتك. قال: فقدموه فضربوا عنقه فجاءت المرأة فوقفت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فقال صلى الله عليه وسلم: «أما كان فيكم رجل رحيم» . ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى وكانت بنخلة، وكان بيتا تعظمه قريش وكنانة ومضر كلها، وكان سدنتها وحجابها بنى شيبان من بنى سليم حلفاء بن هاشم، فلما سمع صاحبها السلمى بسير خالد إليها علق عليها سيفه وأسند فى الجبل الذى هو فيه وهو يقول: أيا عز شدى شدة لا شوى لها ... على خالد ألقى القناع وشمرى

غزوة حنين

أيا عز إن لم تقتلى المرء خالدا ... فبوئى بإثم عاجل أو تنصرى فلما انتهى إليها خالد هدمها. ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. غزوة حنين «1» ولما سمعت «2» هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه من مكة، جمعها مالك بن عوف النضرى، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت نضر وجشم كلها، وسعد بن بكر وناس من بنى هلال وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء. وفى بنى جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شىء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف. فلما أجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة فى شجار «3» له يقاد به، فلما نزل قال: «فى أى واد أنتم؟» قالوا: بأوطاس. قال: «نعم مجال الخيل لا حزن ضرس» ولا سهل دهس «5» ، ما لى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير ويعار الشاء؟» قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أمولهم ونساءهم وأبناءهم. قال: «أين مالك؟» فدعى له فقال: «يا مالك، إنك أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم له ما بعده، ما لى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟» قال: سقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم قال: فانقض به، وقال: «راعى ضأن والله! وهل يرد المنهزم شىء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك» . ثم قال: «ما فعلت كعب وكلاب؟» قالوا: لم يشهدها منهم أحد. قال: «غاب

_ (1) راجع هذه الغزوة فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 331- 341) ، مغازى الواقدى (3/ 885) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 108) ، تاريخ الطبرى (3/ 71) ، الكامل (2/ 135) ، البداية والنهاية (4/ 322) . (2) انظر: السيرة (4/ 71) . (3) شجار: شبه الهودج إلا أنه مكشوف من أعلى. (4) الحزن: المرتفع من الأرض. الضرس: الذى فيه حجارة محددة. (5) سهل دهس: هو كل لين سهل لا يبلغ أن يكون رملا وليس بتراب ولا طين..

الحد «1» والجد لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟» قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر. قال: «ذانك الجذعان «2» لا ينفعان ولا يضران! يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم ثم الق الصّبّاء «3» على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك» . قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك والله لتطيعننى يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهرى، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو أرى، قالوا: أطعناك. فقال دريد ابن الصمة: هذا يوم لم أشهده ولم يفتنى: يا ليتنى فيها جذع ... أخب فيها وأضع «4» ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد. وبعث مالك بن عوف عيونا من رجاله، فأتوه وقد تفرقت أوصالهم فقال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فو الله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد. ولما سمع بهم نبى الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى وأمره أن يدخل فى الناس، ويقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبى حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا عليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع من مالك وأمر هوزان ما هم له ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر «5» .

_ (1) غاب الحد: أى غابت الشجاعة والحدة. (2) الجذعان: يريد أنهما ضعيفان بمنزلة الجذع فى سنه. (3) الصباء: مفردها صابىء وكانوا يسمون المسلمون صباء. (4) يا ليتنى فيها جذع: يتمنى أن يكون فى هذه الحرب شابا لم تحطمه الأيام. وأخب: من الخبب، وهو ضرب من السير. (5) ذكر فى السيرة (4/ 73) زيادة فى هذا الموضع فقال: « ... فأخبره الخبر، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، فأخبره الخبر فقال عمر: كذب ابن أبى حدرد، فقال ابن أبى حدرد: إن-

فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال: «يا أبا أمية، أعرنا سلاحك هذا نلقى فيها عدونا غدا» ، فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟ فقال: «بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك» ، قال: ليس بهذا بأس. فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها ففعل «1» . ثم خرج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامدا لحنين معه ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله بهم مكة، فكانوا اثنى عشر ألفا. وذكر «2» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين فصل من مكة إلى حنين ورأى كثرة من معه من جنود الله: «لن نغلب اليوم من قلة» «3» . وزعم بعض الناس أن رجلا من بنى بكرة قالها. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد بن أبى العيص بن أمية بن عبد شمس «4» على مكة أميرا على من تخلف عنه من الناس. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه يريد لقاء هوازن. قال ابن عقبة: وكان أهل حنين يظنون حين دنا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى فى توجهه إلى مكة أنه بادىء بهم، وصنع الله لرسوله ما هو أحسن من ذلك، فتح له مكة فأقر بها عينه وكبت بها عدوه.

_ - كذبتنى فربما كذبت بالحق يا عمر، فقد كذبت من هو خير منى، فقال عمر: يا رسول الله، ألا تسمع ما يقول ابن أبى حدرد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كانت ضالا فهداك الله يا عمر» . هكذا وردت هذه الزيادة فى السيرة. وانظر هذه الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 324) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 121) . (1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 48، 49) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (631) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 89) . (2) انظر: السيرة (4/ 77) . (3) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (1/ 443) ، سنن أبى داود (3/ 2611) ، سنن الترمذى (4/ 1555) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1775) ، الإصابة الترجمة رقم (5407) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3538) ، الثقات (3/ 304) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 370) ، تقريب التهذيب (2/ 3) خلاصة تذهيب (2/ 208) ، شذرات الذهب (1/ 56) ، العبر (1/ 16) ، تهذيب الكمال (2/ 900) ، مشاهير علماء الأمصار (155) .

فلما خرج صلى الله عليه وسلم إلى حنين خرج معه أهل مكة ركبانا ومشاة، حتى خرج معه النساء يمشين على غير دين نظارا ينظرون ويرجون الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وحدث «1» أبو واقد الليثى قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثوا عهد بالجاهلية، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة خضراء عظيمة يقال لها: ذات أنواط. يأتونها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما، قال: فرأينا ونحن نسير معه سدرة خضراء عظيمة فتنادينا من جنبات الطريق: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر! قلتم والذى نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] فإنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم» «2» . وحدث «3» جابر بن عبد الله قال: لما استقبلنا وادى حنين انحدرنا فى واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا قال: وذلك فى عمامة الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادى فكمنوا لنا فى شعابه وأحنائه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيأوا، فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوى أحد على أحد. وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ثم قال: «أيها الناس هلم إلى أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله» قال: فلا شىء! حملت الإبل بعضها على بعض وانطلق الناس، إلا أنه قد بقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين: أبو بكر وعمرو ومن أهل بيته على بن أبى طالب والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن عباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وهو ابن أم أيمن قتل يومئذ «4» . قال «5» : ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء فى رأس رمح طويل

_ (1) انظر: السيرة (4/ 75) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 218) ، سنن الترمذى (4/ 2180) . (3) انظر: السيرة (4/ 75) . (4) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 376) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 179) . (5) انظر: السيرة (4/ 76) .

أمام هوازن وهم خلفه، إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فبينا ذلك الرجل يصنع ما يصنع إذا أهوى له على بن أبى طالب ورجل من الأنصار يريدانه قال: فيأتى على من خلفه فضرب عرقوبى الجمل فوقع على عجزه ووثب الأنصارى على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجعف عن رحله. قال ابن إسحاق «1» : فلما انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما فى أنفسهم من الضغن فقال أحدهم: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر. وإن الأزلام لمعه فى كنانته. وصرخ آخر منهم: ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان بن أمية وهو يومئذ مشرك فى المدة التى جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسكت فض الله فاك! فو الله لأن يربنى رجل من قريش أحب إلىّ من أن يربنى رجل من هوازن. وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار، وكان أبوه قتل يوم أحد، قلت: اليوم أدرك ثأرى، اليوم أقتل محمدا. قال: فأردت برسول الله لأقتله فأقبل شىء حتى تغشى فؤادى فلم أطق ذلك وعلمت أنى ممنوع منه «2» . وذكر ابن أبى خيثمة حديث شيبة هذا، قال: لما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يوم حنين أعرى ذكرت أبى وعمى قتلهما حمزة، قلت: اليوم أدرك ثأرى فى محمد، فجئته عن يمينه فإذا أنا العباس قائما عليه درع بيضاء، قلت: عمه لن يخذله، فجئته عن يساره فإذا أنا بأبى سفيان بن الحارث، قلت: ابن عمه لن يخله، فجئته من خلفه فدنوت ودنوت حتى لم يبق إلا أن أسور سورة بالسيف فرفع إلى شواظ من نار كأنه البرق فنكصت على عقبى القهقرى، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا شيبة ادنه» . فدنوت فوضع يده على صدرى فاستخرج الله الشيطان من قلبى فرفعت إليه بصرى فلهو أحب إلى من سمعى وبصرى، فقال لى: «يا شيبة قاتل الكفار» «3» . فقاتلت معه صلى الله عليه وسلم. وحدث «4» العباس بن عبد المطلب قال: إنى لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها وكنت امرء جسيما شديد الصوت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من أمر الناس: «أين أيها الناس؟» فلم أر الناس يلوون على شىء، فقال: «يا

_ (1) انظر: السيرة (4/ 76- 77) . (2) انظر: السيرة (4/ 77) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية (4/ 333) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 226) . (4) انظر: السيرة (4/ 78) .

عباس اصرخ: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة» . قال: فأجابوا: لبيك لبيك. قال: فيذهب الرجل ليثنى بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه، فيقذفها فى عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلى سبيله فيؤم الصوت حتى ينتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا، فكانت الدعوى أول ما كانت للأنصار ثم خلصت آخرا للخزرج، وكانوا صبرا عند الحرب، فأشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال: «الآن حمى الوطيس» «1» . قال جابر بن عبد الله فى حديثه: واجتلد الناس، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!. قال: والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى سفيان بن الحارث وكان حسن الإسلام وممن صبر يومئذ معه وهو آخذ بثغر بغلته فقال: «من هذا؟» قال: أنا ابن أمك يا رسول الله «2» . وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غشيه القتال يومئذ قام فى الركابين وهو على البغلة. ويقولون: نزل. فرفع يديه إلى الله يدعوه يقول: «اللهم إنى أنشدك ما وعدتنى، اللهم لا ينبغى لهم أن يظهروا علينا» . ونادى أصحابه فذمرهم: «يا أصحاب البيعة يوم الحديبية، يا أصحاب سورة البقرة، يا أنصار الله وأنصار رسوله، يا بنى الخزرج» . وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين ونواحيهم كلها. وقال: «شاهت الوجوه» «3» . فهزم الله أعداءه من كل ناحية حصبهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعهم المسلمون يقتلونهم وغنمهم الله نساءهم وذراريهم وشاههم وإبلهم، وفر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف فى ناس من أشراف قومه.

_ (1) ذكره الإمام أحمد فى مسنده (1775) ، مسلم فى صحيحه (3/ 1398، 1399/ 76) . (2) لم أقف على تخريجه فيما بين يدى من مصادر، وقصة أبى سفيان بن الحارث أنه كان أخذ بزمام ناقة النبى صلى الله عليه وسلم أخرجها البخارى فى صحيحه كتاب المغازى (7/ 4315) من طريق أبى إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب ... وفيه: «فيفهم هوزان بالنبل والنبى صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب» . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية (4/ 330) ، المعجم الكبير للطبرانى (10/ 188) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 82، 8/ 619) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 131) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 619) .

وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة وغيرهم حين رأوا نصر الله ورسوله وإعزاز دينه. وحدث «1» جبير بن مطعم قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مثبوت قد ملأ الوادى ولم أشك أنها الملائكة، فلم تكن إلا هزيمة القوم «2» . والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فرأى أم سليم بنت ملحان، وكانت مع زوجها أبى طلحة وهى حازمة وسطها ببرد لها وإنها لحامل بعبد الله بن أبى طلحة، ومعها جمل أبى طلحة قد خشيت أن يعزها فأدنت رأسه منها فأدخلت يدها فى خزامته مع الحظام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أم سليم؟» قالت: نعم، بأبى أنت وأمى يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك فإنهم أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو يكفى الله يا أم سليم؟» . وقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر يا أم سليم؟ لخنجر رآه عندها. قالت: خنجر اتخذته إن دنا منى أحد من المشركين بعجته به. فقال أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم! «3» . وحدث «4» أنس: أن أبا طلحة استلب وحده يوم حنين عشرين رجلا «5» . وقال أبو قتادة رأيت يوم حنين رجلين يقتتلان: مسلما ومشركا، فإذا رجل من المشركين يريد أن يعين صاحبه المشرك على المسلم فأتيته فضربت يده فقطعتها واعتنقنى بيده الأخرى، فو الله ما أرسلنى حتى وجدت ريح الدم. ويروى: ريح الموت. فلولا أن الدم نزفه لقتلنى، فسقط فضربته فقتلته وأجهضنى عنه القتال. فلما وضعت الحرب أوزارها وفرغنا من القوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلا فله سلبه. فقلت: يا رسول الله والله لقد قتلت قتيلا ذا سلب فأجهضنى عنه القتال

_ (1) انظر: السيرة (4/ 81- 82) . (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 146) ، تاريخ الطبرى (2/ 169) ، تفسير ابن كثير (4/ 72) . (3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الجهاد باب غزوة النساء مع الرجال (3/ 1442، 1443) ، سنن أبو داود (2718) ، مسند الإمام أحمد (3/ 108، 109، 190، 279، 286) . (4) انظر: السيرة (4/ 81) . (5) انظر الحديث فى: سنن الدارمى (2/ 2484) ، مسند الإمام أحمد (3/ 114، 123، 190، 279) ، مستدرك الحاكم (3/ 353) ، ابن حبان (7/ 4818) .

حديث وقعة جلولاء

فما أدرى من استلبه. فقال رجل من أهل مكة: صدق يا رسول الله فأرضه عنى من سلبه. فقال أبو بكر: لا والله لا ترضيه منه تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن دين الله تقاسمه سلبه! اردد عليه سلب قتيله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق اردد عليه سلبه. قال أبو قتادة: فأخذته منه فبعته فاشتريت بثمنه مخرفا، فإنه لأول مال اعتقدته «1» . ولما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف فى بنى مالك، فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة ومعه كانت راية بنى مالك. وكانت قبله مع ذى الخمار، فلما قتل أخذها عثمان فقاتل بها حتى قتل، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله قال: «أبعده الله، فإنه كان يبغض قريشا» «2» . وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود، فلما انهزم الناس هرب هو وقومه من الأحلاف فلم يقتل منهم غير رجلين يقال لأحدهما وهب وللآخر الجلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه قتل الجلاح: «قتل اليوم سيد شباب ثقيف، إلا ما كان من ابن هنيدة» «3» . يعنى الحارث بن أويس. ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك فى نخلة من الناس ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع وكان يقال له: ابن الدغنة، وهى أمه غلبت على اسمه أدرك دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه كان فى شجار له، فأناخ به فإذا شيخ كبير وإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد بى؟ قال: أقتلك. قال: ومن أنت؟ قال: انا ربيعة بن رفيع السلمى. ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا فقال: بئس ما سلحتك أمك! خذ سيفى هذا من مؤخر الرحل ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ، فإنى كذلك كنت أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة فرب والله يوم قد منعت فيه نساءك. فزعم بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل أعراء. فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه فقالت: أما

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (3/ 1370، 1371، 41) ، مسند الإمام أحمد (5/ 306) . (2) انظر الحديث فى: مصنف عبد الرزاق (11/ 19904) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 335) .

والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا «1» . وقالت عميرة بنت دريد ترثى أباها: قالوا قتلنا دريدا قلت قد صدقوا ... فظل دمعى على السربال ينحدر لولا الذى قهر الأقوام كلهم ... رأت سليم وكعب كيف يأتمر «2» وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعرى «3» فأدرك بعض المنهزمة فناوشوه القتال، فرمى بسهم فقتل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعرى «4» ففتح الله عليه وهزمهم الله، ويزعمون أن سلمة بن دريد هو الذى رمى أبا عامر. وذكر ابن هشام «5» عمن يثق به أن أبا عامر الأشعرى لقى يوم أوطاس عشرة أخوة من المشركين، فحمل عليه أحدهم فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فقتله أبو عامر، ثم حمل عليه آخر، فحمل عليه أبو عامر، وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فقتله أبو عامر، ثم جعلوا يحملون عليه رجلا بعد رجل، ويحمل أبو عامر ويقول ذلك، حتى قتل تسعة وبقى العاشر، فحمل على أبى عامر وحمل عليه أبو عامر، وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه. فقال الرجل: اللهم لا تشهد على، فكف عنه أبو عامر فأفلت ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه قال: «هذا شريد أبى عامر» «6» ورمى أبا عامر يومئذ- فيما ذكر ابن هشام- خوان من بنى جشم بن معاوية فأصاب أحدهما قلبه والأخر ركبته فقاتلاه، وولى الناس أبو موسى الأشعرى فحمل عليهما فقتلهما. وذكر ابن إسحاق «7» أن القتل استحر فى بنى نصر بن رئاب، فزعموا أن عبد الله

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 145) ، تاريخ الطبرى (2/ 170) ، الأصفهانى كتاب الأغانى (9/ 15، 16) . (2) ذكر فى السيرة بعد هذان البيتان بيت آخر هو: إذن لصحبهم غبا وظاهرة ... حيث استقرت نواهم جحفل دفر انظر: السيرة (4/ 87) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3092) ، الإصابة الترجمة رقم (10185) ، أسد الغابة الترجمة (6043) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3226) ، الإصابة الترجمة رقم (10588) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6294) . (5) انظر: السيرة (4/ 89- 90) . (6) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 639) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 338) . (7) انظر: السيرة (4/ 87- 88) .

ابن قيس الذى يقال له: ابن العوراء، وهو أحد بنى وهب بن رئاب، قال: يا رسول الله، هلكت بنو رئاب. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اجبر مصيبتهم» «1» . وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة فوقف فى فوارس من قومه على ثنية من الطريق وقال لأصحابه: قفوا حتى يمضى ضعفاؤكم وتلحق اخراكم. فوقف هنالك حتى مضى من كان لحق بهم منهزمة الناس. قال ابن هشام «2» : وبلغنى أن خيلا طلعت ومالك وأصحابه على الثنية فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: نرى قوما واضعى رماحهم بين آذان خيلهم طويلة بوادهم. فقال: هؤلاء بنو سليم ولا بأس عليكم منهم، فلما أقبلوا سلكوا بطن الوادى، ثم طلعت خيل اخرى تتبعها فقال لأصحابه: ماذا ترون، قالوا: نرى أقواما عارضى أرماحهم أغفالا «3» على خيلهم. قال: هؤلاء الأوس والخزرج ولا بأس عليكم منهم، فلما انتهوا إلى أصل الثنية سلكوا طريق بنى سليم ثم اطلع فارس فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: نرى فارسا طويل الباد واضعا رمحه على عاتقه عاصبا رأسه بملاءة حمراء. فقال: هذا الزبير بن العوام وأحلف باللات ليخالطنكم فاثبتوا له. فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية أبصر القوم فصمد لهم فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: «إن قدرتم على بجاد، رجل من بنى سعد بن بكر، فلا يفلتنكم» ، وكان قد أحدث حدثا، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فعنفوا عليها فى السياق فقالت للمسلمين: تعلموا والله أنى لأخت صاحبكم من الرضاعة. فلم يصدقوها حتى أتوا بها النبى صلى الله عليه وسلم فلما انتهوا بها إليه قالت: يا رسول الله إنى أختك. قال: وما علامة ذلك؟ قالت عضة عضة عضضتنيها فى ظهرى وأنا متوركتك، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها، فقال: إذا أحببت فعندى محبة مكرمة وإن أحببت أن أمتعك وترجعى إلى قومك فعلت، قالت: بل تمتعنى وتردنى إلى قومى. فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردها إلى قومها. فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما له يقال له: مكحول، وجارية، فزوجت أحدهما الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية «4» .

_ (1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 152) ، الإصابة لابن حجر (4/ 121) . (2) انظر: السيرة (4/ 88- 89) . (3) أغفالا: جمع غفل، وهو الذى لا علامة له، يريد أنهم لم يتخذوا لأنفسهم علامة يعرفون بها. (4) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 171) ، الإصابة لابن حجر (8/ 123) ، الاستيعاب لابن-

وأنزل الله تبارك وتعالى فى يوم حنين لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ [التوبة: 25، 26] . واستشهد من المسلمين يوم حنين من قريش ثم من بنى هاشم: أيمن بن عبيد «1» مولاهم. ومن بنى أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب «2» ، جمح به فرس يقال له الجناح فقتل. ومن الأنصار: سراقة بن الحارث العجلانى «3» . ومن الأشعريين أبو عامر الأشعرى. ثم جمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها فأمر بها إلى الجعرانة فحبست بها حتى أدركها هنالك منصرفه عن الطائف على ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى. وقال عباس بن مرداس السلمى «4» فى يوم حنين «5» : عفا مجدل من أهله فمتالع ... فمطلا أريك قد خلافا لمصانع ديار لنا يا جمل إذ جل عيشنا ... رخى وصرف الدهر للحى جامع حبيبة ألوت بها غربة النوى ... لبين فهل ماض من العيش راجع فإن تبتغى الكفار غير ملومة ... فإنى وزير للنبى وتابع دعانا إليه خير وفد علمتم ... خزيمة والمرار منهم وواسع

_ - عبد البر الترجمة رقم (1870، 4003) ، أسد الغابة لابن الأثير (7/ 166، 167) . (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (131) ، الإصابة الترجمة رقم (394) ، أسد الغابة الترجمة رقم (353) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 41) ، معرفة الصحابة (2/ 372) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2800) ، الإصابة الترجمة رقم (9280) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5552) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (916) ، الإصابة الترجمة رقم (3113) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1948) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1387) ، الإصابة الترجمة رقم (4529) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2801) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 295) ، تاريخ جرجان (281) ، تقريب التهذيب (1/ 399) ، تهذيب التهذيب (5/ 130) ، خلاصة تذهيب (2/ 37) ، تهذيب الكمال (2/ 660) ، الأعلام (3/ 267) . (5) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 95- 96) .

فجئنا بألف من سليم عليهم ... لبوس لهم من نسج داود رائع نبايعه بالأخشبين وإنما ... يد الله بين الأخشبين نبايع فجسنا مع المهدى مكة عنوة ... بأسيافنا والنقع كاب وساطع علانية والخيل يغشى متونها ... حميم وآن من دم الجوف ناقع ويوم حنين حين سارت هوازن ... إلينا وضاقت بالنفوس الأضالع صبرنا مع الضحاك لا يستفزنا ... قراع الأعادى منهم والوقائع أمام رسول الله يخفق فوقنا ... لواء كخدروف السحابة لامع عشية ضحاك بن سفيان معتص ... بسيف رسول الله والموت كانع نذود أخانا عن أخينا ولو نرى ... مصالا لكنا الأقربين نتابع ولكن دين الله دين محمد ... رضينا به فيه الهدى والشرائع أقام به بعد الضلالة أمرنا ... وليس لأمر حمه الله دافع وقال عباس أيضا «1» : تقطع باقى وصل أم مؤمل ... بعاقبة واستبدلت نية خلفا وقد حلفت بالله لا تقطع النوى ... فما صدقت فيه ولا برت الحلفا خفافية بطن العقيق مصيفها ... وتحتل فى البادين وجرة فالعرفا «2» فإن تتبع الكفار أم مؤمل ... فقد زودت قلبى على نأيها شغفا وسوف ينبيها الخبير بأننا ... أبينا ولم نطلب سوى ربنا حلفا وإنا مع الهادى النبى محمد ... وفينا ولم نستوفها معشر ألفا بفتيان صدق من سليم أعزة ... أطاعوا فما يعصون من أمره حرفا خفاف وذكوان وعوف تخالهم ... مصاعب زافت فى طروقتها كلفا كأن النسيج الشهب والبيض ملبس ... أسودا تلاقت فى مراصدها غضفا «3» بنا عز دين الله غير تنحل ... وزدنا على الحى الذى معه ضعفا بمكة إذ جئنا كأن لواءنا ... عقاب أرادت بعد تحليقها خطفا على شخص الأبصار تحسب بينها ... إذا هى جالت فى مواردها عزفا

_ (1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 96- 97) . (2) خفافية: منسوبة إلى بنى خفاف وهم حى من سليم. مصيفها: المكان الذى تقيم فيه فى الصيف. (3) غضفا: الغضف: جمع أغضف وهو المسترخى الأذنين.

غداة وطئنا المشركين ولم نجد ... لأمر رسول الله عدلا ولا صرفا بمعترك لا يسمع القوم وسطه ... لنا [زجمة] «4» إلا التذامر والنقفا ببيض تطير الهام عن مستقرها ... وتقطف أعناق الكماة بها قطفا فكاين تركنا من قتيل ملحب ... وأرملة تدعو على بعلها لهفا رضا الله ننوى لا رضا الناس نبتغى ... ولله ما يبدو جميعا وما يخفى وقال عباس أيضا «1» : ما بال عينك فيها عائر سهر ... مثل الحماطة أغضى فوقها الشفر عين تأوبها من شجوها أرق ... فالماء يغمرها طورا وينحدر كأنه نظم در عند ناظمه ... تقطع السلك منه فهو منتثر ما بعد منزل من ترجو مودته ... ومن أتى دونه الصمان فالحفر دع ما تقدم من عهد الشباب فقد ... ولى الشباب وزار الشيب والزعر واذكر بلاء سليم فى مواطنها ... وفى سليم لأهل الفخر مفتخر قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا ... دين الرسول وأمر الناس مشتجر الضاربون جنود الشرك ضاحية ... ببطن مكة والأرواح تبتدر حتى رفعنا وقتلاهم كأنهم ... نخل بظاهرة البطحاء منقعر ونحن يوم حنين كان مشهدنا ... للدين عزا وعند الله مدخر إذ نركب الموت مخضرا بطائنه ... والخيل ينجاب عنها ساطع كدر تحت اللوامع والضحاك يقدمنا ... كما مشى الليث فى غاباته الخدر فى مأزق من مجر الحرب كلكلها ... تكاد تأفل منه الشمس والقمر وقد صبرنا بأوطاس أسنتنا ... لله ننصر من شئنا وننتصر حتى تأوب أقوام منازلهم ... لولا المليك ولولا نحن ما صدروا فما ترى معشرا قلوا ولا كثروا ... إلا قد أصبح منا فيهم أثر وقال عباس بن مرداس أيضا رضى الله عنه «2» : يا أيها الرجل الذى تهوى به ... وجناء مجمرة المناسم عرمس

_ (4) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «رحمة» ، والتصحيح من السيرة. وزجمة: تقول ما زجم فلان أى ما نطق بكلمة. (1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 97- 98) . (2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 98- 99) .

غزوة الطائف

إما أتيت على النبى فقل له ... حقا عليك إذا اطمأن المجلس يا خير من ركب المطى ومن مشى ... فوق التراب إذا تعد الأنفس إنا وفينا بالذى عاهدتنا ... والخيل تقدع بالكماة وتضرس إذ سال من أفناء بهثة كلها ... جمع تظل به المخارم ترجس حتى صبحنا أهل مكة فيلقا ... شهباء يقدمها الهمام الأشوس من كل أغلب من سليم فوقه ... بيضاء محكمة الدخال وقونس وعلى حنين قد وفى من جمعنا ... ألف أمد به الرسول عرندس كانوا أمام المؤمنين دريئة ... والشمس يومئذ عليها أشمس نمضى ويحرسنا الإله بحفظه ... والله ليس بضائع من يحرس ولقد حبسنا بالمناقب محبسا ... رضى الإله بهم فنعم المحبس وغداة أوطاس شددنا شدة ... كفت العدو وقيل منها يحبس ندعو هوازن بالإخاءة بيننا ... ثدى تمد به هوازن أيبس حتى تركنا جمعهم وكأنه ... عير تعاقبه السباع مفرس وقال عباس بن مرداس أيضا «1» : نصرنا رسول الله من غضب له ... بألف كمى لا تعد حواسره حملنا له فى عامل الرمح راية ... يذود بها فى حومة الموت ناصره ونحن خضبناها دما فهو لونها ... غداة حنين يوم صفوان شاجره وكنا على الإسلام ميمنة له ... وكان لنا عقد اللواء وشاهره وكنا له يوم الجنود بطانة ... يشاورنا فى أمره ونشاوره دعانا فسمانا الشعار مقدما ... وكنا له عونا على من يناكره جزى الله خيرا من نبى محمدا ... وأيده بالنصر والله ناصره غزوة الطائف «2» ولما قدم فل الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال، ولم

_ (1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 99) . (2) راجع هذه الغزوة فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 341) ، مغازى الواقدى (3/ 922) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 114) ، تاريخ الطبرى (3/ 82) .

يشهد حنينا ولا الطائف عروة بن مسعود «1» ولا غيلان بن سلمة «2» ، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور. ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حين فرغ من حنين، فقال كعب بن مالك حين أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إليها «3» : قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجممنا السيوفا نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوسا أو ثقيفا فلست لحاضن إن لم تروها ... بساحة دار كم منا ألوفا وننتزع العروش ببطن وج ... وتصبح دوركم منكم خلوفا ويأتيكم لنا سرعان خيل ... يغادر خلفه جمعا كثيفا إذا نزلوا بساحتكم سمعتم ... لها مما أناخ بها رجيفا بأيديهم قواضب مرهفات ... يزرن المصطلين بها الحتوفا كأمثال العقائق أخلصتها ... قيون الهند لم تضرب كتيفا تخال جدية الأبطال فيها ... غداة الروع جاديا مدوفا أجدهم أليس لهم نصيح ... من الأقوام كان بنا عريفا يخبرهم بأنا قد جمعنا ... عتاق الخيل والنجب الطروفا وأنا قد أتيناهم بزحف ... يحيط بسور حصنهم صفوفا رئيسهم النبى وكان صلبا ... نقى القلب مصطبرا عزوفا رشيد الأمر ذا حكم وعلم ... وحلم لم يكن نزقا خفيفا نطيع نبينا ونطيع ربا ... هو الرحمن كان بنا رؤفا فإن تلقوا إلينا السلم نقبل ... ونجعلكم لنا عضدا وريفا وإن تأبوا نجاهدكم ونصبر ... ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا نجالد ما بقينا أو تنيبوا ... إلى الإسلام إذعانا مضيفا

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1823) ، الإصابة الترجمة رقم (5542) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 380) ، الأعلام (4/ 227) ، الثقات (3/ 313) ، التحفة اللطيفة (3/ 187) ، تبصير المنتبه (4/ 1495) ، العبر (1/ 10) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2090) ، الإصابة الترجمة رقم (6940) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4190) . (3) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 106- 108) .

ذكر يوم ماسبذان ويوم قرقيسيا

نجاهد لا نبالى ما لقينا ... أأهلكنا التلاد أم الطريفا وكم من معشر ألبوا علينا ... صميم الجذم منهم والحليفا أتونا لا يرون لهم كفاء ... فجدعنا المسامع والأنوفا بكل مهند لين صقيل ... نسوقهم بها سوقا عنيفا لأمر الله والإسلام حتى ... يقوم الدين معتدلا حنيفا وتنسى اللات والعزى وود ... ونسلبها القلائد والشنوفا فأمسوا قد أقروا واطمأنوا ... ومن لا يمتنع يقبل خسوفا وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على نخلة اليمانية، وانتهى إلى بحرة الرغاة «1» فابتنى بها مسجدا فصلى فيه وأقاد فيها يومئذ بدم رجل من هذيل قتله رجل من بنى ليث فقتله به، وهو أول دم أقيد به فى الإسلام، وأمر فى طريقه بحصن مالك بن عوف فهدم. ثم سلك فى طريق فسأل عن اسمها فقيل له: الضيقة. فقال: «بل هى اليسرى» . ثم خرج منها حتى نزل تحت سدرة يقال لها: الصادرة قريبا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إما أن تخرج، وإما أن نخرب عليك حائطك» ، فأبى أن يخرج فأمر بإخرابه. ثم مضى حتى نزل قريبا من الطائف، فضرب به عسكره، فقتل ناس من أصحابه بالنبل، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف، فكانت النبل تنالهم، ولم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطهم، أغلقوه دونهم. فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل وضع عسكره عند مسجده الذى بالطائف اليوم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وقيل «2» : بضع عشرة ليلة ومعه امرأتان من نسائه، إحداهما أم سلمة، فضرب لهما قبتين، ثم صلى بينهما، فلما أسلمت ثقيف بنى عمرو بن أمية بن وهب بن معتب بن مالك على مصلاة ذلك مسجدا، وكانت فيه سارية فيما يزعمون لا تطلع الشمس عليها يوما من الدهر إلا سمع لها نقيض، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلهم قتالا شديدا، وتراموا بالنبل «3» . ورماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق فيما ذكر ابن هشام، قال: وهو أول من رمى به فى الإسلام إذ ذاك «4» .

_ (1) بحرة الرغاء: هو موضع من أعمال الطائف قرب ليّة. انظر: معجم البلدان (1/ 346) . (2) هذا من كلام ابن هشام، قال: ويقال: سبع عشرة ليلة. انظر: السيرة (4/ 109) . (3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 346) ، الطبرى فى تاريخه (2/ 172) . (4) انظر: السيرة (4/ 110) ، وذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 348) .

ذكر الحديث عن تمصير الكوفة والبصرة وتحول سعد بن أبى وقاص عن المدائن إلى الكوفة وما يندرج مع ذكر البصرة من فتح الأبلة

حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة ثم رجعوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها فرمتهم بالنبل فقتلوا منهم رجالا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعتاب ثقيف فوقع الناس فيها يقطعون، وتقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة إلى الطائف فناديا ثقيفا أن آمنونا حتى نكلمكم فآمنوهما. فدعوا نساء من نساء قريش وبنى كنانة منهن ابنة أبى سفيان ليخرجن إليهما وهما يخافان عليهن السباء فأبين، فلما أبين قال لهما الأسود بن مسعوديا أبا سفيان ويا مغيرة ألا أدلكما على خير مما جئتما له؟ إن مال بنى الأسود حيث علمتما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلا بينه وبين الطائف بواد يقال له العقيق، إنه ليس بالطائف مال أبعد رشاء وأشد مؤنة ولا أبعد عمارة من مال بنى الأسود، وإن محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا، فكلماه فليأخذه لنفسه او ليدعه لله وللرحم، فإن بيننا وبينه من القرابة ما لا يجهل. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركه لهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لأبى بكر الصديق رضى الله عنه وهو محاصر ثقيفا: «يا أبا بكر، إنى رأيت إنى أهديت إلى قعبة مملوءة زبدا، فنقرها ديك، [فهراق] «1» ما فيها» . فقال: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا لا أرى ذلك» «2» . ثم إن خويلة بنت حكيم السلمية «3» ، امرأة عثمان بن مظعون قالت: يا رسول الله أعطنى إن فتح الله عليك الطائف حلى بادية بنت غيلان، أو حلى الفارعة ابنة عقيل. وكانتا من أحلى نساء ثقيف. فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «وإن كان لم يؤذن فى ثقيف يا خويلة؟» فخرجت خويلة، فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب رضى الله عنه، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما حديث حدثتنيه خويلة، زعمت أنك قلته؟ قال: «قد قلته» . قال: أو ما أذن فيهم يا رسول الله؟ قال: «لا» . قال: أفلا أؤذن بالرحيل؟ قال: «بلى» ، فأذن عمر بالرحيل «4» .

_ (1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وما أوردناه من السيرة. (2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 350) . (3) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3355) ، الإصابة الترجمة رقم (11119) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6888) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 264) ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (3/ 380) . (4) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 168- 169) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 350) .

فلما استقل الناس نادى سعيد بن عبيد: ألا إن الحى مقيم. يقول عيينة بن حصن «1» : أجل، والله مجدة كراما! فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة؟ أتمدح المشركين بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جئت تنصره؟ قال: إنى والله ما جئت لأقاتل ثقيفا معكم، ولكنى أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف جارية أتطئها لها تلد لى رجلا فإن ثقيفا قوم مناكير. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إقامته عليهم عبيد لهم فأسلموا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم أهل الطائف تكلم نفر منهم فى أولئك العبيد «2» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، أولئك عتقاء الله» «3» . واستشهد بالطائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا، سبعة من قريش وأربعة من الأنصار ورجل من بنى ليث «4» . ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطائف حتى نزل الجعرانة وإليها كان قدم سبى هوازن وأموالهم «5» ، وقال له رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف: يا رسول الله، ادع عليهم فقال: «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم» «6» . ثم أتاه وفد هوازن بالجعرانة، وقد أسلموا، وكان معه من سبيهم ستة آلاف من الذرارى والنساء ومن الإبل والشاء ما لا يدرى ما عدته، فقالوا: يا رسول الله إنا أهل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك، وقام رجل منهم من سعد بن بكر يقال له: زهير، يكنى بأبى صرد، فقال: يا رسول الله، إنما فى الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللائى كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2078) ، الإصابة الترجمة رقم (6166) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4166) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 432) ، الاستبصار (94، 95) ، العبر (12، 13) ، الثقات (3/ 312) . (2) ذكر ابن إسحاق فى السيرة (4/ 112) ، إنه كان ممن تكلم فيهم الحارث بن كلدة. (3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (4/ 348) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 159) . (4) قد سمهم ابن إسحاق فى السيرة (4/ 113- 114) . (5) راجع أمر أموال هوازن وسباياها فى: تاريخ الطبرى (2/ 173) ، الكامل فى التاريخ (2/ 268) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 152، 153) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (2/ 193) . (6) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 343) ، سنن الترمذى (5/ 3942) .

أبى شمر أو للنعمان بن المنذر، ثم نزلا منا بمثل ما نزلت به رجونا عطفه، وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين. ثم أنشأ يقول: امنن علينا رسول الله فى كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على بيضة قد عاقها قدر ... مفرق شملها فى دهرها غير أبقت لنا الحرب هتافا على حزن ... على قلوبهم الغماء والغمر إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يحتبر امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملأه من محضها الدرر إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتى وما تذر لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منه فإنا معشر زهر إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو يشتهر إنا نؤمل عفوا منك تلبسه ... هذى البرية أن تعفو وتنصر فاعف عفا الله عما أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم» ؟ فقالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا. فقال لهم: «أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم وإذا أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله فى أبنائنا ونسائنا. فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم» . فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر قاموا فتكلموا بالذى أمرهم به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم» ، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الأقرع بن حابس «1» : أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا. وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عباس: وهنتمونى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما من تمسك منكم

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (69) ، الإصابة الترجمة رقم (231) ، أسد الغابة الترجمة رقم (208) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 26) ، الوافى بالوفيات (9/ 307) ، تهذيب تاريخ دمشق (3/ 89) ، تنقيح المقال (1034) ، الثقات (3/ 18) ، الجامع فى الرجال (281) ، التحفة اللطيفة (1/ 337) ، جامع الرواة (1/ 107) .

بحقه من هذا السبى فله بكل إنسان ست فرائض من أول شىء أصيبه، فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم» «1» . وكان عيينة بن حصن أخذ عجوزا من عجائزهم وقال حين أخذها: أرى عجوزا، إنى لأحسب أن لها فى الحى نسبا وعسى أن يعظم فداؤها. فلما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم السبايا بست فرائض أبى أن يردها، فقال له زهير أبو صرد: خذها عنك فو الله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد، ولا ردها بماكد، فردها بست فرائض حين قال له زهير ما قال «2» . وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد هوازن: «ما فعل مالك بن عوف؟» فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف. فقال لهم: «أخبروا مالكا أنه إن أتانى مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل» . فأتى مالك بذلك فخاف ثقيفا أن يعلموا بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسبوه، فأمر براحلته فهيئت له، وأمر بفرس له فأتى به بالطائف، فخرج ليلا على فرسه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس فركبها فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركه بالجعرانة أو بمكة، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل وأسلم فحسن إسلامه «3» . وقال: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... فى الناس كلهم بمثل محمد أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... ومتى تشأ يخبرك عما فى غد وأذا الكتيبة عردت أنيابها ... بالسمهرى وضرب كل مهند فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر فى مرصد فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه فكان يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم فقال أبو محجن بن حبيب الثقفى «4» :

_ (1) انظر الحديث فى: سنن أبى داود كتاب الجهاد (2694) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 336، 337) ، مسند الإمام أحمد (2/ 184، 218) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 187، 188) . (2) انظر: السيرة (4/ 119) ، وذكر هناك زيادة بعد هذا وهى: « ... فزعموا أن عيينة لقيه الأقرع بن حابس، فشكا إليه ذلك، فقال: إنك والله ما أخذتها ببيضاء غريرة، ولا نصفا وثيرة» . قلت: ذكره البيهقى فى دلائل النبوة (5/ 193) ، الهيثمى فى المجمع (6/ 188) . (3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 198) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 189) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3193) ، الإصابة الترجمة رقم (10507) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6228) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 200) .

هابت الأعداء جانبنا ... ثم تغزونا بنو سلمه وأتانا مالك بهم ... ناقضا للعهد والحرمه ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رد سبايا حنين إلى أهلها ركب واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا. للإبل والغنم، حتى ألجأوه إلى شجرة فاختطفت عنه رداءه فقال: «ردوا على ردائى أيها الناس، فو الله إن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتمونى بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا» «1» . ثم قام إلى جنب بعير فأخذ وبرة من سنامه فرفعها ثم قال: «أيها الناس، والله مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخائط والمخيط، فإن الغلول يكون على أهله عارا وشنارا ونارا يوم القيامة» ، فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال: يا رسول الله، أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لى دبر. فقال: «أما نصيبى منها فلك» . قال: أما إذا بلغت ذلك فلا حاجة لى بها. ثم طرحها من يده «2» . ويروى «3» أن عقيل بن أبى طالب دخل يوم حنين على امرأته فاطمة بنت شيبة وسيفه متلطخ دما فقالت: إنى قد عرفت أنك قد قاتلت فماذا أصبت من غنائم المشركين؟ قال: دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك. فدفعها إليها فسمع منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أخذ شيئا فليرده حتى الخائط والمخيط. فرجع عقيل فقال: ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت! وأخذها فألقاها فى الغنائم. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، وكانوا أشرافا من أشراف الناس، يتألفهم ويتألف بهم قومهم، فأعطى أبا سفيان بن حرب وابنه معاوية وحكيم بن حزام والحارث بن الحارث بن كلدة، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى وصوفان بن أمية، وكل هؤلاء من أشراف قريش، والأقرع بن حابس التميمى وعيينة بن حصن الفزارى ومالك بن عوف النصرى، أعطى كل واحد من هؤلاء المسلمين من قريش وغيرهم مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالا من قريش منهم

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (6/ 2821) ، مسند الإمام أحمد (4/ 84) ، مصنف عبد الرزاق (5/ 9497) . (2) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (9/ 102) ، موطأ مالك (2/ 457، 458) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 339) . (3) انظر: السيرة (4/ 121) .

مخرمة بن نوفل وعمير بن وهب، وأعطى سعيد بن يربوع المخزومى وعدى بن قيس السهمى خمسين خمسين، وأعطى عباس بن مرداس أباعر فسخطها وقال يعاتب فيها النبى صلى الله عليه وسلم: وكانت نهابا تلافيتها ... بكرى على المهر فى الأجرع وإيقاظى القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع فأصبح نهبى ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع وقد كنت فى الحرب ذا تدراء ... فلم أعط شيئا ولم أمنع إلا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمه الأربع وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس فى مجمع وما كنت دون امرىء منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فاقطعوا عنى لسانه» «1» ، فأعطوه حتى رضى، فكان ذلك قطع لسانه. وذكر ابن هشام «2» أن عباسا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت القائل: فأصبح نهبى ونهب العبي ... د بين الأقرع وعيينة» فقال أبو بكر: بين عيينة والأقرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هما واحد» . فقال أبو بكر: أشهد أنك كما قال الله: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] «3» . وذكر ابن عقبة ان عباسا لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع لسانه فزع لها وقال: من لا يعرف أمر عباس يمثل به، فأتى به إلى الغنائم فقيل له: خذ منها ما شئت، فقال عباس: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع لسانى بالعطاء بعد أن تكلمت فتكرم أن يأخذ منها شيئا، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلة فقبلها ولبسها. وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائل من أصحابه: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والقرع بن حابس مائة مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمرى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 737، 738) ، كشفا الخفاء للعجلونى (1/ 182، 484) . (2) انظر: السيرة (4/ 123) . (3) انظر الحديث فى: تاريخ ابن كثير (4/ 360) .

«أما والذى نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكنى تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه» «1» . وجاء رجل من بنى تميم يقال له: ذو الخويصرة فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعطى الناس فقال: يا محمد، قد رأيت ما صنعت فى هذا اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل، فكيف رأيت؟» قال: لم أرك عدلت. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ويحك! إذا لم يكن العدل عندى فعند من يكون؟» فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله؟ فقال: «لا، دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون فى الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر فى النصل فلا يوجد شىء، ثم فى القدح فلا يوجد شىء، ثم فى الفوق فلا يوجد شىء، سبق الفرث والدم» «2» . ولما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى فى قريش وفى قبائل العرب ولم يعط الأنصار شيئا، وجدوا فى أنفسهم حتى كثرت منهم القالة وحتى قال قائاهم: لقى والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه. وذكر ابن هشام «3» أن حسان بن ثابت قال يعاتبه فى ذلك: زاد الهموم فماء العين منحدر ... سحا إذا حفلته عبرة درر وجدا بشماء إذ شماء بهكنة ... هيفاء لا ذنن فيها ولا خور دع عنك شماء إذ كانت مودتها ... نزرا وشر وصال الواصل النزر وائت الرسول فقل يا خير مؤتمن ... للمؤمنين إذا ما عدد البشر علام تدعى سليم وهى نازحة ... قدام قوم هم آووا وهم نصروا سماهم الله أنصارا ينصرهم ... دين الهدى وعوان الحرب تستعر وسارعوا فى سبيل الله واعترفوا ... للنائبات وما خافوا وما ضجروا والناس إلب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر نجالد الناس لا نبقى على أحد ... ولا نضيع ما توحى به السور ولا تهز جناة الحرب نادينا ... ونحن حين تلظى نارها سعر كما رددنا ببدر دون ما طلبوا ... أهل النفاق وفينا ينزل الظفر

_ (1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 246) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (1/ 353) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 744، 745، 148) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 288) . (3) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 126) .

ذكر الجزيرة، وذكر السبب الذى دعا عمر إلى الأمر بقصدها

ونحن جندك يوم النعف من أحد ... إذ حزبت بطرا احزابها مضر فما ونينا ولا خمنا وما خبروا ... منا عثارا وكل الناس قد عثروا فدخل سعد بن عبادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هذا الحى من الأنصار قد وجدوا عليك لما صنعت فى هذا الفىء الذى أصبت، قسمت فى قومك وأعطيت عطايا عظاما فى قبائل العرب ولم يك فى هذا الحى من الأنصار منها شىء. قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومى. قال: «فاجمع لى قومك فى هذه الحظيرة» ، فخرج سعد فجمع الأنصار فى تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أعلمه سعد بهم فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتنى عنكم وجدة وجدتموها على فى أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟» قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال: «ألا تجيبوننى يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل، فقال صلوات الله عليه: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم فى لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فو الذى نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرء من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» ، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا «1» . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمرا، وأمر ببقايا الفىء فحبس بمجنة بناحية مر الظهران، فلما فرغ من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس فى الدين ويعلمهم القرآن، وأتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقايا الفىء «2» . ولما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتابا على مكة رزقه فى كل يوم درهما، فقام عتاب

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 735، 736، 135) ، صحيح البخارى (7/ 4337) ، مسند الإمام أحمد (3/ 76، 77) ، مجمع الزوائد للهيثمى (10/ 29) . (2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 368) ، الحاكم فى المستدرك (3/ 370) .

خطيبا فى الناس فقال: أيها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقنى رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم فليست بى حاجة إلى أحد «1» . وكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذى القعدة، وقدم المدينة فى بقيتة أو فى أول ذى الحجة «2» . وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه وحج عتاب بن أسيد بالمسلمين فيها وهى سنة ثمان، وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم فى طائفهم ما بين ذى القعدة إذ انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رمضان سنة تسع. ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره هذا منصرفا عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبى سلمى إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقى من شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كل وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاء تائبا، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض. فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان فى حاضره من عدوه، فقالوا: هو مقتول، فلما لم يجد من شىء بدا قال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به، ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل من جهينة كانت بينه وبينه معرفة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح، فصلى معه ثم أشار له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رسول الله، فقم إليه فاستأمنه، فذكر أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس إليه فوضع يده فى يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» ، قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير، فوثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، دعنى وعدو الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه عنك، فإنه قد جاءنا تائبا نازعا» «3» . فغضب كعب على الأنصار لما صنع به صاحبهم ومدح المهاجرين دونهم إذ لم يتكلم فيه رجل منهم إلا بخير.

_ (1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 368) . (2) ذكره مسلم فى صحيحه كتاب الحج (2/ 217، 916) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 368) ، أبو داود (1994) ، الترمذى (815) ، أحمد فى المسند (1/ 246، 321) . (3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 369) ، مستدرك الحاكم (3/ 583) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 393، 394) .

والقصيدة التى قالها كعب فى ذلك وذكر أنه أنشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد: بانت سعاد فقلبى اليوم مبتول ... متيم عندها لم يجز مكبول وما سعاد غداة البين إذ برزت ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول «1» تجلو عوارض ذى ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول «2» شحت بذى شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول «3» تنفى الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب غادية بيض يعاليل «4» وبلمها خلة لو أنها صدقت ... بوعدها أو لو أن النصح مقبول لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلون فى أثوابها الغول «5» كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأمانى والأحلام تضليل «6» أمست سعاد بأرض لا تبلغها ... إلا العتاق النجيبات المراسيل ولا يبلغها إلا عذافرة ... فيها على الأبن إرقال وتبغيل «7» من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول «8»

_ (1) الأغن: الصبى الصغير الذى فى صوته غنة، وهى صوت يخرج من الخيشوم. غضيض الطرف: أى فاتر الجفن. (2) العوارض: الأسنان. ذى ظلم: الظلم ماء الأسنان وبريقها. الراح: اسم من أسماء الخمر. (3) شجت: مزجت. ذى شبم: أى الماء البارد. المجنية: منتهى الوادى. (4) القذى: أراد ما يقع فى الماء من تبن أو غيره. الصوب: المطر. غادية: السحابة التى تمطر بالغدو. اليعاليل: هو رغوة الماء. (5) ذكر فى السيرة بعد هذه البيت بيت آخر لم يذكره هنا وهو: وما تمسك بالعهد الذى زعمت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل انظر: السيرة (4/ 132) . (6) ذكر فى السيرة هذا البيت قبل البيت الذى يسبقه هنا. وهناك بيت آخر لم يذكره هنا ورد بعدهما وهو: أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل انظر: السيرة (4/ 132) . (7) العذافرة: بضم العين هى الناقة الضخمة. الأين: الفتور والإعياء. الإرقال: ضرب من السير. (8) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيت آخر لم يذكره هنا وهو: ترمى النجاد بعينى مفرد لهق ... إذا توقدت الحزان والميل انظر: السيرة (4/ 133) .

ذكر فتح سوق الأهواز ومناذر ونهرتير

ضخم مقلدها فعم مقيدها ... فى خلقها عن بنات الفحل تفضيل* حرف أخوها أبوها من مهجنة ... وعمها خالها قوداء شمليل* كأن أوب ذراعيها وقد عرقت ... وقد تلفع بالقور العساقيل* أوب يدى فاقد شمطاء معولة ... قامت فجاوبها نكد مثاكيل نواحة رخوة الضبعين ليس لها ... لما نعى بكرها الناعون معقول تفرى اللبان بكفيها ومدرعها ... مشقق عن تراقيها رعابيل تمشى الغواة بجنبيها وقولهم ... إنك يا ابن أبى سلمى لمقتول وقال كل صديق كنت آمله ... لا ألهينك إنى عنك مشغول فقلت خلوا طريقى لا أبالكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول نبئت أن رسول الله أوعدنى ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ال ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذنى بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت فى الأقاويل

_ (*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيتان لم يذكرهم هنا وهما: غلباء وجناء علكوم مذكرة ... فى دفها سعة قدامها ميل وجلدها من أطوم ما يؤيسه ... طلح بضاحية المتنين مهزول انظر: السيرة (2/ 133) . (*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت أبيات أخرى لم يذكره هنا وهى: يمشى القراد عليها ثم يزلفه ... منها لبان وأقراب زهاليل عيرانة قذفت بالنحض عن عرض ... مرفقها عن بنات الزور مفتول كأنما فات عينيها ومذبحها ... من خطمها ومن اللحيين برطيل تمر مثل عسيب النخل ذا خصل ... فى غارز لم تخونه الأحاليل قنواء فى حرتيها للبصير بها ... عتق مبين وفى الخدين تسهيل تخدى على يسرات وهى لا حقة ... ذوابل مسهن الأرض تحليل سمر العجايات يتركن الحصى زيما ... لم يقهن رؤس الأكم تنعيل انظر: السيرة (4/ 134، 135) . (*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيتان لم يذكرهم هنا وهما: يوما يظل به الحرباء مصطخدا ... كأن ضاحية بالشمس مملول وقال للقوم حاديهم وقد جعلت ... ورق الجنادب يركضن الحصاقيلوا انظر: السيرة (4/ 135) .

لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... يرمى ويسمع ما قد أسمع الفيل [لظل ترعد من خوف بوادره ... إن لم يكن من رسول الله تنويل حتى وضعت يمينى ما أنازعها ... فى كف ذى نقمات قوله القيل فلهو أخوف عندى إذ أكلمه ... وقيل إنك منسوب ومسئول من ضيغم بضراء الأرض مخدره ... فى بطن عثر غيل دونه غيل إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول فى عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا زالوا فما زال انكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميل معازيل يمشون مشى الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود فى الهيجا سرابيل بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا لا يقع الطعن إلا فى نحورهم ... ليس لهم عن حياض الموت تهليل ويروى أن كعبا لما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الخلق: «أى اسمعوا» . تعجبا بقوله. ومن مستجاد شعر كعب بن زهير قوله أيضا يمدح النبى صلى الله عليه وسلم: تخذى به الناقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم وفى عطافيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم ولما قال كعب فى لاميته المتقدمة: «إذا عرد السود التنابيل» ، يريد الأنصار وخص المهاجرين بمدحته دونهم غضب عليه الأنصار فقال بعد أن أسلم يمدحهم ويذكر بلاءهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعهم من اليمن، ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضه على ذلك وقال لما أنشده القصيدة المتقدمة: «لولا ذكرت الأنصار بخير فإن الأنصار لذلك أهل؟» «1» ، فقال كعب هذه الأبيات: من سره كرم الحياة فلا يزل ... فى مقنب من صالح الأنصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار

_ (1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 374) .

حديث فتح الأهواز ومدينة سرق

المكرهين السمهرى بأذرع ... كسوالف الهندى غير قصار والناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الإبصار والبائعين نفوسهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار يتطهرون يرونه نسكا لهم ... بدماء من علقوا من الكفار دربوا كما دربت ببطن خفية ... غلب الرقاب من الأسود ضوارى وإذا حللت ليمنعوك إليهم ... أصبحت عند معاقل الأغفار ضربوا عليا يوم بدر ضربة ... دانت لوقعتها جميع نزار لو يعلم الأقوام علمى كله ... فيهم لصدقنى الذين أمارى قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقارى فى الغر من غسان فى جرثومة ... أعيت محافرها على المحفار «10» وكان عبد الله بن الزبعرى السهمى شاعر قريش ولسانها فى مناقضة حسان بن ثابت وغيره من شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، له فى ذلك أشعار كثيرة ذكرها ابن إسحاق فى مواضعها وأضربنا نحن عنها وعن سائر أشعار الجاهلية لما فيها من تنقص الإسلام والنيل من أهله، فلما كان عام الفتح فر ابن الزبعرى إلى نجران فرماه حسان بن ثابت ببيت واحد ما زاد عليه وهو: لا تعدمن رجلا أحلك بغضه ... نجران فى عيش أحذ لئيم فلما بلغ ذلك ابن الزبعرى «1» خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقال فى ذلك أشعارا منها فى أبيات «2» : يا رسول الله المليك إن لسانى ... راتق ما فتقت إذ أنا بور إذ أبارى الشيطان فى سنن الغى ... ومن مال ميله مثبور وقال أيضا حين أسلم «3» : منع الرقاد بلابل وهموم ... والليل معتلج الرواق بهيم

_ (10) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 138- 139) . (1) هو عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم القرشى السهمى. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1551) ، الإصابة الترجمة رقم (4697) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2946) . (2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 54) . (3) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 55) ، وقال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له.

غزوة تبوك

مما أتانى أن أحمد لامنى ... فيه فبت كأننى محموم يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانة سرح اليدين عشوم إنى لمعتذر إليك من الذى ... أسديت إذ أنا فى الضلال أهيم أيام تامرنى بأغوى خطة ... سهم وتأمرنى بها مخزوم وأمد أسباب الردى ويقودنى ... أمر الغواة وأمرهم مشئوم فاليوم آمن بالنبى محمد ... قلبى ومخطىء هذه محروم مضت العداوة فانقضت أسبابها ... ودعت أواصر بيننا وحلوم فاغفر فدى لك والداى كلاهما ... زللى فإنك راحم مرحوم وعليك من علم المليك علامة ... نور أغر وخاتم مختوم أعطاك بعد محبة برهانه ... شرفا وبرهان الإله عظيم ولقد شهدت بأن دينك صادق ... حق وأنك فى العباد جسيم والله يشهد أن أحمد مصطفى ... متقبل فى الصالحين كريم فرم علا بنيانه من هاشم ... فرع تمكن فى الذرى وأروم غزوة تبوك «1» وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه عن عمرة الجعرانة ما بين ذى الحجة إلى رجب ثم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك فى زمان عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام فى ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذى هم عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يخرج فى غزوة إلا ورى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذى يعمد إليه، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو الذى يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم. فقال صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو فى جهازه للجد بن قيس أحد بنى سلمة: «ياجد هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر؟» فقال: يا رسول الله، أو تأذن ولا تفتنى، فو الله لقد عرف قومى أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء منى، وإنى أخشى إن رأيت

_ (1) راجع هذه الغزوة فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 362) ، المغازى للواقدى (3/ 989) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 118، 119) ، تاريخ الطبرى (3/ 100) ، البداية والنهاية (5/ 2) ، الكامل (2/ 149) .

نساء بنى الأصفر أن لا أصبر. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك» ، ففيه نزلت: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [التوبة: 49] «1» أى إن كان إنما خشى الفتنة من نساء بنى الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر لتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه، يقول: وإن جهنم لمن ورائه «2» . وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا فى الحر: زهادة فى الجهاد وشكا فى الحق وإرجافا بالرسول، فأنزل الله فيهم: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: 81، 82] . وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون فى بيت سويلم اليهودى، يثبطون الناس عنه فى غزوة تبوك، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم البيت وفعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله واقتحم أصحابه فأفلتوا «3» فقال الضحاك فى ذلك: وكادت وبيت الله نار محمد ... يشيط بها الضحاك وابن أبيرق وظلت وقد طبقت كبس سويلم ... أنوء على رجلى كسيرا ومرفقى سلام عليكم لا أعود لمثلها ... أخاف ومن تشمل به النار يحرق ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد فى سفره وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان فى سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان فى ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارض عن عثمان فإنى عنه راض» «4» . ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاؤن وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، سالم بن عمير «5» ، وعلبة بن زيد «6» ، وأبو ليلى بن كعب «7» ، وعمرو

_ (1) انظر الحديث فى: زاد المسير لابن الجوزى (3/ 305) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 213) . (2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 182) . (3) ذكره ابن كثير فى التاريخ (5/ 3) . (4) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (11/ 593/ 32841) ، جامع الجوامع للسيوطى (1/ 381) . (5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (885) ، الإصابة الترجمة رقم (3053) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1900) ، الطبقات الكبرى (3/ 480) ، الوافى بالوفيات (15/ 89) ، تاريخ الإسلام (1/ 60) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 27) . (6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2056) ، الإصابة الترجمة رقم (5673) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3761) . (7) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3184) ، الإصابة الترجمة رقم (10477) .

ذكر فتح رامهرمز والسوس وتستر وأسر الهرمزان

ابن حمام، وهرمى بن عبد الله «1» ، وعبد الله بن مغفل المزنى «2» ، ويقال: عبد الله بن عمرو المزنى «3» ، وعرباض بن سارية الفزارى «4» ، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل حاجة فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون «5» . فذكر أن ابن يامين بن عمير النضرى لقى أبا ليلى بن كعب وابن مغفل وهما يبكيان فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم «6» . وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم الله، وذكر أنهم نفر من بنى غفار «7» .

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2737) ، الإصابة الترجمة رقم (9048) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5365) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1685) ، الإصابة الترجمة رقم (4988) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3202) ، تاريخ ابن معين (333) ، سير أعلام النبلاء (4/ 206) ، الوافى بالوفيات (7/ 628) ، تهذيب الكمال (745) ، تهذيب التهذيب (6/ 42) ، خلاصة تذهيب الكمال (215، 216) ، شذرات الذهب (1/ 65) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1640) ، الإصابة الترجمة رقم (4873) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3097) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 326) ، تهذيب التهذيب (5/ 341) ، تهذيب الكمال (2/ 717) ، تاريخ الإسلام (3/ 107) ، الثقات (3/ 238) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2049) ، الإصابة الترجمة رقم (5517) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3630) ، معرفة الرجال (2/ 203) ، سير أعلام النبلاء (3/ 419) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (231) ، المعين وطبقات المحدثين (24) ، مرآة الجنان (1/ 156) ، تقريب التهذيب (2/ 17) ، خلاصة تذهيب التهذيب (269) ، شذرات الذهب (1/ 82) . (5) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 218) ، أسباب النزول (212) ، تفسير الطبرى (10/ 145، 146) ، فتح القدير للشوكانى (2/ 551) . (6) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 5) ، الطبرى فى تاريخه (2/ 182) . (7) انظر: السيرة (4/ 143) .

ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير وتخلف عنه نفر من المسلمين عن غير شك ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك أخو بنى سلمة ومرارة بن الربيع أخو بنى عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بنى واقف، وأبو خيثمة أخو بنى سالم، وكانوا نفر صدق لا يتهمون فى إسلامهم. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبى معه على حده عسكره أسفل منه نحو ذباب «1» ، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبى فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب. وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له، وتخففا منه، فلما قالوا ذلك أخذ علىّ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فقال: يا نبى الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتنى أنك استثقلتنى وتخففت منى، فقال: «كذبوا ولكنى خلفتك لما تركت ورائى، فارجع فاخلفنى فى أهلى وأهلك، أفلا ترضى يا علىّ أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى» «2» . فرجع علىّ إلى المدينة رضى الله عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره. ثم إن أبا خيثمة بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما رجع إلى أهله فى يوم حار، فوجد امرأتين له فى عريشين لهما فى حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له طعاما، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الضح والريح والحر، وأبو خيثمة فى ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء فى ماله مقيم! ما هذا بالنصف ثم قال: والله لا أدخل على عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا لى زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج فى طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل بتبوك. وقد كان أدرك أبا خيثمة فى الطريق عمير بن وهب الجمحى يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) ذباب: ذكره الحازمى بكسر أوله وباءين وقال: جبل بالمدينة له ذكر فى المغازى والأخبار، وعن العمرانى: ذباب بوزن الذباب الطائر جبل بالمدينة. انظر: معجم البلدان (3/ 3) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب المغازى باب غزوة تبوك (7/ 4416) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل علىّ (4/ 31، 32) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 220) ، تاريخ ابن كثير (5/ 7) .

فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير: إن لى ذنبا فلا عليك أن تخلف عنى حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة» . قالوا: هو والله أبو خيثمة يا رسول الله، فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك يا أبا خيثمة!» ثم أخبره خبره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير «1» . ويروى أن أبا خيثمة! قال فى ذلك «2» : ولما رأيت الناس فى الدين نافقوا ... أتيت التى كانت أعف وأكرما وبايعت باليمنى يدى لمحمد ... فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما تركت خضيبا فى العريش وصرمة ... صفايا كراما بسرها قد تحمما وكنت إذا شك المنافق أسمحت ... إلى الدين نفسى شطره حيث يميما وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا من مائها ولا يتوضأ منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له» . ففعل الناس ما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر فى طلب بعير له، فأما الذى ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذى ذهب فى طلب بعيره فاحتمله الريح حتى طرحته بجبلى طىء، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أنهكم أن يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه؟ ثم دعا للذى أصيب على مذهبه فشفى، وأما الذى وقع بجبلى طىء، فإن طيئا أهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة «3» . ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه، واستحث راحلته ثم قال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم» «4» . فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا فأرسل الله سبحانه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء. قال محمود بن لبيد «5» :

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (4/ 53/ 2120- 2122) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 223) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 193) . (2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 146) . (3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 240) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 11) . (4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (6/ 3381) ، صحيح مسلم (4/ 39، 2286) . (5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2375) ، الإصابة الترجمة رقم (7838) ، أسد-

لقد أخبرنى رجال من قومى عن رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سار، فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا فأرسل الله الصحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس قالوا: أقبلنا عليه نقول: ويحك! هل بعد هذا شىء؟ قال: سحابة مارة. قيل لمحمود: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم، والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفى عشيرته ثم يلبس بعضهم بعضا على ذلك «1» . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته فخرج أصحابه فى طلبها وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه يقال له: عمارة بن حزم وكان عقبيا بدريا وهو عم بنى عمرو بن حزم وكان فى رحله زيد بن اللصيت القينقاعى، وكان منافقا، فقال زيد وهو فى رحل عمارة وعمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس محمد يزعم أنه نبى ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمارة عنده: «إن رجلا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبى ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يبدى أين ناقته وإنى والله لا أعلم إلا ما علمنى الله وقد دلنى الله عليها وهى فى الوادى من شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتونى بها» ؛ فذهبوا فجاؤا بها فرجع عمارة بن حزم إلى رحله فقال: والله لعجب من شىء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا عن مقالة قائل أخبره الله عنه. للذى قال زيد بن اللصيت. فقال رجل ممن كان فى رحل عمارة ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتى، فأقبل عمارة على زيد يجأ فى عنقه ويقول: يا عباد الله! إن فى رحلى لداهية وما أشعر! اخرج أى عدو الله من رحلى فلا تصحبنى «2» . فزعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك وقال بعض: لم يزل متهما بشر حتى مات «3» . ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان. فيقول: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد

_ - الغابة الترجمة رقم (4780) ، طبقات ابن سعد (5/ 77) ، طبقات خليفة الترجمة رقم (2039) ، المعرفة والتاريخ (1/ 356) ، تهذيب الكمال (1310) ، تذهيب التهذيب (4/ 26) ، تهذيب التهذيب (10/ 65) ، خلاصة تذهيب الكمال (317) ، شذرات الذهب (1/ 112) . (1) ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (6/ 194، 195) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 9) . (2) ذكره البيهقى فى دلائل النبوة (5/ 223) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 9) . (3) انظر: السيرة (4/ 149) .

ذكر فتح السوس

أراحكم الله منه» حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره. فقال: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه» ، وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشى على الطريق وحده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا ذر» . فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبوذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده، ويبعث وحده» «1» . فقضى الله سبحانه أن أباذر لما أخرجه عثمان رضى الله عنه إلى الربدة وأدركته بها منيته لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن غسلانى وكفنانى ثم ضعانى على قارعة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينوننا على دفنه فلما مات فعلا ذلك وأقبلو عبد الله بن مسعود فى رهط من العراق عمار، فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها وقام إليهم الغلام فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينوننا على دفنه. فاستهل عبد الله يبكى ويقول: صدق رسول الله تمشى وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك! ثم نزل هو وأصحابه فواروه. ثم حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسيره إلى تبوك «2» . وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بنى عمرو بن عوف وحليف لبنى سلمة من أشجع يقال له: نخشن بن حمير، ويقال: مخشى، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأننا بكم غدا مقرنين فى الحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشن بن حمير، والله لوددت أنى أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وأنا نتفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا لعمار بن ياسر: «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بل قلتم كذا وكذا» ، فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون، فقال وديعة بن ثابت

_ (1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 50، 51) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 222) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 8) ، صحيح ابن حبان (8/ 234) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 331، 332) . (2) انظر: السيرة (4/ 149- 150) .

ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته فجعل يقول وهو آخذ بحقها: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله عز وجل فيهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة: 65] ، وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله قعد بى اسمى واسم أبى. فكان الذى عفى عنه فى هذه الآية مخشن بن حمير فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتله شهيدا لا يعلم مكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر «1» . ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك اتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الجزية. وأتاه أهل جرباء «2» وأذرح «3» فأعطوا الجزية، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فهو عندهم [فكتب ليحنّة بن رؤبة] «4» : «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبى رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم فى البر والبحر، لهم ذمة الله ومحمد النبى ومن كان منهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وأنه طيبة لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه من بر أو بحر «5» . ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فبعثه إلى أكيدر دومة وهو أكيدر ابن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا عليها وكان نصرانيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: «إنك ستجده يصيد البقر» . فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين وفى ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امرأته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له: حسان، فركب وخرجوا معه بمطاردهم، فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته، وقتلوا أخاه، وكان عليه قباء ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من هذا؟ فو الذى نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ فى

_ (1) ذكره ابن كثير فى تفسيره (2/ 381، 382) ، ابن حجر فى الإصابة (6/ 75) . (2) جرباء: كأنه تأنيب الأجرب، موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام قرب جبال السراة من ناحية الحجاز. انظر: معجم البلدان (2/ 112) . (3) أذرح: اسم بلد فى أطراف الشام من أعمال السراة، ثم من نواحى البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز. انظر: معجم البلدان (1/ 129) . (4) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وما أوردناه من السيرة. (5) ذكر البيهقى فى الدلائل (5/ 247، 248) .

فتح جندى سابور

الجنة أحسن من هذا» «1» . ثم قدم خالد بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته، فقال رجل من طيىء يقال له: بجير ابن يجرة، يذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر، وما صنعت البقر تلك الليلة حتى استخرجته لتصديق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبارك سائق البقرات إنى ... رأيت الله يهدى كل هادى فمن يك حائدا عن ذى تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد «2» فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة. وكان فى الطريق ماء يخرج من وشل يروى الراكب والراكبين والثلاثة، بواد يقال له: وادى المشقق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سبقنا إلى الماء فلا يستقين منه شيئا، حتى نأتيه» ، فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئا، فقال: «من سبقنا إلى هذا؟» فقيل: يا رسول الله فلان وفلان، فقال: «أو لم أنهكم أن تستقوا منه شيئا حتى آتيه؟» ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب فى يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء الله أن يدعو به، فانخرق من الماء كما يقول من سمعه ما إن حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن بقيتم أو من بقى منكم لتسمعن بهذا الوادى وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه» «3» . ومات فى هذه الغزوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله ذو البجادين المزنى، وإنما سمى ذا البجادين لأنه كان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك ويضيقون عليه حتى تركوه فى بجاد ليس عليه غيره، والبجاد: الكساء الغليظ الجافى، فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان قريبا منه شق بجاده باثنين فاتزر بواحد، واشتمل بالآخر، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ذو البجادين لذلك «4» .

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (4/ 1916/ 127) ، سنن النسائى (7/ 5715) ، مسند الإمام أحمد (3/ 111) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 166) ، دلائل النبوة للبيهقى (45/ 250، 251) . (2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 152) . (3) انظر الحديث فى: موطأ مالك (1/ 2/ 143) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 18) ، صحيح مسلم (4/ 10/ 1784، 1785) . (4) انظر: السيرة (4/ 154) .

حديث وقعة نهاوند

فكان عبد الله بن مسعود يحدث قال: قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار فى ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات، وإذا هم قد حفروا له ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى حفرته وأبو بكر وعمر يدليانه إليه وهو يقول: أدليا إلى أخاكما فدلياه، فلما هيأه لشقه قال: «اللهم إنى قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه» يقول عبد الله ابن مسعود: يا ليتنى كنت صاحب الحفرة! «1» . وقال أبو رهم الغفارى، وكان ممن بايع تحت الشجرة: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فسرت ذات ليلة معه قريبا منه وألقى علينا النعاس، فطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتى من راحلته عليه السلام فيفزعنى دنوها منه مخافة أن أصيب رجله فى الغرز فما استيقظت إلا لقوله: حس، فقلت: يا رسول الله استغفر لى: قال: «سر» . فجعل يسألنى عمن تخلف من بنى غفار فأخبره به، فقال وهو يسألنى: «ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط» «2» ، فحدثته بتخلفهم، قال: «فما فعل النفر السود الجعاد القصار؟» قلت: والله ما أعرف هؤلاء منا. قال: «بلى، الذين هم نعم بشبكة شدخ» ، فتذكرتهم فى بنى غفار، فلم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا، فقلت: يا رسول الله، أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرء نشيطا فى سبيل الله؟! إن أعز أهلى علىّ أن يتخلف عنى المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم» «3» . قال ابن إسحاق «4» : ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذى أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدا لذى العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه، فقال: «إنى على جناح سفر، وحال شغل» . أو كما قال صلى الله عليه وسلم: «ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه» ، فلما نزل بذى أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، أخا بنى سالم بن عوف، ومعن بن

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 369) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 18) . (2) الثطاط: جمع ثط، وهو قليل شعر اللحية والحاجبين. (3) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 180) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 192) ، مسند الإمام أحمد (4/ 350) . (4) انظر: السيرة (4/ 155- 156) .

عدى، أو أخاه عاصم بن عدى، أخا بنى العجلان، فقال: «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه» ، فخرجا سريعين حتى أتيا بنى سالم بن عوف رهط مالك فقال مالك لمعن: انظرنى حتى أخرج إليك بنار من أهلى. فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 107] إلى آخر القصة «1» . وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد كان تخلف عنه من تخلف من المنافقين، وأولئك الرهط الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة» ، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعذرهم الله ولا رسوله، فاعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة. فحدث «2» كعب بن مالك قال: ما تخلفت عن رسول الله فى غزوة غزاها قط، غير أنى تخلفت عنه فى غزوة بدر، وكانت غزوة لم يعاتب الله فيها ولا رسوله أحدا تخلف عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج يريد عير قريش فجمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لى بها مشهد بدر، وإن كانت غزوة بدر هى أذكر فى الناس منها. وكان من خبرى حين تخلفت عنه فى غزوة تبوك أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه فى تلك الغزوة، والله ما اجتمعت لى راحلتان قط حتى اجتمعنا لى فى تلك الغزوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حر شديد واستقبل سفرا بعيدا واستقبل غزو عدو كثير، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته وأخبرهم خبره بوجهه الذى يريد، والمسلمون من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ، يعنى بذلك الديوان، فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ذلك ما لم ينزل فيه وحى من الله تعالى، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار وأحبت الظلال فالناس إليها صعر، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه، وجعلت أغدو لأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة فأقول فى نفسى: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك

_ (1) انظر الحديث فى: تفسير ابن كثير (4/ 149) . (2) انظر: السيرة (4/ 157- 158) .

يتمادى بى حتى شمر بالناس الجد وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازى شيئا فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بى حتى أسرعوا وتفرط الغزو فههمت أن أرتحل فأدركهم، وليتنى فعلت، فلم أفعل، وجعلت إذا خرجت فى الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم يحزننى أنى لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه فى النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس فى القوم بتبوك: ما فعل كعب ابن مالك؟ فقال رجل من بنى سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر فى عطفيه. فقال له معاذ: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلا حضر لى بثى فجعلت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا؟ وأستعين على ذلك كل ذى رأى من أهلى، فلما قيل لى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عنى الباطل وعرفت أن لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدق. وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلفون من الأعراب فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله، حتى جئت فسلمت عليه فتبسم تبسم المغضب ثم قال لى: تعاله. فجئت أمشى حتى جلست بين يديه فقال لى: «ما خلفك ألم تكن ابتعت ظهرك؟» قلت: يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذبا لترضين عنى وليوشكن الله أن يسخط علىّ، ولئن حدثتك اليوم حديثا صادقا تجد على فيه إنى أرجو عقباى من الله فيه، ولا والله ما كان لى عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدقت فيه، فقم حتى يقضى فيك. فقمت. وثار معى رجال من بنى سلمة فاتبعونى فقالوا: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فو الله ما زالوا حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسى، ثم قلت لهم: هل لقى هذا أحد غيرى؟ قالوا:

نعم، رجلان قالا مثل ذلك وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمرى وهلال بن أمية الواقفى، فذكروا لى رجلين صالحين فيهما أسوة حسنة، فقمت حين ذكروهما لى، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لى نفسى والأرض فما هى بالأرض التى كنت أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباى فاستكانا فقعدا فى بيوتهما، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين واطوف بالأسواق لا يكلمنى أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة فأقول فى نفسى: هل حرك شفتيه برد السلام على أم لا! ثم أصلى قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتى نظر إلى، وإذا التفت نحوه أعرض عنى. حتى إذا طال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبى قتادة وهو ابن عمى وأحب الناس إلى فسلمت عليه فو الله ما رد على السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك الله هل تعلم أنى أحب الله ورسوله؟ فسكت فعدت فنا شدته، فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناى ووثبت فتسورت الحائط. ثم غدوت إلى السوق فبينا انا أمشى بالسوق إذا نبطى «1» يسأل عنى من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فجعل الناس يشيرون له إلى، حتى جاءنى فدفع إلى كتابا من ملك غسان فى سرقة من حرير فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نوسك. قلت حين قرأتها: وهذا من البلاء أيضا قد بلغ لى ما وقعت فيه أن طمع فى رجل من أهل الشرك فعمدت بها إلى تنور فسجرته بها. فأقمنا على ذلك حتى مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينى فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبى بمثل ذلك، فقلت لامرأتى: الحقى بأهلك وكونى فيهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر ما هو قاض. وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع إلا خادم، أفتكره ان أخدمه؟ قال: لا ولكن لا يقربنك. قالت: يا

_ (1) النبطى: واحد النبط وهم قوم من الأعاجم.

رسول الله، والله ما به من حركة، والله ما زال يبكى منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ولقد تخوفت على بصره. فقال لى بعض أهلى: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذنه فيها، ما أدرى ما يقول لى فى ذلك إذا استأذنته وأنا رجل شاب، قال: فلبثنا بعد ذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون من حين نهى رسول الله المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح خمسين ليلة على طهر بيت من بيوتنا على الحال التى ذكر الله، هنا قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت على نفسى، وقد كنت ابتنيت خيمة فى ظهر سلع، فكنت اكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أو فى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاءنى الفرج. قال: وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا وذهب نحو صاحبى مبشرون، وركض رجل إلى فرسا وسعى ساع من أسلم، حتى أوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءنى الذى سمعت صوته يبشرنى نزعت ثوبى فكسوتهما إياه بشارة، وو الله ما أملك يومئذ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقانى الناس يبشروننى بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله فحيانى وهنأنى، والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره. فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ يوم ولدتك أمك. قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. قال: فلما جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله، إن من توبتى إلى الله أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت: إنى ممسك سهمى الذى بخيبر. وقلت: يا رسول الله إن الله قد نجانى بالصدق، فإن من توبتى إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت. والله ما أعلم أحدا من الناس أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أفضل مما أبلانى، والله ما تعمدت من كذبة مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومى هذا، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقى.

ذكر إسلام ثقيف

وأنزل الله تبارك وتعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 177- 119] . قال كعب: فو الله ما أنعم الله على نعمة قط بعد أن هدانى للإسلام كانت أعظم فى نفسى من صدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله تبارك وتعالى قال فى الذين كذبوه شر ما قال لأحد: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التوبة: 95- 96] . قال: وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فعذرهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ما قضى، فلذلك قال الله تبارك وتعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وليس الذى ذكر من تخليفنا لتخلفنا عن الغزوة، ولكن لتخليفه إيانا وإرجائه أمرنا عن من حلف له واعتذر إليه فقبل منه «1» . ذكر إسلام ثقيف وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك فى رمضان وقدم عليه فى ذلك الشهر وفد ثقيف. وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتحدث قومه: إنهم قاتلوك. وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب المغازى (7/ 4418) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (4/ 53) مسند الإمام أحمد (3/ 454- 459) ، سنن الترمذى كتاب التفسير (3102) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 273- 279) ، مصنف عبد الرزاق (5/ 9744) .

الامتناع الذى كان منهم. فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم. ويقال: من أبصارهم. وكان فيهم كذلك محببا مطاعا. فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله، فقيل له: ما ترى فى دمك؟ قال: كرامة أكرمنى الله بها وشهادة ساقها إلى فليس فى إلا ما فى الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم فادفنونى معهم. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثله فى قومه لكمثل صاحب ياسين فى قومه» «1» . ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فمشى عمرو بن أمية أخو بنى علاج وكان من أدهى العرب إلى عبد ياليل بن عمرو حتى دخل داره وكان قبل مهاجرا له الذى بينهما سىء ثم أرسل إليه، أن عمرو بن أمية يقول لك: اخرج إلى فقال عبد ياليل للرسول: ويلك أعمرو وأرسلك إلى؟ قال: نعم وها هو ذا واقفا فى دارك. قال: إن هذا لشىء ما كنت أظنه، لعمرو كان أمنع فى نفسه من ذلك. فخرج إليه فلما رآه رحب به فقال له عمرو: إنه قد نزل بنا ما ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة فاتنظروا فى أمركم «2» . فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينها وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع؟ فائتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا كما أرسلوا عروة. فكلموا عبد ياليل وكان سن عروة، وعرضوا عليه ذلك فأبى أن يفعل وخشى أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة فقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معى رجالا. فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بنى مالك فيكونوا ستة، فبعثوا مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب، وشر حبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب. ومن بنى مالك: عثمان بن أبى العاص وأوس بن عوف ونمير بن خرشة. فخرج بهم عبد ياليل وهو ناب القوم وصاحب أمرهم، ولم يخرج بهم إلا خشية من

_ (1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 615، 616) ، تاريخ الطبرى (2/ 179) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 299، 300) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 386) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 312) . (2) انظر: السيرة (4/ 164- 166) .

مثل ما صنع بعروة بن مسعود لكى يشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه، فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة ألفوا بها المغيرة بن شعبة يرعى فى نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت رعيتها نوبا عليهم، فلما رآهم ترك الركاب عند الثقفيين وضبر يشتد «1» يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم، فلقيه أبو بكر الصديق قبل أن يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقدومهم يريدون البيعة والإسلام وأن يشترطوا شروطا ويكتتبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا. فقال أبو بكر رضى الله عنه للمغيرة: أقسمت عليك بالله لا تسبقنى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه. ففعل المغيرة. فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة فى ناحية مسجده كما يزعمون فكان خالد بن سعيد هو الذى يمشى بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتتبوا كتابهم، كتبه خالد بيده وكانوا لا يطعمون طعاما ياتيهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم. وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية وهى اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما كسر أوثانكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فلا خير فى دين لا صلاة فيه» ، [فقالوا: يا محمد، فسنؤتيكها، وإن كانت دناءة] «2» ، فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا أمر عليهم عثمان بن أبى العاص وكان من أحدثهم سنا فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنى قد رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه فى الإسلام وتعلم القرآن «3» .

_ (1) ضبر يشتد: أى وثب، ويقال: ضبر الفرس إذا جمع قوائمه ووثب. (2) ما بين المعقوفتين سقط فى الأصل، وما أوردناه من السيرة. (3) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (3/ 3026) ، مسند الإمام أحمد (4/ 218) .

فحدث «1» عثمان بن أبى العاص قال: كان من آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثنى على ثقيف أن قال: «يا عثمان تجاوز فى صلاتك واقدر الناس بأضعفهم فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة» «2» . فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فى هدم الطاغية فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك عليه أبو سفيان وقال: ادخل أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذى الهدم، فلما دخل علاها يضربها بالمعول وقام دونه بنو معتب خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسرا «3» يبكين عليها ويقلن: لتبكين دفاع ... أسلمها الرضاع «4» لم يحسنوا المصاع فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبى سفيان وحليها مجموع ومالها من الذهب والجزع. وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شىء أبدا. فأسلما فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: توليا من شئتما. فقالا: نتولى الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وخالكما أبا سفيان بن حرب» . فقالا: وخالنا أبا سفيان، فلما أسلم أهل الطائف ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان والمغيرة إلى هدم الطاغية سأل أبو مليح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضى عن أبيه عروة دينا كأن عليه من مال الطاغية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» . فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقضه، وعروة والأسود أخوان لأب وأم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأسود مات مشركا» . فقال قارب: يا رسول الله، لكن تصل مسلما ذا قرابة، يعنى نفسه، إنما الدين على وإنما أنا الذى أطلب به. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضى دين عروة والأسود من مال الطاغية، فلما جمع

_ (1) انظر: السيرة (4/ 167) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 21) ، صحيح مسلم (1/ 187/ 342) . (3) حسرا: بضم الحاء وتشديد السين مفتوحة، جمع حاسرة، وهى المكشوفة الوجه. (4) دفاع: هى صيغة مبالغة من الدفع، وإنما سموا طاغيتهم دفاعا لأنهم كانوا يعتقدون أن الأصنام تدفع عنهم البلاء والمحن. الرضاع: جمع راضع وأريد بهم اللئام.

المغيرة مالها ذكر أبا سفيان بذلك فقضى منه عنهما «1» . هكذا ذكر ابن إسحاق إسلام أهل الطائف بعقب غزوة تبوك فى رمضان من سنة تسع قبل حج أبى بكر بالناس آخر تلك السنة. وجعل ابن عقبة قدوم عروة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتله فى قومه وإسلام ثقيف كل ذلك بعد صدر أبى بكر عن حجه. وبين حديثه وحديث ابن إسحاق بعض اختلاف، رأيت ذكر حديث ابن عقبة وإن كان أكثره معادا لأجل ذلك الاختلاف، ثم أذكر بعده حجة أبى بكر فى الموضع الذى ذكرها فيه ابن إسحاق. قال موسى بن عقبة: فلما صدر أبو بكر من حجه بالناس قدم عروة بن مسعود الثقفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الرجوع إلى قومه فقال له: إنى أخاف ان يقتلوك، قال: لو وجدونى نائما ما أيقظونى. فأذن له فرجع إلى الطائف وقدمها عشاء فجاءته ثقيف يسلمون عليه فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فاتهموه وأعضوه وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاه منهم فخرجوا من عنده حتى إذا أسحر وسطع الفجر قام على غرفة فى داره فأذن بالصلاة وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتله: «مثل عروة مثل صاحب ياسين، دعا قومه إلى الله، فقتلوه» «2» . وأقبل بعد قتله وفد من ثقيف بضعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف، فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ، وفيهم عثمان بن أبى العاص وهو أصغر القوم حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يريدون الصلح حين رأوا أن قد فتحت مكة وأسلم عامة العرب، فقال المغيرة بن شعبة: يا رسول الله، أنزل على قومى أكرمهم بذلك فإنى حديث الجرم فيهم. قال: لا أمنعك أن تكرم قومك ولكن تنزلهم حيث يسمعون القرآن. فأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد وبنى لهم خياما لكى يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب لم يذكر نفسه، فلما سمعه وفد ثقيف قالوا: يأمرنا ان نشهد أنه رسول الله ولا يشهد به فى خطبته! فلما بلغه قولهم قال: «فإنى أول

_ (1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 504، 505) . (2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 615) ، طبقات ابن سعد (5/ 370) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 386) ، المعجم الكبير للطبرانى (17/ 148) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 262) ، كنز العمال للمتقى الهندى (33615) .

من يشهد أنى رسول الله» «1» . وكانوا يغدون على رسول الله كل يوم ويخلفون عثمان بن أبى العاص على رحالهم لأنه أصغرهم، فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذين واستقرأه القرآن، فاختلف إليه عثمان مرارا حتى فقه فى الدين وعلم. وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد إلى أبى بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبه. فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام، فقال له كنانة ابن عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا ثم نرجع إليك؟ فقال: «نعم، إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم وإلا فلا قضية ولا صلح بينى وبينكم» . قالوا: أرأيت الزنا؟ فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه. قال: «هو عليكم حرام إن الله» يقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] . قالوا: فالربا؟ قال: «والربا» . قالوا: إنه أموالنا كلها. قال: «فلكم رؤس أموالكم» ، قال الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] . قالوا فالخمر؟ فإنها عصير أرضنا ولا بد لنا منها. قال: «إن الله قد حرمها» ، قال الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] . فارتفع القوم فخلا بعضهم إلى بعض وقالوا: ويحكم إنا نخاف إن خالفناه يوما كيوم مكة، انطلقوا فأعطوه ما سأل وأجيبوه. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لك ما سألت. أرأيت الربة ماذا نصنع فيها؟ قال: «اهدموها» . قالوا: هيهات! لو تعلم الربة أنا نريد هدمها لقتلت أهلنا. فقال عمر: ويحك يا بن عبد ياليل ما أحمقك إنما الربة حجر، قال: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب. ثم قال: يا رسول الله، تول أنت هدمها، فأما نحن فلن نهدمها أبدا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فسأ بعث إليكم من يكفيكم هدمها» . قال كنانة: ائذن لنا قبل رسولك ثم ابعث فى آثارنا، فإنى أعلم بقومى، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرمهم وحملهم. قالوا: يا رسول الله، أمر علينا رجلا يؤمنا، فأمر عليهم عثمان بن أبى العاص «2» لما رأى من حرصه على الإسلام وقد كان علم سورا من القرآن قبل أن يخرج.

_ (1) ذكره البيهقى فى دلائل النبوة (5/ 300) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1791) ، الإصابة الترجمة رقم (5457) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3581) ، تهذيب الكمال (6/ 212) ، تهذيب التهذيب (7/ 128، 129) ، خلاصة تذهيب الكمال (913) ، شذرات الذهب (1/ 36) ، سير أعلام النبلاء (2/ 374) .

وقال كنانة «1» لأصحابه: أنا أعلمكم بثقيف فاكتموهم إسلامكم وخوفوهم الحرب والقتال وأخبروهم أن محمدا سألنا امورا أبيناها عليه، سألنا أن نهدم اللات ونبطل أموالنا فى الربا ونحرم الخمر. حتى إذا دنوا من الطائف خرجت إليهم ثقيف يتلقونهم، فلما رأوهم قد ساروا العنق وقطروا الإبل وتغشوا ثيابهم كهيئة قوم قد حزنوا أو كذبوا قالت ثقيف بعضهم لبعض: ما جاؤكم بخير. فلما دخلوا حصنهم عمدوا للآت فجلسوا عندها، واللات بيت كانوا يعبدونه ويسترونه ويهدون له الهدى يضاهون به بيت الله، ثم رجع كل واحد منهم إلى أهله فجاء كل رجل حامية من ثقيف فسألوه: ماذا جئتم به؟ قالوا: أتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من أمره ما شاء قد ظهر بالسيف وأداخ العرب ودان له الناس، فعرض علينا أمورا شدادا: هدم اللات وترك الأموال فى الربا إلا رؤس أموالكم وحرم الخمر والزنا. قالت ثقيف: والله لا نقبل هذا أبدا. قال الوفد: أصلحوا السلاح وتهيئوا للقتال ورموا حصنكم. فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة تريد القتال ثم ألقى الله الرعب فى قلوبهم وقالوا: والله ما لنا به طاقة أداخ العرب كلها فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه عليه. فلما رأى الوفد أنهم قد رعبوا واختاروا الأمن على الخوف وعلى الحرب، قالوا لهم: إنا قد فرغنا من ذلك، قد قاضيناه وأسلمنا وأعطانا ما أحببنا واشترطنا ما أردنا وجدناه اتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم وقد بورك لنا ولكم فى مسيرنا إليه وفيما قاضيناه عليه. فقالت ثقيف: فلم كتمتمونا هذا الحديث وغممتمونا بذلك أشد الغم؟ قالوا: أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا مكانهم واستسلموا. فمكثوا أياما ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر عليهم خالد بن الوليد وفيهم المغيرة بن شعبة، فلما قدموا عليهم عمدوا للات ليهدموها وانكفأت ثقيف كلها الرجال والنساء والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال وهم لا يرون أنها تهدم ويظنون أنها ستمتنع. فقام المغيرة بن شعبة «2» وقال لأصحابه: لأضحكنكم من ثقيف فأخذ الكرزن

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2243) ، الإصابة الترجمة رقم (7478) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4505) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2512) ، الإصابة الترجمة رقم (8197) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5071) ، التاريخ لابن معين (2/ 579) ، ترتيب الثقات (437) ، الطبقات لابن سعد (2/ 284) ، أنساب الأشراف (1/ 168) ، مروج الذهب (1656) ، الكامل فى التاريخ-

ذكر حج أبى بكر الصديق رضى الله عنه بالناس سنة تسع وتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب بعده بسورة براءة

فضرب به ثم أخذ يرتكض فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا: أبعد الله المغيرة قد قتلته الربة! وفرحوا حين رأوه ساقطا وقالوا: من شاء منكم فليقترب ويجهد على هدمها فو الله لا تستطاع أبدا. فوثب المغيرة فقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف! إنما هى لكاع حجارة ومدر! ثم ضرب الباب فكسره ثم علا على سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض وجعل صاحب المفاتيح يقول: ليغضبن الأساس فليخسفن بهم. فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد: دعنى أحفر أساسها. فحفروها حتى أخرجوا ترابها وأخذوا حليها وثيابها. فبهتت ثقيف. وانصرف الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه وحمد الله على نصر نبيه وأغزاز دينه. ذكر حج أبى بكر الصديق رضى الله عنه بالناس سنة تسع وتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب بعده بسورة براءة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، ونزلت بعد بعثه إياه «براءة» فى نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذى كانوا عليه فيما بينه وبينهم: أن لا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف على أحد فى الشهر الحرام، وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين أهل الشرك، وكان بين ذلك عهود خصائص بينه وبين قبائل العرب إلى آجال مسماة فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عن تبوك وفى قول من قال منهم فكشف الله سرائر قوم كانوا يستخفون بغير ما يظهرون «1» . فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال: «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى» ، ثم دعا على بن أبى طالب فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن فى الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى: أنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك

_ - (3/ 461) ، المعين من طبقات المحدثين (124) ، العبر (1/ 56) ، مرآة الجنان (1/ 124) ، سير أعلام النبلاء (3/ 21) ، تقريب التهذيب (2/ 269) ، خلاصة تذهيب التهذيب (329) ، شذرات الذهب (1/ 56) ، العقد الثمين (7/ 255) . (1) انظر: السيرة (4/ 170) .

السرايا

ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته» ، فخرج على على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور. ومضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب فى تلك السنة على منازلهم من الحج التى كانوا عليها فى الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن فى الناس بالذى أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فهو له إلى مدته، فلم يحجج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان «1» . وكانت براءة تسمى فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المبعثرة» لما كشفت من سرائر الناس، وكانت تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين غزاة: غزوة ودان وهى غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط من ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى يطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر التى قتل الله فيها صناديد قريش، ثم غزوة بنى سليم حين بلغ الكدر، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب، ثم غزوة غطفان إلى نجد، وهى غزوة ذى أمر، ثم غزوة بحران معدن بالحجاز، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بنى النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نخل، ثم غزوة بدر الآخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بنى قريظة، ثم غزوة بنى لحيان من هذيل، ثم غزوة ذى قرد، ثم غزوة بنى المصطلق من خزاعة، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم غزوة الفتح، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك، قاتل صلى الله عليه وسلم فى تسع غزوات منها: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، وبنى المصطلق وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف. وهذا الترتيب عن ابن إسحاق «2» ، وخالفه ابن عقبه فى بعضه. السرايا وكانت بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ثمانية، وثلاثين من بين بعث وسرية: غزوة

_ (1) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 684) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 37) ، وله شواهد منها ما فى مسند الإمام أحمد (2/ 299) من طريق: محرز بن أبى هريرة عن أبيه، قال: «كنت مع على بن أبى طالب فكنت أنادى حتى صحل صوتى» . (2) انظر: السيرة (4/ 233) .

عبيدة بن الحارث أسفل ثنية المرة، وغزوة حمزة بن عبد المطلب ساحل البحر من ناحية العيص، وبعض الناس يقدم غزوة حمزة قبل غزوة عبيدة. وغزوة سعد بن أبى وقاص الخرار، وغزوة عبد الله بن جحش نخلة، وغزوة زيد بن حارثة القردة، وغزوة محمد بن مسملة كعب بن الأشرف، وغزوة مرثد بن أبى مرثد الغنوى الرجيع، وغزوة المنذر بن عمرو بئر معونة، وغزوة أبى عبيدة بن الجراح ذا القصة، من طريق العراق، وغزوة عمر بن الخطاب تربة من أرض بنى عامر، وغزوة على ابن أبى طالب اليمن، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبى كلب ليث، الكديد فأصاب بنى الملوح «1» . وكان من حديثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه فى سرية وأمره أن يشن الغارة على بنى الملوح وهم بالكديد، قال جندب بن مكيث الجهنى، وكان مع غالب فى سريته هذه: فخرجنا حتى إذا كنا بقديد لقينا الحارث بن مالك وهو ابن البرصاء الليثى فأخذناه فقال: إنى جئت أريد الإسلام وما خرجت إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا له: إن تك مسلما فلن يضرك رباط ليلة، وإن تك على غير ذلك كنا قد استوثقنا منك فشددناه رباطا ثم خلفنا عليه رجلا من أصحابنا وقلنا له: إن عازك «2» فاحتز رأسه. قال: ثم سرنا حتى اتينا الكديد عند غروب الشمس فكمنا فى ناحية الوادى وبعثنى أصحابى ربيئة لهم «3» ، فخرجت حتى آتى تلا مشرفا على الحاضر، فأسندت فيه فعلوت فى رأسه فنظرت إلى الحاضر فو الله إنى لمنبطح على التل إذ خرج رجل منهم من خبائه فقال لامرأته: إنى لأرى على التل سوادا ما رأيته فى أول يومى فانظرى إلى أوعيتك هل تفقدين شيئا لا تكون الكلاب جرت بعضها. فنظرت فقالت: لا والله ما أفقد شيئا. قال: فناولينى قوسى وسهمين. فناولته فأرسل سهما فو الله ما أخطأ جنبى فأنزعه وأضعه وثبت مكانى. ثم أرسل الآخر فوضعه فى منكبى فأنزعه وأضعه وثبت مكانى. فقال لامرأته: لو كان ربيئة تحرك لقد خالطه سهماى، لا أبالك، إذا أصبحت فابتغيهما فخذيهما لا يمضغهما الكلاب على. ثم دخل. وأمهلناهم، حتى إذا اطمأنوا وناموا، وكان فى وجه السحر، شننا عليهم الغارة

_ (1) انظر: السيرة (233، 234) . (2) عازك: أى غالبك، ومنه قوله تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أى غلبنى. (3) ربيئة القوم: أى طليعة القوم الذى ينظر لأصحابه.

فقتلنا، واستقنا النعم، وخرج صريخ القوم، فجاءنا دهم لا قبل لنا به، ومضينا بالنعم، ومررنا بابن البرصاء وصاحبه، فاحتملناهما معنا، وأدركنا القوم حتى قربوا منا فما بيننا وبينهم إلا وادى قديد، فأرسل الله الوادى بالسيل من حيث شاء الله تبارك وتعالى، من غير سحابة نراها، ولا مطر، فجاء بشىء ليس لأحد به قوة، ولا يقدر على أن يجاوزه، فوقفوا ينظرون إلينا، وإنا لنسوق نعمهم، وما يستطيع منهم رجل أن يجيز إلينا، حتى فتناهم، فقدمنا بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . وغزوة على بن أبى طالب بنى عبد الله بن سعد من أهل فدك، وغزوة أبى العوجاء السلمى أرض بنى سليم، فأصيب بها هو وأصحابه جميعا، وغزوة عكاشة بن محصن الغمرة، وغزوة أبى سلمة بن عبد الأسد قطنا ماء من مياه بنى أسد، من ناحية نجد، قتل فيها مسعود بن عروة، وغزوة محمد بن مسلمة القرطاء من هوازن، وغزوة بشير بن سعد بنى مرة بفدك، وغزوته أيضا بناحية خيبر، وغزوة زيد بن حارثة الجموح، من أرض بنى سليم، وغزوته أيضا جذام، من أرض خشين، ويقال: من أرض حسمى «2» . وكان من حديثها كما حدث رجال من جذام كانوا علماء بها: أن رفاعة بن زيد الجذامى لما قدم على قومه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه يدعوهم إلى الإسلام فاستجابوا له لم يلبث أن قدم دحية بن خليفة الكلبى من عند قيصر صاحب الروم، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه تجارة له، حتى إذا كان بواد من أوديتهم أغار عليه الهنيد بن عوص الضليعى بطن منهم وابنه عوص، فأصابا كل شىء كان معه، فبلغ ذلك قوما من بنى الضبيب رهط رفاعة ممن كان أسلم وأجاب، فنفروا إلى الهنيد وابنه فاستنفذوا ما كان فى أيديهما فردوه على دحية، فخرج دحية حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره، واستسقاه دم الهنيد وابنه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وبعث معه جيشا فأغاروا فجمعوا ما وجدوا من مال أو ناس وقتلوا الهنيد وابنه ورجلين معهما، فلما سمعت بذلك بنو الضبيب ركب نفر منهم فيهم حسان بن ملة فلما وقفوا على زيد بن حارثة قال حسان: إنا قوم مسلمون، فقال له زيد: فاقرأ أم الكتاب، فقرأها حسان، فقال زيد بن حارثة: نادوا فى الجيش: إن الله قد حرم علينا ثغرة القوم التى جاؤا منها إلا من ختر، وإذا أخت حسان فى الأسارى فقال له زيد: خذها، فقالت أم الفزر الصلعية: أتنطلقون ببناتكم وتذرون أمهاتكم؟! فقال أحد بنى الخصيب: إنها بنو

_ (1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 119) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 203) . (2) انظر: السيرة (4/ 236) .

ذكر الانسياح فى بلاد فارس، وعمل المسلمين به بإذن عمر رضى الله عنه، فيه بعد منعه إياهم، وما تبع ذلك من الفتوح فى بقية خلافته وقتال الترك والديلم وغيرهم

الضبيب وسحر ألسنتهم سائر اليوم فسمعها بعض الجيش فأخبر بها زيدا فأمر بأخت حسان وقد كانت أخذت بحقوقى أخيها ففكت يداها من حقويه وقال لها: اجلسى مع بنات عمك حتى يحكم الله فيكن حكمه. فرجعوا ونهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذى جاؤا منه فأمسوا فى أهليهم، فلما شربوا عتمتهم ركبوا إلى رفاعة بن زيد فصبحوه فقال له حسان بن ملة: إنك لجالس تحلب المعزى ونساء جذام أسارى قد غرها كتابك الذى جئت به، فدعا رفاعة بجمل له، فشد عليه رحله وهو يقول: هل أنت حى أو تنادى حيا «1» ثم غدا وهم معه مبركين، فساروا إلى جوف المدينة ثلاث ليال، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآهم ألاح إليهم بيده أن تعالوا. من وراء الناس، فلما استفتح رفاعة بن زيد المنطق قال رجل من الناس: يا رسول الله، إن هؤلاء قوم سحرة. فرددها مرتين. فقال رفاعة: رحم الله من لم يحذنا فى يومنا هذا إلا خيرا. ثم دفع رفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه الذى كان كتب له، فقال: دونك يا رسول الله قديما كتابه حديثا غدره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأه يا غلام وأعلن. فلما قرأ كتابه استخبرهم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع بالقتلى؟ ثلاث مرات فقال رفاعة: أنت أعلم يا رسول الله لا نحرم عليك حلالا ولا نحل لك حراما. فقال أبو زيد بن عمرو أحد من قدم مع رفاعة: أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا ومن قتل فهو تحت قدمى هذه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق أبو زيد اركب معهم يا على» ، فقال له على: يا رسول الله، إن ريدا لن يطيعنى، قال: «فخذ سيفى هذا» ، فأعطاه سيفه. فخرجوا فإذا رسول الله لزيد بن حارثة على ناقة من إبلهم، فأنزلوه عنها فقال: «يا على ما شأنى؟» فقال: ما لهم عرفوه فأخذوه، ثم ساروا فلقوا الجيش، فأخذوا ما بأيديهم حتى كانوا ينتزعون لبيد المرأة من تحت الرحل «2» . وغزوة زيد بن حارثة أيضا الطرف من ناحية نخل من طريق العراق، وغزوته أيضا وادى القرى لقى فيه بنى فزارة فأصيب بها ناس من أصحابه وارتث زيد من بين القتلى فلما قدم زيد آلى أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بنى فزارة، فلما استبل من

_ (1) انظر البيت فى: السيرة (4/ 238) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (5/ 218) ، طبقات ابن سعد (2/ 88) .

جراحه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بنى فزارة فى جيش فقتلهم بوادى القرى وأصاب فيهم. وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين، إحداهما التى أصاب فيها اليسير بن رزام ويقال: ابن رازم «1» ، وكان من حديثه أنه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة فى نفر من أصحابه منهم عبد الله بن أنيس حليف بنى سلمة، فلما قدموا عليه كلموه وقربوا له وقالوا له: إنك إن قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملك وأكرمك. فلم يزالوا به حتى خرج معهم فى نفر من يهود، فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره، حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر على ستة أميال ندم اليسير على مسيره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففطن له عبد الله بن أنيس وهو يريد السيف فاقتحم به ثم ضربه بالسيف فقطع رجله وضربه اليسير بمخرش فى يده من شوحط فأمه ومال كل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحبه من يهود فقتله إلا رجلا واحدا أفلت على رجليه. فلما قدم عبد الله بن أنيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه «2» . وغزوة عبد الله بن عتيك خيبر فأصاب بها أبا رافع بن أبى الحقيق. وغزوة «3» عبد الله بن أنيس خالد بن سفيان بن نبيح بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وهو بنخلة أبو بعرنة يجمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليغزوه، فقتله. قال عبد الله بن أنيس: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى: «إنه بلغنى أن ابن سفيان بن نبيح الهذلى يجمع لى الناس ليغزونى وهو بنخلة أبو بعرنة فأته فاقتله» ، فقلت: يا رسول الله، انعته لى حتى أعرفه، قال: «إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان، وآية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة» ، قال: فخرجت متوشحا سيفى حتى دفعت إليه وهو فى ظعن يرتاد لهن منزلا وكان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن تكون بينى وبينه مجاولة تشغلنى عن الصلاة فصليت وأنا أمشى نحوه وأومىء برأسى، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك، قال: أجل أنا فى ذلك.

_ (1) انظر: السيرة (4/ 241- 242) . (2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 219) ، ابن سعد فى الطبقات (2/ 92) ، وليس فيه: «تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه» . (3) انظر: السيرة (242- 243) .

ذكر الخبر عن أصبهان

قال: فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكننى حملت عليه بالسيف فقتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه منكبات عليه. فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآنى قال: «أفلح الوجه» ! قلت: قد قتلته يا رسول الله، قال: «صدقت» ، ثم قام بى فأدخلنى بيته فأعطانى عصا، فقال: «أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس» ، قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه لعصا؟ قلت: أعطانيها رسول؛ الله صلى الله عليه وسلم وأمرنى أن أمسكها عندى. قالوا: أفلا ترجع إليه فتسأله لم ذلك؟ فرجعت فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتنى هذه العصا؟ قال: «آية بينى وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصرون يومئذ» ، فقرنها عبد الله بن أنيس بسيفه فلم تزل معه حتى مات ثم أمر بها فضمت فى كفنه ثم دفنا جميعا «1» . وقال عبد الله فى ذلك: تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفرى كل جيب مقدد تناولته والظعن خلفى وخلفه ... بأبيض من ماء الحديد مهند عجوم لهام الدار عين كأنه ... شهاب غضبا من ملهب متوقد «2» أقول له والسيف يعج رأسه ... أنا ابن أنيس فارسا غير قعدد* وقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف على دين النبى محمد وكنت إذا هم النبى بكافر ... سبقت إليه باللسان وباليد ومن البعوث أيضا: بعث مؤتة حيث أصيب جعفر بن أبى طالب وأصحابه، وغزوة كعب بن عمير الغفارى ذات أطلاح من أرض الشام أصيب بها هو وأصحابه جميعا، وغزوة عيينة بن حصن بنى العنبر من تميم. وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم، فأغار عليهم، وأصاب منهم أناسا، وسبى منهم أناسا، وقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن علىّ رقبة من ولد

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 469) ، سنن أبو داود (1249) ، صحيح ابن حبان (9/ 7116) ، سنن البيهقى (3/ 256) ، صحيح ابن خزيمة (2/ 982) . (2) عجوم: هو من صفات الأبيض وهى صيغة مبالغة من العجم وهو العض. الغضا: شجر يشتد التهاب النار فيه. (*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيت آخر لم يذكره هنا، وهو: أنا ابن الذى لم ينزل الدهر قدره ... رحيب فناء الدار غير مزند انظر: السيرة (4/ 244) .

إسماعيل، قال: «هذا سبى بنى العنبر يقدم الآن، فنعطيك منهم إنسانا فتعتقينه» «1» . فلما قدم بسبيهم ركب فيهم وفد من بنى تميم منهم ربيعة بن رفيع، وسبرة بن عمرو والقعقاع بن معبد ووردان بن محرز وقيس بن عاصم ومالك بن عمرو والأقرع بن حابس وفراس بن حابس، فكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فأعتق بعضا، وأفدى بعضا، وذلك هو الذى عنى الفرزدق بقوله «2» : وعند رسول الله قام ابن حابس ... بخطة سوار إلى المجد حازم له أطلق الأسرى التى فى حباله ... مغللة أعناقها والشكائم كفى أمهات الخالفين عليهم ... غلاء المفادى أو سهام المقاسم وغزوة غالب بن عبد الله الكليبى أرض بنى مرة وفيها قتل أسامة بن زيد حليفا لهم يقال له مرداس بن نهيك بن الحرقة من جهينة، قال: أدركته أنا ورجل من الأنصار، فلما شهرنا عليه السلاح قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه. هكذا ذكر ابن إسحاق فى حديثه «3» . وخرج مسلم فى صحيحه عن أسامة بن زيد قال: فكف عنه الأنصارى وطعنته برمحى حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟» قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذا، فقال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟!» فما زال يكررها على حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم «4» . وفى بعض طرق مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: «لم قتلته؟» قال: يا رسول الله، أوجع فى المسلمين وقتل فلانا وفلانا وفلانا وسمى له نفرا وإنى حملت عليه فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقتلته؟» قال: نعم، قال: «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» قال: يا رسول الله استغفر لى، قال: «وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة!» فجعل لا يزيده على أن يقول:

_ (1) ذكره ابن حجر فى فتح البارى (5/ 204) . (2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 245) . (3) انظر: السيرة (4/ 246) ، والحديث أخرجه الطبرى فى تاريخه (2/ 142) ، المتقى الهندى فى الكنز (1462) . (4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 183، 9/ 4) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (159) ، فتح البارى لابن حجر (12/ 191) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 222) .

ذكر فتح همذان ثانية وقتال الديلم

«كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة» «1» . وفى حديث ابن إسحاق أن أسامة قال: أنظرنى يا رسول الله، إنى أعاهد الله أن لا أقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله أبدا «2» . وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بنى عذره، وكان من حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه يستنفر العرب إلى الشام، وذلك أن أم أبيه العاص بن وائل كانت امرأة من بلى فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يستألفهم لذلك، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له: السلسل وبذلك سميت تلك الغزوة غزوة ذات السلاسل، خاف فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح فى المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر وعمر وقال لأبى عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو: إنما جئت مددا لى. قال أبو عبيدة: لا، ولكنى على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه. فقال له عمرو: بل أنت مدد لى. فقال له أبو عبيدة وكان رجلا لينا هينا سهلا عليه أمر الدنيا: يا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لى لا تختلفا وإنك إن عصيتنى أطعتك، قال: فإنى الأمير عليك وأنت مدد لى. قال: فدونك. فصلى عمرو بالناس «3» . وحدث «4» رافع بن أبى رافع الطائى وهو رافع بن عميرة قال: كنت امرآ نصرانيا فلما أسلمت خرجت فى تلك الغزاة يعنى غزوة ذات السلاسل فقلت: والله لأختارن لنفسى صاحبا فصحبت أبا بكر فكنت معه فى رحله فكانت عليه عباءة له فدكية «5» فكان إذا نزلنا بسطها وإذا ركبنا لبسها ثم شكها عليه بخلال له وذلك الذى يقول اهل نجد حين ارتدوا كفارا بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم ومبايعة الناس بعده لأبى بكر: أنحن نبايع ذا العباءة! جهلوا يومئذ أن فضل الكمال ليس فى ظاهر البهاء وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، قال رافع: فلما دنونا من المدينة قافلين، قلت: يا أبا بكر إنما صحبتك لينفعنى

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الإيمان (159) ، فتح البارى لابن حجر (12/ 196) . (2) انظر: السيرة (4/ 246) . (3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (7/ 3662، 4358) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 399، 400) ، صحيح مسلم (4/ 8/ 1856) . (4) انظر: السيرة (4/ 247- 248) . (5) فدكية: منسوبة إلى فدك، وهو موضع بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان وقيل: ثلاثة. انظر: معجم البلدان (4/ 238) .

الله بك فانصحنى وعلمنى، قال: لو لم تسلنى ذلك لفعلت، آمرك أن توحد الله لا تشرك به شيئا، وأن تقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج هذا البيت وتغتسل من الجنابة ولا تتأمرن على رجلين من المسلمين أبدا. قال قلت: يا أبا بكر، أما أنا والله فإنى أرجو أن لا أشرك بالله أبدا، وأما الصلاة فلن أتركها أبدا إن شاء الله، وأما الزكاة فإن يكن لى مالى أؤديها إن شاء الله، وأما الحج فإن أستطع أحج إن شاء الله، وأما الجنابة فسأغتسل منها إن شاء الله وأما الإمارة فإنى رأيت الناس يا أبا بكر لا يشرفون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الناس إلا بها فلم تنهى عنها؟ قال: إنما استجهدتنى لجهده لك، وسأخبرك عن ذلك: إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين فجاهد فيه حتى دخل الناس فيه طوعا وكرها، فلما دخلوا فيه كانوا عواذ الله وجيرانه وفى ذمته، فإياك أن تخفر الله» فى جيرانه فيتبعك الله فى خفرته، فإن احدكم يخفر فى جاره فيظل نائتا «2» عضله غضبا لجاره إن أصيب له شاة أو بعير، فالله أشد غضبا لجاره. قال: ففارقته على ذلك، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أبو بكر على الناس قدمت عليه فقلت: يا أبا بكر، ألم تكن نهيتنى عن أن أتامر على رجلين من المسلمين؟ قال: بلى، وأنا الآن أنهاك عن ذلك. فقلت له: فما حملك على أن تلى أمر الناس؟ قال: لا أجد من ذلك بدا خشيت على أمة محمد الفرقة «3» . وفى هذه الغزاة أيضا صحب عوف بن مالك الأشجعى أبا بكر وعمر رضى الله عنهما قال: فمررت بقوم على جزور لهم قد نحروها وهم لا يقدرون على أن يعضوها فقلت: أتعطوننى منها عشيرا على أن أقسمها بينكم؟ قالوا: نعم. فأخذت الشفرتين فجزأتها وأخذت منها جزء فحملته إلى أصحابى فاطبخناه فأكلناه، فقال أبو بكر وعمر: أنى لك هذا اللحم يا عوف؟ فأخبرتهما خبره فقالا: والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا، ثم قاما يتقيآن ما فى بطونهما من ذلك. فلما قفل الناس كنت أول قادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئته وهو يصلى فى بيته فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. قال: أعوف بن مالك؟ قلت: نعم بأبى أنت

_ (1) تخفر الله: أى تنقض عهده. (2) فيضل نائتا: أى يضل مرتفعا. (3) انظر: السيرة (4/ 248) .

فتح الرى

وأمى يا رسول الله. قال: أصاحب الجزور؟ ولم يزدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك «1» . وغزوة ابن أبى حدرد وأصحابه بطن إضم، وكانت قبل الفتح قال عبد الله بن أبى حدرد: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم «2» فى نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعى على قعود له معه متيع له ووطب من لبن فسلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة قتله لشىء كان بينهما وأخذ بعيره ومتيعه. فلما قدمنا على رسول الله وأخبرناه الخبر نزل فينا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النساء: 94] إلى آخر الآية «3» . وعن «4» ضميرة بن سعد السلمى عن أبيه، وكان شهد حنينا قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ثم عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها وهو بحنين فقام إليه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن يختصمان فى عامر بن الأضبط، وعيينة يطلب بدمه. وهو يومئذ رئيس غطفان، والأقرع يدفع عن محلم بن جثامة لمكانه من خندف، فتداولا الخصومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع، فسمعنا عيينة يقول: والله يا رسول الله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بل تأخذون الدية خمسين فى سفرنا هذا وخمسين إذا رجعنا. وهو يأبى عليه ثم ذكر تكرار رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله هذا، فقبلوا الدية ثم قالوا: أين صاحبكم هذا يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام رجل آدم ضرب طويل عليه حلة له قد كان تهيأ فيها للقتل حتى جلس بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما اسمك؟ فقال: أنا محلم ابن جثامة، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة. ثلاثا، فقام يتلقى دمعه بفضل ردائه قال: فأما نحن فنقول فيما بيننا إنا لنرجو أن يكون

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 97) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 402) . (2) إضم: بالكسر ثم الفتح، ماء يطؤه الطريق بين مكة واليمامة عند السمينة، ويقال: هو واد بجبال تهامة، وهو الوادى الذى فيه المدينة ويسمى من عند المدينة: القناة، ومن أعلى منها عند السد يسمى الشظاة، ومن عند الشظاة إلى أسفل يسمى إضما إلى البحر. انظر: معجم البلدان (1/ 214، 215) . (3) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (5/ 142) ، مسند الإمام أحمد (6/ 11) ، مجمع الزوائد للهيثمى (7/ 8) ، أسباب النزول للواحدى (142) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 11) . (4) انظر: السيرة (4/ 250) .

ذكر فتح قومس وجرجان

رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استغفر له وأما ما ظهر من رسول الله فهذا «1» . وذكر «2» سالم أبو النضر أنه حدث أن عيينة بن حصن وقيسا لم يقبلوا الدية حتى خلا بهم الأقرع بن حابس وقال: يا معشر قيس، منعتم رسول الله قتيلا يستصلح به الناس، أفأمنتم أن يلعنكم رسول الله فيلعنكم الله بلعنته أو أن يغضب عليكم فيغضب الله عليكم بغضبه؟ والله الذى نفس الأقرع بيده لتسلمنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فليصنعن فيه ما أراد أو لأتيت بخمسين رجلا من بنى تميم يشهدون بالله لقتل صاحبكم كافرا ما صلى قط فلأطلن دمه. فقبلوا الدية. وفى حديث عن الحسن البصرى قال: والله ما مكث محلم بن جثامة إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض والذى نفس الحسن بيده، ثم عادوا له فلفظته، ثم عادوا له فلفظته. فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين فسطحوه بينهما ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه فقال: «والله إن الأرض لتطابق على من هو شر منه ولكن الله أراد أن يعظكم فى حرم ما بينكم بما أراكم منه» «3» . وغزوة ابن أبى حدرد الأسلمى أيضا الغابة «4» ، قال: تزوجت امرأة من قومى فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحى فقال: وكم أصدقت؟ قلت: مائتى درهم. قال: سبحان الله! لو كنتم تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم، والله ما عندى ما أعينك به. قال: فلبثت أياما وأقبل رجل من بنى جشم بن معاوية يقال له: رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة فى بطن عظيم من بنى جشم حتى ينزل بقومه ومن معه بالغابة يريد أن يجمع قيسا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذا اسم فى جشم وشرف، فدعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين معى من المسلمين فقال: اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر وعلم؛ قال: وقدم لنا شارفا عجفاء فحمل عليها أحدنا، فو الله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت وما كادت ثم قال: تبلغوا عليها واعتقبوها، قال: فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف حتى إذا جئنا قريبا من

_ (1) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (2/ 2625) ، سنن أبى داود (4/ 4503) ، سنن البيهقى (9/ 116) . (2) انظر: السيرة (4/ 251) . (3) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (15/ 90) . (4) الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام، وفيه أموال لأهل المدينة. انظر: معجم البلدان (4/ 182) .

ذكر فتح طبرستان

الحاضر عشيشية مع غروب الشمس كمنت فى ناحية. وأمرت صاحبى فكمنا فى ناحية أخرى من حاضر القوم وقلت لهما: إذا سمعتمانى قد كبرت وشددت فى ناحية العسكر فكبرا وشدا معى. فو الله، إنا لكذلك ننتظر غرة القوم أو أن نصيب منهم شيئا وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء وكان لهم راع سرح فى ذلك البلد فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه، فقام صاحبهم ذلك فأخذ سيفه فجعله فى عنقه ثم قال: والله لأتبعن أثر راعينا هذا ولقد أصابه شر. فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب أنت نحن نكفيك. قال: والله لا يذهب إلا أنا. قالوا: فنحن معك. قال: والله لا يتبعنى أحد منكم. وخرج حتى مر بى فلما أمكننى نفحته بسهم فوضعته فى فؤاده والله ما تكلم. ووثبت إليه فاحتززت رأسه وشدتت فى ناحية العسكر وكبرت وشد صاحباى وكبرا فو الله ما كان إلا النجاء ممن فيه، عندك، بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجئت برأسه أحمله معى فأعاننى رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرا فى صداقى فجمعت إلى أهلى «1» . وغزوة توجه فيها عبد الرحمن بن عوف، قال عطاء بن أبى رباح: سمعت رجلا من اهل البصرة يسأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن إرسال العمامة من خلف الرجل إذا اعتم، فقال عبد الله: سأخبرك إن شاء الله عن ذلك بعلم. ثم ذكر مجلسا شاهده من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية بعثه عليها. قال: فأصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ثم نقضها ثم عمه بها وأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوا من ذلك. ثم قال: هكذا يا ابن عوف فاعتم فإنه أحسن وأعرف. ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نفسه ثم قال: «خذه يا ابن عوف، اغزوا جميعا فى سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم» ، فأخذ عبد الرحمن بن عوف اللواء «2» .

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 206، 207) ، مسند الإمام أحمد (6/ 11) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 223) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 303) . (2) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (30289) ، طبقات ابن سعد (2/ 89) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 317، 318) .

حديث فتح الباب

قال ابن هشام: فخرج إلى دومة الجندل «1» . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى سيف البحر عليهم أبو عبيدة بن الجراح وزودهم جرابا من تمر فجعل يقوتهم إياه حتى صار إلى أن يعده لهم عددا حتى كان يعطى كل رجل منهم كل يوم تمرة فقسمها يوما فنقصت تمرة عن رجل فوجد فقدها ذلك اليوم!. قال بعضهم: فلما جهدنا الجوع أخرج الله لنا دابة من البحر فأصبنا من لحمها وودكها وأقمنا عليها عشرين ليلة حتى سمنا وأخذ أميرنا ضلعا من أضلاعها فوضعها على طريقه ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فجلس عليه فخرج من تحتها وما مست رأسه فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه خبرها وسألناه عن أكلنا إياها فقال: «رزق رزقكموه الله» «2» . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمرى بعد مقتل خبيب وأصحابه إلى مكة وأمره ان يقتل أبا سفيان بن حرب وبعث معه جبار بن صخر الأنصارى، فخرجا حتى قدما مكة وحبسا جمليهما بشعب من شعاب يأجج ثم دخلا مكة ليلا فقال جبار لعمرو: لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين؟ فقال عمرو: إن القوم إذا تعشوا جلسوا بأفنيتهم، فقال: كلا إن شاء الله. قال عمرو: فطفنا بالبيت وصلينا ثم خرجنا نريد أبا سفيان، فو الله إنا لنمشى بمكة إذا نظر إلى رجل من أهل مكة فعرفنى فقال: عمرو بن أمية! والله إن قدمها إلا لشر. فقلت لصاحبى: النجاء. فخرجنا نشتد حتى أصعدنا فى جبل وخرجوا فى طلبنا حتى إذا علونا الجبل يئسوا منّا فرجعنا فدخلنا كهفا فى الجبل فبتنا وقد أخذنا حجارة فرضمناها دوننا. فلما أصبحنا غدا رجل من قريش يقود فرسا له ويختلى عليها فغشينا ونحن فى الغار فقلت: إن رآنا صاح بنا فأخذنا فقتلنا. قال: ومعى خنجر قد أعددته لأبى سفيان، فأخرج إليه فأضربه على ثديه وصاح صيحة أسمع أهل مكة، وأرجع فأدخل مكانى. وجاءه الناس يشتدون وهو بآخر رمق فقالوا: من ضربك؟ فقال: عمرو بن أمية. وغلبه الموت فمات مكانه ولم يدلل على مكاننا، فاحتملوه فقلت لصاحبى لما أمسينا: النجاء. فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة خبيب ابن

_ (1) انظر: السيرة (4/ 254) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (3/ 1535/ 17، 18) ، مسند الإمام أحمد (3/ 311) ، مسنف عبد الرزاق (4/ 8668) .

عدى فقال أحدهم: والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية، لولا أنه بالمدينة لقلت هو عمرو بن أمية. فلما حاذى عمرو الخشبة شد عليها فاحتملها وخرج هو وصاحبه شدا وخرجوا وراءه حتى أتى جرفا بمبسط يأجج فرمى بالخشبة فى الجرف فغيبه الله عنهم فلم يقدروا عليه. قال عمرو بن أمية: وقلت لصاحبى: النجاء حتى تأتى بعيرك فتقعد عليه فإنى شاغل عنك القوم وكان الأنصارى لا رجلة له. قال: ومضيت حتى اخرج على ضجنان ثم آويت إلى جبل فأدخل كهفا، فبينا أنا فيه دخل على شيخ من بنى الديل أعور فى غنيمة فقال: من الرجل؟ فقلت: من بنى بكر فمن أنت؟ قال: من بنى بكر. قلت: مرحبا فاضطجع. ثم رفع عقيرته فقال: ولست بمسلم ما دمت حيا ... ولا دان لدين المسلمينا فقلت فى نفسى: ستعلم. فأمهلته حتى إذا نام أخذت قوسى فجعلت سيتها فى عينه الصحيحة ثم تحاملت عليه حتى بلغت العظم. ثم خرجت النجاء حتى جئت العرج ثم سلكت ركوبه حتى إذا هبطت النقيع «1» إذا رجلان من قريش من المشركين كانت قريش بعثتهما عينا إلى المدينة ينظران ويتحسسان فقلت: استأسرا. فأبيا فأرمى أحدهما بسهم فأقتله واستأسر الآخر فأوثقته رباطا وقدمت به المدينة «2» . وسرية زيد بن حارثة إلى مدين فأصاب سبيا من أهل ميناء وهى السواحل وفيها جماع من الناس فبيعوا ففرق بينهم يعنى بين الأمهات والأولاد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون فقال: ما لهم؟ فقيل: يا رسول الله، فرق بينهم. فقال: «لا تبيعوهم إلا جميعا» «3» . وغزوة سالم؛ بن عمير أبا عفك أحد بنى عمرو بن عوف وكان نجم نفاقه حين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن سويد بن صامت فقال: لقد عشت دهرا وما إن أرى ... من الناس دارا ولا مجمعا

_ (1) العرج: واد بالحجاز. ركوبة: ثنية بين الجرميت. النقيع: موضع ببلاد مزينة. (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 33- 337) بطوله. وذكره الطبرى فى تاريخه (2/ 79، 80) مختصرا، والبيهقى فى السنن الكبرى (9/ 213) ، ابن سعد فى الطبقات (2/ 93، 94) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (69- 71) . (3) انظر الحديث فى: سنن سعيد بن منصور (2/ 2661) ، الإصابة لابن حجر (3/ 275) . وانظر السيرة (4/ 257) ، وفيه قال ابن هشام يعقب على الحديث: أراد الأمهات والأولاد.

أبر عهودا وأوفى لمن ... يعاقد فيهم إذا ما دعا من اولاد قيلة فى جمعهم ... تهد الجبال ولم تخضعا فصدعهم راكب جاءهم ... حلال حرام لشتى معا فلو أن بالعز صدقتم ... أو الملك تابعتم تبعا «1» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لى بهذا الخبيث؟» فخرج سالم بن عمير أخو بنى عمرو ابن عوف، وهو أحد البكائين، فقتله «2» . فقالت أمامة المريدية فى ذلك: تكذب دين الله والمرء أحمدا ... لعمرى الذى امناك بئس الذى يمنى حباك حنيف آخر الليل طعنة ... أبا عفك خذها على كبر السن «3» وغزوة عمير بن عدى الخطمى وهو الذى يدعى القارىء عصماء بنت مروان من بنى أمية بن زيد، وكانت تحت رجل من بنى خطمة يقال له: يزيد بن زيد، فلما قتل أبو عفك نافقت فقالت تعيب الإسلام وأهله، وتؤنب الأنصار فى اتباعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطعتم أتاوى من غيركم ... فلا من مراد ولا مذحج* ترجونه بعد قتل الرؤس ... كما يرتجى مرق المنضج ألا آنف يبتغى غرة ... فيقطع من أمل المرتجى «4» فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا [آخذ] * لى من ابنة مروان؟» فسمع ذلك من

_ (1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 258) . (2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 221) . (3) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 258) . (*) ذكر فى السيرة بيت قبل هذا وهو: باشت بنى مالك والنبيت ... وعوف وباست بنى الخزرج انظر: السيرة (4/ 258) . (4) وذمر فى السيرة أبيات أجابها به حسان بن ثابت فقال: بنو وائل وبنو واقف ... وخطمة دون بنى الخزرج متى ما دعت سفها ويحها ... بعولتها والمنايا تجى فهزت فتى ما جدا عرقه ... كريم المداخل والمخرج فضرجها من تجيع الدما ... ء بعد الهدو فلم يحرج انظر: السيرة (4/ 258- 259) . (*) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل «أحد» ، وما أوردناه من السيرة.

قوله عمير بن عدى فلما أمسى من تلك الليلة سما عليها فى بيتها فقتلها ثم أصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى قد قتلتها: فقال: نصرت الله ورسوله يا عمير. فقال: هل على شىء من شأنها يا رسول الله؟ فقال: «لا ينتطح فيها عنزان» «1» . فرجع عمير إلى قومه وبنو خطمة يومئذ كثير فوجههم فى شأن بنت مروان ولها بنون خمسة رجال. فقال: يا بنى خطمة، أنا قتلت بنت مروان فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون. فذلك اليوم أول ما عز الإسلام فى دار بنى خطمة، وكان يستخفى بإسلامه فيهم من أسلم. ويومئذ أسلم رجال منهم لما رأوا من عز الإسلام. والسرية التى أسرت ثمامة بن أثال الحنفى سيد أهل اليمامة، وذلك أن خيلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت فأخذت رجلا من بنى حنيفة لا يشعورن من هو، حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفى، أحسنوا إساره» ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله. فقال: «اجمعوا ما كان عندكم من طعام، فابعثوا به إليه» ، وأمر بلقحته أن يغدى عليه بها ويراح، فجعل لا يقع من ثمامة موقعا، ويأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «أسلم يا ثمامة» ، وفى رواية: «ما تقول يا ثمامة؟» فيقول: يا محمد، إن تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن ترد الفداء فسل تعط منه ما شئت. فمكث ما شاء الله أن يمكث ثم قال النبى صلى الله عليه وسلم يوما: أطلقوا ثمامة. فلما أطلقوه خرج حتى اتى البقيع فتطهر فأحسن طهوره ثم أقبل فبايع النبى صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فلما أمسى جاؤه بما كانوا يأتونه به من الطعام فلم ينل منه إلا قليلا، وباللقحة فلم يصب من حلابها إلا يسيرا، فعجب المسلمون من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مم تعجبون، من رجل أكل فى أول النهار فى معى كافر وأكل آخر النهار فى معى مسلم، إن الكافر يأكل فى سبعة أمعاء وإن المسلم يأكل فى معى واحد» «2» .

_ (1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (44131) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 27، 28) . (2) هذا الحديث عند ابن إسحاق، وإسناده عنده ضعيف، وللحديث شواهد عن أبى هريرة من وجوه، أخرجها الترمذى فى سننه (1819) ، ابن ماجه فى سننه (3256) ، النسائى فى السنن الكبرى (4/ 178) . وأخرج البخارى فى كتاب المغازى (7/ 4372) ، مسلم فى كتاب الجهاد (3/ 59) من طريق سعيد بن أبى سعيد أنه سمع أبا هريرة رضى الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد الحيثد، فذكره بطوله، وفيه: إسلام ثمامة بن أثال، وليس فى الحديث ذكر الطعام.

ذكر مسير يزدجرد إلى خراسان ودخول الأحنف إليها غازيا

وقال ثمامة حين أسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كان وجهك أبغض الوجوه إلىّ فأصبح وهو أحب الوجوه إلىّ، ولقد كان دينك أبغض الدين إلىّ فأصبح وهو أحب الأديان إلىّ، ولقد كان بلدك أبغض البلاد إلىّ فأصبح وهو أحب البلاد إلىّ. ثم قال: يا رسول الله، إن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فأذن لى يا رسول الله. فأذن له فخرج معتمرا فلما قدم مكة قالوا: صبأت يا ثمامة. قال: لا ولكنى اتبعت خير الدين دين محمد، ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خل بين قومى وبين ميرتهم. ففعل «1» . ويقال: إنه لما كان ببطن مكة فى عمرته لبى فكان اول من دخل مكة يلبى، فأخذته قريش فقالوا: لقد اجترأت علينا. وهموا بقتله ثم خلوه لمكان حاجتهم إليه وإلى بلده فقال بعض بنى حنيفة: ومنا الذى لبى بمكة معلنا ... برغم أبى سفيان فى الأشهر الحرم وبعث علقمة بن مجزز المدلجى لما قتل وقاص بن مجزر اخوه يوم ذى قرد، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعثه فى آثار القوم ليدرك ثأره فيهم، فبعثه فى نفر من المسلمين، قال أبو سعيد الخدرى: وأنا فيهم، حتى إذا بلغنا رأس غزاتنا أو كنا ببعض الطريق أذن لطائفة من الجيش واستعمل عليهم عبد الله بن حذافة السهمى وكانت فيه دعابة، فلما كان ببعض الطريق أوقد نارا ثم قال للقوم: أليس لى عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى. قال: فما آمركم بشىء إلا فعلتموه؟ قالوا: نعم. قال: فإنى أعزم عليكم بحقى وطاعتى إلا تواثبتم فى هذه النار. فقام بعض القوم يحتجز حتى ظن أنهم واثبون فيها. فقال لهم: اجلسوا فإنما كنت أضحك معكم. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه» «2» . ويقال: إن علقمة بن مجزر رجع هو وأصحابه ولم يلق كيدا «3» . وبعث كرز بن جابر. وذلك أن نفرا من قيس كبة من بجيلة قدموا على رسول الله

_ (1) انظر: السيرة (4/ 260- 261) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 67) ، سنن ابن ماجه (2/ 2863) ، طبقات ابن سعد (2/ 163) ، صحيح ابن حبان (7/ 4540) . (3) انظر: السيرة (4/ 262) .

صلى الله عليه وسلم فاستوبأوا المدينة وطلحوا وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاح ترعى ناحية الجماء يرعاها عبد له يقال له: يسار، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه فى غزوة بنى محارب وبنى ثعلبة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو خرجتم إلى اللقاح فشربتم من ألبانها وأبوالها» ، فخرجوا إليها فلما صحوا وانطوت بطونهم عكنا عدوا على راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوه وغرزوا الشوك فى عينيه واستاقوا اللقاح فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آثارهم كرزا فلحقهم، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من غزوة ذى قرد فقطع أيديهم وسمل أعينهم، وألقوا فى الحرة يستسقون، فلا يسقون حتى ماتوا «1» . وغزوة على بن أبى طالب اليمن، غزاها مرتين. وقال أبو عمر المدينى: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب إلى اليمن وبعث خالد بن الوليد فى جند آخر وقال: «إن التقيتما فالأمير على بن أبى طالب» «2» . ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام وأمره ان يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وهو آخر بعث أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتجهز الناس وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون. فبينا الناس على ذلك ابتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكوه الذى قبضه الله فيه إلى ما أراد من رحمته وكرامته، فلم ينفذ بعث أسامة إلا بعد وفاته صلوات الله عليه ورحمته وبركاته «3» . وسيأتى ذكر ذلك مستوفى إن شاء الله. فهذه مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه التى أعز الله بها الدين ودوخ بها الكافرين، وشد أزره فيها بمن اختاره لصحبته ونصرته من الأنصار والمهاجرين رضى الله عنهم أجمعين وتلك أيام الله التى يجب بها التذكر والتذكير، ويتأكد شكر الله سبحانه على ما يسرته منها المقادير. وقال حسان بن ثابت يعدد أيام الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر مواطنهم معه فى

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 294) ، سنن النسائى (7/ 4041) ، مسند الإمام أحمد (3/ 107، 163، 170، 177، 186، 198، 205، 231، 287، 290) ، سنن أبى داود (4/ 4364- 4368) . (2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 297) ، مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 98) . (3) انظر: السيرة (4/ 263- 264) .

أيام غزوه وتروى لابنه عبد الرحمن» : ألستم خير معد كلها نفرا ... ومعشرا إن هم عموا وإن حصلوا قوم هم شهدوا بدرا بأجمعهم ... مع الرسول فما آلوا وما خذلوا وبايعوه فلم ينكث به أحد ... منهم ولم يك فى أيمانهم دخل ويوم صبحهم فى الشعب من أحد ... ضرب رصين كحر النار مشتعل ويوم ذى قرد يوم استثار بهم ... على الجياد فما خاموا وما نكلوا وذا العشيرة جاسوها بخيلهم ... مع الرسول عليها البيض والأسل ويوم ودان أجلوا اهله رقصا ... بالخيل حتى نهانا الحزن والجبل وليلة طلبوا فيها عدوهم ... لله والله يجزيهم بما عملوا وغزوة يوم نجد ثم كان لهم ... مع الرسول بها الأسلاب والنفل وليلة بحنين جالدوا معه ... فيها يعلهم بالحرب إذ نهلوا وغزوة القاع فرقنا العدو به ... كما تفرق دون المشرب الرسل ويوم بويع كانوا أهل بيعته ... على الجلاد فآسوه وما عدلوا وغزوة الفتح كانوا فى سريته ... مرابطين فما طاشوا وما عجلوا ويوم خيبر كانوا فى كتيبته ... يمشون كلهم مستبسل بطل بالبيض ترعش فى الأيمان عارية ... تعوج فى الضرب أحيانا وتعتدل ويوم سار رسول الله محتسبا ... إلى تبوك وهم راياته الأول وساسة الحرب إن حرب بدت لهم ... حتى بدا لهم الإقبال فالقفل أولئك القوم أنصار النبى وهم ... قومى أصير إليهم حين أتصل ماتوا كراما ولم تنكث عهودهم ... وقتلهم فى سبيل الله إذ قتلوا وقال حسان أيضا «2» : وكنا ملوك الناس قبل محمد ... فلما أتى الإسلام كان لنا الفضل وأكرمنا الله الذى ليس غيره ... إله بأيام مضت مالها شكل بنصر الإله والرسول ودينه ... وألبسناه اسما مضى ماله مثل أولئك قومى خير قوم بأسرهم ... فما كان من خير فقومى له أهل يربون بالمعروف معروف من مضى ... وليس عليهم دون معروفهم قفل

_ (1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 181- 182) . (2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 184) .

إذا اختبطوا لم يفحشوا فى نديهم ... وليس على سؤالهم عندهم بخل وإن حاربوا أو سالموا لم يشبهوا ... فحربهم حتف وسلمهم سهل وجارهم موف بعلياء بيته ... له ما ثوى فينا الكرامة والبذل وحاملهم موف بكل حمالة ... تحمل لا غرم عليه ولا خذل وقائلهم بالحق إن قال قائل ... وحلمهم عود وحكمهم عدل ومنا أمير المسلمين حياته ... ومن غسلته من جنابته الرسل وقال حسان أيضا من قصيدة له أولها «1» : وقومى أولئك إن تسألى ... كرام إذا الضيف يوما ألم عظام القدور لأيسارهم ... يكبون فيها المسن السنم يواسون جارهم فى الغنى ... ويحمون مولاهم إن ظلم فكانوا ملوكا بأرضيهم ... يبادون غضبا بأمر غشم ملوكا على الناس لم يملكوا ... من الدهر يوما كحل القسم* ملوكا إذا غشموا فى البلا ... د لا ينكلون ولكن قدم فأبنا بساداتهم والنساء ... وأولادهم فيهم تقتسم ورثنا مساكنهم بعدهم ... وكنا ملوكا بها لم نرم

_ (1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 184) . (*) ذكر فى السيرة أبيات بعد هذا لم يذكرها هنا وهى: أنبوا بعاد وأشياعهم ... ثمود وبعض بقايا إرم بيثرب قد شيدوا فى النخيل ... حصونا ودجن فيها النعم نواضح قد علمتها اليهو ... د عل إليك وقولا هلم وفيما اشتهوا من عصير القطا ... ف والعيش رخوا على غيرهم فسرنا إليهم بأثقالنا ... على كل فحل هجان قطم جنبنا بهن جياد الخيو ... ل قد جللوها جلال الأدم فلما أناخوا بجنبى صرار ... وشدوا السروج بلى الحزم فما راعهم غير معج الخيو ... ل والزحف من خلفهم قد دهم فطاروا سراعا وقد أفزعوا ... وجئنا إليهم كأسد الأجم على كل سلهبة فى الصبا ... ن لا يشتكين نحول السأم وكل كميت مطار الفؤاد ... أمين الفصوص كمثل الزلم عليها فوارس قد عودوا ... قراع الكماة وضرب البهم انظر: السيرة (4/ 183- 184) .

ذكر الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملخصا من كتاب ابن إسحاق والواقدى وغيرهما

فلما اتانا الرسول الرشي ... د بالحق والنور بعد الظلم فقلنا صدقت رسول المليك ... هلم إلينا وفينا أقم فنشهد أنك عبد الإل ... هـ أرسلت نورا بدين قيم فإنا وأولادنا جنة ... نقيك وفى مالنا فاحتكم فنحن أولئك إن كذبوك ... فناد نداء ولا تحشم وناد بما كنت أخفيته ... نداء جهارا ولا تكتم فسار الغواة بأسيافهم ... إليه يظنون أن يخترم فقمنا إليهم بأسيافنا ... نجالد عنه بغاة الأمم بكل صقيل له ميعة ... رقيق الذباب عضوض خذم إذا ما يصادف صم العظا ... م لم ينب عنها ولم ينثلم فذلك ما ورثتنا القرو ... م مجدا تليدا وعزا أشم إذا مر نسل كفى نسله ... وغادر نسلا إذا ما انقصم فما إن من الناس إلا لنا ... عليه وإن خاس فضل النعم ذكر الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملخصا من كتاب ابن إسحاق والواقدى وغيرهما وما زال آحاد الوافدين وأفذاذ الوفود من العرب يغدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أظهر الله دينه، وقهر أعداه. ولكن انبعاث جماهيرهم إلى ذلك إنما كان بعد فتح مكة، ومعظمه فى سنة تسع، ولذلك كانت تسمى سنة الوفود. وذلك «1» أن العرب كانت تربص بالإسلام ما يكون من قريش فيه، إذ هم الذين كانوا نصبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، وكانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل، وقادة العرب، لا ينكر لهم ذلك، ولا ينازعون فيه. فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ودانت له قريش، ودوخها الإسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحربه ولا عداوته، فدخلوا فى دين الله أفواجا، يضربون إليه من كل وجه، يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] أى فتح مكة

_ (1) انظر: السيرة (4/ 185) .

فتح توج

وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً جماعات جماعات فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أى فاحمد الله على ما ظهر من دينك وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً إشارة إلى انقضاء أجله، واقتراب لحاقه برحمة ربه، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] . كذلك يقول عبد الله بن عباس، وقد سأله عمر بن الخطاب عن هذه السورة، فلما أجابه بنحو هذا المعنى، قال له عمر رضى الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تعلم. فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفود العرب، فمن ذلك: وفد بنى تميم «1» قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمى، فى أشراف من قومه، منهم: الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، والحتات بن يزيد، ونعيم ابن يزيد، وقيس بن الحارث، وقيس بن عاصم فى وفد عظيم من بنى تميم. فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: أن أخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، وإياهم عنى الله سبحانه بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، جئناك نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا؛ قال: «قد أذنت لخطيبكم فليقل» ، فقام عطارد بن حاجب، فقال: الحمد لله الذى له علينا الفضل، وهو أهله، الذى جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزة أهل المشرق وأكثره عددا، وأيسره عدة، فمن مثلنا فى الناس؟ ألسنا برؤس الناس، وأولى فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددناه، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك. أقول هذا لأن تأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخى بنى الحارث بن الخزرج: «قم، فأجب الرجل فى خطبته» . فقام ثابت، فقال: الحمد لله الذى السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه،

_ (1) انظر: السيرة (4/ 186) .

حديث اصطخر

ولم يك شىء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابه، وأتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون من قومه وذوى رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجابة لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أنصار الله ووزراء رسول الله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه فى الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم «1» . فقام الزبرقان بن بدر، فقال «2» : نحن الكرام فلا حى يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع «3» وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتبع ونحن يطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس القزع بما ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هوانا ثم [متبع] * فننحر الكوم عبطا فى أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا [شيع] * فلا ترانا إلى حى نفاخرهم ... إلا استفادوا وكانوا الرأس يقتطع فمن يفاخرنا فى ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع إنا أبينا وما يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استدعى حسان بن ثابت ليجيب شاعر بنى تميم، قال حسان: فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أقول: منعنا رسول الله إذ حل وسطنا ... على أنف راض من معد وراغم منعناه لما حل بين بيوتنا ... بأسيافنا من كل باغ وظالم ببيت حريد عزة وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 116، 117) ، الطبرى فى التاريخ (2/ 188: 190) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (6/ 212، 213) . (2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 188- 189) . (3) البيع: مواضع الصلاة والعبادات، واحدتها بيعة. (*) كذا فى الأصل، وفى السيرة: «نصطنع» . (*) كذا فى الأصل، وفى السيرة: «شبعوا» .

هل المجد إلا السؤدد العود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم فلما فرغ الزبرقان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا حسان، فأجب الرجل» ، فقال حسان: إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع فى أشياعهم سجية تلك منهم غير محدثة ... نفعوا إن كان فى الناس سباقون بعدهم ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع إن سابقوا الناس يوما فاز سبقتهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا أعفة ذكرت فى الوحى عفتهم ... أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا لا يبخلون على جار بفضلهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع إذا نصبنا لحى لم ندب لهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... كما يدب إلى الوحشية الذرع لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا كأنهم فى الوغى والموت مكتنع ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... أسد بحلبة فى أرساغها فدع فإن فى حربهم فاترك عداوتهم ... ولا يكن همك الأمر الذى منعوا اكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... شرا يخاض عليه السم والسلع أهدى لهم مدحتى قلب يوازره ... إذا تفاوتت الأهواء والشيع فإنهم أفضل الأحياء كلهم ... فى ما أحب لسان حائك صنع إن جد بالناس جد القول أو شمع وذكر ابن هشام «1» عن بعض أهل العلم بالشعر من بنى تميم، أن الزبرقان بن بدر لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وفد بنى تميم، قام فقال: أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند احتضار المواسم بأنا فروع الناس فى كل موطن ... وأن ليس فى أرض الحجاز كدارم وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا ... ونضرب رأس الأصيد المتفاقم وأن لنا المرباع فى كل غارة ... نغير بنجد أو بأرض الأعاجم

_ (1) انظر: السيرة (4/ 191) .

حديث فسا ودارابجرد

فقام حسان بن ثابت فأجابه، فقال: هل المجد إلا السؤدد العود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم نصرنا وآوينا النبى محمدا ... على أنف راض من معد وراغم بحى حريد أصله وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم نصرناه لما حل وسط ديارنا ... بأسيافنا من كل باغ وظالم جعلنا بنينا دونه وبناتنا ... وطبنا له نفسا بفىء المغانم ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا ... على دينه بالمرهقات الصوارم ونحن ولدنا من قريش عظميها ... ولدنا نبى الخير من آل هاشم بنى دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول ما بين ظئر وخادم فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم ان تقسموا فى المقاسم فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيّا كزىّ الأعاجم قال ابن إسحاق: فلما فرغ حسان من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبى، إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا. فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم. وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم فى ظهرهم، وكان أصغرهم سنا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى القوم. وقيس بن عاصم هو الذى ذكره له ذكرا أزرى به فيه، فكان بينهما ما هو معلوم. وفد بنى عامر «1» وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى عامر، فيهم بن الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمى، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم. فقدم عامر بن الطفيل عدو الله، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا عامر، إن الناس قد أسلموا فأسلم، قال: والله لقد كنت آليت أن لا أنتهى حتى تتبع العرب عقبى، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش! ثم قال لأربد: إذا قدمنا

_ (1) انظر: السيرة (4/ 194- 195) .

على الرجل، فإنى سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عامر بن الطفيل: يا محمد، خالنى، قال: «لا والله، حتى تؤمن الله وحده» . قال: يا محمد، خالنى، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان امره به، فجعل أربد لا يحير شيئا؛ فلما أبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا؛ فلما ولى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اكفنى عامر بن الطفيل» ، فلما خرجوا، قال عامر لأربد: ويلك يا أربد، أين ما كنت امرتك به؟ والله ما كان على وجه الأرض رجل اخوف عندى على نفسى منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا. قال: لا أبا لك! لا تعجل على، والله ما هممت بالذى امرتنى به إلا دخلت بينى وبين الرجل، حتى ما أرى غيرك، أفاضربك بالسيف؟ وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون فى عنقه، فقتله الله فى بيت امرأة من بنى سلول، فجعل يقول: يا بنى عامر، أغدة كغدة البكر فى بيت امرأة من بنى سلول «1» . ويقال «2» : إنه قال: أغدة كغدة الإبل، وموتا فى بيت سلولية! ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بنى عامر، فأتاهم قومهم، فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا شىء والله، لقد دعانى إلى عبادة شىء لوددت انه عندى الآن، فأرميه بالنبل حتى أقتله. فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة، فأحرقتهما. وأنزل الله جل قوله فى وقاية الله تعالى لنبيه عليه السلام مما أراده به عامر، وفيما قتل به أربد: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أى أن المعقبات التى يحفظ الله بها نبيه هى من أمر الله إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [الرعد: 10- 13] «3» .

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 329- 321) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 126) . (2) هذا القول ذكره ابن هشام فى السيرة (4/ 195) . (3) ذكره الواحدى فى أسباب النزول الحديث رقم (527) .

حديث فتح كرمان

وفد تجيب «1» وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد تجيب، وهم من السكون، ثلاثة عشر رجلا، قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التى فرض الله عليهم، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله، سقنا إليك حق الله تعالى فى أموالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ردوها، فاقسموها على فقرائكم» . فقالوا: يا رسول الله، ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا. فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما وفد علينا وفد من العرب بمثل ما وفد به هؤلاء الحى من تجيب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الهدى بيد الله عز وجل فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان» . وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة فيهم، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم. فأقاموا أياما، ولم يطيلوا اللبث، فقيل لهم: ما يعجلكم؟ فقالوا: نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامنا إياه، وما رد علينا. ثم جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعونه، فأرسل إليهم بلالا، فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود. قال: «هل بقى منكم أحد» ؟ قالوا: غلام خلفناه على رحالنا هو أحدثنا سنا، قال: «أرسلوه إلينا» . فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض حاجتك منه، فإنا قد قضينا حوائجنا منه. وودعناه. فأقبل الغلام حتى اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى امرؤ من بنى أبذى. قال الواقدى: هو أبذى بن عدى، وأم عدى تجيب بنت ثوبان بن سليم من مذحج، وإليها ينسبون يقول الغلام: من الرهط الذين أتوك آنفا، فقضيت حوائجهم، فاقض حاجتى يا رسول الله. «وما حاجتك؟» قال: إن حاجتى ليست بحاجة أصحابى، وإن كانوا قدموا راغبين فى الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإنى والله ما أعلمنى من بلادى إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لى، وأن يرحمنى، وأن يجعل غناى فى قلبى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل إلى الغلام: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه فى قلبه» . ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه. فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الموسم بمنى سنة عشر،

_ (1) راجع قدوم وفد تجيب فى: طبقات ابن سعد (1/ 2/ 60) ، البداية والنهاية (4/ 84) ، المنتظم لابن الجوزى (3/ 354) .

فتح مكران

فقالوا: نحن بنو أبذى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل الغلام الذى أتانى معكم؟» قالوا: يا رسول الله، والله ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله عز وجل لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله، إنى لأرجو أن يموت جميعا» . فقال رجل منهم: أو ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تشعب أهواؤه وهمومه فى أودية الدنيا، فلعل أجله أن يدركه فى بعض تلك الأودية، فلا يبالى الله عز وجل فى أيها هلك» . قالوا: فعاش ذلك الرجل فينا على أفضل حال وأزهده فى الدنيا وأقنعه بما رزق، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام فى قومه يذكرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد. وجعل أبو بكر الصديق رضى الله عنه يذكره ويسأل عنه، حتى بلغه حاله وما قام به، فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيرا. فروة بن مسيك المرادى «1» وقدم فروة بن مسيك المرادى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقا لملوك كندة، متابعا للنبى صلى الله عليه وسلم وقال فى ذلك: لما رأيت ملوك كندة أعرضت ... كالرجل خان الرجل عرق نسائها قربت راحلتى أؤم محمدا ... أرجو فواضها وحسن ثرائها ثم خرج حتى أتى المدينة، وكان رجلا له شرف، فأنزله سعد بن عبادة عليه، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فى المسجد، فسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله، أنا لمن ورائى من قومى، قال: «أين نزلت يا فروة؟» قال: على سعد بن عبادة، قال: «بارك الله على سعد بن عبادة» . وكان يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما جلس، ويتعلم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه. وكان بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعة، أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا، حتى أثخنوهم فى يوم يقال له: «يوم الردم» ، وكان الذى قاد همدان إلى مراد «الأجدع ابن مالك» ، ففضحهم يومئذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وفد إليه: «يا فروة، هل ساءك ما

_ (1) انظر: السيرة (4/ 206- 207) .

حديث بيروذ

أصاب قومك يوم الردم؟» قال: يا رسول الله، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومى يوم الردم لا يسوءه ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن ذلك اليوم لم يزد قومك فى الإسلام إلا خيرا» . وفى ذلك اليوم يقول فروة بن مسيك «1» : مررنا باللفاة* وهن خوص ... ينازعن الأعنة ينتحينا فإن نغلب فغلابون قدما ... وإن نغلب فغير مغلبينا وما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا وطعمة آخرينا كذاك الدهر دولته سجال ... تكر صروفه حينا فحينا فبينا ما نسربه ونرضى ... ولو لبست غضارته سنينا إذا انقلبت به كرات دهر ... فألفى للأولى غبطوا طحينا فمن يغبط بريب الدهر منهم ... تجد ريب الزمان له خئونا فلو خلد الملوك إذن خلدنا ... ولو بقى الكرام إذا بقينا فأفنى ذلكم سروات قومى ... كما أفنى القرون الأولينا واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة بن مسيك «2» على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، وكتب له فيها كتابا لا يعدوه إلى غيره، فكان خالد مع فروة فى بلاده حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . ولما كانت السنة التى توفى فيها صلوات الله وبركاته عليه، وصدر عن مكة، ورأت أبناء زبيد قبائل اليمن تقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرين بالإسلام، مصدقين برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجع راجعهم إلى بلاده وهم على ما هم عليه، قالوا لخالد بن سعيد «4» : والله،

_ (1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 206- 207) . (*) كذا فى الأصل، وفى السيرة «مررن على لفاة» . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2101) ، الإصابة الترجمة رقم (6996) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4224) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 7) ، تهذيب التهذيب (8/ 265) ، خلاصة تذهيب الكمال (2/ 333) ، تهذيب الكمال (2/ 1094) . (3) ذكره الطبرى فى التاريخ (5/ 198) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (617) ، الإصابة الترجمة رقم (2172) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1365) ، العقد الثمين (4/ 267) ، شذرات الذهب (1/ 30) ، طبقات ابن سعد (4/ 1/ 69) ، طبقات خليفة (11/ 298) ، التاريخ الكبير (3/ 152) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (172) ، تاريخ الإسلام (1/ 378) .

وفد زبيد عمرو بن معدى كرب

لقد دخلنا فيما دخل فيه الناس، وصدقنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وخلينا بينك وبين صدقات أموالنا، وكنا لك عونا على من خالفك من قومنا. قال خالد: قد فعلتم، قالوا: فأوفد منا نفرا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرونه بإسلامنا، ويقبسونا منه خيرا. قال خالد: ما أحسن ما دعوتم إليه، وأنا أجيبكم، ولم يمنعنى أن أقول لكم هذا إلا أنى رأيت الوفود تمر بكم فلا يهيجكم ذلك على الخروج، فساءنى ذلك منكم حتى ساء ظنى بكم، وكنتم على ما كنتم عليه من حداثة عهدكم بالشرك، فخشيت أن يكون الإسلام لم يرسخ فى قلوبكم، فأما إذا طلبتم ما طلبتم، فأنا أرجو أن يكون الإسلام راسخا فى قلوبكم. قالوا: وما أنكرت منا؟ والله لقد كنا فى حيزك واخترناك على غيرك من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما رأيت منا شيئا تكرهه ولا تنكره إلى يومنا هذا. قال: اللهم غفرا، لولا أنى أنكرت منكم بعض ما ينكر ما قلت هذا، أما تعلمون أنى أخذت من شاب منكم فريضة بنت مخاض، فعقلتها ووسمتها بميسم الصدقة، فجئتم بأجمعكم فأخذتموها، ثم قلتم: إن شاء خالد فليأخذها من مرعاها، فأمسكت عنكم وخفت أن يأتى منكم ما هو شر من هذا؟! فقالوا: فقد كان، ونزعنا وتبنا إلى الله، فلا نحول بينك وبين شىء تريده، فبعث معهم وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفد زبيد عمرو بن معدى كرب «1» وقدم عمرو بن معدى كرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أناس من قومه بنى زبيد، فأسلم؛ وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادى، حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس، إنك سيد قومك، وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له: محمد خرج بالحجاز، يقال: إنه نبى، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول، فإنه لن يخفى علينا، إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فإنه إن سبق إليه رجل من قومك سادنا وترأس علينا، وكنا له أذنابا. فأبى عليه قيس وسفه رأيه، فركب عمرو بن معدى كرب حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام أياما، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يجيز الوفود، وأنصرف راجعا إلى بلاده، فأقام فى قومه بنى زبيد وعليهم فروة بن مسيك سامعا له مطيعا، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو، ثم راجع الإسلام بعد ذلك.

_ (1) انظر: السيرة (4/ 207- 208) .

غزوة سلمة بن قيس الأشجعى الأكراد

وقد كان قيس بن مكشوح لما بلغه خروج عمرو أوعده وتحطم عليه، وقال: خالفنى وترك رأيى. فقال عمرو فى ذلك من أبيات: أمرتك يوم ذى صنعاء ... أمرا باديا رشده أمرتك باتقاء الل ... هـ والمعروف تتعده فكنت كذى الحمير غره ... مما به وتده تمنانى على فرس ... عليه جالس أسده* فلو لاقيتنى للقي ... ت ليثا فوقه لبده وطلب فروة بن مسيك قيس بن مكشوح كل الطلب، حتى هرب من بلاده، وكان مصمما فى طلب من خالفه، فكان عمرو يقول لقيس: قد خبرتك يا قيس أنك تكون ذنبا تابعا لفروة بن مسيك. وفد بنى ثعلبة وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى ثعلبة سنة ثمان مرجعه من الجعرانة. ذكر الواقدى عن رجل منهم قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة قدمنا عليه وافدين مقرين بالإسلام، ونحن أربعة نفر، فنزلنا دار رملة بنت الحارث، فجاءنا بلال، فنظر إلينا، فقال: أمعكم غيركم؟ قلنا: لا، فانصرف عنا، فلم يلبث إلا يسيرا حتى أتى بجفنة من ثريد بلبن وسمن، فأكلنا حتى نهلنا، ثم رحنا إلى الظهر، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من بيته ورأسه يقطر ماء، فرمى ببصره إلينا، فأسرعنا إليه، وبلال يقيم الصلاة. فسلمنا عليه، وقلنا: يا رسول الله، إنا رسل من خلفنا من قومنا، مقرين بالإسلام، وهم فى مواشيهم، وما لا يصلحه إلا هم، وقد قيل لنا يا رسول الله: لا إسلام لمن لا هجرة له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حيثما كنتم، واتقيتم الله فلا يضركم حيث كنتم» . وفرغ بلال من الآذان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمنا، ثم تقدم فصلى بنا الظهر، لم تصل وراء أحد قط أتم صلاة ولا أوجز منه، ثم انصرف إلى بيته، فدخل، فلم يلبث أن خرج إلينا، فقيل لنا: صلى فى بيته ركعتين، فدعا بنا، فقال: «أين أهلكم؟» فقلنا: قريبا يا رسول

_ (*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيت لم يذكره هنا، وهو: علىّ مفاضة كالنه ... ى أخلص ماءه جدده انظر: السيرة (4/ 208) .

وفد بنى سعد هذيم

الله، هم بهذه السرية فقال: «كيف بلادكم؟» فقلنا: مخصبون، فقال: «الحمد لله» . فأقمنا أياما، فتعلمنا من القرآن والسنن، وضيافته تجرى علينا، ثم جئنا نودعه منصرفين، فقال لبلال: «أجزهم كما تجيز الوفد» ، فجاء بلال بنقر من فضة، فأعطى كل واحد منا خمس أواق، وقال: ليس عندنا دراهم مضروبة، فانصرفنا إلى بلادنا «1» . وفد بنى سعد هذيم «2» وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو سعد هذيم، من قضاعة فى سنة تسع. ذكر الواقدى عن ابن النعمان منهم عن أبيه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافدا فى نفر من قومى، وقد أوطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد غلبة، وأداخ العرب، والناس صنفان. إما داخل فى الإسلام راغب فيه، وإما خائف من السيف، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه، فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى على جنازة فى المسجد، فقمنا خلفه ناحية، ولم ندخل مع الناس فى صلاتهم، وقلنا: حتى نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبايعه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلينا، فدعا بنا، فقال: «من أنتم؟» فقلنا: من بنى سعد هذيم، فقال: «أمسلمون أنتم؟» قلنا: نعم، قال: فهلا صليتم على أخيكم؟» قلنا: يا رسول الله، ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أينما أسلمتم مسلمون» . قال: فأسلمنا وبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيدينا على الإسلام، ثم انصرفنا إلى رحالنا، وقد كنا خلفنا عليها أصغرنا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طلبنا، فأتى بنا إليه، فتقدم صاحبنا فبايعه على الإسلام، فقلنا: يا رسول الله، إنه أصغرنا، وإنه خادمنا، فقال: «أصغر القوم خادمهم، بارك الله عليه» «3» . قال: فكان والله خيرنا، وأقرأنا للقرآن، لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فكان يؤمنا. ولما أردنا الانصراف، أمر بلالا فأجازنا بأواقى من فضة، لكل رجل منا، فرجعنا إلى قومنا، فرزقهم الله الإسلام.

_ (1) ذكره ابن عساكر فى تهذيب تاريخ دمشق (3/ 302، 10/ 296) . (2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 356) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 59، 65) . (3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 94) .

ذكر الخبر عن إحرام عمر بن الخطاب، رضى الله عنه إلى حين مقتله

وفد بنى فزارة «1» ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك قدم عليه وفد بنى فزارة، بضعة عشر رجلا، فيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس بن حصن ابن أخى عيينة بن حصن، وهو أصغرهم، فنزلوا فى دار زينب بنت الحارث، وجاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرين بالإسلام، وهم مستنون على وكاف عجاف، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم، فقال أحدهم: يا رسول الله، أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا، فادع لنا ربك يغثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله ويلك، هذا أنا شفعت إلى ربى عز وجل، فمن ذا الذى يشفع ربنا إليه؟ لا إله إلا هو العلى العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، فهى تئط من عظمته وجلاله كما يئط الرجل الجديد» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جل وعز ليضحك من شفعكم، وأزلكم، وقرب غياثكم» . فقال الأعرابى: يا رسول الله، ويضحك ربنا عز وجل؟ قال: «نعم» ، قال الأعرابى: لن نعدمك من رب يضحك خير، فضحك النبى صلى الله عليه وسلم من قوله، وصعد المنبر، فتكلم بكلمات، وكان لا يرفع يديه فى شىء من الدعاء إلا فى الاستسقاء، فرفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه: «اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحى بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا طيبا، واسعا عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم اسقنا رحمة ولا تسقنا عذابا ولا هدما ولا غرقا ولا محقا، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» . فقام أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصارى، فقال: يا رسول الله، التمر فى المربد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقنا» ، فعاد أبو لبابة لقوله، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لدعائه، فعاد أيضا أبو لبابة لقوله، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لدعائه، فعاد أيضا أبو لبابة، فقال: التمر فى المربد يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره» ، قالوا: ولا والله ما فى السماء سحاب ولا قزعة، وما بين المسجد وبين سلع من شجر ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 353) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 59) ، البداية والنهاية (5/ 79) .

وفد بنى أسد

السماء انتشرت، ثم أمطرت، فو الله ما رأوا الشمس سبعا، وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره، لئلا يخرج التمر منه، فجاء ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فدعا ورفع يديه مدا، حتى رؤى بياض إبطيه، ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» «1» . قال: فانجابت السحاب عن المدينة انجياب الثوب. وفد بنى أسد «2» وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى أسد، عشرة رهط، فيهم وابصة بن معبد وطليحة ابن خويلد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى المسجد مع أصحابه، فسلموا وتكلموا، وقال متكلمهم: يا رسول الله، إنا شهدنا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله، ولم تبعث إلينا بعثا، ونحن لمن وراءنا. قال محمد بن كعب القرظى: فأنزل الله عز وجل على رسوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [17: الحجرات] . وكان مما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند يومئذ: العيافة والكهانة وضرب الحصى، فنهاهم عن ذلك كله. فقالوا: يا رسول الله، إن هذه أمور كنا نفعلها فى الجاهلية، أرأيت خصلة بقيت؟ قال: «وما هى» ؟ قال: الخط، قال: «علمه نبى من الأنبياء، فمن صادف مثل علمه علم» «3» .

_ (1) انظر الحديث فى: سنن أبو داود (1173) ، سنن البيهقى الكبرى (3/ 356) ، كنز العمال للمتقى الهندى (18025) ، موطأ الإمام مالك (191) ، العلل المتناهية لابن الجوزى (212) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (1506) . (2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 355) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 39) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 79) . (3) ذكره السيوطى فى الدرر المنثور (6/ 38) .

وفد بهراء

وفد بهراء» وذكر الواقدى عن كريمة بنت المقداد، قالت: سمعت أمى ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب «2» تقول: قدم وفد بهراء من اليمن، وهم ثلاثة عشر رجلا، فأقبلوا يقودون رواحلهم، حتى انتهوا إلى باب المقداد، ونحن فى منزلنا نبنى جديلة، فخرج إليهم المقداد، فرحب بهم، وأنزلهم، وجاءهم بجفنة من حيس قد كنا هيأناها قبل أن يحلوا لنجلس عليها، فحملها أبو معبد المقداد، وكان كريما على الطعام، فأكلوا منها حتى نهلوا، وردت إلينا القصعة وفيها أكل، فجمعنا تلك الأكل فى قصعة صغيرة، ثم بعثنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سدرة مولاتى، فوجدته فى بيت أم سلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضباعة أرسلت بهذا» ؟، قالت سدرة: نعم يا رسول الله، قال: «ضعى» ، ثم قال: «ما فعل ضيف أبى معبد؟» قلت: عندنا، فأصاب منها رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلا هو ومن معه فى البيت حتى نهلوا، وأكلت معهم سدرة، ثم قال: «اذهبى بما بقى إلى ضيفكم» ، قالت سدرة: فرجعت بما بقى فى القصعة إلى مولاتى، قالت: فأكل منها الضيف ما أقاموا، نرددها عليهم وما تغيض، حتى جعل الضيف يقولون: يا أبا معبد، إنك لتنهلنا من أحب الطعام إلينا، وما كنا نقدر على مثل هذا إلا فى الحين، وقد ذكر لنا أن بلادكم قليلة الطعام، إنما هو العلق أو نحوه، ونحن عندك فى الشبع، فأخبرهم أبو معبد بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أكل منها أكلا وردها، فهذه بركة أثر أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل القوم يقولون: نشهد أنه رسول الله، وازدادوا يقينا، وذلك الذى أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتعلموا الفرائض، وأقاموا أياما، ثم جاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعوه، وأمر لهم بجوائزهم، وانصرفوا إلى أهلهم. وفد بنى غدرة وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى غدرة فى صفر سنة تسع، اثنا عشر رجلا، فيهم حمزة بن النعمان وسليم وسعد ابنا مالك ومالك بن أبى رباح، فنزلوا فى دار رملة بنت

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 356) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 66) . (2) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3451) ، الإصابة الترجمة رقم (11429) ، أسد الغابة الترجمة رقم (7076) ، تهذيب الكمال (1687) ، تهذيب التهذيب (12/ 432) ، خلاصة تذهيب الكمال (493) ، تاريخ الإسلام (2/ 229) .

وفد بلى

الحارث النجارية، ثم جاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى المسجد، فسلموا بسلام أهل الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من القوم» ؟ فقال متكلمهم: من لا تنكر، نحن بنو غدرة، أخوة قصى لأمه، نحن الذين عضوا قصيا، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبنى بكر، ولنا قرابات وأرحام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بكم وأهلا، ما أعرفنى بكم، فما منعكم من تحية الإسلام» ؟ قالوا: يا محمد، كنا على ما كان عليه آباؤنا، فقدمنا مرتادين لأنفسنا ولمن خلفنا، فإلام تدعو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تشهدوا أنى رسول الله إلى الناس كافة» ، فقال المتكلم: فما وراء ذلك من الفرائض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، تحسن طهورهن وتصليهن لمواقيتهن، فإنه أفضل العمل» . ثم ذكر لهم سائر الفرائض من الصيام والزكاة والحج، فقال المتكلم: الله أكبر، نشهد أنه لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قد أجبناك إلى ما دعوت إليه، ونحن أعوانك وأنصارك ثم قال: يا رسول الله: إنا متاخمو الشام، وأخبارهم ترد علينا، وبالشام من قد علمت، هرقل، فهل اوحى إليك فى أمره بشىء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشر، فإن الشام ستفتح عليكم، ويهرب هرقل إلى ممتنع بلاده» ، قال: الله أكبر، يا رسول الله، إن فينا امرأة كاهنة، كانت قريش والعرب يتحاكمون إليها، ولو قد رجعنا أقرت هى وغيرها من قومنا بالإسلام إن شاء الله، أفنسألها عن كهانتها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوها عن شىء» ، قال: الله أكبر، ثم سأله عن الذبائح التى كانوا يذبحون فى الجاهلية لأصنامهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وقال، وقال: «لا ذبيحة لغير الله عز وجل ولا ذبيحة عليكم فى سنتكم إلا واحدة» . قال: وما هى؟ فداك أبى وأمى، قال: «الأضحية» ، قال: وأى وقت تكون؟ قال: «صبيحة العاشر من ذى الحجة، تذبح شاة عنك وعن أهلك» ، قال: يا رسول الله، أهى على أهل كل بيت وجدوها؟ قال: «نعم» «1» . فأقوموا أياما، ثم أجازهم كما يجيز الوفود، وانصرفوا. وفد بلى «2» وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بلى فى ربيع الأول من سنة تسع. قال رويفع ابن

_ (1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (12259) . (2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 355) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 65) .

ضمام بن ثعلبة

ثابت البلوى: فبلغنى قدومهم، فخرجت حتى جئتهم برأس الثنية فى أيديهم خطم رواحلهم، فرحبت بهم وقلت: المنزل على، فعدلت بهم إلى منزلى، فنزلوا، ولبسوا من صالح ثيابهم، ثم خرجت بهم حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فى أصحابه فى بقية فئ الغداة، فسلمت. فقال: «رويفع» ، فقلت: لبيك، قال: «من هؤلاء القوم» ؟ قلت: قومى، قال: «مرحبا بك وبقومك» ، قلت: يا رسول الله، قدموا وافدين عليك مقرين بالإسلام، وهم على من وراءهم من قومهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يهده للإسلام» . قال: وتقدم شيخ الوفد أبو الضبيب فجلس بين يديه، فقال: يا رسول الله، إنا قدمنا عليك لنصدقك ونشهد أن ما جئت به حق، ونخلع ما كنا نعبد ويعبد آباؤنا قبلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذى هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو فى النار» ، قال: يا رسول الله، إنى رجل لى رغبة فى الضيافة، فهل لى فى ذلك من أجر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، وكل معروف صنعته إلى غنى أو فقير فهو صدقة» ، قال: يا رسول الله، ما وقت الضيافة؟ قال: «ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف ان يقيم عندك فيحرجك» ، قال: يا رسول الله، أرأيت الضالة من الغنم أجدها فى الفلاة من الأرض؟ قال: «لك أو لأخيك أو للذئب» ، قال: فالبعير، قال: «مالك وله، دعه حتى يجده صاحبه» «1» . وسأله عن أشياء غير هذه، فأجابه عنها. قال رويفع: ثم قاموا، فرجعوا إلى منزلى، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى منزلى يحمل تمرا، فقال: «استعن بهذا التمر» ، فكانوا يأكلون منه ومن غيره، فأقاموا ثلاثا، ثم ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجازهم، ورجعوا إلى بلادهم. ضمام بن ثعلبة «2» وبعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عليه، وأناخ

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 186، 203، 4/ 117) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 185، 4/ 153، 6/ 189، 190) ، مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 168) ، المعجم الكبير للطبرانى (5/ 289) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 186، 5/ 80) . (2) انظر: السيرة (4/ 198- 200) .

بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى أصحابه؛ وكان ضمام رجلا جلدا، أشعر، ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن عبد المطلب» . قال: أمحمد؟ قال: «نعم» ؛ قال: يا ابن عبد المطلب، إنى سائلك ومغلظ عليك فى المسألة، فلا تجدن فى نفسك، قال: «لا أجد فى نفسى، فسل عما بدا لك» . قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، الله بعثك إلينا رسولا؟ قال: «اللهم نعم» ، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك: الله أمرك أن تأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: «اللهم نعم» ، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك: الله أمرك أن نصلى هذه الصلوات الخمس؟ قال: «اللهم نعم» . ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة: الزكاة والصيام والحج، وشرائع الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة كما ينشده فى التى قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وسأؤدى هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتنى عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص. ثم انصرف إلى بعيره راجعا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة» . قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا عليه، فكان أول ما تكلم به أن سب اللات والعزى، قالوا: مه يا ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون! قال: ويلكم! إنهما والله ما تضران ولا تنفعان إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا فاستنقذكم به مما كنتم فيه، فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه. قال: فو الله، ما أمسى من ذلك اليوم وفى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. فبنوا المساجد، وأذنوا بالصلاة، وكلما اختلفوا فى شىء قالوا: عليكم بوافدنا. قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة «1» . واختلف فى الوقت الذى وفد فيه ضمام هذا على النبى صلى الله عليه وسلم فقيل: سنة خمس. ذكره الواقدى وغيره، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع، فالله أعلم.

_ (1) انظر الحديث فى: سنن الدارمى (1/ 652) ، صحيح البخارى (1/ 63) ، صحيح مسلم (1/ 10/ 41، 42) ، سنن النسائى (4/ 2091) .

وفد عبد القيس

وفد عبد القيس «1» وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس فى جماعة رأسهم عبد الله بن عوف الأشج، فلما أتوه قال: «من الوفد؟» أو «من القوم؟» قالوا: ربيعة، قال: «مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا الندامى» ، قالوا: يا رسول الله، إنا نأتيك من شقة بعيدة، وإن بيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا فى الشهر الحرام، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة. فأمرهم بأربع، ونهاهن عن أربع. أمرهم بالإيمان بالله وحده، وقال: «هل تدرون ما الإيمان بالله» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمسا من المغنم» . ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير. قالوا: يا نبى الله، ما علمك بالنقير؟ قال: «بلى، جذع ينقرونه فيقذفون فيه من القطيعاء، أو قال: من التمر ثم يصبون فيه من الماء حتى إذا سكن غليانه شربتموه، حتى أن أحدكم أو أن أحدهم ليضرب ابن عمه بالسيف» ، وفى القوم رجل أصابته جراحه كذلك، قال: وكنت أخبأها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه القوم سألهم: «أيكم عبد الله الأشج» ؟ فقالوا: أتاك يا رسول الله. وكان عبد الله وضع ثياب سفره، وأخرج ثيابا حسانا فلبسها، وكان رجلا دميما، فلما جاء ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دمامته قال: يا رسول الله، إنه لا يستقى فى مسوك الرجال، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه، لسانه وقلبه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم، والأناة» . فقال عبد الله: يا رسول الله، أشىء حدث فى، أم شىء جبلت عليه؟ فقال: «بل شىء جبلت عليه» «2» . وكان الأشج يسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفقه والقرآن، فكان رسول الله يدنيه منه إذا جلس، وكان يأتى أبى بن كعب فيقرأ عليه.

_ (1) راجع: السيرة (200- 201) . المنتظم لابن الجوزى (3/ 382) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 64) ، تاريخ الطبرى (3/ 136) . (2) انظر الحديث فى: سنن البيهقى (10/ 104) ، المعجم الكبير للطبرانى (5/ 317) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 64، 9/ 387، 388) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (3/ 418) ، التاريخ الكبير-- (585) ، فتح البارى لابن حجر (10/ 459) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5054) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (8/ 31) ، كنز العمال للمتقى الهندى (5836، 5837) .

ذكر خلافة ذى النورين أبى عمرو عثمان بن عفان أمير المؤمنين، رضى الله عنه ومبايعة أهل الشورى له بعد وفاة عمر، رضى الله عنه

وأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوائز، وفضل الأشج عليهم، فأعطاه اثنتى عشرة أوقية، ونشا، وذلك أكثر مما كان يجيز به الوفود. وقدم فى هذا الوفد الجارود بن عمرو، وكان نصرانيا، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه، فعرض عليه الإسلام، ودعا إليه، ورغبه فيه. فقال: يا محمد، إنى كنت على دين، وإنى تارك دينى لدينك، أفتضمن لى دينى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه» . فأسلم وحسن إسلامه، وأراد الرجوع إلى بلاده، فسأل النبى صلى الله عليه وسلم حملانا، فقال: «والله ما عندى ما أحملكم عليه» ، قال: يا رسول الله، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس، أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟ قال: «لا» ، إياك وإياها، فإنما تلك حرق النار» «1» . فخرج من عنده الجارود راجعا إلى قومه، وكان حسن الإسلام، صليبا فى دينه، حتى هلك وقد أدرك الردة، فلما رجع من كان أسلم من قومه إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان، قام الجارود فتشهد بشهادة الحق، ودعا إلى الإسلام، فقال: يا أيها الناس، إنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأكفر من لم يتشهد. ويروى: وأكفىء من لم يشهد «2» . وفد بنى مرة وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى مرة، ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث بن عوف، وذلك منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، جاؤه وهو فى المسجد، فقال الحارث بن عوف: يا رسول الله، إنا قومك وعشيرتك، نحن قوم من بنى لؤى بن غالب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للحارث: «أين تركت أهلك» ؟ قال: بسلاح وما والاها قال: «فكيف البلاد؟ قال: والله، إنا لمستنون وما فى المال مخ، فادع الله لنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقهم الغيث» ، فأقاموا أياما، ثم أرادوا الإنصراف إلى بلادهم، فجاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم مودعين له، فأمر بلالا أن يجيزهم، فأجازهم بعشر أواق، عشر أواق فضة، وفضل الحارث بن عوف، أعطاه اثنتى عشرة أوقية، ورجعوا إلى بلادهم، فوجدوا البلاد

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 80) ، مصنف عبد الرزاق (10/ 18604) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (620) . (2) انظر: السيرة (4/ 201) .

وفد خولان

مطيرة، فسألوا: متى مطرتم؟ فإذا هو ذلك اليوم الذى دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. فقدم عليه قادم بعد وهو يتجهز لحجة الوداع، فقال: يا رسول الله، رجعنا إلى بلادنا فوجدناها مضبوطة مطرا، لذلك اليوم الذى دعوت لنا فيه، ثم قلدتنا أقلاد الزرع فى كل خمس عشرة ليلة مطرة جودا، ولقد رأيت الإبل تأكل وهى بروك، وإن غنمنا ما توارى من أبياتنا، فترجع فتقيل فى أهلنا. فقال رسول الله: «الحمد الله الذى هو صنع ذلك «1» » . وفد خولان وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شعبان من سنة عشر وفد خولان، وهم عشرة، فقالوا: يا رسول الله، نحن على من وراءنا من قومنا، ونحن مؤمنون بالله عز وجل مصدقون برسوله، قد ضربنا إليك آباط الإبل، وركبنا حزون الأرض وسهولها، والمنة لله ولرسوله علينا، وقدمنا زائرين لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ذكرتم من مسيركم إلى فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة، وأما قولكم زائرين لك، فإنه من زارنى بالمدينة كان فى جوارى يوم القيامة» . قالوا: يا رسول الله، هذا السفر الذى لا توى عليه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل عم أنس؟» وهو صنم خولان الذى كانوا يعبدونه قالوا: بشر وعر، بدلنا الله به ما جئت به، وقد بقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به، ولو قد قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله فقد كنا فى غرور وفتنة يا رسول الله، إن فتنته كانت أعظم مما عسينا أن نذكره لك، فالحمد لله الذى من علينا بك، وتنقذنا من الهلكة، وما مضى عليه الآباء من عبادته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟» قالوا: يا رسول الله، لقد رأيتنا وأسنتنا حتى أكلنا الرمة، ومات الولدان غرما، وهلكت ناغيتنا وراعيتنا وحافرنا أو ما ذهب منها. فقلنا، أو من قال منا: قربوا لعم أنس قربانا يشفع لكم، فتغاثوا فتعاونوا، فجمعنا ما قدرنا عليه من عين مالنا، ثم ذهب ذاهبنا فابتاع مائة ثور، ثم حشرها علينا، فنحرناها فى غداة واحدة، وتركناها تردها السباع، ونحن أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا، فأى فتنة أعظم من هذه، فلقد رأينا العشب يوارى الرجال، ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس.

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (5/ 89) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (160) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 43) .

ذكر غزوة الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية لمنع أهلها ما صالحوا عليه أهل الإسلام أيام عمر بن الخطاب

وذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزآ له وجزآ لله بزعمهم. قالوا: كنا نزرع الزرع، فنجعل له وسطه، فنسميه له، ونسمى زرعا آخر حجرة لله جل وعز فإذا مالت الريح بالذى سميناه لله جعلناه لعم أنس، وإذا مالت الريح بالذى جعلناه لعم أنس لم نجعله لله. فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل أنزل عليه فى ذلك: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الأنعام: 136] . قالوا: وكنا نتحاكم إليه فنكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الشياطين تكلمكم» . قالوا: فأصبحنا يا رسول الله، وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضر ولا ينفع، ولا يدرى من عبده ممن لم يعبده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذى هداكم وأكرمكم بمحمد صلى الله عليه وسلم» . وسألوه عن فرائض الدين، فأخبرهم وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار لمن جاوروا، وأن يظلموا أحدا. قال: «فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» «1» . ثم أمر بهم فأنزلوا دار رملة وأمر لهم بضيافة تجرى عليهم، وأمر من يعلمهم القرآن والسنن، ثم ودعوه بعد أيام، فأجازهم، ورجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا عم أنس. وفد محارب «2» وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وفد محارب، وهم كانوا أغلظ العرب، وأفظه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك المواسم، أيام عرضه نفسه على القبائل يدعوهم إلى الله، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عشرة نائبين عن من وراءهم من قومهم، فأسلموا. وكان بلال يأتيهم بغذاء وعشاء إلى أن جلسوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الظهر إلى العصر، فعرف رجلا منهم، فأبداه النظر، فلما رآه المحاربى يديم النظر إليه، قال: كأنك

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب البر والصلة (56، 57) ، مسند الإمام أحمد (2/ 106، 195، 3/ 323) ، سنن البيهقى الكبرى (6/ 93، 10/ 134، 243) ، جمع الجوامع للسيوطى (5687) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 196) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (8/ 193) . (2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 381) .

وفد طىء

يا رسول الله توهمنى. قال: «لقد رأيتك» . فقال المحاربى: أى والله، لقد رأيتنى وكلمتنى، وكلمتك بأقبح الكلام ورددتك بأقبح الرد بعكاظ وأنت تطوف على الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» . ثم قال المحاربى: يا رسول الله، ما كان فى أصحابى أشد عليك يومئذ ولا أبعد من الإسلام منى، فأحمد الله الذى أبقانى حتى صدقت بك، ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معى على دينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه القلوب بيد الله عز وجل» . فقال المحاربى: يا رسول، استغفر لى من مراجعتى إياك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام يجب ما كان قبله من الكفر» «1» . ثم انصرفوا إلى أهليهم. وفد طىء «2» وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد وطىء، فيهم زيد الخيل «3» ، وهو سيدهم؛ فلما انتهوا إليه كلموه، وعرض عليهم الإسلام، فأسلموا، فحسن إسلامهم؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذكر لى رجل من العرب بفضل ثم جاءنى، إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما فيه» ، ثم سماه زيد الخير، وقطع له فيدا وأرضين معه؛ وكتب له بذلك كتابا، فخرج من عنده راجعا إلى قومه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ينج زيد من حمى المدينة» يسميها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ باسم غير الحمى، وغير أم ملدم. وقال زيد حين انصرف: أنيخت بآجام المدينة أربعا ... وعشرا يغنى فوقها الليل طائر فلما قضى أصحابها كل بغية ... وخط كتابا فى الصحيفة ساطر شددت عليها رحلها وسليلها ... من الدرس والشعراء والبطن ضامر فلما انتهى زيد من بلد نجد إلى ماء من مياهه، يقال له: فردة أصابته الحمى، فمات. وقال لما أحس بالموت «4» : أمر تحل قومى المشارقى غدوة ... وأترك فى بيت بفردة منجد

_ (1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 2/ 43) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 89) . (2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 356) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 59، 65) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (866) ، الإصابة الترجمة رقم (2948) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1877) . (4) انظر الأبيات فى السيرة (4/ 203) .

ذكر انتقاض فارس، ومسير عبد الله بن عامر إليها وفتحه إياها

ألا رب يوم لو مرضت لعادنى ... عوائد من لم يشف منهن يجهد فليت اللواتى عدننى لم يعدننى ... وليت اللواتى غبن عنى شهد فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان من كتبه التى قطع له رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرقتها بالنار «1» . وأما عدى بن حاتم «2» ، فكان يقول فيما ذكر عنه: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به منى، أما أنا فكنت امرأ شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير فى قومى بالمرباع، فكنت فى نفسى على دين. وكنت ملكا فى قومى، لما كان يصنع بى قومى، وما كان يصنع فى أهل دينى، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لى عربى وكان راعيا لإبل لى: لا أبا لك، أعدد لى من إبلى أجمالا ذللا سمانا، فاحتبسها قريبا منى، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذنى؛ ففعل، ثم إنه أتانى ذات غداة، فقال: يا عدى، ما كنت صانعا إذا غشيك خيل محمد فاصنعه الآن، فإنى قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد، قلت: فقرب إلى أجمالى، فقربها، فاحتملت بأهلى وولدى، ثم قلت: ألحق بأهل دينى من النصارى بالشام، وخلفت بنتا لحاتم فى الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها. وتخالفنى خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيب بنت حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سبايا من طىء، فجعلت بنت حاتم فى حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا تحبس فيها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بلغه هربى إلى الشام، فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علىّ من الله عليك، قال: «ومن وافدك؟» قالت عدى بن حاتم. قال: «الفار من الله ورسوله؟» قالت: ثم مضى وتركنى، حتى إذا كان من الغد مر بى، فقلت له مثل ذلك، وقال لى مثل ما قال بالأمس. قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بى وقد يئست، فأشار إلى رجل من خلفه أن قومى فكلميه؛ فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب

_ (1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 2/ 59) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 36) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 337) ، تاريخ الطبرى (2/ 203) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1800) ، الإصابة الترجمة رقم (5491) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3610) ، طبقات خليفة (463، 904) ، مروج الذهب (3/ 190) ، جمهرة أنساب العرب (402) ، تاريخ بغداد (1/ 189) ، تاريخ الإسلام (3/ 46) ، تهذيب التهذيب (7/ 166) ، تهذيب الكمال (925) ، خلاصة تذهيب الكمال (223) ، سير أعلام النبلاء (3/ 162) ، شذرات الذهب (1/ 74) .

الوافد، فامنن على من الله عليك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد فعلت، فلا تعجلى بخروج حتى تجدى من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى أهلك، ثم آذنينى» . فسألت عن الرجل الذى أشار إلى أن كلميه، فقيل: على بن أبى طالب، وأقمت حتى قدم ركب من بلى أو قضاعة، وإنما أريد أن آتى أخى بالشام، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومى، لى فيهم ثقة وبلاغ. فكسانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملنى، وأعطانى نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام. قال عدى: فو الله إنى لقاعد فى أهلى، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلى تؤمنا، قلت: ابنة حاتم؟ فإذا هى هى، فلما وقفت على انسحلت تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك، قلت: أى أخية، لا تقولى إلا خيرا، فو الله ما لى من عذر، لقد صنعت ما ذكرت. ثم نزلت فأقامت عندى، فقلت لها، وكانت امراة حازمة: ماذا ترين فى أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يك ملكا فلن تذل فى عز اليمن، وأنت أنت، قلت: والله، إن هذا للرأى. فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه، وهو فى مسجده، فسلمت عليه، فقال: «من الرجل؟» فقلت: عدى بن حاتم؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بى إلى بيته، فو الله إنه لعامد بى إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه فى حاجتها؛ قال: قلت فى نفسى: والله ما هذا بملك، قال: ثم مضى بى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بى بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا، فقذفها إلى؛ فقال: «اجلس على هذه» ، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، قال: «بل أنت» ، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض؛ فقلت فى نفسى: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: «إيه يا عدى بن حاتم! ألم تك ركوسيا؟» قلت: بلى، قال: «أولم تكن تسير فى قومك بالمرباع؟» قلت: بلى، قال: «فإن ذلك لم يكن يحل لك فى دينك» ؛ قلت: أجل والله، وعرفت أنه نبى مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال: «لعلك يا عدى إنما يمنعك من الدخول فى هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك

ذكر مقتل يزدجرد

والسلطان فى غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم» «1» . قال: فأسلمت. وكان عدى يقول: مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن. قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وأيم الله لتكونن الثالثة، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه. وفد كندة «2» وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث بن قيس فى ثمانين راكبا من كندة، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده، قد رجلوا جمعهم وتكحلوا، عليهم جباب [الحبرة] «3» ، قد كففوها بالحرير، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألم تسلموا؟» قالوا: بلى، قال: «فما بال هذا الحرير فى أعناقكم؟» ، قال: فشقوه منها، فألقوه. ثم قال له الأشعث بن قيس «4» : يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب، وربيعة ابن الحارث، وكانا إذا خرجا تاجرين فضربا فى بعض العرب فسئلا ممن هما؟ قالا: نحن آكل المرار، يتعززان بذلك، وذلك أن كندة كانوا ملوكا» . ثم قال لهم: لا، بل نحن بنو النضر بن كنانة، لا تقفو أمنا، ولا ننتفى من أبينا» «5» . وقال جندب بن مكيث «6» : لقد

_ (1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 335) ، مستدرك الحاكم (4/ 581) . (2) راجع: السيرة (4/ 209- 210) . المنتظم لابن الجوزى (3/ 382) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 64) ، تاريخ الطبرى (2/ 64) . (3) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل، وفى السيرة: «الحيرة» . وجبب الحيرة: الجبب جمع جبة، وهو ضرب من الثياب، والحيرة: ضرب من برود اليمن. (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (135) ، الإصابة الترجمة رقم (205) ، أسد الغابة الترجمة رقم (185) ، تهذيب التهذيب (1/ 359) ، تهذيب الكمال (119) ، خلاصة تذهيب الكمال (39) ، العبر (1/ 42، 46) ، تاريخ خليفة (116، 193، 199) . (5) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 211، 212) ، سنن ابن ماجه (2612) ، التاريخ الصغير للبخارى (11، 12) ، التاريخ الكبير للبخارى (7/ 274) . مصنف عبد الرزاق (11/ 74) . (6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (345) ، الإصابة الترجمة رقم (231) ، أسد الغابة الترجمة رقم (807) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 91) ، تقريب التهذيب (1/ 173) ، الثقات (3/ 57) ، الوافى بالوفيات (11/ 194) ، الجرح والتعديل (2/ 2103) .

وفد صداء

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قدم وفد كندة عليه حلة يمانية يقال: إنها حلة ابن ذى يزن، وعلى أبى بكر وعمر مثل ذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم عليه الوفد لبس أحسن ثيابه، وأمر عليه أصحابه بذلك. وفد صداء وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد صداء فى سنة ثمان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الجعرانة بعث بعوثا إلى اليمن، وهيأ بعثا استعمل عليهم قيس بن سعد بن عبادة، وعقد له لواء أبيض، ورفع له راية سوداء، وعسكر بناحية قناة فى أربعمائة من المسلمين، وأمره أن يطأ ناحية من اليمن كان فيها صداء، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل منهم وعلم بالجيش، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، جئتك وافدا على من ورائى، فاردد الجيش وأنا لك بقومى، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد من صدور قناة، وخرج الصدائى إلى قومه، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلا منهم، فقال سعد ابن عبادة: يا رسول الله، دعهم ينزلوا على، فنزلوا عليه، فحياهم وأكرمهم وكساهم، ثم راح بهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، وقالوا: نحن: لكن على من وراءنا من قومنا، فرجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة رجل فى حجة الوداع. ذكر هذا الواقدى عن بعض بنى المصطلق. وذكر من حديث زياد بن الحارث الصدائى أنه الذى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أردد الجيش، وأنا لك بقومى. فردهم. قال: وقدم وفد قومى، عليه، فقال لى: «يا أخا صداء، إنك لمطاع فى قومك» ، قال: قلت: بلى من الله عز وجل ومن رسوله، وكان زياد هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره. قال: فاعتشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أى سار ليلا واعتشينا معه، وكنت رجلا قويا، قال: فجعل أصحابه يتفرقون عنه، ولزمت عرزه، فلما كان فى السحر قال: «أذن يا أخا صداء» ، فأذنت على راحلتى، ثم سرنا حتى نزلنا، فذهب لحاجته، ثم رجع فقال: «يا

ذكر فتح أبرشهر، وطوس، وبيورد، ونسا، وسرخس، وصلح مرو

أخا صداء، هل معك ماء؟» قلت: معى شىء فى إداوتى. فقال: «هاته» فجئت به، فقال: «صب» ، فصببت ما فى الإداوة فى القعب، وجعل أصحابه يتلاحقون، ثم وضع كفه على الإناء، فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور، ثم قال: «يا أخا صداء، لولا انى أستحى من ربى لسقينا واستقينا» ، ثم توضأ، وقال: «أذن فى صحابى. من كانت له حاجة بالوضوء فليرد» . قال: فوردوا من آخرهم، ثم جاء بلال يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخا صداء قد أذن، ومن أذن فهو يقيم» ، فأقمت، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، وكنت سألته قبل أن يؤمرنى على قومى ويكتب لى بذلك كتابا، ففعل، فلما سلم يريد من صلاته قام رجل يتشكى من عامله، فقال: يا رسول الله، إنه أخذنا بدخول كانت بيننا وبينه فى الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير فى الإمارة لرجل مسلم، ثم قام رجل فقال: يا رسول الله، أعطنى من الصدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يكل قسمها إلى ملك مقرب، ولا نبى مرسل، حتى جزأها على ثمانية أجزاء، فإن كانت جزآ منها أعطيتك، وإن كنت عنها غنيا فإنما هو صداع فى الرأس وداء فى البطن» . فقلت فى نفسى: هاتان خصلتان حين سألت الإمارة وأنا رجل مسلم وسألته من الصدقة وأنا غنى عنها، فقلت: يا رسول الله، هذان كتاباك فاقبلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولم؟» قلت: إنى سمعتك تقول: «لا خير فى الإمارة لرجل مسلم وأنا مسلم» ، وسمعتك تقول: «من سأل من الصدقة وهو عنها غنى فإنما هى صداع فى الرأس وداء البطن» ، وأنا غنى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن الذى قلت كما قلت لك» ، فقتلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: دلنى على رجل من قومك استعمله، فدللته على رجل فاستعمله، قلت: يا رسول الله، إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها، وإذا كان الصيف قل علينا فتفرقنا على المياه، والإسلام اليوم فينا قليل، ونحن نخاف، فادع الله عز وجل لنا فى بئرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناولنى سبع حصيات» ، فناولته فعركهن بيده، ثم دفعهن إلى، وقال: «إذا انتهيت إليها فألق فيها حصاة وسم الله» . قال: ففعلت، فما أدركنا لها قعرا حتى الساعة «1» . ***

_ (1) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (5/ 303) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 63) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 355) ، كنز العمال للمتقى الهندى (37075) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 203) .

وفد غسان

وفد غسان «1» وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد غسان. قالوا أو من قاله منهم فيما ذكر الواقدى عنهم: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رمضان سنة عشر، ونحن ثلاثة نفر، فلما كنا برأس الثنية لقينا رجل على فرس متنكب قوسا، فحيانا بتحية الإسلام، فرددنا عليه تحيتنا، فقال: من أنتم؟ قلنا: رهط من غسان، قد قدمنا على محمد نسمع من كلامه ونرتاد لقومنا، قال: فانزلوا حيث ينزل الوفد، قلنا: وأين ينزل الوفد؟ قال: دار رملة بنت الحارث، ويقال: الحارث، ثم ائتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموه، قلنا: ونقدر عليه كلما أردنا؟ قال: فتبسم، فقال: أى لعمرى، إنه ليطوف بالأسواق ويمشى وحده، وكنا قوما نسمع كلام النصارى وصفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يمشى وحده لا شرطة معه، ويرعب من يراه منهم، فقلنا للرجل: من أنت لك الجنة؟ قال: أنا أبو بكر بن أبى قحافة، فقلنا: أنت فيما يزعم النصارى تقوم بهذا الأمر بعده، قال أبو بكر: الأمر إلى الله عز وجل، ثم قال: كيف تخدعون عن الإسلام وقد خبركم أهل الكتاب بصفته، وأنه آخر الأنبياء؟ قلنا: هو ذاك، فمضى ومضينا نسأل عن دار رملة حتى انتهينا إليها فنصادف وفودا من العرب كلهم مصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقلنا فيما بيننا: أترانا شر من نزى من العرب؟ ثم خرجنا حتى نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند باب المسجد واقفا، فأمدنا ببصره، وقال: «أنتم الغسانيون؟» قلنا: نعم، قال: «قدمتم مرتادين لقومكم فما انتفعتم بعلم من كان معكم من أهل الكتاب» . قلنا: يا محمد، لم نر أحدا منهم اتبعك، فوقفنا عنك لذلك، ونحن الآن على غير ما كنا عليه، فالإم تدعو؟ قال: «أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وخلع ما دعى من دونه، وأنى رسول الله» . قال قائلهم: فمن معك من اتباعك؟ قال: «الله جل وعز معى والملائكة: جبريل وميكائيل، والأنبياء، وصالح المؤمنين» ، ثم التفت ونظر إلى عمر، ولم ير أبا بكر، فقال: «هذا وصاحبه» ، قلنا: ابن أبى قحافة؟ قال: «نعم» ، قلنا: إنك لتأوى إلى ركن شديد، وقد صدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق، ولا ندرى أيتبعنا قومنا أم لا، وهم يحبون بقاء ملكهم وقرب قيصر «2» . ثم أسلموا، وأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوائز، وانصرفوا راجعين، فقدموا على قومهم،

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 382) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 71) ، تاريخ الطبرى (3/ 130) . (2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (3/ 130) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 71) .

ذكر فتح مرو الروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان

فلم يستجيبوا لهم، وكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان على الإسلام، وأدرك الثالث منهم عمر بن الخطاب عام اليرموك، فلقى أبا عبيدة فخبره بإسلامه، فكان يكرمه. وفد سلامان «1» وذكر الواقدى أيضا بإسناد له: أن خبيب بن عمرو السلامانى كان يحدث قال: قدمنا وفد سلامان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن سبعة نفر، فانتهينا إلى باب المسجد، فصادفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا منه إلى جنازة دعى إليها، فلما رأيناه قلنا يا رسول الله، السلام عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعليكم السلام، من أنتم؟» قلنا: نحن من سلامان، قدمنا عليك لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا. فالتفت إلى ثوبان غلامه، فقال: «أنزل هؤلاء حيث ينزل الوفد» ، فخرج بنا ثوبان حتى انتهى بنا إلى دار واسعة فيها نخل وفيها وفود من العرب، وإذا هى دار رملة بنت الحارث النجارية، فلما سمعنا أذان الظهر خرجنا إلى الصلاة، فقمنا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج إلى المسجد، فصلى بالناس وهو يتصفحنا، ودخل بيته فلم يلبث أن خرج، فجلس فى المسجد بين المنبر وبين بيته، وجلست عليه أصحابه، عن يمينه وعن شماله، فرأيت رجلا هو أقرب القوم منه، يكثر ما يلتفت إليه، ويحدثه. فسألت عنه، فقيل: أبو بكر بن أبى قحافة، وجئنا فجلسنا تجاه وجهه، وجعل الوفد يسألونه عن شرائع الإسلام، فلم يكد سائلهم يقطع حتى خشيت أن يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا نريد ما تريد، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسكت السائل، فقلت: أى رسول الله، ما أفضل الأعمال؟ قال: «الصلاة فى وقتها» ، ثم ذكر حديثا طويلا. قال: ثم جاء بلال، فأقام الصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس العصر، فكانت صلاة العصر أخف فى القيام من الظهر، ثم دخل بيته، فلم ينشب أن خرج فجلس فى مجلسه الأول، وجلس معه أصحابه، وجئنا فجلسنا، فلما رآنى قال: «يا أخا سلامان» ، قلت: لبيك، قال: «كيف البلاد عندكم؟» قلت: أى رسول الله، مجدبة، وما لنا خير من البلاد، فادع الله أن يسقينا فى بلادنا، فنقر فى أوطاننا ولا نسير إلى بلاد غيرنا، فإن النجع تفرق الجميع وتشتت الديار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده: «اللهم اسقهم الغيث فى

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 380- 381) .

وفد بنى عبس

ديارهم» ، فقلت: يا رسول الله، ارفع يديك، فإنه أكثر وأطيب، فتبسم رسو الله صلى الله عليه وسلم، ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قام وقمنا عنه، فأقمنا ثلاثا وضيافته تجرى علينا، ثم ودعناه، وأمر لنا بجوائز، فأعطينا خمس أواقى، لكل رجل منا، واعتذر إلينا بلال، وقال: ليس عندنا مال اليوم، فقلنا: ما أكثر هذا وأطيبه، ثم رحلنا إلى بلادنا فوجدناها قد مطرت فى اليوم الذى دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك الساعة «1» . قال الواقدى: وكان مقدمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شوال سنة عشر. وفد بنى عبس قال: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى عبس، فقالوا: يا رسول الله، قدم علينا قراؤنا، فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، وهى معايشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له فلا خير فى أموالنا، بعناها وهاجرنا من آخرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم الله من أعمالكم شيئا» ، وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خالد بن سنان، هل له عقب؟ فأخبروه أنه لا عقب له، كانت له ابنة فانقرضت، وأنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه عن خالد بن سنان، فقال: «نبى ضيعه قومه» «2» . وفد الأزد ووفد جرش» قال ابن إسحاق «4» : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبد الله الأزدى، فأسلم، وحسن إسلامه، فى وفد من الأزد، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه. وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن. فخرج صرد بن عبد الله يسير بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بجرش، وهى يومئذ مدينة مغلقة، وبها قبائل من قبائل اليمن، وقد ضوت إليها خثعم، فدخلوها معهم حين

_ (1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 2/ 67) . (2) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 2/ 42) . (3) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 381) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 71) ، تاريخ الطبرى (3/ 130) ، البداية والنهاية (5/ 84) . (4) انظر: السيرة (4/ 211- 212) .

وفد غامد

سمعوا بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فحاصروهم فيها قريبا من شهر، وامتنعوا فيها منه، ثم إنه رجع عنهم قافلا، حتى إذا كان إلى جبل يقال له: شكر، ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزما، فخرجوا فى طلبه، حتى إذا أدركوه عطف عليهم، فقتلهم قتلا شديدا. وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يرتادان وينظران؛ فبينما هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية بعد العصر، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بأى بلاد الله شكر؟» فقال الجرشيان: ببلادنا جبل يقال له: كشر وكذلك يسميه أهل جرش فقال: «إنه ليس بكشر، ولكنه شكر» ، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: «إن بدن الله لتنحر عنده الآن» ، فجلس الرجلان إلى أبى بكر أو إلى عثمان، فقال لهما: ويحكما! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن لينعى لكما قومكما، فقوموا فاسألاه أن يدعو الله ان يرفع عن قومكما؛ فقاما إليه، فسألاه عن ذلك، فقال: «اللهم ارفع عنهم» ، فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما، فوجدوا قومهما أصابهم صرد بن عبد الله فى اليوم الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال: وفى الساعة التى ذكر فيها ذكر «1» . فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، وحمى لهم حمى حول قريتهم، على أعلام معلومة، للفرس والراحلة وللميرة، بقرة الحرث، فمن رعاه من الناس فماله سحت. فقال فى تلك الغزوة رجل من الأزد، وكانت خثعم تصيب من الأزد فى الجاهلية، وكانوا يعدون فى الشهر الحرام «2» : يا غزوة ما غزونا غير خائبة ... فيها البغال وفيها الخيل والحمر حتى أتينا حميرا فى مصانعها ... وجمع خثعم قد شاعت لها النذر إذا وضعت غليلا كنت أحمله ... فما أبالى أدانوا بعد أم كفروا وفد غامد قال الواقدى: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد غامد سنة عشر، وهم عشرة، فنزلوا فى

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 372، 373) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 74، 75) . (2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 212) .

ذكر جرى الصلح بين الأحنف وبين أهل بلخ

بقيع الغرقد، وهو يومئذ أثل وطرفاء، ثم انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا فى رحلهم أحدثهم سنا، فنام عنه، وأتى سارق فسرق عيبة لأحدهم فيها أثواب له، وانتهى القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه وأقروا له بالإسلام، وكتب لهم كتابا فيه شرائع الإسلام، وقال لهم: «من خلفتم فى رحالكم؟» قالوا: أحدثنا يا رسول الله، قال: «فإنه قد نام عن متاعكم حتى أتى آت فأخذ عيبة أحدكم» ، فقال أحد القوم: يا رسول الله، ما لأحد من القوم عيبة غيرى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أخذت، وردت إلى موضعها» فخرج القوم سراعا حتى أتو رحلهم، فوجدوا صاحبهم، فسألوه عما خبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فزعت من نومى ففقدت العيبة، فقمت فى طلبها، فإذا رجل قد كان قاعدا، فلما رآنى ثار يعدو منى، فانتهيت إلى حيث انتهى، فإذا أثر حفر، وإذا هو قد غيب العيبة، فاستخرجتها، فقالوا: نشهد أنه رسول الله، فإنه قد أخبرنا بأخذها، وأنها قد ردت، فرجعوا إلى النبى فأخبروه، وجاء الغلام الذى خلفوه فأسلم. وأمر النبى صلى الله عليه وسلم أبى بن كعب «1» ، فعلمهم قرآنا، وأجازهم صلى الله عليه وسلم كما كان يجيز الوفود، وانصرفوا. وفد بنى الحارث بن كعب «2» قال ابن إسحاق «3» : وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فى شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فأقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم، فخرج خالد بن الوليد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون فى كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس، أسلموا تسلموا، فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعوا إليه،

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (6) ، الإصابة الترجمة رقم (32) ، أسد الغابة الترجمة رقم (34) ، طبقات خليفة (88، 89) ، تاريخ خليفة (167) ، الجرح والتعديل (2/ 290) ، حلية الأولياء (1/ 250) ، شذرات الذهب (1/ 32، 33) ، تهذيب التهذيب (1/ 187) ، تهذيب الكمال (70) ، خلاصة تذهيب الكمال (24) ، طبقات القراء (1/ 31) ، تذكرة الحفاظ (1/ 16) ، العبر (1/ 23) ، الاستبصار (48) . (2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 379- 380) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 72) ، تاريخ الطبرى (3/ 126) ، البداية والنهاية (5/ 88) . (3) انظر: السيرة (4/ 215- 217) .

فتح عمورية وانتقاضها

فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وبذلك كان أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا. ثم كتب خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد النبى رسول الله من خالد بن الوليد، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو: أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك فإنك بعثتنى إلى بنى الحارث بن كعب، وأمرتنى إذا أتيتهم أن لا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن أدعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا قبلت منهم، وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتللهم، وإنى قدمت عليهم، فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، كما أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت فيهم ركبانا، فقالوا: يا بنى الحارث، أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم، آمرهم بما أمرهم الله به، وأنهاهم عن ما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النبى صلى الله عليه وسلم حتى يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبى، رسول الله إلى خالد بن الوليد، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإن كتابك جاءنى مع رسولك يخبر أن بنى الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه فبشرهم وأنذرهم وأقبل وليقبل معك وفدهم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته» . فأقبل خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل معه وفد بنى الحارث بن كعب، منهم قيس بن الحصين «1» ذو الغصة، ويزيد بن عبد المدان «2» ، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قراد الزيادى «3» ، وشداد بن عبد الله القنانى «4» ، وعمرو بن عبد الله الضبابى «5» ، فلما قدموا

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2152) ، الإصابة الترجمة رقم (7175) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4340) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 19) ، الثقات (3/ 341) ، الطبقات الكبرى (1/ 268، 339) ، الجرح والتعديل (7/ 95) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2816) ، الإصابة الترجمة رقم (9309) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5586) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1653) وفيه: «عبد الله بن قريط الزيادى» ، الإصابة الترجمة رقم (4911) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3129) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1165) ، الإصابة الترجمة رقم (3873) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2397) . (5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1955) ، الإصابة الترجمة رقم (5911) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3978) .

مقتل عثمان رضى الله عنه

على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهم قال: «من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟» يعنى فى الطول والسمرة قيل: يا رسول الله، هؤلاء بنو الحارث بن كعب، فلما وقفوا عليه سلموا، وقالوا: نشهد أنك لرسول الله، وأنه لا إله إلا الله؛ قال: «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله» ، ثم قال: «أنتم الذين إذا زجروا استقدموا» ، فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثانية، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثالثة، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة، فقال يزيد بن عبد المدان: نعم، يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استدقموا، قالها أربع مرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن خالدا لم يكتب إلى بأنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رؤسكم تحت أقدامكم» . فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا، قال: «فمن حمدتم؟» قالوا: حمدنا الله الذى هدانا بك يا رسول الله، قال: «صدقتم» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم فى الجاهلية» ؟ قالوا: لم نك نغلب أحدا؛ قال: «بلى، قد كنتم تغلبون من قاتلكم» . قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله، إنا كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ أحدا بظلم؛ قال: «صدقتم» . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنى الحارث بن كعب قيس بن الحصين «1» . فرجع وفد بنى الحارث إلى قومهم فى بقية شوال أو فى صدر ذى القعدة، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر، حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم «2» ، ليفقههم فى الدين، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم، وكتب لهم كتابا

_ (1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 411، 412) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 339، 340) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1929) ، الإصابة الترجمة رقم (5826) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3905) ، نسب قريش (233) ، طبقات خليفة (20) ، التاريخ الكبير (6/ 305) ، تاريخ الثقات للعجلى (363) ، المعرفة والتاريخ (1/ 323) ، أنساب الأشراف (1/ 228) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (286) ، مروج الذهب (1896) ، الجرح والتعديل (6/ 226) ، سير أعلام النبلاء (3/ 417) ، العقد الثمين (6/ 368) ، تهذيب التهذيب (8/ 17) ، تقريب التهذيب (2/ 67) ، تذهيب التهذيب (244) ، تاريخ الإسلام (2/ 492) ، شذرات الذهب (1/ 95) .

عهد إليه فيه عهده، وأمره فيه أمره: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا بيان من الله ورسوله، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ، عهد من محمد النبى رسول الله، صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله فى أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا. والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير، ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن ويفقههم فيه، وينهى الناس، فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذى لهم، والذى عليهم، ويلين للناس فى الحق، ويشتد عليهم فى الظلم، فإن الله كره الظلم ونهى عنه، فقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، ويبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويتألف الناس حتى يفقهوا فى الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسننه وفرائضه، وما أمر الله به، والحج الأكبر، والحج الأصغر هو العمرة وينهى الناس أن يصلى أحد فى ثوب واحد صغير، إلا أن يكون ثوبا يثنى طرفيه على عاتقيه، وينهى أن يجتبى أحد فى ثوب واحد يفضى بفرجه إلى السماء، وينهى أن لا يعقص أحد شعر رأسه فى قفاه، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر، ولتكن دعواهم إلى الله وحده لا شريك له. فمن لم يدع إلى الله، ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف، حتى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين، ويمسحوا برؤسهم كما أمرهم الله، وأمر بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع والسجود يغلس بالصبح، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس فى الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل، لا تؤخر حتى تبدو النجوم فى السماء، والعشاء أول الليل، وأمره بالسعى إلى الجمعة إذا نودى لها، والغسل عند الرواح إليها، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين فى الصدقة من العقار عشر ما سقت السماء وسقت العين، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر، وفى كل عشر من الإبل شاتان، وفى كل عشرين أربع شاة، وفى كل أربعين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة، فإنها فريضة الله التى افترض على المؤمنين فى الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، وإنه من أسلم من يهودى أو نصرانى إسلاما خالصا من نفسه، ودان بدين الإسلام، فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها أى لا يفتن وعلى كل حالم: ذكر أو أنثى، حر أو عبد، دينار واف أو عوضه ثيابا.

وفد بنى حنيفة

فمن أدى ذلك، فإن له ذمة الله وذمة رسوله ومن منع ذلك، فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا، صلوات الله على محمد، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته» «1» . وفد بنى حنيفة «2» وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب الحنفى الكذاب. قال ابن إسحاق «3» : فحدثنى بعض علمائنا من أهل المدينة: أن بنى حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب، ورسول الله جالس فى أصحابه، معه عسيب من سعف النخل، فى رأسه خوصات؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب، كلمه وسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو سألتنى هذا العسيب ما أعطيتكه» «4» . قال: وقد حدثنى شيخ من بنى حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا. زعم أن وفد بنى حنيفة اتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة فى رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خلفنا صاحبا لنا فى رحالنا أو فى ركابنا يحفظها لنا، قال: فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال: «أما إنه ليس بشركم مكانا» أى لحفظه ضيعة أصحابه ذلك الذى يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم «5» . قال: ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاؤه بما أعطاه، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم، وقال: إنى قد أشركت فى الأمر معه، وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتمونى له: «أما إنه ليس بشركم مكانا» ؟ ما ذاك إلا لما كان يعلم إنى قد أشركت فى الأمر معه؛ ثم جعل يسجع لهم، ويقول فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى، وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله

_ (1) انظر الحديث فى: سنن النسائى (8/ 4868) ، مستدرك الحاكم (1/ 397) ، السنن الكبرى للبيهقى (8/ 73، 100) . (2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 382) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 45) ، تاريخ الطبرى (3/ 137) . (3) انظر: السيرة (4/ 201- 203) . (4) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 350) ، صحيح البخارى (7/ 4373) . (5) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 691) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 317) .

وفد همدان

صلى الله عليه وسلم بأنه نبى، فأصفقت معه حنيفة على ذلك. فالله أعلم أى ذلك كان «1» . وذكر الواقدى إنه قدم فى وفد بنى حنيفة الرحال بن عنفوة، وأنه كان أيام مقام الوفد يختلف إلى أبى كعب، يتعلم القرآن وشرائع الإسلام، حتى كان الرحال عندهم أفضل من كان وفد عليهم لما يرون من حرصه، فلما تنبأ مسيلمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم له الرحال بن عنفوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه فى الأمر، فافتتن الناس. وفد همدان قال ابن هشام «2» : وقدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم مالك بن نمط، وأبو ثور، وهو ذو المشعار، ومالك بن أيفع، وضمام بن مالك السلمانى، وعميرة ابن مالك الخارقى، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك، وعليهم مقطعات الحبرات، والعمائم العدنية، برحال الميس على المهرية والأرحبية، ومالك بن نمط ورجل آخر يرتجزان بالقوم، يقول أحدهما: همدان خير سوقة وأقيال ... ليس لها فى العالمين أمثال «3» محلها الهضب ومنها الأبطال ... لها إطابات وآكال «4» ويقول الآخر: إليك جاوزن سواد الريف ... فى هبوات الصيف والخريف مخطمات بحبال الليف «5» فقام مالك بن نمط «6» بين يديه، ثم قال: يا رسول الله، نصيّة من همدان، من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج، متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم فى الله لومة لائم، من مخلاف خارف، ويام وشاكر، أهل السواد والقود، أجابوا دعوة الرسول

_ (1) انظر: السيرة (4/ 202) . (2) انظر: السيرة (4/ 220) . (3) السوقة: الذين دون الملوك من الناس، الأقيال: هم الذين يلون الملك فى المنزلة. (4) الهضب: الأمكنة المرتفعة، واحدها هضبة. الأطابات: الأموال الطيبة. (5) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 202) . (6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2238) ، الإصابة الترجمة رقم (7710) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4651) .

الخاتمة

وفارقوا آلهات الأنصاب، عهدهم لا ينقض ما أقامت لعلع، وما جرى اليعفور بصلع. فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من رسول الله لمخلاف خارف، وأهل جناب الهضب، وخقاف الرمل، مع وافدها ذى المشعار مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه، على أن لهم فراعها ووهاطها، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها، ويرعون عافيها، لهم بذلك عهد الله وذمام رسوله، وشاهدهم المهاجرون والأنصار» «1» . فقال فى ذلك مالك بن نمط «2» : ذكرت رسول الله فى فحمة الدجى ... ونحن بأعلى رحرحان وصلدد وهن بنا خوض طلائع تغتلى ... بركبانها فى لا حب متمدد على كل فتلاء الذراعين جسرة ... تمر بنا مرا لهجف الخفيدد حلفت برب الراقصات إلى منى ... صوادى بالركبان من ظهر قردد بأن رسول الله فينا مصدق ... رسول أتى من عند ذى العرش مهتد فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أشد على أعدائه من محمد وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بحد المشرفى المهند وفد النخع قال الواقدى: وقدم على رسول الله وفد النخع، وهم آخر وفد، قدموا للنصف من المحرم سنة إحدى عشرة من الهجرة، فى مائتى رجل، فنزلوا دار الأضياف، ثم جاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ ابن جبل باليمن. فقال رجل منهم، يقال له زرارة بن عمرو «3» : يا رسول الله إنى رأيت فى سفرى هذا عجبا، قال: «وما رأيت» ؟ قال: رأيت أتانا تركتها فى الحى كأنها ولدت جديا أسفع أحوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تركت أمة لك مصرة على حمل» ؟ قال: نعم، قال: «فإنها قد

_ (1) ذكره ابن الأثير فى أسد الغابة (5/ 51، 52) ، ابن حجر فى الإصابة (6/ 36) . (2) انظر الأبيات فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2328) ، الإصابة الترجمة رقم (7710) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4651) ، السيرة (4/ 221- 222) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (814) ، الإصابة الترجمة رقم (2802) ، أسد الغابة الترجمة رقم (739) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 89) ، الثقات (3/ 143) ، الوافى بالوفيات (14/ 192) ، الجرح والتعديل (3/ 2724) .

ولدت غلاما وهو أبنك» ، قال: يا رسول الله، فما باله أسفع أحوى؟ قال: «ادن منى» . فدنا منه، فقال: «هل بك من برص تكتمه؟» قال: والذى بعثك بالحق، ما علم به أحد، ولا اطلع عليه غيرك. قال: «فهو ذلك» . قال: يا رسول الله ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان ودملجان ومسكتان. قال: «ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته» . قال: يا رسول الله، ورأيت عجوز اشمطاء، خرجت من الأرض. قال: «تلك بقية الدنيا» . قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لى يقال له: عمرو، وهى تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، أطعمونى آكلكم (آكلكم) : أهلكم ومالكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك فتنة تكون فى آخر الزمان» . قال: يا رسول الله، وما الفتنة؟ قال: «يقتل الناس إمامهم، ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه يحسب المسئ فيها أنه محسن، ويكون دم المؤمن أحل من شرب الماء، إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك» . قال: يا رسول الله، ادع الله أن لا أدركها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا يدركها» . فمات وبقى ابنه، وكان ممن خلع عثمان «1» . وهذا الذى تيسر لنا ذكره من شأن الوفود، وهم أكثر من هذا، ومعظم من ذكرنا إنما هو من كتاب الواقدى مع من ذكره ابن إسحاق منهم. انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثانى وأوله «بعث رسول الله إلى الملوك وكتابه إليهم»

_ (1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (5/ 388) ، الاستيعاب الترجمة رقم (814) .

فهرس محتويات الجزء الأول

فهرس محتويات الجزء الأول مقدمة التحقيق أ مقدمة المصنف 3 ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما 7 ذكر أولية بيت الله المحرم وركنه المستلم ومن تولى بناءه من ملائكته وأنبيائه صلى الله على جميعهم وسلم 30 ذكر دخول الحبشة أرض اليمن واستيلائهم على ملكها وذكر السبب فى ذلك مع ما يتصل به من أمر الفيل 83 ذكر حفر عبد المطلب زمزم وما يتصل بذلك من حديث مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم 100 ذكر بنيان قريش الكعبة مع ذكر ما أحدثوه فى المناسك 130 ذكر ما حفظ عن الأحبار والرهبان والكهان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه سوى ما تقدم من ذلك مع ذكر شىء مما سمع من ذلك عند الأصنام أو هتفت به الهواتف 135 ذكر المبعث 163 ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه 185 وفد بنى أسد 602 وفد بهراء 603 وفد بنى غدرة 603 وفد بلى 604 ضمام بن ثعلبة 605 وفد عبد القيس 607 وفد بنى مرة 608 وفد خولان 609 وفد محارب 610 وفد طىء 611 وفد كندة 614 وفد صداء 615 وفد غسان 617 وفد سلامان 618 وفد بنى عبس 619 وفد الأزد ووفد جرش 619 وفد غامد 620 وفد بنى الحارث بن كعب 621 وفد بنى حنيفة 625 وفد همدان 626 وفد النخع 627 الفهرس 629

الجزء الثاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذكر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الملوك، وكتابه إليهم يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام قال ابن هشام «1» : وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الملوك رسلا من أصحابه، وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلام. حدثنى من أثق به عن أبى بكر الهذلى قال: بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التى صد عنها يوم الحديبية، فقال: «أيها الناس، إن الله قد بعثنى رحمة وكافة، فلا تختلفوا على كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم عليه السلام» . وفى حديث ابن إسحاق: «إن الله بعثنى رحمة وكافة، فأدوا عنى يرحمكم الله، ولا تختلفوا على كما اختلف الحواريون على عيسى» ، فقال أصحابه: «وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟» ، فقال: «دعاهم إلى الذى دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضى وسلم، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل، فشكا ذلك عيسى إلى الله تعالى فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التى بعث إليها» «2» . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبى «3» إلى قيصر ملك الروم، وبعث عبد الله بن حذافة السهمى» إلى كسرى ملك فارس، وبعث عمرو بن أمية

_ (1) انظر: السيرة (4/ 231) . (2) . انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 305، 306) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 734) . (3) . انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (700) ، الإصابة الترجمة رقم (2395) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1507) ، التاريخ الكبير (3/ 254) ، تاريخ الطبرى (2/ 582) ، أنساب الأشراف (1/ 377) ، الجرح والتعديل (3/ 439) ، العقد الفريد (2/ 34) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (56) ، الأنساب لابن السمعانى (10/ 452) ، تهذيب الكمال (8/ 473) ، تهذيب التهذيب (3/ 506) ، خلاصة تهذيب الكمال (112) ، الوافى بالوفيات (4/ 51) ، تاريخ الإسلام (1/ 48) . (4) . انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1526) ، الإصابة الترجمة رقم (4641) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2891) ، خلاصة تذهيب الكمال (2/ 49) ، المعرفة والتاريخ (1/ 252) .

الضمرى «1» إلى النجاشى ملك الحبشة، وبعث حاطب بن أبى بلتعة «2» إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد* ابنى الجلندى ملك عمان، وبعث سليط بن عمرو «3» أحد بنى عامر بن لؤى إلى ثمامة بن أثال، وهوذة بن على الحنفيين ملكى اليمامة؛ وبعث العلاء بن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى العبدى ملك البحرين؛ وبعث شجاع بن وهب الأسدى «4» إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى ملك تخوم الشام «5» . ويقال: بعثه إلى حبلة بن أيهم الغسانى، وبعث المهاجر بن أبى أمية المخزومى إلى الحارث بن عبد كلال الحميرى ملك اليمن. ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وما كان من خبر دحية معه «6» ذكر الواقدى من حديث ابن عباس، ومن حديثه خرج فى الصحيحين: أن رسول

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1913) ، الإصابة الترجمة رقم (5781) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3862) ، سير أعلام النبلاء (3/ 179) ، تهذيب التهذيب (8/ 6) ، تقريب التهذيب (2/ 65) ، خلاصة تهذيب الكمال (2/ 280) ، الاستبصار (78) ، الأعلام (5/ 73) ، المعرفة والتاريخ (1/ 325) ، الرياض المستطابة (214) ، التحفة اللطيفة (3/ 291) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (472) ، الإصابة الترجمة رقم (1543) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1011) ، تاريخ خليفة (166) ، الجرح والتعديل (3/ 303) ، تهذيب التهذيب (2/ 168) ، تاريخ الإسلام (2/ 85) ، شذرات الذهب (1/ 37) . (*) كذا فى الأصل، وفى السيرة: «عياذ» . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1045) ، الإصابة الترجمة رقم (3435) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2203) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 235) ، الجرح والتعديل (4/ 1228) ، الثقات (3/ 181) ، المصباح المضىء (1/ 270، 2/ 74) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1199) «وفيه قال ابن عبد البر: شجاع بن أبى وهب ويقال: ابن وهب» . الإصابة الترجمة رقم (3859) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2388) . (5) انظر: السيرة (4/ 231) . (6) راجع: صحيح البخارى (4/ 119، 122) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (343، 348) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 377، 386) ، تاريخ الطبرى (3/ 644، 646، 651) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 77، 78) ، المصباح المضىء (2/ 76، 124) .

الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه مع دحية الكلبى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى، ليدفعه إلى قيصر، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر، وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله جل وعز فيما أبلاه من ذلك، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التمسوا لنا هاهنا أحدا من قومه نسألهم عنه. قال ابن عباس: فأخبرنى أبو سفيان بن حرب أنه كان بالشام فى رجال من قريش، قدموا تجارا، وذلك فى الهدنة التى كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، قال: فأتانا رسول قيصر، فانطلق بنا حتى قدمنا إيلياء، فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس فى مجلس ملكه عليه التاج، وحوله، عظماء الروم، فقال لترجمانه: سلهم، أيهم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبى، قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا، وليس فى الركب يومئذ رجل من بنى عبد مناف غيرى، قال قيصر: أدنوه منى، ثم أمر بأصحابى فجعلوا خلف ظهرى، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه، إنما قدمت هذا أمامكم لأسأله عن هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى، وإنما جعلتم خلف كتفيه لتردوا عليه كذبا إن قاله، قال أبو سفيان: فو الله لولا الحياء يومئذ من أن يأثروا على كذبا لكذبت عنه، ولكنى استحييت فصدقته وأنا كاره، ثم قال لترجمانه: قل له: كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ فقلت هو فينا ذو نسب قال: قل له هل قال هذا القول منكم أحد قبله؟، قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: قلت: لا، قال: هل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم قال: فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن دخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن الآن منه فى مدة، ونحن لا نخاف غدره، وفى رواية: ونحن منه فى مدة لا ندرى ما هو فاعل فيها. قال أبو سفيان: ولم تمكنى كلمة أغمزه بها لا أخاف على فيها شيئا غيرها. قال: فهل قاتلتموه؟، قلت: نعم، قال: فكيف حربكم وحربه؟، قلت: دول سجال، ندال عليه مرة ويدال علينا أخرى، قال: فما يأمركم به؟، قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد أباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، فقال لترجمانه: قل له: إنى سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها، وسألتك: هل قال هذا القول منكم أحد قبله، فزعمت أن لا، فلو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتم بقول قيل قبله،

وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فزعمت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك هل كان من آبائه ملك، فقلت: لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم، فقلت: ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، وسألتك هل يزيدون أو ينقصون، فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حتى تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وسألتك: هل قاتلتموه، فقلت: نعم، وأن حربكم وحربه دول سجال، ويدال عليكم مرة، وتدالون عليه أخرى وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك: ماذا يأمركم به، فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وهو نبى، وقد كنت أعلم أنه خارج لكم ولكن لم أظن أنه فيكم، وإن كان ما أتانى عنه حقا، فيوشك أن يملك موضع قدمى هاتين، ولو أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقيه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه. قال أبو سفيان: «ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ، فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بداعية الإسلام، أسلم لتسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون» . قال أبو سفيان: فلما قضى مقالته وفرغ الكتاب علت أصوات الذين حوله وكثر لغطهم، فلا أدرى ما قالوا، وأمر بنا فأخرجنا، فلما خرجت أنا وأصحابى وخلصنا، قلت لهم: لقد أمر أمر ابن أبى كبشة، هذا ملك بنى الأصفر يخافه، قال: فو الله ما زلت ذليلا مستيقنا أن أمره سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام «1» . وفى حديث غير هذا، ذكره أيضا الواقدى عن محمد بن كعب القرظى أن دحية الكلبى لقى قصر بحمص لما بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيصر ماش من قسطنطينة إلى إيلياء فى نذر كان عليه إن ظهرت الروم على فارس أن يمشى حافيا من قسطنطينة، فقال لدحية قومه لما بلغ قيصر: إذا رأيته فاسجد له، ثم لا ترفع رأسك أبدا حتى يأذن لك.

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (6/ 45) ، سنن أبى داود (5136) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (3/ 414) .

قال دحية: لا أفعل هذا أبدا، ولا أسجد لغير الله عز وجل، قالوا: إذ لا يؤخذ كتابك، ولا يكتب جوابك، قال: وإن لم يأخذه، فقال له رجل منهم: أدلك على أمر يأخذ فيه كتابك، ولا يكلفك فيه السجود. قال دحية: وما هو؟ قال: إن له على كل عقبة منبرا يجلس عليه، فضع صحيفتك تجاه المنبر، فإن أحد لا يحركها حتى يأخذها هو، ثم يدعو صاحبها فيأتيه. قال: أما هذا فسأفعل، فعمد إلى منبر من تلك المنابر التى يستريح عليها قيصر، فألقى الصحيفة، فدعا بها فإذا عنوانها كتاب العرب، فدعا الترجمان الذى يقرأ بالعربية، فإذا فيه: «من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم» ، فغضب أخ لقيصر يقال له: نياق، فضرب فى صدر الترجمان ضربة شديدة، ونزع الصحيفة منه، فقال له قيصر: ما شأنك، أخذت الصحيفة؟ فقال: تنظر فى كتاب رجل بدأ بنفسه قبلك؟ وسماك قيصر صاحب الروم، وما ذكر لك ملكا. فقال له قيصر: إنك والله ما علمت أحمق صغيرا، مجنون كبيرا، أتريد أن تخرق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه، فلعمرى لئن كان رسول الله كما يقول، لنفسه أحق أن يبدأ بها منى، وإن كان سمانى صاحب الروم لقد صدق، ما أنا إلا صاحبهم وما أملكهم، ولكن الله عز وجل سخرهم لى، ولو شاء لسلطهم على كما سلط فارس على كسرى فقتلوه. ثم فتح الصحيفة، فإذا فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى قيصر صاحب الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ الآية إلى قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] فى آيات من كتاب الله يدعوه إلى الله ويزهده فى ملكه ويرغبه فيما رغبه الله فيه من الآخرة، ويحذره بطش الله وبأسه» «1» . وفى حديث غير الواقدى أن دحية لما لقى قيصر قال له: يا قيصر، أرسلنى إليك من هو خير منك، والذى أرسله خير منه ومنك، فاسمع بذل، ثم أجب بنصح، فإنك إن لم تذلل لم تفهم، وإن لم تنصح لم تنصف. قال: هات. قال: هل تعلم أن المسيح كان يصلى؟. قال: نعم، قال: فإنى ادعوك إلى من كان المسيح يصلى له، وأدعوك إلى من دبر خلق السموات والأرض والمسيح فى بطن أمه، وأدعوك إلى هذا النبى الأمى، الذى بشر به موسى وبشر به عيسى ابن مريم بعده، وعندك من ذلك أثاره من علم تكفى عن العيان وتشفى عن الخبر فإن أجبت كانت لك الدنيا والآخرة، وإلا ذهبت عنك الآخرة

_ (1) انظر الحديث فى: تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (5/ 222) ، كنز العمال للمتقى الهندى (30278، 30337) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (121) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 306) .

وشوركت فى الدنيا، وأعلم أن لك ربا يقصم الجبابرة ويغير النعم. فأخذ قيصر الكتاب فوضعه على عينيه ورأسه، وقبله، ثم قال: أما والله، ما تركت كتابا إلا قرأته، ولا عالما إلا سألته، فما رأيت إلا خيرا، فأمهلنى حتى أنظر من كان المسيح يصلى له، فإنى أكره أن أجيبك اليوم بأمر أرى غدا ما هو أحسن منه، فأرجع عنه، فيضرنى ذلك ولا ينفعنى، أقم حتى أنظر. ويروى أن قيصر لما سأل أبا سفيان بن حرب عما سأله عنه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما تقدم، وأخبره به قال: والذى نفسى بيده ليوشكن أن يغلب على ما تحت قدمى، يا معشر الروم، هلم إلى أن نجيب هذا الرجل إلى ما دعا إليه، ونسأله الشام أن لا توطأ علينا أبدا، فإنه لم يكتب نبى من الأنبياء قط إلى ملك من الملوك يدعوه إلى الله فيجيبه إلى ما دعاه إليه، ثم يسأله عندها مسألة إلا أعطاه مسألته ما كانت، فأطيعوني، فلنجبه ونسأله أن لا توطأ الشام. قالوا: لا نطاوعك فى هذا أبدا، تكتب إليه تسأله ملكك الذى تحت رجليك، وهو هنالك لا يملك من ذلك شيئا، فمن أضعف منك. وفى هذا الحديث عن أبى سفيان أنه قال لقيصر لما سأله عن النبى صلى الله عليه وسلم فى جملة ما أجابه: أيها الملك، ألا أخبرك خبرا تعرف به أنه قد كذب؟. قال: وما هو؟ قلت: إنه زعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فى ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا فى تلك الليلة قبل الصباح. قال: وبطريق إيلياء عند رأس قيصر، فقال: قد علمت تلك الليلة، قال: فنظر إليه قيصر، وقال: وما علمك بهذا؟ قال: إنى كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبنى، فاستعنت عليه عمالى ومن يحضرنى فلم نستطع أن نحركه، كأنما نزاول جبلا، فدعوت النجارين فنظروا إليه فقالوا: هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان، فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح، فننظر من أين أتى، فرجعت وتركت البابين مفتوحين، فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذى فى زاوية المسجد مثقوب، وإذا فيه أثر مربط الدابة، فقلت لأصحابى: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبى، وقد صلى الليلة فى مسجدنا هذا. فقال قيصر لقومه: يا معشر الروم، ألستم تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة

نبى بشركم به عيسى ابن مريم، ترجون أن يجعله الله فيكم؟ قالوا: بلى، قال: فإن الله قد جعله فى غيركم، فى أقل منكم عددا، وأضيق منكم بلدا، وهى رحمة الله عز وجل يضعها حيث يشاء «1» . وفى الصحيح من الحديث أن هرقل لما تحقق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان يجده فيما عندهم من العلم أذن لعظماء الروم فى دسكرة له بحمص، وأمر بالأبواب فغلقت، ثم طلع عليهم، فقال: يا معشر الروم، هل لكم فى الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم، وأن تتبعوا ما قال عيسى ابن مريم؟ قالوا: وما ذاك أيها الملك؟ قال: تتبعون هذا النبى العربى. قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش واستجالوا فى الكنيسة وتناخروا، ورفعوا الصلب، وابتدروا الأبواب، فوجدوها مغلقة، فلما رأى هرقل ما رأى يئس من إسلامهم وخافهم على ملكه، فقال: ردوهم على، فردوهم، فقال: إنما قلت لكم ما قلت لأخبر كيف صلابتكم فى دينكم، فقد رأيت منكم الذى أحب، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأنهم «2» . ويروى أن قيصر لما انتهى مع قومه إلى ما ذكر، ويئس من إجابتهم كتب مع دحية جواب كتابه الذى جاءه به، يقول فيه للنبى صلى الله عليه وسلم: إنى مسلم، ولكنى مغلوب على أمرى. وأرسل إليه بهدية، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه قال: «كذب عدو الله، ليس بمسلم، بل هو على نصرانيته» ، وقبل هديته، وقسمها بين المسلمين. وقال دحية فى قدومه: ألا هل أتاها على نأيها ... بأنى قدمت على قيصر فقررته بصلاة المسيح ... وكانت من الجوهر الأحمر وتدبير ربك أمر السما ... ء والأرض فأغضى ولم ينكر وقلت تفز ببشرى المسيح ... فقال سأنظر قلت انظر فكاد يقر بأمر الرسول ... فمال إلى البدل الأعور فشك وجاشت له نفسه ... وجاشت نفوس بنى الأصفر على وضعه بيديه الكتاب ... على الرأس والعين والمنخر فأصبح قيصر فى أمره ... بمنزلة الفرس الأشقر

_ (1) انظر: التخريج السابق. (2) انظر: التخريج السابق.

ذكر توجه عبد الله بن حذافة إلى كسرى بكتاب النبى صلى الله عليه وسلم وما كان من خبره معه «1» وكسرى هذا هو أبرويز بن هرمز، أنو شروان، ومعنى أبرويز: المظفر، فيما ذكره المسعودى، وهو الذى كان غلب الروم، فأنزل الله فى قصتهم: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [1- 3: الروم] ، وأدنى الأرض فيما ذكر الطبرى هى بصرى وفلسطين، وأذرعات من أرض الشام. وذكر الواقدى من حديث الشفاء بنت عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة السهمى منصرفه من الحديبية إلى كسرى، وبعث معه كتابا مختوما فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، ادعوك بداعية الله، فإنى أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت، فعليك إثم المجوس» . قال عبد الله بن حذافة، فانتهيت إلى بابه، فطلبت الإذن عليه حتى وصلت إليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ عليه، فأخذه ومزقه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مزق ملكه» «2» . وذكر أبو رفاعة، وثيمة بن موسى بن الفرات، قال: لما قدم عبد الله بن حذافة على كسرى قال: يا معشر الفرس، إنكم عشتم بأحلامكم لعدة أيامكم بغير نبى ولا كتاب، ولا تملك من الأرض إلا ما فى يديك، وما لا تملك منها أكثر، وقد ملك الأرض قبلك ملوك أهل الدنيا وأهل الآخرة، فأخذ أهل الآخرة بحظهم من الدنيا، وضيع أهل الدنيا حظهم من الآخرة، فاختلفوا فى سعى الدنيا واستووا فى عدل الآخرة، وقد صغر هذا الأمر عندك، أنا أتيناك به، وقد والله جاءك من حيث خفت، وما تصغيرك إياه بالذى يدفعه عنك، ولا تكذيبك به بالذى يخرجك منه، وفى وقعة ذى قار على ذلك دليل. فأخذ الكتاب فمزقه، ثم قال: لى ملك هنى، لا أخشى أن أغلب عليه، ولا أشارك فيه،

_ (1) راجع: صحيح البخارى (4/ 119) ، تاريخ الطبرى (3/ 644، 654، 657) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (348، 351) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 387، 392) ، المصباح المضىء (2/ 180، 227) ، أعلام النبوة للماوردى (97، 98) . (2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (6/ 344) .

وقد ملك فرعون بنى إسرائيل، ولستم بخير منهم، فما يمنعنى أن أملككم وأنا خير منه، فأما هذا الملك فقد علمنا أنه يصير إلى الكلاب، وأنتم أولئك تشبع بطونكم وتأبى عيونكم، فأما وقعة ذى قار فهى بوقعة الشام. فانصرف عنه عبد الله، وقال فى ذلك: أبى الله إلا أن كسرى فريسة ... لأول داع بالعراق محمدا تقاذف فى فحش الجواب مصغرا ... لأمر العريب الخائفين له الردا فقلت له أرود فإنك داخل ... من اليوم فى بلوى ومنتهب غدا فأقبل وأدبر حيث شئت فإننا ... لنا الملك فابسط للمسالمة اليدا وإلا فأمسك قارعا سن نادم ... أقر بذل الخرج أو مت موحدا سفهت بتخريق الكتاب وهذه ... بتمزيق ملك الفرس يكفى مبددا ويروى أن كسرى رأى فى النوم بعد أن أخبر بخروج النبى صلى الله عليه وسلم ونزوله يثرب أن سلما وضع فى الأرض إلى السماء، وحشر الناس حوله، إذ أقبل رجل عليه عمامة، وإزار أو رداء، فصعد السلم حتى إذا كان بمكان منه نودى: أين فارس ورجالها ونساؤها ولامتها وكنوزها؟ فأقبلوا، فجعلوا فى جوالق، ثم رفع الجوالق إلى ذلك الرجل، فأصبح كسرى تعس النفس، محزونا لتلك الرؤيا، وذكرها لأساورته، فجعلوا يهونون عليه الأمر، فيقول كسرى: هذا أمر تراد به فارس، فلم يزل مهموما حتى قدم عليه عبد الله بن حذافة بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام. وذكر الواقدى من حديث أبى هريرة وغيره أن كسرى بينا هو فى بيت كان يخلو فيه إذا رجل قد خرج إليه فى يده عصا، فقال: يا كسرى، إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا، فأسلم تسلم، واتبعه يبق لك ملكك قال كسرى: أخر هذا عنى أثرا ما، فدعا حجابه وبوابيه، فتواعدهم، وقال: من هذا الذى دخل على؟ قالوا: والله، ما دخل عليك أحد، وما ضيعنا لك بابا، ومكث حتى إذا كان العام المقبل أتاه فقال له مثل ذلك، وقال: إن لا تسلم أكسر العصا. قال: لا تفعل، أخر ذلك أثرا ما، ثم جاء العام المقبل، ففعل مثل ذلك، وضرب بالعصا على رأسه فكسرها، وخرج من عنده، ويقال أن ابنه قتله فى تلك الليلة، وأعلم الله بذلك رسوله عليه السلام بحدثان كونه فأخبر صلى الله عليه وسلم بذلك رسل باذان إليه. وكان باذان عامل كسرى على اليمن، فلما بلغه ظهور النبى صلى الله عليه وسلم ودعاؤه إلى الله، كتب إلى باذان: أن ابعث إلى هذا الرجل الذى خالف دين قومه، فمره فليرجع إلى دين قومه، فإن أبى فابعث إلى برأسه، وإلا فليواعدك يوما تقتتلون فيه، فلما ورد كتابه إلى

باذان، بعث بكتابه مع رجلين من عنده، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهما وأمرهما بالمقام فأقاما أياما، ثم أرسل إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة، فقال: «انطلقا إلى باذان فأعلماه أن ربى عز وجل قد قتل كسرى فى هذه الليلة» ، فانطلقا حتى قدما على باذان، فأخبراه بذلك، فقال: إن يكن الأمر كما قال فو الله إن الرجل لنبى، وسيأتى الخبر بذلك إلى يوم كذا، فأتاه الخبر كذلك، فبعث باذان بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقال: إن الخبر أتاه بمقتل كسرى وهو مريض، فاجتمعت إليه أساورته، فقالوا: من تؤمر علينا. فقال لهم: ملك مقبل وملك مدبر، فاتبعوا هذا الرجل، وادخلوا فى دينه وأسلموا. ومات باذان، فبعث رؤسهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدهم يعرفونه بإسلامهم. ذكر إسلام النجاشى، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه مع عمرو بن أمية الضمرى «1» قال ابن إسحاق: لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، وجه إلى النجاشى عمرو بن أمية، فقال له: يا أصحمة، إن على القول، وعليك الاستماع، إنك كأنك فى الرقة علينا منا، وكأنا فى الثقة بك منك، لأنا لن نظن بك خيرا قط إلا نلناه، ولم نخفك على شىء قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفى ذلك وقع الحز وإصابة المفصل، وإلا فأنت فى هذا النبى الأمى كاليهود فى عيسى ابن مريم، وقد فرق النبى صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه، لخير سالف وأجر ينتظر، فقال النجاشى: أشهد بالله أنه للنبى الأمى الذى ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر. وذكر الواقدى أن الكتاب الذى كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشى مع عمرو ابن أمية الضمرى هو هذا: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشى ملك الحبشة. سلم أنت، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن

_ (1) راجع: صحيح البخارى (2/ 184، 185) ، صحيح مسلم (3/ 54، 5/ 116) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 410، 412) ، تاريخ الطبرى (3/ 644/ 652، 654) ، المصباح المضىء لابن حديدة (2/ 17، 75) ، الأسماء المبهمة للخطيب البغدادى (21، 22) .

المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده. وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعنى وتؤمن بالذى جاءنى، فإنى رسول الله، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، فقد بلغت ونصحت، فأقبلوا نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى» . فكتب إليه النجاشى: بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله، من النجاشى أصحمة. سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركات الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فقد بلغنى كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فو رب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا، إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين «1» . وذكر الواقدى عن سلمة بن الأكوع أن النجاشى توفى فى رجب سنة تسع، منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تبوك، قال سلمة: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم قال: «إن أصحمة النجاشى قد توفى هذه الساعة، فاخرجوا بنا إلى المصلى حتى نصلى عليه» ، قال سلمة: فحشد الناس وخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمنا وإنا لصفوف خلفه، وأنا فى الصف الرابع، فكبر بنا أربعا «2» . كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب الإسكندرية مع حاطب بن أبى بلتعة «3» ولما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك، بعث حاطبا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية بكتاب فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله رسول الله، إلى

_ (1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 83) . (2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (1534) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 39) . (3) راجع تاريخ الطبرى (3/ 644، 645) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 395، 396) ، المصباح المضىء لابن حديدة (2/ 125- 179) ، مروج الذهب للمسعودى (2/ 289) .

المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بداعية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم القبط قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] » . وختم الكتاب «1» . فخرج به حاطب حتى قدم عليه الإسكندرية، فانتهى إلى حاجبه، فلم يلبثه أن أوصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال حاطب للمقوقس لما لقيه: «إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر بك» . قال: هات. قال: «إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه، وهو الإسلام الكافى به الله، فقد ما سواه، إن هذا النبى صلى الله عليه وسلم دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له يهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمرى ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبى أدرك قوما، فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدركه هذا النبى، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به» . فقال المقوقس: «إنى قد نظرت فى أمر هذا النبى، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى إلا عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى، وسأنظر. وأخذ كتاب النبى صلى الله عليه وسلم فجعله فى حق من عاج وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبى صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك. أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه. وقد علمت أن نبيا قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت لك بغلة لتركبها. والسلام عليك» . ولم يزد على هذا، ولم يسلم. وهاتان الجاريتان اللتان ذكرهما، إحداهما مارية أم إبراهيم ابن النبى صلى الله عليه وسلم وأختها سيرين، وهى التى وهبها النبى صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت فولدت له ابنه عبد الرحمن، والبغلة هى دلدل، وكانت بيضاء. وقيل: إنه لم يكن فى العرب يومئذ غيرها، وإنها بقيت إلى زمان معاوية.

_ (1) انظر: التخريج السابق.

وذكر الواقدى بإسناد له: أن المقوقس أرسل إلى حاطب ليلة وليس عنده أحد إلا ترجمان له يترجم بالعربية، فقال له: ألا تخبرنى عن أمور أسألك عنها وتصدقنى؟ فإنى أعلم أن صاحبك قد تخيرك من بين أصحابه حيث بعثك، فقال له حاطب: لا تسألنى عن شىء إلا صدقتك، فسأله عن: ماذا يدعو إليه النبى صلى الله عليه وسلم ومن أتباعه، وهل يقاتل قومه؟ فأجابه حاطب عن ذلك كله، ثم سأله عن صفته، فوصفه حاطب ولم يستوف، فقال له: بقيت أشياء لم أرك تذكرها، فى عينيه حمرة، قل ما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوة، ويركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزى بالتمرات والكسرة، ولا يبالى من لاقى من عم وابن عم. قال حاطب: فهذه صفته. قال: كنت أعلم أنه بقى نبى، وكنت أظن أن مخرجه ومنبته بالشام، وهناك تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج فى العرب فى أرض جهد وبؤس، والقبط لا يطاوعونى فى اتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتى إياك، وأنا أضن بملكى أن أفارقه، وسيظهر على البلاد، وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده حتى يظهر على ما هاهنا، فارجع إلى صاحبك، فقد أمرت له بهدايا وجاريتين أختين فارهتين، وبغلة من مراكبى، وألف مثقال ذهبا، وعشرين ثوبا من لين، وغير ذلك، وأمرت لك بمائة دينار وخمسة أثواب. فارحل من عندى ولا تسمع منك القبط حرفا واحدا. فرجعت من عنده وقد كان لى مكرما فى الضيافة، وقلة اللبث ببابه، ما أقمت عنده إلا خمسة أيام، وإن الوفود، وفود العجم ببابه منذ شهر وأكثر. قال حاطب: فذكرت قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ضن الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه» . ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى العبدى مع العلاء بن الحضرمى بعد انصرافه من الحديبية «1» ذكر الواقدى بإسناد له عن عكرمة قال: وجدت هذا الكتاب فى كتب ابن عباس بعد موته، فنسخته، فإذا فيه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمى، إلى المنذر بن

_ (1) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 645) ، الروض الأنف للسهيلى (4/ 250) ، المصباح المضىء (2/ 335، 338) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 78) .

ساوى «1» ، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فكتب يعنى المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد، يا رسول الله، فإنى قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحب الإسلام، وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضى مجوس ويهود، فأحدث إلى فى ذلك أمرك» . فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى المنذر ابن ساوى، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد، فإنى أذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلى ويتبع أمرهم فقد أطاعنى، ومن نصح لهم فقد نصح لى، وإن رسلى قد أثنوا عليك خيرا، وإنى قد شفعتك فى قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية» «2» . وذكر غير الواقدى أن العلاء بن الحضرمى لما قدم على المنذر بن ساوى قال له: يا منذر، إنك عظيم العقل فى الدنيا، فلا تصغرن من الآخرة، إن هذه المجوسية شردين، ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يستحى من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون فى الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا أرى، فانظر: هل ينبغى لمن لا يكذب أن تصدقه، ولمن لا يخون أن تأتمنه، ولمن لا يخلف أن تثق به، فإن كان هذا هكذا فهو هذا النبى الأمى الذى والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به أو ليته زاد فى عفوه أو نقص من عقابه، إن كل ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل البصر. فقال المنذر: قد نظرت فى هذا الذى فى يدى فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت فى دينكم فوجدته للآخرة والدنيا، فما يمنعنى من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يدره، وإن من إعظام ما جاء به أن يعظم رسوله، وسأنظر. وذكر ابن إسحاق والواقدى وسيف والطبرى وغيرهم أن المنذر لما وصله العلاء

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2515) ، الإصابة الترجمة رقم (8234) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5106) . (2) انظر التخريج السابق.

برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه أسلم فحسن إسلامه. وزاد الواقدى: أن النبى صلى الله عليه وسلم استقدم العلاء بن الحضرمى، فاستخلفه العلاء مكانه على عمله. وذكر ابن إسحاق وغيره أن المنذر توفى قبل ردة أهل البحرين والعلاء عنده أميرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين. وذكر ابن قانع أن المنذر وفد على النبى صلى الله عليه وسلم ولا يصح ذلك إن شاء الله. ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى الأزديين، ملكى عمان، مع عمرو بن العاص «1» ذكر الواقدى بإسناد له إلى عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث نفرا سماهم إلى جهات مختلفة برسم الدعاء إلى الإسلام. قال عمرو: فكنت أنا المبعوث إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم معى كتابا. قال: وأخرج عمرو الكتاب، فإذا صحيفة أقل من الشبر، فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله، إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوكما بداعية الإسلام، أسلما تسلما، فإنى رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما، وخيلى تحل بساحتكما، وتظهر نبوتى على ملككما» وكتب أبى بن كعب، وختم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب. ثم خرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فقلت: إنى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخى المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال لى: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: يا عمرو، إنك ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا

_ (1) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 645) ، الروض الأنف للسهيلى (4/ 250) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 78) .

فيه قدوة. قلت: مات، ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وودت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هدانى الله للإسلام. قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبا، فسألنى أين كان إسلامى؟ قلت: عند النجاشى، وأخبرته أن النجاشى قد أسلم، قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقروه واتبعوه، قال: والأساقفة والرهبان تبعوه، قلت: نعم. قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة فى رجل واحد أفضح له من كذب. قلت: ما كذبت، وما نستحله فى ديننا. ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشى. قلت: بلى. قال: بأى شىء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشى يخرج له خرجا، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: لا، والله لو سألنى درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له نياق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا، ويدين دينا محدثا؟ قال هرقل: رجل رغب فى دين واختاره لنفسه، ما أصنع به، والله لولا الضن لملكى لصنعت كما صنعوا. قال: انظر ما تقول يا عمر، قلت: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرنى ما الذى يأمر به وينهى عنه. قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا وشرب الخمر، وينهى عن عبادة الحجر والوثن والصليب. فقال: ما أحسن هذا الذى يدعو إليه، لو كان أخى يتابعنى لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به، ولكن أخى أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا. قلت: إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم. فقال: إن هذا لخلق حسن، وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات فى الأموال حتى انتهيت إلى الإبل. فقال: يا عمرو، تؤخذ من سوائم مواشينا التى ترعى الشجر وترد المياه. فقلت: نعم. فقال: والله، ما أرى قومى فى بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا. قال: فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبرى، ثم إنه دعانى يوما فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعى، فقال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعونى أجلس، فنظرت إليه، فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختوما، ففض خاتمه، فقرأه حتى انتهى إلى آخره. ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أنى رأيت أخاه أرق منه، ثم قال: ألا تخبرنى عن قريش، كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه، إما راغب فى الدين، وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس، قد رغبوا فى الإسلام، واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا فى ضلال، فما أعلم أحدا بقى غيرك فى هذه الحرجة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، ويبيد خضراءك،

فأسلم تسلم ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال. قال: دعنى يومى هذا وارجع إلى غدا. فرجعت إلى أخيه، قال: يا عمرو، إنى لأرجوا أن يسلم إن لم يضن بملكه حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبى أن يأذن لى، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أنى لم أصل إليه، فأوصلنى إليه. فقال: إنى فكرت فيما دعوتنى إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما فى يدى وهو لا تبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى. قلت: فأنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجى خلا به أخوه، فقال: ما نحن فيما قد ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح، فأرسل إلى، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا النبى صلى الله عليه وسلم وخليا بينى وبين الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى عونا على من خالفنى «1» . وفى حديث غير الواقدى أن عمرا قال له فيما دار بينهما من الكلام: إنك وإن كنت منا بعيدا فإنك من الله غير بعيد، إن الذى تفرد بخلقك أهل أن تفرده بعبادتك، وأن لا تشرك به من لم يشركه فيك، وأعلم أنه يميتك الذى أحياك، ويعيدك الذى أبدأك، فانظر فى هذا النبى الأمى الذى جاءنا بالدنيا والآخرة، فإن كان يريد به أجرا فامنعه، أو يميل به هوى فدعه، ثم انظر فيما يجىء به، هل يشبه ما يجىء به الناس؟ فإن كان يشبهه فسله العيان وتخير عليه فى الخبر، وإن كان لا يشبهه فاقبل ما قال، وخف ما وعد. قال ابن الجلندى: إنه والله لقد دلنى على هذا النبى الأمى أنه لا يأمر بخير إلا كان أول من أخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، وأنه يفى بالعهد، وينجز الموعود، وأنه لا يزال سر قد اطلع عليه يساوى فيه أهله، وأشهد أنه نبى. كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن على مع سليط بن عمرو العامرى، وما كان من خبره معه «2» ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك يدعوهم إلى الله، بعث سليط بن عمرو إلى

_ (1) انظر التخريج السابق. (2) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 644، 645) ، المصباح المضىء لابن حديدة (2/ 354، 359) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 78) .

هوذة بن على الحنفى صاحب اليمامة والمتوج بها وهو الذى يقول فيه الأعشى، ميمون ابن قيس من كلمة: إلى هوذة الوهاب أعلمت ناقتى ... أرجى عطاء فاضلا من عطائكا فلما أتت آطام جو وأهلها ... أنيخت وألقت رحلها بقبائكا وذكر الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هوذة مع سليط حين بعثه إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هوذة بن على، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن دينى سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك» . فلما قدم عليه سليط بكتاب النبى صلى الله عليه وسلم مختوما أنزله وحياه، واقترأ عليه الكتاب، فرد ردا دون رد، وكتب إلى النبى صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومى وخطيبهم، والعرب تهاب مكانى فاجعل إلى بعض الأمر أتبعك. وأجاز سليطا بجائزة، وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبى صلى الله عليه وسلم كتابه، وقال: «لو سألنى سبابة من الأرض ما فعلت، باد وباد ما فى يده» ، فلما انصرف النبى صلى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ، يقتل بعدى» ، فقال قائل: يا رسول الله، فمن يقتله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت وأصحابك» ، فكان من أمر مسيلمة وتكذبه ما كان، وظهر المسلمون عليه فقتلوه، وكان ذلك القاتل من قتله وفق ما قاله الصادق المصدوق صلوات الله وبركاته عليه. وذكر وثيمة بن موسى أن سليط بن عمرو لما قدم على هوذة بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كسرى قد توجه، وقال له: يا هوذة، إنه قد سودتك أعظم حائلة وأرواح فى النار، وإنما السيد من متع الإيمان ثم زود التقوى، إن قوما سعدوا برأيك، فلا تشقين به، وإنى آمرك بخير مأمور به، وأنهاك عن شر منهى عنه، آمرك بعبادة الله، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإن فى عبادة الله الجنة، وفى عبادة الشيطان النار، فإن قبلت نلت ما رجوت وأمنت ما خفت، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطلع. فقال هوذة: يا سليط، سودنى من لو سودك شرفت به، وقد كان لى رأى اختبر به الأمور فقدته، فموضعه من قلبى هواء، فاجعل لى فسحة يرجع إلى رأيى فأجيبك به إن شاء الله «1» .

_ (1) انظر التخريج السابق.

وقال هوذة فى ذلك: أتانى سليط بالحوادث جمة ... فقلت له ماذا يقول سليط فقال التى فيها على غضاضة ... وفيها رجاء مطمع وقنوط فقلت له غاب الذى كنت أجتلى ... به الأمر عنى فالصعود هبوط وقد كان لى والله بالغ أمره ... أبا النصر جاش فى الأمور ربيط فأذهبه خوف النبى محمد ... فهوذة فيه فى الرجال سقيط فأجمع أمرى من يمين وشمأل ... كأنى ردود للنبال لقيط وأذهب ذاك الرأى إذ قال قائل ... أتاك رسول الله للنبى خبيط رسول الله راكب ناضح ... عليه من أوبار الحجاز غبيط سكرت ودبت فى المفارق وسنة ... لها نفس على الفؤاد غطيط أحاذر منه سورة هائمية ... فوارسها وسط الرجال عبيط فلا تعجلنى يا سليط فإننا ... نبادر أمرا والقضاء محيط وذكر الواقدى بإسناد له عن عبد الله بن مالك أنه قال: قدمت اليمامة فى خلافة عثمان بن عفان، فجلست فى مجلس لحجر، فقال رجل فى المجلس: إنى لعند ذى التاج الحنفى يعنى هوذة يوم الفصح إذ جاء حاجبه، فاستأذن لأركون دمشق وهو عظيم من عظماء النصارى فقال: ائذن له، فدخل فرحب به وتحدثا، فقال الأركون: ما أطيب بلاد الملك وأبرأها من الأوجاع. قال ذو التاج: هى أصح بلاد العرب، وهى زين بلادهم، قال الأركون: وما قرب محمد منكم؟ قال ذو التاج: هو بيثرب، وقد جاءنى كتابه يدعونى إلى الإسلام فلم أجبه. قال الأركون: لم لا تجيبه؟ قال: ضننت بدينى، وأنا ملك قومى، وإن تبعته لم أملك. قال: بلى، والله لئن اتبعته ليمكنك وإن الخيرة لك فى اتباعه، وإنه للنبى العربى الذى بشر به عيسى ابن مريم، وإنه لمكتوب عندنا فى الإنجيل: محمد رسول الله. قال ذو التاج: قد قرأت فى الإنجيل ما تذكر. ثم قال الأركون: فما لك لا تتبعه؟ قال: الحسد له، والضن بالخمر وشربها. قال: فما فعل هرقل؟ قال: هو على دينه ويظهر لرسله أنه معه، وقد سبر أهل مملكته، فأبوا أشد الإباء، فضن بملكه أن يفارقه، قال ذو التاج: فما أرانى إلا متبعه وداخلا فى دينه، فأنا فى بيت العرب، وهو مقرى على ما تحت يدى. قال البطريق: هو فاعل فاتبعه، فدعا رسولا وكتب معه كتابا، وسمى هدايا، فجاءه قومه فقالوا: تتبع محمدا وتترك دينك، لا تملكن علينا أبدا، فرفض الكتاب. قال: فأقام الأركون عنده فى حباء وكرامة، ثم وصله ووجه راجعا إلى الشام.

قال الرجل: وتبعته حين خرج، فقلت: أحق ما أخبرت ذا التاج؟ قال: نعم والله، فاتبعه، قال: فرجعت إلى أهلى فتكلفت الشخوص إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقدمت عليه مسلما، فأخبرته بكل ما كان، فحمد الله الذى هدانى. ولم يسم فى حديث الواقدى هذا الرجل، إلا أن فيه أنه كان من طيئ، ثم من بنى نبهان. وقد تقدم صدر هذا الكتاب أن عامر بن سلمة من بنى حنيفة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعوام ولاء فى الموسم بعكاظ وبمجنة وبذى المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله وإلى أن ينصروه، حتى يبلغ عن الله فلا يستجيب له أحد، وإن هوذة بن على سأل عامرا بعد انصرافه عن الموسم إلى اليمامة فى أول عام عن ما كان فى موسمهم من خبر، فأخبره خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رجل من قريش، فسأله هوذة: من أى قريش هو؟ فقال له عامر: من أوسطهم نسبا، من بنى عبد المطلب، قال هوذة: أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ فقال: هو هو، فقال هوذة: أما إن أمره سيظهر على ما هاهنا وغير ما هاهنا. ثم ذكر تكرر سؤال هوذة له عنه حتى ذكر له فى السنة الثالثة أنه رآه وأمره قد أمر، فقال له هوذة: هو الذى قلت لك، ولو أنا اتبعناه لكان خيرا لنا، ولكنا نضن بملكنا. وأخبر عامر بذلك كله سليط بن عمرو، وقد مر به منصرفا عن هوذة إذ بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسلم وأسلم عامر آخر حياة النبى صلى الله عليه وسلم ومات هوذة كافرا على نصرانيته. ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى مع شجاع بن وهب «1» ذكر الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث شجاعا إلى الحارث بن أبى شمر، وهو بغوطة دمشق، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى الحارث بن أبى شمر، سلام على

_ (1) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 644، 652) ، الروض الأنف للسهيلى (4/ 25، 251) ، المصباح المضىء لابن حديدة (2/ 314، 316) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 78) .

من اتبع الهدى وآمن به وصدق، وإنى أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبق لك ملكك» . فختم الكتاب، وخرج به شجاع بن وهب. قال: فانتهيت إلى صاحبه، فأخذه يومئذ وهو مشغول بتهيئة الإنزال والألطاف لقيصر، وهو جاء من حمص إلى إيلياء، حيث كشف الله عنه جنود فارس شكرا لله تعالى قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إنى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حاجبه: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه وكان روميا اسمه مرى يسألنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه، فكنت أحدثه، فيرق حتى يغلبه البكاء، ويقول: إنى قرأت فى الإنجيل، وأجد صفة هذا النبى بعينه فكنت أراه يخرج بالشام، فأراه قد خرج بأرض القرظ، فأنا أؤمن به وأصدقه، وأنا أخاف من الحارث بن أبى شمر أن يقتلنى. قال شجاع: فكان، يعنى هذا الحاجب، يكرمنى ويحسن ضيافتى ويخبرنى عن الحارث باليأس منه، ويقول: هو يخاف قيصر. قال: فخرج الحارث يوما فجلس، فوضع التاج على رأسه، فأذن لى عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، ثم رمى به، وقال: من ينتزع منى ملكى؟ أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته، على بالناس، فلم يزل جالسا بعرض حتى الليل، وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره خبرى، فصادف قيصر بإيلياء وعنده دحية الكلبى قد بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه: أن لا تسر إليه واله عنه ووافنى بإيلياء، قال: ورجع الكتاب وأنا مقيم، فدعانى وقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قلت: غدا، فأمر بمائة مثقال، ووصلنى مرى بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله منى السلام، وأخبره أنى متبع دينه. قال شجاع: فقدمت على النبى صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: باد ملكه، وأقرأته من مرى السلام، وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق» . قال الواقدى: ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح، وكان نازلا بجلق، ووليهم جبلة ابن الأيهم، وكان ينزل الجابية، وكان آخر ملوك غسان، أدركه عمر بن الخطاب رضى الله عنه بالجابية فأسلم، ثم إنه لاحى رجلا من مزينة، فلطم عينه، فجاء به المزنى إلى عمر رضى الله عنه وقال: خذ لى بحقى، فقال له عمر: الطم عينه، فأنف جبلة وقال: عينى وعينه سواء؟ قال عمر: نعم، فقال جبلة: لا أقيم بهذه الدار أبدا، ولحق بعمورية مرتدا، فمات هناك على ردته.

هكذا ذكر الواقدى أن توجه شجاع بن وهب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إلى الحارث بن أبى شمر، وكذلك قال ابن إسحاق. وأما ابن هشام «1» فقال: إنما توجه إلى جبلة بن الأيهم، وقد قال ذلك غيره، فالله أعلم. وذكر بعض من وافق ابن هشام على أن الرسالة كانت إلى جبلة: أن شجاع بن وهب لما قدم عليه قال له: «يا جبلة، إن قومك نقلوا هذا النبى الأمى من داره إلى دارهم يعنى الأنصار فأووه ومنعوه، وإن هذا الدين الذى أنت عليه ليس بدين آبائك، ولكنك ملكت الشام وجاورت بها الروم، ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس لملك العراق، وقد أقر بهذا النبى الأمى من أهل دينك من إن فضلناه عليك لم يغضبك، وإن فضلناك عليه لم يرضك، فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم، وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا ولك الآخرة، وكنت قد استبدلت المساجد بالبيع، والأذان بالناقوس، والجمع بالشعانين، والقبلة بالصليب، وكان ما عند الله خير وأبقى» . فقال له جبلة: «إنى والله لوددت أن الناس اجتمعوا على هذا النبى الأمى اجتماعهم على خلق السموات والأرض، ولقد سرنى اجتماع قومى له، وأعجبنى قتله أهل الأوثان واليهود واستبقاءه النصارى، ولقد دعانى قيصر إلى قتال أصحابه يوم مؤتة فأبيت عليه، فانتدب له مالك بن نافلة من سعد العشيرة، فقتله الله، ولكنى لست أرى حقا ينفعه ولا باطلا يضره، والذى يمدنى إليه أقوى من الذى يختلجنى عنه، وسأنظر» . وأما توجه المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة المخزومى، وهو شقيق أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن عبد كلال، فلم أجد عند ابن إسحاق، ولا فيما وقع إلى عن الواقدى شيئا أنقله عنهما سوى ما ذكر ابن إسحاق «2» من توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه إلى الحارث بن عبد كلال ذكرا مقتصرا فيه على القدر مختصرا من الإمتاع بما تحسن إضافته إلى ذلك من الوصف. وتقدم لابن إسحاق فى كتابه، وذكره أيضا الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك، ورسولهم إليه بإسلامهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل: ذى رعين ومعافر وهمدان، وبعث إليه زرعة ذى يزن مالك بن مرة الرهاوى بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله.

_ (1) انظر: السيرة (4/ 231) . (2) انظر: السيرة (4/ 231) .

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسيره إلى تبوك يقول: «إنى بشرت بالكنزين: فارس والروم، وأمددت بالملوك: ملوك حمير، يأكلون فىء الله ويجاهدون فى سبيل الله» . فلما قدم عليه مالك بن مرة بإسلامهم، كتب إليهم: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله النبى، إلى الحارث بن عبد كلال وإلى نعيم بن عبد كلال وإلى النعمان قيل: ذى رعين ومعافر وهمدان. أما بعد ذلكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من الأرض الروم فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم به، وخبر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه. أن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم النبى وصفيه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة وبين لهم صدقة الزرع والإبل والبقر والغنم، ثم قال: فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وله ذمة الله وذمة رسوله، وأنه من أسلم من يهودى أو نصرانى فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف من قيمة المعافر أو عوضه ثيابا، فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله. أما بعد، فإن محمد النبى أرسل إلى زرعة ذى يزن أن إذا أتاكم رسلى فأوصيكم بهم خيرا، معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة وعقبة بن نمر ومالك بن مرة وأصحابهم، وأن أجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم وأبلغوها رسلى، فإن أميرهم ابن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيا. أما بعد، فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرة الرهاوى قد حدثنى أنك قد أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيرا، ولا تخاونوا ولا تخاذلوا فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته، وإنما هى زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب، وآمركم به خيرا، وإنى قد أرسلت إليكم من صالحى أهلى وأولى دينهم وأولى علمهم وآمركم بهم خيرا، فإنه منظور إليهم، والسلام عليكم ورحمة الله» «1» . فهذا ما ذكر ابن إسحاق «2» من شأن ملوك حمير، وما كتبوا به، وكتب إليهم، وذكر الواقدى أيضا نحوه.

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (5/ 75) . (2) انظر: السيرة (4/ 212- 213) .

ولا ذكر للمهاجر بن أبى أمية فى شىء من ذلك إلا أن ابن إسحاق والواقدى ذكرا أن قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مقدمه من تبوك، وذلك فى سنة تسع، وتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك إنما كان بعد انصرافه عن الحديبية آخر سنة ست، فلعل المهاجر والله أعلم كانت وجهه حينئذ إلى الحارث بن عبد كلال فصادف منه عامئذ ترددا واستنظارا، ثم جلا الله عنه العمى فيما بعد، وأمر بهدايته فاستبان له القصد، فعند ذلك أرسل هو وأصحابه بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك يجتمع الأمران، ويصح الخبران، إذ لا خلاف بين أهل العلم بالأخبار والعناية بالسير أن ملوك حمير أسلموا وكتبوا بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنه لا خلاف بينهم أيضا فى توجيه المهاجر بن أبى أمية إلى الحارث بن عبد كلال. ويقول بعض من ذكر ذلك أن المهاجر لما قدم عليه قال له: يا حارث إنك كنت أول من عرض عليه النبى صلى الله عليه وسلم نفسه فخطيت عنه، وأنت أعظم الملوك قدرا، فإذا نظرت فى غلبة الملوك فانظر فى غالب الملوك، وإذا أسرك يومك فخف غدك، وقد كان قبلك ملوك ذهبت آثارها وبقيت أخبارها، عاشوا طويلا وأملوا بعيدا وتزودوا قليلا، منهم من أدركه الموت، ومنهم من أكلته النقم، وإنى أدعوك إلى الرب الذى إن أردت الهدى لم يمنعك، وإن أرادك لم يمنعك منه أحد، وأدعوك إلى النبى الأمى الذى ليس شىء أحسن مما يأمر به ولا أقبح مما ينهى عنه، واعلم أن لك ربا يميت الحى ويحيى الميت، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. فقال الحارث: قد كان هذا النبى عرض نفسه على، فخطيت عنه، وكان ذخرا لمن صار إليه، وكان أمره أمرا بسق، فحضره اليأس وغاب عنه الطمع، ولم تكن لى قرابة أحتمله عليها، ولا لى فيه هوى أتبعه له، غير أنى أرى أمرا لم يؤسسه الكذب، ولم يسنده الباطل، له بدو سار وعافية نافعة، وسأنظر. ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى فروة بن عمرو الجذامى ثم النفاتى، وما كان من تبرعه بالإسلام هداية من الله عز وجل له «1» ذكر الواقدى بإسناد له أن فروة بن عمرو» ، هذا كان عاملا لقيصر على عمان من

_ (1) راجع: السيرة (4/ 214) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب ترجمة رقم (2097) .

أرض البلقاء وفى كتاب ابن إسحاق: معان وما حولها من أرض الشام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى هرقل وإلى الحارث بن أبى شمر، ولم يكتب إليه، فأسلم فروة، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وبعث من عنده رسولا يقال له: مسعود بن سعد من قومه بكتاب مختوم فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد رسول الله النبى، إنى مقر بالإسلام مصدق به، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وإنه الذى بشر به عيسى ابن مريم. والسلام عليك» . ثم بعث مع الرسول بغلة بيضاء يقال لها: فضة، وحماره يعفور، وفرسا يقال له: الضرب، وبعث بأثواب من لين، وقباء من سندس مخوص بالذهب، فقدم الرسول فدفع الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقترأه، وأمر بلالا أن ينزله ويكرمه، فلما أراد الخروج كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جواب كتابه: «من محمد رسول الله، إلى فروة بن عمرو، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإنه قدم علينا رسولك بكتابك فبلغ ما أرسلت به، وخبر عن ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامك، وإن الله عز وجل قد هداك إن أصلحت وأطعت الله ورسوله وأقمت على الصلاة وآتيت الزكاة، والسلام عليك» . ولما بلغ قيصر إسلام فروة بن عمرو بعث إليه فحبسه، ولما طال حبسه أرسلوا إليه: أن ارجع إلى دينك ويعيد إليك ملكك، فقال: لا أفارق دين محمد أبدا، أما أنك تعرف أنه رسول الله، بشرك به عيسى ابن مريم، ولكنك ضننت بملكك وأحببت بقاءه. فقال قيصر: صدق والإنجيل. وذكر الواقدى أنه مات فى ذلك الحبس، فلما مات صلبوه. قال: فلما اجتمعت الروم لصلبه قال: ألا هل أتى سلمى بأن حليلها ... على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل «1» على ناقة لم يضرب الفحل أمها ... مشذبة أطرافها بالمناجل «2» وذكر ابن شهاب الزهرى أنهم لما قدموه ليقتلوه قال:

_ (1) إحدى الرواحل: المراد بها الخشبة التى صلب عليها. (2) مشذبة: قد أزيلت أغصانها.

أبلغ سراة المسلمين بأننى ... سلم لربى أعظمى ومقامى ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء، يرحمه الله. قال ابن إسحاق «1» : وقد كان تكلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذابان: مسيلمة بن حبيب الحنفى باليمامة فى بنى حنيفة، والأسود بن كعب العنسى بصنعاء. وذكر بإسناد له عن أبى سعيد الخدرى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على منبره وهو يقول: «يا أيها الناس، إنى قد رأيت ليلة القدر، ثم أنسيتها، ورأيت فى ذراعى سوارين من ذهب، فكرهتهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين: صاحب اليمن، وصاحب اليمامة» «2» . وعن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالا، كلهم يدعى النبوة» «3» . قال ابن إسحاق «4» : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان، فبعث المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة «5» إلى صنعاء، فخرج عليه العنسى وهو بها، وبعث زياد بن لبيد «6» أخا بنى بياضة الأنصارى إلى

_ (1) انظر: السيرة (4/ 222) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (4/ 1781/ 21) ، سنن الترمذى (4/ 2292) ، مسند الإمام أحمد (1/ 263، 2/ 319، 338، 344) . (3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 450) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 315) ، سنن أبى داود (4/ 4333) . (4) انظر: السيرة (4/ 223) . (5) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8271) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5134) ، مؤتلف الدارقطنى (ص 163) . (6) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2871) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1809) ، مسند أحمد (4/ 160) ، الطبقات الكبرى (3/ 598) ، التاريخ الكبير (3/ 344) ، التاريخ الصغير (1/ 41) ، تاريخ الطبرى (3/ 147) ، الجرح والتعديل (3/ 543) ، المعجم الكبير (5/ 304) ، الكامل فى التاريخ (2/ 301) ، تهذيب الكمال (9/ 506) ، الكاشف (1/ 262) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 195) ، الوافى بالوفيات (15/ 10) ، تهذيب التهذيب (3/ 382) ، خلاصة تهذيب التهذيب (125) ، تاريخ الإسلام (1/ 52) .

حضرموت وعلى صدقاتها، وبعث عدى بن حاتم «1» على طيىء وصدقاتها، وعلى بنى أسد، وبعث مالك بن نويرة اليربوعى «2» على صدقات بنى حنظلة، وفرق صدقة بنى سعد على رجلين منهم، فبعث الزبرقان بن بدر «3» على ناحية منها، وقيس بن عاصم «4» على ناحية، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمى «5» على البحرين، وبعث على بن أبى طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليهم بجزيتهم. وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد. فإنى قد أشركت فى الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون» . فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب رسولان لمسيلمة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ كتابه: «فما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما قال، فقال: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» . ثم كتب إلى مسيلمة:

_ (1) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (6/ 22) ، التاريخ الكبير (7/ 43) ، التاريخ الصغير (1/ 148) ، المعارف (313) ، الجرح والتعديل (7/ 2) ، تاريخ بغداد (1/ 189) ، تاريخ ابن عساكر (11/ 234) ، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 327) ، تهذيب الكمال (925) ، تاريخ الإسلام (3/ 46) ، العبر (1/ 74) ، تذهيب التهذيب (3/ 36) ، جامع الأصول (9/ 111) ، مرآة الجنان (1/ 142) ، تهذيب التهذيب (7/ 166) ، خلاصة تذهيب الكمال (223) ، شذرات الذهب (1/ 74) ، سير أعلام النبلاء (3/ 162) ، الإصابة ترجمة رقم (5491) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3610) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7712) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4654) . (3) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 142) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1728) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 188) ، الإصابة ترجمة رقم (2789) ، الاستبصار (314، 415) ، الأعلام (3/ 41) ، تقريب التهذيب (1/ 257) ، الطبقات الكبرى (7/ 36، 1/ 294، 2/ 161) ، الجرح والتعديل (3/ 27600) ، البداية والنهاية (5/ 41) . (4) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 338) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 22) ، الجرح والتعديل (7/ 101) ، تقريب التهذيب (2/ 129) ، تهذيب التهذيب (8/ 399) ، خلاصة تهذيب الكمال (2/ 357) ، الكاشف (2/ 305) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (816) ، التاريخ الكبير (7/ 141) ، الأنساب (9/ 135) ، بقى بن مخلد (321) ، الإصابة ترجمة رقم (7209) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4370) . (5) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (5658) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3745) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 388) ، الجرح والتعديل (6/ 356) ، التاريخ الكبير (6/ 506) .

«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين» «1» . قال ابن إسحاق: وكان ذلك فى آخر سنة عشر «2» . وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى: وقد قيل: إن دعوى مسيلمة ومن ادعى من الكذابين النبوة فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت بعد انصرافه من حجة التمام، ووقوعه فى المرض الذى توفاه الله فيه، فالله تعالى أعلم. ذكر حجة الوداع «3» وتسمى أيضا حجة التمام، وحجة البلاغ ولما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو القعدة من سنة عشر تجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز له، وخرج لخمس ليال بقين من ذى القعدة، وقد كان أذن فى الناس أنه خارج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله. قال جابر بن عبد الله: فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصرى بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شىء عملناه، فأهل بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» «4» .

_ (1) انظر الحديث فى: سنن البيهقى (9/ 211) ، مسند الإمام أحمد (3708) ، سنن أبى داود (3/ 2761) . (2) انظر: السيرة (4/ 224) . (3) عرفت باسم: حجة الوداع؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسمى أيضا حجة الإسلام. انظر: لم يحج بعدها، إذ بدأ به مرضه الذى توفاه الله فيه، كما قيل: حجة البلاغ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أرى الناس مناسكهم وعلمهم حجهم، وقيل: حجة الإسلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد أن فرض الحج فى الإسلام غيرها. راجع: طبقات ابن سعد (2/ 172- 189) ، المغازى للواقدى (3/ 1088- 1115) ، الثقات لابن حبان (2/ 124- 129) . (4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (2/ 170، 7/ 209) ، صحيح مسلم كتاب الحج، باب-

وأهل الناس بهذا الذى يهلون به، فلم يرد عليهم شيئا منه، ولزم صلى الله عليه وسلم تلبيته. وفى حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج فى حجة الوداع لم يكن يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه الهدى وأشراف من أشراف الناس، أمر الناس أن يحلوا بعمرة، إلا من ساق الهدى. وقال جابر فى حديثه: لسنا ننوى إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين البيت، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» «1» . ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه فى بطن الوادى، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال: «لو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت، لم أسق الهدى ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة» «2» . فقام سراقة بن مالك بن جعشم «3»

_ - (3) رقم (19، 20، 21، باب (19) رقم (147) ، سنن أبى داود (1812، 1813) ، سنن الترمذى (825) ، سنن ابن ماجه (2915، 2918، 3074) ، سنن النسائى (5/ 159، 160، 161) ، مسند الإمام أحمد (1/ 267، 401، 2/ 77، 401، 3/ 320، 6/ 100، 181، 230، 243) ، السنن الكبرى للبيهقى (5/ 44، 45، 7/ 48) ، موطأ مالك (331) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 219) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 360) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (2541، 2555) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (3/ 73، 5/ 55، 282، 6/ 45) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 127) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 143) . (1) انظر الحديث فى: سنن الدارمى (2/ 46) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 226) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الحج باب (19) رقم (147) . (3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3122) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1955) ، الثقات (3/ 180) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 210) ، تقريب التهذيب (1/ 284) ، تهذيب التهذيب (3/ 456) ، تهذيب الكمال (1/ 466) ، الكاشف (1/ 349) ، الجرح والتعديل (4/ 1342) ، شذرات الذهب (1/ 35) ، الطبقات (34) ، الطبقات الكبرى (9/ 78) ، بقى بن مخلد (130) ، العقد الثمين (4/ 523) ، العبر (1/ 27) ، الأعلام (3/ 80) ، الأنساب (7/ 116) .

فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة فى الأخرى، وقال: «دخلت العمرة فى الحج مرتين بل لأبد الأبد» «1» . وقدم على من اليمن ببدن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبى أمرنى بهذا، قال: فكان على يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا على فاطمة للذى صنعت، مستفتيا له فيما ذكرت عنه، فأخبرته أنى نكرت ذلك عليها، فقال: «صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟» «2» قال: قلت: اللهم إنى أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن معى الهدى فلا تحل، فكان جماعة الهدى الذى قدم به على من اليمن والذى أتى به النبى صلى الله عليه وسلم مائة. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع فى الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت به بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادى، فخطب الناس. قال ابن إسحاق «3» : ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه، فأرى الناس مناسكهم،

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب الحج باب (19) رقم (147) ، سنن أبى داود فى كتاب المناسك، باب (23) ، باب (57) ، سنن النسائى فى كتاب الحج باب (76) ، سنن الترمذى (932) ، سنن ابن ماجه (3074) ، مسند الإمام أحمد (1/ 236، 253، 259، 341، 4/ 175) ، سنن الدارمى (47) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 352، 5/ 7، 13، 18) ، مستدرك الحاكم (1/ 619، 3/ 619) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 235، 378) ، المعجم الكبير للطبرانى (2/ 144، 7/ 140، 151، 154، 11/ 83، 12/ 228) ، التمهيد لابن عبد البر (8/ 360) ، مصنف ابن أبى شيبة (4/ 102) ، إرواء الغليل للألبانى (4/ 152) ، المطالب العالية لابن حجر (1100) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11975، 11983، 12474) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 135) ، الحاوى للفتاوى للسيوطى (2/ 51) ، الكاف الشاف فى تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر (59) ، مسند الشافعى (112، 196) ، تاريخ أصبهان لأبى نعيم (2/ 191) ، سنن الدارقطنى (2/ 283) ، المنتقى لابن الجارود (465) . (2) انظر الحديث فى: المنتقى لابن الجارود (469) . (3) انظر: السيرة (4/ 227) .

وأعلمهم سنن حجهم، وخطب للناس خطبته التى بين فيها ما بين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام؛ إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربّا موضوع، ولكن لكم رؤس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مستعرضا فى بنى ليث، فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. أما بعد، أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك، فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم. أيها الناس: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة: 37] ، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، [التوبة: 36] . ثلاثة متوالية، ورجب مضر الذى هو بين جمادى وشعبان. أما بعد، أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولى، فإنى قد بلغت وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس، اسمعوا قولى واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه؛ فلا تظلمن أنفسكم.

اللهم هل بلغت؟» فذكر أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشهد» «1» . وفى حديث جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس فى خطبته: «وأنتم تسألون عنى، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد» ثلاث مرات، ثم إذن، ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب حتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه. واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع وقد شنق القصواء الزمام حتى أرسلها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة، كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، ثم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى اصفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس حتى أتى بطن محر، فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التى تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التى عند الشجرة فرماها يسبع حصات، يكبر مع كل حصاة منها، رمى من بطن الوادى، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبروا شركة فى هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت فى قدر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت فى قدر فأفاض وصلى بمكة الظهر، فأتى بنى عبد المطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: «انزعوا يا بنى عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» «2» ، فناولوه دلوا، فشرب منه. ويروى أن ربيعة بن أمية بن خلف هو الذى كان يصرخ فى الناس يقول رسول الله

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 147/ 886- 892) ، سنن أبى داود (2/ 1905) . (2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الحج (147) ، سنن أبى داود فى كتاب المناسك باب (57) ، سنن ابن ماجه (3074) ، مسند الإمام أحمد (1/ 76) ، السنن الكبرى للبيهقى (5/ 157) ، سنن الدارمى (2/ 49) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 226) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 191) ، المنتقى لابن جارود (469) .

صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: «أيها الناس، إن رسول الله يقول: هل تدرون أى شهر هذا؟» فيقوله لهم، فيقولون: الشهر الحرام، فيقول لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا، ثم يقول: قل: أيها الناس، إن رسول الله يقول: «هل تدرون أى بلد هذا؟» قال: فيصرخ به، فيقولون: البلد الحرام، فيقول: قل لهم: «إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة بلدكم هذا» ، ثم يقول: «قل: يا أيها الناس، إن رسول الله يقول: هل تدرون أى يوم هذا؟» فيقول لهم، فيقولون: يوم الحج الأكبر، فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا» «1» . وقال عمرو بن خارجة: وقفت تحت ناقة النبى صلى الله عليه وسلم وإن لعابها ليقع على رأسى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، فسمعته وهو يقول: «أيها الناس، إن الله قد أدى إلى كل ذى حق حقه، فلا وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا» «2» . ولما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة قال: «هذا الموقف، للجبل الذى هو عليه، «وكل عرفة موقف» . وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة: «هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف» . ثم لما نحر بالمنحر بمنى قال: «هذا المنحر، وكل منى منحر» «3» . فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، وقد أراهم مناسكهم، وأعلمهم ما فرض عليهم من حجهم: من الموقف، ورمى الجمار، وطواف البيت، وما أحل لهم فى حجهم، وما حرم عليهم، فكانت حجة البلاغ، وحجة الوداع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج بعدها.

_ (1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (1/ 473، 474) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 270) . (2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (4/ 2121) ، سنن النسائى (6/ 3644) ، مسند الإمام أحمد (4/ 186، 238) . (3) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (2/ 1907، 1935) ، سنن ابن ماجه (2/ 3012) ، مسند الإمام أحمد (3/ 320، 321، 326) .

ذكر مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين ولما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع أقام بالمدينة بقية ذى الحجة والمحرم وصفرا، وضرب على الناس بعثا إلى الشام، وهو البعث الذى أمر عليه أسامة بن زيد، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون، وكان آخر بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا الناس على ذلك ابتدئ صلوات الله عليه بشكوه الذى قبضه الله فيه إلى ما أراد من رحمته وكرامته فى ليال بقين من صفر أو فى أول شهر ربيع الأول، فكان أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل، فاستغفر لهم، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك. حدث أبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: «يا أبا مويهبة، إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معى» ، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى» ؛ ثم أقبل على فقال: «يا أبا مويهبة، إنى قد أوتيت مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربى والجنة» ، فقلت: بأبى أنت وأمى فخذ مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة؛ قال: «لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربى والجنة» . ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدأ به وجعه الذى قبضه الله فيه «1» . وقالت عائشة رضى الله عنها: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع، فوجدنى وأنا أجد صداعا فى رأسى، وأنا أقول: وا رأساه، فقال: «بل أنا والله يا عائشة، وا رأساه» . قالت: ثم قال: «وما ضرك لو مت قبلى، فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟» فقلت: والله لكأنى بك لو قد فعلت ذلك لرجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه، حتى استعز به وهو فى بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن فى أن يمرض فى بيتى، فأذن له «2» .

_ (1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 55، 56) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 162، 163) ، سنن الدارمى (1/ 78) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (10/ 5666) ، مسند الإمام أحمد (6/ 228) .

وفى غير حديث عائشة أن نساءه صلى الله عليه وسلم كن يومئذ تسعا: عائشة بنت أبى بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب، وأم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة، وزينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة القرشيات، وميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية، وجويرية بنت الحارث بن أبى ضرار المصطلقية، وصفية بنت حيى بن أخطب من بنى النضير. فهؤلاء التسع هن اللاتى توفى عنهن صلى الله عليه وسلم وتوفى منهن قبله عليه السلام خديجة بنت خويلد، وزيرته على الإسلام وأم بنيه وبناته كلهم ما خلا إبراهيم فإنه لسريته مارية القبطية، ولم يتزوج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، وزينب بنت خزيمة من بنى هلال ابن عامر بن صعصعة: وكانت تسمى أم المساكين لرحمتها إياهم ورقتها عليهم، فزينب هذه وخديجة توفيتا قبله، وبهما كمل عدد من بنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه ممن اتفق العلماء عليه إحدى عشرة امرأة، توفى منهن عن تسع كما ذكرنا. وقد عقد عليه السلام على نساء غيرهن، فلم يبن فى المشهور من أقاويل العلماء بواحدة منهن، فاستغنينا لذلك عن ذكرهن. ونرجع الآن إلى حديث عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم لما استأذن أزواجه أن يمرض فى بيتها فأذن له، قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى بين رجلين من أهله، أحدهما الفضل بن عباس، ورجل آخر عاصبا رأسه تخط قدماه، حتى دخل بيتى. وعن ابن عباس: أن الرجل الآخر هو على بن أبى طالب. ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه، فقال: «هريقوا على من سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم» . فأقعدناه فى مخضب لحفصة بنت عمر، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: «حسبكم حسبكم» «1» . قال الزهرى: حدثنى أبو أيوب بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر الصلاة عليهم، ثم قال: «إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا والآخرة، وبين ما عنده، فاختار ما عند الله» ، ففهمها أبو بكر وعرف أن نفسه يريد، فبكى وقال: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فقال: «على رسلك يا أبا بكر» ، ثم قال: «انظروا هذه الأبواب

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 228) ، مصنف عبد الرزاق (5/ 9754) .

اللافظة فى المسجد فسدوها إلا باب أبى بكر، فإنى لا أعلم أحدا كان أفضل فى الصحبة عندى يدا منه» «1» . وفى رواية: «فإنى لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده» . وعن عروة بن الزبير وغيره من العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ الناس فى بعث أسامة بن زيد وهو فى وجعه، فخرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر، وقد كان الناس قالوا فى إمرة أسامة أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار. فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: «أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمرى لئن قلتم فى إمارته لقد قلتم فى إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليق بها» «2» ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكمش الناس فى جهازهم، واستعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فخرج أسامة وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف من المدينة على فرسخ، فضرب به عسكره وتتام إليه الناس، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام أسامة والناس لينظروا ما الله قاض فى رسوله عليه السلام. ومن حديث عبد الله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالأنصار يوم صلى واستغفر لأصحاب أحد، وذكر من أمرهم ما ذكر، فقال يومئذ: «يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيرا، فإن الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عيبتى التى آويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» «3» ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بيته وتتام به وجعه حتى غمر. وفى الصحيحين من حديث عبيد الله بن عبد الله أنه قال لعائشة رضى الله عنها: ألا تحديثنى عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، ثقل النبى صلى الله عليه وسلم فقال: «أصلى الناس؟» قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، قالت: ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوى فأغمى عليه، ثم أفاق، فقال: «أصلى الناس؟» قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، قالت: فاغتسل ثم ذهب

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 18) ، صحيح البخارى (1/ 466) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 288) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (7/ 4250) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 759) . (3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (7/ 3800) ، مسند الإمام أحمد (5/ 224) .

لينوى فأغمى عليه، ثم أفاق، فقال: «أصلى الناس؟» قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوى فأغمى عليه، ثم أفاق فقال: «أصلى الناس؟» «1» قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله عكوف فى المسجد ينتظرون النبى صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة فأرسل النبى صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر بأن يصلى بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلى بالناس، فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا: يا عمر صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام. ومن حديث الأسود عن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» . قالت: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، قالت: فقلت لحفصة: قولى له: إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقالت له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» «2» ، قالت: فأمروا أبا بكر، فلما دخل فى الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان فى الأرض، فلما دخل المسجد وسمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقم مكانك» ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبى بكر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بالناس جالسا، وأبو بكر قائما، يقتدى أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدى الناس بصلاة أبى بكر. وعن عبد الله بن زمعة بن الأسود أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفر من المسلمين لما استعز به ودعاه بلال إلى الصلاة، فقال: «مروا من يصلى بالناس» ، قال: فخرجت فإذا عمر فى الناس، وكان أبو بكر غائبا، فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، فقام، فلما كبر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته وكان عمر رجلا مجهرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين أبو بكر؟

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 176) ، صحيح مسلم فى كتاب الصلاة (90) ، سنن النسائى (2/ 101) ، مسند الإمام أحمد (2/ 52، 6/ 251) ، سنن الدارمى (1/ 287) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 123، 8/ 151) ، كنز العمال للمتقى الهندى (18838) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 190) ، مصنف ابن أبى شيبة (2/ 331، 332، 14/ 560، 561) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 233) ، طبقات ابن سعد (2/ 2/ 19) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 228، 229) ، صحيح مسلم (1/ 94، 313) .

يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون» ، فبعث إلى أبى بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى أبو بكر بالناس يريد ما بعد من الصلوات، فقال لى عمر: ويحك، ماذا صنعت فى يا ابن زمعة والله ما ظننت حين أمرتنى إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس. قلت: والله ما أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكنى حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة للناس «1» . وعن أنس بن مالك قال: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف الستارة يوم الاثنين والناس صفوف فى الصلاة، فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا، فبهتنا ونحن فى الصلاة من فرح بخروج النبى صلى الله عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة، فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل فأرخى الستر، فتوفى من يومه ذلك. وفى رواية عن أنس أن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كان وهم يصلون الصبح، وأنه لما رفع الستر وقام على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتتنون فى صلاتهم فرحا به حين رأوه، قال: وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورا لما رأى من هيئتهم فى صلاتهم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة. قال: ثم رجع، وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفرق من وجعه. وعن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى، حتى بل دمعه الحصا، قلت: يا ابن عباس، وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: «ائتونى أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدى» ، فتنازعوا وما ينبغى عند نبى تنازع وقالوا: ما شأنه، أهجر، استفهموه، قال: «دعونى، فالذى أنا فيه خير، أوصيكم بثلاث، أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» . قال: وسكت عن الثالثة أو قالها فأنسيتها. وفى حديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم لما حضر وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبى صلى الله عليه وسلم: «هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» «2» ،

_ (1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 641) ، سنن أبى داود (4/ 4660) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (7/ 156، 9/ 137) ، صحيح مسلم فى كتاب الوصية (22) ، مسند الإمام أحمد (1/ 324) ، طبقات ابن سعد (2/ 2/ 37) ، فتح البارى لابن حجر (13/ 336) .

فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت، منهم من يقول: قوموا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا» «1» ، لما أكثروا اللغو والاختلاف عنده. قال: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. وعن عبد الله بن مسعود قال: نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، بأبى هو ونفسى له الفداء، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت أمنا عائشة فنظر إلينا وتشدد ودمعت عيناه، وقال: «مرحبا بكم، حياكم الله، رحمكم الله، آواكم الله، حفظكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، وقفكم الله، رزقكم الله، هداكم الله، نصركم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصى الله عز وجل بكم وأستخلفه عليكم، وأذكركم الله وأشهدكم أنى لكم منه نذير وبشير أن لا تعلوا على الله فى عباده وبلاده فإنه عز وجل قال لى ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الزمر: 32] ، وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [60: الزمر] » ، قلنا: متى أجلك يا رسول الله؟ قال: «دنا الأجل والمنقلب إلى الله عز وجل وإلى سدرة المنتهى وإلى جنة المأوى والفردوس الأعلى والكأس الأوفى والعيس والحظ المهنى» . قلنا: فمن يغسلك يا رسول الله؟ قال: «رجال أهل بيتى الأدنى فالأدنى» ، قلنا: ففيم نكفنك يا رسول الله؟ قال: «فى ثيابى هذه إن شئتم أو فى بياض مصر أو حلة يمانية» ، قلنا: فمن يصلى عليك يا رسول الله؟ قال: فبكى وبكينا، فقال: «مهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على شفير قبرى ثم اخرجوا عنى ساعة، فإن أول من يصلى على خليلى وجليسى

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 235، 5/ 138، 6/ 12، 7/ 89، 8/ 174) ، صحيح مسلم فى كتاب الوصية باب (5) رقم (22) ، وكتاب الأشربة باب (20) رقم (140، 142، 143) ، مسند الإمام أحمد (1/ 336، 3/ 158، 218، 232) ، السنن الكبرى للبيهقى (4، 273) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 389) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 517، 9/ 526، 10/ 126، 11/ 570) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (2/ 206، 7/ 181) ، موطأ مالك (927) ، مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 307) ، كنز العمال للمتقى الهندى (35444) ، مصنف ابن أبى شيبة (7/ 416) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 90، 7/ 184) ، طبقات ابن سعد (2/ 2/ 38) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (137، 147) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 227) ، 6/ 121، 154) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 4) .

جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنوده بأجمعهم مع الملائكة عليهم السلام، ثم ادخلوا على أفواجا فصلوا على وسلموا تسليما، ولا يؤمكم أحد ولا تؤذونى بتزكية ولا نصيحة ولا برنة، واقرؤا أنفسكم منى السلام، ومن كان غائبا من أصحابى فأبلغوه عنى السلام، وأشهدكم أنى قد سلمت على من دخل فى الإسلام وعلى من تابعنى على دينى من اليوم إلى يوم القيامة» . قلنا: فمن يدخلك قبرك يا رسول الله؟ قال: «رجال أهل بيتى الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثير يرونكم من حيث لا ترونهم» «1» . وعن الفضل بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له وهو موعوك قد عصب رأسه: «خذ بيدى» «2» . قال: فأخذت بيده حتى جلس على المنبر، ثم قال: «ناد فى الناس» . فصحت فى الناس، فاجتمعوا إليه، فقال: «أما بعد، أيها الناس، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، وإنه قد دنا منى خفوف من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضى فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه، ولا يقل رجل: إنى أخشى الشحناء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وأن الشحناء ليست من طبيعتى، ولا من شأنى، ألا وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقا إن كان له أو حللنى، فلقيت الله عز وجل وأنا طيب النفس، وقد أرى أن هذا غير مغن عنى حتى أقوم فيكم مرارا» . قال الفضل: ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى فى الشحناء وغيرها، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن لى عندك ثلاثة دراهم، فقال: «أما إنا لا نكذب قائلا، ولا نستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندى؟» «3» فقال: يا رسول الله، أتذكر يوم مر بك المسكين فأمرتنى فأعطيته ثلاثة دراهم؟ فقال: «أعطه يا فضل» «4» ، ثم قال: «أيها الناس، من كان عنده شىء فليرده ولا يقل رجل: فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة» «5» . فقام رجل فقال: يا رسول الله، عندى ثلاثة دراهم غللتها فى سبيل الله، قال: «ولم غللتها؟» قال: كنت إليها محتاجا، قال: «خذها منه يا فضل» ، ثم قال: «من

_ (1) انظر الحديث فى: إتحاف السادة المتقين للزبيدى (10/ 386) ، المطالب العالية لابن حجر (4392، 4393) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (4/ 198) . (2) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (6/ 74) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 25) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 179) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 231) . (3) انظر الحديث فى: ميزان الاعتدال (6855) ، المعجم الكبير للطبرانى (18/ 281) . (4) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (6/ 75) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 231) . (5) انظر الحديث فى: جمع الجوامع للسيوطى (9570) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11051) .

خشى من نفسه شيئا فليقم أدع له» ، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إنى لكذوب، وإنى لفاحش، وإنى لنؤم. فقال: «اللهم ارزقه الصدق وأذهب عنه النوم إذا أراد» . ثم قال رجل فقال: والله يا رسول الله إنى لكذاب وإنى لمنافق وما شىء أو إن شىء إلا قد جئته. فقام عمر بن الخطاب فقال: فضحت نفسك أيها الرجل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «يا ابن الخطاب، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وصير أمره إلى خير» . فقال عمر كلمة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «عمر معى وأنا مع عمر والحق بعدى مع عمر حيث كان» «1» . وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، قالت: فلما اشتد وجعه كنت أنا أقرأ عليه وأمسح عنه بيمينه رجاء بركتها. وعنها قالت: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أغبط أحدا بهون موت بعد الذى رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت رضى الله عنها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه صلى الله عليه وسلم بالماء، ثم يقول: «اللهم أعنى على منكرات الموات أو سكرات الموت» «2» . وعنها، وعن عبد الله بن عباس أيضا قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يلقى خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» «3» . يحذرهم مثل ما صنعوا. وعن أسامة بن زيد قال: لما ثقل النبى صلى الله عليه وسلم وهبطت وهبط الناس معى إلى المدينة يعنى

_ (1) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (18/ 281) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 26) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 64، 70، 77، 151) ، سنن ابن ماجه (1623) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 105) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (1564) ، فتح البارى لابن حجر (8/ 140، 11/ 362) ، كنز العمال للمتقى الهندى (18836) ، طبقات ابن سعد (2/ 2/ 47) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 239) . (3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 119، 4/ 206، 6/ 14، 7/ 109) ، صحيح مسلم فى كتاب المساجد باب (3) رقم (22) ، سنن النسائى (2/ 40) ، مسند الإمام أحمد (6/ 275، 299) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 203) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 238) .

الجيش الذى كان تهيأ للخروج معه فى بعثه قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصمت فلا يتكلم، وجعل يرفع يديه إلى السماء، ثم يضعهما على، أعرف أنه يدعو لى. وذكر ابن إسحاق «1» : من حديث أبى بكر بن عبد الله بن أبى مليكة أن مما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس يوم صلى قاعدا عن يمين أبى بكر أن قال لهم لما فرغ من الصلاة وأقبل عليهم فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد، يقول: «يا أيها الناس، سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، إنى والله ما تمسكون على بشىء، إنى لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن» . قال: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه قال له أبو بكر: يا رسول الله، إنى أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب، واليوم يوم بنت خارجة، أفآتيها؟ قال: «نعم» ، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح «2» . وعن عبد الله بن عباس قال: خرج يومئذ على بن أبى طالب رضى الله عنه على الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا. قال: فأخذ العباس بيده، ثم قال: يا على، أنت والله عبد العصا، بعد ثلاث مرات، أحلف بالله لقد رأيت الموت فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كنت أعرفه فى وجوه بنى عبد المطلب، فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه، وإن كان فى غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس. فقال على: إنى والله لا أفعل، والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم. وقالت عائشة رضى الله عنها: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك اليوم حين دخل المسجد فاضطجع فى حجرى، فدخل على رجل من آل أبى بكر وفى يده سواك أخضر، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يده نظرا عرفت أنه يريده، فقلت: يا رسول الله، أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال: «نعم» ، قالت: فأخذته فمضغته له حتى لينته، ثم أعطيته إياه؛ قالت: فاستن به كأشد ما رأيته استن بسواك قط، ثم وضعه؛ ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل فى حجرى، فذهبت أنظر فى وجهه، فإذا بصره قد شخص وهو يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنة» «3» ؛ قالت: فقلت: خيرت فاخترت والذى بعثك بالحق.

_ (1) انظر: السيرة (4/ 278) . (2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (7/ 201) . (3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 274) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (10/ 288، 293) .

وقالت: كان عليه السلام كثيرا ما أسمعه يقول: «إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره» ، فلما حضر كان آخر كلمة سمعتها منه وهو يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنة» فقلت: إذا والله لا يختارنا، وعرفت أنه الذى كان يقول لنا: «إن نبيا لم يقبض حتى يخير» «1» . قالت: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أنس بن مالك قال: لما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت ما وجد قالت فاطمة، واكرباه لكربك يا أبة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «لا كرب على أبيك بعد اليوم، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا لموافاة يوم القيامة» «2» . وقالت عائشة رضى الله عنها: كان آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» «3» . وقالت أم سلمة: كان عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» «4» ، حتى جعل يلجلجها فى صدره، وما يقبض بها لسانه. وقال أنس بن مالك: شهدته يوم توفى صلى الله عليه وسلم فلم أر يوما كان أقبح منه.

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 45، 48، 74، 89، 108، 120، 126) ، صحيح مسلم (4/ 1893/ 85) . (2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (1629) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (10/ 263) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 212) ، كنز العمال للمتقى الهندى (18818، 18820) ، تاريخ أصفهان (2/ 221) . (3) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 325) ، مسند الإمام أحمد (6/ 275) . (4) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (1625، 2697، 2698) ، مسند الإمام أحمد (3/ 117) ، مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 237) ، طبقات ابن سعد (2/ 2/ 44) ، شرح السنة للبغوى (9/ 350) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (10/ 297) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (3/ 215) ، كنز العمال للمتقى الهندى (18863) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (3356، 3357) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 238) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (4/ 240) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (2/ 236) ، المغنى عن حمل الأسفار للعراقى (2/ 44) ، مشكل الآثار للطحاوى (4/ 235، 236) ، تفسير ابن كثير (8/ 314) ، علل الحديث لابن أبى حاتم الرازى (300) .

وقالت عائشة: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحرى ونحرى، وفى دولتى «1» ، لم أظلم فيه أحدا، فمن سفهى وحداثة سنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو فى حجرى، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت التدم مع النساء، وأضرب وجهى «2» . واختلف أهل العلم بهذا الشأن فى اليوم الذى توفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهر بعد اتفاقهم على أنه توفى يوم الاثنين فى شهر ربيع الأول. فذكر الواقدى وجمهور الناس أنه توفى يوم الاثنين لاثنتى عشرة خلت من ربيع الأول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة، وهذا لا يصح، وقد جرى فيه على العلماء من الغلط ما علينا بيانه، وذلك أن المسلمين قد أجمعوا على أن وقفة النبى صلى الله عليه وسلم بعرفة فى حجة الوداع كانت يوم الجمعة تاسع ذى الحجة من سنة عشر، فاستهل هلال ذى الحجة على هذا ليلة الخميس، ثم لا يخلو شهر ذى الحجة والمحرم بعده من سنة إحدى عشرة ثم صفر بعده أن تكون هذه الأشهر الثلاثة كاملة كلها أو ناقصة كلها، أو اثنان منها كاملين وواحد ناقصا، أو اثنان منها ناقصين وواحد كاملا، وأيا ما قدرت من ذلك واعتبرته لم تجد الثانى عشر من ربيع الأول يكون يوم الاثنين أصلا. وذكر أبو جعفر الطبرى بإسناد يرفعه إلى فقهاء أهل الحجاز، قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار يوم الاثنين لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول. وهذا القول وإن خالف ما ذكره جهور العلماء فإنه أولى بالصواب، وأمكن أن يكون حقا، فإنه إن كانت الأشهر الثلاثة كل شهر منها من تسعة وعشرين يوما كان استهلال شهر ربيع الأول على ذلك بالأحد فكان يوم الاثنين ثانيه. وقد حكى الخوارزمى أنه صلى الله عليه وسلم توفى أول يوم من شهر ربيع الأول، وهذا أيضا أمكن وأكثر إذ اتصال النقص فى ثلاثة أشهر لا يكون إلا قليلا، والله تعالى أعلم. ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفعت الرنة عليه وسجته الملائكة دهش الناس كما روى عن غير واحد من الصحابة وطاشت عقولهم، وأفحموا، واهتلطوا، فمنهم من خبل، ومنهم من أصمت، ومنهم من أقعد إلى الأرض، فكان عمر رضى الله عنه ممن خبل، فجعل يصيح ويقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى وإنه والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين

_ (1) فى دولتى: أى فى نوبتها. (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 48/ 121، 200، 274) ، صحيح البخارى (3/ 1389) .

ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات. وأما عثمان بن عفان رضى الله عنه فأخرس حتى جعل يذهب به ويجاء ولا يتكلم. وأقعد على رضى الله عنه فلم يستطع حراكا. وأضنى عبد الله بن أنيس. وبلغ الخبر أبا بكر رضى الله عنه وهو بالسنح فجاء وعيناه تهملان وزفراته تترد فى صدره وغصصه ترتفع كقطع الحرة وهو فى ذلك رضوان الله عليه جلد العقل والمقالة، حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكب عليه وكشف عن وجهه ومسحه وقبل جبينه وجعل يبكى ويقول: بأبى أنت وأمى طبت حيا وميتا، ولنقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء من النبوة، فعظمت عن الصفة، وجللت عن البكاء، وخصصت حتى صرت مسلاة، وعممت حتى صرنا فيك سواء، ولولا أن موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بالنفوس، لولا أنك نهيت عن البكاء لأنفذنا عليك ماء الشون، فأما ما لا نستطيع نفيه عنا فكمد وأدناف يتخالفان لا يبرحان، اللهم فأبلغه عنا، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك، فلولا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة، اللهم أبلغ نبيك عنا واحفظه فينا. ثم خرج إلى الناس وهم فى عظيم غمراتهم وشديد سكراتهم فقام فيهم بخطبة جلها الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم وقال فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، وأشهد أن الكتاب كما نزل وأن الدين كما شرع، وأن الحديث كما حدث، وأن القول كما قال، وأن الله هو الحق المبين ... فى كلام طويل، ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، وإن الله قد تقدم إليكم فى أمره فلا تدعوه جزعا، قال الله تبارك وتعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] . وإن الله سبحانه قد اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه، وخلف فيكم كتابه وسنة نبيه، فمن أخذ بهما عرف ومن فرق بينهما أنكر، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم، ولا يلفتنكم عن دينكم، فعاجلوا الشيطان بالخزى تعجزوه ولا تستنظروه فليلحق بكم.

فلما فرغ من خطبته التفت إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: يا عمر، أنت الذى بلغنى عنك أنك تقول على باب النبى صلى الله عليه وسلم: والذى نفس عمر بيده ما مات نبى الله أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم كذا: كذا وكذا، وقال يوم كذا: كذا وكذا، وقال الله تعالى فى كتابه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [30: الزمر] . فقال عمر: والله لكأنى لم أسمع بها فى كتاب الله تعالى قبل ذلك لما نزل بنا، أشهد أن الكتاب كما نزل وأن الحديث كما حدث وأن الله تبارك وتعالى حى لا يموت، صلوات الله على رسوله، وعند الله نحتسب رسوله. وفى بعض سياق هذا الخبر أن أبا بكر رضى الله عنه لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى فى ناحية البيت عليه برد حبرة، أقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبى أنت وأمى، أما الموتة التى كتبها الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا، ثم رد البرد على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: يا عمر، أنصت. فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل يكلم الناس، فلما سمع الناس كلام أبى بكر أقبلوا عليه وتركوا عمر؛ فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، ثم تلا هذه الآية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمران: 144] إلى آخر الآية. قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ؛ وأخذها الناس عن أبى بكر، فإنما هى فى أفواهم. وقال عمر رضى الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت «1» حتى وقعت إلى الأرض، ما تحملنى رجلاى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات «2» . وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيما كان منه يومئذ: لعمرى لقد أيقنت أنك ميت ... ولكنما أبدى الذى قلته الجزع وقلت يغيب الوحى عنا لفقده ... كما غاب موسى ثم يرجع كما رجع وكان هواى أن تطول حياته ... وليس لحى فى بقا ميت طمع

_ (1) عقرت: أى دهشت وتحيرت. (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى فى كتاب فضائل الصحابة (7/ 3667- 3668) .

فلما كشفنا البرد عن حر وجهه ... إذا الأمر بالجدع الموعب قد وقع فلم تك لى عند المصيبة حلية ... أرد بها أهل الشماتة والقذع سوى إذن الله الذى فى كتابه ... وما أذن الله العباد به يقع وقد قلت من بعد المقالة قولة ... لها فى حلوق الشامتين به بشع ألا إنما كان النبى محمد ... إلى أجل وافى به الموت فانقطع ندين على العلات منا بدينه ... ونعطى الذى أعطى ونمنع ما منع ووليت محزونا بعين سخينة ... أكفكف دمعى والفؤاد قد انصدع وقلت لعينى كل دمع ذخرته ... فجودى به إن الشجى له دفع وذكر ابن إسحاق «1» بإسناد يرفعه إلى عبد الله بن عباس قال: إنى لأمشى مع عمر فى خلافته وهو عامد إلى حاجة له، وفى يدة الدرة ما معه غيرى، وهو يحدث نفسه ويضرب وخشى قدمه بدرته، إذ التفت إلى فقال: يا ابن عباس، هل تدرى ما حملنى على مقالتى التى قلت حين توفى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: لا أدرى يا أمير المؤمنين؛ أنت أعلم. قال: فإنه والله، إن حملنى على ذلك إلا أنى كنت أقرأ هذه الآية: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [143: البقرة] ، فو الله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، فإنه للذى حملنى على أن قلت ما قلت «2» . وذكر موسى بن عقبة أن المقام الذى قام به أبو بكر رضى الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد الذى كان من عمر من القول هو أنه خرج سريعا إلى المسجد من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوطأ رقاب الناس حتى جاء المنبر وعمر يكلم الناس ويوعد من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، فجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلا، فقام أبو بكر على المنبر فنادى الناس أن اجلسوا وأنصتوا، فتشهد بشهادة الحق، ثم قال: إن الله قد نعى نبيكم لنفسه وهو حى بين أظهركم، ونعى لكم أنفسكم، فهو الموت حتى لا يبقى أحد إلا الله، يقول الله عز وجل: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [144: آل عمران] . وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [30: الزمر]

_ (1) انظر: السيرة (4/ 286) . (2) أخرجه الطبرى فى تاريخه (2/ 238) .

وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 35، الأنبياء، 57] . وقال: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] . وقال: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 26] . ثم قال: إن الله عمر محمدا وأبقاه حتى أقام دين الله وأظهر أمر الله وبلغ رسالة الله وجاهد أعداء الله حتى توفاه الله صلوات الله عليه وهو على ذلك وتركتم على الطريقة، فلا يهلك هالك إلا من بعد البينة، فمن كان الله ربه فإن الله حى لا يموت فليعبده، ومن كان يعبد محمدا أو يراه، إلها فقد هلك إلهه، فأفيقوا أيها الناس واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وإن كلمته باقية، وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه. وإن كتاب الله بين أظهرنا هو النور والشفاء وبه هدى الله محمدا، وفيه حلال الله وحرامه، لا والله ما نبالى من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يبقين أحد إلا على نفسه. ثم انصرف وانصرف المهاجرون معه. بيعة أبى بكر رضى الله عنه وما كان من تحيز الأنصار إلى سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة، ومنتهى أمر المهاجرين معهم قال ابن إسحاق «1» : ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم انحاز هذا الحى من الأنصار إلى سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة، واعتزل على بن أبى طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله فى بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبى بكر، وانحاز معهم أسيد بن حضير فى بنى عبد الأشهل، فأتى آت إلى أبى بكر فقال: إن هذا الحى من الأنصار مع سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس من قبل أن يتفاقم أمرهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله. قال عمر: فقلت لأبى بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من

_ (1) انظر: السيرة (4/ 281) .

الأنصار حتى ننظر ما هم عليه. قال: وكان من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار أن عبد الله بن عباس قال: أخبرنى عبد الرحمن بن عوف وكنت فى منزله بمنى أنتظره، وهو عند عمر فى آخر حجة حجها عمر قال: فرجع عبد الرحمن بن عوف من عند عمر فوجدنى فى منزله أنتظره، وكنت أقرئه القرآن، فقال لى: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك فى فلان يقول: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا، والله ما كانت بيعة أبى بكر إلا فلتة فتمت. قال: فغضب عمر فقال: إنى إن شاء الله لقائم العشية فى الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم. ثم قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم فى الناس، وإنى أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير ولا يعودها ولا يضعوها على موضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة وتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت بالمدينة متمكنا، فيعى أهل الفقه مقالتك، ويضعونها موضعها. فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس «1» : فقدمنا المدينة فى عقب ذى الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر، فجلست حذوه تمس ركبتى ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر، فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد: ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف؛ قال: فأنكر على سعيد بن زيد ذلك. قال: وما عسى أن يقول مما لم يقل قبله، فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو له أهل، ثم قال: أما بعد، فإنى قائل لكم مقالة قد قدر لى أن أقولها ولا أدرى لعلها بين يدى أجلى، فمن عقلها ووعاها فليأخذنها حيث انتهت به راحلته، ومن خشى أن لا يعيها فلا يحل لأحد أن يكذب على؛ إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وعلمناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم فى كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم فى كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف؛ ثم إنا قد كنا نقرأ فيما نقرأ من الكتاب: «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم» أو «كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» ، ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) انظر: السيرة (4/ 282) .

قال: «لا تطرونى كما أطرى عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله» «1» ؛ ثم إنه قد بلغنى أن فلانا قال: لو والله قد مات عمر بايعت فلانا، فلا يغرن امرأ أن يقول: إن بيعة أبى بكر كانت فلتة فتمت، وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر، فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذى بايعه، تغرة أن يقتلا، إنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفوا فاجتمعوا بأشرافهم فى سقيفة بنى ساعدة، وتخلف عنا على بن أبى طالب والزبير بن العوام ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر، فقلت لأبى بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم. قال: قلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم فى سقيفة بنى ساعدة، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ فقالوا: وجع. فلما جلسنا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو له أهل، ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت دافة من قومكم. قال: وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم وقد زورت فى نفسى مقالة قد أعجبتنى، أريد أن أقدمها بين يدى أبى بكر، وكنت أدارى منه بعض الحد، فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر. فكرهت أن أعصيه، فتكلم، وهو كان أعلم منى وأوقر، فو الله ما ترك من كلمة أعجبتنى من تزويرى إلا قالها فى بديهته أو مثلها أو أفضل منها حتى سكت. قال: أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا هذا الحى من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، ولم أكره شيئا مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقى لا يقربنى ذلك إلى إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر. قال: فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم

_ (1) انظر الحديث فى: سنن الدارمى (2/ 2784) ، مسند الإمام أحمد (1/ 23، 24، 47، 55) ، مصنف عبد الرزاق (11/ 20524) .

أمير يا معشر قريش. قال: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات، حتى تخوفت الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد ابن عبادة. وذكر ابن إسحاق «1» عن الزهرى عن عروة أن أحد الرجلين اللذين لقوا من الأنصار حين ذهبوا إلى السقيفة هو عويم بن ساعدة، وهو الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل: من الذين قال الله لهم: رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108] ، فقال عليه السلام: «نعم المرء منهم عويم بن ساعدة، وأما الرجل الآخر فهو: معن بن عدى» «2» ، ويقال: إنه لما بكى الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفاه الله وقالوا: والله لوددنا أن متنا قبله، إنا نخشى أن نفتتن بعده، قال معن بن عدى: لكنى والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا، وقتل رحمه الله شهيدا اليمامة. وذكر ابن عقبة أنهم لما توجهوا إلى سقيفة بنى ساعدة وأراد عمر أن يتكلم ويسبق بالقول ويمهد لأبى بكر ويتهدد من هناك من الأنصار، وقال عمر: خشيت أن يقصر أبو بكر رضى الله عنه عن بعض الكلام وعن ما أجد فى نفسى من الشدة على من خالفنا زجره أبو بكر رضى الله عنه فقال: على رسلك فستكفى الكلام إن شاء الله تعالى، ثم سوف تقول بعدى ما بدا لك، فتشهد أبو بكر، وأنصت القوم، ثم قال: بعث الله محمدا بالهدى ودين الحق، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما، ونحن عشيرته وأقاربه، وذوو رحمه، فنحن أهل النبوة وأهل الخلافة وأوسط الناس أنسابا فى العرب، ولدتنا العرب كلها، فليست منها قبيلة إلا لقريش فيها ولادة، ولن تعترف العرب ولا تصلح إلا على رجل من قريش، هم أصبح الناس وجوها، وأبسطه ألسنا، وأفضله قولا، فالناس لقريش تبع، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، وهذا الأمر بيننا وبينكم قسمة إلا بلمه، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا فى كتاب الله وشركاؤنا فى الدين وأحب الناس إلينا، وأنتم الذين آووا ونصروا، وأنتم أحق الناس أن لا تحسدوهم على خير أتاهم الله إياه، فأنا أدعوكم إلى أحد هذين الرجلين: عمر بن الخطاب وأبى عبيدة

_ (1) انظر: السيرة (4/ 285) . (2) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (3/ 2/ 31) .

ابن الجراح ووضع يديه عليهما، وكان قائما بينهما فكلاهما قد رضيته للقيام بهذا الأمر، ورأيته أهلا لذلك. فقال عمر وأبو عبيدة: ما ينبغى لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار مع رسول الله، وثانى اثنين، وأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتكى فصليت بالناس، فأنت أحق بهذا الأمر. قالت الأنصار: والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، وما خلق الله قوما أحب إلينا ولا أعز علينا منكم، ولا أرضى عندنا هديا، ولكنا نشفق بعد اليوم، فلو جعلتم اليوم رجلا منكم فإذا مات أخذنا رجلا من الأنصار فجعلناه، فإذا مات أخذنا رجلا من المهاجرين فجعلناه، فكنا كذلك أبدا ما بقيت هذه الأمة بايعناكم ورضينا بذلك من أمركم، وكان ذلك أجدر إن يشفق القرشى إن زاغ أن ينقض عليه الأنصارى، وأن يشفق الأنصارى إن زاغ أن ينقض عليه القرشى. فقال عمر: لا ينبغى هذا الأمر ولا يصلح إلا لرجل من قريش، ولن ترضى العرب إلا به، ولن تعرف العرب الإمارة، إلا له، ولن تصلح إلا عليه، والله لا يخالفنا أحد إلا قتلناه. فقام الحباب بن المنذر من بنى سلمة «1» ، فقال: منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب، دفت علينا منكم دافة أرادوا أن يخرجونا من أصلنا ويختصونا من هذا الأمر، وإن شئتم كررناها جزعة. فكثر القول حتى كادت الحرب تقع بينهم، وأوعد بعضهم بعضا، ثم تراد المسلمون وعصم الله لهم دينهم، فرجعوا بقول حسن، وسلموا الأمر لله وعصوا الشيطان، ووثب عمر فأخذ بيد أبى بكر وقام أسيد بن حضير الأشهلى «2» وبشير بن سعد أبو النعمان بن

_ (1) انظر ترجمته فى: الأنساب (3/ 278) ، الإصابة ترجمة رقم (1557) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1023) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (185) ، أسد الغابة ترجمة رقم (170) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 21) ، الثقات (3/ 6) ، الإكمال (2/ 482) ، تهذيب الكمال (1/ 113) ، الطبقات (77) ، تقريب التهذيب (1/ 78) ، بقى بن مخلد (136) ، خلاصة تذهيب الكمال (1/ 98) ، الوافى بالوفيات (9/ 258، 1/ 328) ، تهذيب التهذيب (1/ 347) ، الكاشف (1/ 133) ، الجرح والتعديل (2/ 1163) ، التاريخ الكبير (2/ 47) ، البداية والنهاية (7/ 101) ، الأنساب (1/ 278) .

بشير «1» يستبقان ليبايعا أبا بكر فسبقهما عمر فبايع ثم بايعا معا، ووثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة، وسعد بن عبادة مضطجع يوعك، فازدحم الناس على أبى بكر، فقال رجل من الأنصار: اتقوا سعدا، لا تطؤه فتقتلوه. فقال عمر وهو مغضب: قتل الله سعدا، فإنه صاحب فتنة. فلما فرغ أبو بكر من البيعة رجع إلى المسجد فقعد على المنبر فبايعه الناس حتى أمسى، وشغلوا عن دفن رسول الله حتى آخر الليل من ليلة الثلاثاء مع الصبح. وقال ابن أبى عزة القرشى الجمحى فى ذلك: شكرا لمن هو بالثناء خليق ... ذهب اللجاج وبويع الصديق من بعد ما دحضت بسعد نعله ... ورجا رجاء دونه العيوق جاءت به الأنصار عاصب رأسه ... فأتاهم الصديق والفاروق وأبو عبيدة والذين إليهم ... نفس المؤمل للبقاء تتوق كنا نقول لها على والرضى ... عمر وأولادهم بتلك عتيق فدعت قريش باسمه فأجابها ... إن المنوه باسمه الموثوق وذكر وثيمة بن موسى بن الفرات أنه كان لأشراف قريش فيما كان من شأن الأنصار مقامات محمودة، فمن ذلك أن خالد بن الوليد قام على أثر أبى بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان خطيب قريش، فقال: أيها الناس، إنا رمينا فى بدء هذا الدين بأمر ثقل علينا محمله وصعب علينا مرتقاه، وكنا كأنا منه على أوفاز، ثم والله ما لبثنا أن خف علينا ثقله، وذللنا صعبه، وعجبنا ممن شك فيه بعد عجبنا ممن آمن به، حتى والله أمرنا بما كنا ننهى عنه، ونهينا عن ما كنا نأمر به، ولا والله ما سبقنا إليه بالعقول، ولكنه التوفيق. ألا وإن الوحى لم ينقطع حتى أكمل، ولم يذهب النبى صلى الله عليه وسلم حتى أعذر، فلسنا ننتظر بعد النبى نبيا ولا بعد الوحى وحيا، ونحن اليوم أكثر منا بالأمس، ونحن بالأمس خير منا اليوم، من دخل فى هذا الدين كان من ثوابه على حسب عمله، ومن تركه رددناه إليه، إنه والله ما صاحب هذا الأمر

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (694) ، أسد الغابة ترجمة رقم (459) ، الثقات (3/ 33) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 53) ، تهذيب التهذيب (1/ 464) ، الطبقات (94، 190) ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (1/ 130) ، الوافى بالوفيات (10/ 162) ، العبر (1/ 15، 16) ، البداية والنهاية (6/ 353) ، التاريخ الصغير (1/ 73) ، تقريب التهذيب (1/ 103) ، التاريخ الكبير (2/ 98) ، الجرح والتعديل (2/ 374) .

يعنى أبو بكر بالمسئول عنه ولا المختلف فيه، ولا بالخفى الشخص، والمغمور القناة. ثم سكت، فعجب الناس من كلامه. وقام حزن بن أبى وهب وهو الذى سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلا فقال: وقامت رجال من قريش كثيرة ... فلم يك فى القوم القيام كخالد ترقى فلم تزلق به صدر نعله ... وكف فلم يعرض لتلك الأوابد فجاء بها غراء كالبدر سهلة ... تشبهها فى الحسن أم القلائد أخالد لا تعدم لؤى بن غالب ... قيامك فيها عند قذف الجلامد كساك الوليد بن المغيرة مجده ... وعلمك الشيخان ضرب العماحد تقارع فى الإسلام عن صلب دينه ... وفى الشرك عن أجلال جد ووالد وكنت لمخزوم بن يقظة جنة ... كلا اسميك فيها ماجد وابن ماجد إذا ما غنا فى هيجها ألف فارس ... عدلت بألف عند تلك الشدائد ومن يك فى الحرب المصرة واحدا ... فما أنت فى الحرب العوان بواحد إذا ناب أمر فى قريش محلج ... تشيب له روس العذارى النواهد توليت منه ما يخاف وإن تغب ... يقولوا جميعا خطنا غير شاهد قال ابن إسحاق «1» : ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين، فكانت عائشة فيما بلغنى تقول: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة فى الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتى جمعهم الله على أبى بكر. وذكر ابن هشام «2» عن أبى عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك حتى خافهم عتاب بن أسيد فتوارى فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه، فتراجع الناس وكفوا عن ما هموا به، فظهر عتاب بن أسيد، وقد تقدم لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى سهيل بن عمرو لعمر بن الخطاب وقد قال له: انزع ثنتيتى سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك

_ (1) انظر: السيرة (4/ 291) . (2) انظر المصدر السابق.

خطيبا أبدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه» «1» ، فكان هذا المقام المتقدم هو الذى أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر فى السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبى بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: أيها الناس، إنى قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها فى كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنى كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد برنا؛ يقول: يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذى به هدى رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانى اثنين إذ هما فى الغار، فقوموا فبايعوه. فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذى هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى؛ الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم إلا عمهم الله بالبلاء؛ أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله «2» . وذكر موسى بن عقبة أن رجالا من المهاجرين غضبوا فى بيعة أبى بكر، منهم على والزبير، فدخلا بيت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهما السلاح، فجاءهما عمر بن الخطاب فى عصابة من المهاجرين والأنصار فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش الأشهليان وثابت بن قيس بن شماس الخزرجى فكلموهما حتى أخذ أحد القوم سيف الزبير فضرب به الحجر حتى كسره ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم وقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط، ولا ليلة، ولا سألتها الله قط سرا ولا علانية، ولكنى أشفقت من الفتنة، وما لى فى الإمارة من راحة، ولقد قلدت أمرا عظيما

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 310) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 367) . (2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (6/ 301) .

ما لى به طاقة ولا يدان إلا بتقوية الله، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكانى اليوم. فقبل المهاجرون منه ما قاله واعتذر به، وقال على والزبير: ما غضبنا إلا أنا أخرنا عن المشورة، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لصاحب الغار وثانى اثنين، وإنا لنعرف له شرفه وسنه، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حى. وذكر غير ابن عقبة أن أبا بكر رضى الله عنه قام فى الناس بعد مبايعتهم إياه يقيلهم فى بيعتهم ويستقيلهم فيما تحمله من أمرهم ويعيد ذلك عليهم، كل ذلك يقولون له: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا يؤخرك. ولم يبدأ أبو بكر رضى الله عنه بعد أن فرغ أمر البيعة واطمأن الناس بشىء من النظر قبل إنفاذ بعث أسامة، فقال له: امض لوجهك الذى بعثك له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه رجال من المهاجرين والأنصار وقالوا: أمسك أسامة وبعثه، فإنا نخشى أن تميل علينا العرب إذا سمعوا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر وكان أفضلهم رأيا: أنا أحتبس بعثا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد اجترأت إذ على أمر عظيم، والذى نفسى بيده لأن تميل العرب على أحب إلى من أن احتبس جيشا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. امض يا أسامة فى جيشك للوجه الذى أمرت به، ثم اغز حيث أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية فلسطين، وعلى أهل مؤتة فإن الله سيكفى ما تركت، ولكن إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطاب بالتخلف لأستشيره وأستعين برأيه فإنه ذو رأى ونصيحة للإسلام وأهله فعلت. ففعل أسامة وأذن لعمر، فأقام بالمدينة مع أبى بكر رضى الله عنهم أجمعين. ذكر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه، وما يتصل بذلك من أمره صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته ولما فرغ الناس من بيعة أبى بكر الصديق رضى الله عنه وجمعهم الله عليه وصرف عنهم كيد الشيطان أقبلوا على تجهيز نبيهم صلى الله عليه وسلم والاشتغال به. قالت عائشة رضى الله عنها: لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه، فقالوا: والله ما ندرى، أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه؟ قالت: فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه فى صدره، وكلمهم

مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبى وعليه ثيابه. قالت: فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه والقميص دون أيديهم. ويروى عن غير واحد أن الذين ولوا غسله صلى الله عليه وسلم ابن عمه على بن أبى طالب، وعمه العباس بن عبد المطلب، وابناه الفضل، وقثم، وحبه أسامة بن زيد، ومولاه شقران. وقال أوس بن خولى أحد بنى عوف بن الخزرج وكان ممن شهد بدرا لعلى بن أبى طالب يومئذك أنشدك الله يا على وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: ادخل، فدخل وجلس، فحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، فأسند على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة وشقران هما اللذان يصبان الماء عليه، وعلى يغسله، قد أسنده إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه، لا يفضى بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يقول: بأبى أنت وأمى، ما أطيبك حيا وميتا. ولم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم شىء مما يرى من الميت «1» . وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه «2» . ولما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن فى ثلاث أثواب. قال ابن إسحاق «3» فى حديث يرفعه إلى على بن حسين: ثوبين صحاريين، وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا «4» . وخرج مسلم فى صحيحه من حديث عائشة، قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثلاثة

_ (1) انظر: الطبقات لابن سعد (2/ 280) ، تاريخ الطبرى (2/ 238) ، سنن ابن ماجه فى كتاب الجنائز باب ما جاء فى غسل النبى صلى الله عليه وسلم (1/ 1467) . (2) انظر: مسند أبى داود الطيالسى (ص 215 ج 1530) . (3) انظر: السيرة (4/ 288) . (4) انظر: التمهيد لابن عبد البر (2/ 163) ، الدلائل للبيهقى (7/ 248) ، صحيح البخارى فى كتاب الجنائز (3/ 1264) ، صحيح مسلم فى كتاب الجنائز (2/ 650، 651) ، سنن أبى داود فى كتاب الجنائز باب فى الكفن (3/ 3151) ، سنن الترمذى فى كتاب الجنائز (3/ 996) ، سنن النسائى (1896) ، سنن ابن ماجه (1/ 1469) ، موطأ مالك (1/ 5/ 223) ، مسند الإمام أحمد (6/ 40، 132، 165، 192، 204، 231) .

أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة «1» . زاد الترمذى قال: فذكروا لعائشة قولهم: فى ثوبين وبرد حبرة. فقالت: قد أتى بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه. واختلف المسلمون فى موضع دفنه، فقال قائل: ندفنه فى مسجده، وقال آخر: بل ندفنه مع أصحابه، وقال أبو بكر رضى الله عنه: ادفنوه فى الموضع الذى قبض فيه، فإن الله لم يقبض روحه إلا فى مكان طيب، فعلموا أن قد صدق «2» . وفى رواية أنه قال لهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبى إلا دفن حيث يقبض. فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى توفى عليه، فحفر له تحته. ولما أرادوا أن يحفروا له، وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذى يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد، دعا العباس برجلين، فقال لأحدهما: اذهب إلى أبى عبيدة بن الجراح، وللآخر: اذهب إلى أبى طلحة. اللهم خر لرسول الله، فوجد الذى توجه إلى أبى طلحة أبا طلحة، فجاء به، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وضع على سريره فى بيته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالا الرجال، حتى إذا فرغوا أدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد. ويروى فى حديث أن عليا رضى الله عنه قال: لقد سمعنا همهمة ولم نر شخصا، فسمعنا هاتفا يقول: ادخلوا رحمكم الله فصلوا على نبيكم. ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل، ليلة الأربعاء «3» . قالت عائشة رضى الله عنها: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت

_ (1) انظر: صحيح مسلم (3/ 39) ، صحيح البخارى (2/ 211) ، سنن أبى داود (3/ 198/ 3151) ، سنن النسائى (490/ 35، 36) ، طبقات ابن سعد (2/ 282- 284) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 246- 249) . (2) انظر: طبقات ابن سعد (2/ 275، 292، 299) ، دلائل النبوة للبيهقى (259- 261) . (3) انظر: السيرة (4/ 289) .

المساحى من جوف الليل من ليلة الأربعاء. وكان الذين نزلوا فى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب، والفضل وقثم ابنا عمه العباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أوس بن خولى من الأنصار لعلى بن أبى طالب: يا على، أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: انزل، فنزل مع القوم. وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة يلبسها ويفترشها، فأخذها شقران مولاه، فدفنها فى القبر: والله لا يلبسها أحد بعدك أبدا، فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما انصرف الناس قالت فاطمة رضى الله عنها لعلى رضى الله عنه: يا أبا الحسن، دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قالت فاطمة: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أما كان فى صدوركم لرسول الله رحمة؟ أما كان معلم الخير؟ قال: بلى يا فاطمة، ولكن أمر الله الذى لا مرد له، فجعلت تبكى وتندب: وا أبتاه، أجاب ربا دعاه، وا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، وا أبتاه، إلى جبريل ينعاه. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إليها فى مرضه أنه مقبوض منه ولا حق بربه، فبكت مشفقة من فراقه، فأسر إليها ثانية أنها أول أهله لحاقا به، فضحكت راضية بالموت مسرورة بوقوعه فى جنب ما تتعجل من لقائه فى حضرة القدس ومحلة الرضوان والكرامة. ولما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف المهاجرون والأنصار عن دفنه، ورجعت فاطمة رضى الله عنها إلى بيتها اجتمع إليها نساؤها فقال: اغبر أفاق السماء وكورت ... شمس النهار وأظلم العصران فالأرض من بعد النبى كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرجفان فليبكه شرق البلاد وغربها ... ولتبكه مضر وكل يمان وليبكه الطود المعظم جوه ... والبيت ذو الأستار والأركان يا خاتم الرسل المبارك ضنه ... صلى عليك منزل الفرقان ويروى أيضا أن فاطمة رضى الله عنها أنشدت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم متمثلة بشعر سميتها فاطمة بنت الأجهم: قد كنت لى جبلا ألوذ بظله ... فتركتنى أمشى بأجرد ضاح قد كنت ذات حمية ما عشت لى ... أمشى البرار وكنت أنت جناحى

فاليوم أخضع للذليل وأتقى ... منه وأدفع ظالمى بالراح وإذا دعت قمرية شجنا لها ... ليلا على فنن دعوت صباحى ومما ينسب إلى على أو فاطمة رضى الله عنهما: ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدا الزمان غواليا صبت على مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا وجلست أم أيمن تبكى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وهى حاضنته التى كان يأوى إليها بعد موت أمه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيته لم يدفن بعد، فقيل لها: ما يبكيك يا أم أيمن قد أكرم الله نبيه وأدخله جنته وأراحه من نصب الدنيا، فقالت: إنما أبكى على خبر السماء كان يأتينا غضا جديدا كل يوم وليلة، فقد انقطع عنا ورفع، فعليه أبكى. فعجب الناس من قولها وبكوا لبكائها. وقال أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شىء، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شىء وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفى دفنه حتى أنكرنا قلوبنا. وقال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: ولد النبى صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين، فيا لهذا اليوم كم خير تسبب فيه إلى أهل الأرض، وأى مصيبة نزلت فيه بمنية ضاق عنها منفسح الطول والعرض. وقد حدثنا ابن عباس أيضا أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان له فرطان من أمتى أدخله الله بهما الجنة» «1» . فقالت عائشة: فمن كان له فرط من أمتك؟ قال: «ومن كان له فرط يا موفقة» «2» قالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال: «فأنا فرط لأمتى، لن يصابوا بمثلى» «3» . ولله در شاعره حسان بن ثابت إذ يقول:

_ (1) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (1062) ، مسند الإمام أحمد (1/ 334) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 68) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (1735) ، كنز العمال للمتقى الهندى (6572، 6609) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (12/ 208) . (2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 335) ، الشمائل للترمذى (212) . (3) انظر الحديث فى: هامش المواهب (200) .

وهل عدلت يوما رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد وهذا البيت من قصيدة له يرثى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنذكرها بعد فى مراثيه. وروى أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليعز المسلمين فى مصائبهم المصيبة بى» «1» . فيا لها والله مصيبة أحرقت الأكباد، وغمرت بالأسف والحزن الآماد والآباد، ورزآ ثقيلا آد كاهل الإيمان منه ما آد، وخطبا جليلا أودى بكل صبر جميل أو كاد: والصبر يحمد فى المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم ولولا أن الله سبحانه وتعالى ربط على القلوب من بعده بأمر من عنده لأودت مكانها كمدا، ولما وجدت إلى البقاء متسلفا، ولا عن وحى القنا ملتحدا، ولو رجفت الأرض لفقدان أحد لأصبحت لفقدانه راجفة، ولو نسفت الجبال لمهلك هالك لغدت رواسيها على حكم الأسف متناسفة، ولو كسفت النيرات لمصرع حى لأمست دررها منثورة لمصرعه، ولو تغيرت المشارع المورودة لموت إنسان لأمر لموته على كل وارد عذب مشرعه هيهات هيهات، ذلك والله الرزأ الكبار، والنازلة التى يعيى بها الاحتمال والاصطبار، والخطر الذى تقاصر دونه الأخطار، والخطب الذى تشقى بمضاضة مشاهدته المهاجرون والأنصار، والمفقود الذى لا عوض منه أبدا وإن تراخت الأيام وتطاولت الأعصار، ولو غير الأقدار أصابته لبدلت دونه أعلاق المهج، أو غير المنايا نابتة لتعذر على قاصده وجه السبيل المنتهج، ولكنها السبيل التى لا يتخطاها سالك، وما سبقت به مشيئة الدائم الباقى الذى كل شىء إلا وجهه هالك، فلا مجال للدفاع، ولا حيلة فى الامتناع، ولا غناء للأعوان والأتباع، ولا شىء يضمه حكم الممكن المستطاع غير الانقياد لأمر الله والإهطاع، ولهفا عليه، ويا برح شوق القلوب المشربة نور الإيمان به، وشدة نزاعها إليه، وبالدموع أجريت عليه، صلوات الله وبركاته عليه، لقد وجدت مجرا، وأوجبت أجرا وحرمت لهيا عن أسبابها وزجرا، ولقد كان من يقدم المدينة بعد أن استأثر به مولاه الذى شرح له صدرا، ورفع له ذكرا وقدرا، إذا أشرفوا عليها سمعوا لأهلها ضجيجا يصم السميع، وللبكاء فى جنباتها عجيجا أصحل الحلوق ونزف الدموع. حدث أبو ذؤيب الهذلى فقال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل، فاستشعرت حزنا، وبت بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، فظللت أقاسى طولها حتى إذا كان قرب السحر أغفيت فهتف بى هاتف وهو يقول:

_ (1) انظر الحديث فى: السلسلة الصحيحة للألبانى (1106) ، موطأ مالك (236) .

خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الأطام قبض النبى محمد فعيوننا ... تذرى الدموع عليه بالتسجام قال أبو ذؤيب: فوثبت من نومى فزعا، فنظرت إلى السماء، فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به، ذبح يقع فى العرب، وعلمت أن النبى صلى الله عليه وسلم قد قبض، أو هو ميت من علته، فركبت ناقتى وسرت، فلما أصبحت طلبت شيئا أزجر به، فعن لى شيهم يعنى القنفذ قد قبض على صل يعنى الحية فهى تلتوى عليه، والشيهم يقضها حتى أكلها، فزجرت ذلك وقلت: شيهم شىء مهم، والتواء الصل التواء الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعده على الأمر، فحثثت ناقتى حتى إذا كنت بالغابة زجرت الطائر فأخبرنى بوفاته، ونعب غراب سانح، فنطق بمثل ذلك، فتعوذت بالله من شر ما عن لى فى طريقى، وقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت المسجد، فوجدته خاليا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت بابه مرتجا، وقيل إلى الأنصار، فجئت إلى السقيفة، فأصبت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وسالما مولى أبى حذيفة وجماعة من قريش، ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة، وفيهم شعراؤهم: حسان بن ثابت وكعب بن مالك وملأ منهم، فآويت إلى قريش وتكلمت الأنصار، فأطالوا الخطاب، وأكثروا الصواب، وتكلم أبو بكر رضى الله عنه فلله دره من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع فصل الخطاب، والله لقد تكلم لكلام لا يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه، ثم تكلم عمر رضى الله عنه بعده دون كلامه، ومد يده وبايعوه، ورجع أبو بكر ورجعت معه. قال أبو ذؤيب: فشهدت الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وشهدت دفنه. ثم أنشد أبو ذؤيب يبكى النبى صلى الله عليه وسلم: لما رأيت الناس فى غسلاتهم ... ما بين ملحود له ومضرح متبادلين لشرجع بأكفهم ... نص الرقاب لفقد أبيض أروح فهناك صرت إلى الهموم ومن بيت ... جار الهموم يبيت غير مروح كسفت لمصرعه النجوم وبدرها ... وتزعزعت آطام بطن الأبطح وتزعزعت أجيال يثرب كلها ... ونخيلها لحلول خطب مفدح ولقد زجرت الطير قبل وفاته ... بمصابه وزجرت سعد الأذبح وذكر الزبير بن أبى بكر بإسناد له إلى هشام بن عروة: أن صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ترثى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفى:

ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برا ولم تك جافيا وكنت رحيما هاديا ومعلما ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا لعمرك ما أبكى النبى لفقده ... ولكن لما أخشى من الهرج آتيا كأن على قلبى لذكر محمد ... وما خفت من بعد النبى المكاويا أفاطم صلى الله رب محمد ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا فدا لرسول الله أمى وخالتى ... وعمى وآباى ونفسى وماليا صدقت وبلغت الرسالة صادقا ... ومت صليب العود أبلج صافيا فلو أن رب الناس أبقى نبينا ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا عليك من الله السلام تحية ... وأدخلت جنات من العدن راضيا أرى حسنا أيتمته وتركته ... يبكى ويدعو جده اليوم نائيا وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم «1» يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرقت فات ليلى لا يزول ... وليل أخى المصيبة فيه طول وأسعدنى البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحى والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كربت تسيل نبى كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول ويهدينا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعى ذاك السبيل فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول ولما بلغت عمرو بن العاص السهمى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ بعمان، قال يرثيه: أتانى ورحلى فى عمان مصيبة ... فبت بعين طرفها طرف أرمد غداة نعى الناس النبى محمدا ... فأعزز علينا بالنبى محمد فقدنا به وحى السماء ونعمة ... تروح علينا بالمراد وتغتدى وأوحش منه منبر كان زينة ... ومسجده وحش فيها خير مسجد

_ (1) انظر ترجمته فى: تجريد أسماء الصحابة (2/ 173) ، الإصابة ترجمة رقم (10028) .

فلو كنت يوما شاهدا لوفاته ... لمست ترابا من ضريحته يدى بإذن يراه أهله ومكيده ... أسود بها ما عشت يومى وفى غد كما نالها منه المغيرة خدعة ... وما أنا دون الطائفى الجفيدد يريد: المغيرة بن شعبة الثقفى، وكان يدعى أنه أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أخذت خاتمى فألقيته فى القبر، وقلت: إن خاتمى سقط منى، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون أحدث الناس عهدا به صلى الله عليه وسلم. وكان على بن أبى طالب رضى الله عنه ينكر ذلك من قول المغيرة ويأباه، ويقول: أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن عباس. وذكر وثيمة بن موسى أن عبد الله بن أنيس الجهنى «1» كان غائبا ببعض ضواحى المدينة، فلما انتهى إليه الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلمت عليه الأرض، ثم قال: والله، لو أن ميتا رده قتل حى نفسه لقتلت نفسى، ولكن أفرغ إلى أمر الله، إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم سأل الذى أخبره: هل استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بعينه؟ قال: لا والله. قال: الله اكبر، لو استخلفه هلكنا بمعصية. فهل اجتمع الناس على رجل؟ قال: أمر نبى الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلى بالناس. قال: هى إعلام الإمامة، وليس كل من صلى بإمام. ما فعل على؟ قال: هو فى بيته. قال: لا يريدها يا ابن أخى، لها ثلاثة من قريش: على وأبو بكر وعمر، من ادعى منازلهم قصر دونهم. ما صنعت الأنصار؟ قال: اعتزلت، قال: كلا، طائف من الشيطان، لم يكن الله ليخذلهم مع ما سبق لهم، بت عندى الليلة فإنى عليل ولا أرانى إلا لما بى من هذه الصدمة، ولكن أبلغ عنى قريشا، فقال: نفا النوم ما لا تبتغيه الأصابع ... وخطب جليل للبلية جامع غداة نعى الناعى إلينا محمدا ... وتلك التى تستك منها المسامع فلو رد نفسا قتل نفس قتلتها ... ولكنه لا يدفع الموت دافع فآليت لا أبكى على هلك هالك ... من الناس ما أؤسى ثبير وفارغ

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4565) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2827) ، الثقات (3/ 234) ، حلية الأولياء (2/ 5) ، حسن المحاضرة (1/ 211) ، شذرات الذهب (1/ 60) ، البداية والنهاية (8/ 57) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 298) ، تهذيب التهذيب (5/ 149) ، العبر (1/ 59) ، الجرح والتعديل (5/ 1) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (367) ، التاريخ الكبير (3/ 14) ، تهذيب الكمال (2/ 666) ، الطبقات (118) ، الكاشف (2/ 73) ، تقريب التهذيب (1/ 402) ، الوافى بالوفيات (17/ 76) ، الأنساب (2/ 178) ، بقى بن مخلد (113) .

ولكننى باك عليك ومتبع ... مصيبته إنى إلى الله راجع وقد قبض الله النبيين قبله ... وعادا أصيب بالورى والتتابع فإن مات فالإسلام حى وربنا ... لذا الدين مما كاده اليوم مانع فيا ليت شعرى من يقوم بأمرنا ... وهل لقريش يا إمام منازع ثلاثة رهط من قريش هم هم ... أزمة هذا الأمر والله صانع على أو الصديق أو عمر لها ... وليس لها بعد الثلاثة رابع أولئك خير الحى فهر بن مالك ... وأول من تجنى عليه الأصابع أولئك إن قاموا به سلكوا بنا ... محجتنا العظمى وقل التنازع وكل قريش والذى أنا عبده ... على كل حال للثلاثة تابع فإن قال منا قائل غير هذه ... أبينا وقلنا الله راء وسامع فيا لقريش قلدوا الأمر بعضكم ... فإن ضجيع العجز للسن قارع ولا تبطئوا عنها فواقا فإنها ... إذا قطعت لم تسر فيها المطامع قال: فانتهى الرجل إلى قريش وقد انطلق المهاجرون إلى الأنصار، وكان من أمرهم الذى كان، فرجع إلى عبد الله بن أنيس، فأخبره الخبر، ففرح بذلك. ولأبى الهيثم بن التيهان الأنصارى فى نحو هذا المعنى شعر قاله وقد مر به أبو بكر الصديق رضى الله عنه قبل مبايعة الناس إياه، فشكى إليه وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الهيثم: وقد والله شمتت اليهودية والنصرانية، وبلغنى عن الناس أمر ساءنى، فرجع أبو الهيثم إلى منزله، فقال: ألا قد أرى أن المنى لم تخلد ... لأن المنايا للنفوس بمرصد لقد جدعت أذاننا وأنوفنا ... غداة فجعنا بالنبى محمد تكلم أهل الشرك من بعد غلظة ... لغيبة هاد كان فينا ومهتدى ثلاثة أصناف من الناس كلهم ... يروح علينا بالشنان ويغتدى نصارى يقولون الفرى ومنافق ... شبيه بذاك الشامت المتهود وأوعد كذاب اليمامة جهده ... فأجلب عودا باللسان وباليد فإن تك هذا اليوم منهم شماتة ... فلا يأمنوا ما يحدث الله فى غد وما نحن إن لم يجمع الله أمرنا ... بخير قريش كلها بعد أحمد بأمنع من شاء يقفر مطيرة ... بقيعة قاع أو ضباب بفدفد وإنى لأرجو أن يقوم بأمرنا ... على أو الصديق والمرء من عدى

أولئك خيار الحى فهر بن مالك ... وأنصار هذا الدين من كل معتدى ولما انتهت إلى همدان وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمت سفاؤهم بما كرهت ظماؤهم، فقال عبد الله بن مالك الأرض، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له هجرة وفضل فى دينه، فاجتمعت إليه همدان، فقال: يا معشر همدان، إنكم لم تعبدوا محمدا، إنما عبدتم رب محمد، وهو الحى الذى لا يموت، غير أنكم أطعتم رسولكم بطاعة الله فدعاكم فأجبتموه، وهداكم فاتبعتموه، واعلموا أنه ولى نعمتكم فى دينكم ودنياكم، فأما دينكم فاستنقذكم الله به من النار، وأما دنياكم فاستنقذكم الله به من الرق، ولم يكن الله ليجمع صحابة رسوله على ضلال، وقد وعدهم أن يهديهم عندما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فأطيعوا من اختاروا، وقدموا من قدموا، فى كلام غير هذا تكلم به على هذا المثال، ونسجه على هذا المنوال. وقال فى ذلك: لعمرى لئن مات النبى محمد ... لما مات يا ابن القيل رب محمد وما كان إلا مرسلا برسالة ... ليبلغها والحادثات بمرصد ولما قضى من ذاك ما كان قاضيا ... ولم يبق شىء فيه إلحاد ملحد دعاه إليه ربه فأجابه ... فيا خير غورى ويا خير منجد وما نحن إلا مثل من كان قبلنا ... فريقين شتى كافر وموحد ونحن على ما كان بالأمس بيننا ... من الدين نهدى من أراد فيهتدى ثم قام ابن ذى مران، وكان من سادات همدان وملوكهم، فتكلم فيهم، فأطال نفس الكلام، وحرض على التمسك بالدين، وحمل على الطاعة للقائم بالأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال يرثيه ويتفجع للمصيبة فيه: إن حزنى على الرسول طويل ... ذاك منى على الرسول قليل قلت والموت يا إمام كريه ... ليتنى مت يوم مات الرسول ليتنى لم أكن بقيت فواقا ... بعده والفواق منى طويل بكت الأرض والسماء عليه ... وبكاه خليله جبريل يا لها رحمة أصيب بها النا ... س تولت وحان منها الرحيل جدعت منهم الأنوف فللقل ... ب خفوق وللجفون همول ليس للناس إمام من الأم ... ر فتيل وأين منك الفتيل

إنما الأمر للذى خلق الخل ... ق وفى خلقه عليه دليل فى أبيات غير هذه يؤنس فيها المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة، وكان أميرا عليهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عند قومه من حسن الطاعة له والقيام فى الحق معه. ثم قام ابن ذى المشغار، وكان ملك أهل ناحيته، وكان متألها، فتكلم أيضا فى هذا النحو بكلام حسن، نظما ونثرا، فلما فرغ من مقالته أتاه مسروق بن الحارث القوال الأرحبى، فقال له: أيها الملك، إنه لا يعرف عندك فى قريش إلا رجل مثلى من قومك، أنا القوال ابن القوال، الفارس ابن الفارس، ابعثنى إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقوم مقاما شريفا أباهى به فيك الناس. فسرحه، فلما قدم مسروق على أبى بكر رضى الله عنه تهيأت له قريش، وقالوا: خطيب همدان وفتاها، فتكلم عندهم بكلام تركنا ذكره وذكر ما أنشد معه من الشعر، إذ ليس مناسبا لما نحن الآن بسبيله من ذكر مراثى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعت قريش شعره وخطبته، عجبت منه، وكان معه عبد الله بن سلمة الهمدانى، فقام فقال: يا معشر قريش، إنكم لم تصابوا بنبى الله صلى الله عليه وسلم دون سائر العرب، لأنه لم يكن لأحد دون أحد، وأيم الله، لا أدرى أى الرجلين أشد حزنا عليه، وأعظم مصابا به، من عاينه فغاب عنه عيانه، أو من أشرف على رؤيته، فلم يره؟ غير أنا معترفون للمهاجرين بفضل هجرتهم، وللأنصار بفضل نصرتهم، والتابع ناصر، والمؤمن مهاجر فى كلام غير هذا صدر عن قلب مؤمن، وجأش به خاطر شديد، فأثنى عليه أبو بكر خيرا، وحمدته قريش، وكان سيدا، فقال: إن فقد النبى جدعنا اليو ... م فدته الأسماع والأبصار وفدته النفوس ليس من المو ... ت فرار وأين أين الفرار ما أصيبت به الغداة قريش ... لا ولا أفردت به الأنصار دون من وجه الصلاة إلى الل ... هـ وقد هنئت به الكفار ورجال منافقون شمات ... ويوم واروه كفرهم إسرار من بكته السماء تسعدها الأر ... ض وبكت بعد القفار البحار وسرافيل قد بكاه وجبري ... ل وميكال والملأ الطهار يا لها كلمة يضيق بها الحل ... ق أتانا بنقلها السفار

قيل مات النبى فانصدع القل ... ب وشابت من هولها الأشعار فعليه السلام ما هبت الري ... ح ومدت جنح الدجى أنوار وقال سواد بن قارب الدوسى «1» ، وهو الذى كان كاهنا فأسلم فحسن إسلامه بإرشاد ربه إياه إلى ذلك حسب ما تقدم صدر كتابنا هذا من خبره يبكى النبى صلى الله عليه وسلم لما بلغت أسد السراة وفاته، وبعد أن قام فيهم مقاما محمودا، يثبتهم فى الدين، ويحذرهم سوء عاقبة الارتداد، وكان قد سادهم وشرف فيهم، فأجابوه إلى ما أراد، وقبلوا رأيه، وقال: جلت مصيبتك الغداة سواد ... وأرى المصيبة بعدها ترداد أبقى لنا فقد النبى محمد ... صلى الإله عليه ما يعتاد حزنا لعمرك فى الفؤاد مخامرا ... أو هل لمن فقد النبى فؤاد كنا نحل به جنابا ممرعا ... خف الجناب فأجدب الرواد فبكت عليه أرضنا وسماؤنا ... وتصدعت وجدا به الأكباد قل المتاع به وكان عيانه ... حلما تضمن سكريته رقاد كان العيان هو الطريف وحزنه ... باق لعمرك فى النفوس تلاد إن النبى وفاته كحياته ... والحق حق والجهاد جهاد لو قيل تفدون النبى محمدا ... بذلت له الأموال والأولاد وتسارعت فيها النفوس لبذلها ... هذا له الأغياب والأشهاد هذا وهذا لا يرد نبينا ... لو كان يفديه فداء سواد وقال عبد الحارث بن أسد بن الريان من أهل نجران يبكى النبى صلى الله عليه وسلم لما بلغتهم وفاته، بعد قيامه فيهم أحمد مقام، يحرضهم على التمسك بالدين والثبوت على الإسلام، ويذكرهم نعمة الله عليهم، بالدخول فيه واللحاق بمن هاجر إليه، ويقول لهم فيما قال: إنما كان نبى الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم عارية، فأتى عليه أجله، وبقى الكتاب الذى كان يحكم به، ويحكم عليه، فأمره أمر ونهيه نهى إلى يوم القيامة، وقد سهل لكم الطريق فاسلكوه، ولا بد من جولة، فكونوا فيها ذوى إناة، وقد اختار القوم لأنفسهم رجلا لا يألوهم خيرا، فأطيعوا قريشا ما أطاعوا الله، فإذا عصوه فاعصوهم، فإنه لا ينبغى لآخرنا أن يملك

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3596) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2334) ، الثقات (3/ 179) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 248) ، الوافى بالوفيات (16/ 35) ، التاريخ الكبير (4/ 202) ، الأعلام (3/ 144) .

إلا بما ملك به أولنا، وهى النبوة، فميراثها منها فى كلام غير هذا حسن أبلى به عذرا، وبالغ لقومه نصحا. وقال: لعمرى لئن كان النبى محمد ... عليه السلام الله أودى به القدر لقد كسفت شمس النهار لفقده ... وبكت عليه الأرض وانكسف القمر وبكته آفاق السماء وما لها ... وللأرض شجو غير ذاك ولا عبر ولو قيل تفدون النبى محمدا ... لقلنا نعم بالنفس والسمع والبصر وقل له منا الفداء وهذه ... وإن بذلت لا يسترد بها بشر فإن يك وافاه الحمام فدينه ... على كل دين خالف الحق قد ظهر ونحن بحمد الله هامة مذحج ... بنو الحارث الخير الذين هم الغرر بنجران نعطى من سعى صدقاتنا ... موفرة ما فى الخدود لها صعر ونحن على دين النبى نرى الذى ... نهانا حراما منه والأمر ما أمر أحاذر إن لم يدفع الله جولة ... مجدعة يبيض من هولها الشعر يحين فيها الله من خف حلمه ... ويسعد فيها ذو الأناة بما صبر نطيع قريشا ما أطاعوا فإن عصوا ... أبينا ولم نشر السلامة بالغرر وكان لهذا الأمر منهم ثلاثة ... على أو الصديق أو ثالث عمر فلم يخطئوا إذا سددوها لبعضهم ... هم ما هم كل لإرعاده مطر وأمثال هذه المقالات نثرا ونظما لرجال من سادات العرب وأشراف القبائل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، قاموا بها فى قومهم يحذرونهم من الفتنة، ويحرضونهم على التمسك بالطاعة لمن قام بالأمر. وقد ذكر المؤلفون فى الردة كثيرا منها، وهى بذلك الباب أخص، وإنما تخيرت هنا منا ما يتعلق نظمه بباب الرثاء، ويبعث فى حق المصطفى على التفجع والبكاء، حشدا على الداهية الدهياء، واستعانة على الحادثة النكراء، وعظيم المصيبة بوفاة من حق فى حقه بكاء الأرض والسماء، وقل لفقده أن تسح المدامع عوض الدموع بالدماء: هو الرزء الذى ابتدأ الرزايا ... وقال لأعين الثقلين جودى وقال حسان بن ثابت الأنصارى «1» يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ (1) انظر: السيرة (4/ 292) .

بطيبة رسم للرسول ومعهد ... منير وقد تعفو الرسوم وتهمد «1» ولا تمتحى الآيات من دار حرمة ... بها منبر الهادى الذى كان يصعد وواضح آثار وباقى معالم ... وربع له فيه مصلى ومسجد بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوفد معارف لم تطمس على العهد أيها ... أتاها البلى فالآى منها تجدد عرفت بها رسم الرسول وعهده ... وقبرا بها واراه فى التراب ملحد ظللت بها أبكى الرسول فأسعدت ... عيون ومثلاها من الجفن تسعد يذكون ألاء الرسول وما أرى ... لها محصيا نفسى فنفسى تبلد «2» مفجعة قد شفها فقد أحمد ... فظلت لآلاء الرسول تعدد «3» وما بلغت من كل أمر عشيره ... ولكن لنفسى بعد ما قد توجد «4» اطالت وقوفا تذرف العين جهدها ... على طلل القبر الذى فيه أحمد فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد وبورك لحد منك ضمن طيبا ... عليه بناء من صفيح منضد «5» تهيل عليه الترب أيد واعين ... عليه وقد غارت بذلك أسعد لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة ... عشية علوه الثرى لا يوسد وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد يبكون من تبكى السموات يومه ... ومن قد بكته الآرض فالناس أكمد وهل عدلت يوما رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد تقطع فيه منزل الوحى عنهم ... وقد كان ذا نور يغور وينجد «6» يدل على الرحمن من يقتدى به ... وينفذ من هول الخزايا ويرشد إمام لهم يهديهم الحق جاهدا ... معلم صدق أن يطيعوا ويسعدوا

_ (1) طيبة: اسم مدينة النبى. والرسم: ما بقى من آثار الدار. وتعفو: أى تدرس وتتغير. وتهمد: أى تبلى. (2) تسعد: أى تعين. (3) شفها: أى أضعفها. (4) العشير: أى العشر. وتوجد: من الوجد، وهو الحزن. (5) الصفيح: الحجارة العريضة. والمنضد: الذى جعل بعضه على بعض. (6) يغور: أى يبلغ الغور، وهو المنخفض من الأرض. وينجد: أى يبلغ النجد، وهو المرتفع من الأرض.

عفو عن الزلات يقبل عذرهم ... وإن يحسنوا فالله بالخير أجود وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله ... فمن عنده تيسير ما يتشدد فبينا هم من نعمة الله وسطهم ... دليل به نهج الطريق يقصد عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا عطوف عليهم لا يثنى جناحه ... إلى كتف يحنو عليهم ويمهد «7» فبينا هم فى ذلك النور إذ غدا ... إلى نورهم سهم من الموت مقصد فأصبح محمودا إلى الله راجعا ... يبكيه جن المرسلات ويحمد وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها ... لغيبة ما كانت من الوحى تعهد قفارا سوى معمورة اللحد ضافها ... فقيد نبكيه بلاط وغرقد ومسجده فالموحشات لفقده ... خلاء له فيها مقام ومقعد وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشت ... ديار وعرصات وربع ومولد فبكى رسول الله يا عين عبرة ... ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد ومالك لا تبكين ذا النعمة التى ... على الناس منها سابغ يتغمد فجودى عليه بالدموع وأعولى ... لفقد الذى لا مثله الدهر يوجد وما فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد أعف وأوفى ذمة بعد ذمة ... وأقرب منه نائلا لا ينكد وأبذل منه للطريف وتالدا ... إذا ضن معطاء بما كان يتلد «8» وأكرم صيتا فى البيوت إذا انتهى ... وأكرم جدا أبطحيا يسود «9» وأمنع ذروات وأثبت فى العلا ... دعائم عز شاهقات تشيد وأثبت فرعا فى الفروع ومنبتا ... وعودا غذاه المزن فالعود أغيد رباه وليدا فاستتم تمامه ... على أكرم الخيرات رب ممجد تناهت وصاة المسلمين بكفه ... فلا العلم محبوس ولا الرأى يفند أقول ولا يلقى لما قلت عائب ... من الناس إلا عازب العقل مبعد «10» وليس هواى نازعا عن ثنائه ... لعلى به فى جنة الخلد أخلد

_ (7) الكنف: أى الجانب والناحية. (8) الطريف: المال المستحدث. والتالد: المال القديم الموروث. وضن: أى بخل. ويتلد: أى يكتسب قديما. (9) الصيت: أى الذكر الحسن. والأبطحى: المنسوب إلى أبطح مكة، وهو موضع سهل متسع. (10) عازب العقل: بعيد العقل غائبه.

مع المصطفى أرجو بذاك جواره ... وفى نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد وقال حسان بن ثابت «1» يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما بال عينك لا تنام كأنما ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد جزعا على المهدى أصبح ثاويا ... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد وجهى يقيك الترب لهفا ليتنى ... غيبت قبلك فى بقيع الغرقد بأبى وأمى من شهدت وفاته ... فى يوم الاثنين النبى المهتدى فظللت بعد وفاته متبلدا ... متلدا يا ليتنى لم أولد أأقيم بعدك فى المدينة بينهم ... يا ليتنى صبحت سم الأسود أو حل أمر الله فينا عاجلا ... فى روحة من يومنا أو من غد فتقوم ساعتنا فنلقى طيبا ... محضا ضرائبه كريم المحتد يا بكر آمنة المبارك ذكرها ... ولدته محصنة الأسعد نورا أضاء على البرية كلها ... من يهد للنور المبارك يهتدى يا رب فاجمعنا معا ونبينا ... فى جنة تبنى عيون الحسد فى جنة الفردوس فاكتبها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد والله أسمع ما بقيت بهالك ... إلا بكيت على النبى محمد يا ويح أنصار النبى ورهطه ... بعد المغيب فى سواء الملحد ضاقت بالانصار البلاد فأصبحوا ... سودا وجوههم كلون الأثمد ولقد ولدناه وفينا قبره ... وفضول نعمته بنا لم تجحد والله أكرمنا به وهدى به ... أنصاره فى كل ساعة مشهد صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد وقال حسان بن ثابت «2» أيضا يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم: نب المساكين أن الخير فارقهم ... مع النبى تولى عنهم سحرا من ذا الذى عنده رحلى وراحلتى ... ورزق أهلى إذا لم يؤنسوا المطرا أم من نعاتب لا نخشى جنادعه ... إذا اللسان عتا فى القول أو عثرا كان الضياء وكان النور نتبعه ... بعد الإله وكان السمع والبصرا يا ليتنا يوم واروه بملحده ... وغيبوه وألقوا فوقه المدارا

_ (1) انظر: السيرة (4/ 295) . (2) انظر: السيرة (4/ 296) .

لم يترك الله منا بعده أحدا ... ولم يعش بعده أنثى ولا ذكرا ذلت رقاب بنى النجار كلهم ... وكان أمرا من أمر الله قد قدرا واقتسم الفىء دون الناس كلهم ... وبددوه جهارا بينهم هدرا وقال حسان بن ثابت أيضا يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم: آليت ما فى جميع الناس مجتهدا ... منى ألية بر غير إفناد «1» تالله ما حملت أنثى ولا وضعت ... مثل الرسول نبى الأمة الهادى ولا برا الله خلقا من بريته ... أو فى بذمة جار أو بميعاد من ذا الذى كان فينا يستضاء به ... مبارك الأمر ذا عدل وإرشاد أمسى نساؤك عطلن البيوت فما ... يضربن فوق قفا ستر بأوتاد مثل الرواهب يلبسن المباذل قد ... أيقن بالبؤس بعد النعمة الباد «2» يا أفضل الناس إنى كنت فى نهر ... أصبحت منه كمثل المفرد الصادى «3» وقال كعب بن مالك الأنصارى من كلمة يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وباكية حرى تحرق بالبكا ... وتلطم منها خدها والمقلدا على هالك بعد النبى محمد ... ولو عدلت لم تبك إلا محمدا فلست بباك بعد فقد محمد ... فقيدا وإن كان القريب المسودا فجعنا بخير الناس حيا وميتا ... وأدناه من أهل السموات مقعدا وأعظمه فقدا على كل مسلم ... وأكرمه فى الناس كلهم يدا متى تنزل الأملاك بالوحى بعده ... علينا إذ ما اللبس فينا ترددا إذا كان منه القول كان موفقا ... وإن كان وحيا كان نورا مجددا جزى الله عنا ربنا خير ما جزى ... نبى الهدى الداعى إلى الحق أحمدا وقال عمرو بن سالم الخزاعى يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعمرى لئن جادت لك العين بالبكا ... لمحقوقة أن تستهل وتدمعا فيا حفص إن الأمر جل عن البكا ... غداة نعى الناعى النبى فأسمعا فلم أر يوما كان أعظم حادثا ... ولم أر يوما كان أكثر موجعا

_ (1) الألية: اليمين والحلف. والإفناد: العيب والخطأ. (2) المباذل: الأثواب التى تستعمل يوميا، أو الأثواب الخلقة. (3) الصادى: العاطش أو الشديد العطش.

ولم أر من يوم أعم مصيبة ... ولا ليلة كانت أمر وأفظعا تعزى بصبر واذكرى الله واعلمى ... بأن سوف يجزى كل ساع بما سعى ولا تزرئى محض الحياء فتفجعى ... بدينك والدنيا فتزريهما معا فإن يك قد مات النبى فبعدما ... نعى نفسه بدآ وعودا فأسمعا إذا ذكرت نفسى فراق محمد ... تهيج حزنى والفؤاد تقطعا فيالك نفسا لا يزال يزيدها ... على الدهر طول الدهر إلا تصدعا جزى منك رب الناس أفضل ما جزى ... نبيا هدانا ثم ولى مودعا فو الله لا أنساك ما دمت ذاكرا ... لشىء وما قلبت كفا وإصبعا وقد أكثر الشعراء فى تأبينه صلوات الله عليه قديما وحديثا، وقضوا من التفجيع عليه حقا، لا ينبغى أن يكون عهده نكيشا، ولم يمنعهم تقادم الأيام وتطاول الأعوام من تجديد البكاء عليه، ومزيد الحنين إليه، وبحق ما يكون ذلك، فهو الرزء الذى حقه أن ينسى جميع الأرزاء، والحادث الجلل الذى يقبح معه حسن العزاء، وطواعية الأسف عليه دائما من أعدل الشهادات بالإخلاص لمن قام بها واستقام بالنية والقول على سواء مذهبها، جعلنا الله ممن أحبه حقا، وكتبنا فيمن غدا لشفاعته المشفعة مستحقا. فمن ذلك ما وقفت عليه لأبى إسحاق إسماعيل بن القاسم الغزى الكوفى، المعروف بأبى العتاهية من كلمة: على رسول الله منى السلام ... ما كان إلا رحمة للأنام أحيى به الله قلوبا كما ... أحيى موات الأرض صوب الغمام أكرم به للخلق من مبلغ ... هاد وللناس به من إمام وأصبح الحق به قائما ... وأصبح الباطل دحض المقام وقال إسماعيل بن القاسم أيضا من كلمة أخرى: ليبك رسول الله من كان باكيا ... ولا تنس قبرا بالمدينة ساويا جزى الله عنا كل خير محمدا ... فقد كان مهديا دليلا هاديا لمن تبتغى الذكرى لما هو أهله ... إذا كنت للبر المطهر ناسيا أتنسى رسول الله أفضل من مشى ... وآثاره بالمسجدين كما هيا وكان أبر الناس بالناس كلهم ... وأكرمهم بيتا وشعبا وواديا تكدر من بعد النبى محمد ... عليه سلام الله ما كان صافيا فكم من منار كان أوضحه لنا ... ومن علم أمسى وأصبح عافيا

ركنا إلى الدنيا الدنية بعده ... وكشفت الأطماع منا المساويا وإنا لنرمى كل يوم بعبرة ... نراها فما نزداد إلا تعاميا كأنا خلقنا للبقاء وأينا ... وإن مدت الدنيا له ليس فانيا أبى الموت إلا أن يكون لمن ترى ... من الخلق طرا حيث ما كان لاقيا حسمت المنى يا موت حسما مبرحا ... وعلمت يا موت البكاء البواكيا ومزقتنا يا موت كل ممزق ... وعرفتنا يا موت منك الدواهيا ولأبى عبد الله محمد بن أبى الخصال الغافقى الأندلسى، ومكانه من متانة العلم والدين وصدق المقالة وصحة اليقين المكان الذى يلحقه بأقرانه من العلماء المتقنين، قصائد يرثى بها النبى صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين يساجل بها شاعره حسان بن ثابت فى قصائده المتقدمة صوتا بصوت، وكلمة بكلمة، أخبرنا بها وبسائر كلامه نثره ونظمه غير واحد من أشياخنا رحمهم الله عنه فمن ذلك قوله يعارض حسان فى قصيدته الأولى ويمشى فى التفجع والتوجع على طريقته المثلى: بطيبة آثار تحج وتقصد ... ودار بها الله نور مخلد ومهبط جبريل بوحى وحكمة ... يبينها للعالمين محمد ومظهر آيات كأن رسومها ... على ما محى منها البلى يتجدد وفى مسجد التقوى تأرخ روضة ... عليها من الفردوس كل ممدد يفاوحها طيب الجنان وتربة ... تبوءها من جنة الخلد أحمد ومنبره الأعلى على ذروة التقى ... وجذع له فيه حنين مردد ومولد إبراهيم حيث تمخضت ... به أمه مثوى كريم ومولد وموقعه من نفسه واختياره ... له اسم خليل الله فخر مشيد وإعلانه بالحزن تدمع عينه ... له رحمة والنفس ترقى وتصعد ومبنى على والهدى يألف الهدى ... بفاطمة نور بنور يقيد ومولد سبطيه وريحان قلبه ... مكانهما من عاتقيه ممهد وحيث ارتقت منها إمامة مرتقى ... يقوم بها جبالها ثم يسجد وحيث بنى بالطيبات نسائه ... بعصمته الوثقى وجبريل يشهد ومتلى كتاب الله فى حجراتها ... يقمن به فى الليل والناس هجد وتمت لأصحاب الكساء طهارة ... من الله يحييها الكتاب المؤيد معاهد إيمان تألق نورها ... ففى كل أفق جذوة تتوقد

وكانت أمانا ثم عادت مخافة ... فزائرها فوق الردى يتوسد فيا أيها الدار التى حق أهلها ... على الناس طرا دائم ليس ينفد لقد درست منك المغانى وأوحشت ... وكان إليها الدين يأوى ويصمد ذكرتك ذكرى من يهيم فؤاده ... بقربك لكنى عن القرب مبعد ومثلت لى فى بهجة الدين والتقى ... وأمر رسول الله يعلو ويمهد وإذا برقت نورا أسارير وجهه ... فزحزح قطع الليل والليل أسود وألقت إليه الأرض أفلاذها التى ... تحل بها عقم الأمور وتعقد وغزو تبوك ثم حج وداعه ... ولم يبق تبين ولم يبق مشهد ومثلت لى والمسلمون بشكوه ... فرائصهم من روعة البيت ترعد وقد جلل الدنيا ظلام مطبق ... يخال به ليل على الناس سرمد فما راعهم إلا وفاة رسولهم ... وكل يرى أن الرسول يخلد وقد ذهلوا أن التى يقرونها ... إذا جاء نصر الله للموت مرصد وودع جبريل وداع مفارق ... ولا عود يستثنى ولا وحى يعهد وأم أبيها مسبلات دموعها ... كما انحل من سلك فريد مبدد فأودعها سرا بكت من نجيه ... وثنى بسر فانثنت تتجلد وقد أعلنت عند الرسول بكربها ... لكرب أبيها وهو بالموت يجهد فقال لها كفى دموعك واصبرى ... فما بعد هذا اليوم كرب يعدد وبشرها من قرب ملحقها له ... ببشرى حديث صادق لا يفند فيا من رأى حيا يعزى بموته ... فيرضى كأن الموت خلد مؤيد فرارا عن الدنيا إلى قرب ربها ... وشجا عليها من حياة تنكد ولطفا من الله العظيم بصونها ... وباب الرزايا المستكنات مرصد ولو أنها امتدت طويلا حياتها ... لشرد عنها النوم ليل مسهد وغصت على قرب بثكل ابن عمها ... وفقد شهيد حزنه ليس يفقد أقام كتاب الله فى كل مارق ... يقر به فى زعمه وهو يجحد فقيض أشقى الناس يدنى سعادة ... لمن هو بالإيمان أولى وأسعد وكيف بها والله يأبى هوانها ... لمصرع سبط أول وهو مقصد وقد جرعته حتفه كف جعدة ... بمكرع سم مجه فيه أسود ولو حدثت عن كربلاء لأبصرت ... حسينا فتاها وهو شلو مقدد وثانى سبطى أحمد جعجعت به ... عتاة جفاة وهو فى الأرض أوحد

ولم يرقبوا إلا لآل محمد ... ولم يذكروا أن القيامة موعد وأن عليهم فى الكتاب مودة ... لقرباه لا ينحاش عنها موحد فيا سرع ما ارتدوا وصدوا عن الهدى ... ومالوا عن البيت الذى بهم هدوا فحل عن برد الفرات عطاشهم ... وروى منهم ذابل ومهند فيا أوجها شاهت وناهت عن الهدى ... أهذا التحفى منكم والتردد وترتم رسول الله فى ذبح سبطه ... وبؤتم بنار حرها ليس يبرد فما لكم عند الشفيع شفاعة ... ولا لكم فى كوثر الحوض مورد لعمرى لقد غادرتم كل مؤمن ... على مضض برح يقوم ويقعد ونغصتم المحيى وأرضيتم العدى ... فأنتم لغير الله جند وأعبد فيا كبدى إن أنت لم تتصدعى ... فأنت من الصفوان أقسى وأجلد ويا عبرتى إن لم تفيضى عليهم ... فنفسى أسخى بالحياة وأجود أتنتهب الأيام أفلاذ أحمد ... وأفلاذ من عاداهم تتودد ويضحى ويظمى أحمد وبناته ... وبنت زياد وردها لا يصرد أفى دينه فى أمنه فى بلاده ... تضيق عليهم فسحة تتورد وما الدين إلا دين جدهم الذى ... به أصدروا فى العالمين وأوردوا ينام النصارى واليهود بأمنهم ... ونومهم بالخوف نوم مشرد وما هى إلا ردة جاهلية ... وحقد قديم بالحديث يؤكد ألهفى على سبطى هدى ونبوة ... جرى لها يوم من الشر أنكد شهيدين متبوعين من كل مؤمن ... بكل صلاة برة تتعهد فهذا أذابت سورة السم كبده ... وهذا أبادته قسى تكبد فما عذر أهل الأرض والقسط قائم ... وكلهم فى موقف الفصل شهد أيفعل هذا بابن بنت نبيكم ... وليس لكم فى النصر يوم ولا غد أبى الله إلا أن فى النفس حسرة ... بغصتها أضحى وأمسى وأرقد إلى أن يقيد الله من كل واتر ... على أن كفؤا مقنعا ليس يوجد وأى دم يوفى دم ابن محمد ... حسين وأمسى وهو سبط موحد فيا خاتم الأسباط إن تحيتى ... تؤمك من أرض بعيد وتقصد مثقلة بالدمع شوقا ولوعة ... على زفرة من حرها أتأود ويا أسوة للمؤمنين كريمة ... يلين عليها الحادق المتشدد فمن ينكر البلوى وأنت بكربلا ... لذى البث والشكوى إمام مقلد

فإن تجهل الدنيا عليك وأهلها ... فإنك فى أهل السماء ممجد أبوك شفيع الناس وهو الذى له ... مقام كريم فى البرية يحمد ومشرعة الحوض الروى بكفه ... تزاد رجال عندها وتطرد وممن يذود الله عنه عصابة ... بقتلك فى طغيانها تتحمد وذنبهم فى قتلك الذنب كله ... فما لهم إلا الجحيم تغمد وهل كنت إلا مثل عمك جعفر ... قتيلا بكفار بذى العرش ألحدوا وإلا كليث الله جدك حمزة ... وحربة وحشى إليه تسدد وما منهم إلا غريق شهادة ... حياتهم موصولة حين تنفد ومثل أبى حفص وعثمان بعده ... ومثل على وهو للحق سيد دماؤهم مسك ذكى وأجرهم ... على الله لا يحصى ولا يتحدد أقول ببث مستكن وظاهر ... مضاضته عن حبكم تتولد وما سرنى أنى خلى من الهوى ... هوى هو فى حم يتلى ويسند سريرة حب يوم تتلى سرائرى ... يقوم بها عنى الصفيح المنضد سلام على تلك المعاهد إنها ... لآل رسول الله طهر ومسجد فيا رب وفدنى إليها مسلما ... ويا طيب مسرى من إليها يوفد أفض بها دمعى وأنقع غلتى ... وأتهم فى ربع الرسول وأنجد وأدعو إلى الرحمن دعوة تائب ... إلى عفوه من طيبه يتزود وأسموا إلى البيت العتيق بفرضه ... فكل به من ذنبه يتجرد ولست على قبر الرسول بمؤثر ... ليحشر من ذاك البقيع محمد فيا رب حقق نيتى ومنيتى ... هنالك والأرواح جند مجند وقال أيضا يعارض حسان فى كلمته الثانية التى أولها: ما بال عينك لا تنام كأنما............... ...... بهذه الكلمة المرسومة بعد: هل يجمعن صباح يوم أو غد ... بينى وبين القبر قبر محمد حتى أروى ناظرى من عبرتى ... ويقر عينى طيب ذاك المشهد وأقبل الأرض التى حملت به ... نورا يجلى كل جنح أسود وأعظم البلد الذى رأسى به ... طود النبوة ثابتا بالأسعد أشكو إلى جبل تضمن حبه ... حبا أضاق تصبرى وتجلدى

وأبلغ القلب المروع أمانه ... وأقول للنفس التى ظمئت ردى وأهش للأفق المبارك جوه ... متجددا من نوره المتجدد وأسح فى أبيات آل محمد ... دمعا كنظم اللؤلؤ المتبدد والله يعلم أن آل رسوله ... آل تمكن حبهم فى محتدى وبكربتى منهم أبوح وأنطوى ... وبحسرتى فيهم أروح وأغتدى قف بالمنازل سائلا عن أهلها ... أين الرسالة والرسول المهتدى أين الصواحب والصحابة حوله ... إذ بايعوه بالقلوب وباليد أين الذين بسبقهم عز الهدى ... وعلت على الأديان ملة أحمد أين الذين لعتبة ولشيبة ... وإلى الوليد سموا بكل مهند أين الذين بيوم أحد صرعوا ... ما بين مثنى فى الإله وموحد أين الذين بمؤتة وجلادها ... ماتوا كراما كالليوث الحرد أين الثمانية الذين بصبرهم ... تابت بأوطاس بصائر من هدى يا مسجد التقوى غدوت بفضلهم ... ومكانهم فى الدين أفضل مسجد وبقيت بعدهم مثابة رحمة ... فى غربة المستوحش المتفرد تبكى على خير البرية كلها ... بدموع كل مصدق وموحد فقد السماء كما فقدت نديهم ... ونحيبهم فى مهبط أو مصعد وتفرد الرحمن بالغيث الذى ... كان الرسول بوحيه عبق الند ولقد أقام الدين من خلفائه ... أصهاره كل بأحمد يقتدى وأتتك بعدهم الملوك فمصلح ... يضع الأمانة عند آخر مفسد يا بيت عائشة المجن ثلاثة ... تطموا به نظم الطراز الأوحد مثوى النبى وصاحبيه وفسحة ... عيسى ابن مريم حازها بالموعد بوركت من بيت يضم رسالة ... ونبوة وخلافة فى ملحد منى إليك تحية يهفو بها ... قلب بذكرهم وحلهم ند صلى الإله وأرضه وسماؤه ... والعالمون على النبى المقتدى بالأنبياء المهتدى بهداهم ... رشدا تبين فى الكتاب المرشد وقال أبو عبد الله أيضا يعارض حسان فى كلمته الثالثة التى أولها: نب المساكين أن الخير فارقهم............... ....... بهذه الكلمة المرسومة:

هون عليك من الأرزاء ما خطرا ... بعد الرسول ولا تعدل به خطرا واذكره فى كل محذور تغص به ... تلقى المصاب به قد هون الحذرا أبعد أحمد يستقرى مضاجعه ... فودع البيت والأركان والحجرا مستقبلا طيبة والله ينقله ... إلى رضاه فلما يعد أن صدرا ثم استعز به شكو يعالجه ... يغشى بسورته الأبيات والحجرا حتى انتهى دوره فى بيت عائشة ... فى نومها يتبع الأنفاس والأثرا فمال فى حجرها طلقا أسرته ... غض البشاشة إلا اللمح والنظرا فأذهل الناس طرا عن حياتهم ... موت الرسول ومنهم من نفى الخبرا فياله من نظام بات فى قلق ... لولا أبو بكر الصديق لانتثرا إن كنت معتبرا فانظر تقلله ... والأرض تبر ودين الله قد ظهرا لم يرض منها سوى قبر تضمنه ... كان الفراش له فى نومه مدرا يا قبر أحمد هل من زورة أمم ... قبل الحمام تسر السمع والبصرا وهل إلى طيبة ممشى يقربها ... يا طيبة إن تأتى يومه سفرا فتنشق النفس فى أرجائها أرجا ... يشفى السقام وينفى الذنب والضررا وأستجير ببطن الأرض من كرب ... فى ظهرها لم تدع شمسا ولا قمرا أستجمل الله من أسرار قدرته ... عزما يخوض إليه البدو والحضرا وقوة بالضعيف الهم ناهضة ... وحجة تنظم الآصال والبكرا يا حب أحمد كن لى فى زيارته ... أقوى ظهير إلى أن أقضى الوطرا صلى الإله صلاة غير نافدة ... تكاثر الريح والأشجار والمطرا على البشير النذير المصطفى كرما ... من كل بطن وصلب طيب ظهرا على ابن آمنة الماحى بملته ... من كان بالله والإسلام قد كفرا وأهله الطيبين الأكرمين ومن ... آوى وساهم فى البلوى ومن نصرا وأمهات جميع المؤمنين ومن ... هدى هداه ومن صلى ومن نحرا ونضر الله حسانا وأعظمه ... وقد بعثت الجوى والحزن والذكرا أبا الوليد لقد هيجت لى شجنا ... نافحت عنهم بروح القدس مقتدرا وأنت شاعر آل الله قاطبة ... ضريحه وامسحى عن وجهه العفرا يا رحمة الله أمى غير صاغرة ... فى الحق أن تمسح الأعطاف والغررا فإنه سابق والسابقات لها ... عمت فى المدر استثنت ولا الوبرا أبقى له منبر الإنشاد مكرمة ... فى الحق أن تمسح الأعطاف والغررا

ولم يسل لسانا فى مقاولة ... وإنما سل عضبا صارما ذكرا يا مقولا نضر الله الرسول به ... لا زلت فى جنة الفردوس مشتهرا وقال أيضا رحمه الله يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعارض حسان فى كلمته المتقدمة قبل، رابعة لكلماته، وهى التى أولها: آليت ما فى جميع الناس مجتهدا............... ........... بهذه الكلمة الموسومة بعد: قلبى إلى طيبة ذو غلة صادى ... إلى البشير النذير الخاتم الهادى إلى أبى القاسم الماحى بملته ... كفران كل كفور جهله بادى حتى أعفر خدى فى مواطئه ... غورا بغور وأنجادا بأنجاد وأرسل الدمع سحا فى منازله ... مستفرغا جهد أفلاذ وأكباد فى حيث أودع جبريل رسالته ... وحيا إليه بتوفيق وإرشاد وأشرب الماء من أروى منابعه ... فطيبه قد سرى فى ذلك الوادى يا حب أحمد إنى منك فى ثقة ... وأنت أحضر أعتادى وأزوادى سر بى إليه وجاور بى مثابته ... حتى أضمن أكفانى وأعوادى وما تمكنت من قلبى لتبدع بى ... ولا لتقطعنى عن ذلك النادى نور من الله لو أنى سريت به ... لما افتقرت إلى هاد ولا حادى لم يقذف الله فى قلبى محبته ... إلا لأحمل فوق الرأس والهاد متى أقول لوفد الله عن كثب ... يا رايحين انظرونى إننى غاد وقد برئت إلى الرحمن من نشبى ... وقد تخليت عن أهلى وأولادى مستبدلا بجوار الله منقطعا ... إلى الرسول انقطاع العاطف الباد صلى الإله وأهل الأرض يقدمهم ... أهل السموات من مثنى وآحاد على الذى أنقذ الله العباد به ... من ظلمة الكفر رشدا بعد إفناد على ابن آمنة المختار من نفر ... ما فوق مجدهم مرمى لمزداد على النبى الذى تمت نبوته ... وآدم طينة قدت لأجساد على الرسول بن عبد الله أكرم من ... أورى بنور أضاء الأرض وقاد وبعده صلوات الله عاطرة ... على الصحابة أعداد بأعداد وأهله الطيبين الأكرمين فهم ... فى الأرض أطهر غياب وشهاد يا رب واحفظ مقامى فى محبتهم ... فإنها وإليك المنتهى زادى

فهذا ما تيسر لنا ذكره من مراثى الشعراء فى سيد المرسلين وخاتم الأنبياء. وبقى علينا منها كثير تخطيناه، إما لتخطى الاختيار له والانتقاء، وإما لقصد الاختصار والاكتفاء، وأكثر الشعراء أفحمتهم المصيبة القاصمة للظهور، الرزية المتجددة على بلى الأزمان وتجدد الدهور، عن أن يفوهوا فى ذلك ببنت شفة أو يفوا بما يناسب ذلك الكرب العظيم والخطب الجسيم من صفة متصفة، وأولئك أولى الناس بالمعذرة، وأحقهم بالتجاوز عن مقصدهم المقصرة، فمصاب المسلمين به عليه أفضل الصلاة والسلام أعظم من أن تؤدى حقيقته سعة الكلام، أو تستقل أساليب القول المتشعبة ومنادح العبارات المتطنبة المهذبة بأيسر جزء من مآثره الكرام ومحاسنه العظام، أو تفى الألفاظ على اتساعها وتعدد ضروبها وأنواعها بشرح ما يتحمل فيه القلوب المؤمنة من برح الآلام، والإعراب عن قدر مصيبة فقده على الإسلام، فجزاه الله عن نهجه لنا السبيل إلى دار السلام أفضل ما أعده من الجزاء لأنبيائه المختصين من عنايته بشرف الاجتباء والاصطفاء دون الأنام، وأدر عليه وعليهم من سحب الرحمة والبركات والسلام والصلوات ما يزرى بهطال الديم وواكف الغمام. وهنا انتهى ما يختص من هذا المجموع بمغازى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذكر أيامه وكافة أمره إلى حين وفاته. ونشرع الآن فى صلة ذلك بمغازى خلفائه الثلاثة الأول رضى الله عن جميعهم على نحو ما علمنا به فى مغازى من قصد التهذيب، وبذل الجهد فى حسن الترتيب، وربنا الكريم جلت قدرته نعم الوكيل بالمعونة على ذلك، لا حول ولا قوة إلا به، هو حسبى لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه أنيب.

ذكر خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه «1» وما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيماء إليها والإشارات الدالة عليها مع ما كان من تقدمه صلى الله عليه وسلم إلى الإنذار بالفتن الكائنة بعده وما صدر عنه من الأقاويل المنذرة بالردة فى الصحيح من الآثار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سمع صوت عمر فى صلاته بالناس عندما أمر عليه السلام فى مرضه أبا بكر أن يصلى، فلم يوجد حاضرا، قال: يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون. وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدى، أبى بكر وعمر» «2» . وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: استخلف أبو بكر، فأقام واستقام. وقال صعصعة: استخلف الله أبا بكر، فأقام المصحف. وذكر يعقوب بن محمد الزهرى، عن شيوخه، قالوا: وذكروا استخلاف أبى بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قبل ما وصف لهم صفة من يلى بعده، حتى كاد يقول: خليفتى أبو بكر. وحدث جبير بن مطعم «3» أن امرأة أتت النبى صلى الله عليه وسلم، تكلمه فى شىء، فأمرها أن ترجع

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 5- 7) . (2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3662، 3805) ، سنن ابن ماجه (97) ، مسند الإمام أحمد (5/ 382، 385، 399، 401، 402) ، السنن الكبرى للبيهقى (5/ 12، 8/ 153) ، مستدرك الحاكم (3/ 75) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 53، 295) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (9/ 109) ، شرح السنة للبغوى (14/ 101، 102) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (6221) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (2/ 230) ، البخارى فى التاريخ الكبرى (8/ 209، 9/ 50) ، كشفا الخفاء للعجلونى (1/ 181) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 330) ، المعجم الكبير للطبرانى (9/ 68) ، كنز العمال للمتقى الهندى (3656، 32646، 32657، 33117، 33679، 36746، 36853) ، الكامل فى الضعفاء لابن عدى (2/ 666، 797) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (315) ، الإصابة الترجمة رقم (1094) ، أسد الغابة الترجمة رقم (698) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (35) ، جمهرة أنساب العرب (116) ، تهذيب الكمال (188) ، تهذيب التهذيب (2/ 63) ، تذهيب التهذيب (1/ 102) ، -

إليه، فقالت: يا رسول الله، إن جئت فلم أجدك، تعنى الموت، قال: «فأتى أبا بكر» . وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبى بكر، ونيط عثمان بعمر» ، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله، وأما ذكر من نوط بعضهم ببعض، فهم ولاة هذا الأمر الذى بعث الله به نبيه. وعن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم، رأيتنى على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبى قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفى نزعه، والله يغفر له، ضعف، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب، حتى ضرب الناس بعطن» . وفى رواية: «فأروى الظمئة، وضرب الناس بعطن» «1» . وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بردة المرتدين من بعده، فحدث أبو سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم، رأيت فى يدى سوارين من ذهب، فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما: كذابين يخرجان، مسيلمة والعنسى» «2» . وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بين يدى الساعة كذابون، منهم صاحب اليمامة، يعنى مسيلمة، وصاحب خيبر، يعنى طليحة، ومنهم العنسى يعنى الأسود، ومنهم الدجال، وهو أعظمهم فتنة» «3» .

_ - خلاصة تذهيب الكمال (52) ، شذرات الذهب (1/ 64) ، العقد الثمين (3/ 408) . (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 7، 9/ 45، 49، 171) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (17) ، السنن الكبرى للبيهقى (8/ 153) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 19، 12/ 414) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (6031) ، شرح السنة للبغوى (14/ 89) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 226) ، كنز العمال للمتقى الهندى (3273) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 344) ، السنة لابن أبى عاصم (14/ 89) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 217، 9/ 52) ، مسند الإمام أحمد (1/ 263) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 50) ، فتح البارى لابن حجر (12/ 420) . (3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 345، 5/ 95، 96، 100، 101، 106) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 51) ، كنز العمال للمتقى الهندى (38371) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 51) .

وعن عبد الله بن حوالة «1» ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من نجا منهن فقد نجا: من موتى، ومن قتل خليفة مصطبر بالحق يعطيه، ومن الدجال» «2» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعبدة بن مسهر الحارثى فيما يعظه به لما قدم عليه: «وإن أدركتك الردة فلا تتبعن كندة» . ودعا أيضا لجرير بن عبد الله «3» لما وفد عليه، فقال: «اللهم اشرح صدره للإسلام، ولا تجعله من أهل الردة» . ولما أسر المسلمون يوم بدر سهيل بن عمرو العامرى، سأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ينزع ثنيتيه السفلاوين، وكان أعلم الشفة السفلى، قال: فإنه خطيب ليقوم عليك خطيبا بمكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «عسى أن يقوم مقاما يسرك» «4» ، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى خبر وفاته إلى مكة، تكلم بها قوم كلاما قبيحا، ووعى ذلك عليهم، فقام سهيل بن عمرو بخطبة أبى بكر، كأنه كان يسمعها، فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حى لم يمت، وقد نعى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم، إليكم وهو بين أظهركم، ونعاكم إلى أنفسكم، فهو الموت حتى لا يبقى أحد، ألم تعلموا أن الله تعالى قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ. الآية [آل عمران: 144] ، وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] ، وقال: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] . فاتقوا الله، واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وكلمته تامة، وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه، جمعكم الله على خيركم.

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1536) ، الإصابة الترجمة رقم (4658) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2909) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 306) ، تهذيب التهذيب (5/ 194) ، تقريب التهذيب (1/ 411) ، تهذيب الكمال (2/ 676) ، خلاصة تذهيب الكمال (2/ 51) ، الوافى بالوفيات (17/ 156) ، الثقات (3/ 343) ، حلية الأولياء (2/ 3) . (2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (7/ 211) ، مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 334) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (326) ، الإصابة الترجمة رقم (1139) ، أسد الغابة الترجمة رقم (7309، طبقات خليفة (116، 138) ، تاريخ خليفة (218) ، الجرح والتعديل (2/ 502) ، تهذيب الكمال (191) ، تهذيب التهذيب (2/ 73) ، خلاصة تذهيب الكمال (61) ، شذرات الذهب (1/ 57، 58) . (4) انظر الحديث فى الشفاء للقاضى عياض (1/ 676) ، الجامع الكبير (2/ 786) .

وفى كلام أكثر من هذا وعظهم به، وذكرهم. وقد كان الناس نفروا وهموا، فنفعهم الله بكلامه، فلم يرتد بمكة أحد، فلما بلغ عمر بن الخطاب مقام سهيل، قال: أشهد أن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حق، فهو والله هذا المقام. ذكر بدء الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان من تأييد الله لخليفة رسوله عليه السلام فيها قالت عائشة رضى الله عنها: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجم النفاق وارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، وصار المسلمون كالغنم المطيرة فى الليلة الشاتية، لفقد نبيهم، حتى جمعهم الله على أبى بكر، فلقد نزل بأبى ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، فو الله ما اختلفوا فيه من أمر إلا طار أبى بعلائه وغنائه، وكان من رأى ابن الخطاب علم أنه خلق عونا فللإسلام، كان والله أحوذيا، نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها. وفى الصحيح من حديث أبى هريرة، قال: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر رضى الله عنه، بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبى بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله؟» فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال، فعرفت أنه الحق «1» .

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 13، 109، 2/ 131، 4/ 58، 9/ 19، 115، 138) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (32، 33، 35) ، سنن النسائى الصغرى (7/ 77، 78، 79، 8/ 81) ، سنن أبى داود (1556، 2640) ، سنن الترمذى (2606، 2607، 3341) ، سنن ابن ماجه (3927، 3928، 3929) ، مسند الإمام أحمد (1/ 11، 19، 35، 48، 2/ 377، 423، 475، 502، 527، 528، 3/ 300، 322، 339، 4/ 8) ، سنن البيهقى الكبرى (1/ 7، 54، 2/ 3، 92، 4/ 104، 114، 7/ 3، 4، 8، 19، 136، 176، 177، 196، 9/ 49، 182) ، مستدرك الحاكم (2/ 522) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 171) ، شرح السنة للبغوى (1/ 66، 69، 5/ 488) ، كنز العمال للمتقى الهندى (375، 379، -

قال عمر بن الخطاب: والله لرجح إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمة جميعا فى قتال أهل الردة. وذكر يعقوب بن محمد الزهرى عن جماعة من شيوخه، قالوا: فكان أبو بكر أمير الشاكرين الذين ثبتوا على دينهم، وأمير الصابرين الذين صبروا على جهاد عدوهم، أهل الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبرأى أبى بكر أجمعوا على قتالهم، وذلك أن العرب افترقت فى ردتها، فقالت فرقة: لو كان نبيا ما مات، وقال بعضهم: انقضت النبوة بموته، فلا نطيع أحدا بعده، وفى ذلك يقول قائلهم: أطعنا رسول الله ما عاش بيننا ... فيالعباد الله ما لأبى بكر أيورثها بكرا إذا مات بعده ... فتلك وبيت الله قاصمة الظهر وقال بعضهم: نؤمن بالله، ونشهد أن محمدا رسول الله، ونصلى، ولكن لا نعطيكم أموالنا، فأبى أبو بكر إلا قتالهم على حسب ما تقدم ذكره. وجادل أبو بكر الصحابة فى جهادهم، وكان من أشدهم عليه عمر وأبو عبيدة بن الجراح «1» ، وسالم مولى أبى حذيفة «2» ، وقالوا له: احبس جيش أسامة بن زيد، فيكون عمارة وأمانة بالمدينة، وارفق بالعرب حتى ينفرج هذا الأمر، فإن هذا الأمر شديد غوره وتهتكه من غير وجهه، فلو أن طائفة من العرب ارتدت قلنا: قاتل بمن معك ممن ثبت من ارتد، وقد اتفقت العرب على الارتداد، فهم بين مرتد، ومانع صدقة، فهو مثل المرتد،

_ - 16836، 16846) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (1/ 155) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (1790) ، البداية والنهاية لابن كثير (10/ 334) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 497، 13/ 174، 250، 339) ، نصب الراية للزيلعى (3/ 380، 480، 4/ 324، 339) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 274، 6/ 343) ، زاد المسير لابن الجوزى (9/ 100) ، جمع الجوامع (4411، 4414، 4418) ، المعجم الكبير للطبرانى (2/ 198، 347، 6/ 161، 8/ 382) ، التاريخ الكبير للبخارى (3/ 367، 7/ 35) ، مصنف ابن أبى شيبة (10/ 122، 123، 124، 12/ 374، 376، 377، 380) . (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3108) ، الإصابة الترجمة رقم (10233) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6084) ، تهذيب الكمال (1623) ، تقريب التهذيب (2/ 448) ، تهذيب التهذيب (12/ 159) ، المؤتلف والمختلف (840) ، التبصرة والتذكرة (3/ 27) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (886) ، الإصابة الترجمة رقم (3059) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1892) ، وهو: سالم بن معقل، مولى أبى حذيفة.

وبين واقف ينظر ما تصنع أنت وعدوك، قد قدم رجلا وأخر رجلا «1» . وفى كتاب الواقدى من قول عمر لأبى بكر: وإنما شحت العرب على أموالها، وأنت لا تصنع بتفريق العرب عنك شيئا، فلو تركت للناس صدقة هذه السنة. وقدم على أبى بكر عيينة بن حصن الفزارى، والأقرع بن حابس، فى رجال من أشراف العرب، فدخلوا على رجال من المهاجرين، فقالوا: إنه قد ارتد عامة من وراءنا عن الإسلام، وليس فى أنفسهم أن يؤدوا إليكم من أموالهم ما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن تجعلوا لنا جعلا نرجع فنكفيكم من وراءنا؛ فدخل المهاجرون والأنصار على أبى بكر، فعرضوا عليه الذى عرضوا عليهم، وقالوا: نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها ويكفيانك من وراءهما، حتى يرجع إليك أسامة وجيشه، ويشتد أمرك، فإنا اليوم قليل فى كثير، ولا طاقة لنا بقتال العرب، قال أبو بكر: هل ترون غير ذلك؟ قالوا: لا؛ قال أبو بكر: إنكم قد علمتم أنه كان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم ولا نزل به الكتاب عليكم، وأن الله لن يجمعكم على ضلالة، وإنى سأشير عليكم، فإنما أنا رجل منكم، تنظرون فيما أشير به عليكم وفيما أشرتم به، فتجتمعون على أرشد ذلك، فإن الله يوفقكم، وأما أنا فأرى أن ننبذ إلى عدونا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وأن لا نرشو على الإسلام أحدا، وأن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجاهد عدوه كما جاهدهم، والله لو منعونى عقالا لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه، فأئتمروا يرشدكم الله، فهذا رأيى؛ وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم، فهذا أمر لم يغب عنه عيينة، هو راضه ثم جاء له ولو رأوا ذباب السيف لعادوا إلى ما خرجوا منه أو أفناهم السيف فإلى النار، قتلناهم على حق منعوه وكفر. فبان للناس وجه أمرهم، وقالوا لأبى بكر لما سمعوا رأيه: أنت أفضلنا رأيا، ورأينا لرأيك تبع. فأمر أبو بكر الناس بالتجهز، وأجمع على المسير بنفسه لقتال أهل الردة. وكانت أسد وغطفان من أهل الضاحية قد ارتدت، ولم ترتد عبس ولا بعض أشجع، وارتدت عامة بنى تميم وطوائف من بنى سليم: عصية وعميرة وخفاف، وبنو عوف بن امرئ القيس، وذكوان، وبنو جارية، وارتد أهل اليمامة «2» كلهم، وأهل البحرين «3» ،

_ (1) انظر: غزوات ابن حبيش (1/ 22) . (2) راجع قصة ارتداد أهل اليمامة فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 79- 83) ، تاريخ الطبرى (3/ 280، 281) . (3) راجع قصة أهل البحرين فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83- 85) .

وبكر بن وائل، وأهل دبى من أزد عمان «1» ، والنمر بن قاسط، وكلب، ومن قاربهم من قضاعة، وعامة بنى عامر بن صعصعة، وفيهم علقمة بن علاثة، وقيل: إنها تربصت مع قادتها وسادتها ينظرون لمن تكون الدبرة، وقدموا رجلا وأخروا أخرى، وارتدت فزارة، وجمعها عيينة بن حصن، وتمسك بالإسلام من بين المسجدين، وأسلم وغفار وجهينة ومزينة وكعب وثقيف، قام فيهم عثمان بن أبى العاص فى بنى مالك، وقام فى الأحلاف رجل منهم، فقال: يا معشر ثقيف، نشدتكم الله أن تكونوا أول العرب ارتدادا وآخرهم إسلاما؛ وأقامت طئ كلها على الإسلام، وهذيل، وأهل السراة وبجيلة وخثعم ومن قارب تهامة من هوازن نصر وجشم وسعد بن بكر وعبد القيس، قام فيهم الجارود فثبتوا على الإسلام، وارتدت كندة وحضرموت وعنس. وقال أبو هريرة: لم يرجع رجل واحد من دوس ولا من أهل السراة كلها. وقال أبو مرزوق التجيبى: لم يرجع رجل واحد من تجيب ولا من همدان، ولا من الأبناء بصنعاء، ولقد جاء الأبناء وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق نساؤهم الجيوب وضربن الخدود، وفيهم المرزبانة، فشقت درعها من بين يديها ومن خلفها. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما صدر من الحج سنة عشر، وقدم المدينة فأقام حتى رأى هلال المحرم سنة إحدى عشرة، وبعث المصدقين فى العرب، فبعث على عجز هوازن عكرمة بن أبى جهل «2» ، وبعث حامية بن سبيع الأسدى على صدقات قومه، وعلى بنى كلاب الضحاك بن سفيان «3» ، وعلى أسد وطئ عدى بن حاتم «4» ، وعلى بنى يربوع

_ (1) راجع قصة أهل عمان فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 85- 86) ، تاريخ الطبرى (3/ 314) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1857) ، الإصابة الترجمة رقم (5654) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3741) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (174) ، طبقات خليفة (20/ 299) ، تاريخ خليفة (92) ، الجرح والتعديل (7/ 6، 7) ، العقد الثمين، (6/ 119، 123) ، شذرات الذهب (1/ 27، 28) ، سير أعلام النبلاء (1/ 323) ، العبر (1/ 18) ، تهذيب الكمال (950) ، تهذيب التهذيب (7/ 257) ، خلاصة تذهيب الكمال (270) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1255) ، الإصابة الترجمة رقم (4186) أسد الغابة الترجمة رقم (2556) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 270) ، الوافى بالوفيات (16/ 352) ، الأعلام (3/ 214) ، تهذيب الكمال (1/ 615) ، تهذيب التهذيب (4/ 444) ، خلاصة تذهيب الكمال (2/ 3) ، المعرفة والتاريخ (3/ 369) ، التحفة اللطيفة (2/ 250) ، الجرح والتعديل (4/ 2018) ، دائرة معارف الأعلمى (20/ 255) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1800) ، الإصابة الترجمة رقم (5491) ، أسد-

مالك بن نويرة «1» ، وعلى بنى دارم وقبائل بنى حنظلة الأقرع بن حابس «2» ، وبعث الزبرقان بن بدر «3» على صدقات قومه، وقيس بن عاصم المنقرى «4» على صدقات قومه. فلما بلغتهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا، فمنهم من رجع، ومنهم من أدى إلى أبى بكر، وكان الذين حبسوا صدقات قومهم وفرقوها بين قومهم مالك بن نويرة، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس التميمى، وأما بنو كلاب فتربصوا، ولم يمنعوا منعا بينا، ولم يعطوا، كانوا بين ذلك. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، على فزارة نوفل بن معاوية الديلى» ، فلقيه خارجة بن حصن ابن حذيفة بن بدر الفزارى بالشربة، فقال: أما ترضى أن تغنم نفسك؟ فرجع نوفل بن

_ - الغابة الترجمة رقم (3610) ، الجرح والتعديل (7/ 2) ، مروج الذهب (3/ 190) ، جمهرة أنساب العرب (402) ، تاريخ بغداد (1/ 189) ، تهذيب الكمال (925) ، تذهيب التهذيب (3/ 36) ، خلاصة تذهيب الكمال (223) ، تهذيب التهذيب (7/ 166) ، شذرات الذهب (1/ 74) ، سير أعلام النبلاء (3/ 162) . (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2331) ، الإصابة الترجمة رقم (7712) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4656) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (69) ، الإصابة الترجمة رقم (231) ، أسد الغابة الترجمة رقم (208) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 26) ، الوافى بالوفيات (9/ 307) ، التحفة اللطيفة (1/ 337) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (1/ 531) ، التاريخ الصغير (59) ، الجامع فى الرجال (281) ، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 124) . (3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (870) ، الإصابة الترجمة رقم (2789) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1728) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 188) ، تقريب التهذيب (1/ 257) ، الطبقات الكبرى (7/ 36) ، الثقات (3/ 142) ، الأعلام (3/ 41) . (4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2164) ، الإصابة الترجمة رقم (7209) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4370) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 22) ، تقريب التهذيب (2/ 129) ، تهذيب التهذيب (8/ 399) ، خلاصة تهذيب الكمال (2/ 357) ، الأنساب لابن السمعانى (7/ 141) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (816) ، الثقات (3/ 338) . (5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2673) ، الإصابة الترجمة رقم (8854) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5322) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 115) ، تتهذيب التهذيب (10/ 492) ، تقريب التهذيب (2/ 309) ، خلاصة تذهيب الكمال (3/ 103) ، الجرح والتعديل (1/ 487) ، العقد الثمين (7/ 353) ، الأنساب لابن للسمعانى (5/ 449) ، الأعلام (8/ 55) ، الطبقات الكبرى (1/ 87) .

معاوية هاربا حتى قدم على أبى بكر الصديق بسوطه، وقد كان جمع فرائض فأخذها منه خارجة، فردها على أربابها، وكذا فعلت سليم بعرباض بن سارية «1» ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه على صدقاتهم، فلما بلغتهم وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، أبوا أن يعطوه شيئا، وأخذوا منه ما كان جمع، فانصرف من عندهم بسوطه، وأما أسلم وغفار ومزينة وجهينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث إليهم كعب بن مالك الأنصارى، فسلموا إليه صدقاتهم، لما بلغتهم وفاته، وتأدت إلى أبى بكر، فاستعان بها فى قتال أهل الردة، وكذلك فعل بنو كعب مع أمير صدقاتهم بشر بن سفيان الكعبى، وأشجع مع مسعود بن رحيلة الأشجعى «2» ، فقدم بذلك كله على أبى بكر. وكان عدى بن حاتم قد حبس إبل الصدقة، يريد أن يبعث بها إلى أبى بكر إذا وجد فرجة، والزبرقان بن بدر مثل ذلك، فجعل قومهما يكلمونهما فيأبيان، وكان أحزم رأيا وأفضل فى الإسلام رغبة ممن كان فرق الصدقة فى قومه، فقالا لقومهما: لا تعجلوا، فإنه إن قام بهذا الأمر قائم ألفاكم لم تفرقوا الصدقة، وإن كان الذى تظنون، فلعمرى إن أموالكم لبأيديكم، فلا يغلبنكم عليها أحد، فسكتوهم حتى أتاهم يقين خبر القوم، فلما اجتمع الناس على أبى بكر جاءهم أنه قد قطع البعوث، وسار بعث أسامة بن زيد إلى الشام، وأبو بكر يخرج إليهم، فكان عدى بن حاتم يأمر ابنه أن يسرح مع نعم الصدقة، فإذا كان المساء روحها، وإنه جاء بها ليلة عشاء، فضربه، وقال: ألا عجلت بها؟. ثم راح بها الليلة الثانية فوق ذلك قليلا، فجعل يضربه، وجعلوا يكلمونه فيه، فلما كان اليوم الثالث قال: يا بنى إذا سرحتها فصح فى أدبارها وأم بها المدينة، فإن لقيك لاق من قومك أو من غيرهم فقل أريد الكلأ، تعذر علينا ما حولنا، فلما أن جاء الوقت الذى كان يروح فيه، لم يأت الغلام، فجعل أبوه يتوقعه ويقول لأصحابه: العجب لحبس ابنى، فيقول بعضهم: نخرج يا أبا طريف فنتبعه، فيقول: لا والله؛ فلما أصبح تهيأ ليغدو، فقال قومه: نغدو معك، فقال: لا يغدو معى منكم أحد، إنكم إن رأيتموه حلتم بينى

_ (1) انظر ترجمته فى: الأستيعاب الترجمة رقم (2049) ، الإصابة الترجمة رقم (5517) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3630) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (331) ، شذرات الذهب (1/ 82) ، حلية الأولياء (2/ 13) ، سير أعلام النبلاء (3/ 419) ، تقريب التهذيب (2/ 17) ، خلاصة تذهيب التهذيب (269) ، تاريخ الإسلام (2/ 483) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2408) ، وفيه: مسعود بن «رخيلة بن عائذ الأشجعى» ، الإصابة الترجمة رقم (7961) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4883) .

وبين ضربه، وقد عصى أمرى كما ترون؛ فخرج على بعير له سريعا حتى لحق ابنه، ثم حدر النعم إلى المدينة، فلما كان ببطن قناة لقيته خيل لأبى بكر، عليها ابن مسعود، ويقال محمد بن مسلمة «1» وهو أثبت عندنا، فلما نظروا إليه ابتدروه، وما كان معه، وقالوا له: أين الفوارس الذين كانوا معك؟ قال: ما معى أحد، قالوا: بلى، لقد كان معك فوارس، فلما رأونا تغيبوا، فقال ابن مسعود: خلوا عنه فما كذب ولا كذبتم، جنود الله معه، ولم يرهم. فقدم على أبى بكر بثلاثمائة بعير، وكانت أول صدقة قدم بها على أبى بكر. وذكر بعض من ألف فى الردة: أن الزبرقان بن بدر هو الذى فعل هذا الفعل المنسوب فى هذا الحديث إلى عدى بن حاتم، فإما أن يكونا فعلاه معا توفيقا من الله لهما، وإما أن يكون هذا مما يعرض فى النقل من الاختلاف، والذى ينسب ذلك إلى الزبرقان يقول: إنه قال فى ذلك: لقد علمت قيس وخندف أننى ... وفيت إذا ما فارس الغدر ألجما أتيت التى قد يعلم الله أنها ... إذا ذكرت كانت أعف وأكرما أنفت لعوف أن يسب أبوهم ... إذا اقتسم الناس السوام المقسما وروحتها من أهل جوفاء صبحت ... تدوس بأيديها الحصاد المحرما حبوت بها قبر النبى وقد أبى ... فلم يجبه ساع من الناس مقسما وقال أيضا: وفيت بأذواد النبى ابن هاشم ... على موطن ضام الكريم المسودا فأديتها ألفا ولو شئت ضمها ... رعاء يكون الوشيج المقصدا وذكر ابن إسحاق: أن عدى بن حاتم كانت عنده إبل عظيمة اجتمعت له من صدقات قومه عندما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ارتد من الناس وارتجعوا صدقاتهم، وارتدت بنو أسد، وهم جيرانهم، اجتمعت طيئ إلى عدى بن حاتم، فقالوا: إن هذا الرجل قد مات، وقد انتقض الناس بعده، وقبض كل قوم ما كان فيهم من صدقاتهم، فنحن أحق بأموالنا من شذاذ الناس، فقال: ألم تعطوا من أنفسكم العهد والميثاق على الوفاء طائعين غير مكرهين.

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2372) ، الإصابة الترجمة رقم (7822) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4768) ، تهذيب الكمال (1271) ، تهذيب التهذيب (9/ 454) ، خلاصة تذهيب الكمال (359) ، شذرات الذهب (1/ 45، 53) ، الجرح والتعديل (8/ 71) ، الاستبصار (241، 242) ، تاريخ الإسلام (2/ 245) .

قالوا: بلى، ولكن قد حدث ما ترى، وقد ترى ما صنع الناس. قال: والذى نفس عدى بيده، لا أخيس بها أبدا، ولو كنت جعلتها لرجل من الزنج، لوفيت له بها، فإن أبيتم لأقاتلنكم، يعنى على ما فى يده وما فى أيديهم، فليكونن أول قتيل يقتل على وفاء ذمته عدى بن حاتم، أو يسلمها، فلا تطمعوا أن يسب حاتما فى قبره عدى ابنه من بعده، فلا يدعونكم عذر عاذر إلى أن تعذروا، فإن للشيطان قادة عند موت كل نبى، يستخف لها أهل الجهل حتى يحملهم على قلائص الفتنة، وإنما هى عجاجة لا ثبات لها، ولا ثبات فيها، إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خليفة من بعده يلى هذا الأمر، وإن لدين الله أقواما سينهضون ويقومون به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قاموا بعهده وذو بيته فى السماء، لئن فعلتم ليقارعنكم على أموالكم ونسائكم بعد قتل عدى وغدركم، فأى قوم أنتم عند ذلك، فلما رأوا منه الجد، كفوا عنه، وسلموا له. ويروى أن مما قال له قومه: أمسك فى يدك، فإنك إن تفعل تسد الحليفين، يعنون طيئا وأسدا. فقال: ما كنت لأفعل حتى أدفعها إلى أبى بكر، فجاء بها حتى دفعها إليه، فلما كان زمن عمر بن الخطاب، رأى من عمر رحمه الله، جفوة، فقال له عدى: ما أراك تعرفنى؟ قال عمر: بلى، والله، والله يعرفك من السماء، أعرفك والله: أسلمت إذ كفروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا، بلى، وايم الله أعرفك. وقدم أيضا الزبرقان بن بدر بصدقات قومه على أبى بكر، فلم يزل لعدى والزبرقان بذلك شرف وفضل على من سواهما. وأعطى أبو بكر عديا ثلاثين بعيرا من إبل الصدقة، وذلك أن عديا لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصرانيا فأسلم وأراد الرجوع إلى بلاده أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعتذر من الزاد ويقول: «والله، ما أصبح عند آل محمد شقة من الطعام، ولكن ترجع ويكون خير» ، فلذلك أعطاه أبو بكر تلك الفرائض. ولما كان من العرب ما كان من التوائهم عن الدين ومنع من منع منهم الصدقة جد بأبى بكر الجد فى قتالهم، وأراه الله رشده فيهم، وعزم على الخروج بنفسه إليهم، وأمر الناس بالجهاز، وخرج هو فى مائة من المهاجرين، وقيل: فى مائة من المهاجرين والأنصار، وخالد بن الوليد يحمل اللواء، حتى نزل بقعاء، وهو ذو القصة «1» ، يريد أبو

_ (1) ذو القصة: مكان على بريد من المدينة، وهو الذى أخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضى الله عنه. انظر: الروض المعطار (477) ، معجم ما استعجم (3/ 1086) .

بكر أن يتلاحق الناس من خلفه، ويكون أسرع لخروجهم، ووكل بالناس محمد بن مسلمة يستحثهم، فانتهى إلى بقعاء عند غروب الشمس، فصلى بها المغرب، وأمر بنار عظيمة فأوقدت، وأقبل خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر وكان ممن ارتد، فى خيل من قومه إلى المدينة يريد أن يخذل الناس عن الخروج، أو يصيب غرة فيغير، فأغار على أبى بكر رضى الله عنه، ومن معه، وهم غافلون، فاقتتلوا شيئا من قتال، وتحيز المسلمون، ولاذ أبو بكر بشجرة، وكره أن يعرف، فأوفى طلحة بن عبيد الله على شرف فصاح بأعلى صوته لا بأس، هذه الخيل قد جاءتكم، فتراجع الناس، وجاءت الأمداد، وتلاحق المسلمون، فانكشف خارجة بن حصن وأصحابه، وتبعه طلحة بن عبيد الله فيمن خف معه، فلحقوه فى أسفل ثنايا عوسجة، وهو هارب لا يألو فيدرك أخريات أصحابه، فحمل طلحة على رجل بالرمح فدق ظهره، ووقع ميتا، وهرب من بقى، ورجع طلحة إلى أبى بكر، فأخبره أن قد ولوا منهزمين هاربين، وأقام أبو بكر ببقعاء أياما ينتظر الناس، وبعث إلى من كان حوله من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردة، والخفوف إليهم، فتحلب الناس إليهم من هذه النواحى، حتى شحنت منهم المدينة. قال سبرة الجهنى «1» : قدمنا معشر جهينة أربعمائة معنا الظهر والخيل، وساق عمرو ابن مسرة الجهنى مائة بعير عونا للمسلمين، فوزعها أبو بكر فى الناس، وجعل عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب يكلمان أبا بكر فى الرجوع إلى المدينة لما رأيا عزمه على المسير بنفسه، وقد توافى المسلمون وحشدوا، فلم يبق أحد من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار من أهل بدر إلا خرج، وقال عمر: ارجع يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكن للمسلمين فئة وردآ، فإنك إن تقتل يرتد الناس ويعل الباطل الحق، وأبو بكر مظهر المسير بنفسه، وسألهم بمن نبدأ من أهل الردة، فاختلفوا عليه، فقال أبو بكر: نصمد لهذا الكذاب على الله وعلى كتابه، طليحة. ولما ألحوا على أبى بكر فى الرجوع، وعزم هو عليه، أراد أن يستخلف على الناس،

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (913) ، الإصابة الترجمة رقم (3094) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1936) ، مشاهير علماء الأمصار (35) ، الوافى بالوفيات (15/ 111) ، تهذيب الكمال (10/ 203) ، تهذيب التهذيب (3/ 4503) ، تقريب التهذيب (1/ 283) ، خلاصة تذهيب التهذيب (133) ، تاريخ الإسلام (1/ 212) .

فدعا زيد بن الخطاب «1» لذلك، فقال: يا خليفة رسول الله، قد كنت أرجو أن أرزق الشهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أرزقها، وأنا أرجو أن أرزقها فى هذا الوجه، وإن أمير الجيش لا ينبغى أن يباشر القتال بنفسه، فدعا أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، فعرض عليه ذلك، فقال مثل ما قال زيد، فدعا سالما مولى أبى حذيفة ليستعمله، فأبى عليه، فدعا أبو بكر خالد بن الوليد فأمره على الناس، وقال لهم وقد توافى المسلمون قبله، وبعث مقدمته أمام الجيش: أيها الناس، سيروا على اسم الله تعالى وبركته، فأميركم خالد بن الوليد، إلى أن ألقاكم، فإنى خارج فيمن معى إلى ناحية خيبر حتى ألاقيكم. ويروى أنه قال للجيش: سيروا، فإن لقيتكم بعد غد فالأمر إلى، وأنا أميركم، وإلا فخالد بن الوليد عليكم، فاسمعوا له وأطيعوا. وإنما قال ذلك أبو بكر لأن تذهب كلمته فى الناس، وتهاب العرب خروجه، ثم خلا بخالد بن الوليد، فقال: يا خالد، عليك بتقوى الله، وإيثاره على من سواه، والجهاد فى سبيله، فقد وليتك على من ترى من أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فسار خالد، ورجع أبو بكر، وعمر، وعلى، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص فى نفر من المهاجرين والأنصار من أهل بدر رضى الله عنهم جميعهم، إلى المدينة. وصية أبى بكر الصديق رضى الله عنه، خالد بن الوليد حين بعثه فى هذا الوجه قال حنظلة بن على الأسلمى: بعث أبو بكر رضى الله عنه، خالد بن الوليد إلى أهل الردة، وأمره أن يقاتلهم على خمس خصال، فمن ترك واحدة من الخمس قاتله: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان. زاد زيد بن أسلم: وحج البيت، وقال: كن ستا. وعن نافع بن جبران أن أبا بكر حين بعث خالد بن الوليد عهد إليه، وكتب معه هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (851) ، الإصابة الترجمة رقم (8904) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1834) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 198) ، سير أعلام النبلاء (1/ 297) ، تهذيب التهذيب (3/ 411) ، تقريب التهذيب (1/ 274) ، خلاصة تذهيب الكمال (1/ 352) ، الأعلام (3/ 58) ، العبر (14) ، الثقات (3/ 136) ، الاستبصار (296، 297) ، صفة الصفوة (1/ 447) ، التحفة اللطيفة (1/ 99) ، الرياض المستطاب (89) .

خالد بن الوليد، حين بعثه فيمن بعثه من المهاجرين والأنصار، ومن معهم من غيرهم لقتال من رجع عن الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهد إليه وأمره أن يتقى الله ما استطاع فى أمره كله، علانيته وسره، وأمره بالجد فى أمر الله والمجاهدة لمن تولى عنه إلى غيره ورجع عن الإسلام إلى ضلالة الجاهلية وأمانى الشيطان. وعهد إليه وأمره أن لا يقاتل قوما حتى يعذر إليهم ويدعوهم إلى الإسلام، ويبين لهم الذى لهم فى الإسلام والذى عليهم فيه، ويحرص على هداهم، فمن أجابه إلى ما دعاه إليه من الناس كلهم، أحمرهم وأسودهم، قبل منه، وليعذر إلى من دعاه بالمعروف وبالسيف، فإنما يقاتل من كفر بالله على الإيمان بالله، فإذا أجاب المدعو إلى الإيمان، وصدق إيمانه، لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فى عمله، ومن لم يجبه إلى ما دعا إليه من دعائه الإسلام، ممن رجع عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقاتل أولئك بمن معه من المهاجرين والأنصار، حيث كانوا، وحيث بلغ مراغمه، ثم يقتل من قدر عليه من أولئك، ولا يقبل من أحد شيئا دعاه إليه ولا أعطاه إياه الإسلام والدخول فيه والصبر به وعليه وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. وأمره أن يمضى بمن معه من المسلمين حتى يقدم اليمامة فيبدأ ببنى حنيفة ومسيلمتهم الكذاب، فيدعوهم ويدعوه إلى الإسلام، وينصح لهم فى الدين، ويحرص على هداهم، فإن أجابوا إلى ما دعاهم إليه من دعاية الإسلام قبل منهم، وكتب بذلك إلى، وأقام بين أظهرهم حتى يأتيه أمرى، وإن هم لم يجيبوا ولم يرجعوا عن كفرهم واتباع كذابهم على كذبه على الله عز وجل، قاتلهم أشد القتال بنفسه وبمن معه، فإن الله ناصر دينه ومظهره على الدين كله، كما قضى فى كتابه ولو كره الكافرون، فإن أظهره الله عليهم إن شاء الله وأمكنه منهم فليقتلهم بالسلاح، وليحرقهم بالنار، ولا يستبق منهم أحدا قدر على أن يستبقيه، وليقسم أموالهم وما أفاء الله عليه وعلى المسلمين إلا خمسه، فليرسل به إلى أضعه حيث أمر الله به أن يوضع إن شاء الله. وعهد إليه أن لا يكون فى أصحابه فشل من رأيهم ولا عجلة عن الحق إلى غيره، ولا يدخل فيهم حشو من الناس حتى يعرفهم ويعرف ممن هم، وعلام اتبعوه وقاتلوا معه، فإنى أخشى أن يدخل معكم ناس يتعوذون بكم ليسوا منكم ولا على دينكم، فيكونون عيونا عليكم، ويتحفظون من الناس بمكانهم معكم، وأنا أخشى أن يكون ذلك فى الأعراب وجفاتهم، فلا يكونن من أولئك فى أصحابك أحد إن شاء الله تعالى، وارفق بالمسلمين فى سيرهم ومنازلهم، وتفقدهم، ولا تعجل بعض الناس عن بعض فى المسير

ولا فى الارتحال من مكان، واستوص بمن معك من الأنصار خيرا فى حسن صحبتهم، ولين القول لهم، فإن فيهم ضيقا ومرارة وزعارة، ولهم حق وفضيلة وسابقة ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ويروى أن أبا بكر رحمه الله، كتب مع هذا الكتاب كتابا آخر إلى عامة الناس، وأمر خالدا أن يقرأه عليهم فى كل مجمع، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابى هذا من عامة أو خاصة، تاما على إسلامه أو راجعا عنه، سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبد ورسوله، الهادى غير المضل، أرسله بالحق من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، لينذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب بالحق من أدبر عنه حتى صاروا إلى الإسلام طوعا وكرها، ثم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند ذلك أجله الذى قضى الله عليه وعلى المؤمنين، فتوفاه الله، وقد كان بين له ذلك ولأهل الإسلام فى الكتاب الذى أنزل عليه، فقال له: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقال: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 34، 35] ، وقال للمؤمنين: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] ، فمن كان إنما يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، صلوات الله عليه، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له، فإن الله بالمرصاد، حى قيوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه، وإنى أوصيكم أيها الناس بتقوى الله، وأحضكم على حظكم ونصيبكم من الله وما جاءكم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تهتدوا بهدى الله، وتعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يحفظه الله ضائع، وكل من لم يصدقه الله كاذب، وكل من لم يسعده الله شقى، وكل من لم يرزقه الله محروم، وكل من لم ينصره الله مخذول، فاهتدوا بهدى الله ربكم وما جاءكم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: 17] ، وإنه قد بلغنى رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به، اغترارا بالله وجهالة بأمر الله، وطاعة للشيطان، إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا

حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] ، وإنى قد بعثت خالد بن الوليد فى جيش من المهاجرين الأولين من قريش والأنصار وغيرهم، وأمرته أن لا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن دخل فى دين الله وتاب إلى الله ورجع عن معصية الله إلى ما كان يقر به من دين الله وعمل صالحا قبل ذلك منه، وأعانه عليه، ومن أبى أن يرجع إلى الإسلام بعد أن يدعوه بداعية الله ويعذر إليه بعاذرة الله، أن يقاتل من قاتله على ذلك أشد القتال بنفسه ومن معه من أنصار دين الله وأعوانه، ثم لا يبقى على أحد بعد أن يعذر إليه، وأن يحرقهم بالنار، ويسبى الذرارى والنساء، وأمرته أن لا يقبل من أحد شيئا إلا الرجوع إلى دين الله، وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرته أن يقرأ على الناس كتابى إليهم فى كل مجمع وجماعة، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فهو شر له. وعن عروة بن الزبير، قال: جعل أبو بكر رضى الله عنه، يوصى خالد بن الوليد ويقول: يا خالد، عليك بتقوى الله، والرفق بمن معك من رعيتك، فإن معك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهل السابقة من المهاجرين والأنصار، فشاوروهم فيما نزل بك، ثم لا تخالفهم، وقدم أمامك الطلائع ترتاد لك المنازل، وسر فى أصحابك على تعبئة جيدة، فإذا لقيت أسدا وغطفان فبعضهم لك وبعضهم عليك، وبعضهم لا عليك ولا لك، متربص دائرة السوء، ينظر لمن تكون الدبرة، فيميل مع من تكون له الغلبة، ولكن الخوف عندى من أهل اليمامة، فاستعن بالله على قتالهم، فإنه بلغنى أنهم رجعوا بأسرهم، وإن كفاك الله الضاحية فامض إلى أهل اليمامة، فإنك تلقى عدوا كلهم عليك، لهم بلاد منكرة، فلا تؤتى إلا من مفازة، فارفق بجيشك فى تلك المفازة، فإن فى جيشك قوما أهل ضعف، أرجو أن تنصر بهم حتى تدخل بلادهم إن شاء الله تعالى. فإذا دخلت بلادهم فالحذر الحذر إذا لقيت القوم فقاتلهم بالسلاح الذى يقاتلونك به، السهم للسهم، والرمح للرمح، والسيف للسيف، فإن أعطاك الله الظفر عليهم، فأقل البقيا عليهم إن شاء الله تعالى، وإياك أن تلقانى غدا بما يضيق صدرى به منك، اسمع عهدى ووصيتى، لا تغيرن على دار سمعت فيها أذانا حتى تعلم ما هم عليه، وإياك وقتل من صلى، واعلم يا خالد أن الله يعلم من سريرتك ما يعلم من علانيتك، واعلم أن رعيتك إنما تعمل بما تراك تعمل، كف عليك أطرافك، وتعاهد جيشك، وانههم عما لا يصلح لهم، فإنما تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم، وبهذا نرجو لكم النصر على أعدائكم، سر على بركة الله تعالى.

ذكر مسير خالد بن الوليد رضى الله عنه، إلى بزاخة وغيرها قالوا: وسار خالد بن الوليد ومعه عدى بن حاتم، وقد انضم إليه من طيىء ألف رجل، فنزل بزاخة، وكانت جديلة معرضة عن الإسلام، وهى بطن من طيىء، وكان عدى بن حاتم من الغوث، وقد همت جديلة أن ترتد، فجاءهم مكنف بن زيد الخيل الطائى، فقال: أتريدون أن تكونوا سبة على قومكم، لم يرجع رجل واحد من طيىء، وهذا أبو طريف عدى بن حاتم، معه ألف رجل من طيىء، فكسرهم، فلما نزل خالد بزاخة، قال لعدى: يا أبا طريف، ألا نسير إلى جديلة؟ فقال: يا أبا سليمان، لا تفعل، أقاتل معك بيدين أحب إليك، أم بيد واحدة؟ فقال خالد: بل بيدين، قال عدى: فإن جديلة إحدى يدى، فكف خالد عنهم، فجاءهم عدى فدعاهم إلى الإسلام، فأسلموا، فحمد الله وسار بهم إلى خالد. فلما رآهم خالد فزع منهم، وظن أنهم أتوا للقتال، فصاح فى أصحابه بالسلاح، فقيل له: إنما هى جديلة أتت تقاتل معك، فلما جاؤا حلوا ناحية، وجاءهم خالد، فرحب بهم، وفرح بهم، واعتذروا إليه من اعتزالهم، وقالوا: نحن لك حيث أحببت، فجزاهم خيرا، فلم يرتد من طيىء رجل واحد، فسار خالد على تعبئته، وطلب إليه عدى أن يجعل قومه مقدمة أصحابه، فقال: يا أبا طريف، إن الأمر قد اقترب، وأنا أخاف أن أقدم قومك، فإذا ألحمهم القتال انكشفوا، فانكشف من معنا، ولكن دعنى أقدم قوما صبرا، لهم سوابق ونيات، وهم من قومك. قال عدى: الرأى ما رأيت، فقدم المهاجرين، والأنصار، ولم يزل خالد يقدم طليعته منذ خرج من بقعاء حتى قدم اليمامة، وأمر عيونه أن يختبروا كل من مروا به عند مواقيت الصلاة بالأذان لها، فيكون ذلك أمانا لهم، ودليلا على إسلامهم، وانتهى خالد والمسلمون إلى عسكر طليحة، وقد ضربت لطليحة قبة من أدم، وأصحابه حوله معسكرون، فانتهى خالد ممسيا، فضرب عسكره على ميل أو نحوه من عسكر طليحة، وخرج يسير على فرس معه نفر من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فوقف من عسكر طليحة غير بعيد، ثم قال: يخرج إلى طليحة، فقال أصحابه: لا تصغر اسم نبينا، وهو طلحة. فخرج طليحة فوقف، فقال له خالد: إن من عهد خليفتنا إلينا أن ندعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن تعود إلى ما خرجت منه، فنقبل منك، ونغمد سيوفنا عنك، فقال: يا خالد، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، وأنى نبى مرسل يأتينى ذو النون، كما كان جبريل يأتى محمدا، وقد كان ادعى هذا فى عهد النبى

صلى الله عليه وسلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: لقد ذكر ملكا عظيما فى السماء يقال له: ذو النون، وكان عيينة بن حصن قد قال له: لا أبا لك، هل أنت مرينا بعض نبوتك، فقد رأيت ورأينا ما كان يأتى محمدا، قال: نعم، فبعث عيونا له حيث سار خالد بن الوليد من المدينة مقبلا إليهم قبل أن يسمع بذكر خالد، وقال: إن بعثتم فارسين على فرسين أغرين محجلين من بنى نصر بن قعين أتوكم من القوم بعين، فهيئوا فارسين، فبعثوهما، فخرجا يركضان، فلقيا عينا لخالد بن الوليد، فقالا: ما وراءك؟ فقال: هذا خالد بن الوليد فى المسلمين، قد أقبلوا، فأتوا به إليه، فزادهم فتنة، وقال: ألم أقل لكم؟. فلما أبى طليحة على خالد أن يقر بما دعاه إليه انصرف خالد إلى معسكره، فاستعمل تلك الليلة على حرسه مكنف بن زيد الخيل، وعدى بن حاتم، وكان لهما صدق نية ودين، فباتا يحرسان فى جماعة من المسلمين، فلما كان فى السحر، نهض خالد فعبأ أصحابه، ووضع ألويته مواضعها، ودفع اللواء الأعظم إلى زيد بن الخطاب، فتقدم به، وتقدم ثابت بن قيس بن شماس بلواء الأنصار، وطلبت طيىء لواء يعقد لها، فعقد خالد لواء ودفعه إلى عدى بن حاتم، فلما سمع طليحة حركة القوم عبأ أصحابه، وجعل خالد يسوى الصفوف على رجليه، وطليحة يسوى أصحابه على راحلته، حتى إذا استوت الصفوف زحف بهم خالد حتى دنا من طليحة، فلما انتهى إليه، خرج إليه طليحة بأربعين غلاما جلداء من جنوده، مردا، فأقامهم فى الميمنة، فقال: اضربوا حتى تأتوا الميسرة، فتضعضع الناس ولم يقتل أحد، ثم أقامهم فى الميسرة ففعلوا مثل ذلك، وانهزم المسلمون، فقال رجل من هوازن، حضرهم يومئذ: إن خالدا لما كان ذلك قال: يا معشر الأنصار، الله الله، واقتحم وسط القوم، وكر عليه أصحابه، فاختلطت الصفوف، واختلفت السيوف بينهم، وضرس خالد فى القتال، فجعل يقحم فرسه ويقولون له: الله الله، فإنك أمير القوم، ولا ينبغى لك أن تقدم، فيقول: والله إنى لأعرف ما تقولون، ولكنى والله ما رأيتنى أصبر، وأخاف هزيمة المسلمين. وفيما ذكر الكلبى عن بعض الطائيين: أنه نادى مناد من طيىء، يعنى عندما حمل أولئك الأربعون غلاما على المسلمين: يا خالد، عليك سلمى وأجأ فقال: بل إلى الله الملجأ، قال: ثم حمل، فو الله ما رجع حتى لم يبق من أولئك الأربعين رجل واحد، وقاتل خالد يومئذ بسيفين، حتى قطعهما، وتراد الناس بعد الهزيمة، واشتد القتال، وأسر حبال ابن أبى حبال، فأرادوا أن يبعثوا به إلى أبى بكر، فقال: اضربوا عنقى ولا ترونى محمديكم هذا، فضربوا عنقه.

وذكر الواقدى عن ابن عمر، قال: نظرت إلى راية طليحة يومئذ، حمراء يحملها رجل منهم لا يزول بها فترا، فنظرت إلى خالد أتاه فحمل عليه فقتله، فكانت هزيمتهم، فنظرت إلى الراية تطؤها الإبل والخيل والرجال حتى تقطعت. وعنه، قال: يرحم الله خالد بن الوليد، لقد كان له غناء وجرأة، ولقد رأيته يوم طليحة يباشر الحرب بنفسه حتى ليم فى ذلك، ولقد رأيته يوم اليمامة يقاتل أشد القتال، إن كان مكانه ليتقى حتى يطلع إلينا منبهرا. ولما تراجع المسلمون، وضرس القتال، تزمل طليحة بكساء له ينتظر، زعم أن ينزل عليه الوحى، فلما طال ذلك على أصحابه وهدتهم الحرب، جعل عيينة بن حصن يقاتل ويذمر الناس. قال ابن إسحاق: قاتل يومئذ فى سبعمائة من فزارة قتالا شديدا، حتى إذا لج المسلمون عليهم بالسيف وقد صبروا لهم، أتى طليحة وهو متلثم فى كسائه، فقال: لا أبا لك، هل أتاك جبريل بعد؟ قال: يقول طليحة وهو تحت الكساء: لا والله ما جاء بعد، فقال عيينة: تبا لك سائر اليوم، ثم رجع عيينة فقاتل، وجعل يحض أصحابه وقد ضجوا من وقع السيوف. فلما طال ذلك على عيينة جاء طليحة وهو مستلق متسج بكسائه فجبذه جبذة جلس منها، وقال له: قبح الله هذه من نبوة، ما قيل لك بعد شىء؟ فقال: طليحة: قد قيل لى: إن لك رحا كرحاه، وأمرا لن تنساه، فقال عيينة: أظن قد علم الله أن سيكون لك أمر لن تنساه، يا فزارة، هكذا، وأشار له تحت الشمس، هذا والله كذاب، ما بورك له ولا لنا فيما يطالب، فانصرفت فزارة، وذهب عيينة وأخوه فى آثارها، فيدرك عيينة فأسر، وأفلت أخوه، ويقال: أسر عيينة عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائى، فأراد خالد قتله حتى كلمه فيه رجل من بنى مخزوم، فترك قتله. ولما رأى طليحة أن الناس يقتلون ويؤسرون، خرج منهزما، وأسلمه الشيطان، فأعجزهم هو وأخوه، فجعل أصحابه يقولون له: ماذا ترى؟ وقد كان أعد فرسه وهيأ امرأته النوار فوثب على فرسه، وحمل امرأته وراءه فنجا بها، وقال: من استطاع منكم أن يفعل كما فعلت فليفعل، ولينج بأهله، ثم هرب حتى قدم الشام، فأقام عند بنى جفنة الغسانيين. وفى كتاب يعقوب الزهرى: أن طليحة قال لأصحابه لما رأى انهزامهم: ويلكم ما

يهزمكم؟ فقال له رجل منهم: أنا أخبرك أنه ليس منا رجل إلا وهو يحب أن صاحبه يموت قبله، وأنا نلقى قوما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه. وذكر ابن إسحاق أن طليحة لما ولى هاربا تبعه عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم، وقد كان طليحة أعطى الله عهدا أن لا يسأله أحد النزول إلا فعل، فلما أدبر ناداه عكاشة: يا طليحة، فعطف عليه، فقتل عكاشة، ثم أدركه ثابت، فقتله أيضا طليحة، ثم لحق بالشام. وقال طليحة يذكر قتله إياهما: زعمتم بأن القوم لن يقتلوكم ... أليسوا وإن لم يسلموا برجال عدلت لهم صدر الحمالة إنها ... معودة قيل الكماة نزال فيوما تفى بالمشرفية خدها ... ويوما تراها فى ظلال عوال ويوما تراها فى الجلال مصونة ... ويوما تراها غير ذات جلال عشية غادرت ابن أقرم ثاويا ... وعكاشة الغنمى عند مجال فإن يك أذواد أصبن ونسوة ... فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال وقد قيل فى قتلها غير هذا، وهو ما ذكره الواقدى عن عميلة الفزارى، وكان عالما بردتهم: أن خالد بن الوليد كان لما دنا من القوم بعث عكاشة وثابتا طليعة أمامه، وكانا فارسين، فلقيهما طليحة وأخاه مسيلمة ابنى خويلد، طليعة لمن وراءهما من الناس، وخلفوا عسكرهم من ورائهم، فلما التقوا، انفرد طليحة بعكاشة، ومسلمة بثابت، فلم يلبث مسلمة أن قتل ثابتا، وصرخ طليحة بمسلمة: أعنى على الرجل فإنه قاتلى، فكر معه على عكاشة، فقاتلاه رحمه الله، ثم كرا راجعين إلى من وراءهما، وأقبل خالد معه المسلمون، فلم يرعهم إلا ثابت بن أقرم قتيلا تطؤه المطى، فعظم ذلك على المسلمين، ثم لم يسيروا إلا يسيرا حتى وطئوا عكاشة قتيلا، فثقل على المطى، كما وصف واصفهم، حتى ما تكاد المطى ترفع أخفافها. وفى كتاب الزهرى: ثم لحقوا أصحاب طليحة، فقتلوا وأسروا، وصاح خالد: لا يطبخن رجل قدرا ولا يسخنن ماء إلا على أثفية رأس رجل، وتظلف رجل من بنى أسد، فوثب على عجز راحلة خالد وهو يقول: لن يخزى الله قوما أنت قائدهم ... يا ابن الوليد ولن تشقى بك الدبر كفاك كف عقاب عند سطوتها ... على العدو وكف برة عقر أنشدك الله أن يكون هلاك مضر اليوم على يديك، قال: من أنت ويحك؟ قال: أنا

الأباء بن قيس يا خالد، حكمك فى بنى أسد، قال: حكمى فيهم أن يقيموا الصلاة، ثم يؤتوا الزكاة، ثم يرجعوا إلى بلادهم، فمن كان له بها مال فليعمده، وليسلم عليه، فهو له. فأقروا بذلك، فنادى خالد: من قام فهو آمن، فقام الناس كلهم، فآمن من قام. وسمعت بذلك بنو عامر، فأعلنوا بالإسلام، وأمر خالد بالحظائر أن تبنى، ثم أوقد فيها النار، ثم أمر بالأسرى، فألقيت فيها، وألقى يومئذ حامية بن سبيع بن الحسحاس الأسدى، وهو الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعمله على صدقات قومه فارتد عن الإسلام. وأخذ أم طليحة، إحدى نساء بنى أسد، فعرض عليها الإسلام، فأبت، ووثبت فاقتحمت النار وهى تقول: يا موت عم صباحا ... كافحته كفاحا إذا لم أجد براحا وذكر الواقدى عن يعقوب بن يزيد بن طلحة: أن خالدا جمع الأسارى فى الحظائر، ثم أضرمها عليهم، فاحترقوا وهم أحياء، ولم يحرق أحد من بنى فزارة، فقلت لبعض أهل العلم: لم حرق هؤلاء من بين أهل الردة؟ فقال: بلغت عنهم مقالة سيئة، شتموا النبى صلى الله عليه وسلم، وثبتوا على ردتهم. وذكر عن غير يعقوب: أن خالدا أمر بالأخدود يحفر، فقيل له: ما تريد بهذا الأخدود؟ قال: أحرقهم بالنار، فكلم فى ذلك، فقال: هذا عهد الصديق أبى بكر إلى، اقرؤه فى كل مجمع: إن أظفرك الله بهم فاحرقهم بالنار. وعن عبد الله بن عمر، قال: شهدت بزاخة فظفرنا الله على طليحة، فكنا كلما أغرنا على القوم سبينا الذرارى واقتسمنا أموالهم. ذكر رجوع بنى عامر وغيرهم إلى الإسلام ولما أوقع الله ببنى أسد وفزارة ما أوقع ببزاخة بعث خالد بن الوليد السرايا ليصيبوا ما قدروا عليه ممن هو على ردته، وجعلت العرب تسير إلى خالد راغبة فى الإسلام أو خائفة من السيف، فمنهم من أصابته السرية، فيقول: جئت راغبا فى الإسلام، وقد رجعت إلى ما خرجت منه، ومنهم من يقول: ما رجعنا ولكنا منعنا أموالنا وشححنا

عليها، فقد سلمناها فليأخذ منها حقه، ومنهم من لم تظفر به السرايا، فانتهى إلى خالد مقرا بالإسلام، ومنهم من مضى إلى أبى بكر الصديق ولم يقرب خالدا. قال الواقدى: فاختلفوا علينا فى قرة بن هبيرة القشيرى «1» ، فقال قائل: هرب إلى أبى بكر وأسلم عنده، وقال قائل: أخذته خيل خالد، فأتت به إليه، ومنهم من قال: جاء إلى خالد بن الوليد شاردا حين جاءت بنو عامر إلى خالد، وهو أثبت عندنا. قال بعضهم: وكانت بنو عامر تربص لمن الدبرة، وصاحب أمرهم قرة بن هبيرة، فقام فيهم أبو حرب ربيعة بن خويلد العقيلى، وهو يومئذ، فارس عامر ورجلها، فقال: مهلا يا بنى عامر، قد قتلتم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى بئر معونة، وأخفرتم ذمة أبى براء، وأرداكم عامر بن الطفيل، وقد أظلكم خالد فى المهاجرين والأنصار، فكسرهم قوله، وقد رضوه، وكان عرض لعمرو بن العاص مقدمه من عمان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع قرة بن هبيرة ما نذكره، وذلك أن عمرا كان عاملا للنبى صلى الله عليه وسلم، على عمان، فجاءه يوما يهودى من يهود عمان، فقال: أرأيتك إن سألتك عن شىء أأخشى على منك؟ قال: لا، قال اليهودى: أنشدك الله، من أرسلك إلينا؟ قال: اللهم، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال اليهودى: الله إنك لتعلم أنه رسول الله؟ قال عمرو: اللهم نعم، فقال اليهودى: لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم. فلما رأى عمرو ذلك جمع أصحابه وحواشيه، وكتب ذلك اليوم الذى قال له اليهودى فيه ما قال، ثم خرج بخفراء من الأزد وعبد القيس، يأمن بهم، فجاءته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجر، ووجد ذكر ذلك عند المنذر بن ساوى، فسار حتى قدم أرض بنى حنيفة، فأخذ منهم خفيرا حتى جاء أرض بنى عامر، فنزل على قرة بن هبيرة القشيرى، فقال له حين أراد عمرو أن يركب: إن لك عندى نصيحة، وأنا أحب أن تسمعها، إن صاحبك قد توفى، قال عمرو: وصاحبنا هو لا أم لك، يعنى دونك، قال له قرة: وإنكم يا معشر قريش كنتم فى حرمكم تأمنون فيه ويأمنكم الناس، ثم خرج منكم رجل يقول ما سمعت، فلما بلغنا ذلك لم نكرهه، وقلنا، رجل من مضر يريد يسوق الناس، وقد توفى، والناس إليكم سراع، وإنهم غير معطيكم شيئا، فالحقوا بحرمكم تأمنون فيه، وإن كنت غير فاعل، فعدنى حيث شئت آتك، فوقع به عمرو وقال: إنى أرد عليك نصيحتك، وموعدك حفش أمك، قال قرة: إنى لم أرد هذا، وندم على مقالته، ويقال:

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2138) ، الإصابة الترجمة رقم (7121) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4296) ، الجرح والتعديل (7/ 740) ، التاريخ الكبير (7/ 181) .

خرج مع عمرو فى مائة من قومه خفراء له. وأقبل عمرو بن العاص يلقى الناس مرتدين، حتى أتى على ذى القصة، فلقى عيينة بن حصن خارجا من المدينة، وذلك حين قدم على أبى بكر يقول: إن جعلت لنا شيئا كفيناك ما وراءنا، فقال له عمرو بن العاص: ما وراءك يا عيينة؟ من ولى الناس أمورهم؟ قال: أبو بكر. فقال عمرو: الله أكبر، قال عيينة: يا عمرو، استوينا نحن وأنتم، فقال عمرو: كذبت يا ابن الأخابث من مضر، وسار عيينة فجعل يقول لكل من لقى من الناس: احبسوا عليكم أموالكم. قالوا: فأنت ما تصنع؟ قال: لا يدفع إليه رجل من فزارة عناقا واحدة، ولحق عند ذلك بطليحة الأسدى، فكان معه. وقدم عمرو المدينة، فأخبر أبا بكر بما كان فى وجهه، وبمقالة قرة بن هبيرة، وبمقالة عيينة بن حصن، وأتى عمرو خالدا حين بعثه أبو بكر إلى أهل الردة، فجعل يقول: يا أبا سليمان، لا يفلت منك قرة بن هبيرة، فلما صنع الله بأهل بزاخة ما صنع، عمد خالد إلى جبلى طيىء فأتته عامر وغطفان يدخلون فى الإسلام، ويسألونه الأمان على مياههم وبلادهم، وأظهروا له التوبة، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فأمنهم خالد، وأخذ عليهم العهود والمواثيق ليبايعن على ذلك أبناءكم ونساءكم آناء الليل وآناء النهار، فقالوا: نعم نعم، ولما اجتمعوا إليه، قال خالد: أين قرة بن هبيرة القشيرى؟ قال: ها أنا ذا، قال: قدمه فاضرب عنقه، وقال: أنت المتكلم لعمرو بن العاص بما تكلمت به وأنت المتربص بالمسلمين الدوائر، ولم تنصر وقلت إن كانت الدائرة على المسلمين فمالى بيدى، وجمعت قومك على ذلك، ورأسك قومك، ولم تكن بأهل أن ترأس ولا تطاع. قال: يا ابن المغيرة، إن لى عند عمرو بن العاص شهادة، فقال خالد: عمرو الذى نقل عنك إلى الخليفة ما تكلمت به. ويروى أنه قال له هذا ما قال لك عمرو: سيأتيك فى حفش أمك. فقال له قرة: يا أبا سليمان، إنى قد أجرته فأحسنت جواره، وأنا مسلم لم أرتد، فقال: لولا ما تذكر لضربت عنقك، ولكن لا بد أن أبعث بك فى وثاق إلى أبى بكر فيرى فيك رأيه، فلما فرغ من بيعة بنى عامر أوثق عيينة بن حصن، وقرة بن هبيرة، وبعث بهما إلى أبى بكر الصديق. قال ابن عباس: فقدم بهما المدينة فى وثاق، فنظرت إلى عيينة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ينخسه غلمان المدينة بالجريد، ويضربونه، ويقولون: أى عدو الله، أكفرت بالله بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما كنت آمنت بالله.

قالوا: ووقف عليه عبد الله بن مسعود، فقال: خبت وخسرت، إنك لموضع فى الباطل قديما، فقال له عيينة: اقصر أيها الرجل، فلولا ما أنا فيه لم تكلمنى بما تكلمنى به، فانصرف ابن مسعود، وأتى بقرة بن هبيرة، فقال: يا خليفة رسول الله، والله ما كفرت، وسل عمرو بن العاص، فإن لى عنده شهادة، لما أقبل من عمان خرجت فى مائة من قومى خفراء له، وقبل ذلك ما أكرمت منزله، ونحرت له، فسأل أبو بكر رضى الله عنه، عمرا، فقال: نزلت به، فلم أر للضيف خيرا منه، لم يترك، وخرج معى فى مائة من قومه؛ ثم ذكر عمرو ما قال له قرة، فقال قرة: انزع يا عمرو، فقال عمرو: لو نزعت نزعت، فلم يعاقبه أبو بكر، وعفا عنه، وكتب له أمانا، وقبل منه. وكان فيمن ارتد من بنى عامر ولم يرجع معهم علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر، فبعث أبو بكر إلى ابنته وامرأته ليأخذهما، فقالت امرأته: مالى ولأبى بكر، إن كان علقمة قد كفر فإنى لم أكفر، فتركها، ثم راجع علقمة الإسلام زمن عمر رضى الله عنه، فرد عليه زوجته. وأخذ خالد بن الوليد من بنى عامر وغيرهم من أهل الردة ممن جامعهم وبايعه على الإسلام كل ما ظهر من سلاحهم، واستحلفهم على ما غيبوا عنه، فإن حلفوا تركهم، وإن أبوا شدهم أسرا حتى أتوا بما عندهم من السلاح، فأخذ منهم سلاحا كثيرا، فأعطاه أقواما يحتاجون إليه فى قتال عدوهم، وكتبه عليهم، فلقوا به العدو ثم ردوه بعد، فقدم به على أبى بكر، رضى الله عنه. وحدث يزيد بن شريك الفزارى، عن أبيه، قال: قدمت مع أسد وغطفان على أبى بكر وافدا حين فرغ خالد من بزاخة، وجعلت أسد وغطفان تسلل، فاجتمعوا عند أبى بكر، فمنهم من بايع خالدا، ومنهم من لم يبايعه، فجاؤا إلى أبى بكر، فقال أبو بكر: اختاروا بين خصلتين: حرب مجلية أو سلم مخزية، قال خارجة بن حصن: هذه الحرب المجلية قد عرفتها، فلما السلم المخزية؟. قال: تقرون أن قتلانا فى الجنة، وأن قتلاكم فى النار، وأن تردوا علينا ما أخذتم منا، ولا نرد عليكم مما أخذنا منكم شيئا، وأن تدوا قتلانا دية كل قتيل مائة بعير، منها أربعون فى بطونها أولادها، ولا ندى قتلاكم، ونأخذ منكم الحلقة والكراع، وتلحقون بأذناب الإبل حتى يرى الله خليفة نبيه والمؤمنين ما شاء فيكم أو يرى منكم إقبالا إلى ما خرجتم منه. فقال خارجة بن حصن: نعم يا خليفة رسول الله، قال أبو بكر: عليكم

عقد الله وميثاقه أن تقوموا بالقرآن آناء الليل وآناء النهار، وتعلموه أولادكم ونساءكم، ولا تمنعوا فرائض الله فى أموالكم، قالوا: نعم، فقال عمر: يا خليفة رسول الله، كل ما قلت كما قلت إلا أن يدوا من قتلوا منا، فإنهم قوم قتلوا فى سبيل الله، واستشهدوا. وفى رواية: فتتابع الناس على قول عمر، وقبض أبو بكر رضى الله عنه، كل ما قدر عليه من الحلقة والكراع، فلما توفى، رأى عمر رضى الله عنه، أن الإسلام قد ضرب بجرانه، فدفعه إلى أهله، أو إلى عصبة من مات منهم. ولما فرغ خالد من بزاخة وبنى عامر ومن يليهم، أظهر أن أبا بكر عهد إليه أن يسير إلى أرض بنى تميم وإلى اليمامة، فقال ثابت بن قيس بن شماس، وهو على الأنصار، وخالد على جماعة المسلمين: ما عهد إلينا ذلك، وما نحن بسائرين، وليست بنا قوة، وقد كلّ المسلمون، وعجف كراعهم. فقال خالد: أما أنا فلست بمستكره أحدا منكم، فإن شئتم فسيروا، وإن شئتم فأقيموا، فسار خالد ومن تبعه من المهاجرين وأبناء العرب، عامدا لأرض بنى تميم، واليمامة، وأقامت الأنصار يوما أو يومين، ثم تلاومت فيما بينها، وقالوا: والله ما صنعنا شيئا، والله لئن أصيب القوم ليتولن: أخذلتموهم وأسلمتموهم، وإنها لسبة باق عارها آخر الدهر، ولئن أصابوا خيرا وفتح الله فتحا، إنه لخير منعتموه، فابعثوا إلى خالد يقيم لكم حتى تلحقوه، فبعثوا إليه مسعود بن سنان، ويقال: ثعلبة بن غنمة، فلما جاءه الخبر أقام حتى لحقوه، فاستقبلهم فى كثرة من معه من المسلمين، لما أطلوا على العسكر حتى نزلوا، وساروا جميعا حتى انتهى خالد بهم إلى البطاح من أرض بنى تميم، فلم يجد بها جمعا، ففرق السرايا فى نواحيها، وكان فى سرية منها أبو قتادة الأنصارى. قال: فلقينا رجل، فقلنا: ممن أنت؟ قال: من بنى حنظلة، فقلنا: أين من يمنع الصدقة منا الآن؟ قال: هم بمكان كذا وكذا، فقلت: كم بيننا؟ قال: مائة، فانطلقنا سراعا حتى أتيناهم حين طلعت الشمس، ففزعوا حين رأونا، وأخذوا السلاح، وقالوا: من أنتم؟ قلنا: نحن عباد الله المسلمون، قالوا: ونحن عباد الله المسلمون، وكانوا اثنى عشر رجلا، فيهم مالك بن نويرة، قلنا: فضعوا السلاح واستسلموا، ففعلوا، فأخذناهم، فجئنا بهم خالدا. وذكر من خبرهم ما يأتى بعد إن شاء الله تعالى. وكان مالك بن نويرة قد بعثه النبى صلى الله عليه وسلم، مصدقا إلى قومه بنى حنظلة، وكان سيدهم، فجمع صدقاتهم، فلما بلغته وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، جفل إبل الصدقة، أى ردها من حيث

جاءت، فلذلك سمى الجفول، وجمع قومه، فقال: إن هذا الرجل قد هلك، فإن قام قائم من قريش بعد نجتمع عليه جميعا، إن رضى منكم أن تدخلوا فى أمره، ولم يطلب ما مضى من هذه الصدقة أبدا، ولم تكونوا أعطيتم الناس أموالكم، فأنتم أولى بها وأحق، فتسارع إليه جمهور قومه وفرحوا بذلك، فقام ابن قعنب، وكان سيد بنى يربوع، فقال: يا بنى تميم، بئس ما ظننتم، أن ترجعوا فى صدقاتكم ولا يرجع الله فى نعمه عليكم، وأن تجردوا للبلاء ويلبسكم الله العافية، وأن تستشعروا خوف الكفر، وأن تسكنوا فى أمن الإسلام، إنكم أعطيتم قليلا من كثير، والله مذهب الكثير بالقليل ومسلط على أموالكم غدا من لا يأخذها على الرضى ولا يخيركم فى الصدقة، وإن منعتموها قتلتم، فأطيعوا الله واعصوا مالكا. فقام مالك، فقال: يا معشر بنى تميم، إنما رددت عليكم أموالكم إكراما لكم، وبقيا عليكم، وإنه لا يزال يقوم قائم منكم يخطئنى فى ردها عليكم ويخطئكم فى أخذها، فما أغنانى عما يضرنى ولا ينفعكم، فو الله ما أنا بأحرصكم على المال، ولا بأجزعكم من الموت، ولا بأخفاكم شخصا إن أقمت، ولا بأخفكم رحلة إن هربت، فترضاه عند ذلك بنو حنظلة، وأسندوا إليه أمرهم، وقالوا: حربنا حربك وسلمنا سلمك، فأخذوا أموالهم، وأبى الله إلا أن يتم أمره فيهم، وقال فى ذلك مالك: وقال رجال سدد اليوم مالك ... وقال رجال مالك لم يسدد فقلت دعونى لا أبا لأبيكم ... فلم أخط رأيا فى المعاد ولا البد وقلت خذوا أموالكم غير خائف ... ولا ناظر فيما يجىء به غد فدونكموها إنها صدقاتكم ... مصررة أخلافها لم تحرد سأجعل نفسى دون ما تحذرونه ... وأرهنكم يوما بما قلته يدى فإن قام بالأمر المخوف قائم ... أطعنا وقلنا الدين دين محمد ولما بلغ ذلك أبا بكر والمسلمين حنقوا على مالك، وعاهد الله خالد بن الوليد لئن أخذه ليقتلنه، ثم ليجعلن هامته أثفية للقدر، فلما أتى به أسيرا فى نفر من قومه، أخذوا معه كما تقدم. اختلف فيه الذين أخذوهم، فقال بعضهم: قد والله أسلموا، فما لنا عليهم من سبيل وفيمن شهد بذلك أبو قتادة الأنصارى، وكان معهم فى تلك السرية، وقالوا: إنا قد أذنا فأذنوا، ثم أقمنا فأقاموا، ثم صلينا فصلوا.

وكان من عهد أبى بكر إلى خالد أن: أيما دار غشيتموها فسمعتم الأذان فيها بالصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ماذا نقموا وماذا يبغون، وأيما دار غشيتموها فلم تسمعوا فيها الأذان، فشنوا عليها الغارة، فاقتلوا وحرقوا. وشهد بعض من كان فى تلك السرية أنهم لم يسلموا، وأنهم لم يسمعوهم كبروا ولا أذنوا، وأن قتلهم وسبيهم حلال، وكان ذلك رأى خالد فيهم. قال أبو قتادة: فجئته فقلت: أقاتل أنت هؤلاء القوم؟ قال: نعم، قلت: والله ما يحل لك قتلهم، ولقد اتقونا بالإسلام، فما عليهم من سبيل، ولا أتابعك على قتلهم، فأمر بهم خالد فقتلوا. قال أبو قتادة: فتسرعت حتى قدمت على أبى بكر، فأخبرته الخبر، وعظمت عليه الشأن، فاشتد فى ذلك عمر، وقال: ارجم خالدا، فإنه قد استحل ذلك، فقال أبو بكر: والله لا أفعل، إن كان خالد تأول أمرا فأخطأه. وذكر يعقوب بن محمد الزهرى والواقدى فى مقتل مالك بن نويرة روايات غير ما تقدم، أستغنى عن إيرادها بما ذكر هنا. وفى بعض ذلك أن خالدا أمر برأسه فجعل أثفية لقدر حسب ما تقدم من نذره ذلك، وكان من أكثر الناس شعرا، فكانت القدر على رأسه، فراحوا وإن شعره ليدخن وما خلصت النار إلى شواة رأسه. وعاتب أبو بكر خالدا لما قدم عليه فى قتل مالك بن نويرة مع ما شهد له به أبو قتادة وغيره، فاعتذر إليه خالد، وزعم أنه سمع منه كلاما استحل به قتله، فعذره أبو بكر وقبل منه. ورثا متمم بن نويرة «1» أخاه مالكا بقصائد كثيرة منها قصيدته المشهورة المتخيرة فى مراثى العرب التى يقول فيها «2» : وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا فلما تفرقنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله، قال لمتمم بن نويرة: لوددت أنى رثيت أخى زيدا بمثل ما رثيت به مالكا أخاك، وكان زيد أصيب يوم اليمامة، فقال له متمم: يا أبا

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2541) ، الإصابة الترجمة رقم (7733) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4666) . (2) انظر الأبيات فى ديوانه ص (11) .

حفص، والله لو علمت أن أخى صار حيث صار أخوك ما رثيته، فقال عمر: ما عزانى أحد عن أخى بمثل تعزيته. قصة مسيلمة الكذاب وردة أهل اليمامة «1» عن رافع بن خديج قال: قدمت على النبى صلى الله عليه وسلم، وفود العرب، فلم يقدم علينا وفد أقسى قلوبا ولا أحرى أن يكون الإسلام لم يقر فى قلوبهم من بنى حنيفة. وقد تقدم ذكر قدوم مسيلمة فى قومه، وأنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أما أنه ليس بشركم مكانا، لما كانوا أخبروه به من أنهم تركوه فى رحالهم حافظا لها» «2» . ويروى من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر له مسيلمة، قال عندما قدم فى قومه: لو جعل لى محمد الخلافة من بعده لاتبعته، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، معه ثابت بن قيس بن شماس، وفى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ميتخة من نخل فوقف عليه، ثم قال: «لئن أقبلت ليفعلن الله بك، ولئن أدبرت ليقطعن الله دابرك، وما أراك إلا الذى رأيت فيه ما رأيت، ولئن سألتنى هذه الشظية، لشظية من الميتخة التى فى يده، ما أعطيتكها، وهذا ثابت يجيبك» . قال ابن عباس: فسألت أبا هريرة عن قول النبى صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا الذى رأيت فيه ما رأيت، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «بينا أنا نائم، رأيت فى يدى سوارين من ذهب، فنفختهما فطارا، فوقع أحدهما باليمامة، والآخر باليمن، قيل: ما أولتهما يا رسول الله؟ قال: أولتهما كذابين يخرجان من بعدى» «3» . ولما انصرف فى قومه إلى اليمامة، ارتد عدو الله، وادعى الشركة فى النبوة مع النبى صلى الله عليه وسلم، وقال للوفد الذين كانوا معه: «ألم يقل لكم حين ذكرتمونى له: أما أنه ليس بشركم مكانا، ما ذاك إلا لما علم أنى أشركت فى الأمر معه» ، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد، فإنى قد أشركت فى الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون.

_ (1) راجع: المنتظم (4/ 79- 83) ، تاريخ الطبرى (3/ 280- 281) . (2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 691) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 317) . (3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 217، 9/ 52) ، مسند الإمام أحمد (1/ 263) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 50) ، فتح البارى لابن حجر (12/ 420) .

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذا الكتاب رسولان لمسيلمة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرآ كتابه: «فما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما قال، فقال: «أما والله لولا أن الرسل ما تقتل لضربت أعناقكما» ، ثم كتب إلى مسيلمة: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين «1» » . قال ابن إسحاق: وكان ذلك فى آخر سنة عشر، وذكر غيره أن ذلك كان بعد انصراف النبى صلى الله عليه وسلم، من حجة الوداع، ووقوعه فى المرض الذى توفاه الله فيه، فالله تعالى أعلم. وجد بعدو الله ضلاله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصفقت معه حنيفة على ذلك، إلا أفدادا من ذوى عقولهم، ومن أراد الله به الخير منهم، وكان من أعظم ما فتن به قومه شهادة الرجال بن عنفوة له بإشراك النبى صلى الله عليه وسلم، إياه فى الأمر، وكان من قصة الرجال أنه قدم مع قومه وافدا على النبى صلى الله عليه وسلم، فقرأ القرآن وتعلم السنن. قال ابن عمر: وكان من أفضل الوفد عندنا، قرأ البقرة وآل عمران، وكان يأتى أبيا يقرئه فقدم اليمامة، وشهد لمسيلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه أشركه فى الأمر من بعده، فكان أعظم أهل اليمامة فتنة من غيره، لما كان يعرف به. وقال رافع بن خديج: كان بالرجال من الخشوع ولزوم قراءة القرآن والخير فيما نرى شىء عجيب، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوما وهو معنا جالس مع نفر، فقال: «أحد هؤلاء النفر فى النار» «2» . قال رافع: فنظرت فى اليوم، فإذا بأبى هريرة وأبى أروى الدوسى وطفيل بن عمرو الدوسى، والرجال بن عنفوة، فجعلت أنظر وأعجب، وأقول: من هذا الشقى؟ فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجعت بنو حنيفة، فسألت: ما فعل الرجال؟ قالوا: افتتن، هو الذى شهد لمسيلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه أشركه فى الأمر من بعده، فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. قالوا: وسمع الرجال يقول: كبشان انتطحا، فأحبهما إلينا كبشنا. وكان ابن عمير اليشكرى من سراة أهل اليمامة وأشرافهم، وكان مسلما يكتم إسلامه، وكان صديقا

_ (1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (6/ 384) ، مسند أبى حنيفة (180) . (2) انظر الحديث فى: معجم الطبرانى الكبير (4/ 338) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 181) ، مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 290) .

للرجال، فقال شعرا فشا فى اليمامة حتى كانت المرأة والوليدة والصبى ينشدونه، فقال: يا سعاد الفؤاد بنت أثال ... طال ليلى بفتنة الرجال إنها يا سعاد من حديث الده ... ر عليكم كفتنة الرجال فتن القوم بالشهادة والل ... هـ عزيز ذو قوة ومحال لا يساوى الذى يقول من الأم ... ر قبالا وما احتذى من قبال إن دينى دين النبى وفى القو ... م رجال على الهدى أمثالى أهلك القوم محكم بن طفيل ... ورجال ليسوا لنا برجال بزهم أمرهم مسيلمة اليو ... م فلن يرجعوه أخرى الليالى قلت للنفس إذ تعاظمها الصب ... ر وساءت مقالة الأقوال ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال إن تكن ميتتى على فطرة الل ... هـ حنيفا فإننى لا أبالى فبلغ ذلك مسيلمة، ومحكما، وأشراف أهل اليمامة، فطلبوه، ففاتهم، ولحق بخالد بن الوليد، فأخبره بحال أهل اليمامة، ودله على عوراتهم، وقالوا: إن رجلا من بنى حنيفة كان أسلم، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحسن إسلامه، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى مسيلمة ليقدم به عليه، وقال الحنفى: إن أجاب أحدا من الناس أجابنى، وعسى أن يجيبه الله، فخرج حتى أتاه، فقال: إن محمدا قد أحب أن تقدم عليه، فإنك لو جئته لم يفارقك إلا عن رضى، ورفق له، وجعل يأتيه خاليا، فيلقى هذا القول إليه، فلما أكثر عليه قال: انظر فى ذلك، فشاور الرجال بن عنفوة وأصحابه، فقالوا: لا تفعل، إن قدمت عليه قتلك، ألم تسمع كلامه وما قال. فأبى مسيلمة أن يقدم معه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث معه رجلين ممن يصدق به ليكلماه ويخبراه بما قال الحنفى، فخرج الرسولان حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع رسوله، فتشهد أحدهما برسول الله وحده، ثم كلمه بما بدا له، فلما قضى كلامه تشهد الآخر، فذكر رسول الله وذكر مسيلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت، خذوا هذا فاقتلوه» ، فثار المسلمون إليه يلببونه، وأخذ صاحبه بحجزه وجعل يقول: يا رسول الله، اعف عنه، بأبى أنت وأمى، فيجاذبه إياه المسلمون، فلما أرسلوه تشهد بذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم وحده، وأسلم هو وصاحبه، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجا فقدما على أهليهما باليمامة، وقد فتن الذى أمسك بحجزة صاحبه ذلك، فقتل مع مسيلمة، وثبت المسمك بحجزته، وكان بعد يخبر خالد بن الوليد بعورة بنى حنيفة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسوله

إلى مسيلمة كيف رفق به حتى أراد أن يقدم لولا أن الرجال نهاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقتله الله، ويقتل الرجال معه، ففعل الله ذلك بهما، وأنجز وعده فيهما. واستضاف مسيلمة إلى ضلاله فى دين الله وتكذبه على الله ضلالة سجاح، وكانت امرأة من بنى تميم، أجمع قومها أنها نبية، فادعت الوحى، واتخذت مؤذنا وحاجبا ومنبرا، فكانت العشيرة إذا اجتمعت تقول: الملك فى أقربنا من سجاح، وفيها يقول عطارد بن حاجب بن زرارة: أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا ثم إن سجاح رحلت تريد حرب مسيلمة، وأخرجت معها من قومها من تابعها على قولها وهم يرون أن سجاح أولى بالنبوة من مسيلمة، فلما قدمت عليه خلا بها، وقال لها: تعالى نتدارس النبوة، أينا أحق؟ فقالت سجاح: قد أنصفت، وفى الخبر بعد هذا من قوله ما يحق الإعراض عن ذكره. وقد قيل إن سجاح إنما توجهت إلى مسيلمة مستجيرة به لما وطئ خالد العرب ورأت أنه لا أحد أعز لها منه، وقد كانت أمرت مؤذنها شبت بن ربعى أن يؤذن بنبوة مسيلمة، فكان يفعل، فلما قدمت على مسيلمة قالت: اخترتك على من سواك ونوهت باسمك، حتى إن مؤذنى ليؤذن بنبوتك، فخلا بها ليتدارسا النبوة. ولما قتل مسيلمة، أخذ خالد بن الوليد سجاح، فأسلمت ورجعت إلى ما كانت عليه، ولحقت بقومها. وعظمت فتنة بنى حنيفة بكذابهم هذا حتى كان يدعو لمريضهم ويبرك على مولودهم، ولا ينهاهم عن اغترارهم به ما يشاهدون من قلة غنائه عنهم. جاءه قوم بمولود، فمسح رأسه فقرع وقرع كل مولود له، وجاءه آخر، فقال: يا أبا ثمامة، إنى ذو مال، وليس لى مولود يبلغ سنتين حتى يموت غير هذا المولود، وهو ابن عشر سنين، ولى مولود ولد أمس، فأحب أن تبارك فيه وتدعو أن يطيل الله عمره، فقال: سأطلب لك الذى طلبت، فجعل عمر المولود أربعين سنة، فرجع الرجل إلى منزله مسرورا، فوجد الأكبر قد تردى فى بئر، ووجد الصغير ينزع فى الموت، فلم يمس من ذلك اليوم حتى ماتا جميعا، تقول أمهما: فلا والله ما لأبى ثمامة عند إلهه مثل منزلة محمد صلى الله عليه وسلم. قالوا: وحفرت بنو حنيفة بئرا، فأعذبوها نتاحا، فجاؤا إلى مسيلمة، فطلبوا إليه أن يأتيها، وأن يبارك فيها، فأتاها، فبصق فيها، فعادت أجاجا.

وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه، قد عاهد خالدا إذا فرغ من أسد وغطفان والضاحية أن يقصد اليمامة، وأكد عليه فى ذلك، فلما أظفر الله خالدا بأولئك تسلل بعضهم إلى المدينة يسألون أبا بكر أن يبايعهم على الإسلام ويؤمنهم، فقال لهم: بيعتى إياكم وأمانى لكم أن تلحقوا بخالد بن الوليد ومن معه من المسلمين، فمن كتب إلى خالد بأنه حضر معه اليمامة فهو آمن، فليبلغ شاهدكم غائبكم، ولا تقدموا على، اجعلوا وجوهكم إلى خالد. قال أبو بكر بن أبى الجهم: أولئك الذين لحقوا خالد بن الوليد من الضاحية الذين كانوا انهزموا بالمسلمين يوم اليمامة ثلاث مرات، وكانوا على المسلمين بلاء. وقال شريك الفزارى: كنت ممن حضر بزاخة مع عيينة بن حصن، فرزق الله الإنابة، فجئت أبا بكر، فأمرنى بالمسير إلى خالد، وكتب معى إليه: أما بعد، فقد جاءنى كتابك مع رسولك تذكر ما أظفرك الله بأهل بزاخة، وما فعلت بأسد وغطفان، وإنك سائر إلى اليمامة، وذلك عهدى إليك، فاتق الله وحده لا شريك له، وعليك بالرفق بمن معك من المسلمين، كن لهم كالوالد، وإياك يا خالد بن الوليد ونخوة بنى المغيرة، فإنى قد عصيت فيك من لم أعصه فى شىء قط، فانظر بنى حنيفة إذا لقيتهم إن شاء الله، فإنك لم تلق قوما يشبهون بنى حنيفة كلهم عليك، ولهم بلاد واسعة، فإذا قدمت فباشر الأمر بنفسك، واجعل على ميمنتك رجلا وعلى ميسرتك رجلا، واجعل على خيلك رجلا، واستشر من معك من الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار، واعرف لهم فضلهم، فإذا لقيت القوم وهم على صفوفهم، فالقهم إن شاء الله وقد أعددت للأمور أقرانها، فالسهم للسهم، والرمح للرمح، والسيف للسيف، فإذا صرت إلى السيف فهو الثكل، فإن أظفرك الله بهم فإياك والإبقاء عليهم، اجهز على جريحهم، واطلب مدبرهم، واحمل أسيرهم على السيف، وهول فيهم القتل، واحرقهم بالنار، وإياك أن تخالف أمرى، والسلام عليك. فلما انتهى الكتاب إلى خالد اقترأه، وقال: سمع وطاعة. ولما اتصل بأهل اليمامة مسير خالد إليهم بعد الذى صنع الله له فى أمثالهم حيرهم ذلك وجزع له محكم بن الطفيل سيدهم، وهم أن يرجع إلى الإسلام، فبات يتلوى على فراشه، وهو يقول: أرى الركبان تخبر ما كرهنا ... أكل الركب يكذب ما يقول

ألا لا ليس كلهم كذوبا ... وقد كذبوا وكذبهم قليل وقد صدقوا لهم منا ومنهم ... لنا إن حاربوا يوم طويل فقل لابن الوليد وللمنايا ... على السراء والضراء دليل أيقطع بيننا حبلا وصال ... فليس إليهما أبدا سبيل وما فى الحرب أعظم من جريح ... وعان خر بينهما قتيل فلما سمع القوم كلامه، عرفوا أنه ثابت على ضلالته معهم، وفرح بذلك منه مسيلمة، وكان محكم سيد أهل اليمامة، وكان صديقا لزياد بن لبيد بن بياضة من الأنصار، فقال له خالد فى بعض الطريق: لو ألقيت إلى محكم شيئا تكسره به، فإنه سيد أهل اليمامة، وطاعة القوم له، فبعث إليه مع راكب، ويقال: بل بعث بها إليه حسان بن ثابت من المدينة: يا محكم بن طفيل قد أتيح لكم ... لله در أبيكم حية الوادى يا محكم بن طفيل إنكم نفر ... كالشاء أسلمها الراعى لآساد ما فى مسيلمة الكذاب من عوض ... من دار قوم وإخوان وأولاد فاكفف حنيفة عنه قبل نائحة ... تنعى فوارس شاخ شجوها بادى لا تأمنوا خالدا بالبرد معتجرا ... تحت العجاجة مثل الأغضف العاد ويل اليمامة ويلا لا فراق له ... إن جالت الخيل فيها بالقنا الصاد والله لا تنثنى عنكم أعنتها ... حتى تكونوا كأهل الحجر أو عاد ووردت على محكم، وقيل له: هذا خالد بن الوليد فى المسلمين، فقال: رضى خالد أمرا ورضينا غيره، وما ينكر خالد أن يكون فى بنى حنيفة من قد أشرك فى الأمر، فسيرى خالد إن قدم علينا يلق قوما ليسوا كمن لقى، ثم خطب أهل اليمامة فقال: يا معشر أهل اليمامة إنكم تلقون قوما يبذلون أنفسهم دون صاحبهم، فابذلوا أنفسكم دون صاحبكم، فإن أسدا وغطفان إنما أشار إليهم خالد بذباب السيف، فكانوا كالنعام الشارد، وقد أظهر خالد بن الوليد بأوا حيث أوقع ببزاخة ما أوقع، وقال: هل حنيفة إلا كمن لقينا. وكان عمير بن ضابئ اليشكرى فى أصحاب خالد، وكان من سادات اليمامة، ولم يكن من أهل حجر، كان من أهل ملمم، وهى لبنى يشكر، فقال له خالد: تقدم إلى قومك، فاكسرهم، فأتاهم، ولم يكونوا علموا بإسلامه، وكان مجتهدا فارسا سيدا، فقال: يا معشر أهل اليمامة، أظلكم خالد فى المهاجرين والأنصار، تركت القوم يتتابعون

إلى فتح اليمامة، قد قضوا وطرا من أسد وغطفان وعليا وهوازن، وأنتم فى أكفهم، وقولهم: لا قوة إلا بالله، إنى رأيت أقواما إن غلبتموهم بالصبر غلبوكم بالنصر، وإن غلبتموهم على الحياة غلبوكم على الموت، وإن غلبتموهم بالعدد غلبوكم بالمدد، لستم والقوم سواء، الإسلام مقبل، والشرك مدبر، وصاحبهم نبى، وصاحبكم كذاب، ومعهم السرور، ومعكم الغرور، فالآن والسيف فى غمده والنبل فى جفيره قبل أن يسل السيف ويرمى بالسهم سرت إليكم مع القوم عشرا. فكذبوه واتهموه، فرجع عنهم، وقام ثمامة بن أثال الحنفى «1» فى بنى حنيفة، فقال: اسمعوا منى وأطيعوا أمرى ترشدوا، إنه لا يجتمع نبيان بأمر واحد، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم، لا نبى بعده، ولا نبى مرسل معه، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر: 1، 3] . هذا كلام الله عز وجل، أين هذا من: يا ضفدع نقى كم تنقين، لا الشرب تمنعين، ولا الماء تكدرين، والله إنكم لترون أن هذا الكلام ما يخرج من إل، وقد استحق محمد صلى الله عليه وسلم، أمرا أذكره به، مر بى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا على دين قومى، فأردت قتله، فحال بينى وبينه عمير، وكان موفقا، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، دمى، ثم خرجت معتمرا، فبينا أنا أسير قد أظللت على المدينة أخذتنى رسله فى غير عهد ولا ذمة، فعفا عن دمى وأسلمت، فأذن لى فى الخروج إلى بيت الله، وقلت: يا رسول الله، إن بنى قشير قتلوا أثالا فى الجاهلية، فأذن لى أغزهم، فغزوتهم، وبعثت إليه بالخمس، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بهذا الأمر من بعده رجل هو أفقههم فى أنفسهم، لا تأخذه فى الله لومة لائم، ثم بعث إليكم رجلا لا يسمى باسمه ولا اسم أبيه، يقال له: سيف الله، معه سيوف لله كثيرة، فانظروا فى أمركم «2» ، فآذاه القوم جميعا، أو من آذاه منهم، فقال ثمامة: مسيلمة ارجع ولا تمحك ... فإنك فى الأمر لم تشرك كذبت على الله فى وحيه ... فكان هواك هوى الأنوك ومناك قومك أن يمنعوك ... وإن يأتهم خالد تترك فما لك من مصعد فى السماء ... ولا لك فى الأرض من مسلك

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (282) ، الإصابة الترجمة رقم (963) ، الوافى بالوفيات (11/ 219) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 69) . (2) راجع ما ذكره ابن عبد البر فى الاستيعاب فى قصة ثمامة الترجمة رقم (282) .

ذكر تقديم خالد بن الوليد الطلائع أمامه من البطاح «1» قالوا: ولما سار خالد بن الوليد من البطاح، ووقع فى أرض بنى تميم، قدم أمامه مائتى فارس عليهم معن بن عدى العجلانى، وبعث معه فرات بن حيان العجلى دليلا، وقدم عينين له أمامه، مكنف بن زيد الخيل الطائى، وأخاه. وذكر الواقدى: أن خالدا لما نزل العارض، قدم مائتى فارس، وقال: من أصبتم من الناس فخذوه، فانطلقوا حتى أخذوا مجاعة بن مرارة الحنفى فى ثلاثة وعشرين رجلا من قومه قد خرجوا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فيهم دما، فخرجوا وهم لا يشعرون بمقبل خالد، فسألوهم: ممن أنتم؟ قالوا: من بنى حنيفة، فظن المسلمون أنهم رسل من مسيلمة إلى خالد، فلما أصبحوا وتلاحق الناس، جاؤا بهم إلى خالد، فلما رآهم ظن أيضا، أنهم رسل من مسيلمة، فقال: ما تقولون يا بنى حنيفة فى صاحبكم؟ فشهدوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لمجاعة: ما تقول أنت؟ فقال: والله ما خرجت إلا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فينا دما، وما كنت أقرب مسيلمة، ولقد قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت، وما غيرت ولا بدلت، فقدم القوم، فضرب أعناقهم على دم واحد، حتى إذا بقى سارية بن مسيلمة بن عامر قال: يا خالد، إن كنت تريد بأهل اليمامة خيرا أو شرا فاستبق هذا، يعنى مجاعة «2» ، فإنه لك عون على حربك وسلمك. وكان مجاعة شريفا، فلم يقتله، وأعجب بسارية وكلامه، فتركه أيضا، وأمر بهما فأوثقا فى جوامع حديد، وكان يدعو مجاعة وهو كذلك فيتحدث معه، ومجاعة يظن أن خالدا يقتله، فبينما هما يتحدثان، قال له: يا ابن المغيرة، إن لى إسلاما، والله ما كفرت، ولقد قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت من عنده مسلما، وما خرجت لقتال، وأعاد ذكر خروجه فى طلب النميرى، فقال خالد: إن بين القتل والترك منزلة، وهى الحبس حتى يقضى الله فى حربنا ما هو قاض، ودفعه إلى أم متمم امرأته التى تزوجها لما قتل زوجها مالك بن نويرة وأمرها أن تحسن إساره، فظن مجاعة أن خالدا يريد حبسه لأن يشير عليه ويخبره عن عدوه، فقال: يا خالد، إنه من خاف يومك خاف غدك، ومن

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 78- 79) ، تاريخ الطبرى (3/ 276) ، الأغانى (15/ 229- 302) . (2) هو: مجاعة بن مرارة اليمامى. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2545) ، الإصابة الترجمة رقم (7738) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4971) ، تهذيب الكمال (3/ 1304) ، تقريب التهذيب (2/ 229) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 51) .

رجاك رجاهما، ولقد خفتك ورجوتك، ولقد علمت أنى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايعته على الإسلام، ثم رجعت إلى قومى، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يكن كذاب خرج فينا، فإن الله يقول: لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر: 18] . وقد عجلت فى قتل أصحابى قبل التأنى بهم، والخطأ مع العجلة، فقال خالد: يا مجاعة، تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب، وسكوتك عنه وأنت أعز أهل اليمامة، وقد بلغك مسيرى، إقرارا له، ورضى بما جاء به، فهلا أبليت عذرا، فتكلمت فيمن تكلم، فقد تكلم ثمامة بن أثال فرد وأنكر، وقد تكلم اليشكرى، فإن قلت أخاف قومى، فهلا عمدت إلىّ تريد لقائى، أو كتبت إلىّ كتابا أو بعثت إلىّ رسولا، وأنت تعلم أنى قد أوقعت بأهل بزاخة، وزحفت بالجيوش إليك. فقال مجاعة: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله فعلت. فقال خالد: قد عفوت عن دمك، ولكن فى نفسى من تركك حوجا بعد، فقال مجاعة: أما إذا عفوت عن دمى فلا أبالى. وكان خالد كلما نزل منزلا واستقر به دعا مجاعة فأكل معه وحدثه، فقال له ذات يوم: أخبرنى عن صاحبك يعنى مسيلمة، ما الذى يقرأ عليكم؟ هل تحفظ منه شيئا؟ قال: نعم، فذكر له شيئا من رجزه، قال خالد وضرب بإحدى يديه على الأخرى: يا معشر المسلمين، اسمعوا إلى عدو الله كيف يعارض القرآن، ثم قال: ويحك يا مجاعة، أراك رجلا سيدا عاقلا، اسمع إلى كتاب الله عز وجل، ثم انظر كيف عارضه عدو الله، فقرأ عليه خالد: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، فقال مجاعة: أما إن رجلا من أهل البحرين كان يكتب، أدناه مسيلمة وقربه حتى لم يكن يعد له فى القرب عنده أحد، فكان يخرج إلينا فيقول: يا أهل اليمامة، صاحبكم والله كذاب، وما أظنكم تتهموننى عليه، إنكم لترون منزلتى عنده، وحالى، هو والله يكذبكم ويأتيكم بالباطل. قال خالد: فما فعل ذلك البحرانى؟ قال: هرب منه، كان لا يزال يقول هذا القول حتى بلغه، فخافه على نفسه، فهرب، فلحق بالبحرين، قال خالد: فما كان فى هذا ناه ولا زاجر، ثم قال: هات زدنا من كذب الخبيث، فقال مجاعة: أخرج لكم حنطة وزؤانا، ورطبا وتمرانا، فى رجز له، فقال خالد: وهذا كان عندكم حقا؟ وكنتم تصدقونه؟ قال مجاعة: لو لم يكن عندنا حقا لما لقيتك غدا أكثر من عشرة آلاف سيف يضاربونك فيه حتى يموت الأعجل، قال خالد: إذا يكفيناهم الله ويعز دينه، فإياه تقاتلون ودينه تريدون.

وفى كتاب الأموى: ثم مضى خالد حتى نزل منزله من اليمامة، ببعض أوديتها، وخرج الناس مع مسيلمة. وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: لما أشرف خالد بن الوليد وأجمع أن ينزل عقرباء «1» ، دفع الطلائع أمامه، فرجعوا إليه، فخبروه أن مسيلمة ومن معه قد خرجوا فنزلوا عقرباء، فشاور أصحابه أن يمضى إلى اليمامة، أو ينتهى إلى عقرباء، فأجمعوا له أن ينتهى إلى عقرباء، فزحف خالد بالمسلمين حتى نزلوا عقرباء، وضرب عسكره. وقد قيل: إن خالدا هو الذى سبق إلى عقرباء، فضرب عسكره ثم جاء مسيلمة فضرب عسكره «2» . ويقال: توافيا إليها جميعا. قالوا: وكان المسلمون يسألون عن الرجال بن عنفوة، فإذا الرجال على مقدمة مسيلمة، فلعنوه وشتموه، فلما فرغ خالد من ضرب عسكره، وحنيفة تسوى صفوفها، نهض خالد إلى صفوفه فصفها، وقدم رايته مع زيد بن الخطاب، ودفع راية الأنصار إلى ثابت بن قيس بن شماس، فتقدم بها، وجعل على ميمنته أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعلى ميسرته شجاع بن وهب، واستعمل على الخيل البراء بن مالك، ثم عزله واستعمل عليها أسامة بن زيد، وأمر بسرير فوضع فى فسطاطه، واضطجع عليه يتحدث مع مجاعة، ومعه أم متمم وأشراف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتحدث معهم، وأقبلت بنو حنيفة قد سلت السيوف، فلم تزل مسللة وهم يسيرون نهارا طويلا، فقال خالد: يا معشر المسلمين، أبشروا، فقد كفاكم الله عدوكم، ما سلوا السيوف من بعيد إلا ليرهبونا، وإن هذا منهم لجبن وفشل، فقال مجاعة ونظر إليهم: كلا والله يا أبا سليمان، ولكنها الهندوانية، خشوا من تحطمها، وهى غداة باردة، فأبرزوها للشمس لأن تسخن متونها. فلما دنوا من المسلمين نادوا: إنا نعتذر من سلنا سيوفنا حين سللناها، والله ما سللناها ترهيبا لكم ولا جبنا عنكم، ولكنها كانت الهندوانية، وكانت غداة باردة، فخشينا تحطمها، فأردنا أن تسخن متونها إلى أن نلقاكم، فسترون. قال: فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان جميعا صبرا طويلا، حتى كثرت القتلى والجراح فى الفريقين، وكان أول قتيل من المسلمين مالك بن أوس من بنى زعوراء، قتله

_ (1) عقرباء: موضع بناحية اليمامة. انظر: الروض المعطار (419- 420) وذكر فيه هذا الخبر. (2) قال فى الفتوح (1/ 31) : سار خالد بن الوليد بالمسلمين حتى نزل بموضع يقال له: عقرباء من أرض اليمامة، فضرب عسكره هناك، وسار مسيلمة فى جميع بنى حنيفة حتى نزل حذاء خالد.

محكم بن الطفيل، واستلحم من المسلمين حملة القرآن حتى فنوا إلا قليلا، وهزم كلا الفريقين حتى دخل المسلمون عسكر المشركين، والمشركون عسكر المسلمين مرارا، وإذا أجلى المسلمون عن عسكرهم فدخل المشركون أرادوا حمل مجاعة، فلا يستطيعون لما هو فيه من الحديد، ولأنه لا تزال تناوشهم خيل المسلمين، فإذا رجع المسلمون وثبوا على مجاعة ليقتلوه، وقالوا: اقتلوا عدو الله، فإنه رأسهم، وأنهم إن دخلوا عليه أخرجوه، فإذا أشهروا عليه سيوفهم ليقتلوه، حنت عليه أم متمم امرأة خالد وردتهم عنه، وقالت: إنى له جار، حتى أجارته منهم، وكان مجاعة أيضا، قد أجارها من المشركين مرارا أن يقتلوها على هذا الوجه. وقد كان مجاعة قال لها لما دفعه إليها خالد لتحسن إساره: يا أم متمم، هل لك أن أحلفك، إن غلب أصحابى كنت لك جارا، وأنت كذلك؟ فقالت: نعم، فتحالفا على ذلك. وقال عكرمة: حملت حنيفة أول مرة كانت لها الحملة، وخالد على سريره حتى خلص إليه، فجرد سيفه وجعل يسوق حنيفة سوقا، حتى ردهم، وقتل منهم قتلى كثيرة، ثم كرت حنيفة حتى انتهوا إلى فسطاط خالد، فجعلوا يضربون الفسطاط بالسيوف. قال الواقدى: وبلغنا أن رجلا منهم لما دخلوا الفسطاط، أراد قتل أم متمم، ورفع السيف عليها، فاستجارت بمجاعة، فألقى عليها رداءه، وقال: إنى جار لها فنعمت الحرة كانت، وعيرهم وسبهم «1» ، وقال: تركتم الرجال وجئتم إلى امرأة تقتلونها، عليكم بالرجال، فانصرفوا، وجعل ثابت بن قيس يومئذ يقول، وكانت معه راية الأنصار: بئس ما عودتم أنفسكم الفرار يا معشر المسلمين. وقد انكشف المسلمون حتى غلبت حنيفة على الرحال، فجعل زيد بن الخطاب ينادى، وكانت عنده راية خالد: أما الرحال فلا رحال، وأما الرجال فلا رجال، اللهم إنى اعتذر إليك من فرار أصحابى، وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة، ومحكم بن طفيل، وجعل يشتد بالراية، يتقدم بها فى نحر العدو، ثم ضارب بسيفه حتى قتل، رحمه الله، فلما قتل وقعت الراية، فأخذها سالم مولى أبى حذيفة، فقال المسلمون: يا سالم، إنا نخاف أن نؤتى من قبلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا إذا إن أتيتم من قبلى. قالوا: ونادت الأنصار ثابت بن قيس وهو يحمل رايتهم: الزمها، فإنما ملاك القوم الراية.

_ (1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 81) .

فتقدم سالم مولى أبى حذيفة، فحفر لرجليه حتى بلغ أنصاف ساقيه، ومعه راية المهاجرين، وحفر ثابت لنفسه مثل ذلك «1» ، ثم لزما رايتيهما، ولقد كان الناس يتفرقون فى كل وجه، وإن سالما وثابتا لقائمان برايتيهما، حتى قتل سالم وقتل أبو حذيفة مولاه، رحمهما الله تعالى، فوجد رأس أبى حذيفة عند رجلى سالم، ورأس سالم عند رجلى أبى حذيفة، لقرب مصرع كل واحد منهما من صاحبه، فلما قتل سالم، مكثت الراية ساعة لا يرفعها أحد، فأقبل يزيد بن قيس، وكان بدريا، فحملها حتى قتل رحمه الله، ثم حملها الحكم بن سعيد بن العاص، فقاتل دونها نهارا طويلا، ثم قتل رحمه الله. قال وحشى «2» : اقتتلنا قتالا شديدا، فهزموا المسلمين ثلاث مرات، وكر المسلمون فى الرابعة، وتاب الله عليهم، وثبت أقدامهم، وصبروا لوقع السيوف، واختلفت بينهم وبين بنى حنيفة السيوف، حتى رأيت شهب النار تخرج من خلالها، حتى سمعت لها أصواتا كالأجراس، وأنزل الله تعالى، علينا نصره، وهزم الله بنى حنيفة، وقتل الله مسيلمة. قال: ولقد ضربت بسيفى يومئذ حتى غرى قائمه فى كفى من دمائهم. وقال ابن عمر: لقد رأيت عمارا على صخرة قد أشرف، يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون، أنا عمار بن ياسر، هلموا إلىّ، وأنا أنظر إلى أذنه تذبذب وقد قطعت. وقال سعد القرظ: لقد رأيته يومئذ يقاتل قتال عشرة. وقال شريك الفزارى: لما التقينا والقوم، صبر الفريقان صبرا لم أر مثله قط، ما تزول الأقدام فترى، واختلفت السيوف بينهم، وجعل يقبل أهل السوابق والنيات فيتقدمون، فيقتلون، حتى فنوا، وذلقت فينا سيوفهم طويلا، فانهزمنا، فلقد أحصيت لنا ثلاث انهزامات، وما أحصيت لحنيفة إلا انهزامة واحدة، التى ألجأناهم فيها إلى الحديقة، يعنى حديقة الموت.

_ (1) قال ابن عبد البر فى الاستيعاب فى ترجمة ثابت رقم (253) : لما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبى حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة، فثبتا وقاتلا حتى قتلا. (2) هو وحشى بن حرب الحبشى، انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2768) ، الإصابة الترجمة رقم (9129) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5449) ، الثقات (3/ 430) ، الاستبصار (81) ، الإكمال (7/ 90) ، العقد الثمين (7/ 385) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (356) ، تاريخ الثقات (464) ، الأنساب لابن السمعانى (11/ 111، 112) .

وقال رافع بن خديج «1» : شهدنا اليمامة، فكنا تسعين من النبيت، فلاقينا عدوا صبرا لوقع السلاح، وجماعة الناس أربعة آلاف، وحنيفة مثل ذلك أو نحوه، فلما التقينا أذن الله للسيوف فينا وفيهم، فجعلت السيوف تختلى هام الرجال وأكفهم، وجراحا لم أر جراحا قط أبعد غورا منه، فينا وفيهم، إنى لأنظر إلى عباد بن بشر قد ضرب بسيفه حتى انحنى كأنه منجل، فيقيمه على ركبته، فيعرض له رجل من بنى حنيفة، فلما اختلفا ضربات ضربه عباد بن بشر على العاتق مستمكنا، فو الله لرأيت سحره باديا، ومضى عنه عباد، ومررت بالحنفى وبه رمق، فأجهزت عليه، وأنظر بعد إلى عباد وقد اختلف السيوف عليه وهو يبضع بها ويبعج بطنه، فوقع وما أعلم به مصحا، وكانوا حنقوا عليه لأنه أكثر القتل فيهم. قال: وحرضت على قتلته، فناديت أصحابنا من النبيت، فقمنا عليه، وقتلنا قتلته، فرأيتهم حوله مقتلين، فقلت: بعدا لكم. وقال ضمرة بن سعيد المازنى، وذكر ردة بنى حنيفة: لم يلق المسلمون عدوا أشد لهم نكاية منهم، لقوهم بالموت الناقع، وبالسيوف قد أصلتوها قبل النبل، وقبل الرماح، وقد صبر المسلمون لهم، فكان المعول يومئذ على أهل السوابق، ونادى عباد بن بشر يومئذ وهو يضرب بالسيف، قد قطع من الجراح، وما هو إلا كالنمر الجرف، فيلقى رجلا من بنى حنيفة كأنه جمل صئول، فقال: هلم يا أخا الخزرج، أتحسب قتالنا مثل من لاقيت، فيعمد له عباد، ويبدره الحنفى، ويضربه ضربة بالسيف، فانكسر سيفه ولم يصنع شيئا، وضربه عباد فقطع رجليه وجاوزه وتركه ينؤ على ركبتيه، فناداه: يا ابن الأكارم اجهز علىّ، فكر عليه عباد، فضرب عنقه، ثم قام آخر فى ذلك المقام، فاختلفا ضربات وتجاولا، وعباد على ذلك كثير الجراح، فضربه عباد ضربة أبدى سحره، وقال: خذها وأنا ابن وقش، ثم جاوزه يفرى فى بنى حنيفة ضربا فريا، فكان يقال: قتل عباد يومئذ من بنى حنيفة بالسيف أكثر من عشرين رجلا، وأكثر فيهم الجراح. قال ضمرة: فحدثنى رجل من بنى حنيفة قديم قال: إن حنيفة لتذكر عباد بن بشر، فإذا رأت الجراح بالرجل منهم تقول: هذا ضرب مجرب القوم، عباد بن بشر. وفى بعض الروايات عن حديث رافع بن خديج قال: خرجنا من المدينة ونحن أربعة آلاف، وأصحابنا من الأنصار ما بين خمسمائة إلى أربعمائة، وعلى الأنصار ثابت بن

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (728) ، الإصابة الترجمة رقم (2532) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1580) ، تاريخ خليفة (271) ، طبقات خليفة (79) ، شذرات الذهب (1/ 82) ، تاريخ الإسلام (2/ 400) ، تقريب التهذيب (1/ 241) .

قيس، ويحمل رايتنا أبو لبابة، فانتهينا إلى اليمامة، فننتهى إلى قوم هم الذين قال الله تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: 16] . فلما صففنا صفوفنا ووضعنا الرايات مواضعها، لم يلبثوا أن حملوا علينا، فهزمونا مرارا، فنعود إلى مصافنا وفيها خلل، وذلك أن صفوفنا كان مختلطة، فيها حشو كثير من الأعراب فى خلال صفوفنا، فينهزم أولئك الناس فيستخفون أهل البصائر والنيات، حتى كثر ذلك منهم، ثم إن الله بمنه وفضله رزقنا عليهم الظفر، وذلك أن ثابت بن قيس نادى خالد بن الوليد: أخلصنا، فقال: ذلك إليك، فناد فى أصحابك، قال: فأخذ الراية ونادى: يا للأنصار، فتسللت إليه رجلا رجلا، فنادى خالد للمهاجرين، فأحدقوا به، ونادى عدى بن حاتم، ومكنف بن زيد الخيل الطائى بطيئ، فثابت إليهما طيئ، وكانوا أهل بلاء حسن، وعزلت الأعراب عنا ناحية، فقاموا من ورائنا غلوة أو أكثر، وإنما كنا نؤتى من الأعراب. قال رافع: فانتهينا إلى جمعهم فصبروا وصبرنا صبرا لم ير مثله قط، لم تزل الأقدام، فذكرت بيتى قيس بن الحطيم: إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب صدود الخدود والقنا متشاجر ... ولا تبرح الأقدام عند التضارب «1» قال: واجهضهم أهل السوابق والبصائر، فهم فى نحورهم ما يجد أحد مدخلا إلا أن يقتل رجل منهم، أو يخرج فيقع، فيخلف مقامه آخر، حتى أوجعنا فيهم وبان خلل صفوفهم، وضجوا من السيف، ثم اقتحمنا الحديقة، فضاربوا فيها، وعلقنا الحديقة، وأقمنا على بابها رجالا لئلا يهرب منهم أحد، فلما رأوا ذلك عرفوا أنه الموت، فجدوا فى القتال، ودكت السيوف بيننا وبينهم، ما فيها رمى بسهم ولا حجر ولا طعن حتى قتلنا عدو الله مسيلمة، فقيل لرافع: يا أبا عبد الله، أى القتلى كان أكثر، قتلاكم أو قتلاهم؟ قال: قتلاهم أكثر من قتلانا وأخبث، أحسبنا قتلنا منهم ضعف ما قتلوا منا مرتين، فقد قتل من الأنصار يومئذ زيادة على التسعين، وجرح منهم مائتان، ولقد لقينا بنى سليم بالجواء، وأنهم لمجروحون، فأبلوا بلاء حسنا. وكان أبو خيثمة النجارى يقول: لما انكشف المسلمون يوم اليمامة تنحيت ناحية،

_ (1) انظر الأبيات فى: ديوانه ص (41) ، الخزانة للبغدادى (3/ 165) ، الأشباه والنظائر للخالديين (27، 28) .

وكأنى أنظر إلى أبى دجانة «1» يومئذ ما يولى ظهره منهزما، وما هو إلا فى نحور القوم، حتى قتل رحمه الله، وكان يختال فى مشيته عند الحرب سجية، ما يستطيع غير ذلك. قال: وكرت عليه طائفة من بنى حنيفة، فما زال يضرب بالسيف أمامه وعن يمينه وعن شماله، فحمل على رجل فصرعه، وما ينبس بكلمة، حتى انفرجوا عنه ونكصوا على أعقابهم، والمسلمون مولون، وقد ابيض ما بينهم وبينه، فما ترى إلا المهاجرين والأنصار، لا والله ما أرى أحدا يخالطهم، فقاموا ناحية، وتلاحق الناس، فدفعوا حنيفة دفعة واحدة، فانتهينا بهم إلى الحديقة، فأقحمناهم إياها. قال أبو دجانة: ألقونى على الترسة حتى أشغلهم، فكانوا قد أغلقوا الحديقة، فأخذوه فألقوه على الترسة، حتى وقع فى الحديقة، وهو يقول: لا ينجيكم منا الفرار، فضاربهم حتى فتحها، ودخلنا عليه مقتولا رحمه الله. وقد روى أن البراء بن مالك هو المرمى به فى الحديقة، والأول أثبت. وقال ثابت بن قيس، يومئذ: يا معشر الأنصار، الله الله ودينكم، علمنا هؤلاء أمرا ما كنا نحسنه، ثم أقبل على المسلمين، فقال: أف لكم ولم تعملون، ثم قال: خلوا بيننا وبينهم، أخلصونا، فأخلصت الأنصار، فلم يكن لهم ناهية حتى انتهوا إلى محكم بن الطفيل، فقتلوه، ثم انتهوا إلى الحديقة فدخلوها، فقاتلوا أشد القتال، حتى اختلطوا فيها، فما يعرف بعضهم بعضا إلا بالشعار، وشعارهم: أمت أمت، ثم صاح ثابت صيحة يستجلب بها المسلمين: يا أصحاب سورة البقرة، يقول رجل من طيئ: والله ما معى منها آية، وإنما يريد ثابت: يا أهل القرآن. وقال واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ: لما زحف المسلمون، انكشفوا أقبح الانكشاف، حتى ظن ظانهم أن لا تكون لهم فئة فى ذلك اليوم، والناس أوزاع قد هدأ حسهم. وأشرت حنيفة وأظهروا البغى، وأوفى عباد بن بشر على نشز من الأرض، ثم صاح بأعلى صوته: أنا عباد بن بشر، يا للأنصار، يا للأنصار، ألا إلى، ألا إلى، فأقبلوا إليه جميعا، وأجابوه: لبيك لبيك، حتى توافوا عنده، فقال: فداكم أبى وأمى، حطموا جفون السيوف، ثم حطم جفن سيفه، فألقاه، وحطمت الأنصار جفون سيوفهم، ثم قال: حملة صادقة، اتبعونى، فخرج أمامهم حتى ساقوا حنيفة منهزمين، حتى انتهوا بهم

_ (1) اسمه: سماك بن خرشة، انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2968) ، الإصابة الترجمة رقم (9866) ، معجم رجال الحديث (21/ 151) ، تنقيح المقال (3/ 15) .

إلى الحديقة، فأغلق عليهم، فأوفى عباد بن بشر يشرف على الحديقة وهم فيها، فقال للرماة: ارموا، فرموا أهل الحديقة بالنبل حتى ألجئوهم أن اجتمعوا فى ناحية منها لا يطلع النبل عليهم، ثم إن الله فتح الحديقة، فاقتحم عليهم المسلمون، فضاربوهم ساعة، ثم أغلق عباد باب الحديقة لما كلّ أصحابه، وكره أن تفر حنيفة، وجعل يقول: اللهم إنى أبرأ إليك مما جاءت به حنيفة. قال واقد بن عمرو: فحدثنى من رأى عباد بن بشر ألقى درعه على باب الحديقة، ثم دخل بالسيف صلتا يجالدهم حتى قتل، رحمه الله. وقال أبو سعيد الخدرى: سمعت عباد بن بشر يقول حين فرغنا من بزاخة: يا أبا سعيد، رأيت الليلة كأن السماء فرجت، ثم أطبقت علىّ، فهى إن شاء الله الشهادة، قال: قلت: خيرا والله، قال أبو سعيد: فأنظر إليه يوم اليمامة وإنه ليصيح بالأنصار ويقول: أخلصونا، فأخلصوا أربعمائة رجل، لا يخلطهم أحد، يقدمهم البراء بن مالك وأبو دجانة سماك بن خرشة وعباد بن بشر، حتى انتهوا إلى باب الحديقة. قال أبو سعيد: فرأيت بوجه عباد، يعنى بعد قتله، ضربا كثيرا، وما عرفته إلا بعلامة كانت فى جسده. وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه، لما انصرف إليه أسامة بن زيد من بعثه إلى الشام، بعثه فى أربعمائة مددا لخالد بن الوليد، فأدرك خالدا قبل أن يدخل اليمامة بثلاث، فاستعمله خالد على الخيل مكان البراء بن مالك، وأمر البراء أن يقاتل راجلا، فاقتحم عن فرسه، وكان راجلا لا رجلة به، فلما انكشف الناس يوم اليمامة، وانكشف أسامة بأصحاب الخيل، صاح المسلمون: يا خالد، ول البراء بن مالك، فعزل أسامة، ورد الخيل إلى البراء، فقال له: اركب فى الخيل، فقال البراء: وهل لنا من خيل؟ قد عزلتنى وفرقت الناس عنى، فقال له خالد: ليس حين عتاب، اركب أيها الرجل فى خيلك، أما ترى ما لحم من الأمر، فركب البراء فرسه، وإن الخيل لأوزاع فى كل ناحية، وما هى إلا الهزيمة، فجعل يليح بسيفه وينادى: يا صحابة، يا للأنصار، يا للأنصار، يا خيلاه، يا خيلاه، أنا البراء بن مالك، فثابت إليه الخيل من كل ناحية، وثابت إليه الأنصار، فارسها وراجلها. قال أبو سعيد الخدرى: فقال لنا: احملوا عليهم فداكم أبى وأمى، حملة صادقة، تريدون فيها الموت، ثم أظهر التكبير، وكبرنا معه، فما كانت لنا ناهية إلا باب الحديقة،

وقد غلقت دوننا، وازدحمنا عليهم، فلم نزل حتى فتح الله، وظفرنا، فله الحمد. وقال عبد الله بن أبى بكر بن حزم: كان البراء فارسا، وكان إذا حضرته الحرب أخذته رعدة، وانتفض حتى يضبطه الرجال مليا، ثم يفيق فيبول بولا أحمر كأنه نقاعة الحناء، فلما رأى ما يصنع بالناس يومئذ من الهزيمة أخذه ما كان يأخذه، فانتفض وضبطه أصحابه وجعل يقول: طرونى إلى الأرض، فلما أفاق سرى عنه، وهو مثل الأسد، وهو يقول: أسعدنى ربى على الأنصار ... كانوا يدا طرا على الكفار فى كل يوم ساطع الغبار ... فاستبدلوا النجاة بالفرار قال: وضرب بسيفه قدما، حتى أفرجوا له، وخاض غمرتهم، وثابت إليه الأنصار كأنها النحل تأوى إلى يعسوبها، وتلاومت الأنصار فيما صنعت. وحدث عن خالد بن الوليد من سمعه يقول: شهدت عشرين زحفا، فلم أر قوما أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقداما من بنى حنيفة يوم اليمامة، أنّا لما فرغنا من طليحة الكذاب، ولم تكن له شوكة، قلت كلمة والبلاء موكل بالقول: وما حنيفة، ما هى إلا كمن لقينا فلقينا قوما ليسوا يشبهون أحدا، لما انتهينا إلى عسكرهم نظرت إلى قوم قد قدموا أمام عسكرهم بشرا كثيرا، فقلت: هذه مكيدة، وإذا القوم لم يحفلوا بنا، فعسكرنا منهم بمنظر العين، فلما أمسيت حزرت القوم بنفسى، فإذا القوم نحونا، فبتنا فى عسكرنا، وباتوا فى عسكرهم. فلما طلع الفجر قام القوم إلى التعبئة، وثرنا معهم فى غدوة باردة، وصففت صفوفى، وصفوا صفوفهم، ثم أقبلوا إلينا يقطعون قطوا، قد سلوا السيوف، فكبرت، ورأيت ذلك منهم فشلا، فلما دنوا منا نادوا: أن هذا ليس بفشل، ولكنها الهندوانية وخفنا التحطم عليها، فما هو إلا أن واجهونا، حملوا علينا حملة واحدة، وانهزمت الأعراب، ولا ذوا بين أضعاف الصفوف، فانهزم معهم أهل النيات، وأوجعت حنيفة فى أدباركم بالقتل، وتقدمت أضرب بسيفى مرة يشتملون علىّ، ومرة أنفذ منهم، وكر المسلمون كرة ثانية، فحملت بنو حنيفة أيضا، حتى هزموا المسلمين ثلاث مرات. وإنما يهزم بالناس الأعراب. فناديت فى المسلمين، فذكرتهم الله، وناديت فى المهاجرين والأنصار: الله الله، الكرة على عدوكم، فنادى أهل السوابق: أخلصونا، فأخلصوا، لا يخلطهم رجل، فأخلص قوم قد ألح السيف عليهم، وقتل من قتل منهم، ومن بقى من أهل النيات منقطع من الجراح،

ولكنا لم نجد المعول إلا عليهم ولا الصبر إلا عندهم، فصفوا جميعا فى نحر العدو، وجاءت الأعراب من خلفهم، وذهبت حنيفة تطلب أن تهزمهم كما كانت تفعل، فثبتوا على مصافهم لا تزول فترا، واختلفت السيوف بينهم، وصبر الفريقان جميعا، وذهب الأعراب من ورائنا، فحملنا عليهم حملة، فما زادت حنيفة على أن رجعت القهقرى ما تولى الأدبار، حتى وقفوا على باب الحديقة، واختلفت السيوف بيننا وبينهم حتى نظرت إلى شهب النار، وحتى صارت القتلى منا ومنهم ركاما، وقد أغلقت الحديقة، فدخل من رحمه الله فشغلهم عن الباب حتى دخلنا. فإذا أهل السوابق قد وطئوا أنفسهم على الموت، فما هو إلا أن عاينتهم حنيفة فى الحديقة، فناديت أصحابى: عضوا على النواجذ، لا أسمع شيئا إلا وقع الحديد بعضه على بعض، فما كان شىء حتى قتل عدو الله، فما ضرب أحد بعده من بنى حنيفة بسيف، ولقد صبروا لنا من حين طلعت الشمس إلى صلاة العصر، ولقد رأيتنى فى الحديقة وعانقنى رجل منهم وأنا فارس وهو فارس، فوقعنا عن فرسينا، ثم تعانقنا بالأرض، فأجؤه بخنجر فى سيفى، وجعل يجؤنى بمعول فى سيفه، فجرحنى سبع جراحات، وقد جرحته جرحا أثبته، فاسترخى فى يدى، وما بى حركة من الجراح، وقد نزفت من الدم إلا أنه سبقنى بالأجل، فالحمد لله على ذلك. وحدث ضمرة بن سعيد: أنه خلص يومئذ إلى محكم بن طفيل وهو يقول: يا بنى حنيفة قاتلوا قبل أن تستحقب الكرائم غير رضيات، وينكحن غير حظيات، وما كان عندكم من حسب فأخرجوه، فقد لحم الأمر، واحتيج إلى ذلك منكم، وجعل يقول: يا بنى حنيفة ادخلوا الحديقة، سأمنع دابركم، وجعل يرتجز: لبئسما أوردنا مسيلمة ... أورثنا من بعده أغيلمة فدخلوا الحديقة وغلقوها عليهم، ورمى عبد الرحمن بن أبى بكر محكما بسهم فقتله، فقام مكانه المعترض ابن عمه، فقاتل ساعة حتى قتله الله. وفى غير حديث ضمرة أن خالد بن الوليد هو الذى قتل محكما. حدث الحارث بن الفضل، قال: لما رأى محكم بن طفيل من قتل قومه ما رأى، جعل يصيح: ادن يا أبا سليمان، فقد جاءك الموت الناقع، قد جاءك قوم لا يحسنون الفرار، فبلغ خالدا كلمته وهو فى مؤخر الناس، فأقبل يقول: هأنذا أبو سليمان، وكشف المغفر عن وجهه، ثم حمل على ناحية محكم يخوف بنى حنيفة، فاقتحم عليه خالد، فيضربه

ضربة أرعش منها، ثم ثنى له بأخرى وهو يقول: خذها وأنا أبو سليمان، فوقع ميتا، وكان عبد الرحمن بن أبى بكر قد رماه بسهم قبل ذلك، ومنهم من يقول: رماه عبد الرحمن بعد ضربة خالد، ومنهم من يقول: لم يكن من سهم عبد الرحمن شىء. وقاتلت حنيفة بعد قتل محكم بن طفيل أشد القتال، وهم يقولون: لا بقاء بعد محكم، وقال قائل: يا أبا ثمامة، أين ما كنت وعدتنا؟ قال: أما الدين فلا دين، ولكن قاتلوا عن أحسابكم، فاستيقن القوم أنهم كانوا على غير شىء. وقال وحشى: لما اختلط الناس فى الحديقة، وأخذت السيوف بعضها بعضا، نظرت إلى مسيلمة وما أعرفه، ورجل من الأنصار يريده، وأنا من ناحية أخرى أريده، فهززت من حربتى حتى رضيت منها، ثم دفعتها عليه، وضربه الأنصارى، فربك أعلم أينا قتله، إلا أنى سمعت امرأة فوق الدير تقول: قتله العبد الحبشى. وقال أبو الحويرث: ما رأيت أحدا يشك أن عبد الله بن زيد الأنصارى «1» ضرب مسيلمة وزرقه وحشى فقاتلاه جميعا «2» . وذكر عمرو بن يحيى المازنى عن عبد الله بن زيد أنه كان يقول: أنا قتلته. وكان معاوية بن أبى سفيان يقول: أنا قتلته. وكانت أم عبد الله بن زيد، وهى أم عمارة، نسيبة بنت كعب تقول: إن ابنها عبد الله هو الذى قتله. وكانت ممن شهد ذلك اليوم، وقطعت فيه يدها، وذلك أن ابنها حبيب بن زيد كان مع عمرو بن العاص بعمان عندما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك عمرا، أقبل من عمان، فسمع به مسيلمة، فاعترض له، فسبقه عمرو، وكان حبيب ابن زيد وعبد الله بن وهب الأسلمى فى الساقة، فأصابهما مسيلمة، فقال لهما: أتشهدان أنى رسول الله، فقال الأسلمى: نعم، فأمر به فحبس فى حديد، وقال لحبيب: أتشهد أنى رسول الله، فقال: لا أسمع، فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله، قال: نعم،

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1558) ، الإصابة الترجمة رقم (4706) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2958) ، الوافى بالوفيات (17/ 47) ، تهذيب التهذيب (5/ 223) ، تقريب التهذيب (1/ 417) ، سير أعلام النبلاء (2/ 377) . (2) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 82) : أنه اشترك فى قتل مسيلمة رجلان: رجل من الأنصار، ووحشى مولى جبير بن مطعم: وقال: وكان وحشى يقول: وقعت فيه حربتى وضربه الأنصارى والله يعلم أينا قتله. وكان يقول: قتلت خير الناس وشر الناس، حمزة ومسيلمة، وكانوا يقولون: قتله العبد الأسود، فأما الأنصار فلا شك عندهم أن أبا دجانة سماك بن خرشة قتله.

فأمر به فقطع. وكلما قال له: أتشهد أنى رسول الله، قال: لا أسمع، فإذا قال له: أتشهد أن محمدا رسول الله، قال: نعم، حتى قطعه عضوا عضوا، حتى قطع يديه من المنكبين ورجليه من الوركين، ثم حرقه بالنار، وهو كل ذلك لا ينزع عن قوله، ولا يرجع عن ما بدأ به، حتى مات فى النار، رحمه الله. فلما تهيأ بعث خالد بن الوليد إلى اليمامة جاءت أم عمارة إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، فاستأذنته فى الخروج، فقال لها أبو بكر: ما مثلك يحال بينه وبين الخروج، قد عرفناك وعرفنا جزاءك فى الحرب، فاخرجى على اسم الله. قالت فيما حدث به عنها ابن ابنها عباد بن تميم بن زيد: فلما انتهوا إلى اليمامة، واقتتلوا، تداعت الأنصار: أخلصونا، فأخلصوا، فلما انتهينا إلى الحديقة ازدحمنا على الباب، وأهل النجدة من عدونا فى الحديقة، قد انحازوا، يكونون فئة لمسيلمة، فاقتحمنا فضاربناهم ساعة، والله يا بنى ما رأيت أبذل لمهج أنفسهم منهم، وجعلت أقصد لعدو الله مسيلمة لأن أراه، وقد عاهدت الله لئن رأيته لا أكذب عنه أو أقتل دونه، وجعلت الرجال تختلط، والسيوف بينهم تختلف، وخرص القوم، فلا صوت إلا وقع السيوف، حتى بصرت بعدو الله فأشد عليه، ويعرض لى منهم رجل، فضرب يدى فقطعها، فو الله ما عرجت عليها حتى أنتهى إلى الخبيث وهو صريع، وأجد ابنى عبد الله قد قتله. وفى رواية: وابنى يمسح سيفه بثيابه، فقلت: أقتلته؟ قال: نعم يا أمه، فسجدت لله شكرا، وقطع الله دابرهم، فلما انقطعت الحرب، ورجعت إلى منزلى، جاءنى خالد بن الوليد بطبيب من العرب، فداوانى بالزيت المغلى، وكان والله أشد علىّ من القطع، وكان خالد كثير التعاهد لى، حسن الصحبة لنا، يعرف لنا حقنا، ويحفظ فينا وصية نبينا صلى الله عليه وسلم، قال عباد: فقلت: يا جدة، كثرت الجراح فى المسلمين؟ فقالت: يا بنى، لقد تحاجز الناس، وقتل عدو الله، وإن المسلمين لجرحى كلهم، لقد رأيت بنى أبى مجرحين، ما بهم حركة، ولقد رأيت بنى مالك بن النجار بضعة عشر رجلا، لهم أنين يكمدون ليلتهم بالنار. ولقد أقام الناس باليمامة خمس عشرة ليلة، وقد وضعت الحرب أوزارها، وما يصلى مع خالد بن الوليد من المهاجرين والأنصار إلا نفر يسير من الجراح، وذلك أنا أتينا من قبل العرب، انهزموا بالمسلمين، إلا أنى أعلم أن طيئا قد أبلت يومئذ بلاء حسنا، لقد رأيت عدى بن حاتم يومئذ يصيح بهم: صبرا، فداكم أبى وأمى لوقع الأسل، وإن ابنى زيد الخيل يومئذ ليقاتلان قتالا شديدا.

وعن محمد بن يحيى بن حبارة، قال: جرحت أم عمارة يعنى يوم اليمامة، أحد عشر جرحا بين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، وقطعت يدها سوى ذلك، فرئى أبو بكر يأتيها يسأل عنها، وهو يومئذ خليفة. وقاتل كعب بن عجرة «1» يومئذ، وانهزم الناس الهزيمة الآخرة، وجاوزوا الرحال منهزمين، فجعل يصيح: يا للأنصار، يا للأنصار الله ورسوله، حتى انتهى إلى محكم بن الطفيل، فضربه محكم، فقطع شماله، فو الله ما عرج عليها كعب، وأنه ليضرب بيمينه، وإن شماله لتهراق الدماء، حتى انتهى إلى الحديقة، فدخل. وأقبل حاجب بن زيد بن تميم الأشهلى «2» يصيح بالأوس: يا للأشهل، فقال له ثابت ابن هذال: ناد يا للأنصار، فإنه جماع لنا ولك، فنادى: يا للأنصار، يا للأنصار، حتى اشتملت عليه حنيفة، فانفرجت، وتحته منهم اثنان قد قتلهما، وقتل رحمه الله، فخلفه فى مقامه عمير بن أوس، فاشتملوا عليه حتى قتل، رحمه الله. وكان أبو عقيل الأزرقى، حليف الأنصار، بدرى من أول من خرج يوم اليمامة، رمى بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده، فشطب فى غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن شقه الأيسر، وكانت فيه، وهذا أول النهار وجرروه إلى الرحل، فلما حمى القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم، وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدى يصيح: يا للأنصار، الله الله والكرة على عدوكم، وأعنق معن بن عدى يقدم القوم، وذلك حين صاحت الأنصار: أخلصونا، فأخلصوا رجلا رجلا، يتميزون. قال أبو عمرو: ونهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد يا أبا عقيل؟ ما فيك قتال، قال: قد نوه المنادى باسمى، فقلت: إنما يقول: يا للأنصار، لا يعنى الجرحى، قال: فأنا رجل من الأنصار، وأنا أجيب ولو جبنوا، قال ابن عمر: فتحزم أبو عقيل، فأخذ السيف بيده اليمنى مجردا، ثم جعل ينادى: يا للأنصار، كرة كيوم حنين، فاجتمعوا جميعا يقدمون المسلمين دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوهم الحديقة، فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم، فنظرت إلى أبى عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب،

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2223) ، الإصابة الترجمة رقم (7434) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4471) ، جمهرة أنساب العرب (442) ، تهذيب الكمال (1146) ، تاريخ الإسلام (2/ 313) ، تهذيب التهذيب (8/ 435) ، شذرات الذهب (1/ 58) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (391) ، الإصابة الترجمة رقم (1365) ، أسد الغابة الترجمة رقم (840) .

فوقعت إلى الأرض، وبه أربعة عشر جرحا، كلها قد خلصت إلى مقتل، وقتل عدو الله مسيلمة. قال ابن عمر: فوقفت على أبى عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل، فقال لبيك بلسان ملتاث، ثم قال: لمن الدبرة، فقلت: أبشر ورفعت صوتى، قد قتل عدو الله، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات، رحمه الله. قال ابن عمر: فأخبرت أبى بعد أن قدمت بخبره كله، فقال: رحمه الله، مازال يسأل الشهادة ويطلبها، وإن كان ما علمت لمن خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، وقديمى إسلامهم. وذكر مجاعة بن مرارة يوما، معن بن عدى، وكان نازلا به ليالى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع خلة كانت بينهما قبل ذلك قديمة، فلما قدم فى وفد اليمامة على أبى بكر، توجه أبو بكر رضى الله عنه، يوما إلى قبور الشهداء زائرا لهم فى نفر من أصحابه يمشون، قال: فخرجت معهم حتى أتوا قبور الشهداء السبعين يرحمهم الله، فقلت: يا خليفة رسول الله، لم أر قوما قط، أصبر لوقع السيوف، ولا أصدق كرة منهم، لقد رأيت رجلا منهم يرحمهم الله، وكانت بينى وبينه خلة، فقال أبو بكر رضى الله عنه: معن بن عدى؟ قلت: نعم، وكان عارفا بما كان بينى وبينه، فقال: رحمه الله، ذكرت رجلا صالحا، حديثك، قلت: يا خليفة رسول الله، فأنظر إليه وأنا موثق فى الحديد فى فسطاط ابن الوليد، وانهزم المسلمون، انهزمت بهم الضاحية انهزامة ظننت أنهم لا يجتبرون لها، وساءنى ذلك، قال أبو بكر: الله، لساءك ذلك؟ قلت: الله لساءنى، قال أبو بكر: الحمد لله على ذلك، قال: فأنظر إلى معن بن عدى قد كر معلما فى رأسه بعصابة حمراء، واضعا سيفه على عاتقه، وإنه ليقطر دما، ينادى: يا للأنصار، كرة صادقة، قال: فكرت الأنصار عليه، فكانت الوقعة التى ثبتوا عليها حتى انتحوا وأباحوا عدوهم، فلقد رأيتنى وأنا أطوف مع خالد بن الوليد أعرفه قتلى بنى حنيفة، وإنى لأنظر إلى الأنصار وهم صرعى، فبكى أبو بكر رضى الله عنه، حتى بل لحيته. وعن أبى سعيد الخدرى، قال: دخلت الحديقة حين جاء وقت الظهر، واستحر القتال، فأمر خالد بن الوليد المؤذن، فأذن على جدار الحديقة بالظهر، والقوم يضطربون على القتل، حتى انقطعت الحرب بعد العصر، فصلى بنا خالد الظهر والعصر، ثم بعث السقاة يطوفون على القتلى، فطفت معهم، فمررت بأبى عقيل الأنصارى البدرى، وبه خمسة عشر جرحا، فاستسقانى، فسقيته، فخرج الماء من جراحاته كلها، ومات رحمه

الله، ومررت ببشر بن عبد الله وهو قاعد فى حشوته، فاستسقانى، فسقيته، فمات، ومررت بعامر بن ثابت العجلانى وإلى جنبه رجل من بنى حنيفة به جراح، فسقيت عامرا فشرب وقال الحنفى: اسقنى فدى لك أبى وأمى، قلت: لا كرامة، ولكنى أجهز عليك، قال: قد أحسنت لى مسألة ولا شىء عليك فيها، أسألك عنها، قلت: وما هى؟ قال: أبو ثمامة، ما فعل؟ قلت: قتل والله، قال: نبى ضيعه قومه، قال أبو سعيد: فضربت عنقه. وعن محمود بن لبيد قال: لما قتل خالد بن الوليد من أهل اليمامة من قتل، كانت لهم فى المسلمين أيضا مقتلة عظيمة «1» ، حتى أبيح أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لا نغمد السيوف بيننا وبينهم عين تطرف وكان فيمن بقى من المسلمين جراحات كثيرة، فلما أمسى مجاعة بن مرارة، أرسل إلى قومه ليلا: أن ألبسوا السلاح النساء والذرية والعبيد، ثم إذا أصبحتم فقوموا مستقبلى الشمس على حصونكم حتى يأتيكم أمرى، وبات خالد والمسلمون يدفنون قتلاهم، فلما فرغوا، رجعوا إلى منازلهم، فباتوا يتكمدون بالنار من الجراح. فلما أصبح خالد، أمر بمجاعة، فسيق معه فى الحديد، فجعل يستبرئ القتلى، وهو يريد مسيلمة، فمر برجل وسيم، فقال: يا مجاعة، أهو هذا؟ قال: لا، هذا والله أكرم منه، هذا محكم بن الطفيل، ثم قال مجاعة: إن الذى تبتغون رجل ضخم أشعر البطن والظهر، أبجر، بجرته مثل القدح، مطرق إحدى العينين، ويقال: هو أرجل أصيفر أخينس، قال: وأمر خالد بالقتلى، فكشفوا حتى وجد الخبيث، فوقف عليه خالد، فحمد الله كثيرا، وأمر به فألقى فى البئر التى كان يشرب منها» . قالوا: ولما أمسينا، أخذنا شعل السعف، ثم جعلنا نحفر لقتلانا حتى دفناهم جميعا، بدمائهم وثيابهم، وما صلينا عليهم، وتركنا قتلى بنى حنيفة، فلما صالحوا خالدا طرحوهم فى الآبار. وكان خالد يرى أنه لم يبق من بنى حنيفة أحد إلا من لا ذكر له، ولا قتال عنده، فقال خالد لما وقف على مسيلمة مقتولا: يا مجاعة، هذا صاحبكم الذى فعل لكم

_ (1) قال ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 83) : قال علماء السير: قتل من المسلمين يوم اليمامة أكثر من ألف، وقتل من المشركين نحو عشرين ألفا. (2) ذكر مثل هذا الخبر ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 82) .

الأفاعيل، ما رأيت عقولا أضعف من عقول أصحابك، مثل هذا فعل بكم ما فعل، فقال مجاعة: قد كان ذلك يا خالد، ولا تظن أن الحرب انقطعت بينك وبين بنى حنيفة، وإن قتلت صاحبهم، إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس، وإن جماعة الناس وأهل البيوتات لفى الحصون، فانظر، فرفع خالد بن الوليد رأسه وهو يقول: قاتلك الله، ما تقول؟ قال: أقول والله الحق، فنظر خالد، فإذا السلاح، وإذا الخلق على الحصون، فرأى أمرا غمه، ثم تشدد ساعتئذ وأدركته الرجولية، فقال لأصحابه: يا خيل الله اركبى، وجعل يدعو بسلاحه، ويقول: يا صاحب الراية قدمها، قال: والمسلمون كارهون لقتالهم، وقد ملوا الحرب، وقتل من قتل وعامة من بقى جريح. فقال مجاعة: أيها الرجل، إنى لك ناصح، إن السيف قد أفناك وأفنى غيرك، فتعال أصالحك عن قومى، وقد أخل بخالد مصاب أهل السابقة، ومن كان يعرف عنده الغناء، فقد رق وأحب الموادعة مع عجف الكراع، فاصطلحا على الصفراء والبيضاء، والحلقة والكراع، ونصف السبى، ثم قال مجاعة: آتى القوم فأعرض عليهم ما صنعت، قال: فانطلق، فذهب ثم رجع، فأخبره أنهم قد أجازوه، فلما بان لخالد أنه إنما هو السبى، قال: ويلك، يا مجاعة خدعتنى فى يوم مرتين، قال مجاعة: قومى، فما أصنع، وما وجدت من ذلك بدا، قد حضنى النساء، وأنشده قول امرأة من بنى حنيفة: مسيلم لم يبق إلا النساء ... سبايا لذى الخف والحافر وطفل ترشحه أمه ... حفير متى يدع يستأخر فأما الرجال فأودى بهم ... حوادث من دهرنا العاثر فليت أباك مضى حيضه ... وليتك لم تك فى الغابر سحبت علينا ذيول البلاء ... وجئت بهن سمى قاشر فمجاعة الخير فانظر لنا ... فليس لنا اليوم من ناظر سواك فإنا على حالة ... تروعنا مرة الطائر فقال: مجاعة: فكنت أجد من هذا بدا «1» . وذكر أن مجاعة لما ذهب إلى قومه ليعرض عليهم الصلح، انتهى إلى باب الحصن ليلا، فإذا امرأة تنشد هذا الشعر، فدنا منها مجاعة، فقال: هتم الله فاك، اسكتى، أنا مجاعة، ثم دخل الحصن وليس فيه إلا النساء والصبيان، فأمرهم بلبس السلاح وإطالة الإشراف، والقيام فى مصاف الرجال، فقال سلمة بن عمير لأصحابه: يا بنى حنيفة قاتلوا ولا

_ (1) راجع ما ذكره ابن الجوزى فى صلح خالد بن الوليد مع أهل اليمامة (4/ 82- 83) .

تصالحوا خالدا، فإن الحصن حصين، والطعام كثير، والقوم قد أفناهم السيف، ومن بقى منهم جريح، ولا تطيعوا مجاعة، فإنه إنما يريد أن ينفلت من إساره، فقال مجاعة: يا بنى حنيفة، أطيعونى واعصوا سلمة، فإنى أخاف أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن سلمة، أن تستردف النساء سبيات، وينكحن غير حظيات، فأطاعوا مجاعة، وتم الصلح بينه وبين خالد. وقال أسيد بن حضير «1» وأبو نائلة لخالد لما صالح: يا خالد، اتق الله، ولا تقبل الصلح، قال خالد: إنه أفناكم السيف، قال أسيد: وإنه قد أفنى غيرنا أيضا، قال: فمن بقى منكم جريح، قال: وكذلك من بقى من القوم جرحى، لا ندخل فى الصلح أبدا، اغد بنا عليهم حتى يظفرنا الله بهم أو نبيد من آخرنا، احملنا على كتاب أبى بكر: إن أظفرك الله ببنى حنيفة فلا تبق عليهم، فقد أظفرنا الله بهم وقتلنا رأسهم، فمن بقى أكل شوكة، فبينما هم على ذلك إذ جاء كتاب أبى بكر يقطر الدم، ويقال: إنهم لم يمسوا حتى قدم سلمة بن سلامة بن وقش من عند أبى بكر بكتابين، فى أحدهما: بسم الله الرحمن، أما بعد فإذا جاءك كتابى، فانظر، فإن أظفرك الله ببنى حنيفة فلا تستبق منهم رجلا جرت عليه الموسى «2» . فكلمت الأنصار فى ذلك، وقالوا: أمر أبى بكر فوق أمرك، فلا تستبق منهم أحدا، فقال خالد: إنى والله ما صالحت القوم إلا لما رأيت من رقتكم، ولما نهكت الحرب منكم، وقوم قد صالحتهم ومضى الصلح فيما بيننا وبينهم، والله لو لم يعطونا شيئا ما قاتلتهم، وقد أسلموا. قال أسيد بن حضير: قد قتلت مالك بن نويرة وهو مسلم، فسكت عنه خالد، فلم يجبه، قالوا: وقال سلمة بن سلامة بن وقش: لا تخالف كتاب إمامك يا خالد، فقال خالد: والله ما ابتغيت بذلك إلا الذى هو خير، رأيت أهل السابقة وأهل الفضل وأهل القرآن قد قتلوا، ولم يبق معى إلا قوم خشيت أن لا يكون لهم بقاء على السيف لو ألح عليهم، فقبلت الصلح، مع أنهم قد أظهروا الإسلام، واتقوا بالراح.

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (54) ، الإصابة الترجمة رقم (185) ، أسد الغابة الترجمة رقم (170) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 21) ، تهذيب الكمال (1/ 113) ، تقريب التهذيب (1/ 78) ، تهذيب التهذيب (1/ 347) ، الوافى بالوفيات (9/ 258) ، سير أعلام النبلاء (1/ 229) ، الجرح والتعديل (2/ 1163) ، الرياض المستطابة (29) . (2) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83) .

وكان خالد قد خطب إلى مجاعة ابنته، وكانت أجمل أهل اليمامة، فقال له مجاعة: مهلا، إنك قاطع ظهرى وظهرك عند صاحبك «1» ، إن القالة عليك كثيرة، وما أقول هذا رغبة عنك، فقال له خالد: زوجنى أيها الرجل، فإنه إن كان أمرى عند صاحبى على ما أحب فلن يفسده ما تخاف علىّ، وإن كان على ما أكره، فليس هذا بأعظم الأمور، فقال له مجاعة: قد نصحتك، ولعل هذا الأمر لا يكون عيبة إلا عليك، ثم زوجه. فلما بلغ ذلك أبا بكر رضى الله عنه، غضب، وقال لعمر بن الخطاب: وأبى خالد أنه لحريص على النساء، حين يصاهر عدوه، وينسى مصيبته، فوقع عمر فى خالد، وعظم الأمر ما استطاع، فكتب أبو بكر إلى خالد مع سلمة بن سلامة: يا خالد بن أم خالد، إنك لفارغ، تنكح النساء، وتعرس بهن، وببابك دماء ألف ومائتين من المسلمين، لم تجف بعد، ثم خدعك مجاعة عن رأيك فصالحك على قومه، ولقد أمكن الله منهم، فى كلام غير هذا ذكره وثيمة فى الردة. فلما نظر خالد فى الكتاب قال: هذا عمل عمر «2» . وكتب إلى أبى بكر جواب كتابه مع أبى برزة الأسلمى: أما بعد، فلعمرى ما تزوجت النساء حتى تم لى السرور، وقرت بى الدار، وما تزوجت إلا إلى امرئ لو أعملت إليه من المدينة خاطبا لم أبل، دع أنى استشرت خطبتى إليه من تحت قدمى، فإن كنت كرهت لى ذلك لدين أو دنيا اعتبتك، وأما حسن عزائى على قتلى المسلمين، فو الله لو كان الحزن يبقى حيا أو يرد ميتا لأبقى حزنى الحى ورد الميت، ولقد أقحمت فى طلب الشهادة حتى يئست من الحياة، وأيقنت بالموت، وأما خدعة مجاعة إياى عن رأيى، فإنى لم أخط رأى يومى، ولم يكن لى علم بالغيب، وقد صنع الله للمسلمين خيرا، أورثهم الأرض، وجعل لهم عاقبة المتقين. فلما قدم الكتاب على أبى بكر رضى الله عنه، رق بعض الرقة، وتم عمر على رأيه الأول فى عيب خالد بما صنع، ووافقه على ذلك رهط من قريش، فقام أبو برزة الأسلمى فعذر خالدا، وقال: يا خليفة رسول الله، ما يؤبن خالد بجبن ولا خيانة، ولقد

_ (1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83) . (2) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم كتاب أبى بكر رضى الله عنه إلى خالد فقال: « ... فبلغ ذلك أبا بكر فكتب إليه: لعمرى يا ابن أم خالد، إنك لفارغ حين تتزوج النساء وحول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد، فإذا جاءك كتاب فالحق بمن معك من جموعنا بأهل الشام، واجعل طريقك على العراق، فقال: وهو يقرأ الكتاب: هذا عمل الأعيسر، يعنى عمر بن الخطاب.

أقحم حتى أعذر، وصبر حتى ظفر، وما صالح القوم إلا على رضاه، وما أخطأ رأيه بصلح القوم، إذ هو لا يرى النساء فى الحصون إلا رجالا، فقال أبو بكر: صدقت لكلامك هذا أولى بعذر خالد من كتابه إلىّ. وقد كان خالد لما وقع الصلح، خاف من عمر أن يحمل أبا بكر، رضى الله عنهما، عليه، فكتب إلى أبى بكر كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم لأبى بكر خليفة رسول الله من خالد بن الوليد، أما بعد، فإنى أقسم بالله أنى لم أصالحهم حتى قتل من كنت أقوى به، وحتى عجف الكراع، وهلك الخف، ونهك المسلمون بالقتل والجراح، حتى إنى لأفعل أمورا أرى أنى فيها معزر، أباشر القتال بنفسى حتى ضعف المسلمون ونهكوا، حتى إن كنت لا تنكر، ثم أدخل بسيفى فرقا على المسلمين حتى جاء بالظفر، فله الحمد. فسر أبو بكر بذلك، فدخل عليه عمر وهو يقرأ الكتاب، فدفعه إليه، فقرأه، فقال: إنما راقب خئونتهم وخالف أمرك، ألا ترى إلى ذكره أنه يباشر القتال بنفسه، يمن عليك بذلك. فقال أبو بكر: لا تقل يا عمر، فإنه والى صدق ميمون النقيبة، ناكى العدو، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقدمه ويقربه، وقد ولاه، فقال عمر: ولاه، وخالف أمره، وقبل بدخول الجاهلية حتى كان ما كان، فقال أبو بكر: دع هذا عنك، فقال عمر: سمعا وطاعة. ولما فرغ خالد من الصلح، أمر بالحصون فألزمها الرجال، وحلف مجاعة بالله لا يغيب عنه شيئا مما صالحه عليه، ولا يعلم أحدا غيبة إلا رفعه إلى خالد، ثم فتحت الحصون، فأخرج سلاحا كثيرا، فجمعه خالد على حدة، وأخرج ما وجد فيها من دنانير ودراهم، فجمعه على حدة، وجمع كراعهم، وترك الخف فلم يحركه ولا الرثة، ثم أخرج السبى، فقسمه قسمين، ثم أقرع على القسمين، فخرج سهمه على أحدهما، وفيه: مكتوب لله، ثم جزأ الذى صار له من السبى على خمسة أجزاء، ثم كتب على كل سهم منها: لله، وجزأ الكراع، والحلقة هكذا، ووزن الذهب والفضة، فعزل الخمس، وقسم على الناس أربعة الأخماس، وأسهم للفرس سهمين، ولصاحبه سهما، وعزل الخمس من ذلك كله، حتى قدم به على أبى بكر الصديق، رضى الله عنه. ولما انقطعت الحرب بين خالد وبين أهل اليمامة، تحول من منزله الذى كان فيه إلى منزل آخر، ينتظر كتاب أبى بكر يأمره أن ينصرف إليه بالمدينة، فبينا هو على ذلك، إذ

أقبل سلمة بن عمير الحنفى، وكان من شياطينهم، فقال لمجاعة: استأذن لى على الأمير، فإن لى إليه حاجة، فأبى مجاعة عليه، وقال: ويحك يا سلمة، ابق على نفسك، فقد آن لك أن تبصر ما أنت فيه، والله لكأنى أنظر إلى خالد بن الوليد قد أمر بك فضربت عنقك. فقال سلمة: ما بينى وبين خالد من عتاب، قد قتل قومى، فلهى عنه مجاعة، يطلب غرة من خالد، فأقبل مع الناس الذين يدخلون عليه، فلما رآه خالد التفت إلى مجاعة، فقال: والله إنى لأعرف فى وجه هذا الشر، فقام إليه مجاعة وهو يخافه على الذى ظن به، فإذا هو مشتمل على السيف، فقال: يا عدو الله، لعنك الله، لقد أردت أن تستأصل حنيفة، والله لو قتلته ما بقى من حنيفة صغير ولا كبير إلا قتل، ثم لببه بثوبه، وجعل يتله حتى أدخله بيتا، ثم أوثقه فى الحديد، وأغلق عليه، فأفلت من الليل ومعه سيف، فوقع فى حائط من حوائط اليمامة، وعلم شأنه وما أراد من ضرب خالد بالسيف، وكان خالد قد أمر به أن تضرب عنقه، فكلمه فيه مجاعة، وقال: هبه لى يا أبا سليمان، فوهبه له، وقال له: أحسن أدبه، فذلك حين حذره مجاعة، فخرج بالسيف واكتنفه أهل اليمامة، فلما رأى ذلك أمال السيف على حلقه، فقطع أوداجه، وسقط فى بئر هناك، فانقطع ذكره. وحدث زيد بن أسلم عن أبيه، قال: كان أبو بكر حين وجه خالدا إلى اليمامة، رأى فى النوم كأنه أتى بتمر من تمر هجر «1» ، فأكل منها تمرة واحدة وجدها نواة على خلقة التمرة، فلاكها ساعة ثم رمى بها، فتأولها، فقال: ليلقين خالد من أهل اليمامة شدة، وليفتحن الله على يديه إن شاء الله، فكان أبو بكر يستروح الخبر من اليمامة بقدر ما يجىء رسول خالد، فخرج أبو بكر يوما بالعشى إلى ظهر الحرة، يريد أن يبلغ صرارا، ومعه عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله، ونفر من المهاجرين والأنصار، فلقى أبا خيثمة النجارى قد أرسله خالد، فلما رآه أبو بكر قال له: ما وراءك يا أبا خيثمة؟ قال: خير يا خليفة رسول الله، قد فتح الله علينا اليمامة، قال: فسجد أبو بكر، قال أبو خيثمة: وهذا كتاب خالد إليك، فحمد الله أبو بكر وأصحابه، ثم قال: أخبرنى عن الوقعة، كيف كانت؟. فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع خالد، وكيف صف أصحابه، وكيف انهزم المسلمون، ومن قتل منهم، وجعل أبو بكر يسترجع ويترحم عليهم، وجعل أبو خيثمة

_ (1) هجر: بفتح أوله وثانيه، مدينة البحرين، وهى معرفة لا تدخلها الألف واللام، سميت بهجر بنت مكنف من العماليق. انظر: الروض المعطار (592) ، معجم ما استعجم (4/ 1346) .

يقول: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتينا من قبل الأعراب، انهزموا بنا وعودونا ما لم نكن نحسن، حتى أظفرنا الله بعد، ثم قال أبو بكر: كرهت رؤيا رأيتها كراهية شديدة، ووقع فى نفسى أن خالدا سيلقى منهم شدة، وليت خالدا لم يصالحهم، وأنه حملهم على السيف، فما بعد هؤلاء المقتولين يستبقى أهل اليمامة، ولن يزالوا من كذابهم فى بلية إلى يوم القيامة، إلا أن يعصمهم الله، ثم قدم بعد ذلك وفد اليمامة مع خالد على أبى بكر رضى الله عنه. قال الواقدى: أجمع أصحابنا أن خالد بن الوليد قدم المدينة من اليمامة، وقدم بوفد اليمامة سبعة عشر رجلا من بنى حنيفة، فيهم مجاعة بن مرارة، وإخوته، وأن أبا بكر حبسهم، فلم يدخلهم عليه، فدخلوا على عمر بن الخطاب يكلمونه فى أن يكلم أبا بكر أن يأذن لهم فيدخلهم أو يأذن لهم فى الرجوع إلى بلادهم، فوجدوه يحلب شاة على رغيف فى صحفة، ومعه عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وابنه زيد بن الخطاب، فهما ينزوان على ظهره، قالوا، أو من قال منهم: فنسبنا، فانتسبنا، فقرب تلك الصحفة وما فيها، وقال: أصيبوا شيئا، فتحرمنا فأصبنا شيئا، فسألته: من هذان الغلامان؟ فقال: هذان ابنا زيد بن الخطاب رحمه الله، فوجمنا لأنا قتلنا زيدا، فلما رأى وجومنا قال: ما لكم قد سكتم؟ هذا أمر قد ذهب، حاجتكم، قالوا: فبسطنا، فقلنا: احتبسنا ولا نقدر على الدخول على أبى بكر، ولا السراح إلى بلادنا، فقال عمر: عليكم عهد الله وكفالته أن تناصحوا الإسلام وأهله، قلنا: نعم، قال: ارجعوا حتى تأتوا فى هذه الساعة من غد فأوصلكم إلى أبى بكر، فلما كان ذلك الوقت من الغد، جاؤه، فخرج معهم حتى أوصلهم إلى أبى بكر. وقال زيد بن أسلم عن أبيه: لما دخلوا على أبى بكر الصديق، قال: ويحكم، ما هذا الذى استنزل منكم ما استنزل، وخدعكم، قالوا: يا خليفة رسول الله، قد كان الذى بلغك مما أصابنا. وذكر وثيمة أن الذى كلم أبا بكر منهم رجل من بنى سحيم، فقال: يا خليفة رسول الله، كان رجلا مشئوما أصابته فتنة من حديث النفس، وأمانى الشيطان، دعا إليها أقواما مثله فأجابوه فلم يبارك الله له ولا لقومه. قال أسلم فى حديثه: ثم أقبل يعنى أبا بكر، على مجاعة، فقال: يا مجاعة، أنت خرجت طليعة لمسيلمة حتى أخذك خالد أخذا؟ فقال: يا خليفة رسول الله، والله ما

فعلت، خرجت فى طلب رجل من بنى نمير قد أصاب فينا دما، فهجمت علينا خيل خالد، ولقد كنت قدمت على رسول الله، فلما ذكر رسول الله، قال أبو بكر: قل صلى الله عليه وسلم، فقال: صلى الله عليه وسلم، ثم رجعت إلى قومى، فو الله ما زلت معتزلا أمر مسيلمة حتى كان أوان قدمت عليك مقدمى هذا، ثم لم آل لخالد فيما استشارنى إلى اليوم، وقد جئناك لترضى عمن أساء، وتقبل ممن تاب، فإن القوم قد رجعوا وتابوا، فقال أبو بكر: أما أنى قد كتبت إلى خالد كتابا فى أثر كتاب آمره أن لا يستبقى من بنى حنيفة أحدا مرت عليه الموسى قال مجاعة: الذى صنع الله لك ولخالد خير، يفىء الله بهم إلى الإسلام، قال أبو بكر: أرجو أن يكون ما صنع خالد خيرا، يا مجاعة أنى خدعتم بمسيلمة؟ قال: يا خليفة رسول الله، لا تدخلنى فى القوم، فإن الله يقول: لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر: 18] ، قال أبو بكر رضى الله عنه: فما كان يقول لقومه؟ قال: فكره مجاعة أن يخبره فقال أبو بكر: عزمت عليك لتخبرنى. وفى غير هذا الحديث أن الرجل السحيمى الذى تقدم ذكره قبل أخبره بأنه كان يقول: يا ضفدع بنت ضفدعين، لحسن ما تنقنقين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، امكثى فى الأرض حتى يأتيك الخفاش بالخبر اليقين، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فاسترجع أبو بكر، ثم قال: سبحان الله، ويحكم، أى كلام هذا، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر، فأين ذهب بكم؟ الحمد لله الذى قتله، قالوا: يا خليفة رسول الله، قد أردنا الرجوع إلى بلادنا، قال: ارجعوا، وكتب لهم كتابا آمنهم فيه. وفى كتاب يعقوب الزهرى: أن وفد بنى حنيفة لما قدموا، نادى أبو بكر أن لا يؤويهم أحد، ولا يبايعهم، ولا ينزلهم، ولا يكلمهم، فداروا فى المدينة لا يكلمون ولا يبايعون، فضاقت عليهم، فقيل لهم: ائتوا عمر، فجاؤه، فوجدوه معتقلا عنزا يحلبها على رغيف، فلما رآهم، حلب، فاشتد حلبه حتى دار الرغيف فى القدح من شدة حلبه، ثم وضعه، فدعاهم فأكلوا معه، ومعه صبية صغيرة، فقالوا: إنا نعوذ بالله أن يرد علينا من إسلامنا ما يقبل من غيرنا، وإنا نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، الذى لا إله إلا هو، الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية، قال: الله، إن ما تقولون بألسنتكم لحق من قلوبكم، قالوا: الذى لا إله إلا هو إن ما نقول بألسنتنا لحق من قلوبنا، قال: الحمد لله الذى جعل لنا من الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه. قال: أفيكم قاتل زيد بن الخطاب؟ قلنا: ما تريد بذلك؟ قال: أفيكم قاتل زيد؟ فقام أبو مريم، فقال: أنا قاتل زيد،

قال: وكيف قتلته؟ قال: اضطربت أنا وهو بالسيفين حتى انقطعا، ثم أطعنا بالرمحين حتى انكسرا، ثم اصطرعنا، فشحطته بالسكين شحطا، قال: يا بنية، هذا قاتل أبيك، فوضعت يدها على رأسها، وصاحت: يا أبتاه. قال: ثم خرج حتى جاء أبا بكر، فاستأذن لنا عليه، فدخلنا فقلنا له كما قلنا لعمر، وناشدنا كما ناشدنا عمر، فحلفنا له، فقال: الحمد لله الذى جعل لنا من الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه، قال: أفيكم من رهط عامر بن مسلمة أحد؟ قال خالد: وما تصنع بعامر وهذا مجاعة سيد أهل اليمامة، فكررها أبو بكر، فقال: هل فيكم من رهط ثمامة ابن أثال أحد؟ قال خالد: وما تصنع بثمامة، وهذا مجاعة سيد أهل اليمامة، قال أبو بكر رضى الله عنه: إنهم أهل بيت اصطعنهم النبى صلى الله عليه وسلم، فأحب أن أصطنعهم، فقام مطرف بن النعمان بن سلمة، فقال: عامر بن سلمة عمى، وثمامة بن أثال عمى، فاستعمله أبو بكر على اليمامة. وقال أبو بكر لخالد: سم لى أهل البلاء، فقال: يا خليفة رسول الله، كان البلاء للبراء بن مالك، والناس له تبع. ولما قدم خالد المدينة لم يبق بها دار إلا فيها باك لكثرة من قتل معه من الناس، فبكى أبو بكر رضى الله عنه، لما رأى ذلك، وقال ما أبعد ما رأى من الظفر، والله لثابت بن قيس بن شماس «1» أعز على الأنصار من أسماعها وأبصارها. وكانت اليمامة فى ربيع الأول من سنة اثنتى عشرة «2» ، واختلف فى عدد من استشهد فيها من المسلمين، فأكثر ما فى ما وقع فى كتاب أبى بكر إلى خالد: أن ببابك دماء ألف ومائتين من المسلمين. وقال سالم بن عبد الله بن عمر: قتل يوم اليمامة ستمائة من المهاجرين والأنصار، وغير ذلك. وقال زيد بن طلحة: قتل يوم اليمامة من قريش سبعون، ومن الأنصار ستون، ومن سائر الناس خمسمائة.

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (253) ، الإصابة الترجمة رقم (906) ، أسد الغابة الترجمة رقم (569) . (2) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 83) : أنها كانت سنة إحدى عشرة فى قول جماعة منهم أبو معشر، فأما ابن إسحاق فإنه قال فتح اليمامة واليمن والبحرين، وبعث الجنود إلى الشام سنة اثنتى عشرة.

وعن أبى سعيد الخدرى قال: قتلت الأنصار فى مواطن أربعة سبعين سبعين، يوم أحد سبعين، ويوم بئر معونة سبعين، ويوم اليمامة سبعين، ويوم جسر أبى عبيد سبعين. وقال سعيد بن المسيب: قتلت الأنصار فى مواطن ثلاثة سبعين سبعين، فذكر ما تقدم إلا بئر معونة. وذكر عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يوما وقعة اليمامة ومن قتل فيها من المهاجرين والأنصار، فقال: أحلت السيوف على أهل السوابق من المهاجرين والأنصار، ولم نجد المعول يومئذ إلا عليهم، خافوا على الإسلام أن يكسر بابه، فيدخل منه إن ظهر مسيلمة، فمنع الله الإسلام بهم، حتى قتل عدوه وأظهر كلمته، وقدموا يرحمهم الله، على ما يسرون به من ثواب جهادهم من كذب على الله وعلى رسوله، ورجع عن الإسلام بعد الإقرار به. وفى رواية عنه: جعل منادى المسلمين، يعنى يوم اليمامة، ينادى: يا أهل الوجوه، لولا ما استدرك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جمع القرآن لخفت أن لا يلتقى المسلمون وعدوهم فى موضع إلا استحر القتل بأهل القرآن. ولما قتل ثابت بن قيس بن شماس يوم اليمامة، ومعه كانت راية الأنصار يومئذ، وهو خطيبهم وسيد من سادتهم، أرى رجل من المسلمين فى منامه ثابت بن قيس يقول له: إنى موصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إنى لما قتلت بالأمس جاء رجل من ضاحية نجد وعلىّ درع فأخذها، فأتى بها منزله فأكفأ عليها برمة، وجعل على البرمة رحلا، وخباؤه فى أقصى العسكر، إلى جنب خبائه فرس يستن فى طوله، فائت خالد بن الوليد فأخبره فليبعث إلى درعى فليأخذها، وإذا قدمت على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن علىّ من الدين كذا ولى من الدين كذا، وسعد ومبارك غلاماى حران، وإياك أن تقول هذا حلم، فتضيعه. فلما أصبح الرجل أتى خالد بن الوليد فأخبره، فبعث خالد إلى الدرع فوجدها كما قال، وأخبره بوصيته فأجازها، ولا نعلم أحدا من المسلمين أجيزت، وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس «1» . وقد روى أن بلال بن الحارث كان صاحب الرؤيا، رواه الواقدى، ثم قال بعقبه: فذكرته، يعنى الحديث، لعبد الله بن سعد، فقال: حدثنى عبد الواحد بن أبى عون، قال:

_ (1) ذكر ابن عبد البر فى الاستيعاب هذا الخبر فى ترجمة ثابت رقم (253) .

قال بلال: رأيت فى منامى كأن سالما مولى أبى حذيفة قال لى ونحن منحدرون من اليمامة إلى المدينة: إن درعى مع الرفقة الذين معهم الفرس الأبلق، تحت قدرهم، فإذا أصبحت فخذها من تحت قدرهم، فاذهب بها إلى أهلى، وإن علىّ شيئا من دين، فمرهم يقضونه، قال بلال: فأقبلت إلى تلك الرفقة، وقدرهم على النار، فألفيتها وأخذت الدرع، وجئت أبا بكر فحدثته الحديث، فقال: نصدق قولك، ونقضى دينه الذى قلت. وقتل الله من بنى حنيفة يوم اليمامة عددا كثيرا، ففى كتاب يعقوب الزهرى أنه قتل منهم أكثر من سبعة آلاف، وعن غيره أنه أصيب يومئذ من صليب بنى حنيفة سبعمائة مقاتل، وكان داؤهم خبيثا، والطارئ منهم على الإسلام عظيما، فاستأصل الله تعالى شأفتهم، ورد ألفة الإسلام على ما كانت عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر ردة بنى سليم ذكر الواقدى من حديث سفيان بن أبى العوجاء السلمى، قال: وكان عالما بردة قومه، مع أنه كان من وعاة العلم، وممن يوثق به فى الدين، قال: أهدى ملك من ملوك غسان إلى النبى صلى الله عليه وسلم، لطيمة فيها مسك وعنبر، وخيل، فخرجت بها الرسل حتى إذا كانوا بأرض بنى سليم، بلغتهم وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، فتشجع بعض بنى سليم على أخذها والردة، وأبى بعضهم من ذلك، وقالوا: إن كان محمد قد مات، فإن الله حى لا يموت، وكان الذين ارتدوا منهم عصية وبنو عميرة وبنو عوف، وبعض بنى جارية، والذين انتهبوا اللطيمة فتمزقوها، بنو الحكم بن مالك بن خالد بن الشريد. فلما ولى أبو بكر كتب إلى معن بن حاجز «1» فاستعمله على من أسلم من بنى سليم، وكان قد قام فى ذلك قياما حسنا، ذكر وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، وذكر الناس ما قال الله لنبيه عليه السلام: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية [آل عمران: 144] والتى قبلها، مع آى من كتاب الله، فاجتمع إليه بشر كثير من بنى سليم، وانحاز أهل الردة منهم فجعلوا يغيرون على الناس، ويقطعون السبيل، فلما بدى لأبى بكر أن يوجه خالد بن الوليد إلى الضاحية، كتب إلى معين بن حاجز أن يلحق بخالد بن الوليد هو ومن معه من المسلمين، ويستعمل

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2499) ، الإصابة الترجمة رقم (8473) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2499) .

على عمله طريفة بن حاجز، ففعل، وأقام طريفة يكالب من ارتد بمن معه من المسلمين، يغير عليهم ويغيرون عليه، إذ قدم الفجاءة، وهو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عمير ابن خفاف، على أبى بكر الصديق، فقال: يا أبا بكر، إنى مسلم، وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار، فاحملنى وأعنى، فإنه لو كان عندى قوة لم أقدم عليك، ولكنى مضعف من الظهر والسلاح، فسر أبو بكر بمقدمه، فحمله على ثلاثين بعيرا، وأعطاه سلاح ثلاثين رجلا، فخرج يستعرض المسلم والكافر، فيأخذ أموالهم، ويصيب من امتنع مع قوم من أهل الردة قد تبعوه على ذلك، لقد أغار على قوم بالأرحضية مسلمين، جاؤا يريدون أبا بكر، فسلبهم وقتلهم، ومعه رجل من بنى الشريد، يقال له: نجبة بن أبى المثنى. فلما بلغ أبا بكر خبره وما صنع، كتب إلى طريفة بن حاجز: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى بكر خليفة رسول الله إلى طريفة بن حاجز، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلى على محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد، فإن عدو الله الفجاءة أتانى، فزعم أنه مسلم، وسألنى أن أقويه على قتال من ارتد عن الإسلام، فقويته، وقد انتهى إلى الخبر اليقين أنه قد استعرض المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم، ويقتل من امتنع منهم، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله أو تأسره، فتأتينى به فى وثاق إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله. فقرأ طريفة كتاب أبى بكر على قومه المسلمين، فحشدوا، وساروا معه إلى الفجاءة، فقدم إليهم نجبة بن أبى المثنى، فناوش المسلمين، وقتل نجبة، وهرب من كان معه إلى الفجاءة، ثم زحف طريفة إلى الفجاءة، فتصادما، وجعل المسلمون يرمون بالنبل، ورمى أصحاب الفجاءة شيئا وهم منكسرون لما يرون من انكسار الفجاءة وندامته، فقال: يا طريفة «1» والله ما كفرت، وإنى لمسلم، وما أنت بأولى بأبى بكر منى، أنت أميره وأنا أميره، قال طريفة: فإن كنت صادقا، فألق السلاح، ثم انطلق إلى أبى بكر فأخبره خبرك، فوضع الفجاءة السلاح، وأوثقه طريفة فى جامعة، فقال طريفة: لا تفعل، فإنك إن أقدمتنى فى وثاق أشعرتنى، فقال طريفة: هذا كتاب أبى بكر إلى: أن ابعثك إليه فى وثاق، فقال الفجاءة: سمعا وطاعة، فبعث به فى جامعة مع عشرة من بنى سليم، فأرسل به أبو بكر رضى الله عنه، إلى بنى جشم، فحرقه بالنار.

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1308) ، الإصابة الترجمة رقم (4263) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2605) .

وقدم على أبى بكر رضى الله عنه، قبيصة، أحد بنى الضربان، من بنى خفاف، فذكر أن مسلم، وأنه قومه لم يرتدوا، فأمره أبو بكر أن يقاتل بمن معه من سليم على الإسلام من ارتد عنه منهم، فرجع قبيصة إلى قومه، فاجتمع إليه ناس كثير ممن ثبت على الإسلام، فخرج يتبع بهم أهل الردة يقتلهم حيث وجدهم، حتى مر ببيت خميصة بن الحكم الشريدى، فوجده غائبا يجمع أهل الردة، ووجد جارا له مرتدا، فقتله، واستاق ماله ومضى حتى نزل منزلا، فذبح أصحابه شاة من غنم جار خميصة، ثم راحوا، ويقبل خميصة حتى أتى أهله، فيخبروه خبر جاره، فخرج فى طلب القوم حتى مر بمنزلهم حيث ذبحوا الشاة، فيجد رأسها مملولا، قد تركه القوم، فأخذه، فجعل ينهش منه، وهو يطلبهم فأدركهم وهو ينهشه والدم يسيل على لحيته، وكان رجلا أيدا، فقال لقبيصة: قتلت جارى؟ قال: إن جارك ارتد عن الإسلام، قال: فاردد ماله، فرد قبيصة ماله، فقال: وفقد الشاة التى ذبحوا، فقال: أين الشاة التى ذبحت؟ فقال: لا سبيل إليها، قد أكلها القوم وهم مستحقون لذلك فى طلب قوم كفروا بعد إسلامهم، فقال: يا قبيصة، أمن بين من كفر تعدو على جار لجأ إلى لأمنعه؟ فقال قبيصة: قد كان ذلك فاصنع ما أنت صانع، فطعن قبيصة بالرمح، فوقع فى واسط الرحل، فدقه وانثنى سنان الرمح، وخر قبيصة عن بعيره، فقال لخميصة: إنك قد أشويتنى، فاكفف، فعدل خميصة سنان رمحه بين حجرين ثم شد على قبيصة، وهو يقول: أكفف بعد قتل جارى، لا والله أبدا، فطعنه بالرمح فقتله وكان قبيصة قد فرق أصحابه، وبثهم قبل أن يلحقه خميصة. وكتب أبو بكر رحمه الله، إلى خالد بن الوليد: أما بعد، فإن أظفرك الله ببنى حنيفة، فأقل اللبث فيهم حتى تنحدر إلى بنى سليم فتطأهم وطأة يعرفون بها ما منعوا، فإنه ليس بطن من العرب أنا أغيظ عليه منى عليهم، قدم قادمهم يذكر إسلاما ويريد أن أعينه، فأعنته بالظهر والسلاح، ثم جعل يعترض الناس، فإن أظفرك الله بهم فلا ألومك فيهم، فى أن تحرقهم بالنار، وتهول فيهم بالقتل، حتى يكون نكالا لهم. قالوا: فجعل خالد بن الوليد يبعث الطلائع أمامه، وسمعت بنو سليم بمقبل خالد، فاجتمع منهم بشر كثير يعرضون لهم، وجلهم بنو عصية، واستجلبوا من بقى من العرب مرتدا، وكان الذى جمعهم أبو شجرة بن عبد العزى، فانتهى خالد إلى جمعهم بالجواء مع الصبح، فصاح خالد فى أصحابه، وأمرهم بلبس السلاح، ثم صفهم، وصفت بنو سليم، وقد كل المسلمون وعجف كراعهم، وخفهم، وجعل خالد يلى القتال بنفسه، حتى أثخن فيهم القتل، ثم حمل عليهم حملة واحدة، فهربوا، وأسر منهم بشر كثير، فجعل

يضرب أحدهم على عاتقه فيجز له باثنين، ويبدو سحره، ويضرب الآخر من وسطه. وفى حديث سفيان بن أبى العوجاء: أن خالدا خطر لهم الخطائر، فحرقهم فيها بالنار، وأصاب أبو شجرة يومئذ، فى المسلمين وجرح جراحات كثيرة، وقال فى ذلك أبياتا، يقول فى آخرها: فرويت رمحى من كتيبة خالد ... وإنى لأرجو بعدها أن أعمرا ولما قدم خالد على أبى بكر، كان أول ما سأل عنه خبر بنى سليم، فأخبره خالد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قدم على أبى بكر معاوية بن الحكم، وأخوه خميصة مسلمين، فقال أبو بكر لخميصة: أنت قتلت قبيصة، ورجعت عن الإسلام؟ قال: إنه قتل جارى، قال: وإن قتل جارك على ردة، قتلته، لن تفلت منى حتى أقتلك، فقال أخوه: يا خليفة رسول الله، كان يومئذ مرتدا كافرا موتورا، وقد تاب اليوم وراجع، ولكن نديه قال أبو بكر: فأخرج ديته، فقال: أفعل يا خليفة رسول الله، قال: فنعم الرجل كان قبيصة، ونعم السبيل مات عليه. ثم قال لمعاوية: وعمدتم يا بنى الشريد إلى لطيمة بعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهبتموها، وقلتم إن يقم بهذا الأمر رجل من قريش، فلعمرى ليرضى أن تدخلوا فى الإسلام مع الناس، فكيف يأخذكم بأمن الطريق إلى رجل قد مات، فإن طلب ما أخذتم فإنما يطلبها أهل بيته، فما كانوا يطلبون ذلك منكم وأنتم أخوالهم. قال معاوية: نحن نضمنها حتى نؤديها إليك، فحمل أبو بكر، معاوية اللطيمة التى أصابوها، ووقت لهم شهرين أو ثلاثة. قال: فأداها إلى أبى بكر، ثم إن أبا شجرة أسلم، ودخل فيما دخل فيه الناس، فجعل يعتذر ويجحد أن يكون قال البيت المتقدم، فلما كان زمن عمر بن الخطاب، قدم أبو شجرة وأناخ راحلته بصعيد بنى قريظة، وجاء من حرة شوران، ثم أتى عمر وهو يقسم بين فقراء العرب، فقال: يا أمير المؤمنين، أعطنى، فإنى ذو حاجة، فقال: من أنت؟ قال: أنا أبو شجرة بن عبد العزى، فقال له: يا عدو الله، ألست الذى يقول: فرويت رمحى من كتيبة خالد ... وإنى لأرجو بعدها أن أعمرا عمر الله سوء ما عشت لك يا خبيث، ثم جعل يعلوه بالدرة على رأسه، حتى سبقه عدوا، وعمر فى طلبه، فرجع أبو شجرة موليا إلى راحلته، فارتحلها، ثم شد بها فى حرة شوران راجعا إلى أرض بنى سليم، فما استطاع أبو شجرة أن يقرب عمر حتى توفى،

وإن كان إسلامه لا بأس به، وكان إذا ذكر عمر ترحم عليه، ويقول: ما رأيت أحدا أهيب من عمر بن الخطاب. وقال أبو شجرة فيما كان من ذلك: ضن علينا أبو حفص بنائله ... وكل مختبط يوما له ورق ما زال يرهقنى حتى خذيت له ... وحال من دون بعض البغية الشفق لما لقيت أبا حفص وشرطته ... والشيخ يقرع أحيانا فينحمق ثم ارعويت إلى وجناء كاشرة ... مثل الطريرة لم يثبت لها الأفق أقبلت الخيل من شوران صادرة ... أنى لأزرى عليها وهى تنطلق تطير مروا خطاها عن مناسمها ... كما ينقر عند الجهبذ الورق إذا يعارضها خرق تعارضه ... ورهاء فيها إذا استعجلتها خرق ينوء آخرها منها وأولها ... سرح اليدين معا نهاضة فتق وفى حديث هشام بن عروة عن أبيه: أن لقاء أبى شجرة عمر كان على غير ما تقدم، وأن أبا شجرة قدم المدينة، فأدخل راحلته بعض دورها، ودخل المسجد متنكرا، فاضطجع فيه، وكان عمر رضى الله عنه، قل شىء يظنه إلا كان حقا، فبينا عمر جالسا فى أصحابه، وأبو شجرة مضطجع، قال عمر: إنى لأرى هذا أبا شجرة، فقام حتى وقف عليه، فقال: من أنت؟ قال: رجل من بنى سليم، قال: انتسب، قال: فلان بن عبد العزى، قال: ما كنيتك؟ قال: أبو شجرة، فعلاه بالدرة. ثم ذكر من تقريره على قوله: فرويت رمحى البيت، نحوا مما تقدم. ردة البحرين «1» حدث يعقوب الزهرى عن إسحاق بن يحيى، عن عمه عيسى بن طلحة، قال: لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صاحب المدائن: من يكفينى أمر العرب، فقد مات صاحبهم وهم الآن يختلفون بينهم، إلا أن يريد الله بقاء ملكهم فيجتمعوا على أفضلهم، فإنهم إن فعلوا صلح أمرهم، وبقى ملكهم، وأخرجوا العجم من أرضهم، قالوا: نحن بذلك على أكمل الرجال، قال: من؟ قالوا: مخارق بن النعمان، ليس فى الناس مثله، وهو من أهل بيت قد دوخوا العرب ودانت لهم، وهؤلاء جيرانك بكر بن وائل، فأرسل

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83- 85) ، تاريخ الطبرى (3/ 301) ، الأغانى (15/ 255) .

منهم ناسا مع مخارق، فأرسل معه ستمائة من بكر بن وائل، الأشرف فالأشرف، وارتد أهل هجر عن الإسلام. وعن الحسن بن أبى الحسن: أن الجارود قام فى قومه، فقال: يا قوم، ألستم تعلمون ما كنت عليه من النصرانية، وإنى لم آتكم قط إلا بخير، وإن الله تعالى بعث نبيه فنعى له نفسه وأنفسكم؟ فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً [آلا عمران: 144] . وفى حديث آخر، أنه قام فيهم، فقال: ما شهادتكم أيها الناس على موسى؟ قالوا: نشهد أنه رسول الله، قال: فما شهادتكم على عيسى؟ قالوا: نشهد أنه رسول الله، قال: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، عاش كما عاشوا، ومات كما ماتوا، وأتحمل شهادة من أبى أن يشهد على ذلك، فلم يرتد من عبد القيس أحد. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين وفدوا عليه: «عبد القيس خير أهل المشرق، اللهم اغفر لعبد القيس ثلاثا، وبارك لهم فى ثمارهم» ، فخرجوا مسرورين بدعوته وأهدوا له من طرائف ثمارهم، وثبتوا على الإسلام حين الردة. وكان النبى صلى الله عليه وسلم، استعمل أبان بن سعيد بن العاص «1» على البحرين، وعزل العلاء بن الحضرمى، فسأل أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يحالف عبد القيس، فأذن له، فحالفهم، فلما بلغ أبان بن سعيد مسير من سار إليه مرتدين، قال لعبد القيس: أبلغونى مأمنى، فأشهد أمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس مثلى يغيب عنهم، فأحيا بحياتهم، وأموت بمماتهم، فقالوا: لا تفعل، فأنت أعز الناس علينا، وهذا علينا وعليك فيه مقالة، يقول قائل: فر من القتال، فأبى وانطلق معه ثلاثمائة رجل يبلغونه المدينة، فقال أبو بكر لأبان: ألا ثبت مع قوم لم يبدلوا ولم يرتدوا؟ فقال: ما كنت لأعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر أبان من عبد القيس خيرا، فدعا أبو بكر العلاء بن الحضرمى، فبعثه إلى البحرين، فى ستة عشر راكبا، وقال: امض، فإن أمامك عبد القيس، فسار حتى بلغهم، ومر بثمامة بن أثال الحنفى، فأمده برجال من قومه بنى سحيم، ولحق به ثمامة، فخرج

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (4) ، الإصابة الترجمة رقم (2) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2) ، نسب قريش (174، 175) ، طبقات خليفة (298) ، الجرح والتعديل (2/ 295) ، تاريخ الإسلام (1/ 376، 378) .

العلاء بمن معه حتى نزل بحصن يقال له جواثى، وكان مخارق قد نزل بمن معه من بكر بن وائل المشقر، فسار إليهم العلاء فيمن اجتمع إليه من المسلمين، فقاتلهم قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى وأكثرها فى أهل الردة، والجارود بالخط يبعث البعوث إلى العلاء، وبعث مخارق الخطم بن شريح، أحد بنى قيس بن ثعلبة إلى مرزبان الخط يستمده، فأمده بالأساورة، فنزل الخطم ردم الفلاح، وكان حلف أن لا يشرب الخمر حتى يرى هجر، فقالوا له: هذه هجر، وأخذ المرزبان الجارود رهينة عنده، وقال عبد الرحمن بن أبى بكرة: أخذ الخطم الجارود، فشده فى الحديد، وسار الخطم وأبجر بن العجلى فيمن معهما حتى حصروا العلاء بن الحضرمى بجواثى. فقال عبد الله بن حذف أحد بنى عامر بن صعصعة: ألا أبلغ أبا بكر رسولا ... وسكان المدينة أجمعينا فهل لكم إلى نفر يسير ... مقيم فى جواثى محصرينا كأن دماءهم فى كل شمس ... شعاع الشمس يغشين العيونا توكلنا على الرحمن إنا ... وجدنا النصر للمتوكلينا «1» فمكثوا على ذلك محصورين، فسمع العلاء وأصحابه ذات ليلة لغطا فى عسكر المشركين، فقالوا: والله لوددنا أن لو علمنا أمرهم، فقال عبد الله بن حذف: أنا أعلم لكم علمهم، فدلونى بحبل، فدلوه، فأقبل حتى يدخل على أبجر بن جابر العجلى، وأم عبد الله امرأة من بنى عدل، فلما رآه أبجر، قال: ما جاء بك، لا أنعم الله بك علينا؟ قال: يا خالى، الضرر والجوع وشدة الحصار، وأردت اللحاق بأهلى، فزودنى. قال أبجر: أفعل، على أنى أظنك والله على غير ذلك، بئس ابن الأخت سائر الليلة، فزوده وأعطاه نعلين، وأخرجه من العسكر، وخرج معه حتى برزا، فقال له: انطلق، فإنى والله لأراك بئس ابن الأخت أنت هذه الليلة، فمض ابن حذف كأنه لا يريد الحصن، حتى أبعد، ثم عطف فأخذ بالحبل، فصعد الحصن، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ورائى والله أنى تركتهم سكارى لا يعقلون، قد نزل بهم تجار من تجار الخمر، فاشتروا منهم ثم وقعوا فيها، فإن كانت لكم حاجة بهم فالليلة، فنزل إليهم المسلمون، فبيتوهم، ووضعوا فيهم سلاحهم حيث شاؤا «2» . وقال إسحاق بن يحيى بن طلحة فى حديثه: كان العلاء فى ثلاثمائة وستة وعشرين

_ (1) انظر الأبيات فى: البداية والنهاية (6/ 321) . (2) راجع ما ذكره ابن كثير فى البداية (6/ 320- 323) .

من المهاجرين، فطرقوهم، فوجدوهم قد ثملوا، فقتلوهم، فلم يفلت منهم أحد، ووثب الخطم وهو سكران، فوضع رجله فى ركاب فرسه، ثم جعل يقول: من يحملنى، فسمعه عبد الله بن حذف، فأقبل نحوه وهو يقول: أبا ضبيعة؟ قال: نعم، قال: أنا أحملك، فلما دنا منه ابن حذف ضربه حتى قتله، وقطعت رجل أبجر بن جابر العجلى فمات منها وقد كان قال حين قطعت: قاتلك الله يا ابن حذف، ما أشأمك، وقد قيل إن عفيف بن المنذر، أحد بنى عمرو بن تميم، هو الذى سمع كلام الخطم حين رام الركوب، فلم يستطع، فقال: ألا رجل من بنى قيس بن ثعلبة يعقلنى الليلة، فقال له عفيف وقد عرف صوته: أبا ضبيعة، أعطنى رجلك، فأعطاه إياها، يظن أنه يعقله على فرسه، فأطنها من الفخذ وتركه، فقال: أجهز على، فقال: إنى أحب أن لا تموت حتى أمصك، وكان مع عفيف تلك الليلة عدة من بنى أبيه أصيبوا. وقتل ليلتئذ مسمع بن سنان، أبو المسامعة، وانهزم الباقون، حتى صاروا فى ناحية من البحرين فعصموا بمفروق الشيبانى. قال إسحاق: وأصبح ما أفاء الله على المسلمين من خيولهم، وما سوى ذلك عند العلاء فى حصن جواثى، ثم صار العلاء إلى المدينة فقاتلهم قتالا شديدا، وهزمهم الله حتى لجئوا إلى باب المدينة، فضيق عليهم، فلما رأى ذلك مخارق ومن معه، قالوا: إن خلوا عنا رجعنا من حيث جئنا، فشاور العلاء أصحابه، فأشاروا عليه أن يخلى عنهم، فخرجوا فلحقوا ببلادهم، وبقى أهل المدينة، فطلبوا الصلح والأمان، فصالحهم العلاء على ثلث ما فى أيديهم بالمدينة من أموالهم، وما كان من شىء خارج منها، فهو له، فبعث العلاء بمال كثير إلى المدينة. وفى غير هذا الحديث أن عبد القيس لما أوقعوا تلك الليلة ببكر بن وائل، طفقت بكر تنادى: يا عبد القيس، إياكم مفروق بن عمرو فى جماعة بكر بن وائل، فقال عبد الله بن حذف فى ذلك: لا توعدونا بمفروق وأسرته ... إن يأتنا يلق منا سنة الخطم النخل ظاهرها خيل وباطنها ... خيل تكردس بالفرسان كالنعم وإن ذا الحى من بكر وإن كثروا ... لأمة داخلون النار فى أمم ثم سار العلاء بن الحضرمى إلى الخط حتى نزل على الساحل، فجاءه نصرانى، فقال له: مالى إن دللتك على مخاضة تخوض منها الخيل إلى دارين، قال: وما تسألنى؟ قال: أهل

بيت بدارين، قال: هم لك، فخاض به وبالخيل إليهم، فظفر عليهم عنوة، وسبى أهلها، ثم رجع إلى عسكره. وقال إبراهيم بن أبى حبيبة: حبس لهم البحر حتى خاضوه إليهم، وجازه العلاء وأصحابه مشيا على أرجلهم، وقد تجرى فيه السفن قبل، ثم جرت فيه بعد، فقاتلهم، فأظفره الله بهم، وسلموا له ما كانوا منعوا من الجزية التى صالحهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويروى أنه كان للعلاء بن الحضرمى ومن كان معه جوار إلى الله تعالى فى خوض هذا البحر، فأجاب الله دعائهم، وفى ذلك يقول عفيف بن المنذر، وكان شاهدا معهم «1» : ألم تر أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الجلائل دعونا الذى شق البحار فجاءنا ... بأعظم من غلق البحار الأوائل وفى حديث غيره، قال: لما رأى ذلك أهل الردة من أهل البحرين سألوه الصلح على ما صالح عليه أهل حجر. ولما ظهر العلاء بن الحضرمى على أهل الردة والمجوس من أهل البحرين، أقام عليها أميرا، وبعث أربعة عشر رجلا من رؤساء عبد القيس وفدا إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، فنزلوا على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وأخبروهما بمسارعتهم إلى الإسلام وقيامهم فى الردة، ثم دخل القوم على أبى بكر، وحضر الزبير وطلحة رضى الله عنهم، فقالوا: يا خليفة رسول الله، إنا قوم أهل إسلام، وليس شىء أحب إلينا من رضاك، ونحن نحب أن تعطينا أرضا من أرض البحرين وطواحين، فأبى أبو بكر، فكلمه فى ذلك طلحة والزبير، فأذعن، وقال: اشهدوا أنى قد فعلت وأعطيتهم كل ما سألونى، وعرفت لهم قدر إسلامهم، فجزوه خيرا. فلما خرجوا من عنده، قال لهم طلحة: إن هذا الأمر لا نراه يليه بعد أبى بكر إلا عمر، فكلموا أبا بكر يكتب لكم كتابا، ويشهد فيه عمر، فلا يكون لعمر بعد هذا اليوم كلام، فعادوا إلى أبى بكر، فذكروا له ذلك، فدعا عبد الله بن الأرقم، فقال: اكتب لهم بهذا الذى أعطيتهم، ففعل، وشهد فى الكتاب عشرة من قريش والأنصار، ولم يكن عمر بن الخطاب حاضرا، فانطلقوا إليه، فأقرأوه الكتاب، فلما قرأه فض الخاتم ثم تفل

_ (1) انظر الأبيات فى: البداية والنهاية (6/ 323) .

فيه، ورده عليه، فأقبل الوفد على طلحة، فقالوا: هذا عملك أنت، أمرتنا أن نشهد عمر، واتهموه فى أمرهم، فقال طلحة: والله ما أردت إلا الخير، فرجعوا إلى أبى بكر غضابا، فخبروه الخبر، ودخل طلحة والزبير، فقالا: والله ما ندرى أنت الخليفة أم عمر، فقال أبو بكر: وما ذاك؟ فأخبروه، فقال: فما صنع عمر بالكتاب؟. قالوا: فض الخاتم وتفل فى الكتاب ومحاه، فقال أبو بكر: لئن كان عمر كره من ذلك شيئا، فإنى لا أفعله، فبينما هم كذلك إذ جاء عمر، فقال له أبو بكر: ما كرهت من هذا الكتاب؟ فقال: كرهت أن تعطى الخاصة دون العامة، ولكن اجعل أمر الناس واحدا لا يكون عندك خاصة دون عامة، وإلا فأنت تقسم على الناس فيئهم، فتأبى أن تفضل أهل السابقة وأهل بدر وتعطى هؤلاء قيمة عشرين ألفا دون الناس، فقال أبو بكر: وفقك الله وجزاك خيرا، فهذا هو الحق. وذكر وثيمة بن موسى: أن بكر بن وائل لما خفت عند ردة العرب بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، قالوا: والله لنردن هذا الملك إلى آل النعمان بن المنذر، فبلغ ذلك كسرى، فبعث فى وجوههم، فقدموا عليه وعنده يومئذ المخارق بن النعمان وهو المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان يسمى الغرور، فقال لهم: سيروا مع المنذر بن النعمان، فإنى قد ملكته، فخذوا البحرين، فساروا، وسارت معه الأساورة، وهم يومئذ ستة آلاف راكب، ثم إن كسرى ندم على تمليك المنذر وتوجيه من وجه معه، وقال: غلام موبق، قتلت أباه، معه كتيبة النعمان من بكر بن وائل يأتون إخوتهم من عبد القيس، وهو غلام فتى السن لم يختبر، هذا خطأ من الرأى، فصرفه إليه، وانكسر المنذر للذى صنع به، ثم عاود كسرى رأيه فيه لكلام بلغه عنه، فأمضاه وسرح معه أبجر بن جابر العجلى، ثم ذكر حديثا طويلا تتخلله أشعار كثيرة لم أر لذكر شىء منها وجها، واستغنيت من حديثهم بما تقدم منه. وذكر أن المنذر لما كان من ظهور الإسلام ما تقدم ذكره هرب إلى الشام، فلحق ببنى جفنة، وندم على ما مضى منه، ثم ألقى الله فى قلبه الإسلام، فأسلم، فكان بعد إسلامه، يقول: لست بالغرور ولكنى المغرور، هذا ما ذكره وثيمة فى شأن الغرور. وذكر سيف فى فتوحه وحكاه الدارقطنى عنه، قال: الغرور بن سويد أسر يوم البحرين، أسره عفيف بن المنذر وأجاره، فأتى به العلاء بن الحضرمى، فقال: إنى قد أجرت هذا، قال: ومن هو؟ قال: الغرور، قال: أنت غررت هؤلاء؟ قال: إنى لست

بالغرور ولكنى المغرور، قال: أسلم، فأسلم، وبقى بهجر، وكان اسمه الغرور وليس بلقب. ذكر ردة أهل دبا وأزد عمان «1» وكان وفد الأزد من أهل دبا قد قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم، مقرين بالإسلام، فبعث عليهم مصدقا منهم، يقال له حذيفة بن اليمان الأزدى، من أهل دبا، وكتب له فرائض صدقات أموالهم، ورسم له أخذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم، ففعل حذيفة ذلك، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بفرائض فضلت من صدقاتهم لم يجد لها موضعا، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، منعوا الصدقة وارتدوا، فدعاهم حذيفة إلى التوبة، فأبوا، وأسمعوه شتم النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: يا قوم، أسمعونى الذى فى أبى وفى أمى، ولا تسمعونى الأذى فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا ذلك، وجعلوا يرتجزون: لقد أتانا خير ردى ... أمست قريش كلها نبى ظلم لعمر الله عبقرى «2» فكتب حذيفة إلى أبى بكر الصديق بما كان منهم، فاغتاظ أبو بكر عليهم غيظا شديدا، وقال: من هؤلاء، ويل لهم، ثم بعث إليهم عكرمة بن أبى جهل، وكان النبى صلى الله عليه وسلم، استعمله على سفلى بن عامر بن صعصعة مصدقا، فلما بلغته وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، انحاز إلى تبالة فى أناس من العرب ثبتوا على الإسلام، فكان مقيما بتبالة من أرض كعب بن ربيعة، فجاءه كتاب أبى بكر الصديق وكان أول بعث بعثه إلى أهل الردة، أن سر فيمن قبلك من المسلمين إلى أهل دبا، فسار عكرمة فى نحو ألفين من المسلمين، ورأس أهل الردة لقيط بن مالك، فلما بلغه مسير عكرمة بعث ألف رجل من الأزد يلقونه، وبلغ عكرمه أنهم فى جموع كثيرة، فبعث طليعة، وكان لأصحاب لقيط أيضا طليعة، فالتقى الطليعتان فتناوشوا ساعة. ثم انكشف أصحاب لقيط، وبعث أصحاب عكرمة فارسا نحو عكرمة، فلما أتاه الخبر أسرع بأصحابه ومن معه حتى لحق طليعته، ثم زحفوا جميعا ميمنة وميسرة، وسار

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 85) ، تاريخ الطبرى (3/ 314) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 323- 325) . (2) انظر الأبيات فى: الروض المعطار ص (232) .

على تعبئته حتى إذا أدرك القوم والتقوا فاقتتلوا ساعة، ثم رزق الله عكرمة عليهم الظفر، فهزمهم وأكثر فيهم القتل، وخرجوا منهزمين راجعين إلى لقيط بن مالك، فأخبروه أن جمع عكرمة مقبل إليهم، وأنهم لا طاقة لهم بهم، وفقدوا من أصحابهم بشرا كثيرا، منهم من قتل ومنهم من أسره عكرمة أسرا. فلما انتهوا إلى لقيط مفلولين قوى حذيفة بن اليمان بمن معه من المسلمين، فناهضهم وناوشهم، وجاء عكرمة فى أصحابه، فقاتل معهم، فأصابوا منهم مائة أو نحوها فى المعركة، ثم انهزموا حتى دخلوا مدينة دبا «1» ، فتحصنوا فيها، وحصرهم المسلمون فى حصنهم شهرا أو نحوه، وشق عليهم الحصار، إذ لم يكونوا أخدوا له أهبته، فأرسلوا إلى حذيفة رجلا منهم يسألونه الصلح، فقال: لا إلا أن أخيرهم بين حرب مجلية أو سلم مخزية، قالوا: أما الحرب المجلية فقد عرفناها، فما السلم المخزية؟. قال: تشهدون أن قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار، وأن ما أخذنا منكم فهو لنا وأن ما أخذتموه منا فهو رد علينا، وأنا على حق وأنكم على باطل وكفر ونحكم فيكم بما رأينا، فأقروا بذلك، فقال: اخرجوا عن مدينتكم عزلا لا سلاح معكم، ففعلوا، فدخل المسلمون حصنهم، فقال حذيفة: إنى قد حكمت فيكم: أن أقتل أشرافكم، وأسبى ذراريكم. فقتل من أشرافهم مائة رجل، وسبى ذراريهم، وقدم حذيفة بسبيهم إلى المدينة وهم ثلاثمائة من المقاتلة، وأربعمائة من الذرية والنساء، وأقام عكرمة بدبا عاملا عليها لأبى بكر، فلما قدم حذيفة بسبيهم المدينة، اختلف فيهم المسلمون، فكان زيد بن ثابت يحدث أن أبا بكر أنزلهم دار رملة بنت الحارث، وهو يريد أن يقتل من بقى من المقاتلة. فكان من كلام عمر له: يا خليفة رسول الله، قوم مؤمنون إنما شحوا على أموالهم، والقوم يقولون: والله ما رجعنا عن الإسلام، ولكن شححنا على أموالنا، فيأبى أبو بكر أن يدعهم بهذا القول، ولم يزالوا موقفين فى دار رملة بنت الحارث، حتى توفى أبو بكر رضى الله عنه، وولى عمر، فدعاهم، فقال: قد كان من رأيى يوم قدم بكم على أبى بكر أن يطلقكم، وقد أفضى إلى الأمر، فانطلقوا إلى أى البلاد شئتم، فأنتم قوم أحرار لا فدية عليكم، فخرجوا حتى نزلوا البصرة، وكان فيهم أبو صفرة والد المهلب، وهو غلام يومئذ، فكان ممن نزل البصرة.

_ (1) دبا: مثل عصا، موضع بظهر الحيرة، ودبا فيما بين عمان والبحرين. انظر: الروض المعطار (232) .

وروى عن ابن عباس: أن رأى المهاجرين فيهم إذا استأسرهم أبو بكر، كان قتلهم، أو فداءهم بأغلى الفداء، وكان عمر يرى أن لا قتل عليهم ولا فداء، لم يزالوا محتبسين حتى ولى عمر، فأرسلهم بغير فداء. ويروى عن عمر بن عبد العزيز: أن عمر بن الخطاب قضى فيهم بأربعمائة درهم فداء، ثم نظر فى ذلك، فقال: لا سباء فى الإسلام وهم أحرار، والأول أكثر. وعن عروة قال: لما قدم أهل غزو دبا قافلين، أعطاهم أبو بكر خمسة دنانير خمسة دنانير «1» . ذكر ردة صنعاء وكان الأسود بن كعب العنسى «2» قد ادعى النبوة فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم، واتبع على ذلك، فتزوج المرزبانة امرأة باذان الفارسى، وكانت من عظماء فارس، وقسرها على ذلك، فأبغضته أشد البغض، وسمعت به بنو الحارث بن كعب، من أهل نجران، وهم يومئذ مسلمون، فأرسلوا إليه يدعونه أن يأتيهم فى بلادهم، فجاءهم، فاتبعوه وارتدوا عن الإسلام. ويقال: دخلها يوم دخلها فى آلاف من حمير، يدعى النبوة، ويشهدون له بها، فنزل غمدان، فلم يتبعه من النخع ولا من جعفى أحد، وتبعه ناس من زبيد ومذحج، وعبس وبنى الحارث وأود ومسلية وحكم. وأقام الأسود بنجران يسيرا، ثم رأى أن صنعاء خير له من نجران، فسار إليها فى ستمائة راكب من بنى الحارث، فنزل صنعاء، فأبت الأبناء أن يصدقوه، فغلب على صنعاء واستذل الأبناء بها، وقهرهم وأساء جوارهم لتكذيبهم إياه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلا من الأزد، وقيل من خزاعة، يقال له وبر بن يحنس إلى الأبناء فى أمر الأسود، فدخل صنعاء مختفيا، فنزل على داذويه الأبناوى فخبأه عنده، وتآمرت الأبناء لقتل الأسود، فتحرك فى قتله نفر منهم قيس بن عبد يغوث المكشوح، وفيروز الديلمى، وداذويه الأبناوى، وكانت المرزبانة كما تقدم قد أبغضت الأسود أشد البغض، فوعدتهم

_ (1) ذكر فى الروض المعطار جميع ما فى هذه القصة (232- 234) . (2) اسمه: عبهلة بن كعب، يقال له: ذو الخمار، لقب بذلك لأنه كان يقول: يأتينى ذو خمار. انظر ترجمته فى المنتظم لابن الجوزى (4/ 18- 20) .

موعدا أتوا لميقاته، وقد سقته الخمر حتى سكر، فسقط نائما كالميت، فدخل عليه فيروز وقيس ونفر معهما، فوجدوه على فراش عظيم من ريش، قد غاب فيه، فأشفق فيروز أن يتعادى عليه السيف إن ضربه به، فوضع ركبته على صدر الكذاب، ثم فتل عنقه فحولها، حتى حول وجهه من قبل ظهره، وأمر فيروز قيسا، فاحتز رأسه، فرمى به إلى الناس، ففض الله الذين اتبعوه، وألقى عليهم الخزى والذلة، وخطب الناس قيس بن مكشوح، وأظهر أن الكذاب قتل بكذبه على الله، وأن محمدا رسول الله. وبلغ الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فى مرضه الذى توفى فيه، فقال صلى الله عليه وسلم، وذكر الأسود: «قتله الرجل الصالح فيروز الديلمى» «1» ، ورد فيروز وداذويه الأمر إلى قيس بن المكشوح، فكان أمير صنعاء، وبها يومئذ جماع من أصحاب الأسود الكذاب، فلما بلغتهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثبت قيس والأبناء وأهل صنعاء على الإسلام، إلا أصحاب الأسود. ثم إن قيسا خاف فيروز وداذويه أن يغلباه على سلطان صنعاء، فأجمع أن يفتك بهما، فأرسل إليهما يدعوهما، فجاء داذويه فقتله، وأقبل فيروز يريده، فأخبره بقتل داذويه، فهرب منه إلى أبى بكر رضى الله عنه، وارتد قيس بن المكشوح، وأخرج الأبناء من صنعاء، فلم يبق بها أحد إلا فى جوار، فكان الشعبى يقول فيما ذكر عنه: باليمن رجلان لو انبغى لأحد أن يسجد لشىء دون الله لانبغى لأهل اليمن أن يسجدوا لهما: سيف بن ذى يزن فى الحبشة، وقيس بن مكشوح فى الأبناء الذين بصنعاء، يعنى إخراج سيف الحبشة وإخراج قيس الأبناء. ولما بلغ خالد بن سعيد بن العاص ردة صنعاء، سار يومها، وكان فى ناحية أرض مراد، حتى دخلها، فاستعداه فيروز على قيس فى قتل داذويه، فبعث إليه من يأتى به، فذهب الرسول فأخذه، ثم أقبل به حتى إذا كان قريبا من صنعاء اختدع قيس الرسول حتى انفلت منه فدخل على خالد فقال: من جاءكم مسلما قد أصاب فى الجاهلية أشياء ماذا عليه؟ فقال له خالد: هدم الإسلام ما قبله، فأسلم قيس، ثم خرج مع خالد إلى الصلاة فيجد فيروز فى المسجد، فقال له: يا فيروز، هل لك حاجة إلى الأمير؟. فانكسر فيروز ودخل على خالد فاستعداه على قيس، فبعث أبو بكر إلى عكرمة بن أبى جهل، وهو يومئذ بأرض عمان: أن سر فى بلاد مهرة حتى تخرج على صنعاء، فخذ

_ (1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (37472) .

قيس بن مكشوح المرادى، فابعث به إلى فى وثاق، فسار عكرمة حتى دخل أرض مهرة، فقتل فيهم وسبى، وسار كذلك لا يطأ قوما إلا قاتلوه وقاتلهم، فقتل منهم وسبى، حتى رجعوا إلى الإسلام، وبعث بسبيهم إلى أبى بكر بالمدينة، ثم مضى على وجهه حتى خرج إلى صنعاء، فلقيه قيس وهو لا يدرى بالذى أمر فيه، فأمر به عكرمة، فجعل فى جامعة، وبعث به إلى أبى بكر، فلما دخل عليه عرفه أبو بكر بقتل داذويه، فحلف له ما يدرى من أمره شيئا، ولا يدرى من قتله، ورغب فى الجهاد فى سبيل الله، فخرج إلى قومه من مذحج، فاستجلبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه، فخفوا فى ذلك وخرجوا حتى توجهوا إلى من بعث أبو بكر إلى الشام، فذلك أول نزول مذحج الشام. ثم إن الأصفر العكى خرج هو وجماعة من قومه ممن ثبت على الإسلام حتى دخل نجران «1» ، وهو يريد قتال بنى الحارث بن كعب، فلما دخل عليهم الأصفر رجعوا إلى الإسلام من غير قتال، فأقام الأصفر فى نجران، وضبطها، وغلب عليها ثم أمر أبو بكر المهاجر بن أبى أمية أن يستنفر من مر به من مضر ويقويهم ويعطيهم من مال أعطاه إياه أبو بكر، فسار المهاجر يؤم صنعاء، معه سرية من المهاجرين والأنصار، فيجد المهاجر بنجران الأصفر العكى، ثم سار المهاجر إلى صنعاء ومعه بشر كثير، فلقى جماعة من أصحاب الأسود منفصين، فأخذ عليهم الطريق وألجأهم إلى غيضة، فقتل منهم وأسر، ثم أقبل بالأسرى، ومضى حتى دخل صنعاء، وقد كانت طوائف من زبيد «2» ارتدت منهم عمرو بن معدى كرب، فاجتمع إلى خالد بن سعيد من ثبت على الإسلام من مراد وسائر مذحج، فلقى بهم بنى زبيد، فانهزموا وظفر بهم خالد، فسبى منهم نسوة، منهن امرأة عمرو بن معدى كرب جلالة، وكانت أحسن النساء، وكان عمرو فيما ذكروا، غائبا عن ذلك القتال، فلما ظفر خالد، سألت منه زبيد أن يقرهم على الإسلام ويكف عنهم، فكف عنهم، وأسلموا، وبلغ الخبر عمرا، فأقبل حتى نزل بجانب عسكر خالد، ثم خرج ليلا فتلطف حتى لقى جلالة، فقال لها: يا جلالة، ما صنع بك خالد؟ فقالت: لم يصنع بى إلا خيرا، ولم يعرض علىّ من أمره إلا كرما، قال: هل قربك؟ قالت: لا والله، وما يحل له ذلك فى دينه، قال: فو رب الكعبة إن دينا منعه منك لدين صدق.

_ (1) نجران: من بلاد اليمن، سميت بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. انظر: الروض المعطار (573- 576) . (2) زبيد: مدينة باليمن بقرب الجند ومعاثر، تسير فى صحراء رمال حتى تنتهى إلى زبيد، وليس باليمن بعد صنعاء أكبر من زبيد. انظر: الروض المعطار (284) ، نزهة المشتاق (20) .

فلما أصبح عمرو غدا على خالد، فقال: ما تريد يا خالد بجلالة؟ قال: قد أسلمت، فإن تسلم أردها إليك، فأسلم عمرو، فردها إليه. وقدم خالد المدينة، ثم قدم عمرو بن معدى كرب المدينة، فدخل على خالد داره، فقال له: إنى والله ما وجدت شيئا أكافئك به فى جلالة إلا سيفى الصمصامة، ثم خلعه من عنقه فناوله إياه، وقال عمرو: وهبت لخالد سيفى ثوابا ... على الصمصامة السيف السلام خليل لم أخنه ولم يخنى ... ولكن التواهب فى الكرام ذكر ردة كندة وحضرموت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قدم عليه وفد كندة مسلمين استعمل عليهم زياد بن لبيد الأنصارى البياضى «1» ، وأمره بالمسير معهم، ففعل، وأقام معهم فى ديارهم يأخذ صدقاتهم حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلا مسلما، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولى أبو بكر، بعث أبا هند مولى بنى بياضة، بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى زياد بن لبيد، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإن النبى صلى الله عليه وسلم توفى، فإنا لله، وإنا إليه راجعون، فانظر ولا قوة إلا بالله أن تقوم قيام مثلك، ويبايع من عندك، فنمن أبى وطئته بالسيف، وتستعين بمن أقبل على من أدبر، فإن الله مظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون. فلما قدم أبو هند بكتاب أبى بكر رحمه الله، على زياد بن لبيد، قدم من الليل، وأخبره باجتماع الناس على أبى بكر، وأنه لم يكن بين المسلمين اختلاف، فحمد الله زياد على ذلك، فلما أصبح زياد غدا يقرئ الناس كما كان يفعل قبل ذلك، ثم دخل بيته، فلما جاءت الظهر، خرج إلى الصلاة وعليه السيف، فقال بعض الناس: ما شأن أميركم والسيف، فصلى الظهر بالناس، ثم قال:

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (839) ، الإصابة الترجمة رقم (2871) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1809) ، التاريخ الكبير (3/ 344) ، أنساب الأشراف (1/ 245) ، الجرح والتعديل (3/ 543) ، تهذيب الكمال (9/ 506) ، تهذيب التهذيب (3/ 382) ، الوافى بالوفيات (15/ 10) ، تاريخ الإسلام (1/ 52) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 195) .

أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد توفى، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، وقد اجتمع المسلمون على أفضلهم من أنفسهم ولم يكن بينهم اختلاف فى أبى بكر بن أبى قحافة، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم، يأمره فى مرضه أن يصلى بالناس، فبايعوا أيها الناس، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا. فقال الأشعث بن قيس: إذا اجتمع الناس، فما أنا إلا كأحدهم، ونكص عن التقدم إلى البيعة، فقال امرؤ القيس بن عابس الكندى: أنشدك الله يا أشعث، ووفادتك على النبى صلى الله عليه وسلم، وإسلامك أن تنقضه اليوم، والله ليقومن بهذا الأمر من بعده من يقتل من خالفه، فإياك إياك، أبق على نفسك فإنك إن تقدمت تقدم الناس معك، وإن تأخرت افترقوا واختلفوا، فأبى الأشعث، وقال: قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد، ونحن أقصى العرب دارا من أبى بكر، أيبعث أبو بكر إلينا الجيوش؟ قال: أى والله، وأحرى أن لا يدعك عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجع إلى الكفر. قال الأشعث: من قال زياد بن لبيد، فتضاحك، ثم قال: أما يرضى زياد أن أجيره، فقال امرؤ القيس: سترى، ثم قام الأشعث، فخرج من المسجد إلى منزله، وقد أظهر ما أظهره من الكلام القبيح من غير أن يكون نطق بالردة، ووقف يتربص، وقال: نقف أموالنا بأيدينا ولا ندفعها، ونكون من آخر الناس، وبايع زياد بن لبيد لأبى بكر من بعد الظهر إلى أن قامت العصر، فصلى بالناس العصر، ثم انصرف إلى بيته، ثم غدا على الصدقة من الغد كما كان قبل، وهو أقوى ما كان نفسا، وأشده لسانا، فبينا هو يصدق إلى أن أخذ قلوصا فى الصدقة من فتى من كندة، فلما أمر بها زياد تعقل وتوسم بميسم السلطان، وكان الميسم لله، أتى الفتى، فصاح: يا حارثة بن سراقة «1» ، يا أبا معدى كرب، عقلت البكرة، فأتى حارثة إلى زياد، فقال: أطلق للفتى بكرته، فأبى زياد، فقال: قد عقلتها ووسمتها بميسم السلطان، فقال حارثة: أطلقها أيها الرجل طائعا، خير من أن تطلقها وأنت كاره، قال زياد: لا والله لا أطلقها ولا نعمت عين. فقام حارثة فحل عقالها وضرب على جنبها، فخرجت القلوص تعدو إلى الأنهار، وجعل حارثة يقول: أطعنا رسول الله ما كان وسطنا ... فيا قوم ما شأنى وشأن أبى بكر أيورثها بكرا إذا مات بعده ... فتلك إذا والله قاصمة الظهر

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (459) ، الإصابة الترجمة رقم (1529) ، أسد الغابة الترجمة رقم (993) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 112) ، الجرح والتعديل (1/ 145) ، شذرات الذهب (1/ 9) ، تصحيفات المحدثين (976) .

قالوا: فكان زياد يقاتلهم النهار إلى الليل، فلما كان يوم من تلك الأيام، ضاربهم كذلك حتى أمسى، ولم يكن فيما مضى يوم أشد منه، كانت بينهم فيه قتلى وجراح. قال أبو هند: برز منهم يومئذ رجل يدعو إلى البراز، فبرزت إليه، فتشاولنا بالرمحين نهارا طويلا، فلم يظفر واحد منا بصاحبه، ثم صرنا إلى السيفين، فما قدر واحد منا على صاحبه، ونحن فارسان إلى أن عثر فرسه، فاقتحم وصار راجلا، ويدرك فرسى فيضرب عرقوبيه، فوقعت إلى الأرض، وأفضى أحدنا إلى صاحبه، فبدرته، فأضربه، فأقطع يده من المنكب، فوقع السيف من يده، وولى منهزما، وألحقه، فأجهزت عليه، فما خرج أحد يدعو إلى البراز حتى صلح أمرهم. قالوا: فلما أمسوا من ذلك اليوم، وتفرقوا، وزياد فى بيته قد بعث العيون، إذ جاءه عين له بعد أن ذهب عامة الليل فدله على عورة من عدوه، وقال: هل لك فى الظفر؟ فقال: ما هو؟ قال: ملوكهم الأربعة فى محجرهم قد ثملوا من الشراب، فسار من ساعته فى مائة رجل من أصحابه حتى انتهوا إلى المحجر، فتقدم العين فاستمع الصوت فإذا القوم قد هدوا وناموا، فأغار عليهم، فقتل الملوك الأربعة، مخرس ومشرح وحمد وأبضعة، وأختهم العمرة ذبحهم ذبحا، وكانوا ملوك كندة وأشرافهم. ويقال: كانت الملوك سبعة: الأشعث بن قيس، ومخرس، وحمد، ووديعة، وأبضعة، ومشرح، ووليعة. فقتل منهم أربعة، ثم رجع زياد إلى أهله، فأصبح القوم قد انكسر حدهم وذلوا. وقالوا: إن العمردة لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضربت بغربال، فقطع زياد لذلك يدها، وصلبها، فهى كانت أول امرأة قتلت فى الردة. وبعث زياد أبا هند إلى أبى بكر وكتب معه: بسم الله الرحمن الرحيم، لأبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من زياد بن لبيد، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الناس قبلنا منعوا الصدقة، أو عامتهم وأبوا أن يسلموها، وقاتلوا دونها أشد القتال، وأظهروا الردة عن الإسلام، فبعثت عيونا فى طلب غرتهم، فأتانى آت منهم يخبرنى بغرة منهم، فزحفت إليهم ليلا، فقتلتهم فى محجرهم، وكانوا أربعة: مخرس ومشرح وحمد وأبضعة، وأختهم العمردة، فأصبحوا وقد ذلوا وانكسروا، وإنى كتبت إليك والسيف على عاتقى، وبعثت إليك أبا هند بالكتاب، وأمرته أن يجد السير، وأن يخبرك بما رأى وشهد، وإن الكتاب موجز، وعنده علم ما كنا فيه، والسلام.

فيروى أن أبا هند قال: خرجت من عند زياد بعد أن صليت الغداة على راحلتى، ومعى رجل من بنى قتيرة على راحلة خفير لى، فبلغ بى صنعاء، ثم انصرف، فسرت من حضرموت إلى المدينة تسع عشرة، فأرخفت «1» راحلتى، وما مسيت عنها أكثر مما ركبت، وانتهيت إلى أبى بكر، فأجده حين خرج إلى الصلاة، فلما رآنى قال: أبا هند، ما ورائك؟ قلت: خير، والذى يسرك. قتل الملوك الأربعة وأختهم العمردة، قال: قد كنت كتبت إلى زياد أنهى أن يقتل الملوك من كندة، وبعثت بذلك المغيرة بن شعبة، أما لقيته؟ قلت: ما لقيته. وقدم المغيرة خلافى، وذلك أنه أخطأ الطريق، فذلك الذى أبطأ به، وجعل أبو بكر يسألنى، فأخبره عن كل ما يسره، ثم قال: ما فعل الأشعث بن قيس؟ قلت: يا خليفة رسول الله، هو أول من نقض، وهو رأس من بقى، وقد ضوى إليه ناس كثير، وقد تحصن فى النجير بمن معه ممن هو على رأيه، والله مخزيهم، وقد تركت زياد بن لبيد يريد محاصرتهم، فقال أبو بكر: قد كتبت إلى المهاجر بن أبى أمية أن يمد زيادا ويكون أمرهما واحدا. وكان النبى صلى الله عليه وسلم، لما قتل الأسود العنسى «2» بعث المهاجر واليا على صنعاء، فتوفى صلى الله عليه وسلم، والمهاجر وال عليها، فانحاز إلى زياد بحضرموت، كما أمره أبو بكر. وكانت قتيرة من كندة قد ثبتت على الإسلام، لم يرجع منها رجل واحد، فلما قدم المهاجر على زياد اشتد أمرهما، وكانا يحاصران أهل النجير، وكان أهل النجير قد غلقوه، فلما قتل الملوك الأربعة دخلوا مع الأشعث بن قيس، وجثم زياد ومهاجر على النجير، فحاصروا أهله بالمسلمين، لا يفارقونه ليلا ولا نهارا، وقذف الله الرعب فى أفئدتهم، فلما اشتد به الحصار، بعثوا إلى زياد بن لبيد: أن تنح عنا حتى نكون نخرج ونخليك والحصن، فقال: لا أبرح شبرا واحدا حتى نموت من آخرنا أو تنزلوا على حكما ورأينا، وجعل يكايدهم لما يرى من جزعهم. فكتب كتابا، ثم بعث به فى السر مع رجل من بنى قتيرة ليلا، مسيرة يوم أو بعض يوم، ثم يأتيه بكتابه الذى كتبه فيقرؤه على الناس: من أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى زياد بن لبيد، سلام عليك، فإنى أحمد إليك

_ (1) أرخف: بالكسر أى تعب. انظر اللسان (1616) . (2) انظر خبر قتل الأسود العنسى فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 19) ، تاريخ الطبرى (3/ 236) .

الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فقد بلغنى ردة من ارتد قبلك بعد المعرفة بالدين، غرة بالله، والله مخزيهم إن شاء الله، فاحصرهم ولا تقبل منهم إلا ما خرجوا منه أو السيف. فقد بعثت إليك عشرة آلاف رجل عليهم فلان بن فلان، وخمسة آلاف عليهم فلان بن فلان، وقد أمرتهم أن يسمعوا لك ويطيعوا، فإذا جاءك كتابى هذا فإن أظفرك الله بهم فإياك والبقيا فى أهل النجير، حرق حصنهم بالنار، واقطع معايشهم، واقتل المقاتلة، واسب الذرية، وابعث بهم إن شاء الله. وإنما هذا كتاب كتبه زياد بيده مكايدة لعدوه، فكانوا إذا قرئ عليهم هذا الكتاب أيقنوا بالهلكة، واشتد عليهم الحصار، وندموا على ما صنعوا، فبينا هم على ذلك الحصار قد جهدهم، قال الأشعث: إلى متى هذا الحصر قد غرثنا وغرث عيالنا، وهذه البعوث تقدم علينا بما لا قبل لنا به، وقد ضعفنا عمن معنا، فكيف بمن يأتينا من هذه الأمداد والله للموت بالسيف أحسن من الموت بالجوع، أو يؤخذ برقبة الرجل كما يصنع بالذرية. قالوا: وهل لنا قوة بالقوم؟ فما ترى لنا؟ فأنت سيدنا، قال: أنزل فآخذ لكم الأمان قبل أن تدخل هذه الأمداد، بما لا قبل لنا به، فجعل أهل الحصن يقولون للأشعث: افعل وخذ لنا أمانا، فإنه ليس أحد أجرأ على ما قبل زياد منك، قال: فأنا أنزل. فأرسل إلى زياد: أنزل فأكلمك وأنا آمن؟ قال: نعم، فنزل الأشعث من النجير فخلا بزياد، فقال: يا ابن عم، قد كان هذا الأمر ولم يبارك لنا فيه، وإن لى قرابة ورحما، وإن أوصلتنى إلى صاحبك قتلنى، يعنى المهاجر بن أمية «1» ، وأن أبا بكر يكره قتل مثلى، وقد جاءك كتابه ينهاك عن قتل الملوك من كندة، فأنا أحدهم، وأنا أطلب منك الأمان على أهلى ومالى، فقال زياد: لا أؤمنك أبدا على دمك وأنت كنت رأس الردة والذى نقض علىّ كندة، فقال: أيها الرجل، دع ما مضى واستقبل الأمور إذا أقبلت، قال زياد: وماذا؟ قال: وأفتح لك النجير، فأمنه زياد على أهله وماله، على أن يقدم به على أبى بكر، فيرى فيه رأيه، وفتح له النجير. وقد كان المهاجر لما نزل الأشعث من الحصن ليكلمهم، قال لزياد: رده إلى الحصن حتى ينزل على حكمنا فنضرب عنقه، فنكون قد استأصلنا شأفة الردة، فأبى زياد إلا أن يؤمنه، وقال: أخشى أن يلومنى أبو بكر فى قتله وقد جاءنى كتابه ينهانى عن قتل الملوك الأربعة، فأخاف مثل ذلك، مع أن أبا بكر إن أراد قتله فله ذلك، إنما جعل له الأمان على

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2531) ، الإصابة الترجمة رقم (8271) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5134) ، مؤتلف الدارقطنى (ص 163) .

نفسه وماله إلى أن يبلغ أبا بكر، لا أدع من عين ماله شيئا يخف حمله معه إلا سار به، وأحول بينه وبين ما هاهنا مما لا يطيق حمله، حتى يأتى رأى أبى بكر فيه، فأمنه زياد على أن يبعث به وبأهله وبماله إلى أبى بكر رضى الله عنه، فيحكم فيه بما يرى. وفتحوا له النجير، فأخرجوا المقاتلة، فعمد زياد إلى أشرافهم وهم سبعمائة فضرب أعناقهم على دم واحد، ولام القوم الأشعث، فقالوا لزياد: غدر بنا فأخذ الأمان لنفسه وأهله، ولم يأخذ لنا، وإنما نزل على أن يأخذ لنا جميعا، فنزلنا ونحن آمنون، فقتلنا. فقال زياد: ما أمنتكم، فقالوا: صدقت، خدعنا الأشعث. قال الواقدى: وقد ذكروا فى فتح النجير وجها آخر عن أبى مغيث، قال: كنت فيمن حضر أهل النجير، فصالح الأشعث زيادا على أن يؤمن من أهل النجير سبعين رجلا، ففعل، فنزل سبعون رجلا ونزل معهم الأشعث، فكانوا أحدا وسبعين، فقال زياد: أقتلك، لم يكن لك أمان، فقال الأشعث: تؤمننى على أن أقدم على أبى بكر فيرى فىّ رأيه، فآمنه على ذلك، والقول الأول أثبت. وبعث أبو بكر نهيك بن أوس بن [حزمة] «1» إلى زياد بن لبيد يقول: إن ظفرت بأهل النجير فاستبقهم، فقدم عليه ليلا وقد قتل منهم فى أول النهار سبعمائة فى صعيد واحد، قال نهيك: فما هو إلا أن رأيتهم فشبهت بهم قتلى بنى قريظة يوم قتلهم النبى صلى الله عليه وسلم، وأبى زياد أن يوارى جثثهم، وتركهم للسباع، فكان هذا أشد على من بقى من القتل، وهرب أهل الردة فى كل وجه، وكان لا يؤخذ منهم إنسان إلا قتل. ثم بعث زياد بالسبى مع نهيك، وبعث معه ثمانين رجلا من قتيرة، وبعث بالأشعث معهم فى وثاق. قال عبد الرحمن بن الحويرث: رأيته يوم قدم به المدينة فى حديد، مجموعة يداه إلى عنقه. ونزل نهيك بالسبى فى دار رملة بنت الحارث، ومعهم الأشعث بن قيس، ولما كلمه أبو بكر جعل يقول: يا خليفة رسول الله، والله ما كفرت بعد إسلامى، ولكنى شححت على مالى، فقال أبو بكر: ألست الذى يقول: قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد، وأبو بكر يبعث إلينا الجيوش ونحن أقصى العرب دارا؟ فرد عليك من هو

_ (1) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل، وفى الاستيعاب الترجمة رقم (2667) : «نهيك بن أوس بن خزمة» . وانظر ترجمته فى: الإصابة (8839) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5310) .

خير منك، فقال: لا يدعك عامله ترجع إلى الكفر، فقلت: من، قال: زياد بن لبيد، فتضاحكت، فكيف وجدت زيادا، أذكرت به أمه؟ قال الأشعث: نعم كل الأذكار، ثم قال فى آخر قوله: أيها الرجل، أطلق إسارى، واستبقنى لحربك، وزوجنى أختك أم فروة بنت أبى قحافة، فإنى قد تبت مما صنعت، ورجعت إلى ما خرجت منه من منع الصدقة، فأسعفه أبو بكر فزوجه، فكان الأشعث مقيما بالمدينة حتى كانت ولاية عمر بن الخطاب، وثاب الناس إلى فتح العراق، فخرج الأشعث مع سعد بن أبى وقاص. قالوا: وقدم على أبى بكر رضى الله عنه، أربعة عشر رجلا من كندة يطلبون أن يفادوا بينهم، وقالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رجعنا عن الإسلام ولكن شححنا على أموالنا، وقد رجع من وراءنا إلى ما خرجوا منه وبايعوك راضين، فقال أبو بكر: بعد ماذا؟ بعد أن وطئكم السيف؟ فقالوا: يا خليفة رسول الله، إن الأشعث غدر بنا، كنا جميعا فى الحصن، فكان أجزعنا، وكان أول من نقض، وأبى أن يدفع الصدقة، وأمرنا بذلك، ورأسنا، فلم يبارك لنا فى رياسته. فقال: أنزل وآخذ لكم الأمان جميعا، فإن لم يكن رجعت إليكم فيصيا بنى ما يصيبكم، فنزل، فأخذ الأمان لنفسه وأهله ومواليه، وقتلنا صبرا بالسيف. فقال أبو بكر رضى الله عنه: قد كنت كتبت إلى زياد بن مهاجر كتابا مع نهيك بن أوس إن ظفرتما بأهل النجير فلا تقتلاهم وأنزلاهم على حكمى. فقال المتكلم: قد والله قتل منا سبعمائة على دم واحد، وقد رجوناك يا خليفة رسول الله. ولما كلمه الوفد فى أن يرد عليهم السبى ويقبل منهم الفداء أجاب إلى ذلك، وخطب الناس على المنبر، فقال: أيها الناس، ردوا على هؤلاء نساءهم وذراريهم، لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغيب عنهم أحدا، قد جعلنا الفداء على كل رأس منهم أربعمائة درهم. وأمر أبو بكر زيد بن ثابت بقبض الفداء، وأمره أيضا بإخراج الخمس. قال الواقدى: سألت معاذ بن محمد فقلت: أرأيت الأربعة الأخماس، حيث أمر أبو بكر أن يفدوا بأربعمائة أربعمائة، ما فعل بها؟ قال: جمع أبو بكر ذلك كله فجعله سهمانا لأهل النجير مع ما استخرج زياد بن لبيد والمهاجر مما وجدوا فى الحصن النجير من الرثة والسلاح، ومما أصابوا من غير ذلك، فجعلوه مغنما.

وكان أبو بكر قد أمد زيادا والمهاجر بعكرمة بن أبى جهل وهو يومئذ بدبا، فسار إليهم فى سبعمائة فارس، وقدم بعد فتح النجير بأربعة أيام، فأمر أبو بكر بأن يسهم لهم فى ذلك، فأسهم لهم. ونظرت عجوز من سبى النجير إلى الأشعث بن قيس، فقالت: قبحت من وافد قوم ورسولهم، أخذت الأمان لأهلك ومواليك وعرضتنا للسباء، وقتلت رجالنا بغدرك، ولم تواسهم بنفسك، وأنت شأمتهم، رأسوك فلم يبارك لهم فى رياستك، والله ما رجعوا عن الإسلام ولكن شحوا على أموالهم، فقتلوا، ورجعت أنت عن الإسلام فنجوت، ما كان أحد قط، أشأم على قومه منك. ومما يحفظ من شعر الأشعث، يذكر الجماعة الذين ضرب زياد أعناقهم من أهل النجير وهم سبعمائة كما تقدم: فلا رزء إلا يوم أقرع بينهم ... وما الدهر عندى بعدهم بأمين فليت جنوب الناس تحت جنوبهم ... ولم تمش أنثى بعدهم بجنين فكنت كذات البو ضغت فأقبلت ... إلى بوها أو طربت بحنين لغمرى وما عمرى على بهين ... لقد كنت بالقتلى أحق ضنين ويروى أن الأشعث إنما قال هذا فى الملوك الأربعة الذين قتلوا، ومن روى هذا أنشد الشعر هكذا: لعمرى وما عمرىّ على بهين ... لقد كنت بالأملاك حق ضنين فإن يك هذا الدهر فرق بينهم ... فما الدهر عندى بعدهم بأمين فليت جنوب الناس تحت جنوبهم ... ولم يبشرونى بعدهم بجنين وكنت كذات البو ريعت فأقبلت ... على بوها أو طربت بحنين ذكر بدء الغزو إلى الشام وما وقع فى نفس أبى بكر الصديق رضى الله عنه، من ذلك وما قوى عزمه عليه «1» حدث سهل بن سعد الساعدى رضى الله عنه، قال: لما فرغ أبو بكر رضى الله عنه، من أهل الردة، واستقامت له العرب، حدث نفسه بغزو الروم، ولم يطلع عليه أحدا، فبينما هو كذلك إذ جاءه شرحبيل بن حسنة فجلس إليه، فقال: يا خليفة رسول الله

_ (1) راجع المنتظم لابن الجوزى (4/ 115) ، تاريخ الطبرى (3/ 387) .

أحدثت نفسك أن تبعث إلى الشام جندا؟ قال: نعم، قد حدثت نفسى بذلك ولم أطلع عليه أحدا، وما سألتنى إلا لشىء. قال: أجل، إنى رأيت فيما يرى النائم كأنك تمشى فى ناس من المسلمين فوق حرشفة من الجبل، فأقبلت تمشى معهم حتى صعدت قلة فى أعاليه، فأشرفت على الناس ومعك أصحابك أولئك، ثم هبطت من تلك القلة إلى أرض سهلة دمثة، فيها الزروع والعيون والقرى والحصون، فقلت: يا للمسلمين! شنوا الغار على المشركين، فأنا ضامن لكم بالفتح والغنيمة!. فشد المسلمون وأنا فيهم ومعى راية، فتوجهت بها إلى قرية فسألونى الأمان فأمنتهم، ثم جئت فأجدك قد انتهيت إلى حصن عظيم، ففتح لك، وألقوا إليك السلم، ووضع لك عريش فجلست عليه، ثم قال لك قائل: يفتح عليك وتنصر فاشكر ربك واعمل بطاعته، ثم قرأ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر: 1، 4] . ثم انتهيت، فقال له أبو بكر رضى الله عنه: نامت عينك، ثم دمعت عينا أبى بكر رضى الله عنه، فقال: أما الحرشفة التى كنا نمشى عليها حتى صعدنا منها إلى القلة لعالية فأشرفنا منها على الناس فإنا نكابد من أمر هذا الجند مشقة ويكابدونها ثم نعلو بعد ويعلو أمرنا، وأما نزولنا من القلة إلى الأرض السهلة الدمثة وما فيها من الزروع والعيون والقرى والحصون فإنا ننزل إلى أمر أسهل مما كنا فيه، فيه الخصب والمعاش، وأما قولى للمسلمين: شنوا عليهم الغارة، فإنى ضامن لكم بالفتح والغنيمة، فإن ذلك توجيهى للمسلمين إلى بلاد المشركين واحتثاثى إياهم على الجهاد، وأما الراية التى كانت معك فتوجهت بها إلى قرية من قراهم فدخلتها فاستأمنوك فأمنتهم فإنك تكون أحد أمراء المسلمين ويفتح الله على يديك، وأما الحصن الذى فتح لنا فهو ذلك الوجه، يفتحه الله علىّ، وأما العريش الذى رأيتنى عليه جالسا، فإن الله يرفعنى ويضع المشركين، وأما الذى أمرنى بالعمل وبالطاعة وقرأ علىّ السورة فإنه نعى إلىّ نفسى، إن هذه السورة حين أنزلت على النبى صلى الله عليه وسلم، علم أن نفسه قد نعيت إليه، ثم سألت عينا أبى بكر، فقال: لآمرن بالمعروف ولأنهين عن المنكر ولأجاهدن من ترك أمر الله ولأجهزن الجنود إلى العادلين بالله فى مشارق الأرض ومغاربها حتى يقولوا: الله أحد، الله أحد، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أمر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا توفانى الله لم يجدنى وانيا، ولا فى ثواب المجاهدين فيه زاهدا، ثم إنه عند ذلك أمر الأمراء، وبعث إلى الشام البعوث. وعن عبد الله بن أبى أوفى الخزاعى، وكانت له صحبة، قال: لما أراد أبو بكر أن

يجهز الجنود إلى الشام دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبى وقاص وأبا عبيدة بن الجراح، ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه وأنا فيهم، فقال: إن الله تبارك وتعالى، لا تحصى نعمه، ولا تبلغ جزاءها، الأعمال، فله الحمد كثيرا على ما اصطنع عندكم، قد جمع كلمتكم، وأصلح ذات بينكم، وهداكم إلى الإسلام، ونفى عنكم الشيطان، فليس يطمع أن تشركوا بالله ولا أن تتخذوا إلها غيره، فالعرب اليوم بنو أم وأب، وقد رأيت أن أستنفرهم إلى الروم بالشام، فمن هلك منهم هلك شهيدا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش منهم عاش مدافعا عن الدين، مستوجبا على الله ثواب المجاهدين، هذا رأيى الذى رأيت، فليشر على كل امرئ بمبلغ رأيه» . فقام عمر رضى الله عنه، فقال: الحمد لله الذى يخص بالخير من يشاء من خلقه، والله ما استبقنا إلى شىء من الخير إلا سبقتنا إليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قد والله أردت لقاءك بهذا الرأى الذى ذكرت غير مرة، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن، فقد أصبت، أصاب الله بك سبيل الرشاد، سرب إليهم الخيل فى أثر الخيل، وابعث الرجال بعد الرجال، والجنود يتبعها الجنود، فإن الله تعالى ناصر دينه، ومعز الإسلام وأهله، ومنجز ما وعده رسوله. ثم إن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه قام، فقال: يا خليفة رسول الله، إنما الروم بنو الأصفر حد حديد، وركن شديد، والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحاما، ولكن تبعث الخيل فتغير فى أدنى أرضهم، وترجع إليك، فإذا فعلوا ذلك مرارا أضروا بهم، وغنموا من أدانى أرضهم، فقووا بذلك على قتالهم، ثم تبعث إلى أقاصى أهل اليمن، وأقاصى ربيعة ومضر، فتجمعهم إليك جميعا، فإن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك، وإن شئت أغزيتهم غيرك. ثم جلس وسكت، وسكت الناس، فقال لهم أبو بكر: ماذا ترون رحمكم الله؟ فقام عثمان بن عفان رضى الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال: نرى أنك ناصح لأهل هذا الدين، شفيق عليهم، فإذا رأيت رأيا تراه لعامتهم رشدا وصلاحا فاعزم على إمضائه، فإنك غير ضنين عليهم ولا متهم. فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد وجميع من حضر ذلك المجلس

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى ص (1 وما بعدها) .

من المهاجرين والأنصار: صدق عثمان، ما رأيت من الرأى فامضه، فإنا سامعون لك، مطيعون، لا نخالف أمرك، ولا نتهم رأيك، ولا نتخلف عن دعوتك وإجابتك. فذكروا هذا وأشباهه، وعلى رضى الله عنه، فى القوم لا يتكلم، فقال له أبو بكر رضى الله عنهما: ماذا ترى يا أبا الحسن؟ فقال: أرى أنك مبارك الأمر، ميمون النقيبة، وإنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت إن شاء الله تعالى. قال: بشرك الله بخير، ومن أين علمت هذا؟. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «لا يزال هذا الدين ظاهرا على كل من ناوأه حتى تقوم الساعة وأهله ظاهرون» «1» . فقال أبو بكر: سبحانه الله! ما أحسن هذا الحديث، لقد سررتنى به، سرك الله فى الدنيا والآخرة. ثم إنه قام فى الناس فذكر الله بما هو أهله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس، إن الله تعالى، قد أنعم عليكم بالإسلام، وأعزكم بالجهاد، وفضلكم بهذا الدين على أهل كل دين، فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام، فإنى مؤمر عليكم أمراء، وعاقد لهم عليكم، فأطيعوا ربكم، ولا تخالفوا أمراءكم، ولتحسن نيتكم وسريرتكم وطعمتكم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. فسكت القوم، فو الله ما أجابه أحد هيبة لغزو الروم، لما يعلمون من كثرة عددهم وشدة شوكتهم، فقام عمر رحمه الله، فقال: يا معشر المسلمين، ما لكم لا تجيبون خليفة رسول الله إذا دعاكم لما يحييكم؟ أما لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لا بتدرتموه! فقام إليه عمرو بن سعيد فقال: يا ابن الخطاب، ألنا تضرب أمثال المنافقين؟ فما يمنعك مما عتبت علينا فيه؟. فقال: الاتكال، على أنه يعلم أنى أجيبه لو يدعونى، وأغزو لو يغزينى. فقال عمرو: ولكن نحن لا نغزو لكم إن غزونا، فإنما نغزو لله، فقال أبو بكر لعمرو: اجلس رحمك الله، فإن عمر لم يرد بما سمعت أذى مسلم ولا تأنيبه، إنما أراد أن يبعث بما سمعت المتثاقلين إلى الأرض عن الجهاد، فقام خالد بن سعيد «2» فقال: صدق خليفة

_ (1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 87) ، المستدرك للحاكم (4/ 449) ، كنز العمال للمتقى الهندى (14172، 34558) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 18) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (617) ، الإصابة الترجمة رقم (2172) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1365) ، نسب قريش (174) ، طبقات ابن خليفة (11/ 298) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (172) ، تاريخ الإسلام (1/ 378) ، العقد الثمين (4/ 267) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس يا أخى، فجلس أخوه، فقال خالد: الحمد لله الذى لا إله إلا هو، الذى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فالله منجز وعده، ومعز دينه، ومهلك عدوه. ثم أقبل على أبى بكر فقال: ونحن أولا غير مخالفين لك، ولا متخلفين عنك، وأنت الوالى الناصح الشفيق، ننفر إذا استنفرتنا، ونطيعك إذا أمرتنا، ونجيبك إذا دعوتنا، ففرح بمقالته أبو بكر رضى الله عنه، وقال له: جزاك الله خيرا من أخ وخليل، فقد أسلمت مرتغبا، وهاجرت محتسبا، وهربت بدينك من الكفار لكى يطاع الله ورسوله وتعلو كلمته، فأنت أمير الناس، فتيسر رحمك الله. ثم إنه نزل، ورجع خالد بن سعيد فتجهز، وأمر أبو بكر رضى الله عنه، بلالا فأذن فى الناس: انفروا أيها الناس إلى جهاد عدوكم: الروم بالشام، وأمير الناس خالد بن سعيد، فكان الناس لا يشكون أن خالدا أميرهم، وكان خالد بن سعيد من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، على اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء المدينة وقد استخلف الناس أبا بكر، فاحتبس عن أبى بكر ببيعته أياما، وأتى بنى هاشم وقال: أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار، فإذا رضيتم رضينا، وإذا سخطتم سخطنا، حدثونى: أبايعتم هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: على بر ورضى من جماعتكم؟ قالوا: نعم، قال: فإنى أرضى إذا رضيتم، وأبايع إذا بايعتم، أما أنكم والله يا بنى هاشم فينا لطوال الشجر، طيبو الثمر، ثم بايع أبا بكر بعد ذلك. وبلغت مقالته أبا بكر فلم يبال، واضطغن ذلك عليه عمر، فلما ولاه أبو بكر الجند الذى استنفر إلى الشام، أتى عمر، أبا بكر فقال: أتولى خالد بن سعيد وقد حبس عنك بيعته، وقال لبنى هاشم ما بلغك، وقد جاء بورق اليمن وعبيد له حبشان وبدروع ورماح؟ ما أرى أن توليه وما آمن خلافه، وكان أبو بكر لا يخالف عمر ولا يعصيه، فدعا يزيد بن أبى سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، فقال لهم: إنى باعثكم فى هذا الوجه، ومؤمركم على هذا الجند، وأنا باعث على كل رجل من الرجال ما قدرت عليه، فإذا قدمتم البلد ولقيتم العدو فاجتمعتم على قتالهم فأميركم أبو عبيدة. وإن أبو عبيدة لم يلقكما وجمعتكما حرب فيزيد بن أبى سفيان الأمير، انطلقوا فتجهزوا. فخرج القوم يتجهزون، وبلغ ذلك خالد بن سعيد، فتيسر وتهيأ بأحسن هيئة، ثم أقبل نحو أبى بكر وعنده المهاجرون والأنصار أجمع ما كانوا، وقد تيسر الناس، وأمروا بالعسكرة مع هؤلاء النفر الثلاثة، فسلم على أبى بكر وعلى المسلمين، ثم جلس، فقال

لأبى بكر: أما إنك كنت وليتنى أمر الناس، وأنت لى غير متهم، ورأيك فىّ حسن حتى خوفت منى أمرا، والله لأن أخر من رأس حالق أو تخطفنى الطير فى الهواء بين الأرض والسماء أحب إلىّ من أن يكون ما ظن، والله ما أنا فى الإمارة براغب، ولا على البقاء فى الدنيا بحريص، وإنى أشهدكم أنى وأخوتى وفتيانى ومن أطاعنى من أهلى جيش فى سبيل الله نقاتل المشركين أبدا حتى يهلكهم الله أو نموت، لا نريد به حمد الناس ولا جزاءهم، فقال له الناس خيرا، ودعوا له به، وقال أبو بكر رحمه الله: أوتيت فى نفسى وولدى ما أحب لك ولإخوتك، والله إنى لأرجو أن تكون من نصحاء الله فى عباده، وإقامة كتابه، واتباع سنة رسوله «1» . فخرج هو وإخوته وغلمته ومن معه، فكان أول خلق الله عسكر، ثم خرج الناس إلى معسكرهم من عشرة وعشرين وثلاثين وأربعين وخمسين ومائة فى كل يوم حتى اجتمع الناس وكثروا، فخرج أبو بكر ذات يوم، ومعه من الصحابة كثير حتى انتهى إلى عسكرهم فرأى عدة حسنة، فلم يرض كثرتها للروم، فقال لأصحابه: ماذا ترون فى هؤلاء؟ أترون أن نشخصهم إلى الشام فى هذه العدة؟ فقال له عمر: ما أرضى بهذه العدة لجموع بنى الأصفر، فأقبل على أصحابه فقال: ماذا ترون؟ فقالوا: ونحن أيضا، نرى ما رأى عمر، فقال أبو بكر: أفلا نكتب كتابا إلى أهل اليمن ندعوهم إلى الجهاد ونرغبهم فى ثوابه؟ فرأى ذلك جميع أصحابه، فقالوا: نعم ما رأيت، فافعل. فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى من قرئ عليه كتابى هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن، سلام عليكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإن الله تبارك وتعالى، كتب على المسلمين الجهاد، وأمرهم أن ينفروا فيه خفافا وثقالا، فقال جل ثناؤه: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصف: 9] ، فالجهاد فريضة مفروضة، وثوابه عند الله عظيم، وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام، وقد سارعوا إلى ذلك، وعسكروا وخرجوا، وحسنت نيتهم وعظمت حسبتهم، فسارعوا عباد الله إلى فريضة ربكم وسنة نبيكم، وإلى إحدى الحسنيين: إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة، إن الله جل ذكره، لم يرض من عباده بالقول دون العمل، ولا بترك الجهاد فيه أهل عداوته حتى يدينوا بالحق ويقروا بحكم الكتاب، حفظ الله لكم دينكم وهدى قلوبكم، وزكى أعمالكم، ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين، والسلام عليكم.

_ (1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 116) ، تاريخ الطبرى (3/ 387، 388) .

وبعث بالكتاب مع أنس بن مالك. قال أنس: أتيت اليمن فبدأت بهم حيا حيا «1» ، وقبيلة قبيلة، أقرأ عليهم كتاب أبى بكر الصديق، فإذا فرغت من قراءته قلت: الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد، فإنى رسول خليفة رسول الله إليكم، ورسول المسلمين، ألا وإنى قد تركتهم معسكرين، ليس يمنعهم عن الشخوص إلى عدوهم إلا انتظاركم، فعجلوا إلى إخوانكم بالنفر، رحمكم الله أيها المسلمون. قال: فكان كل من أقرأ عليه ذلك الكتاب ويسمع منى هذا القول يحسن الرد ويقول: نحن سائرون، وكأن قد فعلنا حتى انتهيت إلى ذى الكلاع «2» ، فلما قرأت عليه الكتاب، وقلت له هذا المقال دعا بفرسه وسلاحه ونهض فى قومه، وأمر بالعسكرة، فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن، وسارعوا، فلما اجتمعوا إليه قام فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال: أيها الناس، إن من رحمة الله إياكم ونعمته عليكم أن بعث فيكم نبيا أنزل عليه الكتاب فأحسن عنه البلاغ، فعلمكم ما يرشدكم، ونهاكم عما يفسدكم، حتى علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ورغبكم من الخير فما لم تكونوا فيه ترغبون، وقد دعاكم إخوتكم الصالحون إلى جهاد المشركين، واكتساب الأجر العظيم، فلينفر من أراد النفر معى الساعة. قال: فنفر بعدد من الناس كثير، وأقبل بهم إلى أبى بكر رحمه الله، فرجعنا نحن فسبقناه بأيام فوجدنا أبا بكر بالمدينة ووجدنا ذلك العسكر على حاله، وأبو عبيدة يصلى بأهل ذلك العسكر. فلما قدمت حمير معها أولادها ونساؤها، فرح بهم أبو بكر وقام فقال: عباد الله، ألم نكن نتحدث فنقول إذا مرت حمير معها نساؤها تحمل أولادها: نصر الله المسلمين وخذل المشركين؟ فأبشروا أيها المسلمون، قد جاءكم النصر. قال: وجاء قيس بن هبيرة بن مكشوح المرادى معه جمع كثير حتى أتى أبا بكر فسلم

_ (1) فى تاريخ فتوح الشام: «.... أتيت أهل اليمن جناحا جناحا، وقبيلة قبيلة، أقرأ عليهم..» . (2) ذى الكلاع: هو: «أيفع بن يزيد بن النعمان» ، وسمى بذلك لأن حمير تلكعوا، أى اتحدوا وتحالفوا على يديه وهو الذى خطب الناس وحرضهم على القتال. انظر ترجمته فى: شذرات الذهب (1/ 214) .

عليه ثم جلس، فقال له: ما تنتظر ببعثة هذه الجنود؟ قال: ما كنا ننتظر إلا قدومكم، قال: فقد قدمنا، فابعث الناس الأول فالأول، فإن هذه البلدة ليست ببلدة خف ولا كراع «1» . قال: فعند ذلك خرج أبو بكر رضى الله عنه، يمشى، فدعا يزيد بن أبى سفيان فعقد له، ودعا ربيعة بن عامر من بنى عامر بن لؤى فعقد له، ثم قال له: أنت مع يزيد بن أبى سفيان لا تعصه ولا تخالفه، ثم قال ليزيد: إن رأيت أن توليه مقدمتك فافعل، فإنه من فرسان العرب وصالحاء قومك، وأرجو أن يكون من عباد الله الصالحين، فقال يزيد: لقد زاده إلىّ حبا حسن ظنك به ورجاؤك فيه، ثم إنه خرج معه يمشى، فقال له يزيد: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب، وإما أن تأذن لى فأمشى معك، فإنى أكره أن أركب وأنت تمشى، فقال أبو بكر رضى الله عنه: ما أنا براكب، وما أنت بنازل، إنى أحتسب خطاى هذه فى سبيل الله، ثم أوصاه فقال: يا يزيد، إنى أوصيك بتقوى الله وطاعته، والإيثار له، والخوف منه، وإذا لقيتم العدو فأظفركم الله به فلا تغلل ولا تمثل ولا تغدر ولا تجبن، ولا تقتلن وليدا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكل، وستمرون بقوم فى هذه الصوامع يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله، فدعهم وما حبسوا أنفسهم له، وستجدون آخرين فحص الشيطان أوساط رؤسهم كأن أوساطها أفاحيص «2» القطا، فأضربوا بالسيف ما فحصوا عنه من رؤسهم حتى ينيبوا إلى الإسلام أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب. وأقرأ عليك السلام، وأستودعك الله. ثم أخذ بيده فودعه، ثم قال: إنك أول امرئ وليته على رجال من المسلمين أشراف غير أوضاع فى الناس، ولا ضعفاء ولا أدنياء ولا جفاة فى الدين، فأحسن صحبتهم، وألن لهم كتفك، واخفض لهم جناحك، وشاورهم فى الأمر، أحسن أحسن الله لك الصحابة، وعلينا الخلافة. فخرج يزيد فى جيشه قبل الشام، وكان أبو بكر رحمه الله، كل غدوة وعشية يدعو فى دبر صلاة الغداة، ويدعو بعد صلاة العصر، فيقول: اللهم إنك خلقتنا ولم نك شيئا،

_ (1) الخف: الإبل. والكراع: الخيل. (2) أفاحيص: جمع أفحوص، وهو التراب، تتخذ فيه طيور القطا مساكن لها.

ثم بعثت إلينا رسولا رحمة منك وفضلا علينا، فهديتنا وكنا ضلالا، وحببت إلينا الايمان وكنا كفارا، وكثرتنا وكنا قليلا، وجمعتنا وكنا أشتاتا، وقويتنا وكنا ضعفاء، ثم فرضت علينا الجهاد وأمرتنا بقتال المشركين حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، اللهم إنا أصبحنا نطلب رضاك، بجهاد من عاداك، ثم عدل بك وعبد معك آلهة غيرك، لا إله إلا أنت تعاليت عما يقول الظالمون علوا كبيرا، اللهم فانصر عبادك المسلمين على عدوك من المشركين، اللهم افتح لهم فتحا يسيرا، وانصرهم نصرا عزيزا، وشجع جبنهم، وثبت أقدامهم وزلزل بعدوهم، وأدخل الرعب قلوبهم، واستأصل شأفتهم، واقطع دابرهم، وأبد خضراءهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم وآثارهم، وكن لنا وليا، وبنا حفيا، وأصلح لنا شأننا، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة، إنه بالمؤمنين رؤف رحيم. وعن أنس قال: لما بعث أبو بكر رحمه الله، يزيد بن أبى سفيان إلى الشام لم يسر من المدينة حتى جاء شرحبيل بن حسنة إلى أبى بكر، فقال: يا خليفة رسول الله، إنى قد رأيت فيما يرى النائم كأنك فى جماعة من المسلمين كثيرة، وكأنك بالشام ونحن معك، إذ استقبلك النصارى بصلبها، والبطارقة بكتبها، وانحطوا عليك من كل شرف وحدب، وكأنهم السيل، فاعتصمنا بلا إله إلا الله، وقلنا: حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم نظرنا فإذا نحن بالقرى والحصون من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم، فإذا نحن بآت قد أتى، فنزل بأعلى شاهقة فى الجبل حتى استوى بالحضيض، ثم أخرج كفه وأصابعه فإذا هى نار، ثم إنه أهوى بها إلى ما قابله من القرى والحصون، فصارت نارا تأجج، ثم إنها خبت فصارت رمادا، ثم نظرنا إلى ما استقبلنا من نصاراهم وبطارقتهم وجموعهم فإذا الأرض قد ساخت بهم، فرفع الناس رؤسهم وأيديهم إلى ربهم يحمدونه ويمجدونه ويشكرونه، فهذا ما رأيت، ثم انتبهت. فقال أبو بكر رضى الله عنه: نامت عينك، هذه بشرى، وهو الفتح إن شاء الله لا شك فيه، وأنت أحد أمرائى، فإذا سار يزيد بن أبى سفيان فأقم ثلاثا ثم تيسر للسير، ففعل، فلما مضى اليوم الثالث أتاه من الغد يودعه، فقال له: يا شرحبيل، ألم تسمع وصيتى يزيد بن أبى سفيان؟ قال: بلى، قال: فإنى أوصيك بمثلها، وأوصيك بخصال أغفلت ذكرهن لابن أبى سفيان، أوصيك بالصلاة لوقتها، وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل، وبعيادة المرضى وحضور الجنائز، وبذكر الله كثيرا على كل حال، فقال له أبو

سفيان: إن هذه الخصال كان يزيد بهن مستوصيا، وعليهن مواظبا قبل أن يسير إلى الشام، فهو الآن لهن ألزم إن شاء الله تعالى. فقال شرحبيل: الله المستعان، وما شاء الله أن يكون كان، ثم ودع أبا بكر وخرج فى جيشه قبل الشام، وبقى عظم الناس مع أبى عبيدة فى العسكر يصلى بهم، وأبو عبيدة ينتظر كل يوم أن يدعوه أبو بكر، فيسرحه، وأبو بكر ينتظر به قدوم العرب عليه من كل مكان، يريد أن يشحن أرض الشام من المسلمين، ويريد إن زحفت إليهم الروم أن يكونوا مجتمعين، فقدمت عليه حمير فيها ذو الكلاع، واسمه أيقع، وجاءت مذحج فيها قيس بن هبيرة المرادى معه جمع عظيم من قومه، وفيهم الحجاج بن عبد يغوث الزبيدى، وجاء حابس بن سعد الطائى فى عدد كثير من طيئ، وجاءت الأزد فيهم جندب بن عمرو بن حممة الدوسى، وفيهم أبو هريرة، وجاءت جماعة من قبائل قيس، فعقد أبو بكر رضى الله عنه، لميسرة بن مسروق العبسى عليهم، وجاء قباث بن أشيم فى بنى كنانة، فأما ربيعة وأسد وتميم فإنهم كانوا بالعراق. وعن سهل بن سعد أن أبا بكر، رحمه الله، لما أراد أن يبعث أبا عبيدة دعاه، فأتاه فسلم عليه، ثم جلس، فمكث أبو بكر مليا لا يكلمه، فظن أبو عبيدة أنه هم بعزله كما عزل خالد بن سعيد وهو يستحى أن يستقبله به، فقال: يا خليفة رسول الله، إن كنا لا نصلح لكم ولا نحبكم ولا ننصحكم إلا بأن تولونا فلسنا بإخوان فى الله، وإن كنا لا نجاهد فى سبيل الله ولا نقاتل أعداء الله إلا أن نكون أمراء رؤساء فلسنا الله نريد بجهادنا، وإنما ننوى به إذا الفخر فى الدنيا، إنى أطلب إليك أن تعزلنى عن هذا الجند وتولى عليه من أحببت وأنا أخرج معه، فأشير عليه برأيى وأنصحه جهدى، وأواسى المسلمين بنفسى. فقال أبو بكر: سبحان الله، يا أبا عبيدة أظننت أنك ممن نتهمه أو ممن نبتغى به بدلا أو ممن نتخوف أن يأتى المسلمين من قبله وهن أو خلاف أو فساد؟ معاذ الله أن نكون من أولئك، ثم قال له: اسمع سماع من يريد أن يفهم ما قيل له ثم يعمل بما أمر به، إنك تخرج فى أشراف العرب وبيوتات الناس وصالحاء المسلمين وفرسان الجاهلية، كانوا إذ ذاك يقاتلون حمية، وهم اليوم يقاتلون على النية الحسنة والحسبة، أحسن صحبة من صحبك، وليكونوا عندك فى الحق سواء، فاستعن بالله، وكفى به معينا، وتوكل عليه وكفى بالله وكيلا. اخرج من غد إن شاء الله، فخرج من عنده، فلما ولى قال: يا أبا عبيدة، فانصرف إليه، فقال له: إنى أحب أن تعلم كرامتك علىّ، ومنزلتك منى، والذى نفسى بيده، ما على

الأرض من المهاجرين ولا غيرهم من أعدله بك، ولا بهذا، يعنى عمر، رحمه الله، ولا له عندى فى المنزلة إلا دون ما لك. فقال أبو عبيدة: رحمك ربك يا خليفة رسول الله، هذا كان ظنى بك. قال: فانصرف، فلما كان من الغد خرج أبو بكر فى رجال من المسلمين على رواحلهم، حتى أتى أبا عبيدة، فسار معه حتى بلغ ثنية الوداع، ثم قال حين أراد أن يفارقه: يا أبا عبيدة، اعمل صالحا، وعش مجاهدا، ولتتوف شهيدا، وليعطك الله كتابك بيمينك، ويقر عينك فى دنياك وآخرتك، فو الله إنى لأرجو أن تكون من التوابين الأوابين الزاهدين فى الدنيا الراغبين فى الآخرة، إن الله تبارك وتعالى قد صنع بك خيرا وساقه إليك إذ جعلك تسير فى جيش من المسلمين تقاتل به من كفر بالله وعبد غيره. فقال أبو عبيدة: رحمك الله يا خليفة رسول الله، فنشهد بفضلك فى إسلامك، ومناصحتك الله، ومجاهدتك بعد رسول الله من تولى عن دين الله حتى ردهم الله بك إلى الدين وهم صاغرون، ونشهد أنك رحيم بالمؤمنين، ذو غلظة على الكافرين، فبورك لك فيما عملت، وسددت فيما حملت، إن أكن صالحا فلربى المنة علىّ بصلاحى، وإن أكن فاسدا فهو ولى إصلاحى، وأما أنت فنرى أن نجيبك إذا دعوت، وأن نطيعك إذا أمرت. ثم إنه تأخر، وتقدم إليه معاذ بن جبل فقال: يا خليفة رسول الله، إنى أردت أن يكون ما أكلمك به الآن بالمدينة قبل شخوصنا عنها، ثم بدا لى أن أؤخر ما أردت من ذلك حتى يكون عند وداعى، فيكون ذلك آخر ما أفارقك عليه، قال: هات يا معاذ، فو الله إنك ما علمت لسديد القول، موفق الرأى، رشيد الأمر، فأدنى راحلته، ومقود فرسه فى يده، وهو متنكب القوس ومتقلد السيف، فقال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، برسالته إلى خلقه، فبلغ ما أحب أن يبلغ، وكان كما أحب ربه أن يكون، فقبضه الله إليه وهو محمود مبرور صلوات الله عليه وبركاته، إنه حميد مجيد، جزاه الله عن أمته كأحسن ما يجزى النبيين، ثم إن الله تعالى استخلفك أيها الصديق عن ملأ من المسلمين، ورضى منهم بك، فارتد مرتدون، وأرجف مرجفون، ورجعت راجعة عن هذا الدين، فأدهن بعضنا، وحار جلنا، وأحب المهادنة والموادعة طائفة منا، واجتمع رأى الملأ الأكابر منا أن يتمسكوا بدينهم ويعبدوا الله حتى يأتيهم اليقين، ويدعوا الناس وما ذهبوا إليه، فلم ترض منهم بشىء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرده عليهم، فنهضت بالمسلمين، وشمرت للمجرمين، وشددت بالمطيع المقبل على العاصى المدبر، حتى أجاب إلى الحق من كان عند عنه،

وزجل عن الباطل من كان مرتكسا فيه، فلما تمت نعمة الله عليك وعلى المسلمين فى ذلك قدت المسلمين إلى هذا الوجه الذى يضاعف الله لهم فيه الأجر، ويعظم لهم الفتح والمغنم، فأمرك مبارك، ورأيك محمود ورشيد، ونحن وصالحو المؤمنين نسأل الله لك المغفرة والرحمة الواسعة والقوة فى العمل بطاعة الله فى عافية، وإن هذا الذى تسمع من دعائى وثنائى ومقالتى لتزداد فى فعل الخير رغبة، وتحمد الله تعالى على النعمة، وأنا معيد هذا على المؤمنين ليحمدوا الله على ما أبلاهم واصطنع عندهم بولايتك عليهم. ثم أخذ كل واحد منهما بيد صاحبه فودعه، ودعا له، ثم تفرقا، وانصرف أبو بكر رحمه الله، ومضى ذلك الجيش، وقال رجل من المسلمين لخالد بن سعيد وقد تهيأ للخروج مع أبى عبيدة: لو كنت خرجت مع ابن عمك يزيد بن أبى سفيان كان أمثل من خروجك مع غيره. فقال: ابن عمى أحب إلىّ من هذا فى قرابته، وهذا أحب إلىّ من ابن عمى فى دينه، هذا كان أخى فى دينى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وولىّ وناصرى على ابن عمى قبل اليوم، فأنا به أشد استئناسا وإليه أشد طمأنينة. فلما أراد أن يغدو سائرا إلى الشام لبس سلاحه، وأمر إخوته فلبسوا أسلحتهم: عمرا، وإبانا، والحكم، وعلقمة ومواليه، ثم أقبل إلى أبى بكر، رحمه الله، عند صلاة الغداة فصلبى معه، فلما انصرفوا قام إليه هو وإخوته، فجلسوا إليه، فحمد الله خالد وأثنى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أبا بكر، إن الله تبارك وتعالى، قد أكرمنا وإياك والمسلمين عامة بهذا الدين، فأحق من أقام السنة وأمات البدعة وعدل فى السيرة الوالى على الرعية، وكل امرئ من أهل هذا الدين محفوف بالإحسان، ومعدلة الوالى أعم نفعا، فاتق الله يا أبا بكر فيمن ولاك أمره، وارحم الأرملة واليتيم، وأعن الضعيف والمظلوم، ولا يكن رجل من المسلمين إذا رضيت عنه آثر عندك فى الحق منه إذا سخطت عليه، ولا تغضب ما قدرت على ذلك، فإن الغضب يجر الجور، ولا تحقد على مسلم وأنت تستطيع، فإن حقدك على المسلم يجعلك له عدوا، وإن اطلع على ذلك منك عاداك، وإذا عادى الوالى الرعية وعادت الرعية الوالى كان ذلك قمنا أن يكون إلى هلاكهم داعيا، ولن للمحسن واشتد على المريب، ولا تأخذك فى الله لومة لائم. ثم قال: هات يدك يا أبا بكر، فإنى لا أدرى أنلتقى فى الدنيا أم لا، فإن قضى الله لنا فى الدنيا البقاء، فنسأل الله عفوه وغفرانه، وإن كانت هى الفرقة التى ليس بعدها لقاء، فعرفنا الله وإياك وجه النبى صلى الله عليه وسلم، فى جنات النعيم.

فأخذ أبو بكر رضى الله عنه، بيده فبكى، وبكى خالد، وبكى المسلمون وظنوا أنه يريد الشهادة، وطال بكاؤهم، ثم إن أبا بكر رضى الله عنه، قال: انتظر نمشى معك، قال: ما أريد أن تفعل، قال: لكنى أريد ذلك، ومن أراده من المسلمين، فقام، وقام الناس معه حتى خرج من بيوت المدينة، فما رأيت مشيعا من المسلمين شيعه أكثر ممن شيع خالد بن سعيد يومئذ وإخوته، فلما خرج من المدينة قال أبو بكر: إنك قد أوصيتنى برشدى وقد وعيت، وأنا موصيك فاسمع وصاتى وعها، إنك امرؤ قد جعل الله لك سابقة فى الإسلام وفضيلة عظيمة، والناس ناظرون إليك ومستمعون منك، وقد خرجت فى هذا الوجه العظيم الأجر وأنا أرجو أن يكون خروجك فيه بحسبة ونية صادقة إن شاء الله تعالى، فثبت العالم، وعلم الجاهل، وعاتب السفيه المسرف، وانصح لعامة المسلمين، واخصص الوالى على الجهد من نصيحتك ومشورتك بما يحق لله وللمسلمين عليك، واعمل لله كأنك تراه، واعدد نفسك فى الموتى وأعلم أنا عما قليل ميتون ثم مبعثون ثم مسئولون ومحاسبون، جعلنا الله وإياك لأنعمه من الشاكرين، ولنقمه من الخائفين. ثم أخذ بيده فودعه، وأخذ بأيدى إخوته بعد ذلك فودعهم واحدا واحدا، ثم ودعهم المسلمون، ثم إنهم دعوا بإبلهم فركبوها، وكانوا قبل ذلك يمشون مع أبى بكر رضى الله عنهم أجمعين، ثم قيدت معهم خيلهم، فخرجوا بهيئة حسنة، فلما أدبروا قال أبو بكر: اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، واحطط أوزارهم وأعظم أجورهم. ثم انصرف أبو بكر ومن معه من المسلمين. وقد قيل: إن أبا بكر رحمه الله، جعل خالدا ردآ بتيماء لما عزله عن الجند وأطاع عمر رحمه الله «1» ، فى بعض أمره وعصاه فى بعض، وسيأتى ذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله. وعن محمد بن خليفة أن ملحان بن زياد الطائى، أخا عدى بن حاتم لأمه أتى أبا بكر رحمه الله، فى جماعة من قومه من طيئ نحو ستمائة، فقال له: إنا أتيناك رغبة فى الجهاد وحرصا على الخير، ونحن القوم الذين تعرف الذين قاتلنا معكم من ارتد منا حتى أقر بمعرفة ما كان ينكر، وقاتلنا معكم من ارتد منكم حتى أسلموا طوعا وكرها، فسرحنا فى أثر الناس، واختر لنا وليا صالحا نكن معه.

_ (1) انظر خبر عزل خالد بن سعيد فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 116) ، تاريخ الطبرى (3/ 387، 388) .

وكان قدومهم على أبى بكر بعد مسير الأمراء كلهم إلى الشام، فقال أبو بكر: قد اخترت لك أفضل أمرائنا أميرا، وأقدم المهاجرين هجرة، الحق بأبى عبيدة بن الجراح، فقد رضيت لك صحبته، وحمدت لك أدبه، فنعم الرفيق فى السفر، ونعم الصاحب فى الحضر. قال: فقلت لأبى بكر: فقد رضيت لخيرتك التى اخترت لى. فاتبعته حتى لحقته بالشام فشهدت معه مواطنه كلها، لم أغب عن يوم منها. وعن أبى سعيد المقبرى قال: قدم ابن ذى السهم الخثعمى على أبى بكر وجماعة من خثعم فوق تسعمائة ودون ألف، فقال لأبى بكر: إنا تركنا الديار والأصول، والعشائر والأموال، وأقبلنا بنسائنا وأبنائنا، ونحن نريد جهاد المشركين، فماذا ترى لنا فى أولادنا ونسائنا؟ أنخلفهم عندك ونمضى؟ فإذا جاء الله بالفتح بعثنا إليهم فأقدمناهم علينا؟ أم ترى لنا أن نخرجهم معنا ونتوكل على الله ربنا؟. فقال أبو بكر: سبحان الله، يا معشر المسلمين، هل سمعتم أحدا ممن سار من المسلمين إلى أرض الروم وأرض الشام ذكر من الأولاد والنساء مثل ما ذكر أخو خثعم؟ أما إنى أقسم لك يا أخا خثعم، لو سمعت هذا القول منك والناس مجتمعون عندى قبل أن يشخصوا لأحببت أن أحبس عيالاتهم عندى وأسرحهم ليس معهم من النساء والأبناء ما يشغلهم ويهمهم حتى يفتح الله عليهم ومعهم ذراريهم، ولك بجماعة المسلمين إسوة، وأنا أرجو أن يدفع الله بعزته عن حرمة الإسلام وأهله، فسر فى حفظ الله وكنفه، فإن بالشام أمراء قد وجهناهم إليها، فأيهم أحببت أن تصحبه، فسار حتى لقى يزيد بن أبى سفيان فصحبه. وعن يحيى بن هانئ بن عروة أن أبا بكر كان أوصى أبا عبيدة بقيس بن مكشوح وقال له: إنه قد صحبك رجل عظيم الشرف، فارس من فرسان العرب، لا أظن له عظيم حسبة ولا كبير نية فى الجهاد، وليس بالمسلمين غنى عن مشورته ورأيه وبأسه فى الحرب، فأدنه والطفه وأره أنك غير مستغن عنه ولا مستهين بأمره، فإنك تستخرج منه بذلك نصيحة لك، وجهده وجده على عدوك، ودعا أبو بكر قيسا فقال له: إنى قد بعثتك مع أبى عبيدة الأمين، الذى إذا ظلم كظم، وإذا أسىء إليه غفر، وإذا قطع وصل، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، فلا تعصين له أمرا، ولا تخالفن له رأيا، فإنه لن يأمرك إلا بخير، وقد أمرته أن يسمع منك، فلا تأمره إلا بتقوى الله، فقد كنا نسمع أنك

شريف بئيس مجرب، وذلك فى زمان الشرك والجاهلية الجهلاء، فاجعل بأسك وشدتك ونجدتك اليوم فى الإسلام على من كفر بالله وعبد غيره، فقد جعل الله فيه الأجر العظيم، والعز للمسلمين. فقال: إن بقيت فسيبلغك من حيطتى على المسلم، وجهدى على الكافر ما يسرك ويرضيك، فقال أبو بكر رحمه الله: فافعل ذلك، فلما بلغته مبارزته البطريقين بالجابية وقتله إياهما، قال: صدق قيس ووفى وبر. وعن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص قال «1» : لما مضت جنود أبى بكر إلى الشام بلغ ذلك هرقل ملك الروم، وهو بفلسطين، وقيل له: قد أتتك العرب وجمعت لك جموعا عظيمة، وهم يزعمون أن نبيهم الذى بعث إليهم أخبرهم أنهم يظهرون على أهل هذه البلاد، وقد جاؤك وهم لا يشكون أن هذا يكون، وجاؤك بأبنائهم ونسائهم تصديقا لمقالة نبيهم، يقولون: لو دخلناها وافتتحناها نزلناها بأولادنا ونسائنا. فقال هرقل: ذلك أشد لشوكتهم، إذا قاتل القوم على تصديق ويقين فما أشد على من كابدهم أن يزيلهم أو يصدهم. قال: فجمع إليه أهل البلاد وأشراف الروم، ومن كان على دينه من العرب، فقال: يا أهل هذا الدين، إن الله قد كان إليكم محسنا، وكان لدينكم هذا معزا، وله ناصرا على الأمم الخالية، وعلى كسرى والمجوس، وعلى الترك الذين لا يعلمون، وعلى من سواهم من الأمم كلها، وذلك أنكم كنتم تعملون بكتاب ربكم وسنة نبيكم الذى كان أمره رشدا وفعله هدى، فلما بدلتم وغيرتم أطمع ذلك فيكم قوما، والله ما كنا نعبأ بهم ولا نخاف أن نبتلى بهم، وقد ساروا إليكم حفاة عراة جياعا، اضطرهم إلى بلادكم قحط المطر وجدوبة الأرض وسوء الحال، فسيروا إليهم، فقاتلوهم عن دينكم وعن بلادكم وعن أبنائكم ونسائكم، وأنا شاخص عنكم وممدكم بالخيول والرجال، وقد أمرت عليكم أمراء، فاسمعوا لهم وأطيعوا، ثم خرج حتى أتى دمشق فقام مثل هذا المقام، وقال فيها مثل هذا المقال، ثم خرج حتى أتى حمص، ففعل مثل ذلك، ثم أتى أنطاكية، فأقام بها وبعث إلى الروم، فحشدهم إليه، فجاءه منهم ما لا يحصى عدده، ونفر إليه مقاتلتهم وشبابهم وأتباعهم، وأعظموا دخول العرب عليهم، وخافوا أن يسلبوا ملكهم. وأقبل أبو عبيدة حتى مروا بوادى القرى «2» ، ثم أخذ على الحجر أرض صالح النبى

_ (1) راجع: ما ذكره ابن الجوزى فى المنتظم فى هذا الخبر (4/ 117) ، والطبرى فى تاريخه 3/ 392) . (2) وادى القرى: من أعمال المدينة. انظر: الروض المعطار (602) ، المغانم المطابة (423) ، رحلة الناصرى (310) ، صبح الأعشى (4/ 292) .

صلى الله عليه وسلم، ثم على ذات المنار «1» ، ثم على زبرا «2» ، ثم ساروا إلى مؤب «3» بعمان، فخرج إليهم الروم، فلم يلبثهم المسلمون أن هزموهم حتى دخلوا مدينتهم، فحاصروهم فيها، وصالح أهل مؤب عليها، فكانت أول مدائن الشام صالح أهلها، ثم سار أبو عبيدة حتى إذا دنا من الجابية «4» أتاه آت فخبره أن هرقل بأنطاكية، وأنه قد جمع لكم من الجموع ما لم يجمعه أحد كان قبله من آبائه لأحد من الأمم قبلكم، فكتب أبو عبيدة إلى أبى بكر رضى الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله أبى بكر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإنا نسأل الله أن يعز الإسلام وأهله عزا مبينا، وأن يفتح لهم فتحا يسيرا، فإنه بلغنى أن هرقل ملك الروم، نزل قرية من قرى الشام تدعى بأنطاكية، وأنه بعث إلى أهل مملكته فحشدهم إليه، وإنهم نفروا إليه على الصعب والذلول، وقد رأيت أن أعلمك ذلك فترى فيه رأيك، والسلام عليك ورحمة الله تعالى. فكتب إليه أبو بكر: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغنى كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر هرقل ملك الروم، فأما منزله بأنطاكية فهزيمة له ولأصحابه، وفتح من الله عليك وعلى المسلمين، وأما حشده أهل مملكته وجمعه لكم الجموع، فإن ذلك ما قد كنا وكنتم تعلمون أنه سيكون منهم، ما كان قوم ليدعوا سلطانهم ولا ليخرجوا من مملكتهم بغير قتال، ولقد علمت والحمد لله أن قد غزاهم رجال كثير من المسلمين يحبون الموت حب عدوهم الحياة، يحتسبون من الله فى قتالهم الأجر العظيم، ويحبون الجهاد فى سبيل الله أشد من حبهم أبكار نسائهم وعقائل أموالهم، الرجل منهم عند الهيج خير من ألف رجل من المشركين، فالقهم بجندك، ولا تستوحش لمن غاب من المسلمين، فإن الله تعالى ذكره معك، وأنا مع ذلك ممدك بالرجال بعد الرجال حتى تكتفى ولا تريد أن تزداد، والسلام عليك. وبعث بهذا الكتاب مع دارم العبسى.

_ (1) ذات المنار: موضع فى أول بادية الشام مما يلى الحجاز. انظر: الروض المعطار (517) . (2) الزبرا: المكان المرتفع من الأرض، ويقصد: أحد أماكن البلقاء فى الأردن. (3) مؤب: من قرى الشام من أرض البلقاء، ذكرها ابن الحميرى فى الروض المعطار (517) ، وذكر قصة خروج أبى عبيدة. (4) الجابية: بالشام، وقال البكرى: هى قنسرين، وبين الجابية ومنبج أربعة فراسخ، ومن حلب إليها ستة فراسخ. انظر: الروض المعطار (153) .

وكتب يزيد بن أبى سفيان إلى أبى بكر رحمه الله: أما بعد، فإن هرقل ملك الروم لما بلغه مسيرنا إليه ألقى الله الرعب فى قلبه، فتحمل ونزل أنطاكية، وخلف أمراء من جنده على جند الشام، وأمرهم بقتالنا، وقد تيسروا لنا واستعدوا، وقد نبأنا مسالمة الشام أن هرقل استنفر أهل مملكته، وأنهم جاؤا يجرون الشوك والشجر، فمرنا بأمرك، وعجل علينا فى ذلك برأيك، نتبعه، نسأل الله النصر والصبر والفتح وعافية المسلمين، والسلام عليك. وبعث بهذا الكتاب مع عبد الله بن قرط الثمالى، فقال له أبو بكر لما قدم عليه: أخبرنى خبر الناس، قال: المسلمون بخير، قد دخلوا أدنى أرض الشام، ورعب أهلها منهم، وذكر لنا أن الروم قد جمعت لنا جموعا عظاما، ولم نلق عدونا بعد، ونحن فى كل يوم نتوكف لقاء العدو أو نتوقعه، وإن لم تأتنا جيوش من قبل هرقل، فليست الشام بشىء. فقال له أبو بكر رحمه الله: صدقتنى الخبر، فقال: وما لى لا أصدقك، ويحل لى الكذب، ويصلح لمثلى أن يكذب مثلك، ولو كذبت فى هذا لم أخن إلا أمانتى وأخن ربى وأخن المسلمين. قال أبو بكر: معاذ الله، لست من أولئك، وكتب حينئذ معه بهذا الكتاب: أما بعد، فقد بلغنى كتابك، تذكر فيه تحول ملك الروم إلى أنطاكية «1» ، وإلقاء الله الرعب فى قلبه من جموع المسلمين، فإن الله تبارك وتعالى، وله الحمد قد نصرنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالرعب، وأيدنا بملائكته الكرام، وإن ذلك الدين الذى نصرنا الله فيه بالرعب هو هذا الدين الذى ندعو الناس إليه اليوم، فو ربك لا يجعل الله المسلمين كالمجرمين، ولا من يشهد أنه لا إله غيره كمن يعبد معه آلهة أخرى ويدين بعبادة آلهة شتى، فإذا لقيتهم فانبذ إليهم بمن معك وقاتلهم، فإن الله لن يخذلك، وقد نبأنا الله أن الفئة القليلة منا تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وأنا مع ما هنالك ممدكم بالرجال فى أثر الرجال حتى تكتفوا ولا تحتاجوا إلى زيادة إنسان إن شاء الله، والسلام. ولما رد أبو بكر رضى الله عنه، عبد الله بن قرط «2» بهذا الكتاب إلى يزيد، قال له:

_ (1) أنطاكية: بتخفيف الياء، مدينة عظيمة على ساحل البحر، قالوا: وكل شىء عند العرب من قبل الشام فهو أنطاكية، ويقال: ليس فى أرض الإسلام ولا أرض الروم مثلها. انظر: الروض المعطار (38- 39) ، نزهة المشتاق (195) ، صبح الأعشى (4/ 129) . (2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1652) ، الإصابة الترجمة رقم (4908) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3126) ، الجرح والتعديل (5/ 104) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 329) ، تهذيب الكمال (2/ 724) ، التاريخ الكبير (5/ 34) ، تهذيب التهذيب (5/ 361) .

أخبره والمسلمين أن مدد المسلمين آتيهم مع هاشم بن عتبة وسعيد بن عامر بن حذيم. فخرج عبد الله بكتابه حتى قدم به على يزيد، وقرأه على المسلمين، فتباشروا به، وفرحوا. ثم إن أبا بكر رضى الله عنه، دعا هاشم بن عتبة «1» ، فقال له: يا هاشم، إن من سعادة جدك ووفاء حظك أنك أصبحت ممن تستعين به الأمة على جهاد عدوها من المشركين، وممن يثق الوالى بنصيحته وصحته وعفافه، وبأسه، وقد بعث إلى المسلمون يستنصرون على عدوهم من الكفار، فسر إليهم فيمن يتبعك، فإنى نادب الناس معك، فاخرج حتى تقدم على أبى عبيدة. ثم قام أبو بكر فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم من المسلمين معافون مكلوؤون، مدفوع عنهم، مصنوع لهم، قد ألقى الله جل ثناؤه الرعب منهم فى قلوب عدوهم، فقد استعصموا بحصونهم وأغلقوا أبوابها دونهم، وقد جاءتنى رسلهم يخبروننى بهرب هرقل ملك الروم من بين أيديهم حتى نزل قرية من أقصى قرى الشام، وأنه وجه إليهم جندا من مكانه ذلك، فرأيت أن أمد إخوانكم بجند منكم يشد الله بهم ظهورهم، ويكبت به عدوهم، ويلقى به الرعب فى قلوبهم، فانتدبوا رحمكم الله، مع هاشم بن عتبة بن أبى وقاص، واحتسبوا فى ذلك الأجر والخير، فإنكم إن نصرتم فهو الفتح والغنيمة، وإن هلكتم فهى الشهادة والكرامة. ثم انصرف إلى منزله، ومال الناس على هاشم حتى كثروا عليه، فلما تموا ألفا أمره أبو بكر رحمه الله، أن يسير، فسلم عليه وودعه، وقال له أبو بكر: يا هاشم، إنما كنا ننتفع من الشيخ الكبير برأيه ومشورته وحسن تدبيره، وكنا ننتفع من الشاب بصبره وبأسه ونجدته، وإن الله تعالى قد جمع لك تلك الخصال كلها، وأنت حديث السن مستقبل الخير، فإذا لقيت عدوك فاصبر وصابر، واعلم أنك لا تخطو خطوة ولا تنفق ولا يصيبك ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله إلا كتب الله لك بذلك عملا صالحا، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. فقال: إن يرد الله بى خيرا يجعلنى كذلك، وأنا أفعل، ولا قوة إلا بالله، أما أنا فأرجو إن لم أقتل أن أقتل ثم أقتل ثم أقتل!.

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2729) ، الإصابة الترجمة رقم (5328) ، طبقات الخليفة (831) ، تاريخ بغداد (1/ 196) ، مرآة الجنان (1/ 101) ، العقد الثمين (7/ 359) ، شذرات الذهب (1/ 46) ، العبر (1/ 39) .

فقال له عمه سعد بن أبى وقاص: يا ابن أخى لا تطعنن طعنة ولا تضربن ضربة إلا وأنت تريد بها وجه الله، واعلم أنك خارج من الدنيا وشيكا، وراجع إلى الله قريبا، ولن يصحبك من الدنيا إلى الآخرة إلا قدم صدق قدمته، وعمل صالح أسلفته، فقال: يا عم، لا تخافن هذه منى، إنى إذا لمن الخاسرين إن جعلت حلى وارتحالى وغدوى ورواحى وسعى وإجلابى، وطعنى برمحى وضربى بسيفى رياء للناس. ثم خرج من عند أبى بكر رضى الله عنه، فلزم طريق أبى عبيدة حتى قدم عليه، فسر المسلمون بقدومه وتباشروا به. وبلغ سعيد بن عامر بن حذيم «1» أن أبا بكر يريد أن يبعثه، فلما أبطأ ذلك عليه، ومكث أياما لا يذكر له ذلك أتاه، فقال: يا أبا بكر، والله لقد بلغنى أنك كنت أردت أن تبعثنى فى هذا الوجه، ثم رأيتك قد سكت، فما أدرى ما بدا لك فىّ، فإن كنت تريد أن تبعث غيرى فابعثنى معه، فما أرضانى بذلك، وإن كنت لا تريد أن تبعث أحدا فإنى راغب فى الجهاد، فأذن لى يرحمك الله كيما ألحق بالمسلمين، فقد ذكر لى أن الروم جمعت لهم جمعا عظيما. فقال أبو بكر: رحمك أرحم الراحمين يا سعيد بن عامر، فإنك ما علمت من المتواضعين المتواصلين المخبتين المتهجدين بالأسحار، الذاكرين الله كثيرا. فقال له سعيد: رحمك الله، نعم الله علىّ أفضل، وله الطول والمن، وأنت والله ما علمت صدوع بالحق، قوام بالقسط، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، تحكم بالعدل، ولا تستأثر فى القسم، فقال له: حسبك يا سعيد، حسبك، اخرج رحمك الله، فتجهز، فإنى مسرح إلى المسلمين جيشا وأؤمرك عليهم، فأمر بلالا فنادى فى الناس: أن انتدبوا أيها المسلمون مع سعيد بن عامر إلى الشام، فانتدب معه سبعمائة رجل فى أيام، فلما أراد سعيد الشخوص جاء بلال فقال: يا خليفة رسول الله، إن كنت إنما أعتقتنى لله تعالى لأملك نفسى وأصطرف فيما ينفعنى فخل سبيلى حتى أجاهد فى سبيل ربى، فإن الجهاد إلىّ أحب من المقام، قال أبو بكر: فإن الله يشهد أنى لم أعتقك إلا له، وأنى لا أريد منك جزاء ولا شكورا، فهذه الأرض ذات العرض، فاسلك أى فجاجها أحببت، فقال: كأنك أيها الصديق عتبت علىّ فى مقالتى ووجدت فى نفسك منها؟ قال: لا، والله ما وجدت فى نفسى من ذلك، وإنى لأحب أن لا تدع هواك لهواى ما دعاك

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (993) ، الإصابة الترجمة رقم (3280) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2084) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 223) ، الجرح والتعديل (4/ 205) . حلية الأولياء (1/ 368) ، الوافى بالوفيات (15/ 320) .

هواك إلى طاعة ربك، قال: فإن شئت أقمت معك، قال: أما إذا كان هواك الجهاد فلم أكن لآمرك بالمقام، وإنما أردتك للأذان، ولأجدن لفراقك وحشة يا بلال، ولا بد من التفرق فرقة لا التقاء بعدها حتى يوم البعث، فاعمل صالحا يا بلال، وليكن زادك من الدنيا ما يذكرك الله به ما حييت، ويحسن لك به الثواب إذا توفيت. فقال له بلال: جزاك الله من ولى نعمة وأخ فى الإسلام خيرا، فو الله ما أمرك لنا بالصبر على الحق والمداومة على العمل بالطاعة ببدع، وما كنت لأؤذن لأحد بعد النبى صلى الله عليه وسلم، ثم خرج بلال مع سعيد بن عامر. وجاء سعيد على راحلته حتى وقف على أبى بكر والمسلمين، فقال له: إنا نؤم هذا الوجه، فجعله الله وجه بركة، اللهم فإن قضيت لنا التقاء فاجمعنا على طاعتك، وإن قضيت لنا الفرقة فإلى رحمتك، والسلام عليكم، ثم ولى يذهب. فقال أبو بكر: عباد الله، ادعوا الله كيما يصحب صاحبكم ويسلمه، ارفعوا أيديكم رحمكم الله، فرفع القوم أيديهم إلى ربهم وهم أكثر من خمسين رجلا، فقال على رضى الله عنه: ما رفع عدتكم من المسلمين أيديهم إلى ربهم يسألونه شيئا إلا استجاب لهم، ما لم يكن معصية أو قطيعة رحم، فبلغه ذلك بعدما واقع أرض الشام وقاتل العدو، فقال: رحم الله إخوانى، ليتهم لم يكونوا دعوا لى، قد كنت خرجت وإنى على الشهادة لحريص جاهد، فما هو إلا أن لقيت العدو فعصمنى الله من الهزيمة والفرار، وذهب من نفسى ما كنت أعرف من حب الشهادة، فلما خبرت أن أخوانى دعوا لى بالسلامة عرفت أنهم استجيب لهم. وكان أبو بكر أمره أن يلحق بيزيد بن أبى سفيان، فسار حتى لحق به، وشهد معه وقعة العربة والداثنة. وعن حمزة بن مالك الهمذانى أنه قدم فى جمع عظيم من همذان «1» على أبى بكر، رحمه الله، قال: فقدموا وهم ألفا رجل أو أكثر، فلما رأى أبو بكر عددهم وعدتهم سره ذلك، فقال: الحمد لله على صنيعه للمسلمين، ما يزال الله تعالى، يرتاج لهم بمدد من أنفسهم يشد به ظهورهم ويقصم به عدوهم، قال: ثم إن أبا بكر أمرنا فعسكرنا بالمدينة، وكنت أختلف إلى أبى بكر غدوة وعشية، وعنده رجال من المهاجرين والأنصار، فكان يلطفنى ويدنى مجلسى، ويقول لى: تعلم القرآن، وأسبغ الوضوء، وأحسن الركوع والسجود، وصل الصلاة لوقتها، وأد الزكاة فى حينها، وانصح المسلم، وفارق المشرك،

_ (1) همذان: بالذال المعجمة، مدينة من عراق العجم من كور الجبل. انظر: الروض المعطار (596) ، نزهة المشتاق (203) ، اليعقوبى (272) .

واحضر البأس يوم البأس. فقلت: والله لأجهدن أن لا أدع شيئا مما أمرتنى به إلا عملته، إنى لأعلم أنك قد اجتهدت لى فى النصيحة، وأبلغت فى الموعظة، ثم إنه خرج إلى عسكرنا وأمرنا أن نتيسر ونتجهز ونشترى حوائجنا، ثم نعجل على أصحابنا، فتحثحثنا لذلك وعجلنا بالجهاز، فلما فرغنا وعلم ذلك بعث إلى فقال: يا أخا همذان، إنك شريف بئيس ذو عشيرة، فأحضرهم البأس، ولا تؤذ بهم الناس. قال: وكان معى رجال من أهل القرى من همذان، فيهم جهل وجفاء، وكانوا قد تأذى منهم أهل المدينة، فشكوا ذلك إلى أبى بكر، فقال أبو بكر: نشدتك الله امرأ مسلما سمع نشدى لما كف عن هؤلاء القوم، ومن رأى عليه حقا فليحتمل ذرب ألسنتهم، أو عجلة يكرهها منهم ما لم يبلغ ذلك الحد، إن الله تعالى، مهلك بهؤلاء وأشباههم غدا جموع هرقل والروم، وإنما هم إخوانكم، فلو أن أخا أحدكم فى دينه عجل عليه فى شىء ألم يكن أصوب فى الرأى وخيرا فى المعاد أن يحتمل له؟ قال المسلمون: بلى، قال: فهم إخوانكم فى الدين وأنصاركم على الأعداء، ولهم عليكم حق، فاحتملوا لهم ذلك، ثم نظر إلىّ فقال: ارتحل، ما تنتظر؟ فارتحلت وقد قلت له قبل أن نرتحل: علىّ أمير دونك؟ قال: نعم، هناك ثلاثة أمراء قد أمرناهم؟. فأيهم شئت فكن معه، فلما لحقت بالمسلمين سألتهم: أى الأمراء أفضل وأيهم كان أفضل عند النبى صلى الله عليه وسلم، صحبة؟ فقيل: أبو عبيدة بن الجراح، فقلت فى نفسى: والله لا أعدل بهذا أحدا، فجئت حتى أتيت أبا عبيدة ثم قصصت عليه قصة مخرجى ومقدمى على أبى بكر، وما كان من أمرى وأمر أصحابى بالمدينة، وبمقدمى عليه واختيارى له، فقال: بارك الله لك فى إسلامك وجهادك وقدومك علينا، وبارك لنا فيك وفيمن قدمت به علينا من المسلمين. وقال عمرو بن محصن «1» : لم يكن أبو بكر رحمه الله، يسأم توجيه الجنود إلى الشام، وإمداد الأمراء الذين بعث إليها بالرجال بعد الرجال، إرادة إعزاز أهل الإسلام وإذلال أهل الشرك. وعن أبى سعيد المقبرى قال: لما بلغ أبا بكر رحمه الله، جمع الأعاجم لم يكن شىء أعجب إليه من قدوم المجاهدين عليه من أرض العرب، فكانوا كلما قدموا عليه سرح الأول فالأول، فقدم عليه فيمن قدم أبو الأعور السلمى، فدخل عليه فقال: إنا جئناك من غير قحمة ولا عدم، فإن شئت أقمنا معك مرابطين، وإن شئت وجهتنا إلى عدوك

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1974) ، الإصابة الترجمة رقم (5970) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4021) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 417) .

المشركين، فقال له أبو بكر: لا، بل تجاهدون الكافرين، وتواسون المسلمين، فبعثه، فسار حتى قدم على أبى عبيدة. ثم قدم على أبى بكر رضى الله عنه، معن بن يزيد بن الأخنس السلمى فى رجال من بنى سليم، نحو من مائة، فقال أبو بكر: لو كان هؤلاء أكثر مما هم لأمضيناهم، فقال له عمر: والله لو كانوا عشرة لرأيت لك أن تمد بهم إخوانهم، أى والله، وأرى أن تمدهم بالرجال الواحد إذا كان ذا جزاء وغناء. فقال حبيب بن مسلمة الفهرى: عندى نحو من عدتهم رجال من أبناء القبائل ذوو رغبة فى الجهاد، فأخرجنا وهؤلاء جميعا يا خليفة رسول الله، ثم ابعثنا. فقال له: أما الآن فاخرج بهم جميعا حتى تقدم بهم على إخوانهم. فخرج فعسكر معهم، ثم جمع أصحابه إليهم، ثم مضى بهم حتى قدم على يزيد بن أبى سفيان. قال: واجتمعت رجال من كعب وأسلم وغفار ومزينة نحو من مائتين، فأتوا أبا بكر رضى الله عنه، فقالوا: ابعث علينا رجلا، وسرحنا إلى إخواننا، فبعث عليهم الضحاك بن قيس، فسار حتى أتى يزيد، فنزل معه. وعن سعيد بن يزيد بن عمرو بن نفيل قال: لما رأى أهل مدائن الشام أن العرب قد جاشت عليهم من كل وجه، وكثرة جموعهم، بعثوا الرسل إلى ملكهم يعلمونه ذلك ويسألونه المدد، فكتب إليهم: إنى قد عجبت لكم حين تستمدوننى وحين تكثرون علىّ عدة من جاءكم، وأنا أعلم بكم وبمن جاءكم منهم، ولأهل مدينة واحدة من مدائنكم أكثر ممن جاءكم منهم أضعافا، فالقوهم فقاتلوهم ولا تحسبوا أنى كتبت إليكم بهذا وأنا لا أريد أن أمدكم، لأبعثن إليكم من الجنود ما تضيق به الأرض الفضاء. وكانت مدائن أهل الشام من الروم قد أرسلوا إلى كل من كان على دينهم من العرب فأطمعهم أكثرهم فى النصر، ومنهم من حمى للعرب، فكان ظهور العرب أحب إليه، وذلك من لم يكن فى دينه راسخا منهم، وبلغ خبرهم وتراسلهم أبا عبيدة بن الجراح، فكتب إلى أبى بكر رضى الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فالحمد لله الذى أعزنا بالإسلام، وكرمنا بالإيمان، وهدانا لما اختلف فيه المختلفون من الحق بإذنه، إنه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم، وإن عيونى من أنباط الشام نبئونى أن أول أمداد ملك الروم قد وقعوا إليه، وأن أهل مدائن الشام بعثوا رسلهم إليه يستمدونه، وأنه كتب

إليهم: أن أهل مدينة من مدائنكم أكثر ممن قدم عليكم من عدوكم، فانهضوا إليهم فقاتلوهم، فإن مددى من ورائكم، فهذا ما بلغنا عنهم، وأنفس المسلمين طيبة بقتالهم، وقد خبرنا أنهم تيسروا لقتالنا، فأنزل الله على المسلمين نصره، وعلى عدوهم رجزه، إنه بما يعملون عليم، والسلام. قال: فجمع أبو بكر رحمه الله، أشراف قريش من المهاجرين وغيرهم من أهل مكة، ثم دعا بأشراف الأنصار وذوى السابقة منهم، فقال عمر: لأى شىء دعوت بهؤلاء؟ فقال: لأستشيرهم فى هذا الأمر الذى كتب إلينا فيه أبو عبيدة. قال له: أما المهاجرين والأنصار فأهل الاستنصاح والمشورة، وأما رجال أهل مكة الذين كنا نقاتلهم لتكون كلمة الله هى العليا ويقاتلوننا ليطفئوا نور الله بأفواههم جاهدين على قتالنا، إن قلنا ليس مع الله آلهة، قالوا: مع الله آلهة أخرى، فلما أعز الله دعوتنا وصدق أحدوثتنا ونصرنا عليهم أردنا أن نقدمهم فى الأمور ونستشيرهم فيها ونستنصحهم وندنيهم دون من هو خير منهم، ما أنصفنا إذا نصحاؤنا الذين كانوا يقاتلونهم فى الله حين نقدمهم دونهم، ولا نراهم وضعهم عندنا إذا جهادهم إيانا وجهدهم علينا، لا والله لا نفعل ذلك أبدا. فقال أبو بكر رضى الله عنه: قد كنت أردت إدناءهم وإنزالهم منا بالمنازل التى كانوا بها فى قومهم من الشرف، فأما الآن حيث ذكرت ما ذكرت، فو الله ما أرى الرأى فى هذا إلا رأيك، فبلغ ذلك أشراف قريش أولئك، فشق عليهم. وقال الحارث بن هشام: إن عمر كان فى شدته علينا قبل أن هدانا الله للإسلام مصيبا، فأما الآن حيث هدانا الله فلا نراه فى شدته علينا إلا قاطعا. ثم خرج هو وسهيل بن عمرو «1» مع عكرمة بن أبى جهل فى رجال من أشراف قريش حتى أتوا أبا بكر رحمه الله، وعنده عمر، فقال الحارث: يا عمر، إنك قد كنت فى شدتك علينا قبل الإسلام مصيبا، فأما الآن وقد هدانا الله لدينه فما نراك إلا قاطعا، ثم جثا سهيل بن عمرو على ركبتيه وقال: إياك يا عمر نخاطب، وعليك نعتب، فأما خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبرىء عندنا من الضغن والحقد والقطيعة، ألسنا إخوانكم فى الإسلام، وبنى أبيكم فى النسب، أفإنكم إن كان الله قدم لكم فى هذا الأمر قدما صالحا لم نؤت مثله قاطعون قرابتنا ومستهينون بحقنا، ثم قال لهم عكرمة: أما إنكم وإن كنتم

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (110) ، الإصابة الترجمة رقم (3584) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2324) .

تجدون فى عداوتنا قبل اليوم مقالا فلستم اليوم بأشد على من ترك هذا الدين، ولا أعدى منا. فقال لهم عمر رضى الله عن جميعهم، والله ما قلت الذى بلغكم إلا نصيحة لمن سبقكم بالإسلام، وتحريا للعدل فيما بينكم وبين من هو أفضل منكم. قال سهيل: فإن كنتم إنما فضلتمونا بالجهاد فى سبيل الله، فو الله لنستكثرن منه، أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله. وقال الحارث بن هشام: وأنا أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله، والله لأنفقن مكان كل نفقة أنفقتها على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفقتين فى سبيل الله، ولأنفقن مكان كل موقف وقفته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، موقفين على أعداء الله. وقال عكرمة: وأنا أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله. فقال أبو بكر رضى الله عنه: اللهم أبلغ بهم أفضل ما يأملون، واجزهم بأحسن ما يعملون، فقد أصبتم فيما صنعتم، فأرشدكم الله. فلما خرجوا من عنده أقبل سهيل على أصحابه، وكان شريفا عاقلا، فقال لهم: لا تجزعوا مما ترون، فإنهم دعوا ودعينا، فأجابوا وأبطأنا، ولو ترون فضائل من سبقكم إلى الإسلام عند الله عليكم ما نفعكم عيش، وما من أعمال الله عمل أفضل من الجهاد فى سبيل الله، فانطلقوا حتى تكونوا بين المسلمين وبين عدوهم، فتجاهدوهم دونهم حتى تموتوا، فلعلنا أن نبلغ فضل المجاهدين، فخرجوا حينئذ إلى جهاد الروم. قال: فبلغنى أنهم ماتوا مقترنين بين المسلمين وبين الروم، رضى الله عنهم. ثم دعا أبو بكر، عمرو بن العاص، فقال: يا عمرو، هؤلاء أشراف قومك يخرجون مجاهدين، فاخرج فعسكر حتى أندب الناس معك، فقال: يا خليفة رسول الله، ألست أنا الوالى على الناس؟ قال: نعم، أنت الوالى على من أبعثه معك من هاهنا، قال: لا، بل وال على من أقدم عليه من المسلمين، قال: لا، ولكنك أحد الأمراء، فإن جمعتكم حرب فأبو عبيدة أميركم، فسكت عنه، ثم خرج فعسكر، واجتمع إليه ناس كثير، وكان معه أشراف قريش أولئك، فلما حضر خروجه جاء إلى عمر، فقال: يا أبا حفص، إنك قد عرفت بصرى بالحرب، وتيمن نقيبتى فى الغزو، وقد رأيت منزلتى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن أبا بكر ليس يعصيك، فأشر عليه أن يولينى أمر هذه الجنود التى بالشام، فإنى أرجو أن يفتح الله على يدى هذه البلاد، وأن يريكم والمسلمين من ذلك ما تسرون به.

فقال له عمر: لا أكذبك، ما كنت لأكلمه فى ذلك، لأنه لا يوافقنى أن يبعثك على أبى عبيدة، وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك، قال: فإنه لا ينقص أبا عبيدة شيئا من فضله أن ألى عليه، فقال له: ويحك يا عمرو، إنك والله ما تطلب بهذه الرياسة إلا شرف الدنيا، فاتق الله ولا تطلب بشىء من سعيك إلا وجه الله، واخرج فى هذا الجيش، فإنك إن يكن عليك أمير فى هذه المرة فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرا ليس فوقك أحد، فقال: قد رضيت. فخرج واستتب له المسير، فلما أراد الشخوص خرج معه أبو بكر يشيعه، وقال: يا عمرو، إنك ذو رأى وتجربة للأمور، وبصر بالحرب، وقد خرجت فى أشراف قومك، ورجال من صالحاء المسلمين، وأنت قادم على إخوانك فلا تألوهم نصيحة ولا تدخر عنهم صالح مشورة، فرب رأى لك محمود فى الحرب، مبارك فى عواقب الأمور. فقال له عمرو: ما أخلق أن أصدق ظنك ولأفنك رأيك، ثم ودعه وانصرف عنه، فقدم الشام، فعظم غناؤه وبلاؤه عند المسلمين. وكتب أبو بكر رحمه الله، إلى أبى عبيدة: أما بعد، فقد جاءنى كتابك تذكر فيه تيسر عدوكم لمواقعتكم، وما كتب به إليهم ملكهم من عدته إياهم أن يمدهم من الجنود بما تضيق به الأرض الفضاء، ولعمر الله لقد أصبحت الأرض ضيقة عليه برحبها، وايم الله ما أنا بيائس أن تزيلوه من مكانه الذى هو به عاجلا إن شاء الله تعالى، فبث خيلك فى القرى والسواد، وضيق عليهم بقطع الميرة، ولا تحاصر المدائن حتى يأتيك أمرى، فإن ناهضوك فانهض إليهم، واستعن بالله عليهم، فإنه ليس يأتيهم مدد إلا أمددناكم بمثلهم أو ضعفهم، وليس بكم والحمد لله قلة ولا ذلة، ولأعرفن ما جبنتم عنهم، فإن الله فاتح لكم، ومظهركم على عدوكم، ومعزكم بالنصر، وملتمس منكم الشكر، لينظر كيف تعملون، وعمرو فأوصيك به خيرا، فقد أوصيته أن لا يضيع لك حقا، والسلام عليك. وجاء عمرو بالناس حتى نزل بأبى عبيدة، وكان عمرو فى مسيره ذلك إلى الشام، فيما حدث به عمرو بن شعيب، يستنفر من مر بهم من الأعراب، قال: فتبعه منهم ناس كثير، فلما اجتمعوا هم ومن كان قدم بهم معه من المدينة، كانوا نحوا من ألفين، فلما قدم بهم على أبى عبيدة سر بهم هو والناس الذين معه، واستأنس بهم، وكان عمرو ذا رأى فى الحرب وبصر بالأشياء، فقال له أبو عبيدة: أبا عبد الله، رب يوم شهدته فبورك للمسلمين فيه برأيك ومحضرك، إنما أنا رجل منكم، لست وإن كنت الوالى عليكم بقاطع

أمرا دونكم، فأحضرنى رأيك فى كل يوم بما ترى، فإنه ليس بى عنكم غنى. فقال له: أفعل، والله يوفقك لما يصلح المسلمين. وقال سهل بن سعد: ما زال أبو بكر رحمه الله تعالى، يبعث الأمراء إلى الشام، أميرا أميرا، ويبعث القبائل، قبيلة قبيلة، حتى ظن أنهم قد اكتفوا، وأنهم لا يريدون أن يزدادوا رجلا. وذكر أبو جعفر الطبرى «1» ، عن محمد بن إسحاق: أن تجهيز أبى بكر الجيوش إلى الشام كان بعد قفوله من الحج سنة اثنتى عشرة، وأنه حينئذ بعث عمرو بن العاص قبل فلسطين. وذكر فى تولية أبى بكر خالد بن سعيد بن العاص جند الشام، وتأخيره عن ذلك قبل نفوذه نحوا مما تقدم. وذكر أيضا من طريق آخر أن توليته إياه إنما كان على ربع من ذلك الجند. وقيل: إن أبا بكر رضى الله عنه، جعله ردآ بتيماء، وأمره أن لا يبرحها، وأن يدعو من حوله بالانضمام إليه، وأن لا يقبل إلا ممن لم يرتد، ولا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره. فأقام، فاجتمعت إليه جموع كثيرة، وبلغ الروم عظيم ذلك العسكر، فضربوا على العرب الضاحية بالشام البعوث إليهم، فكتب خالد بن سعيد بذلك إلى أبى بكر، فكتب إليه أبو بكر، رضى الله عنه: أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله «2» . فصار إليهم خالد، فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم، فنزله ودخل من كان تجمع له فى الإسلام. وكتب بذلك إلى أبى بكر، فكتب إليه أبو بكر رضى الله عنه: أقدم ولا تقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك. فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به من طرف الرمل، فسار إليه بطريق من بطارقة الروم، يدعى باهان، فهزمه وفل جنده، وكتب بذلك إلى أبى بكر، واستمده، وقد قدم على أبى بكر أوائل مستنفرى اليمن، ومن بين مكة واليمن، فساروا فقدموا على خالد بن سعيد، وعند ذلك اهتاج أبو بكر للشام وعناه أمره. وقد كان أبو بكر رد عمرو بن العاص على عمالته التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاه

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 387) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 388- 389) .

إياها من صدقات سعد وعذرة وما كان معها قبل ذهابه إلى عمان، فخرج إلى عمان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على عدة من عمله إذا هو رجع، فأنجز له ذلك أبو بكر، ثم كتب إليه أبو بكر عند اهتياجه للشام: إنى كنت قد رددتك على العمل الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاكه مرة وسماه لك أخرى إذ بعثك إلى عمان إنجازا لموعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وليته ثم وليته، وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك فى حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذى أنت فيه أحب إليك. فكتب إليه عمرو: إنى سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامى بها، والجامع لها، فانظر أسرها وأحسنها وأفضلها فارم به شيئا إن جاءك من ناحية من النواحى «1» . وكتب أبو بكر رضى الله عنه، إلى الوليد بن عقبة بنحو ذلك، فأجابه بإيثار الجهاد. وعن أبى أمامة الباهلى «2» ، قال: كنت ممن سرح أبو بكر رضى الله عنه، مع أبى عبيدة، وأوصانى به وأوصاه بى، فكانت أول وقعة بالشام يوم العربة، ثم يوم الداثنة، وليسا من الأيام العظام، خرج ستة قواد من الروم مع كل قائد خمسمائة، فكانوا ثلاثة آلاف، فأقبلوا حتى انتهوا إلى العربة، فبعث يزيد بن أبى سفيان إلى أبى عبيدة يعلمه، فبعثنى إليه فى خمسمائة، فلما أتيته بعث معى رجلا فى خمسمائة، فلما رأيناهم يعنى الروم وقوادهم أولئك، حملنا عليهم فهزمناهم وقتلنا قائدا من قوادهم، ثم مضوا واتبعناهم، فجمعوا لنا بالداثنة، فسرنا إليهم، فقدمنى يزيد وصاحبى فى عدتنا، فهزمناهم، فعند ذلك فزعوا واجتمعوا وأمدهم ملكهم. وذكر ابن إسحاق عن صالح بن كيسان أن عمرو بن العاص خرج حتى نزل بعمر العربات، ونزلت الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين فى سبعين ألفا عليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه، فكتب عمرو إلى أبى بكر يستمده، وخرج خالد بن سعيد بن العاص وهو بمرج الصفر من أرض الشام فى يوم مطير يستمطر فيه فتعادى عليه أعلاج الروم فقتلوه، وقيل أتاهم أذريجا فى أربعة آلاف وهم غازون فاستشهد خالد بن سعيد وعدة من المسلمين. قال أبو جعفر الطبرى «3» : قيل إن المقتول فى هذه الغزوة ابن لخالد بن سعيد، وأن خالدا انحاز حين قتل ابنه.

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 389) . (2) اسمه: صدى بن عجلان. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2882) ، الإصابة الترجمة رقم (9546) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5695) . (3) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 391) .

وذكر سيف أن الوليد بن عقبة لما قدم على خالد بن سعيد فسانده، وقدمت جنود المسلمين الذين كان أبو بكر أمده بهم، وبلغه عن الأمراء، يعنى أمراء المسلمين الذين أمدهم أبو بكر، وتوجههم إليه، اقتحم على الروم طلب الحظوة، وأعرى ظهره، وبادر الأمراء لقتال الروم، واستطرد له باهان، فأرز هو ومن معه إلى دمشق، واقتحم خالد فى الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى ينزل المرج، مرج الصفر، ما بين الواقوصة ودمشق، فانطوت مسالح باهان عليه، وأخذوا عليه الطرق ولا يشعر، وزحف له باهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمطر فى الناس، فقتلوهم. وأتى الخبر خالدا، فخرج هاربا فى جريدة خيل، ولم ينته بخالد الهزيمة عن ذى المروة، وأقام عكرمة فى الناس ردآ لهم، فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوهم، وأقام من الشام على قريب. وذكر ابن إسحاق مسير الأمراء ومنازلهم، وأن يزيد بن أبى سفيان نزل البلقاء، ونزل شرحبيل بن حسنة الأردن، ويقال: بصرى، ونزل أبو عبيدة الجابية. وعن غير ابن إسحاق أنه لما نزل أبو عبيدة بالجابية كتب إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، منها: أما بعد، فإن الروم وأهل البلد، ومن كان على دينهم من العرب قد أجمعوا على حرب المسلمين، ونحن نرجو النصر، وإنجاز موعود الرب تبارك وتعالى، وعادته الحسنى، وأحببت إعلامك ذلك لترينا رأيك. فقال أبو بكر رحمه الله: والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد. وكان خالد إذ ذاك يلى حرب العراق، فكتب إليه أبو بكر: أما بعد، فدع العراق وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض متخفيا فى أهل القوة من أصحابك الذين قدموا معك العراق، من اليمامة، وصحبوك فى الطريق، وقدموا عليك من الحجاز، حتى تأتى الشام، فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة، والسلام. ويروى أنه كان فيما كتب إليه به: «أن سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع بعون الله سبحانه، أحد من الناس إشجاءك، ولم ينزع الشجاء أحد من الناس نزعك، فلتهنئك أبا سليمان النعمة والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله تعالى، له المن، وهو ولى الجزاء» «1» .

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 384- 385) .

ووافى خالدا كتاب أبى بكر هذا وهو بالحيرة «1» ، منصرفا من حجة حجها مكتتما بها، وذلك أنه لما فرغ من إيقاعه بالروم ومن انضوى إليهم مغيثا لهم من مسالح فارس بالفراض، والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة، أقام بالفراض عشرا، ثم أذن بالقفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذى القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم، وأظهر خالد أنه فى الساقة. وخرج من الحيرة ومعه عدة من أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال فسار طريقا من طريق الجزيرة، لم ير طريقا أعجب منه، فكانت غيبته عن الجند يسيرة، ما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذى وضعه، وقدما معا، وخالد وأصحابه محلقون، ولم يعلم بحجه إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة، ولم يعلم أبو بكر رحمه الله، بذلك إلا بعد، فهو الذى يعنيه بما تقدم فى كتاب إليه من معاتبته إياه «2» . وقدم على خالد بالكتاب عبد الرحمن بن حنبل الجمحى، فقال له خالد قبل أن قرأ كتابه: ما وراءك؟ فقال: خير، تسير إلى الشام. فشق عليه ذلك وقال: هذا عمل عمر، نفس علىّ أن يفتح الله على العراق. وكانت الفرس قد هابوه هيبة شديدة، وكان خالد إذا نزل بقوم من المشركين عذابا من عذاب الله عليهم، وليثا من الليوث. فلما قرأ كتاب أبى بكر ورأى أنه قد ولاه على أبى عبيدة وعلى الشام، كأن ذلك سخا بنفسه. وقال: أما إذ ولانى، فإن فى الشام من العراق خلفا، فقام إليه النسير بن ديسم العجلى، وكان من أشراف بنى عجل وفرسان بكر بن وائل، ومن رؤس أصحاب المثنى بن حارثة، فقال لخالد: أصلحك الله، والله ما جعل الله فى الشام من العراق خلفا، للعراق أكثر حنطة وشعيرا وديباجا وحريرا وفضة وذهبا، وأوسع سعة، وأعرض عرضا، والله ما الشام كله إلا كجانب من العراق، فكره المثنى مشورته عليه، وكان يحب أن يخرج عن العراق ويخليه وإياها.

_ (1) الحيرة: قال الهمدانى: سار تبع أبو كرب فى غزوته فلما أتى موضع الحيرة خلف هنالك مالك بن فهم بن غنم بن دوس على أثقاله وخلف معه من ثقل من أصحابه فى نحو اثنى عشر ألفا وقال: تحيروا هذا الموضع، فسمى الموضع الحيرة، فما لك أول ملوك الحيرة وأبوهم. وكانت الحيرة على ثلاثة أميال من الكوفة، والحيرة على النجف، والنجف كان على ساحل البحر الملح، وكان فى سالف الدهر يبلغ الحيرة. انظر: الروض المعطار (207) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 384) .

فقال خالد: إن بالشام أهل الإسلام، وقد تهيأت لهم الروم وتيسرت، فإنما أنا مغيث وليس لهم مترك، فكونوا أنتم هاهنا على حالكم التى كنتم عليها، فإن نفرغ مما أشخصنا إليه عاجلا عجلنا إليكم، وإن أبطأت رجوت أن لا تعجزوا ولا تهنوا، وليس خليفة رسول الله بتارك إمدادكم بالرجال حتى يفتح الله عليكم هذه البلاد إن شاء الله تعالى. ويروى أن أبا بكر أمر خالدا بالخروج فى شطر الناس، وأن يخلف على الشطر الثانى المثنى بن حارثة، وقال له: لا تأخذ مجدا إلا خلفت لهم مجدا، فإذا فتح الله عليكم فارددهم إلى العراق معهم، ثم أنت على عملك. وأحصى خالد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأثرهم على المثنى وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغناء ممن لم يكن له صحبة، ثم نظر فيمن بقى فاختلج من كان قدم على النبى صلى الله عليه وسلم، وافدا أو غير وافد، وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغناء، ثم قسم الجند نصفين. فقال المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبى بكر كله فى استصحاب نصف الصحابة، وإبقاء النصف أو بعض النصف، فو الله ما أرجو النصر إلا بهم، فأنى تعرينى منهم؟ فلما رأى ذلك خالد بعدما تلكأ عليه أعاضه منهم حتى رضى، وكان فيمن أعاضه منهم فرات بن حيان العجلى وبشير بن الخصاصية والحارث بن حسان الذهليان ومعبد بن أم معبد الأسلمى وبلال بن الحارث المزنى وعاصم بن عمرو التميمى، حتى إذا رضى المثنى وأخذ حاجته انحدر خالد فمضى لوجهه، وشيعه المثنى إلى قراقر، فقال له خالد: انصرف إلى سلطانك غير مقصر ولا ملوم ولا وان «1» . وذكر الطبرى «2» أن خالدا رحمه الله، لما أراد المسير إلى الشام دعا بالأدلة فارتحل من الحيرة سائرا إلى دومة، ثم ظعن فى البر إلى قراقر، ثم قال: كيف لى بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم؟ فإنى إن استقبلتها حبستنى عن غياث المسلمين، فكلهم قال: لا نعرف إلا طريقا لا تحمل الجيوش، فإياك أن تغرر بالمسلمين، فعزم عليه، ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد، فقام فيهم فقال: لا يختلفن هديكم ولا تضعفن تعبئتكم، واعلموا أن المعونة تأتى على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وأن المسلم لا ينبغى له أن يكترث لشىء يقع فيه مع معونة الله له. فقالوا له: أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك، فطابقوه ونووا واحتسبوا.

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 411) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 409) .

وذكر غير الطبرى أن خالدا حين أراد المسير إلى الشام قال له محرز بن حريش، وكان يتجر بالحيرة، ويسافر إلى الشام: اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن، ثم أمه حتى تصبح، فإنك لا تجور. فجرب ذلك فوجده كذلك. ثم أخذ فى السماوة حتى انتهى إلى قراقر ففوز من قراقر إلى سوى، وهما منزلان بينهما خمس ليال، فلم يهتدوا للطريق، فدل على رافع بن عميرة الطائى، فقال: خفف الأثقال واسلك هذه المفازة إن كنت فاعلا، فكره خالد أن يخلف أحدا، فقال: قد أتانى أمر لا بد من إنفاذه، وأن نكون جميعا. قال: فو الله إن الراكب المنفرد ليخافها على نفسه، ما يسلكها إلا مغررا، فكيف أنت بمن معك؟ قال: إنه لا بد من ذلك، فقد أتتنى عزيمة، قال: فمن استطاع منكم أن يصر أذن راحلته على ماء فليفعل، فإنها المهالك إلا ما وقى الله، ثم قال لخالد: ابغنى عشرين جزورا عظاما سمانا مسان. فأتاه بهن، فظمأهن حتى إذا أجهدهن عطشا سقاهن حتى أرواهن، ثم قطع مشافرهن، ثم كعمهن» ، ثم قال لخالد: سر بالخيول والأثقال، فكلما نزل منزلا نحر من تلك الشرف أربعا فافتض ماءهن فسقاه الخيول، وشرب الناس مما تزودوا حتى إذا كان آخر ذلك قال خالد لرافع: ويحك ما عندك يا رافع؟ فقال: أدركك الرأى إن شاء الله، انظروا، هل تجدون شجرة؟ هو شج على ظهر الطريق، قالوا: لا، قال: إنا لله إذا والله هلكت وأهلكت، لا أبا لكم انظروا، فنظروا فوجدوها، فكبروا وكبر وقال: أحفروا فى أصلها، فاحتفروا، فوجدوا عينا، فشربوا وارتووا، فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة مع أبى وأنا غلام. وقال راجز من المسلمين: لله در رافع أنى اهتدى ... فوز من قراقر إلى سوى أرضا إذا ما سارها الجيش بكى ... ما سارها من قبله إنس أرى لكن بأسباب متينات الهدى ... نكبها الله بنيات الردى «2» وعن عبد الله بن قرط الثمالى قال: لما خرج خالد من عين التمر «3» مقبلا إلى الشام كتب إلى المسلمين مع عمرو بن الطفيل بن عمرو الأزدى، وهو ابن ذى النور: أما بعد، فإن كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتانى، فأمرنى بالمسير إليكم، وقد شمرت وانكمشت، وكأن قد أظلت عليكم خيلى ورجالى، فأبشروا بإنجاز موعود الله، وحسن ثواب الله،

_ (1) كعمهن: أى شد أفواههن. (2) انظر الأبيات فى: تاريخ الطبرى (3/ 416) . (3) راجع خبر عين التمر فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 107) ، تاريخ الطبرى (3/ 376) .

عصمنا الله وإياكم باليقين، وأثابنا أحسن ثواب المجاهدين، والسلام عليكم. وكتب معه إلى أبى عبيدة: أما بعد، فإنى أسأل الله تعالى لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة فى دار الدنيا من كل سوء، وقد أتانى كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمرنى بالمسير إلى الشام، وبالقيام على جندها، والتوالى لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط، ولا أردته، إذ وليته، فأنت على حالتك التى كنت لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع أمرا دونك، فإنك سيد المسلمين، لا ننكر فضلك، ولا نستغنى عن رأيك، تمم الله ما بنا وبك من إحسان، ورحمنا وإياك من صلى النار، والسلام عليك ورحمة الله. قال: فلما قدم علينا عمرو بن الطفيل «1» ، قرأ كتاب خالد على الناس وهم بالجابية، ودفع إلى أبى عبيدة كتابه، فقرأه، فقال: بارك الله لخليفة رسول الله فيما رأى وحيى الله خالدا. قال: وشق على المسلمين أن ولى خالد على أبى عبيدة، ولم أره على أحد أشد منه على بنى سعيد بن العاص، وإنما كانوا متطوعين حبسوا أنفسهم فى سبيل الله حتى يظهر الله الإسلام. فأما أبو عبيدة فإنا لم نتبين فى وجهه ولا فى شىء من منطقة الكراهة لأمر خالد. وعن سهل بن سعد أن أبا بكر كتب إلى أبى عبيدة، رضى الله عنهما: أما بعد، فإنى قد وليت خالدا قتال العدو بالشام فلا تخالفه واسمع له وأطع أمره، فإنى لم أبعثه عليك أن لا تكون عندى خيرا منه، ولكنى ظننت أن له فطنة فى الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك خيرا، والسلام. ثم إن خالدا خرج من عين التمر حتى أغار على بنى تغلب والنمر بالبسر فقتلهم، وهزمهم، وأصاب من أموالهم طرفا. قال: وإن رجلا منهم ليشرب من شراب له فى جفنة، وهو يقول: ألا عللانى قبل جيش أبى بكر ... لعل منايانا قريب وما ندرى فما هو إلا أن فرغ من قوله، حتى شد عليه رجل من المسلمين فضرب عنقه، فإذا رأسه فى الجفنة.

_ (1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1951) ، الإصابة الترجمة رقم (5894) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3967) .

وعن عدى بن حاتم قال «1» : غزونا، يعنى مع خالد، على أهل المصيخ، وإذا رجل من النمر يدعى حرقوص بن النعمان، حوله بنوه وامرأته، وبينهم جفنة من خمر، وهم عليها عكوف يقولون له: ومن يشرب هذه الساعة فى أعجاز الليل؟ فقال: اشربوا شرب وداع، فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها أبدا، هذا خالد بالعين وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا: ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر ... وقبل انتقاض القوم بالعسكر الدثر وقبل منايانا المصيبة بالقدر ... لحين لعمرى لا يزيد ولا يحرى فسبق إليه وهو فى ذلك بعض الخيل، فضرب رأسه، فإذا هو فى جفنته، فأخذنا بناته وقتلنا بنيه. وفى كتاب سيف قال «2» : ولما بلغ غسان خروج خالد على سوى وانتسافها، وإغارته على مصيخ بهراء وانتسافها، اجتمعوا بمرج راهط، وبلغ ذلك خالدا وقد خلف ثغور الشام وجنودها مما يلى العراق، فصار بينهم وبين اليرموك صمد لهم، فخرج من سوى بعدما رجع إليها بسبى بهراء فنزل علمين على الطريق، ثم نزل الكثيب، حتى سار إلى دمشق، ثم مرج الصفر، فلقى عليه غسان، وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتسف عسكرهم ونزل بالمرج أياما، وبعث إلى أبى بكر بالأخماس، ثم خرج من المرج حتى نزل مياه بصرى، فكانت أول مدينة افتتحت بالشام على يدى خالد فيمن معه من جنود العراق، وخرج منها فوافى المسلمين بالواقوصة. وعن غير سيف أن خالدا أغار على غسان فى يوم فصحهم، فقتل وسبى، وخرج على أهل الغوطة حتى أغار عليهم، فقتل ما شاء وغنم، ثم إن العدو دخلوا دمشق فتحصنوا، وأقبل أبو عبيدة، وكان بالجابية مقيما، حتى نزل معه بالغوطة، فحاصر أهل دمشق. وعن قيس بن أبى حازم قال: كان خرج مع خالد من بجيلة وعظمهم أحمس نحو من مائتى رجل ومن طيئ نحو من مائة وخمسين. قال: وكان معنا المسيب بن نجيبة، فى نحو مائتى فارس من بنى ذبيان، وكان يعنى خالدا، فى نحو من ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، فكان أصحابه الذين دخلوا معه

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 382) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 410- 411) .

الشام ثمانمائة وخمسين رجلا كلهم ذو نية وبصيرة، لأنه كان يقحمهم أمورا يعلمون أنه لا يقوى على ذلك إلا كل قوى جلد، فأقبل بنا حتى مر بأركة، فأغار عليها، وأخذ الأموال، وتحصن منه أهلها، فلم يبارحهم حتى صالحهم. قال: ومر بتدمر «1» ، فتحصنوا منه، فأحاط بهم من كل جانب، وأخذهم من كل مأخذ، فلم يقدر عليهم، فلما لم يطقهم ترحل عنهم، وقال لهم حين أراد أن يرتحل، فيما روى عن عبد الله بن قرط: والله لو كنتم فى السحاب لاستنزلناكم وظهرنا عليكم، ما جئناكم إلا ونحن نعلم أنكم ستفتحون علينا، وإن أنتم لم تصالحوا هذه المرة لأرجعن إليكم لو قد انصرفت من وجهى هذا ثم لا أرحل عنكم حتى أقتل مقاتلتكم وأسبى ذراريكم. فلما فصل قال علماؤهم، واجتمعوا: إنا لا نرى هؤلاء القوم إلا الذين كنا نتحدث أنهم يظهرون علينا، فافتحوا لهم، فبعثوا إلى خالد فجاء، ففتحوا له وصالحوه. وعن سراقة بن عبد الأعلى بن سراقة: أن خالدا فى طريقه ذلك مر على حوران فهابوه، فتحرز أكثرهم منه، وأغار عليهم، فاستاق الأموال وقتل الرجال وأقام عليهم أياما، فبعثوا إلى ما حولهم ليمدوهم، فأمدوهم من مكانين: من بعلبك، وهى أرض دمشق، ومن قبل بصرى، وبصرى مدينة حوران، وهى من أرض دمشق أيضا. فلما رأى المددين قد أقبلا خرج فصف بالمسلمين، ثم تجرد فى مائتى فارس، فحمل على مدد بعلبك «2» وهم أكثر من ألفين فما وقفوا حتى انهزموا، فدخلوا المدينة، ثم انصرف يوجف فى أصحابه وجيفا، حتى إذا كان بحذاء بصرى، وإنهم لأكثر من ألفين، حمل عليهم فما ثبتوا له فواقا حتى هزمهم، فدخلوا المدينة، وخرج أهل المدينة فرموا المسلمين بالنشاب، فانصرف عنهم خالد وأصحابه، حتى إذا كان من الغد خرجوا إليه ليقاتلوه، فعجزوا وأظهر الله عليهم المسلمين، فصالحوهم. وقال عمرو بن محصن: حدثنى علج من أهل حوران «3» كان يشجع، قال: والله

_ (1) تدمر: من مدن الشام بالبرية، أولية يقال إن الجن بنتها لسليمان عليه السلام. ومن حلب إليها خمسة أيام وكذلك من دمشق إليها، وكذا من الرقة إليها، وكذا من الرحبة إليها. انظر: الروض المعطار (131) ، معجم ما استعجم (1/ 307) . (2) بعلبك: مدينة بالشام بينها وبين دمشق فى جهة الشرق مرحلتان، وهى حصينة فى سفح جبل وعليها سور حصين بالحجارة. انظر: الروض المعطار (109) ، نزهة المشتاق (116) . (3) حوران: جبل بالشام، وحوران أيضا من أعمال دمشق، ومدينتها بصرى، تسير فى صحراء حوران عشرة فراسخ حتى تصل إلى مدينة بصرى. انظر: الروض المعطار (206) .

لخرجنا إليهم بعد ما جاءنا مدد أهل بعلبك وأهل بصرى بيوم، فلخرجنا وإنا لأكثر من خالد وأصحابه بعشرة أضعافهم وأكثر، فما هو إلا أن دنونا منهم، فثاروا فى وجوهنا بالسيوف كأنهم الأسد، فانهزمنا أقبح الهزيمة، وقتلونا شر المقتلة، فما عدنا نخرج إليهم حتى صالحناهم، ولقد رأيت رجلا منا كنا نعده بألف رجل، قال: لئن رأيت أميرهم لأقتلنه، فلما رأى خالدا قيل له: هذا خالد أمير القوم، فحمل عليه، وإنا لنرجو لبأسه أن يقتله، فما هو إلا أن دنا منه، فضرب خالد فرسه، فقدمه عليه، ثم استعرض وجهه بالسيف فأطار قحف رأسه، ودخلنا مدينتنا، فما كان لنا هم إلا الصلح حتى صالحناهم. وعن قيس بن أبى حازم قال: كنت مع خالد حين مر بالشام، فأقبل حتى نزل بقناة بصرى من أرض حوران، وهى مدينتها، فلما نزلنا واطمأننا خرج إلينا الدرنجار «1» فى خمسة آلاف فارس من الروم، فأقبل إلينا وما يظن هو وأصحابه إلا أنا فى أكفهم، فخرج خالد فصفنا، ثم جعل على ميمنتنا رافع بن عميرة الطائى، وعلى ميسرتنا ضرار بن الأزور، وعلى الرجال عبد الرحمن بن حنبل الجمحى، وقسم خيله، فجعل على شطرها المسيب بن نجية، وعلى الشطر الآخر رجلا كان معه من بكر بن وائل، ولم يسمه، وأمرهما خالد حين قسم الخيل بينهما أن يرتفعا من فوق القوم عن يمين وشمال، ثم ينصبا على القوم، ففعلا ذلك، وأمرنا خالد أن نزحف إلى القلب، فزحفنا إليهم، والله ما نحن إلا ثمانمائة وخمسون رجلا، وأربعمائة رجل من مشجعة من قضاعة، استقبلنا بهم يعبوب رجل منهم، فكنا ألفا ومائتين ونيفا. قال: وكنا نظن أن الكثير من المشركين والقليل عند خالد سواء، لأنه كان لا يملأ صدره منهم شىء، ولا يبالى بمن لقى منهم لجرأته عليهم، فلما دنوا منا شدوا علينا شدتين، فلم نبرح، ثم إن خالدا نادى بصوت له جهورى شديد عال، فقال: يا أهل الإسلام، الشدة، الشدة، احملوا رحمكم الله، عليهم، فإنكم إن قاتلتموهم محتسبين بذلك وجه الله فليس لهم أن يواقفوكم ساعة، ثم إن خالدا شد عليهم، فشددنا معه، فو الله الذى لا إله إلا هو ما ثبتوا لنا فواقا حتى انهزموا، فقتلنا منهم فى المعركة مقتلة عظيمة، ثم اتبعناهم نكردهم «2» ونصيب الطرف منهم، ونقطعهم عن أصحابهم، ثم نقتلهم، فلم نزل كذلك حتى انتهينا إلى مدينة بصرى، فأخرج لنا أهلها الأسواق، واستقبلوا المسلمين

_ (1) الدرنجار: أى قائد الروم البيزنطيين. (2) نكردهم: أى نطردهم.

بكل ما يحبون، ثم سألوا الصلح، فصالحناهم، فخرج خالد من فوره ذلك، فأغار على غسان فى جانب من مرج راهط فى يوم فصحهم، فقتل وسبى. وعن أبى الخزرج الغسانى قال: كانت أمى فى ذلك السبى، فلما رأت هدى المسلمين وصلاحهم وصلاتهم وقع الإسلام فى قلبها فأسلمت، فطلبها أبى فى السبى فعرفها، فجاء المسلمين فقال: يا أهل الإسلام، إنى رجل مسلم، وهذه امرأتى قد أصبتموها، فإن رأيتم أن تصلونى وتحفظوا حقى فتردوا علىّ أهلى فعلتم. فقال لها المسلمون: ما تقولين فى زوجك قد جاء يطلبك وهو مسلم؟ قالت: إن كان مسلما رجعت إليه، وإلا فلا حاجة لى فيه، ولست براجعة إليه. وقعة أجنادين ذكر سعيد بن الفضل وأبو إسماعيل وغيرهما أن خالد بن الوليد لما دخل الغوطة «1» كان قد مر بثنية فخرعها، ومعه راية له بيضاء تدعى العقاب، فسميت بذلك تلك الثنية: ثنية العقاب، ثم نزل ديرا يقال له: دير خالد لنزوله به، وهو مما يلى باب الشرقى، يعنى من دمشق. وجاء أبو عبيدة من قبل الجابية، حتى نزل باب الجابية، ثم شنا الغارات فى الغوطة وغيرها، فبينما هما كذلك أتاهما أن وردان صاحب حمص، قد جمع الجموع يريد أن يقتطع شرحبيل بن حسنة وهو ببصرى، وأن جموعا من الروم قد نزلت أجنادين «2» ، وأن أهل البلد ومن مروا به من نصارى العرب قد سارعوا إليهم، فأتاهما خبر أفظعهما وهما مقيمان على عدو يقاتلانه، فالتقيا فتشاورا فى ذلك، فقال أبو عبيدة: أرى أن نسير حتى نقدم على شرحبيل قبل أن ينتهى إليه العدو الذى قد صمد صمدة، فإذا اجتمعنا سرنا إليه حتى نلقاه، فقال له خالد: إن جمع الروم هنا بأجنادين، وإن نحن سرنا إلى شرحبيل تبعنا هؤلاء من قريب، ولكن أرى أن نصمد صمد عظمهم، وأن نبعث إلى شرحبيل فنحذره مسير العدو إليه، ونأمره فيوافينا بأجنادين، ونبعث إلى يزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص فيوافيانا بأجنادين، ثم نناهض عدونا. فقال له أبو عبيدة: هذا رأى حسن، فأمضه على بركة الله.

_ (1) الغوطة: قيل: هى قصبة دمشق، وقيل: هو موضع متصل بدمشق من جهة باب الفراديس، وطول الغوطة مرحلتان عرض فى عرض مرحلة. انظر: الروض المعطار (431) . (2) أجنادين: بفتح الهمزة والنون والدال، بعدها ياء ونون على لفظ التثنية، موضع بالشام من بلاد الأردن. انظر: الروض المعطار (12) .

وكان خالد مبارك الولاية، ميمون النقيبة، مجربا، بصيرا، بالحرب، مظفرا. فلما أراد الشخوص من أرض دمشق إلى الروم الذين اجتمعوا بأجنادين، كتب نسخة واحدة إلى الأمراء: أما بعد، فإنه نزل بأجنادين جمع من جموع الروم، غير ذى قوة ولا عدة، والله قاصمهم وقاطع دابرهم، وجاعل دائرة السوء عليهم، وقد شخصت إليهم يوم سرحت رسولى إليكم، فإذا قدم عليكم فانهضوا إلى عدوكم بأحسن عدتكم وأصح نيتكم، ضاعف الله أجوركم وحط أوزاركم، والسلام. ووجه بهذه النسخ مع أنباط كانوا مع المسلمين عيونا لهم، وفيوجا «1» وكان المسلمون يرضخون لهم، ودعا خالد الرسول الذى بعثه منهم إلى شرحبيل، فقال له: كيف علمك بالطريق؟ قال: أنا أدل الناس بالطريق، قال: فادفع إليه هذا الكتاب، وحذره الجيش الذى ذكر لنا أنه يريده، وخذ به وبأصحابه طريقا تعدل به عن طريق العدو الذى شخص إليه وتأتى به حتى تقدمه علينا بأجنادين. قال: نعم، فخرج الرسول إلى شرحبيل، ورسول آخر إلى عمرو بن العاص، وآخر إلى يزيد بن أبى سفيان. وخرج خالد وأبو عبيدة بالناس إلى أهل أجنادين، والمسلمون سراع إليهم، جراء عليهم، فلما شخصوا لم يرعهم إلا أهل دمشق فى آثارهم، فلحقوا أبا عبيدة وهو فى أخريات الناس فلما رآهم قد لحقوا به نزل، وأحاطوا به، وهو فى نحو من مائتى رجل من أصحابه، وأهل دمشق فى عدد كثير، فقاتلهم أبو عبيدة قتالا شديدا، وأتى الخبر خالدا وهو أمام الناس فى الفرسان والخيل، فعطف راجعا، ورجع الناس معه، وتعجل خالد فى الخيل وأهل القوة، وانتهوا إلى أبى عبيدة وأصحابه وهم يقاتلون الروم قتالا حسنا، فحمل الخيل على الروم فدق بعضهم على بعض، وقتلهم ثلاثة أميال حتى دخلوا دمشق، ثم انصرف، ومضى بالناس نحو الجابية، وأخذ يلتفت وينتظر قدوم أصحابه عليه. ومضى رسول خالد إلى شرحبيل، فوافاه وليس بينه وبين الجيش الذى سار إليه من حمص «2» مع وردان إلا مسيرة يوم، وهو لا يشعر، فدفع إليه الرسول الكتاب، وأخبره الخبر، واستحثه بالشخوص، فقام شرحبيل، فى الناس، فقال: أيها الناس، اشخصوا إلى

_ (1) فيوج: جمع فج، وهو الحارث أو العداء سريع الجرى. (2) حمص: مدينة بالشام، ولا يجوز فيها الصرف كما لا يجوز فى هند لأنه اسم أعجمى، سميت برجل من العماليق يسمى حمص، ويقال: رجل من عاملة، هو أو من نزلها. انظر: الروض المعطار (198) .

أميركم، فإنه قد توجه إلى عدو المسلمين بأجنادين، وقد كتب إلىّ يأمرنى بموافاته هنالك. ثم خرج بالناس ومضى بهم الدليل، وبلغ ذلك الجيش الذى جاء فى طلبهم، فجعل المسير فى آثارهم، وجاء وردان كتاب من الروم الذين بأجنادين: أن عجل إلينا فإنا مؤمروك علينا ومقاتلون معك العرب حتى تنفيهم من بلادنا. فأقبل فى آثار هؤلاء، رجاء أن يستأصلهم أو يصيب طرفا منهم، فيكون قد نكب طائفة من المسلمين، فأسرع السير فلم يلحقهم، وجاؤا حتى قدموا على المسلمين، وجاء وردان فيمن معه حتى وافى جمع الروم بأجنادين، فأمروه عليهم، واشتد أمرهم. وأقبل يزيد بن أبى سفيان حتى وافى أبا عبيدة وخالدا، ثم إنهم ساروا حتى نزلوا بأجنادين، وجاء عمرو بن العاص فيمن معه، فاجتمع المسلمون جميعا بأجنادين، وتزاحف الناس غداة السبت. فخرج خالد، فأنزل أبا عبيدة فى الرجال، وبعث معاذ بن جبل على الميمنة، وسعيد ابن عامر بن حذيم على الميسرة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل على الخيل. وأقبل خالد يسير فى الناس، لا يقر فى مكان واحد، يحرض الناس، وقد أمر نساء المسلمين فاحتزمن وقمن وراء الناس يدعون الله ويستغثنه، وكلما مر بهن رجل من المسلمين رفعن أولادهن إليه وقلن لهم: قاتلوا دون أولادكم ونسائكم. وأقبل خالد يقف على كل قبيلة فيقول: اتقوا الله عباد الله، وقاتلوا فى الله من كفر بالله، ولا تنكصوا على أعقابكم، ولا تهنوا من عدوكم، ولكن أقدموا كإقدام الأسد، أو ينجلى الرعب وأنتم أحرار كرام، قد أوتيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الآخرة، ولا يهولنكم ما ترون من كثرتهم، فإن الله منزل رجزه وعقابه بهم. وقال للناس: إذا حملت فاحملوا. وقال معاذ بن جبل: يا معشر المسلمين، اشروا أنفسكم اليوم لله، فإنكم إن هزمتموهم اليوم كانت لكم دار السلام أبدا مع رضوان الله والثواب العظيم من الله. وكان من رأى خالد مدافعتهم، وأن يؤخر القتال إلى صلاة الظهر، عند مهب الأرواح، وتلك الساعة التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستحب القتال فيها، فأعجله الروم، فحملوا على المسلمين مرتين: من قبل الميمنة على معاذ بن جبل، ومن قبل الميسرة على

سعيد بن عامر، فلم يتخلخل أحد منهم، ورموا المسلمين بالنشاب، فنادى سعيد بن زيد، وكان من أشد الناس: يا خالد علام تستهدف هؤلاء الأعلاج؟ وقد رشقونا بالنشاب حتى شمست الخيل، فقال خالد للمسلمين: احملوا رحمكم الله على اسم الله، فحمل خالد والناس بأجمعهم، فما واقفوهم فواقا، وهزمهم الله، فقتلهم المسلمون كيف شاؤا، وأصابوا عسكرهم وما فيه. وأصابت إبان بن سعيد بن العاص نشابة، فنزعها وعصبها بعمامته، فحمله إخوته، فقال: لا تنزعوا عمامتى عن جرحى فلو قد نزعتموها تبعتها نفسى، أما والله ما أحب أنها بحجر من جبل الحمر، وهو جبل السماق، فمات منها، يرحمه الله. وأبلى يومئذ بلاء حسنا، وقاتل قتالا شديدا عظم فيه غناؤه، وعرف به مكانه، وكان قد تزوج أم أبان بنت عتبة بن ربيعة، وبنى عليها، فباتت عنده الليلة التى زحفوا للعدو فى غدها، فأصيب، فقالت أم أبان هذه لما مات: ما كان أغنانى عن ليلة أبان. وقتل اليعبوب بن عمرو بن ضريس المشجعى يومئذ، سبعة من المشركين، وكان شديدا جليدا، فطعن طعنة كان يرجى أن يبرأ منها، فمكث أربعة أيام أو خمسة ثم انتقضت به فاستأذن أبا عبيدة أن يأذن له إلى أهله، فإن يبرأ رجع إليهم، فأذن له، فرجع إلى أهله بالعمر، عمر المدائن، فمات، يرحمه الله، فدفن هنالك. وقتل مسلمة بن هشام المخزومى، ونعيم بن عدى بن صخر العدوى، وهشام بن العاص السهمى، أخو عمرو بن العاص، وهبار بن سفيان، وعبد الله بن عمرو بن الطفيل الدوسى، وهو ابن ذى النور، وكان من فرسان المسلمين، فقتلوا يومئذ، يرحمهم الله. وقتل المسلمون فى المعركة منهم ثلاثة آلاف، وأتبعوهم يأسرونهم ويقتلونهم، فخرج فل الروم بإيلياء وقيسارية ودمشق وحمص فتحصنوا فى المدائن العظام. وكتب خالد إلى أبى بكر: لعبد الله أبى بكر الصديق، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خالد بن الوليد، سيف الله المصبوب على المشركين، سلام عليك، فإنى أخبرك أيها الصديق أنا التقينا نحن والمشركين وقد جمعوا لنا جموعا بأجنادين، وقد رفعوا صلبهم، ونشروا كتبهم، وتقاسموا بالله لا يفروا حتى يفنونا أو يخرجونا من بلادهم، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله، فطاعناهم بالرماح شيئا، ثم صرنا إلى السيوف فقارعناهم بها مقدار جزر جزور، ثم إن الله أنزل نصره وأنجز وعده وهزم الكافرين، فقتلناهم فى كل فج وشعب وحائط، فالحمد لله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنع لأوليائه، والسلام عليك ورحمة الله.

وبعث خالد بكتابه هذا مع عبد الرحمن بن حنبل الجمحى، فلما قرئ على أبى بكر وهو مريض مرضه الذى توفاه الله فيه أعجبه ذلك، وقال: الحمد لله الذى نصر المسلمين، وأقر عينى بذلك. قال سهل بن سعد: وكانت وقعة أجنادين هذه أول وقعة عظيمة كانت بالشام، كانت سنة ثلاث عشرة، فى جمادى الأولى لليلتين بقيتا منه، يوم السبت نصف النهار، قبل وفاة أبى بكر رضى الله عنه، بأربع وعشرين ليلة. وذكر الطبرى «1» عن ابن إسحاق أن الذى كان على الروم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه، ثم ذكر عنه، عن عروة بن الزبير، أنه قال: كان على الروم رجل منهم يقال له: القبقلار، وكان هرقل استخلفه على أمراء الشام حين سار إلى القسطنطينية، وإليه انصرف تذارق ومن معه من الروم. قال ابن إسحاق: فأما علماء أهل الشام فيزعمون أنه إنما كان على الروم تذارق، فالله أعلم. وعنه قال: لما تدانى العسكران بعث القبقلار رجلا عربيا، فقال له: ادخل فى هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة ثم ائتنى بخبرهم. فدخل فى الناس رجل عربى لا ينكر، فأقام فيهم يوما وليلة، ثم أتاه فقال له: مه ما وراءك؟ قال: بالليل رهبان وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى لرجم، لإقامة الحق فيهم، فقال له القبقلار: لئن كنت صدقتنى لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظى من الله أن يخلى بينى وبينهم، فلا ينصرنى عليهم ولا ينصرهم على. ثم تزاحف الناس، فاقتتلوا، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتالهم قال للروم: لفوا رأسى بثوب، قالوا له: لم؟ قال: هذا يوم بئيس، ما أحب أن أراه، ما رأيت من الدنيا يوما أشد من هذا. قال: فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملفف. وعن غير ابن إسحاق قال: ثم إن خالد بن الوليد أمر الناس أن يسيروا إلى دمشق، وأقبل بهم حتى نزلوها، وقصد إلى ديره الذى كان ينزل به، فنزله وهو من دمشق على ميل مما يلى باب الشرقى، وبخالد يعرف ذلك الدير إلى اليوم، وجاء أبو عبيدة حتى نزل على باب الجابية، ونزل يزيد بن أبى سفيان على جانب آخر من دمشق وأحاطوا بها، وحاصروا أهلها حصارا شديدا.

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 417) .

وقدم عبد الرحمن بن حنبل من عند أبى بكر بكتابه إلى خالد، وأتى يزيد بن أبى سفيان ومعه كان يكون، فقال له يزيد: هل لقيت أبى؟ قال: نعم، قال: فهل سألك عنى؟ قال: نعم، قال: فما قلت له؟ قال: قلت له إن يزيد حازم الرأى، متواضع فى ولايته، بئيس البأس، محبب فى الإخوان، يبذل ما قدر عليه من فضله. فقال أبو سفيان: كذلك ينبغى لمثله أن يكون، وطلب إلىّ أن أكتب إليه بما يكون من أمرنا، وأن أعلمه حالنا، فوعدته ذلك. قال: فخرج خالد بالمسلمين ذات يوم، فأحاطوا بمدينة دمشق، ودنوا من أبوابها، فرماهم أهلها بالحجارة ورشقوهم من فوق السور بالنشاب، فقال ابن حنبل: وأبلغ أبا سفيان عنا فإننا ... على خير حال كان جيش يكونها وأنا على بابى دمشقة نرتمى ... وقد حان من بابى دمشقة حينها وقعة مرج الصفر «1» قال: فإن المسلمين لكذلك يقاتلونهم ويرجون فتح مدينتهم إذ أتاهم آت فأخبرهم أن هذا جيش قد جاءكم من قبل ملك الروم، فنهض خالد بالناس على تعبئته وهيئته، فقدم الأثقال والنساء، وخرج معهن يزيد بن أبى سفيان، ووقف خالد وأبو عبيدة من وراء الناس، ثم أقبلوا نحو ذلك الجيش، فإذا هو درنجار بعثه ملك الروم فى خمسة آلاف رجل من أهل القوة والشدة ليغيث أهل دمشق، فصمد المسلمون صمدهم، وخرج إليهم أهل القوة من أهل دمشق، وناس كثير من أهل حمص، فالقوم نحو من خمسة عشر ألفا، فلما نظر إليهم خالد عبأ أصحابه كتعبئته يوم أجنادين، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الخيل سعيد بن زيد، وأبا عبيدة على الرجال. وذهب خالد فوقف فى أول الصف يريد أن يحرض الناس، ثم نظر إلى الصف من أوله إلى آخره حتى حملت خيل لهم على خالد بن سعيد، وكان واقفا فى جماعة من المسلمين فى ميمنة الناس يدعون الله، ويقص عليهم، فحملت طائفة منهم عليه، فقاتلهم حتى قتل رحمه الله، وحمل عليهم معاذ بن جبل من الميمنة فهزمهم، وحمل عليهم خالد

_ (1) مرج الصفر: بالشام، به كانت وقعة للمسلمين على نصارى الشام بعد وقعة أجنادين وكان بين الوقعتين عشرون يوما وكان ذلك قبل وفاة أبى بكر رضى الله عنه بأربعة أيام. انظر: الروض المعطار (535) .

ابن الوليد من الميسرة فهزم من يليه منهم، وحمل سعيد بن زيد بالخيل على عظم جمعهم، فهزمهم الله وقتلهم، واجتث عسكرهم، ورجع الناس، وقد ظفروا وقتلوهم كل قتلة، وذهب المشركون على وجههم، فمنهم من دخل مدينة دمشق مع أهلها، ومنهم من رجع إلى حمص، ومنهم من لحق بقيصر. وعن عمرو بن محصن: أن قتلاهم يومئذ وهو يوم مرج الصفر كانت خمسمائة فى المعركة، وقد تلوا وأسروا نحوا من خمسمائة أخرى. وقال أبو أمامة فيما رواه عنه يزيد بن يزيد بن جابر: كان بين أجنادين وبين يوم مرج الصفر عشرون يوما. قال: فحسبت ذلك فوجدته يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة، قبل وفاة أبى بكر رضى الله عنه، بأربعة أيام. ثم إن الناس أقبلوا عودهم على بدئهم حتى نزلوا دمشق، فحاصروا أهلها وضيقوا عليهم، وعجز أهلها عن قتال المسلمين، ونزل خالد منزله الذى كان ينزل به على باب الشرقى، ونزل أبو عبيدة منزله على باب الجابية، ونزل يزيد بن أبى سفيان جانبا آخر، فكان المسلمون يغيرون، فكلما أصاب رجل نفلا جاء بنفله حتى يلقيه فى القبض، لا يستحل أن يأخذ منه قليلا ولا كثيرا، حتى إن الرجل منهم ليجىء بالكبة الغزل أو بالكبة الصوف أو الشعر أو المسلمة أو الإبرة فيلقيها فى القبض، لا يستحل أن يأخذها، فسأل صاحب دمشق بعض عيونه عن أعمالهم وسيرتهم، فوصفهم له بهذه الصفة فى الأمانة، ووصفهم بالصلاة بالليل وطول القيام، فقال: هؤلاء رهبان بالليل أسد بالنهار، لا والله ما لى بهؤلاء طاقة، وما لى فى قتالهم خير. قال: فراود المسلمين على الصلح، فأخذ لا يعطيهم ما يرضيهم، ولا يبايعونه على ما يسأل، وهو فى ذلك لا يمنعه من الصلح والفراغ إلا أنه قد بلغه أن قيصر يجمع الجموع للمسلمين، يريد غزوهم، فكان ذلك مما يمنعه من تعجيل الصلح. وعلى تعبئة ذلك بلغ المسلمين الخبر بوفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، واستخلافه عمر رضى الله عنهما، وما تبع ذلك من صرف خالد بأبى عبيدة، حسبما يأتى تفصيله وبيانه إن شاء الله تعالى.

ذكر الخبر عن وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وما كان من عهده إلى عمر بن الخطاب، جزاهما الله عن دينه الحق أفضل الجزاء «1» قد تقدم فى بدء الردة، وذكر خلافة أبى بكر رضى الله عنه، من هذا الكتاب ما دل على ولاية عمر بعده، من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذى يروى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبى بكر، ونيط عثمان بعمر، قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما ما ذكر من نوط بعضهم ببعض، فهم ولاة هذا الأمر الذى بعث الله به نبيه. وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا نائم رأيتنى على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبى قحافة، فنزع منها ذنوبا، أو ذنوبين، وفى نزعه والله يغفر له ضعف، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب، حتى ضرب الناس بعطن» «2» . واختلف أهل العلم فى السبب الذى توفى منه أبو بكر، فذكر الواقدى أنه اغتسل فى يوم بارد فحم ومرض خمسة عشر يوما. وقال الزبير بن بكار: كان به طرف من السل. وقال غيره: أن أصل ابتداء ذلك السل به الوجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبضه الله إليه، فما زال ذلك به حتى قضى منه. وروى عن سلام بن أبى مطيع أنه رضى الله عنه، سم. وبعض من ذكر ذلك يقول: أن اليهود سمته فى أرزة، وقيل فى حريرة، فمات بعد سنة. وقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب، فقال: قد رآنى، قالوا: فما قال لك؟ قال: قال: إنى أفعل ما أريد «3» .

_ (1) راجع الخبر فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 129) ، تاريخ الطبرى (3/ 419) ، طبقات ابن سعد (3/ 1/ 140) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 7، 9/ 45، 49، 171) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (17) ، السنن الكبرى للبيهقى (8/ 153) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 19، 12/ 414) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (6031) ، شرح السنة للبغوى (14/ 89) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 226) ، كنز العمال للمتقى الهندى (3273) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 344) ، السنة لابن أبى عاصم (14/ 89) . (3) راجع ما ذكره ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 129) .

وكذلك اختلفوا فى حين وفاته، فقال ابن إسحاق: توفى يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. وقال غيره من أهل السير: إنه مات عشى يوم الاثنين، وقيل ليلة الثلاثاء وقيل: عشى الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة، وهذا هو الأكثر فى وفاته «1» . وأوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس، فغسلته، وصلى عليه عمر بن الخطاب فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل على السرير الذى حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فى قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر، ودفن ليلا فى بيت عائشة مع النبى صلى الله عليه وسلم، وجعل رأسه عند كتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقوا لحده بلحده، وجعل قبره مسطحا مثل قبر النبى صلى الله عليه وسلم ورش عليه بالماء. ولا يختلفون فى أنه توفى ابن ثلاث وستين سنة، وأنه استوفى بخلافته بعد الرسول صلوات الله عليه، سن رسول الله صلى الله عليه وسلم التى توفاه الله لها «2» . ويروى أنه رضى الله عنه، لما احتضر، وابنته عائشة حاضرة، فأنشدت رضى الله عنها «3» : لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر رفع إليها رأسه وقال: لا تقولى هذا يا بنية، أو: ليس هكذا يا بنية، ولكن قولى: «وجاءت سكرة [الحق بالموت] ذلك ما كنت منه تحيد» «4» ، هكذا قرأها أبو بكر رضى الله عنه. وقالوا: كان آخر ما تكلم به: رب توفنى مسلما، وألحقنى بالصالحين. وقال أبو بكر رضى الله عنه، لعائشة رضى الله عنها، وهو مريض: فى كم كفن

_ (1) راجع المنتظم لابن الجوزى (4/ 130) ، تاريخ الطبرى (3/ 421) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 421) . (3) انظر الأبيات فى: العقد الفريد (5/ 19) ، وهذا البيت لحاتم الطائى، راجع ديوانه ص (51) . (4) ما بين المعقوفتين ورد فى بعض الأصول: «الموت بالحق» وهذا هو المشهور فى القراآت السبع، وقول المصنف هكذا قرأها أبو بكر، يوضح أن أبا بكر قرأها باختلاف عن المشهور، وكذلك أيضا قرأ بها سعيد بن جبير وطلحة وعبد الله بن مسعود، وشعبة، وأبى عمران. انظر: الطبرى (26/ 100) ، الفراء (3/ 78) ، الكشاف (4/ 7) ، القرطبى (17/ 12) ، النحاس (3/ 217) ، مجمع البيان (9/ 143) ، زاد المسير (7/ 194) ، المحتسب (5/ 337- 338) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: فى ثلاثة أثواب بيض سحولية. فقال أبو بكر: خذوا هذا الثوب، لثوب عليه قد أصابه مشق أو زعفران فاغسلوه، ثم كفنونى فيه مع ثوبين آخرين. فقالت عائشة: وما هذا؟ فقال أبو بكر: الحى أحوج إلى الجديد من الميت، وإنما هذا للمهلة. ولما توفى أبو بكر رحمه الله، ارتجت المدينة بالبكاء، ودهش القوم كيوم قبض النبى صلى الله عليه وسلم فأقبل على بن أبى طالب رضى الله عنه، مسرعا باكيا مسترجعا، حتى وقف على باب البيت الذى فيه أبو بكر، وقد سجى بثوب، فقال: رحمك الله يا أبا بكر، كنت أول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله عز وجل، وأعظمهم غناء، وأحدبهم على الإسلام، وأيمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة وأفضلهم مناقب، وأكثرهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عند الله، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله والمسلمين خيرا، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، فسماك الله فى كتابه صديقا. فقال: والذى جاء بالصدق محمد، وصدق به أبو بكر، وآسيته حين بخلوا، وقمت معه حين عنه قعدوا، وصحبته فى الشدة أكرم الصحبة، ثانى اثنين، وصاحبه فى الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه فى الهجرة ومواطن الكريهة، ثم خلفته فى أمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس، وقمت بدين الله قياما لم يقم به خليفة نبى قط، قويت حين ضعف أصحابك، وبدرت حين استكانوا، ونهضت حين وهنوا، ولزمت منهاج رسوله إذ هم أصحابه، كنت خليفته حقا، لم تنازع ولم تضرع برغم المنافقين وصغر الفاسقين وغيظ الكافرين وكره الحاسدين، فقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تتعتعوا، ومضيت بنور الله إذ وقفوا، فاتبعوك، فهدوا، وكنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم فوقا، وأقلهم كلاما، وأصوبهم منطقا، وأطولهم صمتا، وأبلغهم قولا، وكنت أكبرهم رأيا، وأشجعهم قلبا، وأحسنهم عملا، وأعرفهم بالأمور، كنت والله للدين يعسوبا أولا حين تفرق عنه الناس، وآخرا حين أقبلوا، كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا، وحفظت ما ضيعوا، ورعيت ما أهملوا، وشمرت إذ خنعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، فأدركت أوتار ما طلبوا ونالوا بك ما لم يحتسبوا، كنت على الكافرين عذابا صبا، وكنت للمسلمين غيثا وخصبا، فطرت والله بغنائها، وفزت بحبابها، وذهبت بفضائلها، وأحرزت سوابقها، لم تفلل حجتك، ولم

يزغ قلبك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، ولم تخن، كنت كالجبل الذى لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن الناس عليه فى صحبتك وذات يدك، وكما قال: ضعيفا فى بدنك قويا فى أمر الله تعالى متواضعا فى نفسك، عظيما عند الله، جليلا فى الأرض، كبيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد فيك مهمز، ولا لقائل فيك مغمز، ولا لأحد فيك مطمع، ولا عندك هوادة لأحد، الضعيف الذليل عندك قوى عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوى العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد عندك فى ذلك سواء، شأنك الحق والصدق والرفق، وقولك حكم وحتم، ورأيك علم وعرف، فأقلعت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفئت النيران، واعتدل بك الدين، وقوى الإيمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، فسبقت والله سبقا بعيدا، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا، وفزت بالحق فوزا مبينا، فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك فى السماء، وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا لله أمره، ولن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبدا، كنت للدين عزا وكهفا، وللمؤمنين حصنا وفئة وأنسا، وعلى المنافقين غلظة وغيظا وكظما، فألحقك الله بميتة نبيك صلى الله عليه وسلم ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك، فإنا لله، وإنا إليه راجعون «1» . وأنصت الناس حتى قضى كلامه، ثم بكى وبكوا، قوالوا: صدقت يابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) انظر الخطبة فى: العقد الفريد (5/ 19- 20) .

استخلاف عمر بن الخطاب «1» وتقلد أمر الأمة وخلافة المسلمين بعد أبى بكر صاحبه ورفيقه وظهيره ووزيره عمر ابن الخطاب رضى الله عنهما، بعهد أبى بكر إليه بذلك، واستخلافه إياه عليه، نظرا للدين، ونصيحة لله وللأمة، وذلك لما استعز بأبى بكر رضى الله عنه، وجعه، وثقل، أرسل إلى عثمان وعلى ورجال من أهل السابقة والفضل من المهاجرين والأنصار، فقال: قد حضر ما ترون، ولا بد من قائم بأمركم يجمع فئتكم ويمنع ظالمكم من الظلم، ويرد على الضعيف حقه، فإن شئتم اخترتم لأنفسكم، وإن شئتم جعلتم ذلك إلىّ، فو الله لا آلوكم ونفسى خيرا. قالوا: قد رضينا من اخترت لنا، قال: فقد اخترت عمر، وقال لعثمان: اكتب: هذا ما عهد أبو بكر فى آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حين يتوب الفاجر ويؤمن الكافر ويصدق الكاذب، عهد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن وعد الله حق وصدق المرسلون، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى أنبيائه ورسله، وقد استخلفت. ولما انتهى أبو بكر إلى هذا الموضع ضعف ورهقته غشية، فكتب عثمان: وقد استخلفت عمر بن الخطاب، وأمسك، حتى أفاق أبو بكر فقال: أكتبت شيئا؟ قال: نعم، كتبت عمر بن الخطاب، فقال: رحمك الله، أما لو كتبت نفسك لكنت لها أهلا، فاكتب: قد استخلفت عمر بن الخطاب بعدى عليكم، ورضيته لكم، فإن عدل فذلك ظنى به، ورأيى فيه، وذلك أردت، وما توفيقى إلا بالله، وإن بدل فلكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون. والتوى عمر رضى الله عنه، على أبى بكر رحمه الله، فى قبول عهده، وقال: لا أطيق القيام بأمر الناس، فقال أبو بكر لابنه عبد الرحمن: ارفعنى وناولنى السيف، فقال عمر: أو تعفينى؟ قال: لا، فعند ذلك قبل. ذكر هذا كله أبو الحسن المدائنى، وذكر بإسناد له عن أبى هريرة وغيره أنه لما عهد أبو بكر إلى عمر عهده قال له: يا عمر، إن لله حقا فى الليل لا يقبله فى النهار، وحقا فى النهار لا يقبله فى الليل، ولا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنه يا عمر إنما ثقلت

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 131) .

موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنه يا عمر إنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل، وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه يوم القيامة إلا الباطل أن يكون خفيفا، ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا، فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيده إلى التهلكة، ألم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسئ أعمالهم، لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن، فإذا ذكرتهم قلت: إنى لأخشى أن أكون منهم. وفى رواية: عوضا من هذا، فيقول قائل: أنا خير منهم، فيطمع، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم، لأنه تجاوز لهم عما كان من سىء، فإذا ذكرتهم قلت: إنى مقصر، أين عملى من أعمالهم، وفى رواية: عوضا من هذا، فيقول قائل: من أين أدرك درجتهم، ليجتهد، فإن حفظت وصيتى يا عمر، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، وهو نازل بك، وإن ضيعت وصيتى فلا يكونن غائب أكره لك من الموت، ولست بمعجزه. وعن أسماء بنت عميس قالت: لما أحس أبو بكر بنفسه أرسل إلى عمر، فقال له: يا عمر إنى قد وليتك ما وليتك، وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت عمله، وأثرته أنفسكم على نفسه، وأهلكم على أهله، حتى إن كنا لنظل نهدى إليه من فضل ما يأتينا من قبله، وصحبتنى ورأيتنى وإنما اتبعت أثر من كان قبلى، والله ما نمت فحملت، ولا شبهت فتوهمت، وإنى لعلى السبيل ما زغت، وإن أول ما أحذرك نفسك، فإن لكل نفس شهوة، فإذا أعطيتها شهوتها تمادت فيها ورغبت فى غيرها. وفى حديث غير هذا: وخذ هذه اللقحة فإنها من إبل الصدقة، احتبستها للرسل إذا قدموا يصيبوا من رسلها، وخذ هذا البرد فإنى كنت أتجمل به للوفود، وخذ هذا السقاء وهذه العلبة فإنها من متاع إبل الصدقة، وعلىّ ثمانية آلاف درهم، ويقال: قال: ستة آلاف أخذتها للرسل، ولمن كان يغشانا، فأدها من مالى. فخرج عمر متأبطا البرد، وقد حمل السقاء والعلبة، يقود اللحقة، يبكى ويقول: يرحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده. ومات أبو بكر رحمه الله، ودفن ليلا، فلما أصبح عمر بعثت إليه عائشة بناضح وعبد حبشى كان يسقى لآل أبى بكر على ذلك الناضح، وقطيفة. فقبض عمر ذلك، فقال له عبد الرحمن بن عوف: سبحان الله، تسلب عيال أبى بكر ناضحا وعبدا أسود كان

ينفعهم، وقطيفة قيمتها خمسة دراهم؟ قال: فما ترى؟ قال: ترده عليهم، قال: لا ورب الكعبة، لا يكون ذلك وأنا حى، يخرج منه أبو بكر وأرده أنا على عياله «1» . وعن المسور بن مخرمة أو علقمة بن أبى الفغواء الخزاعى قال: أرسل أبو بكر إلى عمر وهو مريض، فأتاه، فقال: يا عمر، إنى كنت أرى الرأى فتشير علىّ بخلافه، فأتهم نفسى لك، ألا إنى قد عصيتك فى استعمال شرحبيل بن حسنة، وقلت: أخاف ضعفه، فقلت لك: قد كان له فى الإسلام نصيب، وقد أحببت أن أبلوه، فإن رأيت ما أحب أثبته، وإن بلغنى عنه ضعف استبدلت به، فلا عليك أن تقره على عمله، وكنت تنهانى عن يزيد بن أبى سفيان، فقلت لك: إن له موضعا فى قريش، ونشأ بخير، وكان فيه، وقد أحببت أن أقيم له شرفه، فلا عليك أن تقره على عمله، ورجل لم أوصك بمثله ولا أراك فاعلا، قال: تريد خالدا؟ قال: أريده. فقال عمر: أما شرحبيل بن حسنة فقد كنت أشير عليك أن لا تبعثه، وخفت ضعفه، وأمرتك أن تبعث مكانه عمار بن ياسر، ولم يبلغنا عنه إلا خير، ولست عازله إلا أن يبلغنى عنه ما لا أستحل معه تركه، وأما يزيد فقلت لك: غلام حديث السن لا سابقة له، ابعث مكانه سعد بن أبى وقاص، فلم يكن فى أمره إلا خير، ولا أعزله إلا أن يبلغنى عنه ما لا أستحل معه تركه. وأما خالد، فو الله ما أعدك فى أمره بما لا أفعل ولا أبدأ بأول من عزله، وما كنت أرى لك أن تجعل مع أبى عبيدة ضدا، وقد عرفت فضل أبى عبيدة. فقال أبو بكر: أما أنى قد رأيت أبا عبيدة فى مرضى هذا آخذا بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه، ولنعم المتبع، ورأيتنى آخذا بثوب أبى عبيدة، ولنعم المتقدم، ثم سمعت خسفا ورائى، فالتفت فإذا أنت وإذا الظلمة، فاستلحقتك وما أبالى إذا لحقت بمن تخلف، فكأنى أسمع وقع نعليك، حتى أخذت بثوبى والتفت، فإذا نفر يخرجون من الظلمة يزدحمون، فالنجاء، النجاء يا عمر. وكانت من جماعة من المهاجرين موافقة لأبى بكر فى استخلاف عمر ليس إلا، لما كانوا يعرفون من غلظته، فيقول أبو بكر: هو والله إن شاء الله خيركم. وقال لبعضهم: إنى أرى ما لا ترون، ولو قد أفضى إليه أمركم لترك كثيرا مما ترون، إنى رمقته، فإذا أغلظت فى أمر أرانى التسهيل، وإذا لنت فى أمر تشدد فيه.

_ (1) انظر ما ذكره ابن قتيبة فى المعارف ص (171) .

وقال له طلحة والزبير: ما أنت قائل لربك إذ وليته مع غلظته؟ قال: ساندونى، فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفوننى، أقول: استعملت عليهم خير أهلك وحلفت، ما تركت أحدا أشد حبا له من عمر، ستعلمون إذا فارقتموه وتنافستموها. ودخل عثمان وعلى فأخبرهما أبو بكر، فقال عثمان: علمى به أنه يخاف الله فوله، فما فينا مثله، وقال على: يا خليفة رسول الله امض لرأيك، فما نعلم إلا خيرا، وخرجنا ودخل عمر، فقال أبو بكر: كرهك كاره، وأحبك محب. قال: لا حاجة لى بها، قال: اسكت، إنى ميت من مرضى هذا، إنى رأيت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى فقت ثلاث فوقات، فدسعت فى الآخرة طعاما، فمرضت به مرضتين، وهذه الثالثة، فأنا ميت، وإياك والأثرة على الناس، وإياك والذخيرة فإن ذخيرة الإمام تهلك دينه. ولما توفى أبو بكر رحمه الله، كتب عمر رضى الله عنه، إلى أبى عبيدة: أما بعد، فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمة الله على أبى بكر، القائل بالحق، والآمر بالقسط، والآخذ بالعرف، البر الشيم، السهل القريب، وأنا أرغب إلى الله فى العصمة برحمته، والعمل بطاعته، والحلول فى جنته، إنه على كل شىء قدير، والسلام عليك ورحمة الله «1» . وجاء بالكتاب يرفأ حتى أتى أبا عبيدة، فقرأه فلم يسمع من أبى عبيدة حين قرأه شىء ينتفع به مقيم ولا ظاعن، ودعا أبو عبيدة معاذ بن جبل فأقرأه الكتاب، فالتفت معاذ إلى الرسول فقال: رحمة الله على أبى بكر، ويح غيرك، ما فعل المسلمون؟ قال: استخلف أبو بكر، عمر، فقال معاذ: الحمد لله، وفقوا وأصابوا، فقال أبو عبيدة: ما منعنى من مسألته منذ قرأت الكتاب حتى دعوتك لقراءته إلا مخافة أن يستقبلنى فيخبرنى أن الوالى غير عمر. فقال له الرسول: يا أبا عبيدة، إن عمر يقول لك: أخبرنى عن حال الناس، وأخبرنى عن خالد بن الوليد، أى رجل هو؟ وأخبرنى عن يزيد بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص، كيف هما فى حالهما ونصيحتهما للمسلمين؟ فقال أبو عبيدة: أما خالد فخير أمير، أنصحه لأهل الإسلام، وأحسنه نظرا لهم، وأشده على عدوهم من الكفار، ويزيد وعمرو فى نصيحتهما وجدهما كما يحب عمر ونحب، قال: فأخبرنى عن أخويك: سعيد بن زيد، ومعاذ بن جبل. قال: قل له هما كما عهدت، إلا أن تكون السن زادتهما فى الدنيا زهادة، وفى الآخرة رغبة.

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى ص (98) .

قال: ثم إن الرسول وثب لينصرف فقالا له: سبحان الله، انتظر نكتب معك. فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من أبى عبيدة بن الحراج ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، فأصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها يجلس بين يديك، الشريف والوضيع، والعدو والصديق، والضعيف والشديد، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف تكون عند ذلك يا عمر، إنا نذكرك يوما تبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتنقطع فيه الحجج، وتزاح فيه العلل، وتجب فيه القلوب، وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته. وإنا كنا نتحدث على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم أنه سيكون فى آخر الزمان ويروى: فى هذه الأمة، رجال يكونون إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا منك بغير المنزلة التى هو بها من أنفسنا، والسلام. فمضى الرسول بهذا الكتاب، وقال أبو عبيدة لمعاذ: والله ما أمرنا عمر أن نظهر وفاة أبى بكر للناس، ولا ننعاه إليهم، فما أرى أن نذكر من ذلك شيئا دون أن يكون هو يذكره. فقال له معاذ: فإنك نعم ما رأيت. فسكتا، فلم يذكرا للناس شيئا، ولم يلبثا إلا مقدار ما قدم رسول عمر إليه حتى بعث إليهما بجواب كتابهما، وبعهد أبى عبيدة، وأمره بعظة الناس. وكان جوابه عن كتابهما: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى أبى عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، سلام عليكما، فإنى أحمد إليكما الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإنى أوصيكما بتقوى الله، فإنه رضاء ربكما وحفظ أنفسكما، وغنيمة الأكياس لأنفسهم عند تفريط العجزة، وقد بلغنى كتابكما تذكران أنكما عهدتمانى وأمر نفسى إلىّ مهم، وما يدريكما؟ وكتبتما تذكران أنى وليت أمر هذه الأمة، يقعد بين يدى العدو والصديق، والقوى والضعيف، ولكل علىّ حصته من العدل، وتسألانى: كيف بى عند ذلك؟ وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وكتبتما تخوفانى بيوم هو آت، يوم تحبب فيه القلوب، وتعنوا فيه الوجوه، وتنقطع فيه الحجج، وتزيح فيه العلل، لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالخلق له داخرون، ينتظرون قضاءه ويخافون عقابه، وكأن ذلك قد كان، هذا الليل والنهار، يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، حتى يكون الناس بأعمالهم فريقا فى الجنة وفريقا فى السعير، وكتبتما تذكران أنكما كنتما تحدثان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيكون فى آخر الزمان إخوان العلانية أعداء السريرة، وأن هذا ليس بزمان ذلك، ولا أنتم أولئك، وإنما ذلكم إذا ظهرت الرغبة

والرهبة، وإذا كانت رغبة الناس بعضهم إلى بعض، ورهبة بعضهم من بعض فى صلاح دنياهم، وكتبتما تعوذان بالله من أن أنزل كتابكما من قلبى سوى المكان الذى تنزلانه من قلوبكما، فإنكما كتبتما لى نظرا لى، وقد صدقتما، ولا غنى بى عن كتابكما، فتعاهدانى بكتبكما، والسلام. وذكر المدائنى وغيره عن صالح بن كيسان، قال: أول كتاب كتبه عمر حين ولى إلى أبى عبيدة يوليه على جند خالد بن الوليد: أوصيك بتقوى الله الذى يبقى ويفنى ما سواه، الذى هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذى يحق لله عليك، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم، وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سرية إلا فى كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين فى الهلكة، وقد أبلاك الله وأبلى بك، فغمض بصرك عن الدنيا، وأله قلبك عنها، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعهم «1» . وعن عباس بن سهيل بن سعد قال: قدم شداد بن أوس بعهد أبى عبيدة، فدفعه إليه، وشداد شاك، فنزل مع أبى عبيدة ومعاذ بن جبل فى منزلهما وأمرهما واحد، فكانا يقومان إليه حتى تماثل، فمكث أبو عبيدة خمس عشرة ليلة يصلى خالد بالناس ويأمر بالأمر، وما يعلم أن أبا عبيدة الأمير، حتى جاء كتاب من عمر إلى أبى عبيدة، فكره أن يخفيه، وكان فى كتابه إليه: أما بعد، فإنك فى كنف من المسلمين، وعدد يكفى حصار دمشق، فابعث سراياك فى أرض حمص ودمشق وما سواهما من الشام، ولا يبعثنك قولى هذا على أن تعرى عسكرك فيطمع فيك عدوك، ولكن نظر برأيك فما استغنيت عنه منهم فسيرهم، وما احتجت إليه منهم فاحتبسهم عندك، وليكن فيمن تحتبس عندك خالد ابن الوليد، فإنه لا غنى بك عنه، والسلام. فلما قرأ أبو عبيدة كتابه على الناس، قال خالد: يرحم الله أبا بكر، لو كان حيا ما عزلنى. وولى عمر فولى أبا عبيدة، فعافى الله أبا عبيدة، كيف لم يعلمنى بولايته علىّ ثم أتى أبا عبيدة، فقال له: رحمك الله، أنت الأمير والوالى علىّ ولا تعلمنى؟ وأنت تصلى خلفى والسلطان سلطانك. فقال له أبو عبيدة: ما كنت لأعلمك به أبدا حتى تعلمه من عند غيرى، وما سلطان الدنيا وإمارتها؟ فإن كل ما ترى يصير إلى زوال، وإنما نحن أخوان فإننا أمة إخوة أو أمر عليه لم يضره ذلك فى دينه ولا دنياه، بل لعل الوالى أن

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 434) ، المنتظم لابن الجوزى (4/ 235- 136) .

يكون أقربهما إلى الفتنة، وأوقعهما بالخطيئة، إلا من عصم الله، وقليل ما هم. ذكر الخبر عما صار إليه أمر دمشق من الفتح والصلح بعد طول الحصار فى خلافة عمر بن الخطاب، على نحو ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام فتح دمشق «1» : قالوا: وتولى أبو عبيدة حصار دمشق، وولى خالدا القتال على الباب الذى كان عليه، وهو باب الشرقى، وولاه الخيل إذا كان يوم يجتمع فيه المسلمون للقتال، فحاصروا دمشق بعد مهلك أبى بكر رحمه الله، وولايته حولا كاملا، وأياما. وكان أهلها قد بعثوا إلى قيصر وهو بأنطاكية: أن العرب قد حاصرتنا وضيقت علينا، وليس لنا بهم طاقة، وقد قاتلناهم مرارا، فعجزنا عنهم، فإن كان لك فينا وفى السلطان علينا حاجة فأمددنا وأغثنا وعجل علينا، فإنا فى ضيق وجهد، وإلا فقد أعذرنا، والقوم قد أعطونا الأمان، ورضوا منا من الجزية باليسير. فأرسل إليهم: أن تمسكوا بحصنكم، وقاتلوا عدوكم، فإنكم إن صالحتموهم وفتحتم حصنكم لهم لم يفوا لكم، وأجبروكم على ترك دينكم، واقتسموكم بينهم، وأنا مسرح إليكم الجيوش فى أثر رسولى. فانتظروا مدده وجيشه، فلما أبطأ عليهم وألح عليهم المسلمون بالتضييق وشدة الحصار، ورأوا أن المسلمين لا يزدادون كل يوم إلا قوة وكثرة بعثوا إلى أبى عبيدة يسألونه الصلح. وكان أبو عبيدة أحب إلى الروم وسكان الشام من خالد بن الوليد، وكان أن يكون كتاب الصلح من أبى عبيدة أحب إليهم، لأنه كان ألينهما وأشدهما منهم استماعا، وأقربهما منهم قربا، وكان قد بلغهم أنه أقدمهما هجرة وإسلاما، فكانت رسل صاحب دمشق: إنما تأتى أبا عبيدة وخالد ملح على الباب الذى يليه، فأرسل صاحب دمشق إلى أبى عبيدة فصالحه، وفتح له باب الجابية، وألح خالد على باب الشرقى ففتحه عنوة، فقال لأبى عبيدة: اقتلهم واسبهم، فإنى قد فتحتها عنوة، فقال أبو عبيدة: لا، إنى قد أمنتهم «2» .

_ (1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 142) ، تاريخ الطبرى (3/ 434) . (2) انظر: تاريخ اليعقوبى (1/ 140) .

ودخل المسلمون دمشق، وتم الصلح، وجاء الجيش من قبل أنطاكية مددا لأهل دمشق، فلما قدموا بعلبك أتاهم الخبر بأن دمشق قد افتتحت، وكان عليهم در نجاران عظيمان، كل درنجار على خمسة آلاف، فكانوا عشرة آلاف، فأقاموا وبعثوا إلى ملكهم يخبرونه بالمكان الذى هم فيه، وبالخبر الذى بلغهم عن دمشق. وذكر أبو جعفر الطبرى «1» أن شداد بن أوس هو الذى قدم الشام بوفاة أبى بكر، ومعه محمية بن جزء ويرفأ، فوجدوا المسلمين بالواقوصة يقاتلون عدوهم، فتكتموا الخبر حتى ظفر المسلمون، فعند ذلك أخبروا أبا عبيدة بوفاة أبى بكر، وبولايته حرب الشام، وعزل خالد. وعن محمد بن إسحاق: أن المسلمين لما فرغوا من أجنادين ساروا إلى فحل من أرض الأردن، وقد اجتمعت به رافضة الروم، والمسلمين على أمرائهم، فاقتتلوا فهزمت الروم، ودخل المسلمون فحل، ولحقت رافضة الروم بدمشق، فسار المسلمون إلى دمشق، وعلى مقدمة الناس خالد بن الوليد، وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان، فالتقى المسلمون والروم حول دمشق فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم هزم الله الروم فدخلوا دمشق، وجثم المسلمون عليها فرابطوها حتى فتحت، وقد كان الكتاب قدم على أبى عبيدة بإمارته وعزل خالد، فاستحيا أبو عبيدة أن يعلم خالدا حتى فتحت دمشق وجرى الصلح على يدى خالد، وكتب الكتاب باسمه، فبعد ذلك أظهر أبو عبيدة إمارته. فلما صالحت دمشق لحق باهان صاحب الروم بهرقل» . وخالف سيف بن عمرو ما تقدم من المساق والتاريخ فى أمر دمشق، فذكر على ما سيأتى أن وقعة اليرموك كانت فى سنة ثلاث عشرة، وأن المسلمين ورد عليهم البريد بوفاة أبى بكر باليرموك فى اليوم الذى هزمت الروم فى آخره، وأن عمر رحمه الله، أمرهم بعد الفراغ من اليرموك بالمسير إلى دمشق. وزعم أن فحلا كانت بعد دمشق، خلافا لما ذكره ابن إسحاق من أنها كانت قبلها، وأن رافضة فحل هم الذين صاروا إلى دمشق «3» . وأما الواقدى فزعم أن فتح دمشق كان سنة أربع عشرة، وكذا قال ابن إسحاق،

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 434) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 434- 435) . (3) انظر: تاريخ الطبرى (4/ 435- 436) .

وزعم أن حصار المسلمين لها كان ستة أشهر، وأن وقعة اليرموك كانت فى سنة خمس عشرة، وبعدها فى تلك السنة بعينها جلا هرقل عن أنطاكية إلى قسطنطينية، وأنه لم يكن بعد اليرموك وقعة. وسنورد إن شاء الله مما أوردوه على اختلافه ما نبلغ به المقصود من الإمتاع وتذكير الناس بأيام الله. فأما خبر دمشق من رواية سيف فذكر أنه: لما هزم الله جند اليرموك، وتهافت أهل الواقوصة، وفرغ من المقاسم والأنفال، وبعث بالأخماس، وسرحت الوفود، استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب بن أبى الحميرى كيلا تغتال بردة ولا تقطع الروم مواده، وخرج أبو عبيدة حتى نزل بالصفرين وهو يريد اتباع الفل، ولا يدرى أيجتمعون أو يفترقون، فأتاه الخبر بأنهم أرزوا إلى فحل، وبأن المدد قد أتى على دمشق من حمص، فهو لا يدرى أبدمشق يبدأ أم بفحل من بلاد الأردن، فكتب فى ذلك إلى عمر، وأقام بالصفرين ينتظر جوابه، وكان عمر لما جاءه فتح اليرموك أقر الأمراء على ما كان استعملهم عليه أبو بكر، إلا ما كان من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد، فإنه ضم خالد إلى أبى عبيدة، وأمر عمرا بمعونة الناس حتى تصير الحرب إلى فلسطين، ثم يتولى حربها «1» . فلما جاء عمر كتاب أبى عبيدة، كتب إليه: أما بعد، فابدؤا بدمشق، وانهدوا لها، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنهم أهل فحل بخيل تكون بإزائهم فى نحورهم ونحور أهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذى نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل دمشق من تمسك بها، ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل، فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص، ودع شرحبيل وعمرا وأخلهما بالأردن وفلسطين، وأمير كل بلد وجند على الناس حتى يخرجوا من إمارته «2» . فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة فيهم أبو الأعور وعمارة بن مخش، وهو قائد الناس، وكانت الرؤساء تكون من الصحابة، فساروا من الصفرين حتى نزلوا قريبا من فحل، فلما رأت الروم أن الجنود تريدهم بثقوا المياه حول فحل، فأردغت «3» الأرض، ثم وحلت، واغتنم المسلمون ذلك، فحبسوا عن المسلمين ثمانين ألف فارس. وبعث أبو

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 436) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 437- 438) . (3) أردغت: الرداغ: الوحل الشديد.

عبيدة ذا الكلاع حتى كان بين دمشق وحمص ردآ. وبعث علقمة بن حكيم ومسروقا فكانا بين دمشق وفلسطين، والأمير يزيد. وقدم خالد وأبو عبيدة وعمرو وشرحبيل على دمشق فنزلوا حواليها وحاصروا أهلها حصارا شديدا نحوا من سبعين ليلة، وقاتلوهم قتالا عظيما بالزحوف والترامى والمجانيق، وهم معتصمون بالمدينة، يرجون الغياث، وهرقل منهم قريب بحمص، ومدينة حمص بينه وبين المسلمين وذو الكلاع بين المسلمين وبين حمص على رأس ليلة من دمشق، كأنه يريد حمص. وجاءت جنود هرقل مغيثة لأهل دمشق، فأشجتها الخيول التى مع ذى الكلاع وشغلتها، فلما أيقن أهل دمشق أن الأمداد لا تصل إليهم فشلوا ووهنوا وأبلسوا، وازداد المسلمون طمعا فيهم، وكانوا قبل يرون أنها كالغارات، وأنه إذا جاء البرد قفل الناس، فسقط النجم والمسلمون مقيمون، فعند ذلك انقطع رجاء الروم وندموا على دخول دمشق، واتفق أن ولد للبطريق الذى دخل على أهل دمشق مولود، فصنع عليه طعاما، فأكل القوم وشربوا، وغفلوا عن مواقفهم، ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد، فإنه كان لا ينام ولا ينيم، ولا يخفى عليه من أمرهم شىء، عيونه ذاكية وهو معنى بما يليه، قد اتخذ حبالا كهيئة السلالم وأوهاقا «1» ، فلما أمسى من ذلك اليوم نهد هو ومن معه من جنوده الذين قدم بهم، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدى وأمثالهما. وقالوا: إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا وانهدوا للباب وائتوا من الباب الذى كان خالد يليه، فقطعوا الخندق سبحا على ظهورهم القرب، ثم رموا بالحبال الشرف. فلما ثبت لهم وهقان تسلق القعقاع ومذعور ثم لم يدعا أحبولة إلا أثبتاها والأوهاق بالشرف، وكان المكان الذى اقتحموا منه خندقهم أحصن مكان يحيط بدمشق، أكثره ماء، وأشده مدخلا، وتوافوا لذلك، فلم يبق ممن دخل معه أحد إلا رقى أو دنا من الباب، حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه، وانحدر معهم، فكبر الذين على رأس السور، فنهد المسلمون إلى الباب، ومال إلى الحبال بشر كثير، فوثبوا فيها، وانتهى خالد إلى أول من يليه فأنامهم، وانحدر إلى الباب فقتل البوابين، وثار أهل المدينة، وفزع سائر الناس فأخذوا مواقفهم ولا يدرون من الشأن، وتشاغل أهل كل

_ (1) الأوهاق: جمع وهق، وهو الحبل فى طرفيه أنشوطة يطرح فى عنق الدابة أو الإنسان حتى يؤخذ.

ناحية مما يليهم وقطع خالد ومن معه أغلاق الباب بالسيوف، وفتحوا للمسلمين، فأقبلوا عليهم من داخل حتى ما بقى مما يلى باب خالد مقاتل إلا أنيم. ولما شد خالد على من يليه، وبلغ منهم الذى أراد عنوة أرز من أفلت إلى أهل الأبواب التى كان يليها غير خالد، وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فأبوا وأبعدوا، فلم يفجأهم إلا وهم يبوحون لهم بالصلح، فأجابهم المسلمون وقبلوا منهم، ففتحوا لهم الأبواب، وقالوا: ادخلوا وامنعونا من أهل ذلك الباب، فدخل أهل كل باب بصلح مما يليهم، ودخل خالد مما يليه عنوة، فالتقى خالد والقواد فى أوساطها، هذا استعراضا وانتهابا، وهذا صالحا وتسكينا، فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح، فصار كل ذلك صالحا، وكان صلح دمشق على مقاسمة الديار والعقار، ودينار على كل رأس، وعلى جريب من كل حرث أرض، واقتسموا الأسلاب، فكان أصحاب خالد فيها كأصحاب سائر القواد، ووقف ما كان للملوك ومن صوب معهم فيئا، وقسموا لذى الكلاع ومن معه، ولأبى الأعور ومن معه، وبعثوا بالبشارة إلى عمر. وقدم على أبى عبيدة كتاب عمر: أن اصرف جند العراق إلى العراق، وأمرهم بالحث إلى سعد بن مالك. فأمر عليهم أبو عبيدة هاشم بن عتبة، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، وعلى مجنبتيه عمرو بن مالك الزهرى، وربعى بن عامر، وخرج هاشم نحو العراق فى جند العراق، وكانوا عشرة آلاف إلا من أصيب منهم فأتموهم بأناس ممن لم يكن منهم، كقيس والأشطر، وخرج القواد نحو فحل، وخرج علقمة ومسروق إلى إيلياء، فنزلا على طريقها، وبقى بدمشق مع يزيد بن أبى سفيان من قواد أهل اليمن عدد، وبعث يزيد، دحية بن خليفة الكلبى فى خيل بعد فتح دمشق إلى تدمر، وأبا الزهراء القشيرى إلى البثنية وحوران، فصالحوهما على صلح دمشق، ووليا القيام على فتح ما بعثا إليه «1» . وكان الذى سار على الناس نحو فحل شرحبيل بن حسنة، على ما ذكره سيف عن أشياخه، قالوا: وبعث خالدا على المقدمة، وأبا عبيدة وعمرا على مجنبتيه، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجال عياض، وكرهوا أن يصمدوا لهرقل، وخلفهم من الروم ثمانون ألفا بإزاء فحل ينظرون إليهم، فلما انتهوا إلى أبى الأعور قدموه إلى طبرية، فحاصرها ونزلوا هم على فحل من أرض الأردن، وقد كان أهلها حين نزل بهم أبو الأعور تركوها وأرزوا إلى بيسان وجعلوا بينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال،

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 438) .

وكتب المسلمون إلى عمر بالخبر، وأقاموا بفحل لا يريدون أن يريموها حتى يرجع جواب عمر، ولا يستطيعون الإقدام على العدو من مكانهم لما دونهم من الأوحال. وأصاب المسلمون من ريف الأردن أفضل مما فيه المشركون، مادتهم متواصلة، وخصبهم رغد، ورجاء الروم أن يكون المسلمون على غرة، فقصدوهم ليلا، والمسلمون على حذر لا يأمنون مجيئهم، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة، فلما هجموا على المسلمين غافصوهم، ولم يناظروهم، فاقتتلوا بفحل كأشد قتال اقتتلوا قط ليلتهم ويومهم إلى الليل، فأظلم الليل عليهم وقد حاروا، فانهزموا، وقد أصيب رئيسهم سقلار بن مخراق، والذى يليه فيهم نسطورس، وظفر المسلمون بهم كأحسن الظفر وأهناه، وركبوهم وهم يرون أنهم على قصد، فوجدوهم حيارى لا يعرفون مأخذهم، فأسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل، فركبوه، ولحق بهم أوائل المسلمين وقد وحلوا فيه، فوخزوهم بالرماح وهم لا يمنعون يد لامس، وقتلوا فى الرداغ، فما أفلت من أولئك الثمانين ألفا إلا الشريد، وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون، كرهوا البثوق فكانت عونا لهم على عدوهم، وآية من الله ليزدادوا بصيرة وجدا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم، وانصرف أبو عبيدة بخالد من فحل إلى حمص، وصرفوا بشير بن كعب معهم، ومضوا بذى الكلاع ومن معه، وخلوا شرحبيل بن حسنة ومن معه «1» . ذكر بيسان «2» ولما فرغ شرحبيل من وقعة فحل نهد بالناس إلى بيسان ومعه عمرو، فنزلوا عليها، وأبو الأعور والقواد معه على طبرية، وقد بلغ أفناء أهل الأردن ما لقيت دمشق، وما لقى سقلار والروم بفحل وفى الردغة، ومسير شرحبيل إليهم، فتحصنوا بكل مكان، وحصر شرحبيل أهل بيسان أياما. ثم خرجوا يقاتلونه، فقتل المسلمون من خرج إليهم منهم، وصالح بقية أهلها. ذكر طبرية «3» وبلغ أهل طبرية، فصالحوا أبا الأعور على أن يبلغهم شرحبيل، ففعل، وصالحهم

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 336- 341) . (2) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 144) ، تاريخ الطبرى (3/ 443) . (3) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 144) ، تاريخ الطبرى (3/ 444) .

شرحبيل وأهل بيسان على صلح دمشق، على أن يشاطروا المسلمين المنال فى المدائن، وما أحاط بها مما يصلها، فيدعوا لهم نصفا، ويأخذوا نصفا، وعلى كل رأس دينار كل سنة، ومن كل حرث أرض جريب بر أو شعير، أى ذلك حرث، وأشياء صالحوهم عليها. ونزلت القواد وخيولهم فيها. وتم صلح الأردن، وتفرقت الأمداد فى مدائنها وقراها، وكتب إلى عمر بالفتح. حديث مرج الروم من رواية سيف أيضا قال «1» : خرج أبو عبيدة بخالد بن الوليد من فحل إلى حمص، وبمن تضيف إليهم من اليرموك، فنزلوا جميعا على ذى الكلاع، وقد بلغ الخبر هرقل، فبعث توذرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم وجمعهم هذا به، وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية، فلما نزل على القوم بمرج الروم نازله، يوم نزل عليه شنس الرومى، فى مثل خيل توذرا، إمدادا لتوذرا وردآ لأهل حمص، فنزل فى عسكره على حدة. فلما كان من الليل فر توذرا، فأصبحت الأرض منه بلاقع، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس، وأتى خالدا الخبر برحيل توذرا إلى جهة دمشق، فأجمع رأيه ورأى أبى عبيدة أن يتبعه خالد، فأتبعه من ليلته فى جريدة، وبلغ يزيد بن أبى سفيان ما فعل توذرا، فاستقبله، فاقتتلوا، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون، فأخذهم من خلفهم، فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم، فلم يفلت منهم إلا الشريد، وقتل يزيد توذرا، وأصاب المسلمون ما شاؤا من ظهر وأداة وثياب، وقسم ذلك يزيد على أصحابه وأصحاب خالد، ثم انصرف يزيد إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبى عبيدة، وبعد خروج خالد فى أثر توذرا ناهد أبو عبيدة شنس، فاقتتلوا بمرج الروم، فقتلهم أبو عبيدة مقتلة عظيمة، حتى امتلأ المرج من قتلاهم، وأنتنت منهم الأرض. وقتل أبو عبيدة شنس، وهرب من هرب منهم، فلم يقلهم، وركب أقفاءهم إلى حمص. فهذا ما ذكر سيف من حديث دمشق، وفحل، ومرج الروم، وسائر ما ذكر معها أوردناه مهذبا مقربا، ثم نعود إلى تتمة ما وقع فى كتب فتوح الشام مما يخالف ما ذكره سيف من بعض الوجوه ليوقف على كل ما ذكروه مما اتفقوا عليه واختلفوا فيه.

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 598- 599) .

قالوا «1» : إن أبا عبيدة لما ظهر على دمشق أمر عمرو بن العاص بالمسير إلى أرض الأردن وفلسطين، فيكون فيما بينهما، ولا يقدم على المدينتين وجمع الروم بهما، ولكن ينزل أطراف الرساتيق، ويغير بالخيل عليهم من كل جانب، ويصالح من صالحه. فخرج عمرو حتى واقع أرض الأردن، فلما بلغ أهل الأردن وفلسطين فتح دمشق وتوجه الجيش إليهم هالهم ذلك ورعبهم، وأشفقوا على مدائنهم أن تفتح، فاجتمع من كان بها من الروم ونزلوا من حصونهم، ووافاهم أهل البلد، وكثير من نصارى العرب، فكثر جمعهم، وكتبوا إلى قيصر يستمدونه وهو بأنطاكية، فبعث إلى أولئك الذين كان وجههم مددا لأهل دمشق فأقاموا ببعلبك لما بلغهم خبر فتحها أن يسيروا إليهم. وكتب عمرو إلى أبى عبيدة: أما بعد، فإن الروم قد أعظمت فتح دمشق، فاجتمعوا من نواحى الأردن وفلسطين، فعسكروا وقد تعاقدوا وتواثقوا وتحالفوا بالله: لا يرجعون إلى النساء والأولاد أو يخرجون العرب من بلادهم، والله مكذب أملهم، ومبطل قولهم، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. فاكتب إلىّ برأيك فى هذا الحديث، أرشد الله رأيك وسددك وأدام رشدك، والسلام. وقدم بهذا الكتاب رسول عمرو، وقد استشار أبو عبيدة أصحابه فى المسير بهم إلى حمص، وقال: إن الله تعالى، قد فتح هذه المدينة، يعنى دمشق، وهى من أعظم مدائن الشام، وقد رأيت أن أسير إلى حمص، لعل الله يفتحها علينا، وهذا عمرو بن العاص من ورائنا، فلسنا نتخوف أن نؤتى من هناك. فقال له خالد بن الوليد، ويزيد بن أبى سفيان، ومعاذ بن جبل ورؤس المسلمين: فإنك قد أصبت ووفقت، فسر بنا إليهم. فإنهم لكذلك فى هذا الرأى إذ قدم عليهم كتاب عمرو الذى تقدم، فلما قرأه أبو عبيدة ألقاه إلى خالد، وقال: قد حدث أمر غير ما كنا فيه، ثم قرأوا الكتاب على من حضرهم، فقال يزيد: أمدد عمرا ومره بمواقعة القوم وأقم أنت بمكانك. فقال أبو عبيدة: ماذا ترى أنت يا خالد؟ قال: أرى أن تنظر ما يصنع هذا الجيش الذى ببعلبك، فإن هم ساروا منها إلى إخوانهم سرت إلى إخوانك فلقيتهم بجماعة المسلمين، وإن هم أقاموا أمددت عمرا، وبعثت إلى هؤلاء من يقاتلهم، وأقمت أنت بمكانك. فقال له: نعم ما رأيت، فسير أبو عبيدة شرحبيل بن حسنة إلى عمرو، وقال له: لا تخالفه. فخرج

_ (1) انظر: فتوح الشام للأزدى (ص 106) .

شرحبيل فى ألفين وثمانمائة، فقدم على عمرو، وعمرو فى ألفين وخمسمائة. وقال أبو عبيدة لخالد: ما لهذا الجيش النازل ببعلبك إلا أنا وأنت أو يزيد. فقال له خالد: لا، بل أنا أسير إليهم. فقال: أنت لهم. فبعثه أبو عبيدة فى خمسة آلاف فارس، وخرج معه يشيعه، فسار معه قليلا، فقال له خالد: ارجع رحمك الله، إلى عسكرك، فقال له: يا خالد، أوصيك بتقوى الله، وإذا أنت لقيت القوم فلا تناظرهم ولا تطاولهم فى حصونهم، ولا تذرهم يأكلون ويشربون وينتظرون أن تأتيهم أمدادهم، وإذا لقيتهم فقاتلهم، فإنك إن هزمتهم انقطع رجاؤهم، وإن احتجت إلى مدد فأعلمنى حتى يأتيك من المدد حاجتك، وإن احتجت أن آتيك بنفسى أتيتك إن شاء الله. ثم أخذ بيده فودعه، ثم انصرف عنه. ويجىء رسول قيصر إلى الذين ببعلبك، فأمرهم باللحاق بأولئك الذين اجتمعوا ببيسان، فخرجوا إليهم، وأخرجوا معهم ناسا كثيرا من أهل بعلبك، وأتاهم ناس كثير من أهل حمص غضبا لدينهم وشفقا من أن تفتح مدينتهم كما فتحت دمشق، فخرجوا وهم أكثر من عشرين ألفا متوجهين إلى الجمع الذى ببيسان منهم، وجاء خالد حتى انتهى إلى بعلبك، فأخبر الخبر، فأغاز على نواحى بعلبك، فقتل وسبى واستاق من المغانم شيئا كثيرا، وأقبل راجعا إلى أبى عبيدة فأخبره، واجتمع رأيهم على أن يسير أبو عبيدة بجماعة الناس إلى ذلك الجمع من الروم، فقدم خالد فى ألف وخمسمائة، فارس أمامهم، وأمرهم، وأمره بالإسراع إلى عمرو وأصحابه ليشد الله بهم ظهورهم، وليرى الروم أن المسلمين قد أتوهم، فأقبل خالد مسرعا فى آثار الروم فلحقهم وقد دخل أوائلهم عسكرهم، فحمل على أخرياتهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأصاب كثيرا من أثقالهم، وأفلت من أفلت منهم منهزمين حتى دخلوا عسكرهم، وجاء خالد فى خيله حتى نزل قريبا من عمرو، ففرح المسلمون بهم، وكان عمرو يصلى بأصحابه الذين كانوا معه، وخالد يصلى بأصحاب الخيل التى أقبل فيها. وقعة فحل حسبما فى كتب فتوح الشام «1» قالوا: فلما بلغ الروم أن أبا عبيدة قد أقبل إليهم تحولوا إلى فحل فنزلوا بها، وجاء المسلمون بأجمعهم حتى نزلوا بهم، وخرج علقمة بن الأرث فجمع من أطاعه من بنى

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 142) ، تاريخ الطبرى (3/ 434) .

القين، وجاءت لخم وجذام وعاملة وغسان، وقبائل من قضاعة، فدخلوا مع المسلمين، وأخذ أهل البلد من النصارى يراسلون المسلمين، فيقدمون رجلا ويؤخرون أخرى، ويقولون: أنتم أحب إلينا من الروم وإن كنتم على غير ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا، ولكنهم غلبونا على أمرنا، فيقول لهم المسلمون: إن هذا ليس بنافعكم عندنا ما لم تعتقدوا منا الذمة، وإنا إن ظهرنا عليكم كان لنا أن نسبيكم ونستعبدكم، وإن اعتقدتم منا الذمة سلمتم من ذلك، فكانوا يتربصون وينتظرون ما يكون من أمر قيصر، وقد بلغهم أنه بعث إلى أقاصى بلاده، وإلى كل من كان دينه ممن حوله، وأنهم فى كل يوم يقدمون عليه ويسقطون إليه، فهم ينتظرون ما يكون منه، وهم مع ذلك بموضعهم بين الثلاثين ألفا والأربعين ألفا «1» . وكان المسلمون حيث نزلوا بهم ليس شىء أحب إليهم من معاجلتهم، وكانوا هم ليس شىء أحب إليهم من مطاولة المسلمين رجاء المدد من صاحبهم، ولأن المسلمين ليسوا فى مثل ما الروم فيه من الخصب والكفاية. وأقبلت الروم يبثقون المياه بينهم وبين المسلمين ليطاولوهم، وأقبل المسلمون يخوضون إليهم الماء ويمشون فى الوحل، فلما رأى ذلك الروم، وأنه لا يمنعهم منهم شىء خرجوا فعسكروا وتيسروا للقتال، ووطنوا أنفسهم عليه، وكانوا كل يوم فى زيادة من الأمداد الواصلة إليهم. فأمر أبو عبيدة المسلمين حيث بلغه ذلك أن يغيروا عليهم وعلى ما حولهم من القرى والسواد والرساتيق، ففعلوا، وقطعوا بذلك المادة والميرة. فلما رأى ذلك ابن الجعد أتى أبا عبيدة فصالحه على سواد الأردن، وكتب له كتابا. وكان صفوان بن المعطل، ومعن بن يزيد بن الأخنس السليمان قد خرجا فى خيل لهما فأغارا، فغنما، فلما انصرفا عرضت لهم الروم فقاتلوهم، وإنما كان المسلمون فى نحو من مائة رجل والروم فى خمسة آلاف مع درنجار عظيم منهم، فطاردوهم وصبروا لهم، واحتسبوا فى قتالهم، ثم إن الروم غلبوهم على غنيمتهم. وجاء حابس بن سعد الطائى فى نحو من مائة رجل، فحمل عليهم فزالوا غير بعيد، ثم حملوا عليه فردوه وأصحابه حتى ألحقوهم بالمسلمين، ثم انصرفوا وقد بغوا، وهم يعدون هذا ظفرا، ولم يقتلوا أحدا، ولم يهزموا جمعا، فلما انصرفوا إلى عسكرهم أرسلوا إلى أبى عبيدة: أن

_ (1) انظر هذا الخبر وما بعده فى: تاريخ فتوح الشام للأزدى (ص 111- 130) .

اخرج أنت ومن معك من بلادنا التى تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب، فلستم لها بأهل، وارجعوا إلى بلادكم، بلاد البؤس والشقاء، وإلا أتيناكم فيما لا قبل لكم به، ثم لم ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف. فرد عليهم أبو عبيدة: أما قولكم: أخرجوا من بلادنا فلستم لها بأهل، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله ونزعها من أيديكم، وإنما البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، والله ملك الملوك، يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. وأما قولكم فى بلادنا أنها بلاد البؤس والشقاء، فصدقتم، إنها لكذلك، وقد أبدلنا الله بها بلادكم، بلاد العيش الرفيع والسعر الرخيص والجناب الخصيب، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها حتى نفنيكم أو نخرجكم منها، ولكن أقيموا، فو الله لا نجشمكم أن تأتونا، ولنأتينكم إن أنتم أقمتم لنا، فلا نبرح حتى نبيد خضراءكم، ونستأصل شأفتكم إن شاء الله تعالى. فلما جاءهم ذلك عنهم أيقنوا بجد القوم، فأرسلوا إليهم، أن ابعثوا إلينا رجلا من صالحائكم نسأله عما تريدون وما تسألون وما تدعون إليه، ونخبره بذات أنفسنا، وندعوكم إلى حظكم إن قبلتم. فأرسل إليهم أبو عبيدة، معاذ بن جبل، فأتاهم على فرس له، فلما دنا منهم نزل عن فرسه، ثم أخذ بلجامه وأقبل إليهم يقوده، فقالوا لبعض غلمانهم: انطلق إليه فأمسك له فرسه، فجاء الغلام ليفعل، فقال له معاذ: أنا أمسك فرسى، لا أريد أن يمسكه أحد غيرى، وأقبل يمشى إليهم، فإذا هم على فرش وبسط ونمارق تكاد الأبصار تغشى منها، فلما دنا من تلك الثياب قام قائما، فقال له رجل منهم: أعطنى هذه الدابة أمسكها لك، وادن أنت فاجلس مع هذه الملوك مجالسهم، فإنه ليس كل أحد يقدر أن يجلس معهم، وقد بلغهم عنك صلاح وفضل فيمن أنت منه، فهم يكرهون أن يكلموك جلوسا وأنت قائم. فقال لهم معاذ، والترجمان يفسر لهم ما يقول: إن نبينا صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نقوم لأحد من خلق الله، ولا يكون قيامنا إلا الله فى الصلاة والعبادة والرغبة إليه، فليس قيامى هذا لكم، ولكن قمت إعظاما للمشى على هذه البسط والجلوس على هذه النمارق التى استأثرتم بها على ضعفائكم، وإنما هى من زينة الدنيا وغرورها، وقد زهد الله فى الدنيا وذمها، ونهى عن البغى والسرف فيها، فأنا أجلس هاهنا على الأرض، وكلمونى أنتم

بحاجتكم من ثم، وأقيموا الترجمان بينى وبينكم، يفهمنى ما تقولون، ويفهمكم ما أقول، ثم أمسك برأس فرسه وجلس على الأرض عند طرف البساط. فقالوا له: لو دنوت فجلست معنا كان أكرم لك، إن جلوسك مع هذه الملوك على هذه المجالس مكرمة لك، وإن جلوسك على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه، فلا نراك إلا قد أزريت بنفسك. فلما أخبره الترجمان بمقالتهم جثا على ركبتيه واستقبل القوم بوجهه، وقال للترجمان: قل لهم: إن كانت هذه المكرمة التى تدعوننى إليها استأثرتم بها على من هو مثلكم إنما هى للدنيا، فلا حاجة لنا فى شرف الدنيا ولا فى فخرها، وإن زعمتم أن هذه المجالس والدنيا التى فى أيدى عظمائكم وهم مستأثرون بها على ضعفائكم مكرمة لمن كانت فى يده منكم عند الله، فهذا خطأ من قولكم، وجور من فعلكم، ولا يدرك ما عند الله بالخطأ، ولا بخلاف ما جاء به الأنبياء عن الله من الزهادة فى الدنيا. وأما قولكم إن جلوسى على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه، ألا فصنيع العبد بنفسه صنعت، أنا عبد من عبيد الله جلست على بساط الله، ولا أستأثر من مال الله بشىء على إخوانى من أولياء الله، وأما قولكم أزريت بنفسى فى مجلسى، فإن كان ذلك إنما هو عندكم وليس كذلك عند الله، فلست أبالى كيف كانت منزلتى عندكم إذا كنت عند الله على غير ذلك، وإن قلتم أن ذلك عند الله فقد أخطأتم خطأ بينا، لأن أحب عباد الله إلى الله المتواضعون لله القريبون من عباد الله، الذين لا يشغلون أنفسهم بالدنيا، ولا يدعون التماس نصيبهم من الآخرة. فلما فسر لهم الترجمان هذا الكلام نظر بعضهم إلى بعض وتعجبوا مما سمعوا منه، وقالوا لترجمانهم: قل له: أنت أفضل أصحابك؟ فلما قال له، قال: معاذ الله أن أقول ذلك، وليتنى لا أكون شرهم، فسكتوا عنه ساعة لا يكلمونه، وتكلموا فيما بينهم، فلما رأى ذلك قال لترجمانهم: إن كانت لهم حاجة فى كلامى وإلا انصرفت عنهم، فلما أخبرهم قالوا: قل له: أخبرونا ما تطلبون؟ وإلام تدعون؟ ولماذا دخلتم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد، وأهل فارس وقد هلك ملكهم وهلك ابنه، وإنما يملكهم اليوم النساء، ونحن ملكنا حى وجنودنا عظيمة، وإن أنتم افتتحتم من مدائننا مدينة أو من قرانا قرية أو من حصوننا حصنا أو هزمتم لنا جندا أظننتم أنكم ظفرتم بجماعتنا أو قطعتم عنكم حربنا وفرغتم مما وراءنا، ونحن عدد نجوم السماء وحصى الأرض؟ وأخبرونا بم تستحلون قتالنا وأنتم تؤمنون بنبينا وكتابنا؟.

فلما قالوا هذا القول وفسره الترجمان لمعاذ، سكتوا، فقال معاذ للترجمان: أقد فرغوا؟ قال: نعم، قال: فأفهم عنى، إن أول ما أنا ذاكر: حمدا لله الذى لا إله إلا هو، والصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وأول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بالله وحده، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأن تصلوا صلاتنا، وتستقبلوا قبلتنا، وأن تستسنوا بسنة نبينا، وتكسروا الصليب، وتجتنبوا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ثم أنتم منا ونحن منكم، وأنتم إخواننا فى ديننا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم، فأدوا الجزية فى كل عام إلينا عن يد وأنتم صاغرون، فإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شىء مما خلق الله نحن قابلوه منكم، فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين، فهذا ما نأمركم به وما ندعوكم إليه. وأما قولكم: ما أدخلكم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد، وأهل فارس وقد هلك ملكهم، فإنى أخبركم عن ذلك، ما بدأنا بقتالكم أن يكونوا آثر عندنا منكم، إنكم جميعا لسواء، وما حابيناهم بالكف عنهم إذ بدأنا بكم، ولكن الله تبارك وتعالى، أنزل فى كتابه على نبينا صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 122] ، فكنتم أقرب إلينا منهم، فبدأنا بكم لذلك، ثم لقد أتتهم طائفة منا بعدنا، فإنهم اليوم ليقاتلونهم، وإنا لنرجو أن يعزهم الله ويفتح عليهم، وأما قولكم: إن ملكنا حى، وإن جنودنا عظيمة، وإنا عدد نجوم السماء وحصى الأرض وتؤيسونا من الظهور عليكم، فإن الأمر فى ذلك ليس إليكم، وإن الأمور كلها لله، وكل شىء فى قبضته وقدرته، وإذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، فإن يكن ملككم هرقل فإنما ملكنا نحن الله تبارك وتعالى، وأميرنا رجل منا، إن عمل فينا بكتاب ربنا وسنة نبينا أقررناه، وإن غير عزلناه، ولا يحتجب منا، ولا يتكبر علينا، ولا يستأثر علينا فى فيئنا الذى أفاء الله عز وجل، علينا، وهو فيه كرجل منا. وأما جنودنا، فإنها وإن عظمت وكثرت حتى تكون أكثر من نجوم السماء وحصى الأرض، فإنا لا نثق بها ولا نتكل عليها، ولكنا نتبرأ من الحول والقوة، ونتوكل على الله ونثق به، وكم من فئة قليلة قد أعزها الله ونصرها وأعانها، وكم من فئة كثيرة قد أذلها الله سبحانه، وأهانها قال الله تبارك وتعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249] . وأما قولكم: كيف تستحلون قتالنا وأنتم مؤمنون بنبينا وكتابنا، فأنا أخبركم عن ذلك: نحن نؤمن بنبيكم، ونشهد أنه عبد من عباد الله ورسول من رسل الله، وأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، ولا نقول: إنه الله، ولا أنه

ثانى اثنين ولا ثالث ثلاثة، ولا أن لله عز وجل، ولدا ولا صاحبة، ولا أن مع الله آلهة أخرى، لا إله إلا هو، تعالى عما تقولون علوا كبيرا، وأنتم تقولون فى عيسى قولا عظيما، ولو أنكم قلتم فى عيسى كما نقول، وآمنتم بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كما تجدونه فى كتابكم، وكما نؤمن نحن بنبيكم، وأقررتم بما جاء به من عند الله، ووحدتم الله، ما قاتلناكم، بل سالمناكم وواليناكم وقاتلنا عدوكم معكم. فلما فرغ معاذ من مخاطبتهم قالوا له: ما نرى ما بيننا وبينكم إلا متباعدا، وقد بقيت خصلة ونحن عارضوها عليكم، فإن قبلتموها منا فهو خير لكم، وإن أبيتم فهو شر لكم: نعطيكم البلقاء وما والى أرضكم من سواد الأردن، وتتحولون عن بقية أرضنا، وعن مدائننا، ونكتب عليكم كتابا نسمى فيه خياركم وصالحاءكم، ونأخذ فيه عهودكم ومواثيقكم أن لا تطلبوا من أرضنا غير ما صالحناكم عليه، وعليكم بأهل فارس فقاتلوهم ونحن نعينكم عليهم حتى تقتلوهم أو تظهروا عليهم. فقال لهم معاذ: هذا الذى تعطوننا هو كله فى أيدينا، ولو أعطيتمونا جميع ما فى أيديكم مما لم نظهر عليه ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاث التى وصفت لكم ما فعلنا. فغضبوا، وقالوا: أنتقرب منكم وتتباعد منا، اذهب إلى أصحابك، فو الله إنا لنرجو أن نقرنكم غدا فى الحبال. فقال معاذ: أما فى الحبال فلا، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا أو لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون. ثم انصرف إلى أبى عبيدة فأخبره بما قالوا وما رد عليهم. فإنهم لكذلك إذ بعثوا إلى أبى عبيدة: إنك بعثت إلينا رجلا لا يقبل النصف، ولا يريد الصلح، فلا نرى أعن رأيك ذلك أم لا، وإنا نريد أن نبعث إليك رجلا منا يعرض عليك النصف، ويدعوك إلى الصلح، فإن قبلت ذلك منه فلعله يكون خيرا لنا ولك، وإن أبيت فلا نراه إلا شرا لك «1» . فقال لهم أبو عبيدة: ابعثوا من شئتم. فبعثوا إليه رجلا منهم، طويلا أحمر أزرق، فلما جاء المسلمين لم يعرف أبا عبيدة من القوم، ولم يدر أفيهم هو أم لا، ولم ير هيبة مكان أمير، فقال: يا معشر العرب، أين أميركم؟ قالوا له: هو ذا، فنظر فإذا هو بأبى عبيدة جالسا على الأرض عليه الدرع، وهو متنكب القوس، وفى يده أسهم يقلبها، فقال له: أنت أمير هؤلاء الناس؟ قال: نعم، قال: فما جلوسك على الأرض؟ أرأيت لو كنت

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (113) وما بعدها.

جالسا على وسادة، أو كان تحتك بساط، أكان ذلك واضعك عند الله أو مباعدك من الإحسان؟. فقال أبو عبيدة: إن الله لا يستحى من الحق، لأصدقنك عما قلت، ما أصبحت أملك دينارا ولا درهما، وما أملك إلا فرسى وسلاحى، ولقد احتجت أمس إلى نفقة فلم تكن عندى حتى استقرضت أخى هذا يعنى معاذا، نفقة كانت عنده، فأقرضنيها، ولو كان عندى أيضا، بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه دون أصحابى وإخوانى، وأجلس على الأرض أخى المسلم الذى لا أدرى لعله عند الله خير منى، ونحن عباد الله نمشى على الأرض، ونأكل على الأرض، ونجلس عليها، ونضطجع عليها، وليس بناقصنا ذلك عند الله شيئا، بل يعظم الله به أجورنا، ويرفع به درجاتنا. هات حاجتك التى جئت لها. فقال الرومى: إنه ليس شىء أحب إلى الله من الإصلاح، ولا أبغض إليه من البغى والفساد، وإنكم قد دخلتم بلادنا فظهر منكم فيها الفساد والبغى، وقل ما بغى قوم وأفسدوا فى الأرض إلا عمهم الله بهلاك، وإنا نعرض عليكم أمرا فيه حظ إن قبلتموه: إن شئتم أعطيناكم دينارين دينارين، وثوبا ثوبا، وأعطيناك أنت ألف دينار، ونعطى الأمير الذى فوقك يعنون عمر بن الخطاب، ألفى دينار، وتنصرفون عنا، وإن شئتم أعطيناكم البلقاء وما إلى أرضكم من سواد الأردن، وخرجتم من مدائننا وأرضنا، وكتبنا فيما بيننا وبينكم كتابا يستوثق فيه بعضنا من بعض بالأيمان المغلظة لتقومن بما فيه ولنفين بما عاهدنا الله عليه. فقال أبو عبيدة: إن الله تعالى، بعث فينا رسولا تنبأه، وأنزل عليه كتابا حكيما، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادته رحمة منه للعالمين، فقال لهم: إن الله إله واحد عزيز حكيم، علىّ مجيد، وهو خالق كل شىء، وليس كمثله شىء، فوحدوا الله الذى لا إله إلا هو، ولا تتخذوا معه إلها آخر، فإن كل شىء يعبده الناس دونه فهو خلقه، وإذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإقرار بما جاء به من ربه، فمن آمن وصدق فهو أخوكم فى دينكم، له ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليهم أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا أن يؤمنوا أو يؤدوا الجزية فقاتلوهم، فإن قتيلكم المحتسب بنفسه شهيد عند الله فى جنات النعيم، وقتيل عدوكم فى النار، فإن قبلتم ما سمعتم فذاكم، وإن أبيتم فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين. قال الرومى: فقد أبيتم إلا هذا. فقال أبو عبيدة: نعم. فقال: أما والله على ذلك إنى

لأراكم ستتمنون أنكم قبلتم منا دون ما عرضنا عليكم. فقال أبو عبيدة: لا والله، لا نقبل هذا منك ولا من غيرك أبدا، فانصرف الرومى رافعا يديه إلى السماء يقول: اللهم إنا قد أنصفناهم فأبوا، اللهم فانصرنا عليهم. ووثب أبو عبيدة مكانه، فسار فى الناس، وقال: أصبحوا أيها الناس وأنتم تحت راياتكم وعلى مصافكم. فأصبح الناس وخرجوا على تعبئتهم ومصافهم «1» . وكتب أبو عبيدة إلى عمر: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح. سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإن الروم قد أقبلت، فنزلت طائفة منهم فحلا مع أهلها، وقد سارع إليهم أهل البلد، ومن كان على دينهم من العرب، وقد أرسلوا إلىّ: أن اخرجوا من بلادنا، فإنكم لستم لهذه البلاد التى تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب أهلا، والحقوا ببلادكم، بلاد الشقاء والبؤس، فإن أنتم لم تفعلوا سرنا إليكم بما لا قبل لكم به، ثم أعطينا الله عهدا أن لا ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف، فأرسلت إليهم: أما قولكم: اخرجوا من بلادنا، فلستم لما تنبت أهلا، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله تعالى، ونزعها من أيديكم، وإنما البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، وهو سبحانه ملك الملوك، يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. وأما ما ذكرتم من بلادنا، وزعمتم أنها بلاد البؤس والشقاء، فقد صدقتم، وقد أبدلنا الله بها بلادكم، بلاد العيش الرفيع، والسعر الرخيص، والجناب الخصيب، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها، ولكن أقيموا لنا، فو الله لا نجشمكم إتياننا ولنأتينكم إن أقمتم لنا. وكتبت إليك حين نهضت إليهم متوكلا على الله، راضيا بقضاء الله، واثقا بنصر الله، فكفانا الله وإياك كيد كل كائد، وحسد كل حاسد، ونصر الله أهل دينه نصرا عزيزا، وفتح لهم فتحا يسيرا، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا، والسلام عليك. ودفع أبو عبيدة هذا الكتاب إلى نبطى من أنباط الشام، وقال له: ائت به أمير المؤمنين، ثم نهض هو إلى الروم بجماعة المسلمين، فدنا منهم، وتعرضت خيل المسلمين لهم، فلم يخرجوا يومئذ، فانصرف المسلمون عنهم من غير قتال، وتأخر النبطى عن

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (114) وما بعدها.

المسير حتى انصرف المسلمون، فذهب عند ذلك بالكتاب. وقد كان أبو عبيدة بعثه أول النهار، فلما قدم على عمر رحمه الله، وقرأ كتابه، قال له: ويحك، هل علمت أو بلغت ما كان من أمر المسلمين، فإن أبا عبيدة كتب إلىّ يخبرنى أنه كتب إلىّ حين نهض إلى المشركين؟ فقال له: أصلحك الله، فإنى لم أبرح يومئذ حتى رجع المسلمون عنهم، وكانوا زحفوا إليهم، وتعرضت خيلهم لهم، فلم يخرج النصارى إليهم، فانصرف المسلمون إلى عسكرهم، وهم أطيب شىء أنفسا وأحسن شىء حالا. قال: فأنت ما حبسك يومئذ، إلى العشى لم تقبل بالكتاب وقد دفعه إليك أبو عبيدة أول النهار؟ قال: ظننت أنك ستسألنى عما سألتنى عنه الساعة، فأحببت أن يكون عندى علم ما تسألنى عنه. قال له عمر: ويحك، ما دينك؟ قال: نصرانى، قال: ويحك، أفما يدلك عقلك هذا الذى أرى على أن تسلم، ويحك أسلم فهو خير لك. قال: فقد أسلمت. فقال عمر: الحمد لله الذى يهدى من يشاء إذا يشاء، ثم كتب معه إلى أبى عبيدة بن الجراح: سلاح عليك، فإنى أحمد إليك الله لا إله إلا هو. أما بعد، فإن كتابك جاءنى بنفير الروم إليك، ومنزلهم الذى نزلوا به، ورسالتهم التى أرسلوها، وبالذى رجعت إليهم فيما سألوك، وقد سددت بحجتك، وأوتيت رشدك، فإن أتاكم كتابى هذا وأنتم الغالبون فكثيرا ما يكون من ربنا الإحسان، وإن أتاكم وقد أصابكم نكب أو قرح فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تستكينوا، وأنتم الأعلون، وإنها دار الله، وهو فاتحها عليكم فاصبروا إن الله مع الصابرين، واعلم أنك متى لقيت عدوك فاستعنت بالله عليهم وعلم منك الصدق نصرك عليهم، فقل إذا أنت لقيتهم: اللهم أنت الناصر لدينك، المعز لأوليائك، الناصر لهم قديما وحديثا، اللهم فتول نصرهم، وأظهر فلجهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، وكن أنت الصانع لهم والمدافع عنهم برحمتك، إنك أنت الولى الحميد. فأقبل الرسول بهذا إلى أبى عبيدة، وكان أبو عبيدة بعد ذلك اليوم الذى زحف فيه إلى الروم فلم يخرجوا إليه، سرح إليهم من الغد خالدا فى الخيل، ولم يخرج أبو عبيدة يومئذ فى الرجالة، فخرجت إلى خالد خيل لهم عظيمة، فأقبلت نحوه، فقال لقيس بن هبيرة، وكان من أشد الناس بأسا، وأشده نكاية فى العدو، ومباشرة لهم بعد خالد: يا قيس، اخرج إلى هذا الخيل. فخرج إليهم قيس، فحمل عليهم مرارا، وحملوا عليه، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم أقبلت خيل أخرى عظيمة للروم، فقال خالد لميسرة بن مسروق: اخرج إليهم، فخرج ميسرة فقاتلهم قتالا شديدا، ثم خرجت إليهم من الروم

خيل عظيمة، هى أعظم من الخيلين جميعا، عليها بطريق عظيم من بطارقتهم، فجاء حتى إذا دنا من خالد، أمر بشطر خيله، فحملت على خالد وأصحابه، فلم يتخلخل أحد منهم، ثم إنه جمعهم جميعا، فحمل بهم، فلم يبرح أحد من المسلمين، فلما رأى ذلك الرومى انصرف. فقال خالد لأصحابه: إنه لم يبق من جد القوم ولا حدهم ولا قوتهم إلا ما قد رأيتم، فاحملوا معى يا أهل الإسلام حملة واحدة واتبعوهم ولا تقلعوا عنهم رحمكم الله. ثم حمل عليهم خالد بمن معه، فكشف من يليه منهم، وحمل قيس بن هبيرة على الذين كانوا يلونه فهزمهم وكشفهم، وحمل ميسرة على الذين كانوا يلونه، فهزمهم، واتبعهم المسلمون يقتلونهم ويقصفون بعضهم على بعض، حتى اضطروهم إلى عسكرهم وقد رأوا ما أصابهم، فانكسروا ووهنوا وهابوا المسلمين هيبة شديدة، وانصرف المسلمون إلى عسكرهم وقد قرت أعينهم، واجتمعوا إلى أبى عبيدة وهم مسرورون بما أراهم الله فى عدوهم من عونه لهم عليهم فقال له خالد: إن هزيمتنا خيل المشركين قد دخل رعبها قلوب جماعتهم، فكلهم قلبه مرعوب متخوف لمثلها منا مرة أخرى، فناهض القوم غدا بالغداة ما دام رعب هذه الهزيمة فى قلوبهم، فإنك إن أخرت قتالهم أياما ذهب رعبها من قلوبهم واجترؤوا علينا. قال أبو عبيدة: فانهضوا على بركة الله غدا بالغداة. قال عمرو بن مالك القيسى: ولم يكن شىء أحب إلى الروم من التطويل ودفع الحرب، انتظارا لمدد، ولا شىء أحب إلى المسلمين من المناجزة وتعجيل الفراغ. وقال عبد الله بن قرط: لما كانت الليلة التى خرجنا فى صبيحتها إلى أهل فحل، خرج إلينا أبو عبيدة فى الثلث الباقى من الليل، فلم يزل يعبئ الناس ويحرضهم حتى إذا أصبح صلى بالناس، فكان إلى التغليس أقرب منه إلى التنوير، ثم إنه جعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الرجالة سعيد بن زيد، وعلى الخيل خالد بن الوليد، ثم زحف أبو عبيدة بالناس، وأخذوا يزفون زفا رويدا على رسلهم. وركب أبو عبيدة فاستعرض الصف من أوله إلى آخره، يقف على كل راية وكل قبيلة، ويقول: عباد الله، استوجبوا من الله النصر بالصبر، فإن الله مع الصابرين، عباد الله، ليبشر من قتل منكم بالشهادة، ومن بقى بالنصر والغنيمة، ولكن وطنوا أنفسكم على القتال والطعن بالرماح، والضرب بالسيوف، والرمى بالنبل، ومعانقة الأقران، فإنه والله ما يدرك ما عند الله إلا بطاعته والصبر فى المواطن المكروهة التماس رضوانه.

وتقدم خالد فى الخيل حتى أطل على الروم، فلما رأوه خرجوا إليه فى الخيل والرجل جميعا، وقالوا: إن العرب أفرس على الخيل منا، وخيلنا لا تكاد تثبت لخيلهم، فاخرجوا إليهم فى الخيل والرجال، وكان خالد قد هزم خيلهم بالأمس، فكان ذلك أيضا، مما حملهم على الخروج على هذه التعبئة، خرجوا وهم خمسة صفوف، فأول صف من صفوفهم جعلوا فيه الفارس بين راجلين: رامح وناشب، وجعلوا صفا من الخيل وراء هذا الصف، وجعلوا له مجنبتين. ثم صفوا ثلاثة صفوف أخر رجالا كلهم، ثم أقبلوا نحو المسلمين، وهم نحو خمسين ألفا. فكان أول من لقيهم خالد بن الوليد فى الخيل، فأخذ لا يجد عليهم مقدما، وأخذوا يزحفون إليه ويرشقونه بالنشاب، وجعل ينكص هو وأصحابه وراءهم، وأخذت الروم تقدم عليهم وهم يتأخرون، حتى انتهوا إلى صفهم، ودافعت أعجاز كثير من خيلهم صدور رجالهم، ثم إن خالدا بعث إلى قيس بن هبيرة: أن اخرج فى خيلك حتى تأتى ميسرتهم فتحمل عليها، وقال لميسرة بن مسروق: قف قبالة صفهم فى خيلك، وضمها إليك كتيبة واحدة، فإذا رأيتنا قد حملنا وانتقض صفهم فاحمل على من يليك منهم. وكان خالد قسم خيله أثلاثا، فجعل للمرادى قيس بن هبيرة، ثلثها، ولميسرة بن مسروق العبسى ثلثها، وكان هو فى ثلثها، فخرج خالد فى ثلث الخيل التى معه حتى انتهى إلى ميمنتهم، فعلاها، حتى إذا ارتفع عليهم أخرجوا إليه خيلا لهم، كما تشغله وأصحابه، فلما دنت منه، قال: الله أكبر، الله أخرجهم لكم من رجالتهم، شدوا عليهم، ثم استعرضهم فشد عليهم، وشد معه أصحابه بجماعة خيلهم، فهزمهم الله، ووضعوا السلاح والسيوف فيهم حيث شاؤا، فصرعوا منهم أكثر من سبعين قبل أن ينتهوا إلى ميمنتهم، وارتفع قيس بن هبيرة إلى ميسرتهم، فأخرجوا إليه خيلا كما صنعوا بخالد، فحمل عليهم قيس، فهزمهم وضربهم حتى انتهى إلى ميسرتهم، وقتل منهم بشر كثير، وقتلى عظيمة، وكان واثلة بن الأسقع فى خيل قيس بن هبيرة، فخرج له بطريق من كبارهم، فبرز واثلة وهو يقول فى حملته: ليث وليث فى مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف ومعك أجول جول صارم فى العرك ... أو يكشف الله قناع الشك مع ظفرى بحاجتى ودركى ثم حمل على البطريق فضربه ضربة قتله بها، وحملوا بأجمعهم حتى اضطروا الروم إلى عسكرهم، ووقفوا بإزائهم.

قال هاشم بن عتبة رحمه الله: والله لقد كنا أشفقنا يومئذ، على خيلنا أول النهار، ثم أحسن الله، فما هو إلا أن رأينا خيلنا قد نصرها الله على خيلهم، فدعوت الناس إلىّ وأمرتهم بتقوى الله، ثم نزلت، فهززت رايتى، ثم قلت: والله لا أردها حتى أركزها فى صفهم، فمن شاء فليتبعنى، ومن شاء فليتخلف عنى، قال: فو الذى لا إله غيره، ما أعلم أن أحدا من أصحاب رايتى تخلف عنى، حتى انتهيت إلى صفهم، فنضحونا بالنشاب، فجثونا على الركب واتقيناهم بالدرق. ثم ثرت بلوائى وقلت لأصحابى: شدوا عليهم أنا فداؤكم، فإنها غنيمة الدنيا والآخرة، فشددت وشدوا معى، فأستقبل عظيما منهم قد أقبل نحوى فأوجزه الرمح، فخر ميتا، وضاربناهم بالسيوف ساعة فى صفهم، وحمل عليهم خالد من قبل ميسرتهم فقتلهم قتلا ذريعا، وانتقضت صفوفهم من قبل خالد ومن قبلى، ونهد إليهم أبو عبيدة بالناس، وأمر الخيل التى كانت تليه من خيل خالد، فحملت عليهم، فكانت هزيمتهم «1» . وقال عمرو بن مالك القينى عن أبيه: كان منا رجل له فينا منزلة وحال حسنة، قال: فقلت فى نفسى: قد بلغنى أن صاحب العرب هذا، يعنى أبا عبيدة، رجل صدق، فو الله لآتينه فلأصحبنه ولأتعلمن منه. قال: فكنت آتيه وأخرج معه إذا خرج إلى عسكره، فلما كان ذلك اليوم أقبل حتى كان إلى جنب أبى عبيدة، فألظ به لا يفارقه، قال: فو الله لرأيته يقص علينا، ويقول: كونوا عباد الله أولياء الله، وارغبوا فيما عند الله أشد من رغبتكم فى الدنيا، ولا تواكلوا فتخاذلوا، وليغن كل رجل منكم قرنه، وأقدموا إقدام من يريد بإقدامه ثواب الله، ولا يكن من لقيكم من عدوكم أصبر على باطلهم منكم على حقكم، ثم نهض يمشى إليهم، ونهض المسلمون معه تحت راياتهم ببصيرة وسكينة ودعة وحسن رعة، وحمل قيس بن هبيرة على الروم من قبل ميسرتهم، فقصف بعضهم على بعض «2» . وعن يحيى بن هانئ المرادى: أن قيسا قطع يومئذ ثلاثة أسياف، وكسر بضعة عشر رمحا، وكان يقاتل ويقول: لا يبعدن كل فتى كرار ... ماضى الجنان شاحب صبار حين تهم الخيل بالإدبار ... يقدم إقدام الشجاع الضارى

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (123- 124) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام (134- 135) .

وقال سالم بن ربيعة: حمل ميسرة بن مسروق يومئذ، ونحن معه فى الخيل، فحملنا على القلب وقد أخذ صف الروم ينتقض من قبل ميسرتهم وميمنتهم، ولم ينته الانتقاض إلى القلب بعد، فثبتوا لنا، وقاتلونا قتالا شديدا، فصرع ميسرة عن فرسه، وصرعت معه، وجرح فرسى فعار، ويعتنق ميسرة رجلا من الروم، فاعتركا ساعة، فقتله ميسرة، ثم شد عليه آخر وقد أعيى ميسرة، فاعتركا ساعة، فصرعه الرومى وجلس على صدره، وأشد عليه، فأضرب وجه الرومى بالسيف، فأطرت قحفه، فوقع ميتا، ووثب ميسرة وانبرى إلى رجل منهم، فضربنى ضربة دير بى منها، ويضربه ميسرة فيصرعه، وركبنا منهم عدد كثير، فأحاطوا بنا، وظننا والله أنه الهلاك، إذ نظرنا فإذا نحن نسمع نداء المسلمين وتكبيرهم، وإذا صفوفهم قد انتهت إلينا، وراياتهم قد غشيتنا، فكبرنا، واشتدت ظهورنا، فانقشع الروم عنا، وحمل عليهم خالد من قبل ميمنتهم، فدق بعضهم على بعض حتى دخلوا عسكرهم «1» . وعن نوفل بن مساحق، عن أبيه: أن خالدا قاتل يومئذ، قتالا شديدا ما قاتل مثله أحد من المسلمين، وما كان إلا حديثا ومثلا لمن حضره، ولقد كان يستعرض صفوفهم وجماعتهم، فيحمل عليهم حتى يخالطهم، ثم يجالدهم حتى يفرقهم، ويهزمهم، ويكثر القتل فيهم. قال: ولقد سمعت من يزعم أنه قتل فى ذلك اليوم أحد عشر رجلا من الروم من بطارقتهم وأشدائهم وأهل الشجاعة منهم، وكان يقاتلهم ويقول «2» : أضربهم بصارم مهند ... ضرب صليب الدين هاد مهتد لا واهن الحول ولا مفند وعن سهل بن سعد قال: كان معاذ بن جبل يومئذ من أشد الناس بأسا، وكان يقول: يا أهل الإسلام، إن هذا اليوم لما بعده من الأيام، غضوا أبصاركم رحمكم الله، وأقدموا إقدام الأسد على عدوكم، ولا تفارقوا راياتكم، ولا تزولوا عن مصافكم، وسوقوهم سوقا عنيفا، ولا تشاغلوا عنهم بغنائمهم، ولا بما فى عسكرهم، فإنى أخاف أن يكون لهم عليكم عطفة فلا تقوم لكم بعدها قائمة إن تفرقتم وشغلتكم غنائمهم، فاطلبوهم حتى لا تروا لهم جمعا ولا صفا.

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (135- 136) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام (136) .

فمضى المسلمون كما وصف لهم على راياتهم وصفوفهم يقدمون عليهم، وجعلت صفوف الروم تنتقض وتدبر، وخيل المسلمين تكردهم وتقتلهم، وتحمل عليهم، ولا تقلع عنهم، فقتلوا منهم فى المعركة نحوا من خمسة آلاف، وقتلوا فى عسكرهم حيث دخلوا نحوا من ألفين، وخرجوا عباديد منهزمين، وخيل المسلمين تتبعهم وتقتلهم حتى اقتحموا فى فحل، وفحل مطلة على أهوية تحتها الماء، فتحصنوا فيها، وأصاب المسلمون منهم نحوا من ألفى أسير، فقتلهم المسلمون، وأقبل أبو عبيدة حتى دخل عسكرهم وحوى ما فيه. وقال عبد الله بن قرط الثمالى: مررت يومئذ بعمرو بن سعيد بن العاص قبل هزيمة المشركين، ومعه رجال من المسلمين، سبعة أو ثمانية، وإنه لأمامهم نحو العدو، وإنه ليقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 15، 16] ، ثم يقول: لكن الجنة والله نعم المصير، ولمن؟ هى هى والله لمن شرى نفسه اليوم لله، وقاتل فى سبيل الله، ثم يقول: إلىّ يا أهل الإسلام، أنا عمرو بن سعيد بن العاص، لا تفروا، فإن الله يراكم، ومن يره الله يفر عن نصر دينه يمقته، فاستحيوا من الله ربكم أن يراكم تطيعون أبغض خلقه إليه، وهو الشيطان الرجيم، وتعصونه وهو الرحمن الرحيم «1» . قال عبد الله بن قرط: وقد كان العدو حمل علينا حملة منكرة، فرقت بينى وبين أصحابى، فانتهيت إلى عمرو وهو يقول هذا القول، فقلت فى نفسى: والله ما أنا بواجد اليوم فى هذا العسكر رجلا أقدم صحبة ولا أقرب قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل، فدنوت منه ومعى الرمح، وقد أحاطت به من الروم جماعة، فحملت عليهم، فأصرع أحدهم، ثم أقبلت إليه، فوقفت معه، ثم قلت: يا ابن أبى أحيحة، أتعرفنى؟ فقال لى: نعم يا أخا ثقيف، فقلت له: لم تبعد، هم الإخوان والجيران والحلفاء، ولكنى أخو ثمالة، عبد الله بن قرط. فقال لى: مرحبا بك أخى فى الإسلام، وهو أقرب النسب، أما والله لئن استشهدت وكفى بالله شهيدا لأشهدن لك، ولئن شفعت لأشفعن لك. قال: فنظرت إلى وجهه، فإذا هو مضروب على حاجبه بالسيف، وإذا الدم قد ملأ عينيه، وإذا هو لا يستطيع أن يطرف ولا يفتح عينيه من الدم، فقلت له: أبشر بخير، فإن الله معافيك من هذه الضربة، ومنزل النصر على الإسلام. قال: أما النصر لأهل الإسلام، فأنزل الله

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (137- 138) .

فعجل، وأما أنا، فجعل الله لى هذه الضربة شهادة وأهدى إلىّ أخرى مثلها، فو الله ما أحب أنها بعرض أبى قبيس، وو الله لولا أن يقتل بعض من حولى لأقدمت على هذا العدو حتى ألحق بربى، يا أخى إن ثواب الشهادة عظيم، وإن الدنيا قل ما يسلم منها أهلها. قال: فما كان بأسرع من أن شد علينا منهم جماعة، فمشى إليهم بسيفه، فضاربهم ساعة وهو أمام الناس، وثار بينهم الغبار، فشددنا عليهم، فصرنا منهم عدة، وإذا نحن بعمرو بن سعيد صريعا، وإذا هو قد بضع وبه أكثر من ثلاثين ضربة، وكانوا حنقوا عليه وحردوا لما رأوا من شدة قتاله، فقطعوه بأسيافهم يرحمه الله. وقتل أيضا هناك من قريش من بنى سهم: سعيد بن عمرو، وسعيد بن الحارث بن قيس، والحارث بن الحارث، وغلب المسلمون على الأرض واحتووها، وصار من بقى من العدو فى الحصن، وقد قتل الله منهم مقتلة عظيمة، فأقام المسلمون على الحصن وقد غلبوا على سواد الأردن وأرضها وكل ما فيها، وطلبوها بالنزول إليهم، على أن يؤمنوهم، فأبوا، وذلك أنه بلغهم أن ملك الروم بعث إليهم رجلا من غسان يقال له: المنذر بن عمرو، فجاء فى جمع عظيم من الروم يمد أهل فحل، فلم يبلغهم حتى هزمهم الله وأذلهم، فكان أراد أن يجىء حتى يدخل معهم حصنهم. وكان طائفة قد جاؤا بعد وقعة فحل بيوم، فقال خالد: ما أظن هؤلاء ينبغى لنا أن نعطيهم قوم قاتلوا على هذا الفىء وغلبوا عليه. فقال علقمة بن الأرث القيسى: لم أصلحك الله لا تجعلهم شركاءنا وقد جاؤا بعيالهم يسيرون ويغدون ويروحون لينصروا الإسلام ويجاهدوا فى سبيل الله؟ أفإن المسلمون سبقوهم بساعة من النهار لا يشركونهم وهم إخوانهم وأنصارهم؟ فقال خالد: ننظر، قال أبو عبيدة: ما نرى إلا أن نشركهم. فلما بلغ قضاعة أن المنذر بن عمرو قد دخل بطن الأردن، جاء علقمة بن الأرث إلى أبى عبيدة، فقال: إن المنذر بن عمرو قد نزل بطن الأردن، أفلا تبعث إليه المسلمين؟ فقال: دعه حتى يدنو. فقال: أصلحك الله، ابعث معى خيلا فأنا أكفيكه. فقال: لا، لا تقربنه، لست آذن لك، دعه حتى يدنو، فخرج إلى أصحابه فقال لمن لم يشهد الوقعة منهم، ولمن شهدها، ولهم خيل وقوة: اخرجوا بنا حتى نلقى المنذر بن عمرو، فإنى أرجو أن نصادمه مغترا فنقتله، فنذهب إن شاء الله بأجرها وشرف ذكرها، فتابعوه، فأقبل حتى إذا دنا من عسكر المنذر بن عمرو، حمل الخيل عليهم من جانب العسكر وهم

غازون، فهزمهم، وأتبعهم الخيل تثفنهم وتقتلهم فى كل جانب، وأغار رجالته فى العسكر فاحتووا ما فيه، ولحق علقمة بالمنذر فجاراه ساعة حتى دنا منه، فطعنه وقتله، وأخذ فرسه ورجع إلى أبى عبيدة وقد جاءه خبره، فقال له أبو عبيدة: إنى لأكره أن لا ألومك وقد عصيتنى، وإنى لأكره أن ألومك وقد فتح الله عليك، ورأى أبو عبيدة أن يسهم لهم مع المسلمين، فقاسموهم ما كان فى عسكر المنذر، فلم يصيبوا منها إلا اليسير. وكتب أبو عبيدة إلى عمر رحمهما الله «1» : بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد: فالحمد لله الذى أنزل على المسلمين نصره، وعلى الكافرين رجزه، أخبر أمير المؤمنين أصلحه الله، أنا لقينا الروم وقد جمعوا لنا الجموع العظام، فجاؤنا من رؤس الجبال وأسياف البحار، يرون أن لا غالب لهم من الناس، فبرزوا إلينا، وبغوا علينا، وتوكلنا على الله تعالى، ورفعنا رغبتنا إلى الله، وقلنا حسبنا الله ونعم الوكيل، فنهضنا إليهم بخيلنا ورجلنا، وكان القتال بين الفريقين مليا من النهار، أهدى الله فيه الشهادة لرجال من المسلمين رحمهم الله، منهم: عمرو بن سعيد بن العاص، وضرب الله وجوه المشركين، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، حتى اعتصموا بحصنهم، وانتهب المسلمون عسكرهم، وغلبوا على بلادهم، وأنزلهم الله من صياصيهم، وقذف الرعب فى قلوبهم فاحمد الله يا أمير المؤمنين أنت ومن قبلك من المسلمين على إعزاز الدين وإظهار الفلج على المشركين، وادع الله لنا بتمام النعمة، والسلام عليك. ولما رأى أهل فحل أن أرض الأردن قد غلب عليها المسلمون سألوا الصلح على أن يعفى لهم عن أنفسهم، وأن يؤدوا الجزية، ومن كان فيهم من الروم إن أحب لحق بالروم وخلى بلاد الأردن، وإن أحب أن يقيم ويؤدى الجزية أقام، فصالحهم المسلمون وكتبوا لهم كتابا. وخرج منهم من كان أقبل من الروم فى تلك السنة، وتبقى معهم من كان تبنبك قبل ذلك بالبلد، واتخذ الضياع، وتزوج بها، وولد له فيها، فأقاموا على أن يؤدوا الجزية هم وسائر من كان معهم فى الحصن. وأما من عداهم من أهل الأردن أهل الأرض والقرى، فاختلف فيهم المسلمون، لأخذهم ذلك عنوة، وغلبتهم عليه بغير صلح، فقالت طائفة: نقتسمهم، وقالت طائفة: نتركهم، فكتب أبو عبيدة إلى عمر:

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (139- 140) .

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الله جل ثناؤه ذا المن والفضل والنعم العظام فتح على المسلمين أرض الأردن، فرأت طائفة من المسلمين أن يقروا أهلها، على أن يؤدوا الجزية إليهم، ويكونوا عمار الأرض، ورأت طائفة أن يقتسموهم، فاكتب إلينا يا أمير المؤمنين برأيك فى ذلك، أدام الله لك التوفيق فى جميع الأمور، والسلام. فكتب إليه عمر: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد: فقد بلغنى كتابك تذكر إعزاز الله أهل دينه، وخذلانه أهل عدوانه، وكفايته إيانا مؤنة من عادانا، فالحمد لله على إحسانه فيما مضى، وحسن صنيعه فيما غبر، الذى عافى جماعة المسلمين، وأكرم بالشهادة فريقا من المؤمنين، فهنيئا لهم رضا ربهم، وكرامته إياهم، ونسأل الله أن لا يحرمنا أجرهم، ولا يفتنا بعدهم، فقد نصحوا الله وقضوا ما عليهم، ولربهم كانوا يحفدون، ولأنفسهم كانوا يمهدون، وقد فهمت ما ذكرت من أمر الأرض التى ظهر عليها وعلى أهلها المسلمون، فقالت طائفة: نقر أهلها، على أن يؤدوا الجزية للمسلمين، ويكونوا للأرض عمارا. ورأت طائفة أن يقتسموهم، وإنى نظرت فيما كتبت فيه، ففرق لى من الرأى فيما سألتنى عنه أنى رأيت أن تقرهم، وتجعل الجزية عليهم، وتقسمها بين المسلمين، ويكونوا للأرض عمارا، فهم أعلم بها وأقوى عليها، أرأيتم لو أنا أخذنا أهلها فاقتسمناهم، من كان يكون لمن يأتى بعدنا من المسلمين؟ والله ما كانوا ليجدوا إنسانا يكلمونه، ولا ينتفعون بشىء من ذات يده، وإن هؤلاء يأكلهم المسلمون ما داموا أحياء، فإذا هلكنا وهلكوا أكل أبناؤنا أبناءهم أبدا ما بقوا، وكانوا عبيدا لأهل الإسلام ما دام دين الإسلام ظاهرا، فضع عليهم الجزية، وكف عنهم السباء، وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحقها، والسلام عليك. فلما جاء أبا عبيدة هذا الرأى من عمر عمل به، وكان رأيه ورأى عمر فى ذلك واحدا «1» . وقال علقمة بن الأرث القينى فى يوم فحل: ونحن قتلنا كل واف سباله ... من الروم معروف النجار منطق نطلق بالبيض الرقاق نساءهم ... وأبنا إلى أزواجنا لم تطلق

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (139- 142) .

نصرعهم فى كل فج وغائط ... كأنهم بالقاع معزى المحلق فكم من قتيل أوهطته سيوفنا ... كفاحا وكف قد أطارت وأسوق فتح حمص فيما حكاه أصحاب فتوح الشام «1» عن محرز بن أسد الباهلى قال: دعا أبو عبيدة رؤس المسلمين وفرسان العرب الذين معه، فجمعنا بعدما ظهرنا على فحل وفرغنا من الأردن وأرضها، وقد تحصن منا أهل إيلياء، واجتمعت بقيسارية جموع عظام مع أهلها، وأهلها لم يزالوا كثيرا، فقال أبو عبيدة: يا أهل الإسلام، إن الله قد أحسن إليكم وألبسكم عافية مجللة وأمنا واسعا، وأظهركم على بطارقة الروم، وفتح لكم الحصون والقلاع والقرى والمدائن، وجعلكم لهذه الدار دار الملوك، أربابا، وجعلها لكم منزلا، وقد كنت أردت النهوض بكم إلى أهل إيلياء وأهل قيسارية، فكرهت أن آتيهم وهم فى جوف مدينتهم متحرزون متحصنون، ولم آمن أن يأتيهم مدد من جندهم، وأنا نازل عليهم قد حبست نفسى لهم عن افتتاح الأرض، ولم أدر لعل من طاعتى إذا رأونى قد شغلت نفسى بهم أن يرجعوا إليهم، وأن ينقضوا العهد الذى بينى وبينهم، فرأيت أن أسير إلى دمشق، ثم أسير فى أرضها إلى من لم يدخل طاعتى منهم، ثم أسير إلى حمص، فإن قدرنا عليها، وإلا تركناها ولا نقيم عليها أكثر من يوم الأربعاء والخميس والجمعة، ثم ندنو من ملك الروم وننظر ما يريد بمكانه الذى هو به، فإن الله نفاه عن مكانه ذلك لم تبق بالشام قرية ولا مدينة إلا سالمت وصالحت وأعطت الجزية ودخلت فى الطاعة «2» . فقال المسلمون جميعا: فنعم الرأى رأيك، فأمضه وسر بنا إذا بدا لك، فدعا خالدا وكان لكل ملمة ولكل شدة، فقال له: سر رحمك الله، فى الخيل. فخرج فيها، وخلف عمرو بن العاص فى أرض الأردن، وفى طائفة من أرض فلسطين مما يلى أرض العرب، وجاء خالد حتى تولى أرض دمشق، فاستقبله الذين كانوا صالحوا المسلمين. ثم إن أبا عبيدة جاء من الغد، فخرجوا أيضا، فاستقبلوه بما يحب، فلبث يومين أو ثلاثة، ثم أمر خالدا فسار حتى بلغ بعلبك وأرض البقاع، فغلب على أرض البقاع، وأقبل قبل بعلبك حتى نزل عليها، فخرج إليه منها رجل، فأرسل إليهم فرسانا من المسلمين نحوا من خمسين، فيهم ملحان بن زياد الطائى، وقنان بن دارم العبسى، فحملوا عليهم

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 190) ، تاريخ الطبرى (3/ 598) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام (143- 144) .

حتى أقحموهم الحصن. فلما رأوا ذلك بعثوا فى طلب الصلح، فأعطاهم ذلك أبو عبيدة، وكتب لهم كتابا. ثم إنه خرج نحو حمص، فجمع له أهلها جمعا عظيما، ثم استقبلوه بجوسية «1» ، فرماهم بخالد بن الوليد، فلما نظر إليهم خالد قال: يا أهل الإسلام، الشدة، الشدة. ثم حمل عليهم خالد، وحمل المسلمون معه، فولوا منهزمين حتى دخلوا مدينتهم، وبعث خالد ميسرة بن مسروق فاستقبل خيلا لهم عظيمة عند نهير قريب من حمص، فطاردهم قليلا ثم حمل عليهم، فهزمهم، وأقبل رجل من المسلمين من حمير يقال له شرحبيل، فعرض له منهم فوارس، فحمل عليهم وحده، فقتل منهم سبعة، ثم جاء إلى نهر دون حمص مما يلى دير مسحل فنزل عن فرسه فسقاه، وجاء نحو من ثلاثين فارسا من أهل حمص فنظروا إلى رجل واحد، فأقبلوا نحوه، فلما رأى ذلك أقحم فرسه وعبر الماء إليهم، ثم ضرب فرسه فحمل عليهم، فقتل أول فارس، ثم الثانى، ثم الثالث، ثم الرابع، ثم الخامس، ثم انهزموا وتبعهم وحده، فلم يزل يقتل واحدا واحدا حتى انتهوا إلى دير مسحل وقد صرع منهم أحد عشر رجلا، فاقتحموا جوف الدير واقتحم معهم، فرماه أهل الدير بالحجارة حتى قتلوه، رحمه الله. وجاء ملحان بن زياد وعبد الله بن قرط وصفوان بن المعطل إلى المدينة، فأخذوا يطيفون بها يريدون أن يخرج إليهم أهلها، فلم يخرجوا. وجاء المسلمون حتى نزلوا على باب الرستن «2» ، فزعم النضر بن شفى أن رجلا من آل ذى الكلاع كان أول من دخل مدينة حمص، وذلك أنه حمل من جهة باب الشرقى فلم يرد وجهه شىء، فإذا هو فى جوف المدينة، فلما رأى ذلك ضرب فرسه فخرج كما هو على وجهه ولا يرى إلا أنه قد هلك، حتى خرج من باب الرستن، فإذا هو فى عسكر المسلمين. وحاصر المسلمون أهل حمص حصارا شديدا، فأخذوا يقولون للمسلمين: اذهبوا نحو الملك، فإن ظفرتم به فنحن كلنا لكم عبيد. فأقام أبو عبيدة على باب الرستن بالناس، وبث الخيل فى نواحى أرضهم، فأصابوا غنائم كثيرة وقطعوا عنهم المادة والميرة، واشتد عليهم الحصار، وخشوا السباء فأرسلوا إلى المسلمين يطلبون الصلح، فصالحهم المسلمون

_ (1) جوسية: بالضم ثم السكون وكسر السين المهملة وياء خفيفة، قرية من قرى حمص على ستة فراسخ منها من جهة دمشق. انظر: معجم البلدان (2/ 158) . (2) الرستن: بفتح أوله وسكون ثانيه، بليدة قديمة كانت على نهر الميماس، بين حماة وحمص، فى نصف الطريق. انظر: معجم البلدان (3/ 43) .

وكتبوا لهم كتابا بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وعلى أن يضيفوا المسلمين يوما وليلة، وعلى أن على أرض حمص مائة ألف دينار وسبعين ألف دينار، وفرغوا من الصلح، وفتحوا باب المدينة للمسلمين، فدخلوها وأمن بعضهم بعضا. وكتب أبو عبيدة إلى عمر رضى الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فأحمد الله الذى أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين أفضل كورة بالشام، أكثرها أهلا وقلاعا وجمعا وخراجا، وأكبتهم للمشركين كبتا، وأيسره على المسلمين فتحا. أخبرك يا أمير المؤمنين أصلحك الله، أنا قدمنا بلاد حمص وبها من المشركين عدد كثير، والمسلمون يزفون إليهم ببأس شديد، فلما دخلنا بلادهم ألقى الله الرعب فى قلوبهم، ووهن كيدهم، وقلم أظفارهم، فسألونا الصلح وأذعنوا بأداء الخراج، فقبلنا منهم وكففنا عنهم، ففتحوا لنا الحصون واكتتبوا منا الأمان، وقد وجهنا الخيول إلى الناحية التى بها ملكهم وجنوده. نسأل الله ملك الملوك وناصر الجنود أن يعز المسلمين بنصره، وأن يسلم المشرك الخاطئ بذنبه، والسلام عليك. فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغنى كتابك تأمرنى فيه بحمد الله على ما أفاء علينا من الأرض وفتح علينا من القلاع ومكن لنا فى البلاد وصنع لنا ولكم وأبلانا وإياكم من حسن البلاء، فالحمد لله على ذلك حمدا كثيرا ليس له نفاد ولا يحصى له تعداد، وذكرت أنك وجهت الخيول نحو البلاد التى فيها ملك الروم وجموعهم، فلا تفعل، ابعث إلى خيلك فأضممها إليك وأقم حتى يمضى هذا الحول ونرى من رأينا. ونستعين الله ذا الجلال والإكرام على جميع أمرنا، والسلام عليك. فلما أتى أبا عبيدة الكتاب دعا رؤس المسلمين، فقال لهم: إنى قد كنت قدمت ميسرة بن مسروق إلى ناحية حلب وأنا أريد الإقدام والغارة على ما دون الدرب من أرض الروم، وكتبت بذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب إلىّ: أن أصرف إلى خيلى، وأن أتربص بهم الحول حتى يرى من رأيه. فقالوا: لم يألك أمير المؤمنين والمسلمين نظرا وخيرا. فسرح إلى ميسرة، وقد كان أشرف على حلب ودنا منها، فيجامعه كتاب إلى ميسرة: أما بعد، فإذا لقيت رسولى فأقبل معه ودع ما كنت وجهتك إليه حتى نرى من رأينا وننظر ما يأمرنا به خليفتنا، والسلام.

فأقبل ميسرة فى أصحابه حتى انتهى إلى أبى عبيدة بحمص، فنزل معه، وخرج أبو عبيدة فعسكر بالناس، ودعا خالد بن الوليد، فقال له: اخرج إلى دمشق فانزلها فى ألف رجل من المسلمين وأقيم أنا هاهنا، ويقيم عمرو بن العاص فى مكانه الذى هو فيه، فيكون بكل جانب من الشام طائفة من المسلمين، فهو أقوى لنا عليها وأحرى أن نضبطها، فخرج خالد فى ألف رجل حتى أتى دمشق وبها سويد بن كلثوم بن قيس القرشى، من بنى محارب بن فهر، وكان أبو عبيدة خلفه بها فى خمسمائة رجل، فقدم خالد فعسكر على باب من أبوابها، ونزل سويد فى جوفها. وعن أدهم بن محرز بن أسد الباهلى قال: أول راية دخلت أرض حمص ودارت حول مدينتها راية ميسرة بن مسروق، ولقد كانت لأبى أمامة راية ولأبى راية، وإن أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين لأبى، إلا أن يكون رجل من حمير، فإنه حل هو وأبى جميعا فكل واحد منهما قتل فى حملته رجلا، فكان أبى يقول: أنا أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين بحمص، لا أدرى ما الحميرى، فإنى حملت أنا وهو فقتل كل رجل منا فى حملته رجلا، ولا أخال إلا أنى قتلت قتيلى قبل قتيله «1» . وقال أدهم: إنى لأول مولود بحمص، وأول مولود فرض له بها، وأول من رئى فيها بيده كتف يختلف إلى الكتاب، ولقد شهدت صفين وقاتلت «2» . وقال عبد الله بن قرط: عسكر أبو عبيدة ونحن معه حول حمص نحوا من ثمان عشرة ليلة، وبث عماله فى نواحى أرضها، واطمأن فى عسكره، وذهبت منهزمة الروم من فحل حتى قدمت على ملك الروم بأنطاكية، وخرجت فرسان من فرسان الروم ورجال من عظمائهم وذوى الأموال والغنى والقوة منهم ممن كان أوطن بالشام فدخلوا قيسارية، وتحصن أهل فلسطين بإيلياء. ولما قدمت المنهزمة على هرقل دعا رجالا منهم، فقال لهم: أخبرونى ويلكم عن هؤلاء القوم الذين تلقونهم، أليسوا بشرا مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: نحن أكثر منهم أضعافا، وما لقيناهم فى موطن إلا ونحن أكثر منهم. قال: ويلكم فما بالكم تنهزمون إذا لقيتموهم؟ فسكتوا. فقام شيخ منهم، فقال: أنا أخبرك أيها الملك من أين يؤتون، قال: فأخبرنى، قال: إنهم إذا حمل عليهم صبروا، وإذا حملوا لم يكذبوا،

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (148- 149) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام (149) .

ونحن نحمل فنكذب ويحمل علينا فلا نصبر. قال: وما بالكم كما تصفون، وهم كما تزعمون؟ قال الشيخ: ما أرانى إلا قد علمت من أين هذا. قال له: ومن أين هذا؟ قال: من أجل أن القوم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإنا نشرب الخمر، ونرتكب المحارم، وننقض العهد ونأمر بما يسخط الله وننهى عما يرضيه ونفسد فى الأرض. قال: صدقتنى، لأخرجن من هذه القرية، ولأدعن هذه البلدة، وما لى فى صحبتكم من خير وأنتم هكذا. قال: نشدتك الله أيها الملك أن تفعل، تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولما تقاتل وتجهد؟ قال: قد قاتلتموهم غير مرة بأجنادين، وفحل، ودمشق، والأردن، وفلسطين، وحمص، وفى غير موطن، كل ذلك تنهزمون وتفرون وتغلبون. قال الشيخ: حولك من الروم عدد الحصى والثرى والذر، لم يلقهم منهم إنسان، ثم تريد أن تخرج منها وترجع بهؤلاء جميعا من قبل أن يقاتلوا؟ «1» . فإن هذا الشيخ ليكلمه إذ قدم عليه وفد قيسارية وإيلياء، وسيأتى خبرهم بعد إن شاء الله. وذكر الطبرى «2» عن سيف: أن هرقل لما بلغه الخبر بمقتل أهل المرج أمر أمير حمص بالمضى إليها، وقال له: إنه بلغنى يعنى عن المسلمين، أن طعامهم لحوم الإبل، وشرابهم ألبانها، وهذا الشتاء، فلا تقاتلوهم إلا فى كل يوم بارد، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحد هذا جل طعامه، وشرابه، وارتحل فى عسكره ذلك حتى أتى الرها. وأقبل أبو عبيدة حتى نزل على حمص، وأقبل خالد بعده حتى ينزل عليها، فكان أهلها يغادون المسلمين ويراوحونهم فى كل يوم بارد، ولقى المسلمون بها بردا شديدا والروم حصارا طويلا. فأما المسلمون فصبروا ورابطوا، وأفرغ الله عليهم الصبر وأعقبهم النصر، حتى انصرم الشتاء، وإنما تمسك الروم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء. فكانوا يتواصون فيما بينهم ويقولون: تمسكوا فإنهم جفاة، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون، فكانت الروم ترجع وقد سقطت أقدام بعضهم فى خفافهم، وإن المسلمين لفى النعال ما أصيب إصبع أحد منهم، حتى إذا انخمس الشتاء، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين، قالوا: كيف والملك فى عزه وملكه ليس بيننا وبينهم شىء؟ فتركهم، وقام فيهم آخر وقال: ذهب الشتاء وانقطع الرجاء فما تنتظرون؟

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (149- 151) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 599- 600) .

قالوا: البرسام، فإنما يسكن فى الشتاء ويثور فى الصيف، قال: إن هؤلاء قوم يعانون ولأن تأتوهم بعهد وميثاق خير من أن تؤخذوا عنوة، أجيبونى محمودين قبل أن تجيبونى مذمومين. فقالوا: شيخ خرف ولا علم له بالحرب. وأثاب الله المسلمين على صبرهم أيام حمص. فيما حكى عن بعض أشياخ من غسان وبلقين «1» : أن زلزل بأهل حمص، وذلك أن المسلمين ناهدوهم، فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم فى المدينة، وتصدعت الحيطان، ففزعوا إلى رؤسائهم وذوى رأيهم ممن كان يدعوهم إلى المسالمة فلم يجيبوهم وأذلوهم بذلك، ثم كبروا الثانية فتهافتت دور كثيرة وحيطان، وفزعوا إلى رؤسائهم وذوى رأيهم، فقالوا: ألا ترون إلى عذاب الله؟ فأجابوهم: لا يطلب الصلح غيركم، فأشرفوا ينادوى، الصلح الصلح، ولا يشعر المسلمون بما حدث فيهم، فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم، وعلى أن يترك المسلمون أموال ملوك الروم وبنيانهم لا ينزلونه عليهم، فتركوه لهم، فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام على كل جريب أبدا أيسروا أو أعسروا، وصالح بعضهم على قدر طاقته إن زاد ماله زيد عليه وإن نقص نقص، وعلى هذين الوجهين كان صلح دمشق والأردن، وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه. حديث حمص آخر قالوا: وغزى هرقل أهل حمص فى البحر، واستمد أهل الجزيرة، واستثار أهل حمص، فأرسلوا إليه: بأنا قد عاهدنا، فنخاف أن لا ننصر. واستمد أبو عبيدة خالدا، فأمده بمن معه جميعا، لم يخلف أحدا، فكفر أهل قنسرين بعده وتابعوا هرقل، وكان أكثر من هنالك تنوخ الحاضر. ودنا هرقل من حمص وعسكر وبعث البعوث إلى حمص، فأجمع المسلمون على الخندقة والكتاب إلى عمر، إلا ما كان من خالد، فإن المناجزة كانت رأيه، فخندقوا على حمص، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه. وجاء الروم ومن أمدهم حتى نزلوا عليهم فحصروهم، وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفا سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم، فبلغوا من المسلمين كل مبلغ. وجاء الكتاب إلى عمر وهو موجه إلى مكة للحج، فمضى لحجه، وكتب إلى سعد بن

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 600) .

أبى وقاص: إن أبا عبيدة قد أحيط به ولزم حصنه، فبث المسلمين بالجزيرة، واشغلهم بالخيول عن أهل حمص، وأمد أبا عبيدة بالقعقاع بن عمرو. فخرج القعقاع ممدا لأبى عبيدة، وخرجت الخيول نحو الرقة ونصيبين وحران، فلما وصلوا الجزيرة وبلغ ذلك الروم الذين كانوا منها وهم بحمص تقوضوا إلى مدائنهم، وبادروا المسلمين إليها، فتحصنوا، ونزل عليهم المسلمون فيها، ولما دنا القعقاع من حمص راسلت طائفة من تنوخ خالدا ودلوه وأخبروه بما عندهم من الخبر، فأرسل إليهم خالد: والله لولا أنى فى سلطان غيرى ما باليت قللتم أم كثرتم أو أقمتم أو ذهبتم، فإن كنتم صادقين فانفشوا كما انفش أهل الجزيرة، فساموا تنوخ ذلك، فأجابوهم، وراسلوا خالدا: إن ذلك إليك، فإن شئت فعلنا، وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم، وأوثقوا له، فقال: بل أقيموا، فإذا خرجنا فانهزموا بهم. فقال المسلمون لأبى عبيدة: قد أنفش أهل الجزيرة، وقد ندم أهل قنسرين وواعدوا من أنفسهم، وهم العرب، فاخرج بنا وخالد ساكت، فقال: يا خالد، ما لك لا تتكلم؟ فقال: قد عرفت الذى كان من رأيى فلم تسمع من كلامى. قال: فتكلم فإنى أسمع منك وأطيعك، قال: فاخرج بالمسلمين، فإن الله تعالى قد نقص من عدتهم، وبالعدد يقاتلون، ونحن إنما نقاتل منذ أسلمنا بالنصر، فلا تجفلك كثرتهم. قالوا: فجمع أبو عبيدة الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس، إن هذا يوم له ما بعده، أما من حكى منكم فإنه يصفو له ملكه وقراره، وأما من مات منكم فإنها الشهادة، فأحسنوا بالله الظن ولا يكرهن إليكم الموت أمر اقترفه أحدكم دون الشرك، توبوا إلى الله وتعرضوا للشهادة، فإنى أشهد وليس أوان الكذب، أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. فكأنما كانت بالناس عقل تنشطت، فخرج بهم وخالد على الميمنة، وقيس على الميسرة، وأبو عبيدة فى القلب وعلى باب المدينة معاذ بن جبل، فاجتلدوا بها، فإنهم كذلك إذ قدم القعقاع متعجلا فى مائة، فانهزم أهل قنسرين بالروم، فاجتمع القلب والميمنة على قلبهم وقد انكسر أحد جناحيه، فما أفلت منهم مخبر، وذهبت الميسرة على وجهها، وآخر من أصيب منهم بمرج الديباج انتهوا إليه فكسروا سلاحهم وألقوا بلامهم تخففا، فأصيبوا وتغنموا.

ولما ظفر المسلمون جمعهم أبو عبيدة فخطبهم، وقال لهم: لا تتكلوا ولا تزهدوا فى الدرجات. فتح قنسرين» وبعث بعد فتح حمص خالد بن الوليد إلى قنسرين، فلما نزل بالحاضر زحف إليه الروم وعليهم ميناس، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل، فالتقوا بالحاضر، فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها. فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب، وأنهم إنما حشدوا ولم يكن من رأيهم حربه، فقبل منهم وتركهم. ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: أمر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرجال منى، وكان قد عزله والمثنى بن حارثة عند قيامه، بالأمر، وقال: إنى لم أعزلهما عن ريبة، ولكن الناس عظموهما، فخشيت أن يوكلوا إليهما. ويروى أنه قال حين ولى: والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه لا إياهما. فلما كان من أمر خالد فى قنسرين ما كان، رجع عن رأيه. وسار خالد حتى نزل على قنسرين، فتحصنوا منه، فقال: إنكم لو كنتم فى السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلنكم إلينا. فنظروا فى أمرهم، وذكروا ما لقى أهل حمص وقنسرين، فسألوه الصلح على مثل صلحها، فأبى إلا على إخراب المدينة، فأخربها. واتطأت حمص وقنسرين، فعند ذلك خنس هرقل وخرج نحو القسطنطينية. وأفلت رجل من الروم كان أسيرا فى أيدى المسلمين فلحق بهرقل، فقال له: أخبرنى عن هؤلاء القوم. فقال: أحدثك كأنك تنظر إليهم، فرسان بالنهار، ورهبان بالليل، ما يأكلون فى ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه. فقال: لئن كنت صدقتنى ليرثن ما تحت قدمى هاتين «2» . وكان هرقل كلما حج بيت المقدس فخلف سورية، وظعن فى أرض الروم التفت فقال: السلام عليك يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطره، وهو عائد. فلما توجه

_ (1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 191) ، تاريخ الطبرى (3/ 601) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 602- 603) .

المسلمون نحو حمص عبر الماء فنزل الرها، فلم يزل بها حتى إذا فتحت قنسرين، وقتل ميناس خنس عند ذلك إلى سميساط «1» حتى إذا فصل منها نحو أرض الروم على شرف، فالتفت نحو سورية وقال: عليك السلام يا سورية، سلاما لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومى أبدا إلا خائفا، حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد، ما أحلى فعله، وما أمر عاقبته على الروم. ثم مضى حتى نزل قسطنطينية. وهذا مقتضب من أحاديث متفرقة ذكرها سيف فى كتابه. جمع الروم للمسلمين ثم نعود إلى صلة ما قطعنا قبل من الحديث عن وفد أهل إيلياء وقيسارية القادم على هرقل، إذ قد وعدنا بذكره حسب ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام فى كتبهم. وذلك أن أهل قيسارية وأهل إيلياء تواطأوا بعد يوم فحل وتآمروا، أن يبعثوا وفدا منهم إلى هرقل بأنطاكية، فيخبروه بتمسكهم بأمره وإقامتهم على طاعته وخلافهم العرب، ويسألونه المدد والنصر. فلما جاءه وفدهم هذا رأى أن يبعث الجنود ويقيم هو بأنطاكية، فأرسل إلى رومية والقسطنطينية، وإلى من كان من جنوده وعلى دينه من أهل الجزيرة وأرمينية، وكتب إلى عماله أن يحشروا إليه كل من أدرك الحلم من أهل مملكته فما فوق ذلك إلى الشيخ الفانى، فأقبلوا إليه، وجاء منهم ما لا تحمله الأرض، وجاءه جرجير صاحب أرمينية فى ثلاثين ألفا، وآتاه أهل الجزيرة، ونزع إليه أهل دينه وجميع من كان فى طاعته، فدعا باهان، وكان من عظمائهم وأشرافهم، فعقد له على مائة ألف، ودعا ابن قماطر فعقد له على مائة ألف فيهم جرجير ومن معه من أهل أرمينية، ودعا الدرنجار فعقد له على مائة ألف، ثم أعطى الأمراء مائة ألف، مائة ألف، وأعطى باهان مائتى ألف، وقال لهم: إذا اجتمعتم فأميركم باهان، ثم قال: يا معشر الروم، إن العرب قد ظهروا على سورية، ولم يرضوا بها حتى تعاطوا أقصى بلادكم، وهم لا يرضون بالبلاد والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأمهات والبنات والأخوات والأزواج، ويتخذوا الأحرار وأبناء الملوك عبيدا، فامنعوا حرمتكم وسلطانكم ودار ملككم «2» .

_ (1) سميساط: بلد من بلد العجم، منها السميساطى رجل من العجم كان موصوفا بالورع والزهد. انظر الروض المعطار (323) . (2) انظر هذا الخبر وما بعده فى: تاريخ فتوح الشام (151- 159) .

قال عبد الله بن قرط، والحديث له: ثم وجههم إلينا، فقدمت عيوننا من قبلهم، فخبرونا بمقالة ملكهم وبمسيرهم إلينا وجمعهم لنا، ومن أجلب معهم من غيرهم علينا ممن كان على دينهم وفى طاعتهم. فلما جاء أبا عبيدة الخبر عن عددهم وكثرتهم، رأى أن لا يكتم ذلك المسلمين، وأن يستشيرهم فيه لينظر ما يؤول إليه رأى جماعتهم، فدعا رؤس المسلمين وأهل الصلاح منهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد. فإن الله عز وجل، قد أبلاكم أيها المؤمنون فأحسن البلاء، وصدقكم الوعد، وأعزكم بالنصر، وأراكم فى كل موطن ما تسرون به، وقد سار إليكم عدوكم من المشركين بعدد كثير، ونفروا إليكم فيما حدثنى عيونى نفير الروم الأعظم، فجاؤكم برا وبحرا حتى خرجوا إلى صاحبهم بأنطاكية، ثم قد وجه إليكم ثلاثة عساكر فى كل عسكر منها ما لا يحصيه إلا الله من البشر، وقد أحببت أن لا أغركم من أنفسكم، ولا أطوى عنكم خبر عدوكم، ثم تشيرون علىّ برأيكم، وأشير عليكم برأيى، فإنما أنا كأحدكم. فقام يزيد بن أبى سفيان، فقال: نعم ما رأيت رحمك الله، إذ لم تكتم عنا ما أتاك من عدونا، وأنا مشير عليكم، فإن كان صوابا فذاك ما نويت، وإن يكن الرأى غير ما أشير به، فإنى لا أتعمد غير ما يصلح المسلمين. أرى أن نعسكر على باب مدينة حمص بجماعة المسلمين، وندخل النساء والأبناء داخل المدينة، ثم نجعل المدينة فى ظهورنا، ثم نبعث إلى خالد فيقدم عليك من دمشق، وإلى عمرو بن العاص فيقدم عليك من الأردن، فتلقاهم بجماعة من معك من المسلمين. وقام شرحبيل بن حسنة فقال: إن هذا مقام لا بد فيه من النصيحة للمسلمين وإن خالف الرجل منا أخاه، وإنما على كل رجل منا أن يجتهد رأيه، وأنا الآن فقد رأيت غير ما رأى يزيد، وهو والله عندى من الناصحين لجماعة المسلمين، ولكن لا أجد بدا من أن أشير عليكم بما أظنه خيرا للمسلمين. إنى لا أرى أن ندخل ذرارى المسلمين مع أهل حمص وهم على دين عدونا هذا الذى قد أقبل إلينا، ولا آمن إن وقع بيننا وبينهم من الحرب ما نتشاغل به أن ينقضوا عهدنا وأن يثبوا على ذرارينا فيتقربوا بهم إلى عدونا. فقال له أبو عبيدة: إن الله قد أذلهم لكم، وسلطانكم أحب إليهم من سلطان عدوكم، وأما إذ ذكرت ما ذكرت، وخوفتنا ما خوفت، فإنى أخرج أهل المدينة منها

وأنزلها عيالنا، وأدخل رجالا من المسلمين يقومون على سورها وأبوابها، ونقيم نحن بمكاننا هذا حتى يقدم علينا إخواننا. فقال له شرحبيل: إنه ليس لك ولا لنا معك أن نخرجهم من ديارهم وقد صالحناهم على ألا نخرجهم منها. فأقبل أبو عبيدة على جماعة من عنده فقال: ماذا ترون، رحمكم الله؟ فقالوا: نرى أن نقيم، ونكتب إلى أمير المؤمنين فنعلمه نفير الروم إلينا، وتبعث إلى من بالشام من إخوانك المسلمين فيقدموا عليك. فقال أبو عبيدة: إن الأمر أجل وأعظم مما تحسبون، ولا أحسب القوم إلا سيعاجلونكم قبل وصول خبركم إلى أمير المؤمنين. فقام إليه ميسرة بن مسروق، فقال: أصلحك الله، إنا لسنا بأصحاب القلاع ولا الحصون ولا المدائن، وإنما نحن أصحاب البر والبلد القفر، فأخرجنا من بلاد الروم ومدائنها إلى بلادنا أو إلى بلاد من بلادهم تشبه بلادنا إن كانوا قد جاشوا علينا كما ذكرت، ثم اضمم إليك قواصيك، وابعث إلى أمير المؤمنين فليمددك. فقال كل من حضر ذلك المجلس: الرأى ما رأى ميسرة، فقال لهم أبو عبيدة: فتهيأوا وتيسروا حتى أرى من رأى، وكان رأى أبى عبيدة أن يقيموا ولا يبرحوا، ولكنه كره خلافهم، ورجا أن يكون فى اجتماع رأيهم الخير والبركة. ثم بعث إلى حبيب بن مسلمة، وكان استعمله على الخراج، فقال: انظر ما كنت جبيت من حمص فاحتفظ به حتى آمرك فيه، ولا تجبين أحدا ممن بقى حتى أحدث إليك فى ذلك، ففعل، فلما أراد أبو عبيدة أن يشخص دعا حبيبا فقال له: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم، وقل لهم: نحن على ما كان بيننا وبينكم من الصلح، لا نرجع عنه إلا أن ترجعوا، وإنما رددنا عليكم أموالكم كراهية أن نأخذها ولا نمنع بلادكم، ولكنا نتنحى إلى بعض الأرض ونبعث إلى إخواننا فيقدموا علينا، ثم نلقى عدونا، فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم، إلا ألا تطلبوا ذلك. ثم أخذ الناس فى الرحيل إلى دمشق، ورد حبيب بن مسلمة إلى أهل البلد ما كان أخذ منهم، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، فقالوا: ردكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، لكنهم والله لو كانوا هم ما ردوا علينا، بل غصبونا وأخذوا مع هذا

ما قدروا عليه من أموالنا. وأعلم أبو عبيدة عمر بن الخطاب بكل ما قبله. قال سفيان بن عوف بن معقل: بعثنى أبو عبيدة ليلة غدا من حمص إلى دمشق، فقال: ائت أمير المؤمنين فأبلغه منى السلام وأخبره بما قد رأيت وعاينت، وبما جاءتنا به العيون، وبما استقر من كثرة العدو، وبالذى رأى المسلمون من التنحى عنهم. وكتب إليه معه: أما بعد، فإن عيونى قدمت علىّ من أرض قنسرين ومن القرية التى فيها ملك الروم، فحدثونى بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع ما لم يجمعوه قط لأمه كانت قبلنا، وقد دعوت المسلمين فأخبرتهم الخبر واستشرتهم فى الرأى، فاجتمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك، وقد بعثت إليك رجلا عنده علم ما قبلنا، فاسأله عما بدا لك، فإنه بذلك عليم، وهو عندنا أمين، ونستعين الله العزيز الحكيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والسلام عليك. قال سفيان: فلما قدمت على أمير المؤمنين سلمت عليه، فقال: أخبرنى عن الناس، فأخبرته بصلاحهم، ودفاع الله عنهم، ثم أخذ الكتاب فقرأه، فقال لى: ويحك ما فعل المسلمون؟ فقلت: أصلحك الله، خرجت من عندهم ليلا من حمص وتركتهم يقولون: نصلى الغداة ثم نرحل إلى دمشق. قال: فكأنه كرهه حتى عرفت الكراهة فى وجهه، ثم قال: لله أبوك، ما رجوعهم عن عدوهم وقد أظفرهم الله بهم فى غير موطن؟ وما تركهم أرضا قد فتحها الله عليهم وصارت فى أيديهم؟ إنى لأخاف أن يكونوا قد أساؤا الرأى وجاؤا بالعجز وجرأوا عدوهم عليهم. فقلت: أصلحك الله، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، إن صاحب الروم قد جمع لنا جموعا لم يجمعها هو ولا أحد كان قبله لأحد كان قبلنا، ولقد أخبرنا بعض عيوننا أن عسكرا واحدا من عساكرهم أمر بالعسكرة فى أصل جبل، فهبطوا من الثنية نصف النهار إلى معسكرهم فما تكاملوا فيه حتى أمسوا، ثم ما تكاملوا فيه إلى نصف الليل، فهذا عسكر واحد من عساكرهم، فما ظنك أصلحك الله بما بقى؟. فقال: لولا أنى ربما كرهت الشىء من أمرهم يضيعونه، فأرى الله تعالى، يخير لهم فى عواقبه لكان هذا رأيا أنا له كاره. أخبرنى: اجتمع رأى جميعهم على التحول؟ قلت: نعم. قال: فالحمد لله، إنى لأرجو إن شاء الله أن لا يكون جمع الله رأيهم إلا على ما هو خير لهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، اشدد أعضاد المسلمين بمدد يأتيهم من قبلك قبل الوقعة، فإن هذه الوقعة هى الفيصل فيما بيننا وبينهم. فقال لى: أبشر بما يسرك ويسر المسلمين، واحمل كتابى هذا إلى أبى عبيدة وإلى المسلمين، وأعلمهم أن سعيد بن عامر بن

حذيم قادم عليهم بالمدد، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبى عبيدة بن الجراح وإلى الذين معه من المهاجرين والأنصار، والتابعين بإحسان، والمجاهدين فى سبيل الله، سلام عليكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد فإنه قد بلغنى توجهكم من أرض حمص إلى أرض دمشق، وترككم بلادا فتحها الله عليكم، وخليتموها لعدوكم وخرجتم منها طائعين، فكرهت هذا من رأيكم وفعلكم، ثم إنى سألت رسولكم عن رأى من جميعكم كان ذلك، فزعم أن ذلك كان رأيا من أماثلكم وأولى النهى منكم، فعلمت أن الله لم يكن يجمع رأيكم إلا على توفيق وصواب ورشد فى العاجلة والعاقبة، فهون ذلك علىّ ما كان داخلنى من الكراهية قبل ذلك لتحولكم، وقد سألنى رسولكم المدد، وأنا ممدكم، لن يقرأ عليكم كتابى حتى يشخص إليكم المدد من قبلى إن شاء الله، واعلموا أنه ليس بالجمع الكثير تهزم الجموع وينزل الله النصر، ولربما خذل الله الجموع الكثيرة فوهنت وقلت وفشلت، ولم تغن عنهم فئتهم شيئا، ولربما نصر الله العصابة القليل عددها على الكثير عددها من أعداء الله، فأنزل الله عليكم نصره، وبعدو المسلمين بأسه ورجزه، والسلام عليكم. فجاء سفيان بالكتاب إلى أبى عبيدة فقرأه على الناس وسروا به. وعن عبد الله بن قرط، فى حديثه المتقدم عما اجتمع عليه رأى المسلمين مع أبى عبيدة من الرحيل عن حمص، قال: فلما صلينا صلاة الغداة بحمص خرجنا مع أبى عبيدة نسير حتى قدمنا دمشق وبها خالد بن الوليد، وتركنا أرض حمص ليس فيها منا ديار بعدما كنا قد افتتحناها، وأمنا أهلها، وصالحناهم عليها، وخلا أبو عبيدة بخالد بن الوليد فأخبره الخبر، وذكر له مشورة الناس عليه بالرحلة، ومقالة العبسى فى ذلك، فقال له خالد: أما أنه لم يكن الرأى إلا الإقامة بحمص حتى نناجزهم، فأما إذا اجتمع رأيكم على أمر واحد، فو الله إنى لأرجو أن لا يكون الله قد جمع رأيكم إلا على ما هو خير «1» . فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين، وأمر سويد بن كلثوم أن يرد على أهل دمشق الذين كانوا أمنوا وصولحوا ما كان جبى منهم، ففعل، وقال لهم المسلمون: نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم. ثم إن أبا عبيدة جمع أصحابه، فقال لهم: ماذا ترون؟ أشيروا علىّ. فقال يزيد بن أبى سفيان: أرى أن تخرج حتى تنزل الجابية، ثم تبعث إلى عمرو بن

_ (1) انظر الخبر فى: تاريخ فتوح الشام (160- 169) .

العاص فيقدم عليك بمن معه من المسلمين، ثم نقيم للقوم حتى يقدموا علينا، فنقاتلهم ونستعين الله عليهم. فقال شرحبيل بن حسنة: لكنى أرى إذ خلينا لهم ما خلينا من أرضهم أن ندعها كلها فى أيديهم وننزل التخوم بين أرضنا وأرضهم فندنوا من خليفتنا ومن مددنا، فإذا أتانا من المدد ما نرجو أن نكون لهم به مقرنين قاتلناهم إن أتونا، وإلا أقدمنا عليهم إن هم أقاموا عنا. فقال رجل من المسلمين لأبى عبيدة: هذا أصلحك الله رأى حسن، فاقبله واعمل به. فقال معاذ بن جبل: وهل يلتمس هؤلاء القوم من عدوهم أمرا أضر لهم ولا أشد عليهم مما تريدون أنتم بأنفسكم، تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم وقتل فيها صناديدهم وأهلك جنودهم، فإذا خرج المسلمون منها وتركوها لهم فكانوا فيها على مثل حالهم الأول، فما أشد على المسلمين دخولها بعد الخروج منها، وهل يصلح لكم أن تدعوها وتدعوا البلقاء والأردن وقد جبيتم خراجهم لتدفعوا عنهم؟ أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لتكابدن من ذلك مشقة. فقال أبو عبيدة: صدق والله وبر، ما ينبغى أن نترك قوما قد جبينا خراجهم وعقدنا العهد لهم حتى نعذر إلى الله فى الدفع عنهم، فإن شئتم نزلنا الجابية وبعثنا إلى عمرو بن العاص يقدم علينا، ثم أقمنا للقوم حتى نلقاهم بها. فقال له خالد: كأنك إذا كنت بالجابية كنت على أكثر مما أنت عليه فى مكانك الذى أنت فيه. فإنهم لكذلك يجيلون الرأى إذ قدم على أبى عبيدة عبد الله بن عمرو بن العاص بكتاب من أبيه يقول فيه: أما بعد، فإن أهل إيلياء وكثيرا ممن كنا صالحناهم من أهل الأردن قد نقضوا العهد فيما بيننا وبينهم، وذكروا أن الروم قد أقبلت إلى الشام بقضها وقضيضها، وأنكم قد خليتم لهم عن الأرض وأقبلتم منصرفين عنها، وقد جرأهم ذلك علىّ وعلى من قبلى من المسلمين، وقد تراسلوا وتواثقوا وتعاهدوا ليسيرون إلىّ. فاكتب إلىّ برأيك، فإن كنت تريد القدوم علىّ أقمت لك حتى تقدم علىّ، وإن كنت تريد أن تنزل منزلا من الشام أو من غيرها وأن أقدم عليك فأعلمنى برأيك، أوافك فيه، فإنى صائر إليك أينما كنت، وإلا فابعث إلىّ مددا أقوى به على عدوى وعلى ضبط ما قبلى، فإنهم قد أرجفوا بنا واغتمزوا فينا واستعدوا لنا، ولو يجدون فينا ضعفا أو يرون فينا فرصة ما ناظرونا، والسلام عليك.

فكتب إليه أبو عبيدة: أما بعد، فقد قدم علينا عبد الله بن عمرو بكتابك تذكر فيه إرجاف المرجفين واستعدادهم لك، وجرأتهم عليك للذى بلغهم من انصرافنا عن الروم وما خلينا لهم من الأرض، وأن ذلك والحمد لله لم يكن من المسلمين عن ضعف من بصائرهم، ولا وهن عن عدوهم، ولكنه كان رأيا من جماعتهم كادوا به عدوهم ليخرجوهم من مدائنهم وحصونهم وقلاعهم وليجتمع بعض المسلمين إلى بعض وينتظروا قدوم أمدادهم، ثم يناهضونهم إن شاء الله، وقد اجتمعت خيلهم وتتامت فرسانهم، فعند ذلك فارتقب نصر الله أولياءه، وإنجاز موعوده، وإعزاز دينه، وإذلاله المشركين حتى لا يمنع أحد منهم أمه ولا حليلته ولا نفسه، حتى يتوقلوا فى شعف الجبال، ويعجزوا عن منع الحصون ويجنحوا للسلم، ويلتمسوا الصلح، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62] . ثم أعلم من قبلك من المسلمين أنى قادم عليهم بجماعة أهل الإسلام إن شاء الله، فليحسنوا بالله الظن ولا يجدن عدوكم فيكم ضعفا ولا وهنا، ولا تؤبسوا منكم رعبا فيطمعوا فيكم ويجترئوا عليكم، أعزنا الله وإياكم بنصره، وعمنا بعافيته وعفوه، والسلام عليك. وقال لعبد الله بن عمرو: اقرأ على أبيك السلام، وأخبره أنى فى أثرك، وأعلم بذلك المسلمين وكن يا عبد الله بن عمرو ممن يشد الله به ظهور المسلمين ويستأنسون به، فإنك رجل من الصحابة، وقد جعل الله للصحابة فضلا على غيرهم من المسلمين، بصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتكل على أبيك، وكن أنت فى جانب تحرض المسلمين وتمنيهم النصر، وتأمرهم بالصبر، ويكون أبوك يفعل ذلك فى جانب آخر. فقال: إنى أرجو أن يبلغك عنى إن شاء الله من ذلك ما تسر به، ثم خرج حتى قدم على أبيه بكتاب أبى عبيدة، فقرأه أبوه على الناس، ثم قال: أما بعد، فقد برئت ذمة الله من رجل من أهل عهدنا من أهل الأردن ثقف رجلا «1» من أهل إيلياء «2» فلم يأتنا به، ألا ولا يبقين رجل من أهل عهدنا إلا تهيأ واستعد ليسير معى إلى أهل إيلياء، فإنى أريد السير إليهم والنزول بساحتهم، ثم لا أزايلهم حتى أقتل مقالتهم وأسبى ذراريهم، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

_ (1) ثقف رجل: أى صفر به. (2) إيلياء: ويقال أيليا بفتح الهمزة، مدينة بالشام وهى بيت المقدس، وهى مدينة قديمة جليلة على جبل يصعد إليها من كل جانب. انظر: الروض المعطار (68) ، نزهة المشتاق (216) .

ثم نادى فى المسلمين: أن ارتحلوا إلى إيلياء، فسار نحوا من ميلين قبل أرض إيلياء، ثم نزل وعسكر، وقال لأهل الأردن: أخرجوا إلينا الأسواق، ونادى مناديه: برئت الذمة من رجل من أهل الصلح لم يخرج بسلاحه حتى يحضر معنا معسكرنا وينتظر ما نأمر به من أمرنا، فاجتمع أهل الصلح كلهم إليه، وخرجوا بعدتهم وسلاحهم، فقدمهم مع ابنه عبد الله فى خمسمائة من المسلمين، وأمره أن يعسكر بهم، ففعل. وإنما أراد أن يشغل أهل الأردن عن الإرجاف، وأن يبلغ أهل إيلياء أنه يريد المسير إليهم والنزول بهم، فيرعب قلوبهم ويشغلهم فى أنفسهم وحصونهم عن الغارة عليهم. فخرج التجار من أهل الأردن ومن كان فيها من أهل إيلياء عند حميم أو ذوى قرابة فلحقوا بإيلياء فقالوا لهم: هذا عمرو بن العاص قد أقبل نحوكم بالناس، فاجتمعوا من كل مكان، وتراسلوا، وجعلوا لا يجيئهم أحد من قبل الأردن إلا أخبرهم بمعسكره، فأيقنوا أنه يريدهم، فكانوا من ذلك فى هول شديد، وزادهم خوفا ووجلا كتاب كتبه إليهم عمرو بن العاص مضمنه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عمرو بن العاص إلى بطارقة أهل إيلياء، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله الذى لا إله إلا هو، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد: فإنا نثنى على ربنا خيرا، ونحمده حمدا كثيرا، كما رحمنا بنبيه وشرفنا برسالته وأكرمنا بدينه، وأعزنا بطاعته، وأيدنا بتوحيده، فلسنا والحمد لله نجعل له ندا ولا نتخذ من دونه إلها، لقد قلنا إذا شططا، والحمد لله الذى جعلكم شيعا وجعلكم فى دينكم أحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون، فمنكم من يزعم أن لله ولدا، ومنكم من يزعم أن الله ثانى اثنين، ومنكم من يزعم أن الله ثالث ثلاثة، فبعدا لمن أشرك بالله وسحقا، وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، والحمد لله الذى قتل بطارقتكم، وسلب عزكم، وطرد من هذه البلاد ملوككم، وأورثنا أرضكم ودياركم وأموالكم، وأذلكم بكفركم بالله وشرككم به وترككم ما دعوناكم إليه من الإيمان بالله وبرسوله، فأعقبكم الله لباس الخوف والجوع ونقصا فى الأموال والأنفس، وما الله بظلام للعبيد. فإذا بلغكم كتابى هذا، فأسلموا تسلموا، وإلا فأقبلوا إلىّ حتى أكتب لكم أمانا على دمائكم وأموالكم، وأعقد لكم عقدا على أن تؤدوا إلىّ الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإلا فو الله الذى لا إله إلا هو لأرمينكم بالخيل بعد الخيل وبالرجال بعد الرجال، ثم لا أقلع عنكم حتى أقتل المقاتلة وأسبى الذرية، وحتى تكونوا كأمة كانت فأصبحت كأنها لم تكن.

وأرسل بالكتاب إليهم مع فيج، نصرانى على دينهم، وقال له: عجل علىّ، فإنى إنما أنتظرك، فلما قدم عليهم قالوا له: ويحك، ما وراءك؟ قال: لا أدرى إلا أن هذا الرجل بعثنى إليكم بهذا الكتاب، وقد وجه عسكره نحوكم، وقال لى: ما يمنعنى من المسير إليهم إلا انتظار رجوعك، فقالوا: انتظرنا ساعة من النهار، فإنا ننتظر عينا لنا يقدم علينا من قبل أمير العرب الذى بدمشق، ومن قبل جند الملك الذى أقبل إلينا، فننظر ما يأتينا به، فإن ظننا أن لنا بالعرب قوة لم نصالحهم، وإن خشينا ألا نقوى عليهم صنعنا ما صنع أهل الأردن وغيرهم، فما نحن إلا كغيرنا من أهل الشام، فأقام العلج حتى أمسى، ثم إن رسول أهل إيلياء الذى بعثوه عينا لهم أتاهم فأخبرهم أن باهان قد أقبل من عند ملك الروم فى ثلاثة عساكر، فى كل عسكر منها أكثر من مائة ألف مقاتل، وأن العرب لما بلغهم ما سار إليهم من تلك الجموع علموا أنه لا قبل لهم بما جاءهم، فانصرفوا راجعين، وقد كان أوائل العرب دخلوا أرض قنسرين «1» فأخرجوهم منها، ثم أتوا أرض دمشق فأخرجوهم منها، ثم أقبلت العرب الآن نحو الأردن، نحو صاحبهم هذا الذى كتب إليكم، والروم يسوقونهم سوقا عنيفا، فتباشروا بذلك وسروا به، ودعوا العلج الذى بعث به إليهم عمرو بن العاص، وقالوا: اذهب بكتابنا هذا إلى صاحبك، وكتبوا معه: أما بعد، فإنك كتبت إلينا تزكى نفسك وتعيبنا، وقول الباطل لا ينفع قائله نفسه ولا يضر عدوه، وقد فهمنا ما دعوتنا إليه، وهؤلاء ملوكنا وأهل ديننا قد جاؤكم، فإن أظهرهم الله عليكم فذلك بلاؤه عندنا فى القديم، وإن ابتلانا بظهوركم، فلعمرى لنقرن، لكم بالصغار، وما نحن إلا كمن ظهرتم عليه من إخواننا، ثم دانوا لكم وأعطوكم ما سألتم. فقدم الرسول بهذا الكتاب على عمرو، فقال له: ما حبسك؟ فأخبره الخبر، فلم يكن إلا يومه ذلك حتى قدم خالد بن الوليد فى مقدمة أبى عبيدة، فجاء حتى نزل اليرموك، وأقبل عمرو حتى نزل معه. وقعة اليرموك «2» على نحو ما حكاه أصحاب كتب فتوح الشام قالوا «3» : ولما اجتمع جمع المسلمين باليرموك استشار أبو عبيدة أهل الرأى من

_ (1) قنسرين: مدينة بالشام، وهى الجابية، بينها وبين حلب اثنا عشر ميلا. انظر: الروض المعطار (473) . (2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 118- 123) ، تاريخ الطبرى (3/ 396) . (3) انظر: تاريخ فتوح الشام (169- 171) .

المسلمين: أين ترون أن نعسكر حتى يقدم مددنا؟ فقال يزيد بن أبى سفيان: أرى أن نسير بمن معنا إلى أيلة، فنقيم بها حتى يقدم علينا المدد. فقال عمرو: ما أيلة إلا كبعض الشام، ولكن سر بنا حتى ننزل الحجر فننتظر المدد، فقال قيس بن هبيرة: لا ردنا الله إذا إليها إن خرجنا لهم عن الشام أكثر مما خرجنا لهم عنه، أتدعون هذه العيون المتفجرة، والأنهار المطردة، والزروع والأعناب، والذهب والفضة والحرير، وترجعون إلى أكل الضباء وليس العباء والبؤس والشقاء وأنتم تعلمون أن من قتل منكم صار إلى الجنة وأصاب نعيما لا يشاكله نعيم، فأين تدعون الجنة وتهربون منها؟ وتزهدون فيها وتأتون الحجر. لا صحب الله من سار إلى الحجر ولا حفظه. فقال له خالد بن الوليد: جزاك الله خيرا يا قيس، فإن رأيك موافق لرأيى. وفى حديث عن أبى معشر: أن الروم حين جاشت على المسلمين ودنوا منهم دعا أبو عبيدة رؤس المسلمين واستشارهم، فذكر من مشورة يزيد بن أبى سفيان عليه، وعمرو ابن العاص نحوا مما تقدم. قال: وخالد بن الوليد ساكت يسمع ما يقولون، وكان يرحمه الله إذا كانت شدة فإليه وإلى رأيه يفزعون، إذ كان لا يهوله من أمر الروم شىء، ولا يزداد بما يبلغه عنهم إلا جرأة عليهم، فقال له أبو عبيدة: ماذا ترى يا خالد؟ فقال: أرى والله أنا إن كنا إنما نقاتل بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى علينا، وإن كنا إنما نقاتلهم بالله ولله فما أرى أن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعا تغنى عنهم شيئا، ثم غضب، فقال لأبى عبيدة: أتطيعنى أنت فيما آمرك به؟ قال: نعم. قال: فولنى ما وراء بابك، وخلنى والقوم، فإنى والله لأرجو أن ينصرنا الله عليهم، قال: قد فعلت، فولاه ذلك، فكان خالد من أعظم الناس بلاء، وأحسنه غناء وأعظمه بركة، وأيمنه نقيبة، وكانوا أهون عليه من الكلاب. وعن مالك بن قسامة بن زهير، عن رجل من الروم يدعى جرجة، كان قد أسلم فحسن إسلامه، قال: كنت فى ذلك الجيش الذى بعث قيصر من أنطاكية مع باهان، فأقبلنا ونحن لا يحصى عددنا إلا الله، ولا نرى أن لنا غالبا من الناس، فأخرجنا أوائل العرب من أرض قنسرين ثم أقبلنا فى آثارهم حتى أخرجناهم من حمص، ثم أقبلنا فى آثارهم حتى أخرجناهم من دمشق. قال: ولحق بنا كل من كان على ديننا من النصارى، حتى إن كان الراهب لينزل عن صومعته وقد كان فيها دهرا طويلا من دهره، فيتركها وينزل إلينا ليقاتل معنا غضبا لدينه ومحاماة عليه، وكان من كان من العرب بالشام ممن

كان على طاعة قيصر ثلاثة أصناف، فأما صنف فكانوا على دين العرب، وكانوا معهم، وأما صنف فكانوا نصارى، وكانت لهم فى النصرانية نية، فكانوا معنا، وأما صنف فكانوا نصارى ليس لهم فى النصرانية تلك النية، فقالوا: نكره أن نقاتل أهل ديننا ونكره أن ننصر العجم على قومنا، وأقبلت الروم تتبع أهل الإسلام وقد كانوا هائبين لهم مرعوبين منهم، ولكنهم لما رأوهم قد خلوا لهم البلاد وتركوا لهم ما كانوا افتتحوا جرأهم ذلك عليهم مع عددهم الذى لم يجتمع قط لأحد من قبلهم. وعن عبد الله بن قرط قال: لما أقبلت الروم من عند ملكهم أخذوا لا يمرون بأرض قد كنا افتتحناها ثم أجلينا لهم عنها إلا أوقعوا بهم ولاموهم وشتموهم وخوفوهم، فيقولون لهم: أنتم أولى باللائمة منا، أنتم وهنتم وعجزتم وتركتمونا وذهبتم، وأتانا قوم لم تكن لنا بهم طاقة، فكانوا يعرفون صدقهم فيكفون عنهم، وأقبلوا يتبعون آثار المسلمين حتى نزلوا بمكان من اليرموك يدعى دير الجبل مما يلى المسلمين، والمسلمون قد جعلوا نساءهم وأولادهم على جبل خلف ظهورهم، فمر قيس بن هبيرة بنسوة من نساء المسلمين مجتمعات، فلما رأينه قامت إليه أميمة بنت أبى بشر بن زيد بن الأطول الأزدية، وكانت تحت عبد الله بن قرط، وكان أشبه خلق الله به فى الحرب، فرسه يشبه فرسه، وباده يشبه باده، وكل شىء منه كذلك، فظنت أنه زوجها، فقالت له: اسمع بنفسى أنت، فعلم قيس أنها شبهته بزوجها، فقال: أظنك شبهتنى بزوجك. فقالت: واسوأتاه وانصرفت، فأقبل قيس عليها، وعلى من كان معها من النساء، فقال لهن: قبح الله امرأة منكن تضطجع لزوجها وهذا عدوه قد نزل بساحته إن لم يقاتل عنها، وإذا أراد ذلك منها فلتتمنع عليه ولتحث فى وجهه التراب، ثم لتقل له: أخرج قاتل عنى، فلست لك بامرأة حتى تمنعنى، فلعمرى ما تقرب النساء على مثل هذه الحال إلا أهل الفسولة والنذالة، ثم مضى. فقالت المرأة: واسوأتاه منه، وإنما ظننت أنه ابن قرط، فإنه لم يتعش البارحة إلا عشاء خفيفا، آثر بعشائه رجلين من إخوانه تعشيا عنده، فكنت هيأت له غداءه، فأردت أن ينزل فيتغذى «1» . قال ابن قرط: ولما نزل الروم منزلهم الذى نزلوا فيه، دسسنا إليهم رجالا من أهل البلد كانوا نصارى قد أسلموا، فأمرناهم أن يدخلوا عسكرهم فيكتموا إسلامهم ويأتونا بأخبارهم، فكانوا يفعلون ذلك، قال: فلبثوا أياما مقابلينا ثلاثا أو أربعا لا يسألوننا عن شىء ولا نسألهم، ولا يتعرضون لنا ولا نتعرض لهم، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا جلبة

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (172- 174) .

شديدة وأصواتا عالية، فظننا أن القوم يريدون النهوض إلينا، فتهيأنا وتيسرنا، ثم دسسنا إليهم عيونا ليأتونا بالخبر، فما لبثنا إلا قليلا حتى رجعوا إلينا فأخبرونا أن بريدا جاءهم من قبل ملك الروم فبشرهم بمال يقسم بينهم وبمدد يأتيهم، ففرحوا بذلك ورفعوا له أصواتهم، واجتمعوا إلى باهان النائب فيهم عن ملكهم، فقام فيهم فقال: إن الله لم يزل لدينكم هذا معزا وناصرا، وقد جاءكم قوم يريدون أن يفسدوا عليكم دينكم ويغلبوكم على دنياكم، وأنتم عدد الحصى والثرى والذر، والله إن فى هذا الوادى منكم لنحوا من أربعمائة ألف مقاتل سوى أتباعكم وأعوانكم، ومن اجتمع إليكم من سكان بلادكم وممن هو معكم على دينكم، فلا يهولنكم أمر هؤلاء القوم، فإن عددهم قليل، وهم أهل الشقاء والبؤس وجلهم حاسر جائع، وأنتم الملوك، وأهل الحصون والقلاع والعدة والقوة، فلا تبرحوا العرصة حتى تهلكوهم أو تهلكوا أنتم. فقام إليه بطارقتهم فقالوا له: مرنا بأمرك، ثم انظر ما نصنع. قال: فتيسروا حتى آمركم «1» . وعن أبى بشر، رجل من تنوخ كان مع باهان، قال: كنت نصرانيا، فنصرت النصارى على العرب، فأقبلت مع الروم، فإذا من نمر به من أهل البلد أحسن شىء ثناء على العرب فى سيرتهم وفى كل شىء من أمرهم، وأقبلت الروم فجعلوا يفسدون فى الأرض ويسيئون السيرة، ويعصون الأمراء، حتى ضج منهم الناس، وشكاهم أهل القرى، فلا تزال جماعة تجىء معها بالجارية قد افتضت، وجماعة يشكون أن أغنامهم ذبحت، وآخرون أنهم خربوا وسلبوا، فلما رأى ذلك باهان، قام فيهم خطيبا فقال: يا معشر أهل هذا الدين، إن حجة الله عليكم عظيمة، إذ بعث إليكم رسولا، وأنزل عليه كتابا، وكان رسولكم لا يريد الدنيا، ويزهدكم فيها، وأمركم أن لا تظلموا أحدا، فإن الله لا يحب الظالمين، وأنتم الآن تظلمون، فما عذركم غدا عند خالقكم وقد تركتم أمره وأمر نبيكم وما أتاكم به من كتاب ربكم؟ وهذا عدوكم قد نزل بكم، يقتل مقاتليكم، ويسبى ذراريكم، وأنتم تعملون بالمعاصى، ولا ترعون منها خشية العقاب، فإن نزع الله سلطانكم من أيديكم وأظهر عليكم عدوكم فمن الظالم إلا أنتم، فاتقوا الله وانزعوا عن ظلم الناس «2» . فقام إليه رجل من أهل البلد من أهل الذمة يشكو مظلمة، فتكلم بلسانهم، وأنا أفقه كلامهم، فقال: أيها الملك، عشت الدهر ووقيناك بأنفسنا مكروه الأحداث، إنى امرؤ

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (174- 175) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام (175- 177) .

من أهل البلد من أهل الذمة وكانت لى غنم أظنها مائة شاة تنقص قليلا، وكان فيها ابن لى يرعاها، فمر به عظيم من عظماء أصحابك، فضرب بناءه إلى جنبها وأخذ حاجته منها، وانتهب بقيتها أصحابه، فجاءته امرأتى تشكو إليه انتهاب أصحابه غنمى، وتقول له: أما ما أخذت أنت لنفسك فهو لك، ولكن ابعث إلى أصحابك يردوا علينا غنمنا، فلما رآها أمر بها فأدخلت بناءه، وطال مكثها عنده، فلما رأى ذلك ابنها دنا من باب البناء فاطلع فيه، فإذا هو بصاحبكم ينكح أمه وهى تبكى، فصاح الغلام، فأمر به فقتل، فأخبرونى ذلك، فأقبلت إلى ابنى، فأمر بعض أصحابه فشد علىّ بالسيف ليضربنى، فاتقيته بيدى فقطعها. فقال له باهان: فهل تعرفه؟ قال: نعم، قال: وأين هو؟ قال: هو ذا، لعظيم حاضر عنده من عظمائهم، قال: فغضب ذلك العظيم، وغضب له ناس من أصحابه، وكان فيهم ذا شارة وشرف، فأقبل ناس من أصحابه أكثر من مائة، فشدوا على المستعدى فضربوه بأسيافهم حتى مات، ثم رجعوا، وباهان ينظر إلى ما صنعوا، فقال بلسانه: العجب كل العجب، كيف لا تنهد الجبال، وتنفجر البحار، وتتزلزل الأرض، وترعد السماء لهذه الخطيئة التى عملتموها وأنا أنظر، ولأعمالكم العظام التى تعملونها وأنا أرى وأسمع، إن كنتم تؤمنون أن لهؤلاء المستضعفين المظلومين إلها ينصف المظلوم من الظالم فأيقنوا بالقصاص، ومن الآن يعجل لكم الهلاك، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك، فأنتم والله عندى شر من الكلاب، والحمر، ولعمرى إنكم لتعملون أعمال قوم لا يؤمنون، ولقد سخط الله أعمالكم، وليكلنكم إلى أنفسكم، فأما أنا فأشهد الله أنى برىء من أعمالكم، وسترون عاقبة الظلم إلى ما تؤديكم، وإلى أى مصير تصيركم. ثم نزل. قال التنوخى «1» : وكنا نزلنا بالمسلمين ونحن لهم هائبون، وقد كان بلغنا أن نبيهم صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنكم ستظهرون على الروم، وقد كانوا واقعوا غير مرة، كل ذلك يكون لهم الظفر علينا، غير أنا إذا نظرنا إلى عددنا وجموعنا طابت أنفسنا وظننا أن مثل جمعنا لا يفل، فأقام باهان أياما يراسل من حوله من الروم ويأمرهم أن يحملوا إلى أصحابه الأسواق، فكانوا يفعلون، ولم يكن ذلك يضر المسلمين، لأن الأردن فى أيديهم، فهم مخصبون بخير، فلما رأى باهان أن ذلك لا يضرهم، وأنهم مكتفون بالأردن بعث خيلا عظيمة لتأتيهم من وراءهم وعليها بطريق من بطارقتهم، يريد أن يكبتهم بجنوده من كل جانب، فعلم المسلمون ما يريد، فدعا أبو عبيدة خالد بن الوليد، فبعثه فى ألفى فارس

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (178- 179) .

وألفى راجل، فخرج حتى اعترض العلج، فلما استقبله نزل خالد فى الرجالة، وبعث قيس بن هبيرة فى الخيل، فحمل عليهم قيس، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى هزمهم الله، ومشى خالد فى الرجالة حتى إذا دنا شد برايته، وشد معه المسلمون، فضاربوهم بالسيوف حتى تبددوا، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. وقال قيس لرجل من بنى نمير، وقد مر به البطريق يركض: يا أخا بنى نمير، لا يفوتنك البطريق، فإنى والله لقد كددت فرسى على هذا العدو اليوم حتى ما عنده جرى، فحمل عليه النميرى فركض فى أثره ساعة ثم أدركه فلما رآه البطريق قد غشيه وأحرجه عطف عليه، فاضطربا بسيفيهما، فلم يصنع السيفان شيئا، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض، فاعتركا ساعة، ثم صرعه النميرى، فوقع على صدر البطريق، فى ساقيه، فضمه البطريق إليه، وكان مثل الأسد، فلم يستطع النميرى يتحرك، وجاء قيس حتى وقف عليهما، فقال: يا أخا بنى نمير، قتلت الرجل إن شاء الله، قال: لا والله، ما أستطيع أن أتحرك ولا أضربه بشىء، ولقد ضمنى بفخذيه، وأمسك يدى بيديه، فنزل إليه قيس فضربه، فقطع إحدى يديه، ثم تركه وانطلق، وقال للنميرى: شأنك به، وقام النميرى فضربه بسيفه حتى قتله، ومر به خالد بن الوليد، فقال: من قتل هذا؟ فقال له قيس: هذا النميرى قتله، ولم يخبره هو بما صنع. وفى حديث عبد الله بن قرط: أن معاذ بن جبل ورجالا معه من المسلمين قالوا لأبى عبيدة حين سار من دمشق إلى اليرموك: ألا تكتب إلى أمير المؤمنين تعلمه علم هذه الجيوش التى جاءتنا وتسأله المدد؟ قال: بلى، فكتب إليه: أما بعد، فإن الروم نفرت إلينا برا وبحرا، ولم يخلفوا وراءهم أحدا يطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا، وخرجوا معهم بالقسيسين والأساقفة ونزلت إليهم الرهبان من الصوامع فاستجاشوا أهل أرمينية والجزيرة وجاؤنا وهم نحو من أربعمائة ألف رجل، وإنه لما بلغنى ذلك من أمرهم كرهت أن أغر المسلمين من أنفسهم، فكشفت لهم عن الخبر، وصرحت لهم عن الأمر، وسألتهم عن الرأى، فرأى المسلمون أن يتنحوا إلى جانب من أرض الشام، ثم نضم إلينا قواصينا وننتظر المدد، فالعجل العجل علينا يا أمير المؤمنين بالمدد بعد المدد، والرجال بعد الرجال، وإلا فاحتسب نفوس المسلمين إن هم أقاموا، أو دينهم إن هم هربوا، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به، إلا أن يمدهم الله بملائكة أو يأتيهم بغياث من عنده، والسلام عليك «1» .

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (180) .

قال عبد الله بن قرط «1» : وبعثنى بكتابه، فلما قدمت على عمر دعا المهاجرين والأنصار فقرأ عليهم كتاب أبى عبيدة، فبكى المسلمون بكاء شديدا، ورفعوا أيديهم ورغبتهم إلى الله عز وجل، أن ينصرهم، وأن يعافيهم ويدفع عنهم، واشتدت شفقتهم عليهم، وقالوا: يا أمير المؤمنين، ابعثنا إلى إخواننا، وأمر علينا أميرا ترضاه لنا، أو سر أنت بنا إليهم، فو الله إن أصيبوا فما فى العيش خير بعدهم، قال: ولم أر منهم أحدا كان أظهر جزعا ولا أكثر شفقا من عبد الرحمن بن عوف، ولا أكثر قولا لعمر: سر بنا يا أمير المؤمنين، فإنك لو قدمت الشام شد الله قلوب المسلمين، ورعب قلوب الكافرين. قال: واجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقيم عمر ويبعث المدد، ويكون ردآ للمسلمين. قال: فقال لى عمر رحمه الله: كم كان بين الروم وبين المسلمين يوم خرج؟ فقلت: نحو من ثلاث ليال. فقال عمر: هيهات متى يأتى هؤلاء غياثنا. ثم كتب معى إلى أبى عبيدة: أما بعد، فقد قدم علينا أخو ثمالة بكتابك، تخبر فيه بنفير الروم إلى المسلمين برا وبحرا، وبما جاشوا به عليكم من أساقفتهم ورهبانهم، وأن ربنا المحمود ذا الصنع العظيم والمن الدائم قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حين بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق فنصره بالرعب وأعزه بالنصر، وقال وهو لا يخلف الميعاد: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 9] ، فلا يهولنك كثرة من جاءك منهم فإن الله منهم برىء، ومن برئ الله منه كان قمنا أن لا تنفعه كثرته، وأن يكله الله إلى نفسه ويخذله، ولا يوحشنك قلة المسلمين فى المشركين، فإن الله معك، وليس قليلا من كان الله معه، فأقم بمكانك الذى أنت فيه حتى تلقى عدوك وتناجزهم إن شاء الله، وستظهر بالله عليهم، وكفى بالله ظهيرا ووليا وناصرا. وقد فهمت مقالتك: احتسب أنفس المسلمين إن أقاموا، أو دينهم إن هم هربوا، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من قبله. وايم الله، لولا استثناؤك هذا لقد كنت أسأت لعمرى، لئن أقام المسلمون وصبروا فأصيبوا، لما عند الله خير للأبرار، ولقد قال الله تعالى فيهم: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] ، فطوبى للشهداء ولمن عقل عن الله ممن معك من المسلمين أسوة بالمصرعين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مواطنه، فما عجز الذين قاتلوا فى سبيل الله ولا هابوا لقاء الموت فى جنب الله ولا وهن الذين بقوا من بعدهم ولا

_ (1) انظر: تاريخ فتوح دمشق (181- 184) .

استكانوا لمصيبتهم، ولكن تأسوا بهم وجاهدوا فى سبيل الله من خالفهم وفارق دينهم، ولقد أثنى الله على قوم بصبرهم، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 146] ، فأما ثواب الدنيا فالفتح والغنيمة، وأما ثواب الآخرة، فالمغفرة والجنة. واقرأ كتابى هذا على الناس، ومرهم فليقاتلوا فى سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. وأما قولك: إنه قد جاءهم ما لا قبل لهم به، فإلا يكن لهم به قبل، فإن لله تعالى بهم قبلا، ولم يزل ربنا عليهم مقتدرا، ولو كنا إنما نقاتل عدونا بحولنا وقوتنا وكثرتنا لهيهات ما قد بدنا وهلكنا، ولكنا نتوكل على الله ربنا، ونفوض إليه أمرنا، ونبرأ إليه من الحول والقوة، ونسأله النصر والرحمة، وإنكم منصورون إن شاء الله على كل حال، فأخلصوا لله نياتكم، وارفعوا إليه رغبتكم، واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، والسلام. قال عبد الله بن قرط: فدفع إلىّ عمر الكتاب وأمرنى أن أعجل السير، وقال لى: إذا قدمت على المسلمين فسر فى صفهم، وقف على كل صاحب راية منهم، وأخبرهم أنك رسولى إليهم، وقل لهم: إن عمر يقرئكم السلام ويقول: يا أهل الإسلام، اصدقوا وشدوا على أعدائكم شد الليوث، وأعضوا هامهم السيوف، وليكونوا أهون عليكم من الذر، لا تهلكم كثرتهم ولا تستوحشوا لمن لم يلحق بكم منكم. قال: فركبت راحلتى وأقبلت مسرعا، أتخوف ألا آتى الناس حتى تكون الوقعة، فانتهيت إلى أبى عبيدة يوم قدم عليه سعيد بن عامر بن حذيم الجمحى فى ألف رجل مددا من قبل عمر رضى الله عنه، فسر بمقدمه المسلمون، وشجعهم ذلك على عدوهم، ودفعت إلى أبى عبيدة كتاب عمر، فقرأه على الناس، فاشتد سرورهم برأيه لهم، وبما أمرهم به من الصبر، وما رجا لهم فى ذلك من الأجر. وكان أبو عبيدة بعث سفيان بن عوف من حمص إلى عمر يستمده حين بلغه أن الروم قد جاشوا واختلفوا فى الاجتماع للمسلمين، فعند ذلك بعث عمر رحمه الله، سعيد بن

عامر بالمدد، وقد كان أبو بكر رضى الله عنه، وجه سعيدا هذا إلى الشام فى جيش، فكان مع أبى عبيدة حتى شهد معه وقعة فحل، ثم أرسله أبو عبيدة إلى عمر بالفتح، فقدم به عليه، ثم حج بعد ورجع إلى المدينة، فلم يزل مقيما بها حتى بعثه عمر بهذا المدد. قال حسان بن عطية «1» : لما عقد له عمر على من وجهه معه، قال له: يا سعيد، إنى قد وليتك على هذا الجيش، ولست بخير رجل منهم إلا أن تكون أتقى لله منه، فلا تشتم أعراضهم، ولا تضرب أبشارهم، ولا تحقر ضعيفهم، ولا تؤثر قويهم، وكن للحق تابعا، ولا تتبع هواك سادرا، فإنه إن بلغنى عنك ما أحب لم يعدمك منى ما تحب! فقال له سعيد: يا أمير المؤمنين، إنك قد أوصيتنى، فاستمعت منك، فاستمع منى أوصك. قال: هات، فقد آتاك الله علما يا سعيد، قال: يا أمير المؤمنين، خف الله فى الناس، ولا تخف الناس فى الله، واحبب لقريب الناس وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، والزم الأمر ذا الحجة يكفك الله ما أهمك ويعنك على ما أمرك وما ولك، ولا تقضين فى أمر واحد بقضائين فيختلف قولك وفعلك، ويلتبس الحق بالباطل، ويشتبه عليك الأمر، فتزيغ عن الحق، وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته، ولا يأخذك فى الله لومة لائم. قال: فأكب عمر طويلا وفى يده عصا له وهو واضع جبهته عليها، ثم رفع رأسه ودموعه تسيل، فقال: لله أبوك يا سعيد، ومن يستطيع هذا الذى تذكر؟ قال: من طوق ما طوقت، وحمل ما حملت من هذا الأمر، وإنما عليك أن تأمر فتطاع، أو تعصى فتبوء بالحجة، ويبوء بالمعصية. وعن الحارث بن عبد الله الأزدى، قال «2» : لما نزل أبو عبيدة اليرموك وضم إليه قواصيه وجاءتنا جموع الروم يجرون الشوك والشجر، ومعهم القسيسون والرهبان والأساقفة، يقصون عليهم ويحرضونهم، خافهم المسلمون، فما كان شىء أحب إليهم من أن يخرجوا لهم ويتنحوا عن بلادهم حتى يأتيهم مدد، يرون أنهم يقوون به على من جاءهم من الروم، فاستشار أبو عبيدة الناس، فكلهم أشار عليه بالخروج من الشام، إلا خالد بن الوليد، فإنه أشار عليه بالمقام، وقال له: خلنى والناس ودعنى والأمر وولنى ما وراء بابك فأنا أكفيك بإذن الله أمر هذا العدو، فقال له أبو عبيدة: شأنك بالناس،

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (186- 187) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام (187- 199) .

فخلاه وإياهم، قال: وكان قيس بن هبيرة على مثل رأى خالد، ولم يكن فى المسلمين أحد يعدلهما فى الحرب وشدة البأس. قال: فخرج خالد فى الناس وهم أحسن شىء دعة ورعة وهيئة، وأشدهم فى لقاء عدوهم بصيرة، وأطيبهم أنفسا، فصفهم خالد ثلاثة صفوف، وجعل ميمنة وميسرة، ثم أتى أبا عبيدة. قال: من كنت تجعل على ميمنتك؟ قال: معاذ بن جبل، قال: أهل ذلك هو الرضى الثقة، فولها إياه، فأمر أبو عبيدة معاذا فوقف فى الميمنة، ثم قال: من كنت تول الميسرة؟ قال: غير واحد، قال: فولها إن رأيت قباث بن أشيم، فأمره أبو عبيدة فوقف فى الميسرة، وكان فيها كنانة وقيس، وكان قباث كنانيا، وكان شجاعا بئسا. قال خالد: وأنا على الخيل، وول على الرجالة من شئت، قال: أوليها إن شاء الله من لا يخاف نكوله ولا صدوده عند البأس، أوليها هاشم بن عتبة ابن أبى وقاص، قال: أصبت ووفقت ورشدت. قال أبو عبيدة: انزل يا هاشم، فأنت على الرجالة وأنا معك، وقال خالد لأبى عبيدة: أرسل إلى أهل كل راية فمرهم أن يطيعونى، فدعا أبو عبيدة الضحاك بن قيس، فأمره بذلك، فخرج الضحاك يسير فى الناس ويقول لهم: إن أميركم أبا عبيدة يأمركم بطاعة خالد بن الوليد فيما أمركم به. فقال الناس: سمعنا وأطعنا، وقال ذلك أيضا معاذ بن جبل لما أنهى إليه الضحاك أمر أبى عبيدة، ثم نظر معاذ إلى الناس فقال: أما إنكم إن أطعتموه لتطيعن مبارك الأمر ميمون النقيبة عظيم الغناء حسن الحسبة والنية، قال الضحاك: فحدثت خالدا بذلك، فقال: رحم الله أخى معاذا، أما والله إن أحبنى إنى لأحبه فى الله، لقد سبقت له ولأصحابه بسوابق لا ندركها فهنيئا ما خصهم الله به من ذلك. قال الضحاك: فأخبرت معاذا بما رد علىّ خالد، فقال: إنى لأرجو أن يكون الله قد أعطاه بصيرة على جهاد المشركين، وشدة عليهم مع بصيرته وحسن نيته فى إعزاز دينه أحسن الثواب، وأن يكون من أفضلنا بذلك عملا، فقال خالد، وقد لقيته بذلك: ما شىء على الله بعزيز. قال: ثم إن خالدا سار فى الصفوف، يقف على أهل كل راية، ويقول: يا أهل الإسلام، إن الصبر عز وإن الفشل عجز، وإن مع الصبر تنصرون، والصابرون هم الأعلون، وما زال يقف على أهل كل راية يعظهم ويحضهم، ويرغبهم حتى مر بجماعة الناس، ثم إنه جمع إليه خيل المسلمين، ودعا قيس بن هبيرة، وكان يساعده ويوافقه ويشبهه فى جلده وشدته وشجاعته وإقدامه على المشركين، فقال له خالد: أنت فارس العرب، ولقل من حضر اليوم يعدلك عندى، فاخرج معى فى هذه الخيل، وبعث إلى ميسرة بن مسروق العبسى، وكان من أشراف العرب وفرسانهم، وإلى عمرو بن الطفيل

ذى النور بن عمرو الدوسى، فخرجوا معه، ثم قسموا الخيل أرباعا، فبعث كل رجل منهم على ربع، وخرج خالد فى ربع منها حتى دنوا من عسكر الروم الأعظم الذى فيه باهان، فلما رأتهم الروم فزعوا لمجيئهم، وقد كانوا أخبروا أن العرب تريد الانصراف عن أرض الشام ويخلونهم وإياها، فكان ذلك قد وقع فى نفوسهم وطمعوا به، ورجوا أن لا يكون بينهم قتال، وصدق ذلك عندهم خروجهم من بين أيديهم يسوقونهم، وهم يدعون لهم الأرض والمدائن التى كانوا قد غلبوا عليها، فلما رأوا خالدا قد أقبل إليهم فى الخيل فزعهم ذلك وخرجوا على راياتهم بصلبهم، والقسيسون والرهبان والبطارقة معهم، فصفوا عشرين صفا لا ترى أطرافها، ثم أخرجوا إلى المسلمين خيلا عظيمة تكون أضعاف المسلمين مضاعفة، فلما دنت خيلهم من خيل المسلمين خرج بطريق من بطارقتهم يسأل المبارزة، ويتعرض لخيل المسلمين، فقال خالد: أما لهذا رجل يخرج إليه، ليخرجن إليه بعضكم أو لأخرجن إليه، فنفلت إليه عدة من المسلمين ليخرجوا إليه، وأراد ميسرة بن مسروق ذلك، فقال له خالد: أنت شيخ كبير وهذا الرومى شاب ولا أحب أن تخرج إليه، فإنه لا يكاد الشيخ الكبير يقوى على الشاب الحديث السن، فقف لنا يرحمك الله فى كتيبتك، فإنك ما علمت حسن البلاء عظيم الغناء، وأراد عمرو بن الطفيل الخروج إليه، فقال له خالد: يا ابن أخى أنت غلام حدث، وأخاف أن لا تقوى عليه، قال الحارث بن عبد الله: وكنت فى خيل خالد التى خرجت معه، فقلت: أنا أخرج إليه، فقال: ما شئت، قال:، فلما ذهبت لأخرج قال لى: هل بارزت رجلا قط قبله؟ قلت: لا، قال: فلا تخرج إليه، فقال قيس بن هبيرة: كأنك يا خالد علىّ تحوم؟ قال: أجل، وإنى أرجو إن خرجت إليه أن تقتله، وإن أنت لم تخرج إليه لأخرجن إليه أنا، قال قيس: بل أنا أخرج إليه، فخرج وهو يقول: سائل نساء الحى فى حجلاتها ... ألست يوم الحرب من أبطالها ومقعص «1» الأقران من رجالها فخرج إليه، فلما دنا منه ضرب فرسه، ثم حمل عليه فما هلل أن ضربه بالسيف على هامته فقطع ما عليها من السلاح، وفلق هامته، فإذا الرومى بين يدى فرسه قتيلا، وكبر المسلمون فقال خالد: ما بعد ما ترون إلا الفتح، احمل عليهم يا قيس، ثم أقبل خالد على أصحابه فقال: احملوا عليهم، فو الله لا يفلحون وأولهم فارسا متغفرا فى التراب، قال: فحملنا عليهم وعلى من يلينا منهم ومن خيلهم، وهى مستقدمة أمام صفوفهم وصفوفهم

_ (1) مقعص: القعص هو القتل المعجل، وضربه فأقعصه: أماته مكانه. انظر: اللسان (3693) .

كأنها أعراض الجبال، فكشفنا خيلهم حتى لحقت بالصفوف، وحمل خالد وأصحابه على من يليه منهم، فكشفوهم حتى ألحقوهم بالصفوف، وحمل عمرو بن الطفيل وميسرة بن مسروق فى أصحابهما حتى ألحقوهم بالصفوف، ثم إن خالدا أمر خيله فانصرفت عنهم ثم أقبل بها حتى لحق بجماعة المسلمين وقد أراهم الله السرور فى المشركين. قال: وتلاومت بطارقة الروم، وقال بعضهم لبعض: جاءتكم خيل لعدوكم ليست بالكثيرة فكشفت خيولكم من كل جانب، فأقبلت منهم كتائب فى أثر كتائب، فطيفوا الأرض مثل الليل والسيل، كأنها الجراد السود، وظن المسلمون أنهم يخالطونهم، والمسلمون جراء عليهم سراع إليهم، فأقبلوا حتى إذا دنوا من جماعة المسلمين وقفوا ساعة وقد هابوا المسلمين وامتلأت صدورهم خوفا منهم، فقال خالد للناس: قد رجعنا عنهم ولنا الظفر عليهم، فاثبتوا لهم ساعة، فإن أقدموا علينا قاتلناهم، وإن رجعوا عنا كان لنا الظفر والفضل عليهم، فأخذوا يقتربون ثم يرجعون، والمسلمون فى مصافهم وتحت راياتهم سكوت لا يتكلم رجل منهم كلمة إلا أن يدعو الله فى نفسه ويستنصره على عدوه، فلما نظرت الروم إلى خيل المسلمين ورجالتهم ومصافهم وحدهم وجدهم وصبرهم وسكونهم ألقى الله عز وجل، الرعب فى قلوبهم منهم، فواقفوهم ساعة ثم انصرفوا راجعين عنهم إلى عسكرهم، فاجتمعت بطارقتهم وعظماؤهم إلى باهان وهو أصبر جماعتهم. فقال لهم باهان: إنى قد رأيت رأيا وأنا ذاكره لكم، إن هؤلاء القوم قد نزلوا بلادكم وركبوا من مراكبكم وطعموا من طعامكم ولبسوا من ثيابكم، فعدل الموت عندهم أن يفارقوا ما تطعموه من عيشكم الرفيع ودنياكم التى لم يروا مثلها قط، وقد رأيت أن أسألهم إن رأيتم ذلك أن يبعثوا إلينا رجلا منهم له عقل فنناطقه ونشافهه ونطمعهم فى شىء يرجعون به إلى أهاليهم، لعل ذلك يسخى بأنفسهم عن بلادنا، فإن هم فعلوا ذلك كان الذى يريدون منا قليلا فيما نخاف وندفع به خطر الوقعة التى لا ندرى أعلينا تكون أم لنا، فقالوا له: قد أصبت وأحسنت النظر لجماعتنا، فاعمل برأيك. فبعث رجلا من خيارهم وعظمائهم يقال له جرجة إلى أبى عبيدة، فقال له: إنى رسول باهان عامل ملك الروم على الشام، وعلى هذه الجنود، وهو يقول لك: أرسل إلىّ الرجل الذى كان قبلك أميرا فإنه ذكر لى أنه رجل ذو عقل وله فيكم حسب، وقد سمعنا أن عقول ذوى الأحساب أفضل من عقول غيرهم، فنخبره بما نريد ونسأله عما تريدون، فإن وقع فيما بيننا وبينكم أمر لنا ولكم فيه صلاح أو رضى أخذنا به وحمدنا الله عليه، وإن لم يتفق ذلك كان القتال من ورائنا هنالك.

فدعا أبو عبيدة خالدا فأخبره بالذى جاء فيه الرومى، وقال لخالد: القهم فادعهم إلى الإسلام، فإن قبلوا فهو حظهم، وكانوا قوما لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإن أبوا فاعرض عليهم الجزية، أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا فأعلمهم أنا نناجزهم ونستعين الله عليهم، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. قال: وجاء رسولهم هذا الرومى، عند غروب الشمس فلم يمكث إلا يسيرا حتى حضرت الصلاة فقام المسلمون يصلون صلاتهم، فلما قضوها قال ذلك الرومى: هذا الليل قد غشينا، ولكن إذا أصبحت غدوت إلى صاحبنا إن شاء الله، وجعل ينظر إلى رجال من المسلمين يصلون وهم يدعون الله ويتضرعون إليه، وجعل ما يفيق وما يصرف بصره عنهم، فقال عمرو: إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون، فقال أبو عبيدة: كلا والله، إنى لأرجو أن يكون الله قد قذف فى قلبه الإيمان وحببه إليه، وعرفه فضله، أو ما تنظر إلى نظره إلى المصلين؟ ولبث الرومى بذلك قليلا ثم أقبل على أبى عبيدة، فقال: أيها الرجل، أخبرنى متى دخلتم فى هذا الدين؟ ومتى دعوتم الناس إليه؟. فقال أبو عبيدة: دعينا إليه منذ بضع وعشرين سنة، فمنا من أسلم حين أتاه الرسول، ومنا من أسلم بعد ذلك، فقال: هل كان رسولكم أخبركم أنه يأتى من بعده رسول؟ قال: لا، ولكنه أخبرنا أنه لا نبىّ بعده، وأخبرنا أن عيسى ابن مريم قد بشر به قومه، قال الرومى: وأنا على ذلك من الشاهدين، إن عيسى ابن مريم قد بشرنا براكب الجمل، وما أظنه إلا صاحبكم. ثم قال: أخبرنى عن قول صاحبكم فى عيسى، فقال له أبو عبيدة: قول صاحبنا فيه قول الله تعالى فيه، وهو أصدق القائلين وأبرهم، قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ، وقال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ إلى قوله: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 171، 172] . فلما فسر له الترجمان ذلك وبلغ هذا المكان قال: أشهد أن هذه صفة عيسى، وأشهد أن نبيكم صادق، وأنه الذى بشر به عيسى، وأنكم قوم صدق، وقال لأبى عبيدة: ادع لى رجلين من أول أصحابك إسلاما، وهما فيما ترى أفضل من معك، فدعا أبو عبيدة، معاذ بن جبل وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فقال له: هذان من أفضل المسلمين فضلا، ومن أولهم إسلاما، فقال لهما الرومى ولأبى عبيدة: أتضمنون لى الجنة إن أنا

أسلمت وجاهدت معكم؟ فقالوا له: نعم، إن أنت أسلمت واستقمت ولم تغير حتى تموت وأنت على ذلك فإنك من أهل الجنة، قال: فإنى أشهدكم أنى من المسلمين، فأسلم وفرح المسلمون بإسلامه، وصافحوه ودعوا له بخير، وقالوا له: إنا إن أرسلنا رسولنا إلى صاحبكم وأنت عندنا ظنوا أنا حبسناك عنهم، فنتخوف أن يحبسوا صاحبنا، فإن شئت أن تأتيهم الليلة وتكتم إسلامك حتى نبعث إليهم رسولنا غدا وننظر علام ينصرم الأمر بيننا وبينهم، فإذا رجع رسولنا إلينا أتيتنا عند ذلك، فما أعزك علينا وأرغبنا فيك وأكرمك علينا، وما أنت الآن عند كل امرئ منا إلا بمنزلة أخيه لأبيه وأمه. قال: فإنكم نعم ما رأيتم، فخرج فبات فى أصحابه، وقال لباهان: غدا يجيئكم رسول القوم الذى سألتم، وانصرف إلى المسلمين لما رجع إليهم خالد، فأسلم وحسن إسلامه. ولما أصبح المسلمون من تلك الليلة بعث خالد بن الوليد بقية له حمراء من أدم كان اشتراها بثلاثمائة دينار، فضربت له فى عسكر الروم، ثم خرج حتى أتاها، فأقام فيها ساعة، وكان خالد رجلا طويلا جميلا جليدا مهيبا لا ينظر إليه رجل إلا ملأ صدره وعرف أنه من جلداء الرجال وشجعانهم، وأشدائهم، وبعث باهان إلى خالد وهو فى قبته: أن القنى، وصف له فى طريقه عشرة صفوف عن يمينه، وعشرة صفوف عن شماله، مقنعين فى الحديد، عليهم الدروع والبيض والسواعد والجواشن والسيوف، لا يرى منهم إلا الحدق، وصف من وراء تلك الصفوف خيلا عظيمة، وإنما أراد أن يريه عدد الروم وعدتهم ليرعبه بذلك، وليكون أسرع له إلى ما يريد أن يعرض عليه، فأقبل خالد غير مكترث لما رأى من هيئاتهم وجماعتهم، ولكانوا أهون عليه من الكلاب، فلما دنا من باهان رحب به، ثم قال بلسانه: هاهنا عندى، اجلس معى فإنك من ذوى أحساب العرب فيما ذكر لى، ومن شجعانهم، ونحن نحب الشجاع ذا الحسب، وقد ذكر لى أن لك عقلا ووفاء، والعاقل ينفعك كلامه، والوفى يصدق قوله ويوثق بعهده، وأجلس فيما بينه وبين خالد ترجمانا له يفسر لخالد ما يقول، وخالد جالس إلى جنبه. قال الحارث بن عبد الله الأزدى: قال لى خالد يوم غدا إلى عسكر الروم: اخرج معى، وكنت صديقا له قل ما أفارقه وكان يستشيرنى فى الأمر إذا نزل به، فكنت أشير عليه بمبلغ رأيى، فكان يقول لى: إنك ما علمت لميمون الرأى ولقل ما أشرت علىّ بمشورة إلا وجدت عاقبتها تؤدى إلى سلامة، فخرجت يومئذ معه، حتى إذا دخلنا عسكرهم وضربت قبته وبعث إليه باهان ليلقاه قال لى: انطلق معى، فقلت له: إن القوم إنما أرادوك ولا أراهم يدعوننى أدنو إليهم معك، فقال لى: امضه، فمضيت معه، فلما

دنونا من باهان وعلى رأسه ألوف رجال بعضهم خلف بعض وحوله، لا يرى منهم إلا أعينهم، وفى أيديهم العمد، جاءنا الترجمان فقال: أيكما خالد؟ فقال خالد: أنا، فقال: أقبل أنت وليرجع هذا، فقام خالد وقال: هذا رجل من أصحابى ولست استغنى عن رأيه، فرجع إلى باهان فأخبره، فقال: دعوه فليأت معه، فأقبلنا نحوه، فلم يمش إلا خطا خمسا أو ستا حتى جاء نحو من عشرة، فقالوا لى: ضع سيفك، ولم يقولوا لخالد شيئا، فنظرت ما يقول لى خالد، فقال لهم: ما كان ليضع عزه من عنقه أبدا، وقد بعثتم إلينا فأتيناكم، فإن تكرمونا جلسنا إليكم وسمعنا منكم، وإن أبيتم فخلوا سبيلنا فننصرف عنكم، فرجع الترجمان إلى باهان فأخبره، فقال: دعوهما، فأقبلنا إليه، فرحب بخالد وأجلسه معه، وجلست أنا على نمارق مطروحة للناس قريبا منهما، وحيث أسمع كلامهما، فقال باهان لخالد: إنك من ذوى أحساب العرب، فيما ذكر لى، ومن شجعانهم، وقد ذكر لى أن لك عقلا ووفاء، والعاقل ينفعك كلامه، والوفى يصدق قوله يوثق بعهده. فلما فسر له الترجمان ذلك قال خالد: إن نبينا صلى الله عليه وسلم قال لنا: إن حسب المرء دينه، ومن لم يكن له دين فلا حسب له، وقال لنا: إن أفضل الشجاعة وخيرها فى العاجلة والعاقبة ما كان منها فى طاعة الله، وأما ما ذكرت أنى أوتيت عقلا ووفاء، فإن أكن أوتيت ذلك فلله المن والفضل علينا، وهو المحمود عندنا، وقد قال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: إن الله لما خلق العقل وفرغ من خلقه، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: وعزتى ما خلقت من خلقى شيئا هو أحب إلىّ منك، بك أحمد، وبك أعبد، وبك أعرف، وبك تنال طاعتى، وبك تدخل جنتى، ثم قال خالد: والوفاء لا يكون إلا من العقل، فمن لم يكن له عقل فلا وفاء له، ومن لا وفاء له لا عقل له. فقال له باهان: أنت أعقل أهل الأرض، ما يتكلم بكلامك ولا يبصره ولا يفطن له إلا الفائق من الرجال، ثم قال لخالد: أخبرنى عنك، وأنت هكذا تحتاج إلى مشورة هذا الرجل؟ فقال له خالد: وأعجب من ذلك أن فى عسكرنا أكثر من ألف رجل كلهم لا يستغنى عن رأيه ولا عن مشورته، فقال باهان: ما كنا نظن ذلك عندكم، ولا نراكم به، فقال له خالد: ما كل ما تظنون ونظن يكون صوابا، فقال باهان: صدقت، ثم قال له: إن أول ما أكلمك به أنى أدعوك إلى خلتى ومصافاتى، فقال له خالد: كيف لى ولك أن يتم هذا فيما بينى وبينك وقد جمعتنى وإياك بلدة لا أريد أنا ولا تريد أنت أن نفترق حتى تصير البلدة لأحدنا، فقال له باهان: فلعل الله أن يصلح بيننا وبينك فلا يهراق دم ولا يقتل قتيل، قال خالد: إن شاء

الله فعل، قال باهان: فإنى أريد أن ألقى الحشمة فيما بينى وبينك وأكلمك كلام الأخ أخاه، إن قبتك هذه الحمراء قد أعجبتنى فأنا أحب أن تهبها لى، فإنى لم أر قبة من القباب أحسن منها، فخذ ما بدا لك فيها وسلنى ما أحببت فهو فى يدك، فقال له خالد: خذها فهى لك، ولست أريد من متاعك شيئا، قال: والله ما ظننته سألها إلا لينظر إليها، فإذا هو قد أخذها، ثم قال لخالد: إن شئت بدأتك فتكلمت، وإن شئت أنت فتكلم، فقال له خالد: ما أبالى أى ذلك كان، أما أنا فلا أخالك إلا وقد بلغك وعلمت ما أسأل وأطلب، وما أدعو إليه، وقد جاءك بذلك أصحابك ومن لقينا منهم بأجنادين ومرج الصفر وفحل ومدائنكم وحصونكم، وأما أنت فلست أدرى ما تريد أن تقول، فإن شئت فتكلم، وإن شئت بدأتك فتكلمت، فقال باهان: الحمد لله الذى جعل نبينا أفضل الأنبياء، وملكنا أفضل الملوك، وأمتنا أفضل الأمم، فلما بلغ هذا المكان، قال خالد وقطع على باهان منطقه: والحمد لله الذى جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم، وبجميع الأنبياء، وجعل الأمير الذى وليناه أمورنا رجلا كبعضنا، فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنا، ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلا إلا أن يكون أتقى منه عند الله، وأبر، والحمد لله الذى جعل أمتنا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقر بالذنب وتستغفر منه، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا، قل الآن ما بدا لك. فاصفر وجه باهان وسكت قليلا، ثم قال: الحمد لله الذى أبلانا فأحسن البلاء عندنا فأغنانا من الفقر، ونصرنا على الأمم، وأعزنا فلا نذل، ومنعنا من الضيم فلا تباح حرمتنا، ولسنا فيما أعزنا الله به وأعطانا من ديننا ببطرين ولا مرحين، ولا باغين على الناس، وقد كانت لنا منكم يا معشر العرب جيران كنا نحسن جوارهم، ونعظم رفدهم، ونفضل عليهم، ونفى لهم بالعهد، وخيرناهم بلادنا، ينزلون منها حيث شاؤا، فينزلون آمنين، ويرحلون آمنين، وكنا نرى أن جميع العرب ممن لا يجاورنا سيشكرون لنا ذلك الذى آتينا إلى إخوانهم، وما اصطنعنا عندهم فلم يرعنا منهم إلا وقد فاجأتمونا بالخيل والرجال، تقاتلوننا على حصوننا، وتريدون أن تغلبونا على بلادنا، وقد طلب هذا منا قبلكم من كان أكثر منكم عددا وأعظم مكيدة وأقوى جدا، فلم يرجعوا عنا إلا وهم بين أسير وقتيل، وأرادت ذلك منا فارس، فقد بلغكم كيف صنع الله بهم، وأراد ذلك منا الترك فلقيناهم بأشد مما لقينا به فارس، وأرادنا غيرهم من أهل المشرق والمغرب، من ذوى المنعة والعز والجنود العظيمة، فكلهم أظفرنا الله بهم، وصنع لنا عليهم، ولم تكن أمة من الأمم بأدق عندنا منكم شأنا ولا أصغر أخطارا، إنما جلكم رعاء الشاء والإبل

وأهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء، أفأنتم تطمعون أن نتخلى لكم عن بلادنا، بئس ما طمعتم فيه منا، وقد ظننا أنه لم يأت بكم إلى بلادنا ونحن ننفى كل من حولنا من الأمم العظيمة الشأن الكثيرة العدد إلا جهد نزل بكم من جدوبة الأرض وقحط المطر، فعثتم فى بلادنا وأفسدتم كل الفساد، وقد ركبتم مراكبنا، وليست كمراكبكم، ولبستم ثيابنا، وليست كثيابكم، وطعمتم من طعامنا وليس كطعامكم، وأصبتم منا وملأتم أيديكم من الذهب الأحمر والفضة البيضاء، والمتاع الفاخر، ولقد لقيناكم الآن وذلك كله لنا، وهو فى أيديكم، فنحن نسلمه لكم، فاخرجوا به وانصرفوا عن بلادنا، فإن أبت أنفسكم إلا أن تخرجوا وتشرهوا وأردتم أن نزيدكم من بيوت أموالنا ما نقوى به الضعيف منكم، ويرى الغائب أن قد رجع إلى أهله بخير فعلنا، ونأمر للأمير منكم بعشرة آلاف دينار ونأمر لك بمثلها، ونأمر لرؤسائكم بألف دينار ألف دينار، ونأمر لجميع أصحابك لكل واحد منهم بمائة دينار، على أن تحلفوا لنا بالأيمان المغلظة أن لا تعودا إلى بلادنا، ثم سكت. فقال خالد: الحمد لله الذى لا إله إلا هو، فلما فسر ذلك الترجمان، رفع باهان يديه إلى السماء، ثم أشار إليه بيده، وقال لخالد: نعم ما قلت، قال خالد: وأشهد أن محمدا رسول الله، فلما فسرها الترجمان قال باهان: الله أعلم، ما أدرى لعله كما تقول، ثم قال خالد: أما بعد، فإن كل ما ذكرت به قومك من الغنى والعز ومنع الحريم والظفر على الأعداء والتمكن فى البلاد نحن به عارفون، وكل ما ذكرت من إنعامكم على جيرانكم منا فقد عرفناه، وذلك لأمر كنتم تصلحون به دنياكم زيادة فى ملككم وعزا لكم ألا ترون أن ثلثيهم أو شطرهم قد دخلوا فى دينكم وهم يقاتلوننا معكم، وأما ما ذكرتنا به من رعى الإبل والغنم، فما أقل ما رأيت واحدا منا يكرهه، وما لمن يكرهه منا فضل على من يفعله، وأما قولك: إنا أهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء، فحالنا والله كما وصفته وما ننتفى من ذلك ولا نتبرأ منه، وكنا على أسوأ وأشد مما ذكرت، وسأقص عليك قصتنا وأعرض عليك أمرنا وأدعوك إلى حظك إن قبلت، ألا إنا كنا معشر العرب أمة من هذه الأمم، أنزلنا الله وله الحمد منزلا من الأرض ليست به أنهار جارية ولا يكون فيه من الزرع إلا القليل، وجل أرضنا المهامة والقفار، وكنا أهل الحجر ومدر وشاة وبعير وعيش شديد وبلاء دائم لازم، نقطع أرحامنا، ونقتل خشية الإملاق أولادنا، ويأكل قوينا ضعيفنا، وكثيرنا قليلنا، ولا تأمن قبيلة منا قبيلة إلا أربعة أشهر من السنة، نعبد من دون الله أوثانا وأصناما ننحتها بأيدينا من الحجارة التى نختارها على أعيننا،

وهى لا تضر ولا تنفع، ونحن عليها مكبون، فبينا نحن كذلك على شفا حفرة من النار، من مات منا مات مشركا وسار إلى النار، ومن بقى منا بقى مشركا كافرا بربه قاطعا لرحمه، إذ بعث الله فينا رسولا من صميمنا وخيارنا دعانا إلى الله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع الأنداد التى يعبدها المشركون. وقال لنا: لا تتخذوا من دون ربكم إلها، ولا وليا، ولا نصيرا، ولا تجعلوا معه صاحبة ولا ولدا، ولا تعبدوا من دونه نارا ولا حجرا ولا شمسا ولا قمرا، واكتفوا به ربا وإلها من كل شىء دونه، وكونوا أولياءه، وإليه فارغبوا، وإياه فادعوا، وقال لنا: قاتلوا من اتخذ مع الله آلهة أخرى، وكل من زعم أن لله ولدا، وأنه ثانى اثنين أو ثالث ثلاثة حتى يقولوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويدخلوا فى الإسلام، فإن فعلوا حرمت عليكم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها، وهم إخوانكم فى الدين، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فإن هم أبوا أن يدخلوا فى دينكم وأقاموا على دينهم فاعرضوا عليهم الجزية أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون، فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، فإن أبوا فقاتلوهم، فإنه من قتل منكم كان شهيدا حيا عند الله، مرزوقا، وأدخله الله الجنة، ومن قتل من عدوكم قتل كافرا وصار إلى النار مخلدا فيها أبدا. ثم قال خالد: وهذا والله الذى لا إله إلا هو هو الذى أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فعلمناه، وأمرنا به، وأمرنا أن ندعو الناس إليه، ونحن ندعوكم إلى الإسلام وإلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وإلى أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتقروا بما جاء به من عند الله، فإن فعلتم فأنتم إخواننا فى الدين، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، فإن أبيتم فإنا نعرض عليكم أن تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فإن فعلتم قبلنا منكم وكففنا عنكم، وإن أبيتم أن تفعلوا فقد والله جاءكم قوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة، فاخرجوا بنا على اسم الله حتى نحاكمكم إلى الله، فإنما الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، ثم سكت خالد، فقال باهان: أما أن ندخل فى دينكم فما أبعد من ترى من الناس أن يترك دينه ويدخل فى دينكم، وإما أن نؤدى الجزية، ثم تنفس الصعداء، وثقلت عليه وعظمت عنده، فسيموت من ترى جميعا قبل أن يؤدوا الجزية إلى أحد من الناس، وهم يأخذون الجزية ولا يعطونها، وأما قولك: فاخرجوا حتى يحكم الله بيننا، فلعمرى ما جاءك هؤلاء القوم وهذه الجموع إلا ليحاكموك إلى الله، وأما قولك: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فصدقت والله، ما كانت هذه الأرض التى نقاتلكم عليها وتقاتلوننا إلا لأمة من

الأمم كانوا قبلنا فيها، فقاتلناهم عليها فأخرجناهم منها، وقد كانت قبل ذلك لقوم آخرين فأخرجهم منها هؤلاء الذين كنا قاتلناهم عليها، فابرزوا على اسم الله، فإنا خارجون إليكم. قال الحارث: فلما فرغ باهان من كلامه وثب خالد فقام، وقمت معه، فمر بقبته فتركها، وبعث معنا صاحب الروم رجالا حتى أخرجونا من عسكرهم وأمنا، فرجعنا إلى أبى عبيدة، فقص عليهم خالد الخبر، وأخبرهم بأن القتال سيقع بينهم، وقال للناس: استعدوا أيها الناس استعداد قوم يرون أنهم عن ساعة مقاتلون. وحدث «1» أبو جهضم الأزدى، عن رجل من الروم كان مع باهان فى عسكرهم ذلك وأسلم بعد فحسن إسلامه، قال: كتب باهان إلى قيصر كتابا يخبره فيه بخالد وحال أصحابه وحال المسلمين، وكان قد جمع أصحابه يوم انصرف عنهم خالد، فقال: أشيروا علىّ برأيكم فى أمر هؤلاء القوم فإنى قد هيبتهم فما أراهم يهابون، وأطمعتهم فليس يطمعون، وأردتهم على الرجوع والخروج عن بلادنا بكل وجه فليسوا براجعين، والقوم ليس يريدون إلا هلاككم واستئصالكم وسلب سلطانكم، وأكل بلادكم، وسبى أولادكم ونسائكم، وأخذ أموالكم، فإن كنتم أحرارا فقاتلوا عن سلطانكم، وامنعوا حريمكم ونساءكم وأموالكم وبلادكم وأولادكم، فقامت البطارقة رجلا بعد رجل فكلهم يخبره أنه طيب النفس بالموت دون بلاده وسلطانه، وقالوا له: إذا شئت فانهض بنا فقال لهم: فكيف ترون، نقاتلهم فإنا أكثر من عشرة أضعافهم، نحن نحو من أربعمائة ألف، وهم نحو من ثلاثين ألفا أو أقل أو أكثر. فقال بعضهم: أخرج إليهم فى كل يوم مائة ألف يقاتلونهم وتستريح البقية، وتسرح عيالنا وأثقالنا إلى البحر، فلا يكون معنا شىء يهمنا ولا يشغلنا، ويقاتلهم كل يوم منا مائة ألف، فهم فى كل يوم فى قتل وجراحة وعناء ومشقة وشدة، ونحن لا نقاتل إلا فى كل أربعة أيام يوما فإن هم هزموا منا فى كل يوم مائة ألف بقى لهم أكثر من مائتى ألف لم ينهزموا، فقال آخرون: لا، ولكنا نرى إذا هم خرجوا إلينا أن نبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابك، فلا والله لا يجتمع عشرة على واحد إلا غلبوه، فقال باهان: هذا ما لا يكون، وكيف أقدر على عددهم حتى أبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابى، وكيف أقدر أن ينفرد الرجل منهم عن صاحبه حتى أبعث إليه عشرة من قبلى، هذا ما لا يكون.

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (207) .

قال: فأجمعوا رأيهم جميعا على أن يخرجوا بأجمعهم خرجة واحدة فيناجزوهم فيها ولا يرجعوا عنهم حتى يحكم الله بينهم. وكتب باهان إلى قيصر: أما بعد، نسأل الله لك أيها الملك ولجندك وأهل مملكتك النصر ولدينك وسلطانك العز، فإنك بعثتنى فيما لا يحصيه من العدد إلا الله، فقدمت على القوم، فأرسلت إليهم فهيبتهم فلم يهابوا، وأطمعتهم فلم يطمعوا، وخوفتهم فلم يخافوا، وسألتهم الصلح فلم يقبلوا، وجعلت لهم الجعل على أن ينصرفوا فلم يفعلوا، وقد ذعر منهم جند الملك ذعرا شديدا، وخشيت أن يكون الفشل قد عمهم، والرعب قد دخل قلوبهم، إلا أن منهم رجالا قد عرفتهم ليسوا بفرارين عن عدوهم، ولا شكاك فى دينهم، ولو قد لقوهم لم يفروا حتى يظهروا أو يقتلوا، وقد جمعت أهل الرأى من أصحابى، وأهل النصيحة لملكنا وديننا، فاجتمع رأيهم على النهوض إليهم جميعا، فى يوم واحد، ولا نزايلهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال: وكان باهان قد رأى رؤيا، فذكرها لملك الروم فى كتابه هذا، فقال له: وقد أتانى آت فى منامى، فقال لى: لا تقاتل هؤلاء القوم، فإنهم يهلكونك ويهزمونك، فلما انتبهت عبرت أنه من الشيطان، أراد أن يحزننى، فخسأته «1» ، فإن يكن الشيطان فقد خسأته، وإن لم يكن فقد بين لى الأمر، فابعث أنت أيها الملك بثقلك وحرمك ومالك فألحقهم بأقصى بلادك، وانتظر وقعتنا هذه، فإن أظهرنا الله عليهم حمدت الله الذى أعز دينك ومنع سلطانك، وإن هم ظفروا علينا، فارض بقضاء الله، واعلم أن الدنيا زائلة عنك كما زالت عمن كان قبلك، فلا تأسف منها على ما فاتك ولا تغتبط منها بشىء مما فى يديك، والحق بمعاقلك ودار مملكتك، وأحسن إلى رعيتك وإلى الناس يحسن الله إليك، وارحم الضعفاء والمساكين ترحم، وتواضع لله يرفعك، فإن الله لا يحب المتكبرين، والسلام. قال: ثم إن باهان خرج إلى المسلمين فى يوم ذى ضباب ورذاذ، وصف لهم عشرين صفا لا ترى أطرافها، ثم جعل على ميمنته ابن قماطر، ومعه جرجير فى أهل أرمينية، وجعل الدرنجار فى ميسرته، وكان من خيارهم ونساكهم، فأقبلوا نحو المسلمين كأنهم أعراض الجبال وقد ملأوا الأرض، فلما نظر إليهم المسلمون وقد أقبلوا كلهم، نهضوا إلى راياتهم، وجاء خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وهم الأمراء الذين كان أبو بكر رضى الله عنه، أمرهم إلى أبى عبيدة بن الجراح،

_ (1) خسأ: طرد وأبعد ودحر. انظر: اللسان (1155) .

ومعه معاذ بن جبل لا يفارقه، فقالوا له: إن هؤلاء قد زحفوا لنا هذا اليوم المطير، وإنا لا نرى أن نخرج إليهم فيه حتى يطلوا «1» بعسكرنا ويضطرونا إلى ذلك، قال: أصبتم، ثم خرج هو ومعاذ فصفوا الناس وهيئوهم ووقفوهم على مراكزهم، وأقبلت الروم فى المطر، فوقفوا ساعة وتصبروا عليه، فلما رأوا أن المطر لا يقلع انصرفوا إلى عسكرهم، ودعا الدرنجار رجلا من العرب ممن كان على دين النصرانية فقال له: ادخل فى عسكر هؤلاء القوم فانظر ما حالهم وما هديهم، وما يصنعون، وكيف سيرتهم، ثم القنى بها، فخرج ذلك الرجل حتى دخل عسكر المسلمين فلم يستنكروه لأنه كان رجلا من العرب لسانه ووجهه، فمكث فى عسكرهم ليلة حتى أصبح، فوجد المسلمين يصلون الليل كله كأنهم فى النهار، ثم أصبح فأقام عامة يومه، ثم خرج إليه، فقال: جئتك من عند قوم يصومون النهار، ويقومون الليل، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، رهبان بالليل، وأسد بالنهار، لو سرق ملكهم فيهم لقطعوه، ولو زنى لرجموه، لا يثأرهم الحق واتباعهم إياه على الهوى، فقال: لئن كان هؤلاء القوم هكذا لبطن الأرض خير من ظهرها لمن يريد قتالهم. فلما كان من الغد خرجوا أيضا، فى يوم ذى ضباب، وأتى المسلمين رجال من العرب كانوا نصارى فأسلموا، فقال لهم أبو عبيدة وخالد: ادخلوا فى عسكر الروم واكتموهم إسلامكم والقونا بأخبارهم، فإن لكم فى هذا أجرا، والله حاسبه لكم جهادا، فإنكم تدفعون بذلك عن حرمة الإسلام وتدلون على عورة أهل الشرك، فانطلقوا فدخلوا عسكر الروم، ثم جاؤا بعد ما مضى من الليل نصفه، فأتوا أبا عبيدة فقالوا له: إن القوم قد أوقدوا النيران، وهم يتبعون لكم ويتهيأون للقائكم، وهم مصبحوكم بالغداة، فما كنتم صانعين فاصنعوه الآن، فخرج أبو عبيدة ومعاذ بن جبل وخالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص، فعبأوا الناس وصفوهم، فلم يزالوا فى ذلك حتى أصبحوا. وعن راشد بن عبد الرحمن الأزدى، قال «2» : صلى بنا أبو عبيدة يومئذ صلاة الغداة فى عسكره فى الغداة التى لقينا فيها الروم باليرموك، فقرأ فى أول ركعة بالفجر وليال عشر، فلما مر بقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ

_ (1) يلطوا: لط الشىء يلطه لطا: ألزقه ولزمه. انظر: اللسان (4034) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام (212) .

لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 4، 14] قلت فى نفسى: ظهرنا والله على القوم للذى أجرى الله على لسانه، وسررت بذلك سرورا شديدا، وقلت: عدونا هذا والله نظير لهذه الأمم، فى الكفر والكثرة والمعاصى، قال: ثم قرأ فى الركعة الثانية: وَالشَّمْسِ وَضُحاها، فلما مر بقول الله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إلى آخر السورة، قلت فى نفسى: هذه والله أخرى، إن صدق الفأل ليصبن الله عليهم سوط عذاب، وليدمدمن الله عليهم كما دمدم على هذه القرون من قبلهم، فلما قضى أبو عبيدة صلاته، أقبل على الناس بوجهه، وقال: أيها الناس أبشروا، فإنى رأيت فى ليلتى هذه فيما يرى النائم كأن رجالا أتونى فحفوا بى وعليهم ثياب بيض، ثم دعوا إلىّ رجالا منكم أعرفهم، ثم قالوا لنا: أقدموا على عدوكم ولا تهابوهم، فإنكم الأعلون، وكأنا مضينا إلى عسكر عدونا، فلما رأونا قاصدين إليهم انفرجوا لنا، وجئنا حتى دخلنا عسكرهم، وولوا مدبرين. فقال له الناس: أصلحك الله، نامت عينك، هذه بشرى من الله، بشرك الله بخير. وقال أبو مرثد الخولانى: وأنا أصلحك الله قد رأيت رؤيا، إنها لبشرى من الله، رأيت فى هذه الليلة كأنا خرجنا إلى عدونا، فلما تواقعنا صب الله عليهم من السماء طيرا بيضا عظاما لها مخالب كمخالب الأسد، وهى تنقض من السماء انقضاض العقبان، فإذا حاذت بالرجل من المشركين ضربته ضربة يخر منها متقطعا. وكان الناس يقولون: أبشروا معاشر المسلمين، فقد أيدكم الله عليهم بالملائكة. قال: فتباشر الناس بهذه الرؤيا وسروا بها، فقال أبو عبيدة: وهذه والله بشرى من الله، فحدثوا بهذه الرؤيا الناس، فإن مثلها من الرؤيا ما يشجع المسلم ويحسن ظنه وينشطه للقاء عدوه. قال: وانتشرت هذه الرؤيا ورؤيا أبى عبيدة فى المسلمين، واستبشروا بهما. وعن أبى جهضم أيضا «1» : أن رجلا من الروم حدثه فى خلافة عبد الملك بن مروان أن رجلا من عظمائهم أتى باهان فى صبيحة الليلة التى خرج إلى المسلمين باليرموك، فقال له: إنى رأيت رؤيا أريد أن أحدثك بها، قال: هاتها، قال: رأيت كأن رجالا نزلوا من السماء طول أحدهم أبعد من مد بصره، فنزعوا سيوفنا من أغمادها وأسنة رماحنا من أطرافها، ثم لم يدعوا منا رجلا إلا كتفوه، ثم قالوا لنا: اهربوا وأكثركم هالك،

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (214- 216) .

فأخذنا نهرب، فمنا من يسقط على وجهه ومنا من يتبلد لا يستطيع أن يبرح من مكانه، ومنا من يحل كتافه ثم يسعى حتى لا نراه. فقال له باهان: أما من رأيت يسقط على وجهه، ومن رأيته يتبلد لا يطيق أن يسعى ولا يتنحى من مكانه فهم الذى يهلكون، وأما الذين رأيت يحلون كتافهم ويسعون حتى لا نراهم، فأولئك الذين ينجون، ثم قال له باهان: أما أنت فو الله لا تسلم منى أبدا، فوجهك الذى بشر بالشر وقنط من الخير، ألست الذى كنت أشد الناس علىّ فى أمر الرجل الذى قتل رجلا من أهل الذمة، فأردت أن أقتله، فكنت أنت من أشد الناس علىّ فى أمره حتى عطلت حدا من حدود الله وتركته، وكان علىّ من الحق أن أقيمه، فحلت بينى وبينه فى جماعة من السفهاء، وتركته كراهية أن أفرق جماعتكم أو أن يضرب بعضكم بعضا، فأما الآن، فقد حدثت نفسى بالموت، وإنما ألقى القوم عن ساعة، فإن شئتم الآن فتفرقوا، وإن شئتم فاجتمعوا وأنا أتوب إلى الله من ترك ذلك الحد يومئذ، فإنه لم يك يسعنى ولا ينبغى لى إلا قتله، ولو قتلتمونى معه، ثم أمر به فضربت عنقه. قال: وطلب الرومى الذى كان قتل الذمى فهرب منه فلم يقدر عليه، وقد تقدمت قصة هذا الرومى المقتول تعديا فيما أخرجناه قبل من الحديث عن أبى بشر التنوخى، فأغنى ذلك عن إعادتها. وعن راشد بن عبد الرحمن الأزدى «1» : أن باهان زحف يوم اليرموك إلى المسلمين فى عشرين صفا تضم نحوا من أربعمائة ألف مقاتل، وأصبح المسلمون طيبة أنفسهم لقتال المشركين، قد شرح الله صدورهم وشجع قلوبهم على لقاء عدوهم، فأخرجهم أبو عبيدة وجعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته قباث بن أشيم، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة، وعلى الخيل خالد بن الوليد، وخرج الناس على راياتهم وفيهم أشراف العرب وفرسانهم من رجالهم وقبائلهم، وفيهم الأزد وهم ثلث الناس، وحمير، وهم عظم الناس، وفيهم همدان وخولان ومذحج وخثعم وقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغسان وكندة وحضرموت، ومعهم جماعة من كنانة، ولكن عظم الناس أهل اليمن، ولم يحضرها يومئذ أسد ولا تميم ولا ربيعة، ولم تكن دارهم هنالك، إنما كانت دارهم عراقية، فقاتلوا أهل فارس بالعراق، فلما برز المسلمون إلى عدوهم، سار أبو عبيدة فيهم، ثم قال: يا عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإن وعد الله حق، يا معشر المسلمين، اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار، فلا تبرحوا

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (217) .

مصافكم ولا تخطوا إليهم بخطوة ولا تبدأوهم بقتال، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله حتى آمركم إن شاء الله. وخرج معاذ يقص على الناس، ويقول: يا قراء القرآن ومستحفظى الكتاب وأنصار الهدى وأولياء الحق، إن رحمة الله لا تنال بالتوانى، وجنته لا تدخل بالأمانى، ولا يؤتى الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله، ألم تسمعوا لقول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور: 55] إلى رأس الآية، أنتم إن شاء الله منصورون، فأطيعوا الله ورسوله: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] ، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم، وأنتم فى قبضته ورحمته، وليس لأحد منكم ملجأ ولا منجى من دونه، ولا متعزز بغير الله، وجعل يمشى فى الصفوف يحرضهم ويقص عليهم، ثم انصرف إلى موضعه. قال سهل بن سعد «1» : ومر عمرو بن العاص يومئذ على الناس، فجعل يعظهم ويحرضهم ويقول: أيها الناس، غضوا أبصاركم، واجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، والزموا مراكزكم ومصافكم، فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا فى وجوههم وثوب الأسد فو الذى يرضى الصدق ويثيب عليه، ويمقت الكذب ويعاقب عليه، ويجزى الإحسان، لقد بلغنى أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم، فلو قد صدقتموهم الشدة لقد ابذعروا ابذعرار أولاد الحجل. قال: وكان أبو سفيان بن حرب استأذن عمر بن الخطاب فى جهاد الروم بالشام، فقال له: إنى أحب أن تأذن لى فأخرج إلى الشام متطوعا بمالى فأنصر المسلمين، وأقاتل المشركين وأحض جماعة من هناك من المسلمين، فلا آلوهم نصيحة ولا خيرا، فقال له عمر: قد أذنت لك يا أبا سفيان، تقبل الله جهادك وبارك لك فى رأيك، وأعظم أجرك فيما نويت من ذلك، فتجهز أبو سفيان بأحسن الجهاز، وفى أحسن هيئة، ثم خرج وصحبته أناس من المسلمين كثير، خرجوا متطوعين، فأحسن أبو سفيان صحبتهم حتى قدموا على جماعة المسلمين، ولما خرج المسلمون إلى عدوهم باليرموك كان أبو سفيان يومئذ يسير فى الناس، ويقف على أهل كل راية، وعلى كل جماعة فيحض الناس

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (219) .

ويعظهم ويقول: إنكم يا معشر المسلمين أصبحتم فى دار العجم منقطعين عن الأهل، نائين عن أمير المؤمنين، وأمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عددهم شديد عليكم حنقهم، وقد وترتموهم فى أنفسهم ونسائهم وأولادهم وبلادهم وأموالهم، فلا والله لا ينجيكم منهم اليوم ولا تبلغون رضوان الله إلا بصدق اللقاء والصبر فى مواطن المكروه، فتقربوا إلى خالقكم، وامتنعوا بسيوفكم، ولتكن هى الحصون التى إليها تلجون، وبها تمتنعون. وقاتل أبو سفيان يومئذ، قتالا شديدا، وأبلى بلاء حسنا. قال: وزحف الروم إلى المسلمين وهم يزفون زفا، ومعهم الصلبان، وأقبلوا بالأساقفة والقسيسين والرهبان والبطارقة والفرسان، ولهم دوى كدوى الرعد، وقد تبايع عظمهم على الموت، ودخل منهم ثلاثون ألفا فى السلاسل، كل عشرة فى سلسلة لئلا يفروا، فلما نظر إليهم خالد بن الوليد مقبلين، أقبل على نساء المسلمين وهن على تل مرتفع فى العسكر، فقال: يا نساء المسلمين، أيما رجل أدركتنه منهزما فاقتلنه، فأخذن العناهر، وهى عمد البيوت، ثم أقبلن نحو المسلمين فقلن: لستم بعولتنا إن لم تمنعونا اليوم، وأقبل خالد إلى أبى عبيدة، فقال: إن هؤلاء قد أقبلوا فى عدد وحد وجد، وإن لهم لشدة لا يردها شىء، وليست خيل المسلمين بكثيرة، ولا والله لأقامت خيلى لشدة حملتهم وخيلهم ورجالهم أبدا، وخيل خالد يومئذ أمام صفوف المسلمين، والمسلمون ثلاثة صفوف. قال خالد: فقد رأيت أن أفرق خيلى، فأكون أنا فى إحدى الخيلين، ويكون قيس بن هبيرة فى الخيل الأخرى، ثم تقف خيلنا من وراء الميمنة والميسرة، فإذا حملوا على الناس فإن ثبت المسلمون فالله ثبتهم وثبت أقدامهم، وإن كانت الأخرى حملت عليهم خيولنا وهى جامة على ميمنتهم وميسرتهم، وقد انتهت شدة خيلهم وقوتها، وتفرقت جماعتهم ونقضوا صفوفهم، وصاروا نشرا «1» ، ثم تحمل عليهم وهى بتلك الحال، فأرجو عندها أن يظفر الله بهم ويجعل دائرة السوء عليهم، وقال لأبى عبيدة: قد رأيت لك أن توقف سعيد بن زيد موقفك هذا وتقف أنت بحذائه من ورائه فى جماعة حسنة، فتكون ردآ للمسلمين، فقبل أبو عبيدة مشورته، وقال: أفعل ما أراك الله وأنا فاعل ما ذكرت، فأمر أبو عبيدة سعيد بن زيد فوقف فى مكانه، وركب هو فسار فى الناس فحرضهم وأوصاهم بتقوى الله والصبر، ثم انصرف فوقف من وراء الناس ردآ لهم، وأقبلت الروم كقطع الليل حتى إذا حاذوا الميمنة نادى معاذ بن جبل الناس فقال: يا عباد الله المسلمين،

_ (1) صاروا نشرا: أى منتشرين متفرقين متطايرين.

إن هؤلاء قد تيسروا للشدة عليكم، ولا والله لا يردهم إلا صدق اللقاء والصبر فى البأساء، ثم نزل عن فرسه وقال: من أراد أن يأخذ فرسى ويقاتل عليه فليأخذه، فوثب إليه ابنه عبد الرحمن بن معاذ، وهو غلام حين احتلم، فقال: يا أبة، إنى لأرجو أن أكون فارسا أعظم غناء عن المسلمين منى راجلا، وأنت يا أبة راجلا أعظم غناء منك فارسا، وعظم المسلمين رجالة، وإذا رأوك صابرا محتسبا صبروا إن شاء الله وحافظوا، فقال له معاذ: وفقنى الله وإياك يا بنى لما يحب ويرضى، فقاتل معاذ وابنه قتالا شديدا ما قاتل مثله كثير من المسلمين، ثم إن الروم تحاضوا وتداعوا وقصت عليهم الأساقفة والرهبان وقد دنوا من المسلمين، فإذا سمع ذلك معاذ منهم قال: اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وأنزل علينا السكينة وألزمنا كلمة التقوى وحبب إلينا اللقاء ورضنا بالقضاء. قال: وخرج باهان صاحب الروم فجال فى أصحابه وأمرهم بالصبر والقتال دون ذراريهم وأموالهم وسلطانهم وبلادهم، ثم بعث إلى صاحب الميسرة: أن احمل عليهم، وكان على الميسرة الدرنجار، وكان متنسكا، فقال البطارقة والروم الذين معه: قد أمركم أميركم أن تحملوا، وتهيأت البطارقة ثم شدوا على الميمنة وفيها الأزد ومذحج وحمير وحضرموت وخولان، فثبتوا حين صدموا واقتتلوا قتالا شديدا، ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال، فأزالوا المسلمين عن الميمنة إلى ناحية القلب، وانكشفت طائفة من المسلمين إلى العسكر، وثبت عظم الناس فلم يزولوا، وقاتلوا تحت راياتهم فلم ينكشفوا، ولم تنكشف زبيد يومئذ، وهى فى الميمنة، وفيهم الحجاج بن عبد يغوث، والد عمرو بن الحجاج، فنادى: يا خيفان يا خيفان، فاجتمعوا إليه، ثم شدوا على الروم وهم فى نحو خمسمائة رجل شدة، فلم يتنهنهوا «1» حتى خالطوا الروم، فقاتلوهم قتالا شديدا، وشغلوهم عن اتباع من انكشف من المسلمين، وشدت عليهم حضرموت وحمير وخولان بعد ما كانوا زالوا، ثم رجعوا إلى مواقفهم حتى وقفوا فى الصف حيث كانوا، واستقبل النساء منهزمة المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم، وثبتت الأزد وقاتلت قتالا لم يقاتل مثله أحد من تلك القبائل، وقتل منهم مقتلة لم يقتل مثلها من قبيلة من القبائل، وقتل يومئذ عمرو بن الطفيل، ذو النور، وهو يقول: يا معشر الأزد، لا يؤتين المسلمون من قبلكم، وقاتل قتالا شديدا، قتل من أشدائهم تسعة، ثم قتل هو، يرحمه الله. وقال جندب بن عمرو بن حممة ورفع رايته: يا معشر الأزد، إنه لا يبقى منكم ولا ينجو من الإثم والعار إلا من قاتل، ألا وإن المقتول شهيد، والخائب من هرب اليوم،

_ (1) النهنهة: الكف، تقول: نهنهت فلانا فتنهنه، أى كففته فكف.

وقاتل حتى قتل رحمه الله، ونادى أبو هريرة: يا مبرور يا مبرور، فأطافت به الأزد، قال عبد الله بن سراقة: انتهيت إلى أبى هريرة يومئذ، وهو يقول: تزينوا للحور العين وارغبوا فى جوار ربكم، فى جنات النعيم، فما أنتم فى موطن من مواطن الخير أحب فيه منكم فى هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم. قال: فأطافت به الأزد، ثم اضطربوا هم والروم، فو الذى لا إله إلا هو لرأيت وإنها لتدور بهم الأرض وهم فى مجال واحد كما تدور الرحاء، وما برحوا يعنى المسلمين، ولا زالوا وركبهم من الروم أمثال الجبال، فما رأيت موطنا قط أكثر قحفا ساقطا ومعصما نادرا وكفا طائحة من ذلك الموطن، وقد والله أوحلناهم شرا وأوحلونا. وكان جل القتال فى الميمنة، وأن القلب ليلقون مثل ما نلقى، ولكن حمة القوم وجدهم وحردهم وحنقهم علينا، وكنا فى آخر الميمنة، فلقد لقينا من قتالهم ما لم يلق أحد مثله، فو الله إنا لكذلك نقاتلهم وقد دخل عسكرنا منهم نحو من عشرين ألفا من ورائنا، فعصمنا الله من أن نزول، حمل عليهم خالد بن الوليد فقصف بعضهم على بعض، وشدخ منهم فى العسكر نحوا من عشرة آلاف، ودخل سائرهم بيوت المسلمين فى العسكر مجرحين وغير مجرحين، ثم خرج خالد يكرد ويقتل كل من كان قريبا منا من الروم حتى إذا حاذانا ألف خيله بعضها إلى بعض، ثم قال: يا أهل الإسلام، إنه لم يبق عند القوم من الجد والقتال إلا ما قد رأيتم، فالشدة، فو الذى نفسى بيده ليعطينكم الله الظفر الساعة عليهم، فجعل لا يسمع هذا القول من خالد أحد من المسلمين إلا شجعه عليهم، ثم إن خالدا اعترض الروم وإلى جنبه منهم أكثر من مائة ألف، فحمل عليهم، وما هو إلا فى نحو من ألف فارس، فو الله ما بلغتهم الحملة حتى فض الله جمعهم. قال: وشددنا على من يلينا من رجالتهم، فانكشفوا واتبعناهم نقتلهم كيف شئنا، ما يمتنعون من قتل ميمنتنا لميسرتهم، قال: ثم إن خالدا انتهى إلى الدرنجار وقد قال لأصحابه: لفونى بالثياب، فليت أنى لم أقاتل هؤلاء القوم اليوم، فلفوه بالثياب، وقال: لوددت أن الله عافانى من حرب هؤلاء القوم فلم أرهم ولم يرونى، ولم أنصر عليهم ولم ينصروا علىّ، وهذا يوم سوء، فما شعر حتى غشيه المسلمون فقتلوه. وقال ابن قماطر وهو فى ميمنة الروم لجرجير، صاحب أرمينية: احمل عليهم، فقال له: أنت تأمرنى أن أحمل عليهم وأنا أمير مثلك؟ فقال له ابن قماطر: أنت أمير وأنا أمير فوقك، وقد أمرت بطاعتى، فاختلفا، ثم إن ابن قماطر حمل على المسلمين حملة شديدة على الميسرة وفيها كنانة وقيس ولخم وجذام وعاملة وغسان وخثعم وقضاعة، فانكشف

المسلمون وزالت الميسرة عن مصافها، وثبت أهل الرايات وأهل الحفاظ، فقاتلوا قتالا شديدا، وركبت الروم أكتاف من انهزم من المسلمين حتى دخلوا معهم العسكر، فاستقبلهم نساء المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم. وعن حنظلة بن جويه قال «1» : والله إنى لفى الميسرة إذ مر بنا رجال من الروم على خيل من خيل العرب لا يشبهون الروم وهم أشبه شىء بنا، فلا أنسى قول قائل منهم: يا معشر العرب، الحقوا بوادى القرى ويثرب، وهو يقول: فى كل يوم خيلنا تغير ... نحن لنا البلقاء والسدير هيهات يأبى ذلك الأمير ... والملك المتوج المحبور قال: فحملت عليه وحمل علىّ، فاضطربنا بسيفينا فلم يغنينا شيئا ثم اعتنقنا، فخررنا جميعا فاعتركنا ساعة، ثم إننا تحاجزنا، فنظرت إلى عنقه وقد بدا منها مثل شراك النعل، فمشيت إليه فاعتمدت ذلك الموضع بسيفى، فو الله ما أخطأته، فقطعته فصرع، فضربته حتى قتلته، وأقبلت إلى فرسى وقد كان عار، وإذا فرسى قد حبسوه علىّ، فأقبلت حتى ركبته، قال: وقاتل قباث بن أشيم يومئذ، قتالا شديدا، وأخذ يقول: إن تفقدونى تفقدوا خير فارس ... لدى الغمرات والرئيس المحاميا وذا فخر لا يملأ الهول صدره ... ضروبا بنصل السيف أروع ماضيا وكسر فى الروم يومئذ ثلاثة أرماح، وقطع سيفين، ويقول كلما قطع سيفا أو كسر رمحا: من يعين بسيف أو برمح فى سبيل الله رجلا قد حبس نفسه مع أولياء الله وقد عاهد الله ألا يفر ولا يبرح يقاتل المشركين حتى يظهر المسلمون أو يموت. وكان من أحسن الناس بلاء يومئذ. ونزل أبو الأعور السلمى، فقال: يا معشر قريش، خذوا بحظكم من الصبر والأجر، فإن الصبر فى الدنيا عز ومكرمة، وفى الآخرة رحمة وفضيلة، فاصبروا وصابروا. وعن حبيب بن مسلمة قال «2» : اضطررنا يوم اليرموك إلى سعيد بن زيد، فلله سعيد ما سعيد يومئذ إلا مثل الأسد، جثا والله على ركبتيه حتى إذا دنوا وثب فى وجوههم مثل الليث، فطعن برايته أول رجل من القوم فقتله، وأخذ والله يقاتل راجلا، فقاتل الرجل البئيس الشجاع فارسا، قال: وكان يزيد بن أبى سفيان من أعظم الناس غناء

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (227) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام (228) .

وأحسنه بلاء هو وأبوه جميعا، وقد كان أبوه مر به وهو يحرض الناس ويعظمهم، فقال: يا بنى، إنك تلى من أمر المسلمين طرفا، ويزيد يومئذ على ربع الناس، وإنه ليس بهذا الوادى رجل من المسلمين إلا وهو محقوق بالقتال، فكيف بأشباهك الذين ولوا أمور المسلمين، أولئك أحق الناس بالجهاد والصبر والنصيحة، فاتق الله يا بنى، واكرم فى أمرك، ولا يكونن أحد من أصحابك أرغب فى الآخرة ولا فى الصبر فى الحرب ولا أشد نكاية فى المشركين، ولا أجهد على عدو الإسلام ولا أحسن بلاء منك. فقال يزيد: أفعل والله يا أبة، فقاتل فى الجانب الذى كان فيه قتالا شديدا. قال: وشد على عمرو بن العاص جماعة من الروم فانكشف عنه أصحابه وثبت عمرو فجالدهم طويلا، وقاتل شديدا، ثم تراجع إليه أصحابه، قال: فسمعت أم حبيبة بنت العاص تقول: قبح الله رجلا يفر عن حليلته، وقبح الله رجلا يفر عن كريمته، وسمعت نسوة من المسلمين يقلن: قاتلوا أيها المسلمون فلستم بعولتنا إن لم تمنعونا، وأخذن العناهر، فكلما مر بهن منهزم من المسلمين حملن عليه حتى يضربن وجهه ويرددنه إلى جماعة المسلمين. وقاتل شرحبيل بن حسنة فى ربعه الذى كان فيه قتالا شديدا، وكان إلى جنبه سعيد ابن زيد، وسطا من الناس، وجعل ينادى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ إلى آخر الآية [التوبة: 111] ثم جعل يقول: أين الشارون أنفسهم من الله بابتغاء مرضات الله؟ أين المشاؤن إلى جوار الله غدا فى داره، فاجتمع إليه ناس كثير وبقى القلب لم ينكشف، وفيه أهله الذين كانوا مع سعيد بن زيد، وكان أبو عبيدة من وراء ظهور المسلمين ردآ لهم. فلما رأى قيس بن هبيرة أن خيل المسلمين مما يلى الميسرة قد شد عليهم الروم اعترض الروم بخيله وهى الشطر من خيل خالد، فقصف بعضهم على بعض، وحمل خالد من ميمنة المسلمين على ما يليه من الروم حتى اضطرهم إلى صفوفهم، فقصف بعضهم على بعض، وزحف إليه المسلمون جماعتهم رويدا رويدا حتى إذا دنوا منهم حملوا عليهم، فجعلت الروم ينقضون صفوفهم وينهزمون، وبعث أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد: أن احمل عليهم، فحمل عليهم، وشد المسلمون بأجمعهم، فضرب الله وجوه الروم، ومنح المسلمين أكتافهم، يقتلونهم كيف شاؤا، لا يمتنعون من أحد من المسلمين، وانتهى خالد بن الوليد إلى الدرنجار، وكان كارها لقتال المسلمين، لما كان يجد من صفتهم فى الكتب،

وكان يقرأها، فقال خالد: إن كنت لأحب أن أراه، فضربه المسلمون حتى قتلوه، وإنه لملفف رأسه بكساء، واتبعهم المسلمون يقتلونهم كل قتلة، وركب بعضهم بعضا حتى انتهوا إلى مكان مشرف على أهوية تحتهم، فجعلوا يتساقطون فيها ولا يبصرون، وهو يوم ذو ضباب، وهم يرتكسون فيها، لا يعلم آخرهم ما يلقى أولهم، حتى سقط فيها نحو من مائة ألف رجل، ما أحصوا إلا بالقصب. وبعث أبو عبيدة شداد بن أوس بن ثابت فعدهم بها من الغد، فوجد من سقط أكثر من ثمانين ألفا، فسميت تلك الأهوية الواقوصة حتى اليوم، لأنهم وقصوا فيها وما فطنوا لتساقطهم حتى انكشف الضباب فأخذوا فى وجه آخر، وقتل المسلمون منهم فى المعركة بعد ما أدبروا نحوا من خمسين ألفا. واتبعهم خالد فى الخيل، فلم يزل يقتلهم فى كل واد وكل شعب وفى كل جبل، حتى انتهى إلى دمشق، فخرج إليه أهلها، وقالوا له: نحن على عهدنا الذى كان بيننا وبينكم، فقال لهم خالد: نعم، ومضى فى اتباعهم يقتلهم فى القرى والأودية والجبال حتى انتهى إلى حمص، فخرج إليه أهلها، فقالوا له مثل ما قال أهل دمشق فى العهد، فقال لهم: نعم. وأقبل أبو عبيدة على قتلى المسلمين، رحمهم الله وجزاهم عن الإسلام وأهله خيرا، فدفنهم، فلما فرغ من ذلك جاءه النعمان بن محمية ذو الأنف الخثعمى يسأله أن يعقد له على قومه، فعقد له عليهم، وكانت خثعم قد رأست رجلا آخر منهم من بنى عمرو يدعى ابن ذى السهم، فاختصم هو وذو الأنف إلى أبى عبيدة فى الرياسة قبل الوقعة، فأخرهم أبو عبيدة إلى أن يفرغوا من حربهم ويناجزوا عدوهم، ثم ينظر فى أمرهم، فلما التقى الناس استشهد هنالك ابن ذى السهم الخثعمى، فعقد أبو عبيدة للنعمان ذى الأنف على خثعم. قال: وجاء الأشتر مالك بن الحارث النخعى، فقال لأبى عبيدة: اعقد لى على قومى، فعقد له، وكانت قصته مثل قصة الخثعمى، وذلك أنه أتى قومه وعليهم رجل منهم فخاصمهم الأشتر فى الرياسة إلى أبى عبيدة، فدعا أبو عبيدة النخع، فقال: أى هذين أرضى فيكم وأعجب إليكم أن يرأس عليكم؟ فقالوا: كلاهما شريف وفينا رضى وعندنا ثقة، فقال أبو عبيدة: كيف أصنع بكما؟ ثم قال للأشتر: أين كنت حين عقدت لهذا الراية؟ قال: كنت عند أمير المدينة، ثم أقبلت إليكم، قال: فقدمت على هذا وهو رأس

أصحابك؟ قال: نعم، قال: فإنه لا ينبغى لك أن تخاصم ابن عمك وقد رضيت به جماعة قومك قبل قدومك عليهم، قال الأشتر: فإنه رضى شريف وأهل ذلك هو، وأنا أهل الرياسة، فلتعقبنى من رياسة قومى فأليهم كما وليهم هذا، فقال أبو عبيدة: تأخروا ذلك حتى تكون هذه الوقعة، فإن استشهدتما جميعا فما عند الله خير لكما، وإن هلك أحدكما وبقى الآخر كان الباقى منكما الرأس على قومه، وإن تبقيا جميعا أعقبناك منه إن شاء الله، قال الأشتر: فقد رضيت، فلما كانت الواقعة استشهد فيها رأس النخع الأول، فعقد أبو عبيدة للأشتر عند ذلك. وفى حديث آخر أن الأشتر كان من جلداء الرجال وأشدائهم وأهل القوة والنجدة منهم، وأنه قتل يوم اليرموك، قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلا من بطارقتهم، وقتل منهم ثلاثة مبارزة وتوجه مع خالد فى طلب الروم حين انهزموا، فلما بلغوا ثنية العقاب من أرض دمشق وعليها جماعة من الروم عظيمة، أقبلوا يرمون المسلمين من فوقهم بالصخر، فتقدم إليهم الأشتر فى رجال من المسلمين، وإذا أمام الروم رجل جسيم من عظمائهم وأشدائهم، فوثب إليه الأشتر لما دنا منه، فاستويا على صخرة مستوية، فاضطربا بسيفيهما، فضرب الأشتر كتف الرومى فأطارها، وضربه الرومى بسيفه فلم يضره شيئا، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، ثم دفعه الأشتر من فوق الصخرة فوقعا منها، ثم تدحرجا، والأشتر يقول وهما يتدحرجان: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163] ، فلم يزل يقول هذا وهو فى ذلك ملازم العلج لا يتركه، حتى انتهيا إلى موضع مستو من الجبل، فلما استقرا فيه وثب الأشتر على الرومى فقتله، ثم صاح فى الناس: أن جوزوا، فلما رأت الروم أن صاحبهم قد قتله الأشتر خلوا سبيل العقبة للناس، ثم انهزموا. وأقبل أبو عبيدة فى أثر خالد حتى انتهى إلى حمص، فأمر خالدا أن يتقدم إلى قنسرين، ولما انتهت الهزيمة إلى ملك الروم وهو بأنطاكية، قال: قد كنت أعلم أنهم سيهزمونكم، فقال له بعض جلسائه: ومن أين علمت ذلك أيها الملك، قال من حيث أنهم تحبون الموت كما نحبون أنتم الحياة، ويرغبون فى الآخرة أشد من رغبتكم فى الدنيا، ولا يزالون ظاهرين ما كانوا هكذا، وليغيرن كما غيرتم، ولينقضن كما نقضتم. وفى حديث عن عبد الله بن قرط «1» : أن أول من جاء ملكهم بالهزيمة رجل منهم، فقال له: ما وراءك؟ قال: خير، أيها الملك، هزمهم الله وأهلكهم، يعنى المسلمين، قال:

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (234) .

ففرح بذلك من حوله وسروا ورفعوا أصواتهم، فقال لهم ملكهم: ويحكم، هذا كاذب، وهل ترون هيئة هذا إلا هيئة منهزم، سلوه ما جاء به، فلعمرى ما هو ببريد، ولو لم يكن هذا منهزما ما كان ينبغى له أن يكون إلا مع أميره مقيما، فما كان بأسرع من أن جاء آخر، فقال له: ويحك، ما وراءك؟ فقال: هزم الله العدو وأهلكهم، قال له هرقل: فإن كان الله أهلكهم فما جاء بك؟. وفرح أصحابه وقالوا: صدقك أيها الملك، فقال لهم: ويحكم، أتخادعون أنفسكم، إن هؤلاء والله لو كانوا ظهروا أو ظفروا ما جاؤكم على متون خيولهم يركضون، ولسبقهم البريد والبشرى، قال: فإنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من العرب من تنوخ على فرس له عربية، يقال له حذيفة بن عمرو، وكان نصرانيا، فقال قيصر: ما أظن خبر السؤال إلا عند هذا، فلما دنا منه قال له: ما عندك؟ قال: الشر، قال: وجهك الذى بشرنا بالشر، ثم نظر إلى أصحابه، فقال: خبر سوء جاء به رجل سوء من قوم سوء، فإنهم لكذلك إذ جاءه رجل من عظماء الروم، فقال له الملك: ما وراءك؟ قال: الشر، هزمنا. قال: فما فعل أميركم باهان؟ قال: قتل، قال: فما فعل فلان وفلان، يسمى له عددا من أمرائه وبطارقته وفرسانه، فقال: قتلوا، فقال له: لكنك والله أنت أخبث وألأم وأكفر من أن تذب عن دين أو تقاتل على دنيا. ثم قال لشرطه: أنزلوه، فأنزلوه، فجاؤا به، فقال له: ألست كنت أشد الناس علىّ فى أمر محمد نبى العرب حين جاءنى كتابه ورسوله، وكنت قد أردت أن أجيبه إلى ما دعانى إليه وأدخل فى دينه، فكنت أنت من أشد الناس علىّ حتى تركت ما أردت من ذلك؟ فهلا قاتلت الآن قوم محمد وأصحابه دون سلطانى، وعلى قدر ما كنت لقيت منك إذ منعتنى من الدخول فى دينه؟ اضربوا عنقه، فقدموه فضربوا عنقه، ثم نادى فى أصحابه بالرحيل راجعا إلى القسطنطينية، فلما خرج من الشام وأشرف على أرض الروم استقبل الشام، فقال: السلام عليك يا سورية، سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبدا، ثم قال: ويحك أرضا، ما أنفعك لعدوك، لكثرة ما فيك من العشب والخصب والخير. وعن عمرو بن عبد الرحمن «1» : أن هرقل حين خرج من أنطاكية، أقبل حتى نزل الرها، ثم منها كان خروجه إلى القسطنطينية، وأقبل خالد فى طلب الروم حتى دخل أرض قنسرين، فلما انتهى إلى حلب تحصن منه أهلها، وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليهم، فطلبوا الصلح والأمان، فقبل منهم أبو عبيدة فصالحهم، وكتب لهم أمانا.

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (237) .

وعن الحسن بن عبد الله» : أن الأشتر قال لأبى عبيدة: ابعث معى خيلا أتبع آثار القوم، فإن عندى جزاء وغناء، فقال له أبو عبيدة: والله إنك لخليق بكل خير، فبعثه فى ثلاثمائة فارس، وقال له: لا تتباعد فى الطلب، وكن منى قريبا، فكان يغير على مسيرة اليوم منه واليومين، ونحو ذلك. ثم إن أبا عبيدة دعا ميسرة بن مسروق فسرحه فى ألفى فارس، فمضى فى آثار الروم حتى قطع الدروب، وبلغ ذلك الأشتر، فمضى حتى لحقه، فإذا ميسرة مواقف جمعا من الروم أكثر من ثلاثين ألفا، وكان ميسرة قد أشفق على من معه، وخاف على نفسه وعلى أصحابه، فإنهم لكذلك إذ طلع عليه الأشتر فى ثلاثمائة فارس من النخع، فلما رآهم أصحاب ميسرة كبروا وكبر الأشتر وأصحابه، وحمل عليهم من مكانه ذلك، وحمل ميسرة فهزموهم، وركبوا رؤسهم، واتبعتهم خيل المسلمين يقتلونهم، حتى انتهوا إلى موضع مرتفع من الأرض، فعلوا فوقه، وأقبل عظيم من عظمائهم معه رجالة كثيرة من رجالتهم، فجعلوا يرمون خيل المسلمين من مكانهم المشرف، فإن خيل المسلمين لمواقفتهم إذ نزل رجل من الروم أحمر عظيم جسيم، فتعرض للمسلمين ليخرج إليه أحدهم، قال: فو الله ما خرج إليه رجل منهم، فقال لهم الأشتر: أما منكم من أحد يخرج لهذا العلج؟ فلم يتكلم أحد. قال: فنزل الأشتر، ثم خرج إليه، فمشى كل واحد منهما إلى صاحبه وعلى الأشتر الدرع والمغفر، وعلى الرومى مثل ذلك، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه شد الأشتر عليه فاضطربا بسيفيهما، فوقع سيف الرومى على هامة الأشتر، فقطع المغفر وأسرع السيف فى رأسه، حتى كاد ينشب فى العظم، ووقعت ضربة الأشتر على عاتق الرومى، فلم تقطع شيئا من الرومى، إلا أنه ضربه ضربة شديدة أو هنت الرومى وأثقلت عاتقه، ثم تحاجزا. فلما رأى الأشتر أن سيفه لم يصنع شيئا، انصرف فمشى على هيئته حتى أتى الصف، وقد سال الدم على لحيته ووجهه، فقال: أخزى الله هذا سيفا، وجاءه أصحابه، فقال: علىّ بشىء من حناء، فأتوه به من ساعته، فوضعه على جرحه، ثم عصبه بالخرق، ثم حرك لحيته وضرب أضراسه بعضها ببعض، ثم قال: ما أشد لحيتى ورأسى وأضراسى، وقال لابن عم له: امسك سيفى هذا وأعطنى سيفك، فقال: دع لى سيفى، رحمك الله، فإنى لا أدرى لعلى احتاج إليه، فقال: أعطنيه ولك أم النعمان يعنى ابنته، فأعطاه إياه،

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (237، 239) .

فذهب ليعود إلى الرومى، فقال له قومه، ننشدك الله ألا تتعرض لهذا العلج، فقال: والله لأخرجن إليه فليقتلنى أو لأقتلنه، فتركوه، فخرج إليه. فلما دنا منه شد عليه وهو شديد الحنق، فاضطربا بسيفيهما، فضربه الأشتر على عاتقه، فقطع ما عليه حتى خالط السيف رئته، ووقعت ضربة الرومى على عاتق الأشتر، فقطعت الدرع ثم انتهت ولم تضره شيئا، ووقع الرومى ميتا، وكبر المسلمون، ثم حملوا على صف رجالة الروم، فجعلوا يتنقضون ويرمون المسلمين وهم من فوق، فما زالوا كذلك حتى أمسوا وحال بينهم الليل، وباتوا ليلتهم يتحارسون. فلما أصبحوا أصبحت الأرض من الروم بلاقع، فارتحل الأشتر منصرفا بأصحابه، ومضى ميسرة فى أثر القوم حتى بلغ مرج القبائل بناحية أنطاكية، والمصيصة، ثم انصرف راجعا، وكان أبو عبيدة حين بلغه أنهم قد أدبروا أشفق عليهم وجزع وندم على إرساله إياهم، قال: فإنه لجالس فى أصحابه مستبطئا لقدومهم متأسفا على تسريحهم، إذ أتى فبشر بقدوم الأشتر، وجاء فحدثه بما كان من أمرهم ولقائهم ذلك الجيش، وهزيمتهم إياه، وما صنع الله لهم، ولم يذكر مبارزة الرومى وقتله إياه حتى أخبره غيره، وسأله عن ميسرة وأصحابه، فأخبروه بالوجه الذى توجه فيه، وأخبره أنه لم يمنعه من التوجه إلا الشفقة على أصحابه، وألا يصابوا بعد ما ظفروا، فقال: قد أحسنت، وما أحب الآن أنك معهم، ولوددت أنهم كانوا معكم. قال: فدعا ناسا من أهل حلب، فقال: اطلبوا إلىّ إنسانا دليلا عالما بالطريق أجعل له جعلا عن أن يتبع آثار هذه الخيل التى بعثتها فى طلب الروم حتى يلحقها، ثم يأمرها بالانصراف إلىّ ساعة يلقاها، فجاؤه بثلاثة رجال، فقالوا: هؤلاء علماء بالطريق جراء عليها أدلاء بها، وهم يخرجون فى آثار خيلك حتى يأتوها بأمرك، فكتب أبو عبيدة إلى ميسرة: أما بعد، فإذا أتاك رسولى هذا فأقبل إلىّ حين تنظر فى كتابى، ولا تعرجن على شىء، فإن سلامة رجل واحد من المسلمين أحب إلىّ من جميع أموال المشركين، والسلام عليك. فأخذوا كتابه، ثم خرجوا به، فاستقبلوا ميسرة حين هبط من الدروب راجعا، وقد عافاه الله وأصحابه وغنمهم وسلمهم، فدفعوا إليه كتاب أبى عبيدة، فلما قرأه قال: جزاه الله من وال على المسلمين خيرا، ما أشفقه وأنصحه، ثم أقبل الرسل فبشروا أبا

عبيدة بسلامتهم وانصرافهم، فحمد الله على ذلك، وأقام حتى قدم عليه ميسرة، وكتب أمانا على الناس من أهل قنسرين، ثم أمر مناديه بالرحيل إلى إيلياء، وقدم خالدا على مقدمته بين يديه، وبعث على حمص حين انتهى إليها حبيب بن سلمة، وأرض قنسرين إذ ذاك مجموعة إلى صاحب حمص، وإنما فتحت قنسرين بعد ذلك فى خلافة يزيد بن معاوية، ثم خرج من حمص ومر بدمشق، فولاها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، ثم خرج حتى مر بالأردن، فنزلها، فعسكر بها، وبعث الرسل إلى أهل إيلياء، وقال: اخرجوا إلىّ أكتب لكم أمانا على أنفسكم وأموالكم، ونفى لكم كما وفينا لغيركم، فتثاقلوا وأبوا، فكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى عبيدة بن الجراح إلى بطارقة أهل إيلياء وسكانها، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله العظيم ورسله، أما بعد، فإنا ندعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فى القبور، فإذا شهدتم بذلك حرمت علينا دماؤكم وأموالكم وكنتم إخواننا فى ديننا، وإن أبيتم فأقروا لنا بإعطاء الجزية وأنتم صاغرون، فإن أبيتم سرت إليكم بقوم، هم أشد للموت حبا منكم لشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ثم لا أرجع عنكم إن شاء الله حتى أقتل مقاتلتكم وأسبى ذراريكم. قال: وكتب إلى عمر بن الخطاب حين أظهره الله على أهل اليرموك وخرج يطلبهم: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، أما بعد، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، والحمد لله الذى أهلك المشركين، ونصر المسلمين، وقديما تولى الله نصرهم، وأظهر فلجهم، وأعز دعوتهم، فتبارك الله رب العالمين. أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله، أنا لقينا الروم فى جموع لم تلق العرب جموعا قط مثلها، فأتوا وهم يرون أن لا غالب لهم من الناس، فقاتلوا المسلمين قتالا شديدا، ما قوتل المسلمون مثله فى موطن قط، ورزق الله المؤمنين الصبر، وأنزل عليهم النصر، فقتلوهم فى كل قرية وكل شعب وواد وسهل وجبل، وغنم المسلمون عسكرهم، وما كان فيه من أموالهم، ومتاعهم، ثم إنى اتبعتهم بالمسلمين حتى بلغنا أقصى بلادهم، وقد بعثت إلى أهل الشام عمالا، وبعثت إلى أهل إيلياء أدعوهم إلى الإسلام، فإن قبلوا وإلا فليؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا سيرت إليهم حتى أنزل بهم، ثم لا

أزايلهم حتى يفتح الله على المسلمين إن شاء الله، والسلام عليك. فكتب إليه عمر رضى الله عنه: من عبد الله بن عمر أمير المؤمنين، إلى أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فقد أتانى كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من إهلاك الله المشركين ونصره المؤمنين، وما صنع لأوليائه وأهل طاعته، فالحمد لله على صنيعه إلينا، ونستتم من الله ذلك بشكره، ثم اعلموا أنكم لم تنصروا على عدوكم بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة، ولكنه بعون الله ونصره ومنه تعالى وفضله، فلله المن والطول والفضل العظيم، فتبارك الله أحسن الخالقين، والحمد لله رب العالمين. فهذه الأحاديث التى أوردها أصحاب فتوح الشام فى كتبهم عن وقعة اليرموك، وقد أوردها غيرهم على صفة تخالف أكثر ما تقدم مساقا وتاريخا، حسب ما يظهر لمن يقف على جميعها، واختلاف الأخبار من جهة النقل أمر مألوف، وإعادة أمثال هذه الآثار التى هى كيف ما وقعت من آيات الإسلام شىء غير مملول. ونحن نذكر من ذلك ما يحسن فى هذا المجموع ذكره، ويليق بالمقصود إيراده إن شاء الله تعالى. فمن ذلك أن ابن إسحاق ذكر أن التقاء المسلمين مع الروم باليرموك كان فى رجب سنة خمس عشرة، وأن الذى لقيهم من الروم هو الصقلار خصى لهرقل، بعثه فى مائة ألف مقاتل أكثرهم من الروم، وسائرهم من أهل أرمينية، ومن المستعربة من غسان وقضاعة، والمسلمون مع أبى عبيدة أربعة وعشرون ألفا، فاقتتل الناس اقتتالا شديدا حتى دخل عسكر المسلمين، وقاتل نساء من قريش بالسيوف حين دخل العسكر حتى سابقن الرجال، وقد كان انضم إلى المسلمين ناس من لخم وجذام، فلما رأوا جد القتال فروا وخذلوا المسلمين، فقال قائل من المسلمين حين رأى ذلك منهم: القوم لخم وجذام فى الهرب ... ونحن والروم بمرج نضطرب وإن يعودوا بعدها لا نصطحب ثم إن الله أنزل نصره، فهزمت الروم وجموع هرقل التى جمع، فأصيب منهم سبعون ألفا، وقتل الله الصقلار وباهان، وكان هرقل قدمه مع الصقلار حين لحق به. وفيما حكاه الطبرى «1» بسنده عن سيف عن شيوخه قالوا: أوعب القواد بالناس نحو الشام، وعكرمة ردء لهم، وبلغ الروم ذلك فكتبوا إلى هرقل، فخرج حتى نزل بحمص،

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 392- 393) .

فأعد لهم الجنود وعبأ العسكر، وأراد أن يشغل بعضهم ببعض لكثرة جنده وفضول رجاله، فأرسل أخاه تذارق إلى عمرو بن العاص فى تسعين ألفا، وبعث جرجة بن توذورا نحو يزيد بن أبى سفيان فعسكر بإزائه، وبعث الدراقص، فاستقبل شرحبيل بن حسنة، وبعث القيقار بن نسطوس فى ستين ألفا نحو أبى عبيدة، فهابهم المسلمون، وجميع فرق المسلمين أحد وعشرون ألفا، سوى ستة آلاف مع عكرمة، ففزعوا جميعا بالكتب والرسل إلى عمر بن الخطاب، يستدعون رأيه، فراسلهم أن الرأى الاجتماع، وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة، وإذا نحن تفرقنا لم يكن الرجل منا فى عدد يقرن به لأحد ممن استقبله، فاتعدوا اليرموك ليجتمعوا فيه، وقد كتبوا إلى أبى بكر بمثل ما كاتبوا به عمر، فطلع عليهم كتابه بمثل ما كاتبهم به عمر سواء، بأن اجتمعوا والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، فإنكم أعوان الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة، وإنما يؤتى العشرة آلاف والزيادة عليها، إذا أتوا من قبل الذنوب، فاحترسوا من الذنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين، وليتصل كل رجل منكم بأصحابه. وبلغ ذلك هرقل، فكتب إلى بطارقته، أن اجتمعوا لهم وانزلوا بالروم منزلا واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب، وعلى الناس التذارق، وعلى المقدمة جرجة، وعلى مجنبتيه باهان والدراقص، وعلى الحرب القيقار، وأبشروا فإن باهان فى الأثر مدد لكم، ففعلوا، فنزلوا الواقوصة، وهى على ضفة اليرموك، وصار الوادى خندقا لهم، وهو لهب «1» لا يدرك، وإنما أراد باهان أن يستبقى الروم ويأنسوا بالمسلمين، وترجع إليهم أفئدتهم، وانتقل المسلمون من معسكرهم الذى اجتمعوا به، فنزلوا عليهم بحذائهم على طريقهم، وليس للروم طريق إلا عليهم. فقال عمرو: أيها الناس، ألا أبشروا، حصرت والله الروم، وقل ما جاء محصور بخير، فأقاموا بإزائهم، وعلى طريقهم ومخرجهم، لا يقدرون من الروم على شىء، ولا يخلصون إليهم اللهب، وهو الواقوصة من ورائهم، والخندق من أمامهم، ولا يخرجون خرجة إلا أذيل المسلمون منهم، وقد استمدوا أبا بكر رحمه الله، وأعلموه الشأن فى صفر، يريد من سنة ثلاث عشرة. وفى حديث آخر لسيف عن أشياخه «2» : أنهم لما استمدوه، قال أبو بكر: خالد لها، وبعث إليه وهو بالعراق فعزم عليه واستحثه فى السير، فنفذ خالد لذلك، وطلع عليهم

_ (1) لهب: اللهب بالكسر، هو الفرجة بين الجبلين. (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 393- 394) .

ففرح به المسلمون، وطلع باهان على الروم فتيمنوا به، ووافق قدوم أحدهما قدوم الآخر، فولى خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم، فهزم خالد باهان، وتتابع الروم على الهزيمة، فاقتحموا خندقهم. وقال راجز من المسلمين فى ذلك: دعوا هرقلا ودعونا الرحمن ... والله قد أخزى جنود باهان بخالد اللج أبى سلميان وحرد المسلمون وحرد المشركون وهم أربعون ومائتا ألف، منهم ثمانون ألف مقيد، ومنهم أربعون ألفا مسلسلون للموت، وأربعون ألفا مربوطون بالعمائم، وثمانون ألف فارس، والمسلمون سبعة وعشرون ألفا ممن كان مقيما إلى أن قدم عليهم خالد فى تسعة آلاف، فصاروا ستة وثلاثين ألفا، وكان قتالهم على تساند كل جند وأميره، لا يجمعهم أحد، حتى قدم عليهم خالد بن الوليد من العراق. وكان عسكر أبى عبيدة باليرموك مجاورا لعسكر عمرو بن العاص، وعسكر شرحبيل ابن حسنة مجاوزا لعسكر يزيد بن أبى سفيان، فكان أبو عبيدة ربما صلى مع عمرو، وشرحبيل مع يزيد، وأما عمرو ويزيد فكانا لا يصليان مع أبى عبيدة وشرحبيل، وقدم خالد بن الوليد وهم على حالهم هذه، فعسكر على حدة، فصلى بأهل العراق. ووافق خالد بن الوليد المسلمين وهم متضايقون بمدد الروم، وعليهم باهان، ووافق الروم وفيهم نشاط بمددهم، فالتقوا فهزمهم الله حتى ألجأهم وأمدادهم إلى الخندق والواقوصة أحد حدوده، فلزموا خندقهم عامة شهر، يحضضهم القسيسون والشمامسة والرهبان، وينعون لهم النصرانية، حتى استنصروا، فخرجوا للقتال الذى لم يكن بعده قتال، فلما أحس المسلمون خروجهم، وأرادوا الخروج متساندين، سار فيهم خالد بن الوليد، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغى فيه العجز ولا البغى. أخلصوا جهادكم، وأريدوا بعملكم الله، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة وأنتم على تساند «1» وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغى، وإن من ورائكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذى ترون أنه يوافق رأى واليكم. قالوا: فما الرأى؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذى كان ويكون، لقد جمعكم. إن الذى أنتم فيه أشد على المسلمين مما غشيهم، وأنفع للمشركين

_ (1) على تساند: أى على رايات شتى متعاونين كأن كل واحد منهم يسند على الآخر ويستعين به.

من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله، قد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان، لا ينقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه أن دانوا له، وأن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله، تهيأوا فإن هؤلاء قوم قد تهيأوا، وهذا يوم له ما بعده، فإن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها، فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد، حتى يتأمر كلكم، ودعونى أليكم اليوم. فأمروه، وهم يرون أنها كخرجاتهم، وأن الأمر أطول مما ساروا إليه، فخرجت الروم فى تعبئة لم ير الراؤون مثلها قط، وخرج خالد فى تعبئة لم تعبها العرب قبل ذلك، خرج فى نحو ستة وثلاثين كردوسا، وقال: إن عدوكم قد كثر وطغى وليس من التعبئة أكثر فى رأى العين من الكراديس، فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وعليها عمرو بن العاص، وفيها شرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس وعليها يزيد بن أبى سفيان، وكان خالد على كردوس، والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدى وعياض بن غنم وهاشم بن عتبة وزياد بن حنظلة وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو وعبد الرحمن بن خالد وهو يومئذ ابن ثمان عشرة سنة، وحبيب ابن مسلمة، وآخرون غيرهم من جلة الصحابة وأشراف الناس وفرسان العرب، كل واحد منهم على كردوس كردوس. وفى حديث آخر «1» أنه شهد اليرموك ألف رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم نحو من مائة رجل من أهل بدر، وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس، فيقول: الله الله، إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار المشركين، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك. وعن عبد الرحمن بن غنم، وكان شهدها، قال: كان أبو سفيان وأشياخ المسلمين محامية لا يجولون ولا يقاتلون، يفىء إليهم الناس، فإذا كانت على الروم قال، وقالوا: هلك بنو الأصفر، اللهم اجعله وجههم، وإذا كانت على المسلمين قال وقالوا: يا بنى الإخوان، أين أين اللهم اردد لهم الكرة. فإذا كروا قالوا: إيه يا بنى الإخوان، وإذا حملوا قالوا: اللهم أعنهم وانصرهم. وفى غير حديث عبد الرحمن «2» : أن رجلا قال يومئذ لخالد: ما أكثر الروم وأقل

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 397) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 398) .

المسلمين فقال خالد: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر برىء من توجيه، وإنهم أضعفوا فى العدد، وكان فرسه قد حفى فى مسيره، وجعل خالد يوم اليرموك على الطلائع قباث بن أشيم، وكان القارئ يومذاك المقداد. قالوا: ومن السنة التى سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء، وهى سورة الأنفال، ولم يزل الناس بعد على ذلك. ولما فرغ خالد من تعبئتهم وزحف إليه المشركون، أمر عكرمة والقعقاع وكانا على مجنبتى القلب، فأنشبا القتال، فنشب، والتحم الناس، وتطارد الفرسان، فإنهم لعلى ذلك إذ قدم البريد من المدينة، وهو محمية بن زنيم، فأخذته الخيول وسألوه الخبر، فلم يخبرهم إلا بسلامه، وأخبرهم عن أمداد تأتيهم، وإنما جاء بموت أبى بكر وتأمير أبى عبيدة، فأبلغوا خالدا، فأسر إليه الخبر، وأخبره بما قال للجند، فقال له: أحسنت، فقف، وأخذ الكتاب فجعله فى كنانته، وخاف إن هو أظهر ذلك أن ينتشر أمر الجند، فوقف الرسول مع خالد، وخرج جرجة أحد أمراء الروم يومئذ، حتى إذا كان بين الصفين نادى: ليخرج إلى خالد، فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة مكانه، فواقفه بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما، وقد أمن أحدهما صاحبه، فقال له جرجة: يا خالد، اصدقنى ولا تكذبنى، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعنى فإن الكريم لا يخادع، بالله هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمته؟ قال: لا، قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم فدعانا، فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه، فكنت فيمن كذبه وباعده، وقاتله، ثم أخذ الله تعالى بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وتابعناه، فقال: أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين، ودعا لىّ بالنصر، فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشد الناس على المشركين، قال: صدقتنى. ثم أعاد عليه جرجة: يا خالد، أخبرنى إلام تدعون؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله، قال: فمن لم يجبكم؟ قال: الجزية، ونمنعهم قال: فإن لم يعطها؟ قال: نؤذنه بحرب، ثم نقاتله، قال: فما منزلة الذى يدخل فى دينكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا، ثم أعاد عليه جرجة: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد، مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم، وأفضل. قال: وكيف يساويكم وقد

سبقتموه؟ قال: إنا دخلنا فى هذا الأمر وتابعنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حى بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالغيب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويتابع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل فى هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا، قال جرجة: صدقتنى بالله ولم تخادعنى ولم تألنى، قال: بالله لقد صدقتك وما لى إليك ولا إلى أحد منكم حاجة، وإن الله لولى ما سألت عنه، قال: صدقتنى، وقلب الترس، ومال مع خالد، وقال: علمنى الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة ثم صلى به ركعتين، وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها حيلة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم، فركب خالد ومعه جرجة، والروم خلال المسلمين، فتنادى المسلمون، فثابوا، وتزاحفت الروم إلى مواقفهم فزحف بهم خالد حتى تصافحوا بالسيوف، فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، ثم أصيب جرجة، ولم يصل صلاة يسجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما، وصلى مع الناس: الأولى والعصر إيماء، وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب، حتى كان بين خيلهم ورجلهم، وكان مقاتلهم واسع المطرد، ضيق المهب، فلما وجدت خيلهم مذهبا ذهبت وتركوا رحلهم فى مصافهم، وخرجت خيلهم تشتد بهم فى الصحراء وأخر الناس الصلاة حتى صلوا بعد الفتح. ولما رأى المسلمون خيل الروم توجهت للهرب، أفرجوا لها ولم يحرجوها، فذهبت فتفرقت فى البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرحل فقضوهم، فكأنما هدم بهم حائط، فاقتحموا فى خندقهم، فاقتحموه عليهم، فعمدوا إلى الواقوصة، فهوى فيها المقترنون وغيرهم، ومن صبر من المقترنين هوى به من جشأت نفسه، فهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه، كلما هوى اثنان كان البقية أضعف، حتى تهافت فى الواقوصة عشرون ومائة ألف: من المقترنين ثمانون ألفا، ومن المطلقين أربعون ألفا، سوى من قتل فى المعركة من الخيل والرجل، وتجلل القيقار وأشراف من أشراف الروم برانسهم، ثم جلسوا وقالوا: لا نحب أن نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور، وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية، فأصيبوا فى تزملهم. ولما دخل خالد الخندق، نزله وأحاطت به خيله، وقاتل الناس حتى أصبحوا، قال بعضهم: وأصبح خالد من تلك الليلة وهو فى رواق تذارق.

وقال عكرمة بن أبى جهل يومئذ «1» : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل موطن، وأفر منكم اليوم، ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور فى أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا وماتوا، إلا من برأ، منهم ضرار بن الأزور، وأتى خالد بعد ما أصبحوا بعكرمة جريحا، فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة، فوضع رأسه على ساقيه، وجعل يمسح عن وجوههما ويقطر الماء فى حلوقهما، ويقول: كلا، زعم ابن حنتمة أنا لا نستشهد. وأصيبت يومئذ عين أبى سفيان بن حرب، وكان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية، فخرج يومئذ، رجل من الروم، فقال: من يبارز، فخرج إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقال للرومى: خذها وأنا الغلام النخعى، فقال الرومى: أكثر الله فى قومى مثلك، أما والله لولا أنك من قومى لذدت عن الروم، فأما الآن فلا أعينهم. وفى حديث عبد الرحمن بن غنم، وذكر قتال المسلمين تلك الليلة، قال: حتى إذا فتح الله على المسلمين من آخر الليل، وقتلوهم حتى الصباح، أصبحوا فاقتسموا الغنائم، ودفنوا قتلى المسلمين، وبلغوا ثلاثة آلاف، وصلى كل أمير على قتلى أصحابه، ودفع خالد بن الوليد العهد إلى أبى عبيدة بعد ما فرغ من القسم، ودفن الشهداء، وتراجع الطلب، فولى أبو عبيدة، رحمه الله النفل من الأخماس، فنفل وأكثر. وكتب بالفتح. قالوا «2» : وكان فى الثلاثة آلاف الذين أصيبوا: عكرمة وابنه عمرو، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأثبت خالد بن سعيد، فلا يدرى أين مات بعد، وقد تقدم ذكر موت خالد فى غير هذه الوقعة، وهذا مما يقع بين الناقلين من الاختلاف الذى تقدم التنبيه عليه، فالله تعالى أعلم. وعن عمرو بن ميمون وغيره، ذكروا: أن هرقل كان حج بيت المقدس، قال: فبينا هو يقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه، فجمع الروم وقال: أرى من الرأى أن لا تقاتلوا هؤلاء القوم وأن تصالحوهم، فو الله لئن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفا وتقر لكم جبال الروم خير لكم من أن يغلبوكم على الشام ويشاركوكم فى جبال الروم، فنخر أخوه وختنه، وتصدع عنه من كان حوله، فلما رآهم يعصونه ويردون عليه

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 401) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 402) .

بعث أخاه، وأمر الأمراء، ووجه إلى كل حيز جندا، فلما اجتمع المسلمون أمرهم، يعنى الروم، بمنزل جامع حصين، فنزلوا الواقوصة، وخرج هو فنزل حمص، فلما بلغه أن خالدا قد طلع على سوى وانتسف أهله وأموالهم وعمد إلى بصرى وافتتحها، قال لجلسائه: ألم أقل لكم لا تقاتلوهم، فإنه لا يقوم لهم أحد، فقالوا: قاتل عن دينك واقض الذى عليك ولا تجبن الناس، قال: وأى شىء أطلب إلا توقير دينكم. ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك، بعثوا إلى الروم: إنا نريد كلام أميركم وملاقاته، فدعونا نأته ونكلمه، فأبلغوه، فأذن لهم. فأتاه أبو عبيدة ويزيد بن أبى سفيان كالرسل، والحارث بن هشام، وضرار بن الأزور، وأبو جندل بن سهيل، ومع أخى هرقل يومئذ ثلاثون سرادقا كلها من ديباج، فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها، وقالوا: لا نستحل الحرير، فابرز لنا، فبرز إلى فرش ممهدة، وبلغ ذلك هرقل، فقال: ألم أقل لكم، هذا أول الذل، أما الشام فلا شام، ويل للروم من الولد المشئوم، ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح، فرجع أبو عبيدة وأصحابه، واتعدوا، فكان القتال حتى جاء الفتح «1» . قصة صلح إيلياء وقدوم عمر رضى الله عنه الشام وكان أبو عبيدة رحمه الله، بعد انقضاء اليرموك، على ما وقع فى كتب فتوح الشام من ذلك «2» ، قد بعث الرسل إلى أهل إيلياء يطلبهم بالخروج إليه ليكتب لهم أمانا على أنفسهم وأموالهم، فتثاقلوا عليه، فكتب إليهم يعرض عليهم الإسلام أو الجزية، أو ينزل بهم حتى يحكم الله له عليهم، وقد أوردنا هذا الكتاب بنصه قبل، فلما أبوا أن يأتوه وأن يصالحوه، أقبل إليهم حتى نزل بهم، فحاصرهم حصارا شديدا، وضيق عليهم من كل جانب، فخرجوا إليه ذات يوم، فقاتلوهم ساعة، ثم شد عليهم المسلمون فانهزموا ودخلوا حصنهم، وكان الذى ولى قتالهم خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان، كل واحد منهما فى جانب فبلغ ذلك سعيد بن زيد وهو على دمشق، فكتب إلى أبى عبيدة: أما بعد، فإنى لعمرى ما كنت لأوثرك وأصحابك بالجهاد فى سبيل الله على نفسى، وعلى ما يقربنى من مرضاة ربى، فإذا أتاك كتابى هذا فابعث إلى عملك من هو أرغب فيه منى، فليعمل لك عليه ما بدا لك، فإنى قادم عليك وشيكا إن شاء الله، والسلام عليك.

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 403) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام (242- 250) .

فلما وصل كتابه إلى أبى عبيدة، قال: أشهد ليفعلنها، فقال ليزيد بن أبى سفيان: اكفنى دمشق، فسار إليها يزيد فوليها. وكان فى المسلمين رجل من بنى نمير يقال له مخيمس بن حابس بن معاوية، وكان شجاعا، وكان الناس يذكرون منه صلاحا، فقده أصحابه أياما، فكانوا يطلبونه ويسألون عنه فلا يخبرون عنه بشىء، فلما يئسوا منه ظنوا أن قد هلك، وأنه اغتيل، فبينا هم جلوس ذات يوم إذ طلع عليهم مقبلا فى يده ورقتان لم ينظر الناس إلى مثلهما قط أنضر، ولا أعرض عرضا، ولا أطول طولا، ولا أحسن منظرا، ولا أطيب رائحة، ففرح به أصحابه فرحا شديدا، وقالوا له: أين كنت؟ قال: وقعت فى جب فمضيت فيه حتى انتهيت إلى جنة معروشة، فيها من كل شىء، ولم تر عينى مثل ما فيها قط فى مكان، ولم أظن أن الله خلق مثلها، فلبثت فيها هذه الأيام التى فقدتمونى، فى نعيم ليس مثله نعيم، وفى منظر ليس مثله منظر، وفى رائحة لم يجد أحد من الناس قط، أطيب منها، فبينا أنا كذلك، أتانى آت فأخذ بيدى فأخرجنى منها إليكم، وقد كنت أخذت هاتين الورقتين من شجرة كنت تحتها جالسا، فبقيتا فى يدى، فأخذ الناس يشمونهما فيجدون لهما ريحا لم يجدوا لشىء قط أطيب منها، فأهل الشام يزعمون أنه أدخل الجنة وأن تينك الورقتين من ورقها، ويقولون: إن الخلفاء رفعتهما فى الخزانة. ولما رأى أهل إيلياء أن أبا عبيدة غير مقلع عنهم، وظنوا أن لا طاقة لهم بحربه، قالوا: نحن نصالحك، قال: فإنى أقبل منكم الصلح، قالوا: فأرسل إلى خليفتكم عمر، فيكون هو الذى يعطينا العهد، ويكتب لنا الأمان، فقبل ذلك أبو عبيدة، وهم بالكتاب، وكان لا يقطع أمرا دون رأى معاذ، وكان معاذ لا يكاد يفارقه، لرغبته فى الجهاد، فأرسل إليه أبو عبيدة، وكان بعثه إلى الأردن، فلما قدم عليه أخبره، فقال له معاذ: تكتب إلى أمير المؤمنين فتسأله القدوم عليك، فلعله أن يستقدم، ثم يأبى هؤلاء الصلح فيكون سيره عناء وفضلا، فلا تكتب إليه حتى تستحلفهم بأيمانهم المغلظة: لئن: أنت سألته القدوم فقدم عليهم فأعطاهم الأمان وكتب لهم الصلح ليقبلن ذلك وليصالحن عليه، فأخذ عليهم أبو عبيدة الأيمان المغلظة لئن عمر قدم فأعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وكتب لهم على ذلك كتابا ليقبلن وليؤدن الجزية وليدخلن فيما دخل فيه أهل الشام، فلما فعلوا ذلك كتب إليه أبو عبيدة: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد: فإنا أقمنا على إيلياء، وظنوا أن

لهم فى المطاولة فرجا ورجاء، فلم يزدهم الله بها إلا ضيقا ونقصا وهزلا وأزلا، فلما رأوا ذلك سألونا أن نعطيهم ما كانوا قبل منه ممتنعين، وله كارهين، وسألونا الصلح على أن يقدم عليهم أمير المؤمنين، فيكون هو المؤمن لهم والكاتب لهم كتابا، وإنا خشينا أن يقدم أمير المؤمنين ثم يغدر القوم ويرجعوا، فيكون مسيرك، أصلحك الله، عناء وفضلا، فأخذنا عليهم المواثيق المغلظة بأيمانهم، لئن أنت قدمت عليهم فامنتهم على أنفسهم وأموالهم ليقبلن ذلك وليؤدن الجزية، وليدخلن فيما دخل فيه أهل الذمة، ففعلوا، فإن رأيت يا أمير المؤمنين أن تقدم علينا فافعل، فإن فى مسيرك أجرا وصلاحا وعافية للمسلمين، آتاك الله رشدك، ويسر أمرك، والسلام عليك. فلما أتى عمر رحمه الله، كتاب أبى عبيدة، جمع رؤس المسلمين، فقرأه عليهم واستشارهم فقال له عثمان: إن الله قد أذلهم وحصرهم وضيق عليهم، وأراهم ما صنع بجموعهم وملوكهم، وما قتل من صناديدهم، وفتح على المسلمين من بلادهم، فهم فى كل يوم يزدادون هزلا وأزلا وذلا ونقصا وضيقا ورغما، فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم علموا أنك بأمرهم مستخف، ولشأنهم محتقر، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى ينزلوا على الحكم، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإلا حاصرهم المسلمون وضيقوا عليهم حتى يعطوا بأيديهم. فقال عمر: ماذا ترون؟ هل عند أحد منكم غير هذا الرأى؟. فقال على بن أبى طالب: نعم، يا أمير المؤمنين، عندى غير هذا. فقال: ما هو؟. قال: إنهم يا أمير المؤمنين قد سألوك المنزلة التى لهم فيها الذل والصغار، وهى على المسلمين فتح ولهم عز، وهم يعطونكها الآن عاجلا فى عافية، ليس بينك وبين ذلك إلا أن تقدم عليهم، ولك يا أمير المؤمنين فى القدوم عليهم الأجر فى كل ظمأ وكل مخمصة وفى قطع كل واد وفى كل فج وشعب وفى كل نفقة تنفقها حتى تقدم عليهم، فإن قدمت عليهم كان فى قدومك عليهم الأمن والعافية والصلح، والفتح، ولست آمن لو أنهم يئسوا من قبولك الصلح ومن قدومك عليهم أن يتمسكوا بحصنهم، ولعلهم أن يأتيهم من عدونا مدد لهم فيدخلوا معهم فى حصنهم، فيدخل على المسلمين من حربهم وجهادهم بلاء ومشقة، ويطول بهم الحصار، ويقيم المسلمون عليهم، فيصيب المسلمين من الجهد والجوع نحو ما يصيبهم، ولعل المسلمين يدنون من حصنهم فيرمونهم بالنشاب ويقذفونهم بالحجارة، فإن قتل رجل من المسلمين تمنيتم أنكم فديتموه بمسيركم إلى منقطع الترب، ولكان المسلم بذلك من إخوانه أهلا. فقال عمر: قد أحسن عثمان فى مكيدة العدو، وقد أحسن على النظر لأهل الإسلام.

ثم قال: سيروا على اسم الله، فإنى معسكر وسائر. ثم خرج ومعه أشراف الناس وبيوتات العرب والمهاجرون والأنصار، وأخرج معه العباس بن عبد المطلب. وعن أبى سعيد المقبرى «1» أن عمر رحمه الله، كان فى مسيره ذلك يجلس لأصحابه إذا صلى الغداة، فيقبل عليهم بوجهه، ثم يقول: الحمد لله الذى أعزنا بالإسلام والإيمان، وأكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهدانا به من الضلالة، وجمعنا من الفرقة، وألف بين قلوبنا، ونصرنا به على الأعداء، ومكن لنا فى البلاد، وجعلنا به إخوانا متحابين، فاحمدوا الله على هذه النعم وسلوه المزيد فيها، والشكر عليها، وتمام ما أصبحتم تتقلبون فيه منها، فإن الله عز وجل، يريد الرغبة إليه، ويتم نعمته على الشاكرين. قال: فكان عمر رضى الله عنه، لا يدع هذا القول كل غداة، فى مبتدئه ومرجعه. وعن أبى سعيد الخدرى أن عمر رحمه الله، مضى فى وجهه ذلك حتى انتهى إلى الجابية، فقام فى الناس فقال: الحمد لله الحميد، المستحمد الدفاع المجيد، الغفور الودود، الذى من أراد أن يهديه من عباده اهتدى، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: 17] . قال: وإذا رجل من القسيسين من النصارى عندهم، وعليه جبة صوف، فلما قال عمر رضى الله عنه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ قال النصرانى: وأنا أشهد، فقال عمر: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً، فنفض النصرانى جبته عن صدره، ثم قال: معاذ الله، لا يضل الله أحدا يريد الهدى، فقال عمر: ماذا يقول عدوه الله، هذا النصرانى؟ فأخبروه، فرفع عمر صوته، وعاد فى خطبته بمثل مقالته الأولى، ففعل النصرانى كفعله الأول، فغضب عمر رضى الله عنه، وقال: والله لئن أعادها لأضربن عنقه، ففهمها العلج فسكت، إذ عاد عمر فى خطبته وقال: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، ثم قال: أما بعد، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خيار أمتى الذين يلونكم، ثم الذين تلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولم يستشهد عليها، وحتى يحلف على اليمين ولم يسألها، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ولا يبالى بشذوذ من شذ، وذكر بقية الحديث «2» .

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (250- 251) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام (151) وما بعدها.

قال: ثم خرج عمر رحمه الله، من الجابية إلى إيلياء، فخرج إليه المسلمون يستقبلونه، وخرج أبو عبيدة بالناس أجمعين، وأقبل هو على جمل له، وعليه رحله، وعليه صفة من جلد كبش حولى، فانتهى إلى مخاضة، فأقبلوا يبتدرونه، فقال للمسلمين: مكانكم، ثم نزل عن بعيره، فأخذ بزمانه وهو من ليف، ثم دخل الماء بين يدى جمله، حتى جاز الماء إلى أصحاب أبى عبيدة، فإذا معهم برذون يجنبونه، فقال له: يا أمير المؤمنين، اركب هذا البرذون، فإنه أجمل بك وأهون عليك فى ركوبك، ولا نحب أن يراك أهل الذمة فى مثل هذه الهيئة التى نراك فيها، واستقبلوه بثياب بيض، فنزل عمر عن جمله وركب البرذون، وترك الثياب، فلما هملج به البرذون، نزل عنه، وقال: خذوا هذا عنى، فإنه شيطان، وأخاف أن يغير على قلبى، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو لبست هذه الثياب البيض، وركبت هذا البرذون لكان أجمل فى المروءة وأحسن فى الذكر وخيرا فى الجهاد. فقال عمر رضى الله عنه: ويحكم، لا تعتزوا بغير ما أعزكم الله به فتذلوا، ثم مضى ومضى المسلمون معه حتى أتى إيلياء، فنزل بها، فأتاه رجال من المسلمين فيهم أبو الأعور السلمى، وقد لبسوا لباس الروم، وتشبهوا بهم فى هيئتهم، فقال عمر: احثوا فى وجوههم التراب، حتى يرجعوا إلى هيئتنا وسنتنا ولباسنا، وكانوا قد أظهروا شيئا من الديباج، فأمر بهم فحرق عليهم. وفى غير هذا الحديث مما ذكره سيف «1» : أن خالد بن الوليد لقى عمر عند مقدمة الجابية فى الخيل، عليهم الديباج والحرير، فنزل، وأخذ الحجارة فرماهم بها، وقال: سرعان ما لفتم عن رأيكم، إياى تستقبلون فى هذا الزى، وإنما شبعتم منذ سنتين، سرعان ما نزت بكم البطنة، وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنها يلامقة، وإن علينا السلاح، قال: فنعم إذا. وفى حديث أبى سعيد الخدرى «2» ، فقال يزيد بن أبى سفيان: يا أمير المؤمنين، إن الثياب والدواب عندنا كثيرة، والعيش عندنا رفيع، والسعر رخيص، وحال المسلمين كما تحب، فلو أنك لبست من هذه الثياب البيض وركبت من هذه الدواب الفره، وأطعمت المسلمين من هذا الطعام الكثير، كان أبعد الصوت، وأزين لك فى هذا الأمر، وأعظم لك فى الأعاجم. فقال له: يا يزيد لا والله لا أدع الهيئة التى فارقت عليها صاحبى، ولا أتزين للناس بما أخاف أن يشيننى عند ربى، ولا أريد أن يعظم أمرى عند الناس ويصغر عند الله.

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 607) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام (253) .

فلم يزل عمر رحمه الله، على الأمر الأول الذى كان عليه فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياة أبى بكر، رضى الله عنه، حتى خرج من الدنيا. قال: فلما نزل عمر بإيلياء واطمأن الناس، بعث أبو عبيدة إلى أهل إيلياء، أن انزلوا إلى أمير المؤمنين، واستوثقوا لأنفسكم، فنزل إليه ابن الجعيد فى ناس من عظمائهم، فكتب لهم عمر كتاب الأمان والصلح، فلما قبضوا كتابهم وأمنوا، دخل الناس بعضهم فى بعض، ولم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزار عمر، فيصنع له ويسأله أن يزوره فى رحله، فيفعل ذلك عمر، إكراما لهم، غير أبى عبيدة، فإنه لم يستزره، فقال له عمر: إنه لم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزارنى غيرك، فقال: أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، إنى أخاف إن استزرتك أن تعصر عينيك، فأتاه عمر فى بيته، فإذا ليس فى بيته إلا لبد فرسه، وإذا هو فراشه وسرجه وإذا هو وسادته، وإذا كسر يابسة فى كوة بيته، فجاء بها، فوضعها على الأرض بين يديه، وأتى بملح جريش، وكوز خزف فيه ماء. فلما نظر عمر إلى ذلك بكى، ثم التزمه وقال: أنت أخى، وما من أحد من أصحابى إلا وقد نال من الدنيا ونالت منه، غيرك؟ فقال له أبو عبيدة: ألم أخبرك أنك ستعصر فى بيتى عينيك. قال: ثم إن عمر قام فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أهل الإسلام، إن الله قد صدقكم الوعد، ونصركم على الأعداء، وأورثكم البلاد، ومكن لكم فى الأرض، فلا يكن جزاء ربكم إلا الشكر، وإياكم والعمل بالمعاصى، فإن العمل بالمعاصى كفر للنعم، وقل ما كفر قوم بما أنعم الله عليهم، ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم وسلط عليهم عدوهم. ثم نزل، وحضرت الصلاة، فقال عمر رضى الله عنه: يا بلال، ألا تؤذن لنا رحمك الله، فقال بلال: يا أمير المؤمنين، أما والله ما أردت أن أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سأطيعك اليوم إذ أمرتنى فى هذه الصلاة وحدها. فلما أذن بلال وسمعت الصحابة صوته، ذكروا نبيهم صلى الله عليه وسلم فبكوا بكاء شديدا، ولم يكن يومئذ أحد أطول بكاء من أبى عبيدة ومعاذ بن جبل، حتى قال لهما عمر: حسبكما رحمكما الله، فلما قضى عمر صلاته، قام إليه بلال فقال: يا أمير المؤمنين، إن أمراء أجنادك بالشام والله ما يأكلون إلا لحوم الطير، والخبز النقى، وما يجد ذلك عامة المسلمين. فقال لهم عمر: ما يقول بلال؟ فقال يزيد بن أبى سفيان: يا أمير المؤمنين، إن سعر

بلادنا رخيص، وإنا نصيب هذا الذى ذكر بلال هاهنا بمثل ما كنا نقوت به عيالنا بالحجاز، فقال عمر: والله لا أبرح العرصة أبدا حتى تضمنوا لى أرزاق المسلمين فى كل شهر، ثم قال: انظروا، كم يكفى الرجل ويسعه فى كل يوم، فقالوا: كذا وكذا، فقال: كم يكون ذلك فى الشهر، قالوا: جريبين من قمح مع ما يصلحه من الزيت والخل عند رأس كل هلال، فضمنوا له ذلك، ثم قال: يا معشر المسلمين، هذا لكم سوى أعطياتكم، فإن وفا لكم أمراؤكم بهذا الذى فرضته لكم وأعطوكموه فى كل شهر، فذلك ما أحب، وإن هم لم يفعلوا، فأعلمونى حتى أعزلهم عنكم، وأولى أمركم غيرهم، فلم يزل ذلك جاريا دهرا حتى قطع بعد ذلك. وعن شهر بن حوشب «1» : أن إسلام كعب الحبر وهو من اليمن من حمير، كان فى قدوم عمر الشام، وأن كعبا أخبره بأمره، وكيف كان ذلك. قال: وكان أبوه من مؤمنى أهل التوراة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من عظمائهم وخيارهم. قال كعب: وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة، وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عنى شيئا مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعانى فقال: يا بنى قد علمت أنى لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم، إلا أنى حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبى يبعث، وقد أظل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتى أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه، وقد قطعتهما من كتابك وجعلتهما فى هذه الكوة التى ترى، وطينت عليهما، فلا تتعرضن لهما ولا تنظر فيهما زمانك هذا، وأقرهما فى موضعهما حتى يخرج ذلك النبى، فإذا خرج فاتبعه، وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بذلك خيرا. فلما مات والدى لم يكن شىء أحب إلىّ من أن ينقضى المأتم حتى أنظر فى الورقتين، فلما انقضى المأتم فتحت الكوة، ثم استخرجت الورقتين، فإذا فيهما: محمد رسول الله، خاتم النبيين، لا نبى بعده، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمادون، الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال، وتذلل ألسنتهم بالتكبير، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء،

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (259- 262) .

ويأتزرون على أوساطهم، وأناجيلهم فى صدورهم، ويأكلون قربانهم فى بطونهم، ويؤخرون عليها، وتراحمهم بينهم تراحم بنى الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون المقربون المشفعون المشفع لهم، فلما قرأت هذا قلت فى نفسى: والله ما علمنى أبى شيئا هو خير لى من هذا، فمكثت بذلك ما شاء الله، حتى بعث النبى صلى الله عليه وسلم وبينى وبينه بلاد بعيدة، منقطعة، لا أقدر على إتيانه، وبلغنى أنه خرج فى مكة، وهو يظهر مرة ويستخفى مرة، فقلت: هو هذا، وتخوفت ما كان والدى حذرنى وخوفنى من الكذابين، وجعلت أحب أتبين وأتثبت، فلم أزل بذلك حتى بلغنى أنه قد أتى المدينة، فقلت فى نفسى: إنى لأرجو أن يكون إياه، وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يقدر لى حتى بلغنى أنه قد توفى صلوات الله عليه وسلامه. فقلت فى نفسى: لعله لم يكن الذى كنت أظن، ثم بلغنى أن خليفته قام مقامه، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده، فقلت فى نفسى: لا أدخل فى هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم وإلى ما تكون عاقبتهم، فلم أزل أدفع ذلك وأؤخر لأتبين وأتثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب، فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء، علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر، فحدثت نفسى بالدخول فى الإسلام، فو الله إنى ذات ليلة فوق سطح لى، إذا رجل من المسلمين يتلو كتاب الله تعالى، حتى أتى على هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: 47] . قال: فلما سمعت هذه الآية خشيت والله ألا أصبح حتى يحول وجهى فى قفاى، فما كان شىء أحب إلىّ من الصباح، فغدوت على عمر، فأسلمت حين أصبحت. وقال كعب لعمر عند انصرافه عن الشام: يا أمير المؤمنين، إنه مكتوب فى كتاب الله: إن هذه البلاد التى كان فيها بنو إسرائيل، وكانوا أهلها، مفتوحة على رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وعلانيته مثل سره، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد عنده فى الحق سواء، وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون. فقال له عمر: ثكلتك أمك، أحق ما تقول؟ قال: أى والذى أنزل التوراة على موسى، والذى يسمع ما نقول، إنه لحق.

فقال عمر رضى الله عنه: فالحمد لله الذى أعزنا وشرفنا وأكرمنا فرحمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبرحمته التى وسعت كل شىء. ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه، وهو عندنا بالإسناد: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، خرج زمان الجاهلية مع أناس من قريش فى تجارة إلى الشام، قال: فإنى لفى سوق من أسواقها، إذا ببطريق قد قبض على عنقى، فذهبت أنازعه، فقيل لى: لا تفعل، فإنه لا نصف لك منه، فأدخلنى كنيسة، فإذا تراب عظيم ملقى، فجاءنى بزنبيل ومجرفة، فقال: انقل ما هاهنا، فجعلت أنظر كيف أصنع، فلما كان فى الهاجرة وافانى وعليه ثوب أرى سائر جسده منه، فقال: أئنك على ما أرى ما نقلت شيئا، ثم جمع يديه فضرب بهما دماغى، فقلت: واثكل أمك يا عمر، أبلغت ما أرى، ثم وثبت إلى المجرفة، فضربت بها هامته، فنثرت دماغه، ثم واريته فى التراب، وخرجت على وجهى، لا أدرى أين أسير، فسرت بقية يومى وليلتى ومن الغد إلى الهاجرة، فانتهيت إلى دير، فاستظللت بفنائه، فخرج إلىّ منه رجل، فقال لى: يا عبد الله، ما يقعدك هنا؟ فقلت: أضللت أصحابى، فقال لى: ما أنت على طريق، وإنك لتنظر بعينى خائف، فادخل وأصب من الطعام، واسترح، فدخلت فأتانى بطعام وشراب، وألطفنى، ثم صعد فى النظر وصوبه، فقال: قد علم أهل الكتاب أو الكتب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب أو الكتب منى، وإنى لأرى صفتك، الصفة التى تخرجنا من هذا الدير، وتغلبنا عليه، فقلت له: يا هذا، لقد ذهبت فى غير مذهب. فقال لى: ما اسمك؟ فقلت: عمر بن الخطاب، قال: أنت والله صاحبنا، فاكتب لى على ديرى هذا وما فيه، فقلت: يا هذا، إنك قد صنعت إلىّ صنيعة فلا تكدرها، فقال: إنما هو كتاب فى رق، فإن كنت صاحبنا فذاك، وإلا لم يضرك شىء، فكتبت له على ديره وما فيه، فأتانى بثياب ودراهم، فدفعها إلىّ، ثم أوكف أتانا، فقال: أتراها؟ قلت: نعم، قال: سر عليها، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة، فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إلىّ، قال: فركبتها، فكان كما قال، حتى لحقت أصحابى وهم متوجهون إلى الحجاز، فضربتها مدبرة وانطلقت معهم، فلما وافى عمر الشام فى خلافته، جاءه ذلك الراهب بالكتاب، وهو صاحب دير العدس، فلما رآه عرفه، ثم قال: قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه، ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه، فلما فرغ منه، أقبل على الراهب، فقال: هل عندكم من نفع للمسلمين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فوفى له عمر رضى الله عنه.

وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله «1» ، قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء، والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء. وعند سيف فى أمر إيلياء أحاديث ربما خالفت بعض ما تقدم، ونحن نورد منها ما يطيل الإمتاع مضموما إلى ذلك ما ذكره من أمر قيسارية وغيره. فمن ذلك «2» : أن عمر رحمه الله، كتب إلى يزيد بن أبى سفيان بعد مصالحة أهل الأردن، واجتماع عسكر الروم بأجنادين وبيسان وغزة: أن يسرح معاوية إلى قيسارية. وكتب عمر إلى معاوية: أما بعد، فإنى قد وليتك قيسارية، فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا، نعم المولى ونعم النصير. فسار معاوية فى جنده حتى نزل على أهل قيسارية، فهزمهم وحصرهم، ثم إنهم جعلوا يزاحفونه فلا يزاحفونه فى مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم، ثم زاحفوه آخر ذلك وخرجوا من صياصيهم، فاقتتلوا فى حفيظة واستماتة، فبلغ قتلاهم فى المعركة ثمانين ألفا، وكملها فى هزيمتهم مائة ألف، وبعث بالفتح مع رجلين من بنى الضبيب، ثم خاف منهما الضعف، فبعث آخرين بعدهما، فلحقاهما، فطوياهما وهما نائمان، وانتهى بريد معاوية إلى عمر بالخبر ليلا، فجمع الناس وأباتهم على الفرح، وجعل معاوية قبل الفتح وبعده يجلس الأسرى عنده ويقول: ما صنعوا بأسرانا صنعنا بأسراهم مثله، فمنع بذلك من العبث بأسرى المسلمين، حتى افتتح قيسارية. وكان عمر لما أمر معاوية بالتوجه إلى قيسارية، أمر عمرو بن العاص بصدم الأرطبون وكان على جمع الروم بأجنادين، وأمر علقمة بن مجزز بصدم القيقار، وكان على الروم بغزة، فلما توجه معاوية إلى قيسارية صدم عمرو بن العاص، إلى الأرطبون ومن بإزائه، وخرج معه شرحبيل بن حسنة على مقدمته، وولى مجنبتيه ابنه عبد الله بن عمرو وجنادة ابن تميم من بنى مالك بن كنانة، واستخلف أبا الأعور على الأردن، وخرج حتى نزل على الروم بأجنادين، وهم فى حصونهم وخنادقهم، وعليهم الأرطبون، وكان أدهى الروم، وأبعدها غورا وأنكاها فعلا، وكان وضع بالرملة جندا عظيما، وبإيلياء جندا

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 608) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 604) .

عظيما، وكتب عمرو بالخبر إلى عمر، فلما جاءه كتابه قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عم تنفرج. وأقام عمرو على أجنادين، لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل، فولى ذلك بنفسه، وتوجه فدخل عليه، كأنه رسول، فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه حتى عرف ما أراد، وتأمل حصونه، فقال أرطبون فى نفسه: والله إن هذا لعمرو، أو إنه للذى يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله، ثم دعا حرسيا فساره، فقال: اخرج فقم بمكان كذا فإذا مر بك فاقتله، وفطن له عمرو، فقال له: قد سمعت منى وسمعت منك، وقد وقع ما قلت منى موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالى لنكانفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن رأوا مثل الذى أرى فقد رآه أهل العسكر ورآه الأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك. قال: نعم، ودعا فلانا فساره، وقال: اذهب إلى فلان، يعنى ذلك الحرسى، فرده إلىّ، فرجع إليه الرجل، وقال لعمرو: انطلق فجئ بأصحابك، فخرج عمرو ورأى أن لا يعود لمثلها، وعلم الرومى أنه خدعه فقال: هذا أدهى الخلق، وبلغت عمر فقال: غلبه عمرو «1» . ثم ناهده عمرو وقد عرف مأخذه، فالتقوا بأجنادين، فاقتتلوا قتالا شديدا كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم، ثم انهزم أرطبون فى الناس، فأوى إلى إيلياء، ونزل عمرو أجنادين وانطلق علقمة بن مجزز فحصر القيقار بغزة، وجعل يراسله فلم يشفه أحد مما يريد، فأتاه كأنه رسول علقمة، فأمر القيقار رجلا أن يقعد له بالطريق، فإذا مر قتله، ففطن علقمة، فقال: إن معى نفرا شركائى فى الرأى، فأنطلق فآتيك بهم، فبعث إلى ذلك الرجل أن لا يعرض لعلقمة، فخرج من عنده ولم يعد، كما فعل عمرو بالأرطبون. ولما أتى أرطبون إيلياء، أفرج له المسلمون حتى دخلها، ثم أزالهم إلى أجنادين، وكتب إلى عمرو: بأنك صديقى ونظيرى، أنت فى قومك مثلى فى قومى، والله لا تفتتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين، فارجع فلا تغر فتلقى ما لقى الذين قبلك من الهزيمة، فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية، فأرسله إلى أرطبون، وأمره أن يتنكر ويقرب ويستمع ما يقول، حتى يخبره به إذا رجع، وكتب إلى أرطبون: جاءنى كتابك، وأنت نظيرى، ومثلى فى قومك، لو أخطأتك خصلة تجاهلت

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 604- 606) .

فضيلتى، وقد علمت أنى صاحب فتح هذه البلاد، وأستعدى عليك فلانا وفلانا وفلانا لوزرائه، فأقرئهم كتابى، ولينظروا فيما بينى وبينك. فخرج الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون، فدفع إليه الكتاب، بمشهد من أولئك النفر، فاقترأه، فضحكوا وتعجبوا، وأقبلوا على أرطبون، فقالوا: من أين علمت أنه ليس بصاحبها؟ قال: صاحبها رجل اسمه عمر، ثلاثة أحرف، فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر. وكتب إلى عمر يستمده، ويقول: إنى أعالج حربا كئودا، وبلادا ادخرت لك، فرأيك. فلما جاء عمر الكتاب، علم أن عمرا لم يقل إلا بعلم، فنادى فى الناس، ثم خرج بهم حتى نزل الجابية. وعن عدى بن سهل قال «1» : لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين، استخلف عليا، وخرج ممدا لهم، فقال على: أين تخرج بنفسك؟ إنك تريد عدوا كلبا، فقال: إنى أبادر بجهاد العدو موت العباس، إنكم لو فقدتم العباس لانتقض لكم الشر انتقاض الجبل. قالوا: وجميع ما خرج عمر إلى الشام أربع مرات، أما الأولى فعلى فرس، وأما الثانية فعلى بعير، وأما الثالثة فقصر به عنها استعار الطاعون، وأما الرابعة فدخلها على حمار، فاستخلف عليها وخرج، وفتحت إيلياء وأرضها كلها فى ربيع الآخر سنة ست عشرة على يدى عمر بن الخطاب ما خلا أجنادين، على يدى عمرو، وقيسارية على يدى معاوية. وعن سالم بن عبد الله: أن أهل إيلياء أشجوا عمر وأشجاهم، ولم يقدر عليها ولا على الرملة، قال: فبينا عمر معسكرا بالجابية، فزع الناس إلى السلاح، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: ألا ترى الخيل والسيوف؟ فنظر، فإذا كردوس يلمعون بالسيوف، فقال عمر: مستأمنة فلا تراعوا وأمنوهم، وإذا هم أهل إيلياء، فصالحوه على الجزية، وفتحوا له إيلياء، واكتتبوا منه عليها، وعلى حيزها، والرملة وحيزها فصارت فلسطين نصفين، نصفا مع أهل إيلياء ونصفا مع أهل الرملة، وفلسطين تعدل الشام كله، وهى عشر كور من غير هذا الحديث المتقدم. وهو مما ذكره سيف أيضا «2» أن عمر رضى الله عنه، فرق فلسطين على رجلين فجعل علقمة بن حكيم على نصفها وأنزله الرملة، وعلقمة بن مجزز على نصفها وأنزله إيلياء،

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 608) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 610) .

ونزل كل واحد منهما فى عمله فى الجنود التى كانت معه، وكان سالم بن عبد الله فى الجنود التى كانت مع عمرو، وضم عمرا وشرحبيل إليه بالجابية، فلما انتهيا إليها وافقا عمر رضى الله عنه، راكبا، فقبلا ركبته، وضم عمر كل واحد منهما واحتضنه. وعن غير سالم «1» : أن عمر رضى الله عنه، لما بعث بأمان أهل إيلياء، وأسكنها الجند شخص إلى بيت المقدس من الجابية فرأى فرسه يتوجى فنزل عنه وأتى ببرذون فركبه فهزه، فنزل فضرب وجهه بردائه، ثم قال: قبح الله من علمك هذا، ثم دعا بفرسه بعد ما أجمه أياما يوقحه، فركب، ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس، وفى رواية أنه قال للبرذون: لا علم الله من علمك هذا من الخيلاء، ولم يركب برذونا قبله ولا بعده. وعن أبى مريم مولى سلامة قال: شهدت فتح إيلياء مع عمر رضى الله عنه، فسار من الجابية فاصلا حتى يقدم إيلياء، ثم مضى حتى يدخل المسجد، ثم مضى نحو محراب داود، ونحن معه، فدخله، ثم قرأ سجدة داود فسجد وسجدنا معه. وقال يزيد بن حنظلة يذكر بعض ما تقدم «2» : تذكرت حرب الروم لما تطاولت ... وإذ نحن فى عام كثير نوازله وإذ نحن فى أرض الحجاز وبيننا ... مسيرة شهر بينهن بلابله وإذ أرطبون الروم يحمى بلاده ... يحاوله قرم هناك يساجله فلما رأى الفاروق أزمان فتحها ... سما بجنود الله كيما يصاوله فلما أحسوه وخافوا صياله ... أتوه وقالوا أنت ممن نواصله وألقت إليه الشأم أفلاذ بطنها ... وعيشا خصيبا ما تعد مآكله أباح لنا ما بين شرق ومغرب ... مواريث أعقاب بنتها قرامله وكم مثقل لم يضطلع باحتماله ... تحمل عبئا حين شالت شوائله وقال أيضا: وقد عضلت بالشأم أرض بأهلها ... تريد من الأقوام ما كان ألحدا سما عمر لما أتته رسائل ... كأصيد يحمى صرمة الحى أغيدا فلما أتاه ما أتاه أجابهم ... بجيش ترى منه السنابك سجدا وأقبلت الشام العريضة بالذى ... أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا

_ (1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 610) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 612) .

فقسط فيما بينهم كل جزية ... وكل رفاد كان أهنى وأحمد قال صاحب فتوح الشام «1» : ثم إن عمر رضى الله عنه، خرج من الشام مقبلا إلى المدينة، فلما دنا منها استقبله الناس يهنئونه بالنصر والفتح، فجاء حتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين عند المنبر، ثم صعد المنبر، واجتمع الناس إليه، فقام، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبى محمد صلى الله عليه وسلم وقال: يا أيها الناس، إن الله قد اصطنع عند هذه الأمة أن يحمدوه ويشكروه، وقد أعز دعوتها وجمع كلمتها، وأظهر فلجها، ونصرها على الأعداء، وشرفها ومكن لها فى الأرض، وأورثها بلاد المشركين وديارهم وأموالهم، فأحدثوا لله عز وجل شكرا يزدكم، واحمدوه على نعمه عليكم يدمها لكم، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين. ثم نزل. قال: فمكث المسلمون بالشام عليها أبو عبيدة بن الجراح، ومكث فيها بعد خروج عمر منها ثلاث سنين، ثم توفى رحمه الله، فى طاعون عمواس، وكان طاعونا عم أهل الشام، ومات فيه بشر كثير، وكانت وفاة أبى عبيدة بالأردن، وبها قبره، ولما طعن رحمه الله، دعا المسلمين، فدخلوا عليه، فقال لهم: إنى موصيكم بوصية، فإن قبلتموها لم تزالوا بخير ما بقيتم، وبعد ما تهلكون: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا، وتصدقوا، وحجوا واعتمروا، وتواصلوا وتحابوا، واصدقوا أمراءكم، ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مثل مصرعى هذا الذى ترون، إن الله قد كتب الموت على بنى آدم، فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده. ثم قال لمعاذ بن جبل: يا معاذ، صل بالناس، فصلى معاذ بهم، ومات أبو عبيدة، رحمة الله عليه ومغفرته ورضوانه، فقام معاذ فى الناس فقال: يا أيها الناس، توبوا إلى الله توبة نصوحا، فإن عبدا إن يلق الله تائبا من ذنبه كان حقا على الله أن يغفر له ذنوبه، ومن كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مصارما مسلما فليلقه فيصالحه، إذا لقيه، وليصافحه، فإنه لا ينبغى لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام، والذنب فى ذلك عظيم عند الله، وإنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل، والله ما أزعم أنى رأيت منكم عبدا من عباد الله قط أقل غمرا، ولا أبرأ صدرا، ولا أبعد من الغائلة، ولا أنصح للعامة، ولا أشد عليهم تحننا وشفقة منه، فترحموا عليه، ثم احضروا الصلاة عليه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والله لا يلى عليكم مثله أبدا.

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (266- 267) .

فاجتمع الناس، وأخرج أبو عبيدة، فتقدم معاذ فصلى عليه، حتى إذا أتى به قبره، دخل قبره معاذ وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس، فلما سفوا عليه التراب، قال معاذ: رحمك الله أبا عبيدة، فو الله لأثنين عليه بما علمت، والله لا أقولها باطلا، وأخاف أن يلحقنى من الله مقت، كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيرا، ومن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، ومن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما، ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما، وكنت والله ما علمت من المخبتين المتواضعين، ومن الذين يرحمون اليتيم والمسكين، ويبغضون الجفاة المتكبرين. ولم يكن أحد من الناس أشد جزعا على فقد أبى عبيدة من معاذ، ولا أطول حزنا عليه من معاذ. قال: ثم صلى معاذ بالناس أياما، واشتد الطاعون، وكثر الموت فى الناس، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال: يا أيها الناس، إن هذا الطاعون هو الرجز الذى عذب الله به بنى إسرائيل مع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وأمر الناس بالفرار منه. فأخبر معاذ بقول عمرو، فقال: ما أراد إلى أن يقول ما لا علم له به، ثم جاء معاذ حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الوباء، فقال: ليس كما قال عمرو، ولكنه رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، اللهم أعط معاذا وآل معاذ منه النصيب الأوفر، ثم صلى ورجع إلى منزله، فإذا هو بابنه عبد الرحمن قد طعن، فلما رآه قال: يا أبت، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، قال: يا بنى، ستجدنى إن شاء الله من الصابرين، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات يرحمه الله، وصلى عليه معاذ، ودفنه. فلما رجع معاذ إلى منزله طعن، فاشتد به وجعه، وجعل أصحابه يختلفون إليه فإذا أتوه أقبل عليهم فقال لهم: اعملوا وأنتم فى مهلة وحياة وفى بقية من آجالكم، من قبل أن تمنوا العمل فلا تجدوا إليه سبيلا، وأنفقوا مما عندكم من قبل أن تهلكوا وتدعوا ذلك ميراثا لمن بعدكم، واعلموا أنه ليس لكم من أموالكم إلا ما أكلتم وشربتم ولبستم وأنفقتم فأعطيتم فأمضيتم، وما سوى ذلك فللوارثين، فلما اشتد به وجعه جعل يقول: رب اخنقنى خنقك، فأشهد أنك تعلم أنى أحبك. قال: وأتاه رجل فى مرضه، فقال له: يا معاذ، علمنى شيئا، ينفعنى الله به قبل أن

أفارقك، فلا أراك ولا ترانى، ولا أجد منك خلفا، ثم لعلى أحتاج إلى سؤال الناس عما ينفعنى بعدك فلا أجد فيهم مثلك، فقال له معاذ: كلا، إن صالحاء المسلمين والحمد لله كثير، ولن يضيع الله أهل هذا الدين، ثم قال له: خذ عنى ما آمرك به، كن من الصائمين بالنهار، ومن المصلين فى جوف الليل، ومن المستغفرين بالأسحار، ومن الذاكرين الله كثيرا على كل حال، ولا تشرب الخمر، ولا تزنى، ولا تعق والديك، ولا تأكل مال اليتيم ولا تفر من الزحف، ولا تأكل الربا، ولا تدع الصلاة المكتوبة، ولا تضيع الزكاة المفروضة، وصل رحمك، وكن بالمؤمنين رحيما، ولا تظلم مسلما، وحج واعتمر، وجاهد، ثم أنا لك زعيم بالجنة. ولما حضر معاذا الموت قال لجاريته: ويحك، انظرى، هل أصبحنا؟ فنظرت، فقالت: لا، ثم تركها ساعة، ثم قال لها: انظرى، فنظرت فقالت: نعم، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، ثم قال: مرحبا بالموت، مرحبا بزائر جاء على فاقة لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أنى لم أكن أحب البقاء فى الدنيا لجرى الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكننى كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، وطول الساعات فى النهار، ولظمأ الهواجر، فى الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب فى حلق الذكر. فلما اقترب أمره جاء عبد الله بن الديلمى، فقال له: يرحمك الله يا معاذ، لعلنا لا نلتقى نحن ولا أنت أبدا، فقال معاذ: أجلسونى، فأجلسوه، وجلس رجل خلف ظهره، ووضع معاذ ظهره فى صدر الرجل، ثم قال: بئس ساعة الكذب هذه، حدثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فكنت أكتمكموه مخافة أن تتكلوا، فأما الآن فإنى لا أكتمكموه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه لا يموت عبد من عباد الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من القبور، ويؤمن بالرسل وما جاءت به أنه حق، ويؤمن بالجنة والنار، إلا أدخله الله الجنة وحرمه على النار. ثم مات معاذ من ساعته يرحمه الله، واستخلف عمرو بن العاص، فصلى عليه عمرو، ودخل قبره، فوضعه فى لحده، ودخل معه رجال من المسلمين، فلما خرج عمرو من قبره، قال: رحمك الله يا معاذ، فقد كنت ما علمناك من نصحاء المسلمين ومن خيارهم، وكنت مؤدبا للجاهل، شديدا على الفاجر، رحيما بالمؤمنين، وايم الله لا يستخلف من بعدك مثلك، عمرو بن العاص.

وكان مهلكه ومهلك أبى عبيدة رحمهما الله، سنة ثمان عشرة، وقد كان معاذ لما هلك أبو عبيدة كتب إلى عمر ينعاه: أما بعد، فاحتسب امرأ كان لله أمينا، وكان الله فى نفسه عظيما، وكان علينا وعليك يا أمير المؤمنين عزيزا، أبا عبيدة بن الجراح، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله نحتسبه، وبالله نثق له، كتبت إليك وقد فشا الموت، وهذا الوباء فى الناس، ولن يخطئ أحد أجله، ومن لم يمت فسيموت، جعل الله ما عنده خيرا لنا من الدنيا وإن أبقانا أو هلكنا فجزاك الله عن جماعة المسلمين وعن خاصتنا وعامتنا رحمته ومغفرته ورضوانه وجنته، والسلام عليك ورحمة الله. قال: فو الله ما هو إلا أن أتى عمر الكتاب فقرأه حتى بكى بكاء شديدا، ونعى أبا عبيدة إلى جلسائه، فما رأيت جماعة المسلمين جزعوا على رجل منهم جزعهم على أبى عبيدة، ثم ما مضى لذلك إلا أيام حتى جاء كتاب عمرو بن العاص ينعى فيه معاذ بن جبل يرحمه الله، فلما أتت عمر وفاة هذا على أثر أبى عبيدة جزع عليه جزعا شديدا، وبكى عمر والمسلمون، وحزنوا عليه حزنا عظيما، وقال عمر رضى الله عنه: رحم الله معاذا، والله لقد رفع الله بهلاكه من هذه الأمة علما جما، ولرب مشورة له صالحة قد قبلناها منه، ورأيناها أدت إلى خير وبركة، ورب علم أفادناه، وخير دلنا عليه، جزاه الله جزاء الصالحين. وفرق عمر عند ذلك كور الشام، فبعث عبد الله بن قرط الثمالى على حمص، وعزل عنها حبيب بن مسلمة، واستعمل على دمشق أبا الدرداء الأنصارى، واستعمل يزيد بن أبى سفيان على الجنود التى كانت بالشام، ثم وجد عمر على عبد الله بن قرط بعد أن عمل له على حمص سنة فعزله عنها، وبعث حين عزله عبادة بن الصامت أميرا عليها، وقد كان بدريا عقبيا نقيبا، ثم رضى بعد ذلك عن عبد الله بن قرط، فرده على حمص. ولما قدم عبادة بن الصامت على أهل حمص، قام فى الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما بعد، ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، ألا وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، ألا وإنكم معروضون على أعمالكم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7] ، ألا وإن للدنيا بنين، وإن للآخرة بنين، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها بنوها يوم القيامة.

ثم قال لشداد بن أوس: قم يا شداد، فعظ الناس، وكان شداد مفوها قد أعطى لسانا وحكمة وفضلا وبيانا، فقام شداد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، راجعوا كتاب الله وإن تركه كثير من الناس، فإنكم لم تروا من الخير إلا أسبابه، ولا من الشر إلا أسبابه، وإن الله جمع الخير كله بحذافيره، فجعله فى الجنة، وجمع الشر كله بحذافيره، فجعله فى النار، ألا وإن الجنة حفت بالكره والصبر، ألا وإن النار حفت بالهوى والشهوة، ألا فمن كشف حجاب الكره والصبر أشفى على الجنة، ومن أشفى على الجنة كان من أهلها، ألا ومن كشف حجاب الهوى والشهوة أشفى على النار، ومن أفى على النار كان من أهلها، ألا فاعملوا بالحق تنزلوا منازل أهل الحق، يوم لا يقضى إلا بالحق. وقام أبو الدرداء فى أهل دمشق خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما بعد، يا أهل دمشق، فاسمعوا مقالة أخ لكم ناصح، ما بالكم تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، وقد كان من قبلكم جمعوا كثيرا، وبنوا مشيدا، وأملوا بعيدا، وماتوا قريبا، فأصبحت أموالهم بورا، ومساكنهم قبورا وآمالهم غرورا، ألا وإن عادا وثمود وقد كانوا ملأوا ما بين بصرى وعدن أموالا وأولادا ونعما، فمن يشترى منى ما تركوا بدرهمين. ذكر ما وعدنا به قبل من سياقة فتح قيسارية حيث ذكرها أصحاب فتوح الشام خلافا لما أوردناه قبل ذلك عن سيف بن عمر، مما لا يوافق هذا مساقا ولا زمانا، حسب ما يوقف عليه فى الموضعين إن شاء الله تعالى ذكروا «1» أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، كتب إلى يزيد بن أبى سفيان بعد مهلك أبى عبيدة ومعاذ بن جبل رحمهما الله: أما بعد، فقد وليتك أجناد الشام كله، وكتبت إليهم أن يسمعوا لك ويطيعوا، وأن لا يخالفوا لك أمرا، فاخرج، فعسكر بالمسلمين، ثم سر بهم إلى قيسارية، فانزل عليها، ثم لا تفارقها حتى يفتحها الله عليك، فإنه لا ينفعنى افتتاح ما افتتحتم من أرض الشام مع

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (276- 283) .

مقام أهل قيسارية فيها، وهم عدو لكم، إلى جانبكم، وإنه لا يزال قيصر طامعا فى الشام ما بقى فيها أحد من أهل طاعته ممتنعا، ولو قد افتتحتموها قطع الله رجاءه من جميع الشام، والله فاعل ذلك وصانع به للمسلمين، إن شاء الله تعالى. فخرج يزيد، فعسكر بالمسلمين، وجاءه كتاب من عمر بنسخة واحدة إلى أمراء الأجناد: أما بعد، فقد وليت يزيد بن أبى سفيان أجناد الشام كله، وأمرته أن يسير إلى قيسارية، فلا تعصوا له أمرا، ولا تخالفوا له رأيا، والسلام. وكتب يزيد إلى أمراء الأجناد نسخة واحدة: أما بعد، فإنى قد ضربت على الناس بعثا، أريد أن أسير بهم إلى قيسارية، فاخرجوا من كل ثلاثة رجلا، وعجلوا إشخاصهم إلى إن شاء الله، والسلام. فلم يمكث إلا قليلا حتى توافت عنده عساكر الأجناد كلها، فلما اجتمعوا عنده قام يزيد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن كتاب أمير المؤمنين عمر المبارك الفاروق، أتانى يحثنى على المسير إلى قيسارية، وأن أدعوهم إلى الإسلام، أو يدخلوا فيما دخل فيه أهل الكور من أهل الشام، فيؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا نزلت عليهم، فلم أزايلهم حتى أقتل مقاتلتهم، وأسبى ذراريهم، فسيروا رحمكم الله إليهم، فإنى أرجو أن يجمع الله لكم الغنيمة فى الدنيا والأجر فى الآخرة. ثم قال للناس: ارتحلوا، ووجه إلى حبيب بن مسلمة أن سر فى المقدمة، فقد جعلتك عليها، ثم امض حتى تنزل بأهل قيسارية، فإنى أسرع شىء فى أثرك لحاقا بك. فمضى حبيب فى جماعة عظيمة من المسلمين إلى قيسارية، وبها جموع من بطارقة الروم وفرسانهم وأشدائهم، وكل من كان كره الدخول فى دين الإسلام من النصارى، ومن كان كره الجزية، ومن بقى من أهل تلك المواطن التى كانوا يقاتلون المسلمين من الروم، فكانت بها جموع كثيرة، وحد وجد شديد، فلما أقبل حبيب فى المقدمة ودنا من الحصن، خرج إليه من قيسارية فرسان ورجال، فنضحوهم بالنشاب، وحملت خيلهم على المسلمين، فانحاز حبيب وخيله، حتى انتهى إلى يزيد، فنزل يزيد وجعل على ميمنته عبادة بن الصامت، وعلى الميسرة الضحاك بن قيس، ورد حبيبا على الخيل، ومشى يزيد

فى الرجال، فحمل عليهم، فاقتتلوا طويلا قتالا شديدا، ثم بعث إلى الضحاك: أن احمل على ميمنتهم، فحمل عليهم، فهزمهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وبعث إلى عبادة بن الصامت، أن أحمل على ميسرتهم، فحمل عليهم، فثبتوا له، فقاتلهم طويلا، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم تحاجزوا، وانصرف عبادة إلى موقفه، فحرض أصحابه ووعظهم، ثم قال: يا أهل الإسلام، إنى كنت أحدث النقباء سنا، وأبعدهم أجلا، وقد قضى الله أن أبقانى حتى قاتلت هذا العدو معكم، وإنى أسأل الله أن يرينى وإياكم أحسن ثواب المجاهدين، والله الذى نفسى بيده ما حملت قط فى عصابة من المؤمنين على جماعة من المشركين إلا خلوا لنا العرصة، وأعطانا الله عليهم الظفر غيركم، فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم. وإن عمر لما بلغه شدة قتال أهل اليرموك لكم قال: سبحان الله، أو قد واقفوهم، ما أظن المسلمين إلا قد غلوا، ولو لم يغلوا ما واقفوهم، ولظفروا بغير مئونة، والله إنى خائف عليكم خصلتين: أن تكونوا قد غللتم، أو لم تناصحوا الله فى حملتكم عليهم، فشدوا عليهم يرحمكم الله معى إذا شددت، فلا والله لا أرجع إلى موقفى هذا إن شاء الله ولا أزايلهم حتى يهزمهم الله أو أموت دونهم، ثم حمل عليهم، وحملت معه الميمنة على ميسرة الروم، فصبروا لهم حتى تطاعنوا بالرماح، واضطربوا بالسيوف، واختلفت أعناق الخيل، فلما رأى ذلك عبادة ترجل، ثم نادى عمير بن سعد الأنصارى فى المسلمين: يا أهل الإسلام إن عبادة بن الصامت سيد المسلمين، وصاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل وترجل، فالكرة الكرة إلى رحمة الله والجنة، واتقوا عواقب الفرار، فإنها تقود إلى النار. وأقبل المسلمون إلى عبادة وهو يجالدهم، وقد كانوا أحاطوا به، فحمل عليهم، فقصف بعضهم على بعض، فأزالوهم عن موقفهم، ثم شدوا عليهم، وحمل حبيب بن مسلمة على من يليه منهم، ثم حمل يزيد بن أبى سفيان بجماعة المسلمين عليهم، فانهزموا انهزاما شديدا، ووضع المسلمون سلاحهم وسيوفهم حيث أحبوا منهم، وأتبعوهم يقتلونهم كيف شاؤا، حتى حجزوهم فى حصنهم، وقد قتلوا من رؤسائهم وبطارقتهم وفرسانهم مقتلة عظيمة، ثم أقاموا عليهم فحصروهم وقطعوا عنهم المادة، وضيقوا عليهم، وحاصروهم أشد الحصار، فلما طال عليهم البلاء تلاوموا، وقال بعضهم لبعض: اخرجوا بنا إليهم نقاتلهم حتى نظفر بهم أو نموت كراما، فاستعدوا فى مدينتهم، وخرجوا على تعبئتهم، والمسلمون غارون لا يشعرون ولا يعلمون أنه يخرجون إليهم،

وقد كانوا أذلوهم وأجحروهم وضيقوا عليهم حتى جهدوا، وظنوا أنهم أوهن أمرا، وأضعف من أن يخرجوا عليهم، فما راع المسلمين إلا وأهل قيسارية يضاربونهم بالسيوف بأجمعهم إلى جانب عسكرهم، فجال المسلمون جولة منكرة. ثم إن يزيد خرج مسرعا يمشى اليهم، حتى إذا دنا منهم جالدهم طويلا، وتتامت إليه خيل المسلمين ورجالتهم، وخرج المسلمون على راياتهم وصفوفهم، فلما كثروا عنده أمر الخيل فحملت عليهم، ونهض بالرجال فى وجوههم، ثم حمل هو عليهم فانهزموا انهزاما قبيحا شديدا، وقتلهم المسلمون قتلا ذريعا، وركب بعضهم بعضا، فبعض دخل المدينة، وبعض ذهبوا على وجوههم فلم يدخلوها، وقتل الله منهم فى المعركة نحوا من خمسة آلاف، فلما رأى يزيد ما أنزل الله بهم من الخزى والقتل، وما صيرهم إليهم من الذل، قال لمعاوية: أقم عليها حتى يفتحها الله، وانصرف يزيد عنها. فلم يلبث معاوية عليها إلا يسيرا حتى فتحها الله على يديه، وذلك سنة تسع عشرة، وكانت هى وجلولاء فى سنة واحدة، وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، لأنه لم يبق بالشام فى أقصاها وأدناها عدو حينئذ، وقد نفى الله المشركين عنها، وصار الشام كله فى أيدى المسلمين. وكتب يزيد إلى عمر: أما بعد، فإن رأى أمير المؤمنين لأهل الشام كان رأيا أرشده الله وأرشد به من أخذ به، وبارك له ولأهل طاعته فيه، وإنى أخبر أمير المؤمنين أنا التقينا نحن وأهل قيسارية غير مرة، وكل ذلك يجعل الله جدهم الأسفل، وكدهم الأخسر، ويجعل لنا عليهم الظفر، فلما رأوا أن الله قد أذهب ريحهم، وأذلهم وأنزل عليهم الصغار والهوان، وقتل صناديدهم وفرسانهم وملوكهم لزموا حصنهم، وانحجزوا فى مدينتهم، فأطلنا حصارهم، وقطعنا موادهم، وميرتهم، وضيقنا أشد التضييق عليهم، فلما جهدوا هزلا وأزلا، فتحها الله علينا، والحمد لله رب العالمين. فكتب إليه عمر، رحمه الله: أما بعد، فقد أتانى كتابك، وسمعت ما ذكرت فيه من الفتح على المسلمين، والحمد لله رب العالمين، فاشكروا الله يزدكم ويتم نعمته عليكم، وإن الله قد كفاكم مؤنة عدوكم، وبسط لكم فى الرزق، ومكن لكم فى البلاد، وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ، والسلام عليك. فلما أتى يزيد هذا الكتاب، قرأه على المسلمين، فحمدوا الله على ما أنعم عليهم،

واصطنع عندهم، وأقبل يزيد حتى نزل دمشق، فلم يلبث إلا سنة حتى هلك رضى الله عنه، وذلك فى سنة تسع عشرة، والشام كله مستقيم أمره، ليس به عدو للمسلمين. وكان يزيد رحمه الله، شريفا فاضلا حليما عاقلا رقيقا، حسن السيرة، محببا فى المسلمين، ولما ثقل رحمه الله وأشرف على الموت استخلف أخاه معاوية على الشام، وكتب إلى عمر، رضى الله عنه: أما بعد، فإنى كتبت إليك كتابى هذا وإنى أظن أنى فى أول يوم من الآخرة، وآخر يوم من الدنيا، فجزاك الله عنا، وعن جميع المسلمين خيرا، وجعل جناته لنا ولك مآبا ومصيرا، فابعث إلى عملك بالشام من أحببت، فأما أنا فقد استخلفت عليهم معاوية بن أبى سفيان. فلما أتى عمر كتابه مع خبر موته، جزع عليه جزعا شديدا، وكتب إلى معاوية بولايته على الشام، ويقال: إنه لما ورد البريد بموت يزيد على عمر كان أبوه أبو سفيان عنده، فقال له عمر لما قرأ الكتاب بموت يزيد: أحسن الله عزاءك فى يزيد، ورحمه، فقال له أبو سفيان: من وليت مكانه يا أمير المؤمنين؟ قال: أخاه معاوية، قال: وصلتك رحم يا أمير المؤمنين. فأقام معاوية على الشام أربع سنين، بقية خلافة عمر، ثم أقره عليها عثمان اثنتى عشرة سنة، مدة خلافته، ثم كان منه بعد وفاة عثمان رضى الله عنه، ما هو معلوم «1» . ذكر فتح مصر «2» ذكر ابن عبد الحكم «3» عمن سمى من شيوخه أنه لما قدم عمر، رضى الله عنه، الجابية «4» خلا به عمرو بن العاص، فاستأذنه فى المسير إلى مصر، وكان عمرو قد دخلها فى الجاهلية وعرف طرقها ورأى كثرة من فيها. وكان سبب دخوله إياها أنه كان قدم بيت المقدس لتجارة فى نفر من قريش، وكانت رعية إبلهم نوبا بينهم، فبينا عمرو يرعاها فى نوبته إذ مر به شماس من شمامسة

_ (1) انظر: تاريخ فتوح الشام (276- 283) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (4/ 104- 112) ، البداية والنهاية (7/ 107- 110) ، الكامل (2/ 405- 408) . (3) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 53- 192) . (4) كان ذلك سنة ثمانى عشرة من الهجرة.

الروم، من أهل الإسكندرية، كان قدم للصلاة فى بيت المقدس وللسياحة فى جبالها، فوقف على عمرو فاستسقاه وقد أصابه عطش شديد فى يوم شديد الحر، فسقاه عمرو من قربة له، فشرب حتى روى، ونام الشماس مكانه، وكانت إلى جنبه حيث نام حفرة، فخرجت منها حية عظيمة، فبصر بها عمرو، فنزع لها بسهم فقتلها، فلما استيقظ الشماس ونظر إلى الحية سأل عمرا عنها، فأخبره أنه رماها فقتلها، فأقبل الشماس فقبل رأسه، وقال: قد أحيانى الله بك مرتين، مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية، فما أقدمك هذه البلاد؟ قال: قدمت مع أصحاب لى نطلب الفضل فى تجارتنا، فقال له الشماس: وكم تراك ترجو أن تصيب فى تجارتك؟ قال: رجائى أن أصيب ما اشترى به بعيرا، فإنى لا أملك إلا بعيرين، فأملى أن أصيب بعيرا ثالثا، فقال له الشماس: كم الدية فيكم؟ قال: مائة من الإبل، قال الشماس لسنا أصحاب إبل، إنما نحن أصحاب دنانير. قال: تكون ألف دينار، فقال له الشماس: إنى رجل غريب فى هذه البلاد، وإنما قدمت أصلى فى كنيسة بيت المقدس، وأسيح فى هذه الجبال شهرا، جعلت ذلك نذرا على نفسى، وقد قضيت ذلك، وأنا أريد الرجوع إلى بلادى، فهل لك أن تتبعنى إلى بلادى، ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين لأن الله عز وجل، أحيانى بك مرتين؟ فقال له عمرو: وأين بلادك؟ قال: مصر، فى مدينة يقال لها: الإسكندرية، فقال له عمرو: لا أعرفها، ولم أدخلها قط، فقال له الشماس: لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها، فقال عمرو: وتفى لى بما تقول؟ فقال له الشماس: نعم، لك علىّ العهد والميثاق أن أفى لك، وأن أردك إلى أصحابك، فقال عمرو: كم يكون مكثى فى ذلك؟ قال: شهرا تنطلق معى ذاهبا عشرا، وتقيم عندنا عشرا وترجع فى عشر، ولك علىّ أن أحفظك ذاهبا، وأن أبعث معك من يحفظك راجعا، فقال له عمرو: أنظرنى حتى أشاور أصحابى. فانطلق عمرو إلى أصحابه، فأخبرهم بما عاهده عليه الشماس، وقال لهم: أقيموا علىّ حتى أرجع إليكم ولكم علىّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك، على أن يصحبنى رجل منكم آنس به، فقالوا: نعم، وبعثوا معه رجلا منهم. فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس إلى مصر، حتى انتهى إلى الإسكندرية، فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال ما أعجبه، ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها وجودة بنائها، وكثرة أهلها، وما بها من الأموال، فازداد عجبا.

ووافق دخول الإسكندرية عيدا فيها عظيما، يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم، ولهم أكرة من ذهب مكللة يترامى بها ملوكهم ويتلقونها بأكمامهم، وفيما اختبروا منها على ما وضعها من مضى منهم أنه من وقعت فى كمه واستقرت فيه لم يمت حتى يملكهم. وأكرم الشماس عمرا الإكرام كله، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه، وجلس معه فى ذلك المجلس مع الناس حيث يترامون بالأكرة وهم يتلقونها بأكمامهم، فرمى بها رجل منهم، فأقبلت تهوى حتى وقعت فى كم عمرو، فعجبوا من ذلك، وقالوا: ما كذبتنا هذه الأكرة قط إلا هذه المرة، أترى هذا الأعرابى يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا. وإن ذلك الشماس مشى فى أهل الإسكندرية، وأعلمهم بأن عمرا أحياه مرتين، وأنه ضمن له ألفى دينار، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم، ففعلوا ودفعوها إلى عمرو، فانطلق هو وصاحبه، وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا، وزودهما وأكرمهما، حتى رجعا إلى أصحابهما، فدفع إليهم عمرو فيما بينهم ألف دينار، وأمسك لنفسه ألفا. قال: فكان أول مال اعتقدته وتأثلته. فبذلك ما عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى فيها ما علم به أنها أفضل البلاد وأكثره مالا. فلما قدم عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، الجابية خلا به عمرو، وقال: يا أمير المؤمنين إيذن لى فأسير إلى أرض مصر، فإنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم، وهى أكثر الأرضين أموالا، وأعجزه عن القتال، فتخوف عمر وكره ذلك، فلم يزل عمرو بن العاص يعظم أمرها فى نفسه ويخبره بحالها، ويهون عليه فتحها، حتى ركن لذلك عمر، فعقد له على أربعة آلاف رجل، كلهم من عك، وقال: سيروا وأنا مستخير الله فى مسيرك، وسيأتيك كتابى سريعا، فإن لحقك كتابى آمرك فيه بالانصراف فانصرف، وإن دخلتها قبل أن يأتيك كتابى ثم جاءك فامض لوجهتك، واستعن بالله فاستنصره. فمضى عمرو من جوف الليل، ولم يشعر به أحد من الناس، واستخار عمر ربه، فكأنه تخوف على المسلمين فى وجههم ذلك، فكتب إلى عمرو بن العاص: أن انصرف بمن معك من المسلمين إن أدركك كتابى قبل أن تدخل مصر، فأدرك الكتاب عمرا وهو برفح، فتخوف إن هو أخذه فقرأه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول، وسار كما هو حتى مر بقرية صغيرة فيما بين رفح والعريش، فسأل

عنها، فقيل: إنها من مصر، فدعا بالكتاب فقرأه، فإذا فيه: أن انصرف بمن معك من المسلمين، فقال لمن حوله: ألستم تعلمون أن هذه من مصر؟ قالوا: بلى، قال: فإن أمير المؤمنين عهد إلىّ وأمرنى إن لحقنى كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقنى كتابه حتى دخلت أرض مصر، فسيروا على بركة الله. ويقال: بل كان عمرو بن العاص بفلسطين، فتقدم فى أصحابه إلى مصر بغير إذن، فكتب إليه عمر ينكر ذلك عليه، فجاءه كتابه وهو دون العريش، عريش مصر، فلم يقرأ الكتاب حتى بلغ العريش فقرأه، فإذا فيه: من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، أما بعد، فإنك سرت إلى مصر بمن معك، وبها جموع الروم، وإنما معك نفر يسير، ولعمرى لو كانوا ثكل أمك ما سرت بهم، فإن لم تكن بلغت مصر فارجع. فقال عمرو: الحمد لله، أية أرض هذه؟ قالوا: من مصر، فتقدم كما هو. ويقال: بل كان عمرو فى جنده على قيسارية مع كل من كان بها من أجناد المسلمين، وعمر بن الخطاب إذ ذاك بالجابية، فكتب سرا واستأذن إلى مصر، وأمر أصحابه فتنحوا كالقوم الذين يريدون أن يتجولوا من منزل إلى منزل قريب، ثم سار بهم ليلا، فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذى فعل، ورأوا أنه قد غرر، فرفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فكتب إليه عمر: «أما بعد، فإنك قد غررت بمن معك، فإن أدركك كتابى ولم تدخل مصر فارجع، وإن أدركك كتابى وقد دخلت فامض، واعلم أنى ممدك» . ويقال: إن عمر كتب إلى عمرو بعد ما فتح الشام: أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به. وبعث به مع شريك بن عبدة، فندبهم عمرو، فأسرعوا إلى الخروج معه، ثم إن عثمان بن عفان دخل على عمر، فذكر له عمر ما كتب به إلى عمرو، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، إن عمرا له جرأة، وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج فى غير ثقة ولا جماعة، فيعرض المسلمين للهلكة، رجاء فرصة لا يدرى أتكون أم لا. فندم عمر على كتابه إشفاقا مما قال عثمان، فكتب إلى عمرو يأمره بنحو ما تقدم من الرجوع إن لم يكن دخل مصر، والمضى لوجهه إن كان دخلها. فسار عمرو فى طريقه قاصدا مصر، فلما بلغ المقوقس ذلك توجه نحو الفسطاط يجهز

الجيوش على عمرو، فأقبل عمرو حتى إذا كان بجبال الحلال نفرت معه راشدة وقبائل من لخم، وأدركه النحر وهو بالعريش، فضحى يومئذ عن أصحابه بكبش. وكان رجل ممن خرج معه قد أصيب بجمله، فأتاه الرجل يستحمله، فقال له عمرو: تحمل مع أصحابك حتى نبلغ أوائل العامر، فلما بلغوا العريش جاءه، فأمر له بجملين، ثم قال: لن تزالوا بخير ما رحمتكم أئمتكم، فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا. فتقدم عمرو، فكان أول موضع قوتل فيه الفرما، قاتلته الروم قتالا شديدا، نحوا من شهر، ثم فتح الله على يديه. وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له: «أبو ميامين» ، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقى عمرو، فيقال: إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا. ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى نزل القواصر، ثم تقدم لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس، فقاتلوه بها نحوا من شهر حتى فتح الله عليه، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى أم دنين فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمده، فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف، فقاتلهم. وجاء رجل من لخم إلى عمرو بن العاص فقال: اندب معى خيلا حتى آتى من ورائهم عند القتال، فأخرج معه خمسمائة فارس، فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بنى وائل قبل الصبح. ويقال: كان على هذا البعث خارجة بن حذافة «1» ، فلما كان فى وجه الصبح نهض القوم، فصلوا الصبح، ثم ركبوا خيلهم، وغدا عمرو بن العاص على القتال، فقاتلوهم من وجههم، وحملت الخيل التى كان وجه من ورائهم واقتحمت عليهم فانهزموا. وكانوا قد خندقوا حول الحصن، وجعلوا للخندق أبوابا، فسار عمرو بمن معه حتى نزل على

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2137) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1327) ، الثقات (3/ 111) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (374) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 146) ، الكاشف (1/ 265) ، تهذيب التهذيب (3/ 74) ، تقريب التهذيب (1/ 210) ، التحفة اللطيفة (1/ 49) ، النجوم الزاهرة (1/ 20) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (1/ 600) ، الطبقات (23/ 291) ، التاريخ الكبير (3/ 203) ، التاريخ الصغير (1/ 93) ، الإكمال (6/ 182) ، تراجم الأخبار (1/ 390) ، الكامل (3/ 920) ، مشاهير علماء الأمصار (383) .

الحصن، فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت ويفتحوا له الحصن، ففعل ذلك، وفرض عليهم لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين. فجاء النفر من القبط يستأذنونه إلى قراهم وأهليهم، وقد كان نفر منهم تحدثوا قبل ذلك ورجل من لخم يسمعهم، فقال بعضهم لبعض: ألا تعجبوا من هؤلاء القوم، يعنون المسلمين، يقدمون على جموع الروم، وإنما هم فى قلة من الناس. فجاءهم رجل منهم، فقال: إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه، حتى يقتلوا خيرهم. فأنكر عليه اللخمى قوله وأراد حمله إلى عمرو، فرغب إليه أصحابه وغيرهم حتى خلصوه، فلما استأذن أولئك النفر عمرا قال لهم: كيف رأيتم أمرنا؟ قالوا: لم نر إلا حسنا. فقال ذلك الرجل لعمرو مثل مقالته تلك: إنكم لن تزالوا تظهرون على كل من لقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا. فغضب عمرو وأمر به، فطلب إليه أصحابه وأخبروه أنه لا يدرى ما يقول، حتى خلصوه، فلما بلغ عمرا عمر بن الخطاب عجب من قول ذلك القبطى، وأرسل فى طلبه، فوجدوه قد هلك. وفى حديث غيره: قال عمرو بن العاص: فلما طعن عمر بن الخطاب قلت: هو ما قال القبطى، فلما حدثت أنه إنما قتله رجل نصرانى «1» قلت: لم يعن هذا، إنما عنى من قتله المسلمون، فلما قتل عثمان، رضى الله عنه، عرفت أن ما قال الرجل حق. قال ابن عبد الحكم: وقد سمعت فى فتح القصر وجها غير هذا، ثم ذكر عن نفر سمى منهم قال: وبعضهم يزيد على بعض فى الحديث أن عمرو بن العاص حصرهم فى القصر الذى يقال له: باب اليون حينا، وقاتلهم قتالا شديدا، يصبحهم ويمسيهم، فلما أبطأ عليه الفتح كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده، فأمده عمر بأربعة آلاف رجل، على كل ألف منهم رجل يقوم مقام ألف: الزبير بن العوام «2» ، والمقداد بن عمرو» ، وعبادة

_ (1) هو: أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة. راجع مقتل عمر بن الخطاب، رحمه الله، من هذا الجزء. (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2794) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1731) . (3) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (3/ 1/ 144) ، طبقات خليفة (61، 67، 168) ، التاريخ الكبير (8/ 54) ، التاريخ الصغير (60، 61) ، المعارف (263) ، الجرح والتعديل (8/ 426) ، حلية الأولياء (1/ 172، 176) ، ابن عساكر (17، 66، 1) ، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 111، 112) ، معالم الإيمان (1/ 71، 76) ، دول الإسلام (1/ 927، العقد الثمين (7/ 268) ، تهذيب التهذيب (10/ 285) ، شذرات الذهب (1/ 39) ، الإصابة ترجمة رقم (8201) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5076) .

ابن الصامت «1» ، ومسلمة بن مخلد «2» . وقيل: بل خارجة بن حذافة مكان مسلمة. وقال عمر بن الخطاب: «اعلم أن معك اثنى عشر ألفا، ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة» . وذكر الليث عن يزيد بن أبى حبيب: أن عمر، رحمه الله، إنما أمد عمرا حين استمده بالزبير بن العوام، وبالمقداد بن عمرو، وبخارجة بن حذافة. قال الليث بن سعد: وبلغنى عن كسرى أنه كان له رجال إذا بعث أحدهم فى جيش وضع من عدة الجيش الذى كان سمى ألفا مكانه، وإذا احتاج إلى أحدهم وكان فى جيش فجيشه زادهم ألف رجل، فأنزلت الذى صنع عمر بن الخطاب حين أمد عمرا بالزبير والمقداد وخارجة نحو الذى صنع كسرى. وقيل: إن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أشفق على عمرو حين بعثه، فأرسل الزبير فى أثره فى اثنى عشر ألفا، فشهد معه الفتح. وكان عمرو قدم من الشام فى عدة قليلة، وكانت الروم قد خندقوا حول حصنهم، وجعلوا للخندق أبوابا، ورموا فى أفنيتها حسك الحديد، فكان عمرو يفرق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم، فلما انتهى إلى الخندق نادوه: أن قد رأينا ما صنعت، وإنما معك من أصحابك كذا وكذا، فلم يخطئوا برجل واحد. فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير، فلما قدم المدد مع الزبير على عمرو ابن العاص ألح على القصر ووضع عليه المنجنيق. وقد كان عمرو دخل إلى صاحب القصر فتناظرا فى شىء مما هم فيه، فقال له عمرو: أخرج وأستشير أصحابى، فدس صاحب الحصن الوصية إلى الذى على الباب إذا مر به عمرو أن يلقى عليه صخرة فيقتله. فأشعر بذلك عمرا رجل من العرب وهو يريد الخروج، فرجع عمرو إلى صاحب الحصن،

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4515) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2791) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8007) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4943) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 148) ، تاريخ خليفة (195) ، فتوح البلدان (270) ، أنساب الأشراف (1/ 146) ، المعرفة والتاريخ (2/ 494) ، تاريخ الطبرى (4/ 430) ، أخبار القضاة (3/ 223) ، تاريخ أبى زرعة (1/ 189) ، مروج الذهب (1621) ، فتوح مصر (67) ، جمهرة أنساب العرب (366) ، وفيات الأعيان (7/ 215) ، المراسيل (197) ، الجرح والتعديل (8/ 265) ، مشاهير علماء الأمصار (56) ، الكامل فى التاريخ (3/ 191) ، تهذيب الكمال (3/ 1330) ، مختصر التاريخ (82) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 77) ، سير أعلام النبلاء (3/ 424) ، العبر (1/ 66) ، الكاشف (3/ 128) ، المعين فى طبقات المحدثين (26) ، تقريب التهذيب (2/ 249) ، النجوم الزاهرة (1/ 132) ، خلاصة تذهيب التهذيب (377) ، الولاة والقضاء (15) ، تاريخ الإسلام (2/ 242) .

فقال له: إنى أريد أن آتيك بنفر من أصحابى حتى يسمعوا منك مثل الذى سمعت، فقال العلج فى نفسه: قتل جماعة أحب إلىّ من قتل واحد، فأرسل إلى الذى كان على الباب يأمره بالكف عن عمرو رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم، فخرج عمرو ولم يعد. وفى حصار المسلمين هذا الحصن كان عبادة بن الصامت يوما فى ناحية يصلى وفرسه عنده، فرآه قوم من الروم، فخرجوا إليه وعليهم حلية وبزة، فلما دنوا منه سلم من صلاته، ووثب على فرسه، ثم حمل عليهم، فلما رأوه غير مكذب عنهم ولوا راجعين، واتبعهم، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم، ولا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن، ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة، فرجع ولم يعرض لشىء مما كانوا طرحوا من متاعهم، حتى أتى موضعه الذى كان به، فاستقبل الصلاة، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه. ولما أبطأ الفتح على عمرو بن العاص قال الزبير: إنى أهب نفسى لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلما إلى جانب الحصن ثم صعد، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر معه السيف، وتحامل الناس على السلم حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر. ولما اقتحم الزبير وتبعه من تبعه وكبر، وكبر من معه وأجابهم المسلمون من خارج، لم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموه جميعا، فهربوا، وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، واقتحمه المسلمون، فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه، على أن يفرض للعرب على القبط دينارين دينارين على كل رجل منهم، فأجابه عمرو إلى ذلك. وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر فيما روى عن الليث. قال ابن عبد الحكم: وقد سمعت فى فتح القصر وجها آخر مخالفا للحديثين المتقدمين، فالله أعلم. ثم أورد بإسناد يرفعه إلى جماعة من التابعين، يزيد بعضهم على بعض، أن المسلمين لما حاصروا باب اليون وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس فقاتلوهم بها شهرا، فلما رأى القوم الجد منهم على فتحه والحرص ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط، وخرجوا من باب القصر القبلى ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة، موضع الصناعة اليوم، وأمروا بقطع الجسر، وذلك فى جرى النيل.

وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الأعيرج تخلف فى الحصن بعد المقوقس، وهو رجل من الروم كان واليا على الحصن تحت يدى المقوقس، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن، فلما خاف الأعيرج فتح الحصن ركبها هو وأهل القوة والشرف ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة. قال أصحاب الحديث من التابعين: فأرسل المقوقس إلى عمرو: إنكم قوم قد ولجتم فى بلادنا وألححتم على قتالنا، وطال مكثكم فى أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم معهم العدة والسلاح، وأحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم. فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس بهذا حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أترون أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم ويستحلون ذلك فى دينهم؟ وإنما أراد عمرو أن يروا حال المسلمين، ثم رد عمرو إلى المقوقس رسله، وقال لهم: إنه ليس بينى وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما دخلتم فى الإسلام فكنتم إخواننا، وكان لكم ما لنا، وإما أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين. فلما جاؤا إلى المقوقس قال لهم: كيف رأيتم؟ قالوا: رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليه من الرفعة، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم، يغسلون بالماء أطرافهم، ويخشعون فى صلاتهم. فقال عند ذلك المقوقس: والذى يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم. فرد إليهم المقوقس رسله: أن ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم. فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت، وأمره عمرو أن يكون

مكلم القوم وأن لا يجيبهم إلى شىء دعوه إليه إلا إلى إحدى هذه الخصال الثلاث. وكان عبادة أسود طويلا، يقول ابن غفير: أدرك الإسلام من العرب عشرة، طول كل رجل منهم عشرة أشبار، أحدهم عبادة بن الصامت. فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه تقدم عبادة فهابه المقوقس لسوداه، فقال: نحّوا عنى هذا الأسود، وقدموا غيره يكلمنى. فقالوا جميعا: إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به، وأمرنا أن لا نخالفه. قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغى أن يكون دونكم؟. قالوا: كلا، إنه وإن كان أسود كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعا، وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السواد فينا. فقال له المقوقس: تقدم يا أسود وكلمنى برفق فإنى أهاب سوادك، وإن اشتد كلامك علىّ ازددت لذلك هيبة. فتقدم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابى ألف رجل كلهم أشد سوادا منى وأفظع منظرا، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لى، وأنا قد وليت وأدبر شبابى، وإنى مع ذلك، بحمد الله، ما أهاب مائة رجل من عدوى ولو استقبلونى جميعا، وكذلك أصحابى، وذلك أنا إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد فى الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة فى دنيا، ولا طلبا للاستكثار منها، إلا أن الله، عز وجل، قد أحل لنا ذلك، وجعل ما غنمنا منه حلالا، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من الذهب أم كان لا يملك إلا درهما؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه فى طاعة الله تعالى واقتصر على هذا الذى يتبلغ به ما كان فى الدنيا؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء فى الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همته وشغله فى رضى ربه وجهاده عدوه. فلما سمع المقوقس كلامه قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره، وإن قوله لأهيب عندى من منظره، وإن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. ثم أقبل على عبادة فقال: أيها

الرجل قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمرى ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا بحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم يعرفون بالنجدة والشدة، لا يبالى أحدهم من لقى ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تطيقونهم لضعفكم وقلتكم وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا وأنتم فى ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضوها وتنصرفوا إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قبل لكم به. فقال عبادة بن الصامت: يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمرى ما هذا بالذى يخوفنا، ولا بالذى يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون فى قتالكم، وأشد لحرصنا عليكم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا فى رضوانه وجنته، وما من شىء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا فى كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249] ، وما منا من رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشهادة وألا يرده إلى بلاده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همّ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه فى أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا، وأما قولك: إنا فى ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن فى أوسع السعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه، فانظر الذى تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل، بذلك أمرنى الأمير، وبه أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا: إما أجبتم إلى الإسلام الذى هو الدين الذى لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا، وكان أخانا فى دين الله، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم فى الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم، وإن أبيتم إلا الجزية فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم

صاغرون، نعاملكم على شىء نرضى به نحن وأنتم فى كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم فى شىء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم فى ذمتنا، وكان لكم به عهد علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم. هذا ديننا الذى ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينكم غيره، فانظروا لأنفسكم. فقال له المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا، ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا!. فقال له عبادة: هو ذلك فاختر ما شئت!. فقال له المقوقس: أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاث؟. فرفع عبادة يديه فقال: لا ورب هذه السماء، ورب هذه الأرض، وربنا، ورب كل شىء، ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم. فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه، فقال: قد فرغ القوم، فماذا ترون؟. فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذل؟ أما ما أرادوا من دخولنا فى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا، أن نترك دين المسيح ابن مريم وندخل فى دين غيره لا نعرفه، وأما ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا. فقال المقوقس لعبادة: قد أتى القوم «1» فما ترى؟ فراجع أصحابك «2» على أن نعطيكم فى مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفوا. فقام عبادة وأصحابه، فقال المقوقس عند ذلك لمن حوله: أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين. فقالوا: وأى خصلة نجيبهم إليها؟. قال: أنا أخبركم، أما دخولكم فى غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالكم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة.

_ (1) فى ابن عبد الحكم: قد أبى القوم. (2) فى ابن عبد الحكم: صاحبك.

قالوا: فنكون لهم عبيدا أبدا؟. قال: نعم، أن تكونوا عبيدا منبسطين «1» فى بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، خير لكم من أن تموتوا من آخركم، أو تكونوا عبيدا تباعون وتمزقون فى البلاد مستعبدين أبدا أنتم وأهلكم وذراريكم. قالوا: فالموت أهون علينا، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة، وبالقصر من القبط والروم جمع كثير. فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من فى القصر، حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم، فقتل منهم خلق كثير، وأسر من أسر، وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة، وصار المسلمون قد أحدق بهم الماء من كل جهة لا يقدرون على أن يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخفه عليكم؟ ما تنتظرون، فو الله لتجيبن إلى ما أرادوا طوعا أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كرها، فأطيعونى من قبل أن تندموا. فلما رأوا منهم ما رأوا، وقال لهم المقوقس ما قال، أذعنوا بالجزية، ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه. فأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص: أنى لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من الخصال التى أرسلت إلىّ بها فأبى ذلك علىّ من حضرنى من الروم والقبط، فلم يكن لى أن أفتات عليهم فى أموالهم، وقد عرفوا نصحى لهم وحبى صلاحهم فرجعوا إلى قولى، فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت، أنا فى نفر من أصحابى، وأنت فى نفر من أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تم ذلك لنا جميعا، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه. فاستشار عمرو أصحابه فى ذلك، فقالوا: لا نجيبهم إلى شىء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير كلها لنا فيئا وغنيمة كما صار لنا القصر وما فيه. فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إلىّ أمير المؤمنين فى عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التى عهد إلىّ فيها أجبتم إليها وقبلت منهم، مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم. فاجتمعوا على عهد بينهم، واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها

_ (1) فى ابن عبد الحكم: مسلطين.

وأسفلها من القبط دينارين دينارين، على كل نفس، شريفهم ووضيعهم، ومن بلغ الحلم منهم، وليس على الشيخ الفانى، ولا على الصغير الذى لم يبلغ الحلم، ولا على النساء شىء. وعلى أن للمسلمين عليهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يعرض لهم فى شىء منها، فشرط هذا كله على القبط خاصة. وأحصوا عدد القبط من بلغ منهم الجزية ومن فرض عليهم الديناران. رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدة، فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط أكثر من ستة آلاف ألف نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر ألف ألف دينار فى كل سنة. وعن يحيى بن ميمون الحضرمى قال: لما فتح عمرو بن العاص مصر صالح عن جميع ما فيها من رجال القبط، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك، ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبى، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين، فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف. وفى الحديث المتقدم الطويل: أن المقوقس شرط للروم أن يخيروا، فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا أقام لازما له ذلك مفترضا عليه، مما أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج، وعلى أن للمقوقس الخيار فى الروم خاصة حتى يكتب إلى ملك الروم يعلمه ما فعل، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه. وكتب المقوقس إلى ملك الروم يعلمه بالأمر على وجهه، فكتب إليه ملك الروم يقبح رأيه ويعجزه، ويرد عليه ما فعل ويقول فى كتابه: إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا، وبمصر من عدد القبط ما لا يحصى، فإن كان القبط كرهوا القتال وأحبوا أداء الجزية إلى العرب واختاروهم علينا فإن عندك بمصر من الروم وبالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف، معهم العدة والقوة، والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت، فعجزت عن قتالهم، ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم أذلاء فى حال القبط، ألا قاتلتهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظفر عليهم، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم كأكلة، فناهضهم القتال ولا يكن لك رأى غير ذلك. وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم.

فقال المقوقس لما أتاه كتابه: والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا، إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا، وذلك أنهم قوم الموت أحب إليهم من الحياة، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل، يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده، ولا ولده، ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوا منا، ويقولون إنهم إن قتلوا دخلوا الجنة، وليس لهم رغبة فى الدنيا ولا لذة إلا قدر بلغة العيش من الطعام واللباس، ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء، وكيف صبرنا معهم، واعلموا معشر الروم أنى والله لا أخرج مما دخلت فيه وصالحت العرب عليه، وأنى لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى قولى ورأيى، وتتمنون أن لو كنتم أطعمتونى، وذلك أنى قد عانيت ورأيت وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره ولم يعرفه، ويحكم أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا فى دهره على نفسه وماله وولده بدينارين فى السنة؟. ثم أقبل المقوقس إلى عمرو بن العاص فقال له: إن الملك قد كره ما فعلت وعجزنى، وكتب إلىّ وإلى جماعة الروم أن لا نرضى بمصالحتك، أمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم، ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه، وإنما سلطانى على نفسى ومن أطاعنى، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض وأنا متم لك على نفسى، والقبط متمون لك على الصلح الذى صالحتهم عليه وعاهدتهم، وأما الروم فأنا منهم برىء، وأنا أطلب إليك أن تعطينى ثلاث خصال. قال عمرو: وما هن؟. قال: لا تنقض بالقبط، وأدخلنى معهم وألزمنى ما لزمهم، فقد اجتمعت كلمتى وكلمتهم على ما عاهدتك عليه وهم متمون لك على ما تحب. وأما الثانية: إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا، فإنهم أهل لذلك؛ لأنى نصحتهم فاستغشونى، ونظرت لهم فاتهمونى. وأما الثالثة: أطلب إليك أن إذا مت أن تأمرهم يدفنونى فى أبى يحنس بالإسكندرية. فأنعم له عمرو بن العاص بذلك وأجابه إلى ما طلب، على أن يضمنوا له الجسرين جميعا، ويقيموا لهم الأنزال والضيافة والأسواق والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية، ففعلوا. ويقال: إن المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص على الروم وهو محاصر الإسكندرية، وبعد أن حصر أهلها ثلاثة أشهر وألح عليهم وخافوه، فسأله المقوقس الصلح عنهم، كما

صالحه على القبط، على أن يستنظر رأى الملك وعلى أن يسير من الروم من أراد المسير، ويقر من أراد الإقامة، فأنكر ذلك هرقل لما بلغه أشد الإنكار، وتسخط أشد التسخط، وبعث الجيوش، فأغلقوا الإسكندرية وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب، فخرج إليه المقوقس فقال: أسألك ثلاثا، وذكر نحو ما تقدم، وزاد أن عمرا قال فى الثالثة التى هى أن يدفن فى أبى يحنس: هذه أهونهن علينا. ثم رجع إلى الحديث الأول، قال: فخرج عمرو بن العاص بالمسلمين حين أمكنهم الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط قد أصلحوا لهم الطريق وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم، وسمعت بذلك الروم فاستعدت واستجاشت، وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الروم، فيها جمع من الروم كثير بالعدة والسلاح، فخرج إليهم عمرو بن العاص من الفسطاط متوجها نحو الإسكندرية، فلم يلق منهم أحدا حتى بلغ ترنوط «1» ، فلقى فيها طائفة من الروم فقاتلوه قتالا خفيفا فهزمهم الله، ومضى عمرو بمن معه حتى لقى جمع الروم بكوم شريك، فاقتتلوا به ثلاثة أيام ثم فتح الله للمسلمين وولى الروم أكتافهم. ويقال: بل أرسل عمرو بن العاص، شريك بن سمى فى آثارهم، فأدركهم عند الكوم الذى يقال له كوم شريك، فقاتلهم شريك فهزمهم. ويقال: بل لقيهم فألجأوه إلى الكوم فاعتصم به، وأحاطت به الروم، فلما رأى ذلك شريك أمر أبا ناعمة الصدفى «2» ، وهو صاحب الفرس الأشقر الذى يقال له: أشقر صدف، وكان لا يجارى، فانحط عليهم من الكوم، وطلبته الروم فلم تدركه، حتى أتى عمرا فأخبره، فأقبل عمرو نحوه. وسمعت به الروم فانصرفت، وبهذا الفرس سميت خوخة الأشقر التى بمصر، وذلك أنه نفق فدفنه صاحبه هناك، فسمى المكان به. قال: ثم التقوا بسلطيس «3» فاقتتلوا بها قتالا شديدا، فهزمهم الله، ثم التقوا بالكريون «4» فاقتتلوا بها بضعة عشر يوما.

_ (1) ترنوط: قرية كانت بين مصر والإسكندرية، أشار ياقوت إلى أنها قرية كبيرة جامعة على النيل، فيها أسواق ومعاصر للسكر وبساتين، وأكثر فواكه الإسكندرية منها. انظر: معجم البلدان (2/ 27) . (2) هو: أبو ناعمة مالك بن ناعمة الصدفى. (3) سلطيس: قرية من قرى مصر القديمة، كان أهلها أعانوا على عمرو بن العاص فسباهم. انظر: معجم البلدان (3/ 236) . (4) كريون: موضع قرب الإسكندرية. انظر: معجم البلدان (4/ 458، 459) .

وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات كثيرة، فقال: يا وردان لو تقهقرت قليلا لنصيب الروح. فقال وردان: الروح أمامك وليس هو خلفك. فتقدم عبد الله، وجاء رسول أبيه يسأله عن جراحه، فأنشأ يقول: أقول إذا ما النفس جاشت ألا أصبرى ... عليك قليلا تحمدى أو تلامى فرجع الرسول فأخبره بما قال. فقال عمرو: هو ابنى حقا. وصلى يومئذ عمرو صلاة الخوف، فحدث شيخ صلاها معه بالإسكندرية: أنه صلى بكل طائفة ركعة وسجدتين. قال: ثم فتح الله على المسلمين، وقتلوا من الروم مقتلة عظيمة، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية فتحصنوا بها، وكانت عليهم حصون لا ترام، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس إلى ما وراء ذلك، ومعهم رؤساء القبط يمدونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة، ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية فى المراكب بمادة الروم. ويروى أن عمرا أقام بحلوة شهرين ثم تحول إلى المقس، فخرجت عليه الخيل من ناحية البحيرة حيث كانت مستترة بالحصن فواقعوه، فقتل من المسلمين يومئذ بكنيسة الذهب اثنا عشر رجلا، ولم يكن للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية، وإنما كان عيد الروم حين غلبت العرب على الشام بالإسكندرية، فكان ملك الروم يعظم ظهور العرب عليها ويقول: لئن غلبوا على الإسكندرية لقد هلكت الروم، وانقطع ملكها، وتجهز للخروج إليها ليباشر قتالها بنفسه إعظاما لها، وأمر أن لا يتخلف عنه أحد من الروم، وقال: ما بقاء الروم بعد الإسكندرية؟ فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته وكفى المسلمين مؤنته. وكان موته فى سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين، فكسر الله بموته شوكة الروم. ورجع جمع كبير ممن كان قد توجه إلى الإسكندرية، واستأسدت العرب عند ذلك وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية، فقاتلوهم قتالا شديدا، وخرج طرف من الروم من باب حصنها فحملوا على الناس وقتلوا رجلا من مهرة فاحتزوا رأسه وانطلقوا به، فجعل المهريون يتغضبون ويقولون: لا ندفنه أبدا إلا برأسه. فقال عمرو بن العاص: تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالى بغضبكم، احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا رجلا منهم

وارموا برأسه يرموا برأس صاحبكم، فخرجت الروم عليهم فاقتتلوا، فقتل رجل من بطارقة الروم، فاحتزوا رأسه، فرموا به إلى الروم، فرمت الروم برأس المهرى إليهم، فقال: دونكم الآن فادفنوا صاحبكم. وكان عمرو بن العاص يقول: ثلاث قبائل فى مصر: أما مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما غافق فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما بلى فأكثرها رجلا صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضلها فارسا. وقاتل عمر بن العاص الروم بالإسكندرية يوما من الأيام قتالا شديدا، فلما استحر القتال بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه الرومى، وألقاه عن فرسه، وأهوى إليه بسيفه ليقتله حتى حماه رجل من أصحابه. وكان مسلمة لا يقام بسبيله ولكنها مقادير، ففرحت بذلك الروم وشق ذلك على المسلمين، وغضب عمرو بن العاص فقال: وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن: ما بال الرجل المسبّه «1» الذى يشبه النساء يتعرض فيداخل الرجال ويتشبه بهم؟ فغضب مسلمة ولم يراجعه، ثم اشتد القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية فقاتلهم العرب فى الحصن، ثم جاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر فيهم عمرو بن العاص ومسلمة بن مخلد، أغلق الروم عليهم باب الحصن وحالوا بينهم وبين أصحابهم ولا يدرون من هم. فلما رأى ذلك عمرو وأصحابه لجأوا إلى ديماس من حماماتهم فتحرزوا به فأمرت الروم روميا فكلمهم بالعربية فقال لهم: إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا ثم قال لهم: إن فى أيدى أصحابكم منا رجالا أسروهم ونحن نعطيكم العهود أن نفادى بكم أصحابنا ولا نقتلكم، فأبوا عليهم. فلما رأى الرومى ذلك منهم قال لهم: هل لكم إلى خصلة وهى نصف فيما بيننا وبينكم: أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله على أن يبرز منكم رجل ومنا رجل، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا، وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم. فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه، فبرز رجل من الروم قد وثقت الروم بنجدته وشدته، وقالوا لعمرو وأصحابه وهم فى الديماس ليبرز رجل منكم لصاحبنا فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال: يا هذا تخطئ مرتين، تشذ من

_ (1) السبه: محركه، ذهاب العقل من الهرم. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (4/ 284) . لسان العرب لابن منظور (3/ 1932) .

أصحابك وأنت أميرهم وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك لا يدرون ما أمرك، ثم لا ترضى حتى تبارز وتتعرض للقتل، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك؟ مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله! قال عمرو: دونك فربما فرجها الله بك، فبرز مسلمة والرومى فتجاولا ساعة ثم أعانه الله عليه فقتله، فكبر مسلمة وأصحابه، ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه، ففتحوا لهم باب الحصن فخرجوا ولا تدرى الروم أن أمير القوم فيهم، حتى بلغهم ذلك فأسفوا وأكلوا أيديهم تغيظا على ما فاتهم، فلما خرجوا استحيى عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب، وسأله أن يستغفر له، ففعل مسلمة وقال عمرو: والله ما أفحشت قط إلا ثلاث مرات، مرتين فى الجاهلية وهذه الثالثة، وما منها مرة إلا وقد ندمت واستحييت وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك والله إنى لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت. قال ابن لهيعة: وأخبرنى بعض أشياخنا أن عبد العزيز بن مروان لما قدم الإسكندرية سنة ثمانين سأل: هل بقى بالإسكندرية أحد ممن أدرك فتحها؟ فأتوه بشيخ من الروم من أكابر أهل الإسكندرية يومئذ فأعلموه أنه أدرك فتحها وهو رجل، فسأله عن أعجب ما رأى يومئذ من المسلمين. فقال: أخبرك أيها الأمير أنه كان لى صديق من أبناء بطارقة الروم يومئذ منقطع إلىّ، وأنه أتانى فسألنى أن أركب معه حتى ننظر إلى المسلمين وإلى حالهم وهيئتهم، وهم إذ ذاك محاصرون الإسكندرية، فخرجت معه وهو على برذون له كثير اللحم وأنا على برذون خفيف، فلما خرجنا من الحصن الثالث وقفنا على كوم مشرف ننظر إلى العرب، وإذا هم فى خيام لهم وعلى باب كل خيمة فرس واقف ورمح مركوز، ورأينا قوما ضعفاء فعجبنا من ضعفهم، وقلنا: كيف بلغ هؤلاء القوم ما بلغوا؟ فبينا نحن وقوف ننظر إليهم ونعجب إذ خرج رجل منهم من بعض تلك الخيام، فلما نظر إلينا اختلع رمحه ووثب على ظهر فرسه ثم أقبل نحونا، فقلت لصاحبى: والله إنه ليريدنا! فلما رأيناه مقبلا إلينا لا يريد غيرنا ولينا هاربين، فما كان بأوشك من أن أدرك صاحبى فطعنه بالرمح فصرعه، ثم تركه صريعا وأقبل فى إثرى وأنا خائف أن لا أفلت منه حتى دخلت الحصن الأول فنجوت منه، ثم صعدت الحصن لأبصر ما يفعل، فرجع وهو يتكلم بكلام يرفع به صوته، فظننت أنه يقرأ، ثم مضى حتى اعترض برذون صاحبى فأخذه ورجع إلى صاحبى وهو صريع فأخذ سيفه وترك سلبه فلم يأخذه تهاونا به، وكانت ثيابه ديباجا كلها، فلم يأخذها ولم ينزعها عنه. فقال عبد العزيز بن مروان للشيخ الرومى: صف لى ذلك الرجل وشبهه ببعض من

عندى. فأشار إلى رجل مخفف كوسج «1» فقال: هو يشبه هذا. قال عبد العزيز: نخبرك أنه يمان «2» . وأقام عمرو يحاصر الإسكندرية أشهرا، فقال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، لما بلغه ذلك: ما أبطأوا بفتحها إلا لما أحدثوا. وقال أسلم مولى عمر: لما أبطأ على عمر فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص: أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، أنكم تقاتلونها منذ سنين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله، تبارك وتعالى، لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيرهم ما غير غيرهم، فإذا أتاك كتابى هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم فى الصبر والنية، وقدم أولئك النفر الأربعة فى صدور الناس، ومر الناس جميعا أن تكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة، وليضج الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم. فلما أتى عمرا الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر، ففعلوا، ففتح الله عليهم. ويقال إن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد فقال له: أشر علىّ فى قتال هؤلاء. فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعقد له على الناس، فيكون هو الذى يباشر القتال ويكفيكه. قال عمرو: ومن ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت. فدعا عمرو عبادة، فأتاه وهو راكب على فرسه، فلما دنا منه أراد النزول، فقال له عمرو: عزمت عليك أن لا تنزل، ناولنى سنام رمحك، فناوله إياه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه القتال، فتقدم عبادة مكانه فصاف الروم وقاتلهم، ففتح الله على يديه الإسكندرية فى يومه ذلك. ويروى أن عمرو بن العاص قال وقد أبطأ عليه الفتح، فاستلقى على ظهره ثم جلس

_ (1) الكوسج: أى الناقص الأسنان، والبطىء من البراذين. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (1/ 204) . (2) فى ابن عبد الحكم: « ... قال عبد العزيز عند ذلك: إنه ليصف صفة رجل يمانى» .

فقال: إنى فكرت فى هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله، يريد الأنصار، فدعا عبادة بن الصامت فعقد له، ففتح الله الإسكندرية على يديه من يومه ذلك. وقال جنادة بن أبى أمية «1» : دعانى عبادة بن الصامت يوم الإسكندرية وكان على قتالها، فأغار العدو على طائفة من الناس ولم يأذن بقتالهم، فبعثنى أحجز بينهم، فأتيتهم فحجزت بينهم ثم رجعت إليه، فقال: أقتل أحد من الناس؟ قلت: لا. قال: الحمد لله الذى لم يقتل أحد منهم عاصيا. قالوا: وكان فتح الإسكندرية يوم الجمعة مستهل شهر المحرم من سنة عشرين. ولما هزم الله الروم وفتحت الإسكندرية وهرب الروم فى البحر والبر، خلف عمرو ابن العاص بالإسكندرية من أصحابه ألف رجل، ومضى فى طلب من هرب فى البر من الروم، فرجع من كان هرب منهم فى البحر إلى الإسكندرية فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلا من هرب. وبلغ ذلك عمرو بن العاص فكر راجعا ففتحها، وأقام بها، وكتب إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أن الله قد فتح علينا الإسكندرية عنوة بغير عقد ولا عهد، فكتب إليه عمر يقبح رأيه ويأمره ألا يجاوزها. قال ابن لهيعة: وهذا هو فتح الإسكندرية الثانى، وكان سبب فتحها أن بوابا يقال له: ابن بسامة سأل عمرا الأمان على نفسه وأرضه وأهل بيته ويفتح له الباب، فأجابه عمرو إلى ذلك وفتح له ابن بسامة الباب، فدخل عمرو من ناحية قنطرة سليمان، وكان مدخله الأول من الباب الذى من ناحية كنيسة الذهب. وقد روى ابن لهيعة، أيضا، عن يزيد بن أبى حبيب أن فتحها الأول كان سنة إحدى وعشرين ثم انتقضوا سنة خمس وعشرين. وجاءت الروم عليهم منويل الخصى، بعثه هرقل فى المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (1204) ، أسد الغابة ترجمة رقم (789) ، طبقات ابن سعد (7/ 439) ، طبقات خليفة ترجمة رقم (2905) ، تاريخ البخارى (2/ 132) ، تاريخ خليفة (180) ، مقدمة مسند بقى بن مخلد (112) ، التاريخ الكبير (2/ 232) ، التاريخ الصغير (72) ، الجرح والتعديل (2/ 515) ، فتوح البلدان (278) ، تاريخ الثقات للعجلى (99) ، الثقات لابن حبان (4/ 103) ، مشتبه النسبة لعبد الغنى بن سعيد (208) .

فأجابهم من بها من الروم، فخرج إليهم عمرو بن العاص فى البر والبحر، فقاتلهم قتالا شديدا، فهزمهم الله وقتل منويل، ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث. ويقال: أن هذا انتقاض ثان للإسكندرية بعد انتقاضها الذى ذكره ابن لهيعة أولا وكان ذلك فى زمان عمر، وهذا الذى ذكر يزيد بن أبى حبيب فى خلافة عثمان، رضى الله عنهما، وسيأتى ذكره فى موضعه مستوفى إن شاء الله. وقيل: إن جميع من قتل من المسلمين من حين كان من أمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلا. وبعث عمرو بن العاص، معاوية بن حديج «1» وافدا إلى عمر بن الخطاب يبشره بالفتح، فقال له معاوية: ألا تكتب معى؟ فقال له عمرو: ما أصنع بالكتاب، ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة وما رأيت وحضرته؟. فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية، فخر عمر ساجدا وقال: الحمد لله. ويروى عن معاوية بن حديج أنه قال: قدمت المدينة فى الظهيرة فأنخت راحلتى بباب المسجد، ثم دخلت المسجد، فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب فرأتنى شاحبا علىّ ثياب السفر، فأتتنى فقالت: من أنت؟ فقلت: أنا معاوية بن حديج رسول عمرو بن العاص. فانصرفت عنى، ثم أقبلت تشتد، فقالت: قم فأجب أمير المؤمنين. فتبعتها، فلما دخلت إذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه فقال: ما عندك؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية، فخرج معى إلى المسجد فقال للمؤذن: أذن فى الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس ثم قال لى: قم فأخبر أصحابك. فقمت فأخبرتهم، ثم صلى ودخل منزله واستقبل القبلة فدعا بدعوات ثم جلس فقال: يا جارية، هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت، فقال: كل، فأكلت على حياء، ثم قال: كل فإن المسافر يحب الطعام، فلو كنت آكلا لأكلت معك. فأصبت على حياء، ثم قال: يا جارية، هل من تمر؟ فأتت بتمر فى طبق، فقال: كل، فأكلت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلت: أمير المؤمنين قائل «2» . قال: بئس ما قلت، أو بئس ما ظننت. لئن نمت بالنهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسى، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟.

_ (1) انظر ترجمته فى: أسد الغابة ترجمة رقم (4980) . (2) القائل: هو النائم فى وسط النهار. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (4/ 42) .

ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه: أما بعد، فإنى فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أنى أصبت فيها أربعة آلاف منية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودى عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك. وعن أبى قبيل أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها اثنى عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر. وعن غيره «1» أنه كان فيما أحصى من الحمامات اثنا عشر ديماسا أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كل مجلس منها يسع جماعة نفر. قال: وترحل من الإسكندرية فى الليلة التى دخلها عمرو بن العاص أو الليلة التى خافوا دخوله سبعون ألف يهودى، وكان عدة من بالإسكندرية من الروم مائتى ألف من الرجال، فلحق بأرض الروم أهل القوة وركبوا السفن، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار يحمل فيها ثلاثون ألف بما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل، وبقى من بقى ممن يؤدى الخراج، فأحصوا يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصبيان. واختلف الناس على عمرو فى قسمهم، وكان أكثرهم يريدون القسم، فقال عمرو: لا أقدر على ذلك حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه فى ذلك، فكتب إليه عمر، رضى الله عنه: لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم. فأقرها عمرو وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج، فكانت مصر صالحا كلها بفريضة دينارين دينارين على كل رجل، لا يزاد على أحد منهم فى جزية رأسه على دينارين، غير أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع، إلا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم؛ لأن الإسكندرية فتحت عنوة لغير عهد ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمة. ويقال: إن مصر كلها فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد. قال سفيان بن وهب الخولانى «2» : لما فتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال: اقسمها يا عمرو. فقال: لا أقسمها. فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله

_ (1) هو: حسين بن شفى بن عبيد. (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3343) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2129) .

صلى الله عليه وسلم خيبر. فقال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إليه فأجابه: أقرها حتى يغدو «1» منها حبل الحبلة. وفى حديث آخر: أن الزبير صولح على شىء أرضى به. وحدث أبو قنان «2» ، عن أبيه أنه سمع عمرو بن العاص يقول، يعنى بمصر: لقد قعدت مقعدى هذا وما لأحد من قبط مصر علىّ عهد ولا عقد، إن شئت قتلت، وإن شئت حبست، وإن شئت بعت. ويروى عن ربيعة نحو ما تقدم من فتح مصر بغير عهد، وأن عمر بن الخطاب حبس درها وصرها أن يخرج منه شىء نظيرا للإسلام وأهله. وقال زيد بن أسلم «3» : كان لعمر بن الخطاب، رضى الله عنه، تابوت فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد. ويروى أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال للقبط: إن من كتمنى كنزا عنده فقدرت عليه قتلته. فذكر لعمرو أن قبطيا «4» من أهل الصعيد يقال له: بطرس عنده كنز، فأرسل إليه فسأله، فأنكر، فحبسه عمرو، وسأل: هل تسمعونه يسأل عن أحد؟ فقالوا: سمعناه يسأل عن راهب بالطور، فأخذ خاتم بطرس وكتب على لسانه بالرومية إلى ذلك الراهب: أن ابعث إلىّ بما عندك، وختم بخاتمه، فجاء الرسول من عند الراهب بقلة شامية مختومة بالرصاص، فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها: يا بنى، إن أردتم ما لكم فافتحوا تحت الفسقية الكبيرة. فأرسل عمرو إلى الفسقية فحبس عنها الماء، وقلع البلاط الذى تحتها، فوجد فيها اثنين وخمسين أردبا ذهبا مضروبة، فضرب عمرو رأس القبطى عند باب المسجد، فأخرج القبط كنوزهم خشية أن يقتلوا. وروى يزيد بن أبى حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطى كان يظهر الروم على عورات المسلمين ويكتب إليهم بذلك، فاستخرج منه بضعة وخمسين أردبا دنانير. وقال ابن شهاب: كان فتح مصر بعضها بعهد وذمة وبعضها عنوة. فجعل عمر بن

_ (1) فى ابن عبد الحكم: يغزو. (2) هو: أيوب بن أبى العالية. (3) انظر ترجمته فى: الجرح والتعديل (3/ 2509) ، الإصابة ترجمة رقم (2883) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1821) . (4) فى ابن عبد الحكم: نبطيا.

الخطاب جميعها ذمة، وحملهم على ذلك، فجرى ذلك فيهم إلى اليوم. وفى كتاب سيف عمن سمى من أشياخه «1» فى فتح مصر مساق آخر غير ما تقدم، وذلك أن عمرو بن العاص خرج إلى مصر بعد ما رجع عمر إلى المدينة، يعنى رجوعه من الشام، فانتهى عمرو إلى باب مصر، وأتبعه الزبير فاجتمعا، فلقيهم هناك أبو مريم جاثليق «2» مصر ومعه الأسقف فى أهل النيات، بعثهم المقوقس لمنع بلادهم. فلما نزل بهم عمرو قاتلوه، فأرسل إليهم عمرو: لا تعجلونا لنعذر إليكم، وتروا رأيكم بعد، فكفوا أصحابهم، فأرسل إليهم عمرو: إنى بارز فليبرز لى أبو مريم وأبو مريام، فأجابوه إلى ذلك وآمن بعضهم بعضا. فقال لهما عمرو: أنتما راهبا أهل هذه البلدة فاسمعا: إن الله بعث محمدا بالحق وأمره به، وأمرنا به محمد، وأدى إلينا كل الذى أمر به، ثم مضى، صلوات الله عليه، وقد قضى الذى عليه وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه قبلنا منه وكان مثلنا، ومن لم يجبنا إليه عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا فيكم، وإن لكم إن أجبتمونا إلى ذلك ذمة إلى ذمة، ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقبطيين خيرا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالقبطيين خيرا؛ لأن لهم رحما وذمة، يعنى بالرحم أن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام منهم، فقالا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء وأتباع الأنبياء، وذكرا أن هاجر معروفة عندهم شريفة. قالا: كانت ابنة ملكنا، وكان من أهل منف والملك فيهم، فأذيل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوا ملكهم واغتربوا، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام. مرحبا بكم وأهلا أمنا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: إن مثلى لا يخدع ولكننى أأجلكما ثلاثا ولتناظرا قومكما، وإلا ناجرناكم. قالا: زدنا، فزادهم يوما، فقالا: زدنا، فزادهم يوما، فرجعوا إلى المقوقس، فهم، يعنى بالإنابة إلى الجزية، فأبى أرطبون أن يجيبهما، وأمر بمناهدتهم، فقالا لأهل مصر: أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم، لا نرجع إليهم وقد بقيت أربعة أيام، فلا تصابون فيها بشىء

_ (1) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 107، 108) . (2) الجائليق: رئيس النصارى فى ديار الإسلام.

إلا رجونا أن يكون له أمان، فلم يفجأ عمرا والزبير إلا البيات من فرقب، وعمرو والزبير بعين شمس وبها جمعهم. وبعث إلى الفرما أبرهة بن الصباح، فنزل عليها، وبعث عوف ابن مالك إلى الإسكندرية فنزل عليها، فقال كل واحد منهما لأهل مدينته: إن شئتم أن تنزلوا فلكم الأمان. فقالوا: نعم، فراسلوها، وتربصوا بهم أهل عين شمس، وسبى المسلمون من بين ذلك. وقال عوف بن مالك «1» : ما أحسن مدينتكم يا أهل الإسكندرية فقالوا: إن الإسكندر قال: إنى أبنى مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنية، فبقيت بهجتها. وقال أبرهة لأهل الفرما: ما أخلق مدينتكم يا أهل الفرما؟ قالوا: إن الفرما قال: إنى أبنى مدينة عن الله غنية، وإلى الناس فقيرة، فذهبت بهجتها. قال الكلبى: كان الإسكندر والفرما أخوين، ثم حدث بمثل ذلك، قال: فنسبتا إليهما، فالفرما يتهدم كل يوم فيها شىء، وأخلقت مرآتها، وبقيت جدة الإسكندرية. قالوا: ولما نزل عمرو على القوم بعين شمس، وكان الملك بين القبط والنوب، ونزل معه الزبير عليها قال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلى قوم فلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم، صالح القوم واعتقد منهم، ولا تعرضنا لهم، وذلك فى اليوم الرابع، فأبى، وناهدوهم فقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوة، حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة فأجروا ما أخذوا عنوة مجرى ما صالحوا عليه، فصاروا ذمة: وكان صلحهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم، وملتهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبهم، وبحرهم، وبرهم، لا يدخل عليهم فى شىء من ذلك، ولا ينتقض، ولا يساكنهم النوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف. وعليهم ما جنى لصوصهم، فإن أبى أحد أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم، وذمتنا من أبى بريئة.

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (6116) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4130) ، المعارف (315) ، الجرح والتعديل (7/ 13، 14) ، العبر (1/ 81) ، تهذيب التهذيب (8/ 168) ، شذرات الذهب (1/ 79) .

وإن نقص نهرهم من عادته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل فى صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى فاختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثا فى كل ثلث، يريد من السنة، جباية ثلث ما عليهم، لهم على ما فى هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين. وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا معونة، على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير، وعبد الله ومحمد ابنا عمرو، وكتب وردان، وحضر فدخل فى ذلك أهل مصر كلهم، وقبلوا الصلح «1» . فمصر عمرو الفسطاط، ونزله المسلمون، وظهر أبو مريم وأبو مريام، فكلموا عمرا فى السبايا التى أصيبت بعد المعركة، فقال عمرو: أولهم عهد وعقد؟ ألم نخالفكما ويغر علينا من يومكما؟ فطردهما، فرجعا وهما يقولان: كل شىء أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففى ذمة. فقال لهما عمرو: يغيرون علينا وهم فى ذمة؟ قالا: نعم. وقسم عمرو ذلك السبى على الناس، وتوزعوه ووقع فى بلاد العرب، وقدم البشير إلى عمر بعد بالأخماس، وقدم الوفود، فسألهم عمر، فما زالوا يخبرونه حتى مروا بحديث الجاثليق وصاحبه، فقال عمر: ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون من قاتلكم فلا أمان له، ومن لم يقاتلكم وأصابه منكم سبى من أهل القرى فى الأيام الخمسة فله الأمان، وكتب بذلك إلى عمرو بن العاص، فجعل يجاء بهم من اليمن ومكة حتى ردوا. وعن عمرو بن شعيب «2» قال: لما التقى عمرو والمقوقس بعين شمس، واقتتلت خيلاهما، جعل المسلمون يجولون بعد البعد، فزمرهم عمرو، فقال رجل من أهل اليمن: إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد. فأسكته عمرو، ثم لما تمادى ذلك نادى عمرو: أين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فحضر من شهدها منهم، فقال: تقدموا فبكم ينصر المسلمون. فتقدموا وفيهم يومئذ أبو بردة وأبو برزة، وناهدهم الناس يتبعون الصحابة، ففتح الله على المسلمين، وظفروا أحسن الظفر، وافتتحت مصر، وقام فيها ملك الإسلام على رجل، وجعل يفيض على الأمم والملوك.

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 109) . (2) انظر: الطبرى (4/ 111) .

وعن محمد بن إسحاق «1» عن رجل من أهل مصر اسمه القاسم بن قزمان: أن زياد ابن جزء الزبيدى حدثه وكان فى جند عمرو بن العاص، قال: افتتحنا الإسكندرية فى خلافة عمر، فلما افتتحنا باب اليون تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية قرية، حتى انتهينا إلى بلهيب وقد بلغت سبايانا مكة والمدينة واليمن، فلما انتهينا إلى بلهيب «2» أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو بن العاص: إنى قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلىّ منكم يا معشر العرب، لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علىّ ما أصبتم من سبايا أرضى فعلت، فبعث إليه عمرو: إن ورائى أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عنى حتى أكتب إليه بالذى عرضت علىّ، فإن قبل ذلك منك قبلت، وإن أمرنى بغير ذلك مضيت لأمره. قال: فقال: نعم. فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يذكر له الذى عرض عليه صاحب الإسكندرية. قال: وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به، ثم وقفنا ببلهيب وفى أيدينا بقايا من سبيهم، وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءه، وقرأه علينا عمرو وفيه: «أما بعد: فإنه جاء فى كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض عليك أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصبت من سبايا أرضه، ولعمرى لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلىّ من فىء يقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تخيروا من فى أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل ذمته، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب وبلغ مكة والمدينة واليمن فإنّا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفى له به» . قال: فبعث عمرو بن العاص إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذى كتب به أمير المؤمنين، فقال: قد فعلت، فجمعنا ما فى أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتى بالرجل ممن فى أيدينا، ثم نخيره بين الإسلام وبين النصراينية، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة لهى أشد من تكبيرتنا حين تقتحم القرية، ثم نجوزه إلينا، وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى وحازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعا

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 105، 106) . (2) بلهيب: قرية من قرى الريف، يقال لها: الريش. انظر: الطبرى (4/ 105) ، معجم البلدان (1/ 492) .

شديدا، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم، فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم. وفيمن أتينا به أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن، قال القاسم: وقد أدركته وهو عريف بنى زبيد، قال ابن جزء الزبيدى: فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية، وأبوه وأمه وإخوته فى النصارى، فاختار الإسلام، فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا عليه، حتى شققوا ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى. ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها، فمن زعم غير ذلك أن الإسكندرية وما حولها من القرى لم تكن لها جزية ولا لأهلها عهد فقد كذب. قال القاسم: وإنما أهاج هذا الحديث أن ملوك بنى أمية كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أنها إنما دخلت عنوة، وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا، وقد تقدم بعض ما وقع فى هذا المعنى من الاختلاف. وكذلك اختلفوا فى وقت فتح مصر، فذكر ابن إسحاق أنها فتحت سنة عشرين، وكذلك قال أبو معشر والواقدى. وقد روى عن أبى معشر أن الإسكندرية فتحت سنة خمس وعشرين، ولعل ذلك فتحها الأخير، إذ قد تقدم ذكر انتقاضها مرتين. وأما سيف «1» فزعم أن مصر والإسكندرية فتحتا فى سنة ست عشرة. قال: ولما كان ذو القعدة من سنة ست عشرة وضع عمر، رحمه الله، مسالح مصر على السواحل وغيرها. وقال سعيد بن عفير وغيره «2» : لما تم الفتح للمسلمين بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى التى حول الفسطاط، فأقامت الفيوم سنة لم يعلم المسلمون مكانها، حتى أتاهم رجل فذكرها لهم، فأرسل عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصدفى، فلما سلكوا فى المجابة لم يروا شيئا، فهموا بالانصراف، فقالوا: لا تعجلوا، سيروا فإن كان كذبا فما أقدركم على ما أردتم. فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سواد الفيوم فهجموا عليها، فلم يكن عندهم قتال وألقوا بأيديهم. قال: ويقال: بل خرج مالك بن ناعمة الصدفى، وهو صاحب الأشقر، ينفض المجابة

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 111، 112) . (2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 169) .

على فرسه، ولا علم له بما خلفها من الفيوم، فهجم على الفيوم فلما رأى سوادها رجع إلى عمرو فأخبره. وقيل غير ذلك فى وجه الانتهاء إلى الفيوم مما لا كبير فائدة فى ذكره، والله تعالى أعلم «1» . وعن يزيد بن أبى حبيب أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها مفروغا منها همّ بسكناها، وقال: مساكن قد كفينا بناءها، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه فى ذلك، فسأل عمر الرسول: هل يحول بينى وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم، إذا جرى النيل. فكتب إلى عمرو: إنى لا أحب أن ينزل المسلمون منزلا يحول الماء بينى وبينهم لا فى شتاء ولا فى صيف. فتحول عمرو من الإسكندرية إلى الفسطاط. وإن ناسا من المسلمين حين افتتحوا مصر مع عمرو بن العاص اختطوا بالجيزة وسكنوا بها، فكتب عمرو بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر يقول: ما كنت أحب أن ينزلوا منزلا يكون الماء دونهم، فإذا فعلوا فابن عليهم حصنا. فبنى الحصن الذى خلف الجسرين. وبنى عمرو بن العاص المسجد، وكان ما حوله حدائق وأعنابا، فنصبوا الحبال حتى استقام لهم، ووضعوا أيديهم، فلم يزل عمرو قائما حتى وضعوا القبلة، وضعها هو ومن حضر معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذ فيه منبرا. فكتب إليه عمر بن الخطاب: «أما بعد. فإنه بلغنى أنك اتخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين، أو ما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك، فعزمت عليك لما كسرته» . ولما اختط الناس المنازل بالفسطاط كتب عمرو بن العاص إلى عمر، رضى الله عنه: إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع. فكتب إليه عمر: أنى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر؟ وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين. وذكر الطبرى» أن القبط حضروا باب عمرو، فبلغه أنهم يقولون: ما أرثّ العرب

_ (1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 91) . (2) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 110) .

وأهون أنفسهم وما رأينا مثلنا دان لهم فخاف أن يستثيرهم ذلك، فأمر بجزر فنحرت، فبطحت فى الماء والملح، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا هم وأصحابهم، وجلس وأذن لأهل مصر، وجىء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين، فأكلوا أكلا عربيا، انتشلوا وحسوا وهم فى العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة، وتقدم إلى أمراء الأجناد فى الحضور بأصحابهم من الغد، وأمرهم أن يجيئوا فى ثياب أهل مصر وأحذيتهم، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك، ففعلوا، وأذن لأهل مصر، فرأوا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوم بألوان مصر، فأكلوا أكل أهل مصر، ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا. وبعث إليهم: أن يتسلحوا غدا للعرض، وغدا على العرض، وأذن لأهل مصر فعرضهم عليهم، ثم قال: إنى قد علمت أنكم رأيتم فى أنفسكم أنكم فى شىء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أريكم حالهم، كيف كانت فى أرضهم، ثم حالهم فى أرضكم، ثم حالهم فى الحرب فظفروا بكم، وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم فى اليوم الثانى، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم فى اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثانى وراجع إلى عيش اليوم الأول. فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم. وبلغ عمر، رحمه الله، ذلك، فقال لجلسائه، يعنى عمرا: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره، إن عمرا لعض، ثم أمّره عليها وأقام بها. وذكر ابن عبد الحكم أن عمر، رضى الله عنه، كتب أن يختم فى رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف عرضا، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى، ولا يضربوا على النساء، ولا على الولدان، ولا يدعوهم يتشبهون «1» بالمسلمين فى لبوسهم «2» . قال: ثم إن عمر بن الخطاب أمر أمراء الأجناد أن يتقدموا إلى الرعية بأن عطاءهم قائم، وأرزاق عيالهم جارية، فلا يزرعون، يعنى الأجناد، ولا يزارعون. فأتى شريك بن سمى الغطيفى إلى عمرو بن العاص فقال: إنكم لا تعطوننا ما يحبسنا أفتأذن لى بالزرع؟ فقال له عمرو: ما أقدر على ذلك، فزرع شريك بغير إذنه، فكتب

_ (1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 151) . (2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 162) .

عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمره أن يبعث إليه شريكا، فأقرأ عمرو شريكا الكتاب، فقال له شريك: قتلتنى يا عمرو قال: ما أنا قتلتك قال: أنت صنعت هذا بنفسك قال: فإذا كان هذا من رأيك فأذن لى فى الخروج إليه من غير كتاب، ولك علىّ عهد الله أن أجعل يدى فى يده، فأذن له، فلما وقف على عمر قال: تؤمننى يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن أى الأجناد أنت؟ قال: من جند مصر، قال: فلعلك شريك بن سمى الغطيفى؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قال: لأجعلنك نكالا لمن خلفك، قال: أو تقبل منى ما قبل الله من العباد؟ قال: وتفعل؟ قال: نعم، فكتب إلى عمرو بن العاص: إن شريك ابن سمى جاءنى تائبا فقبلت منه. وعن الليث بن سعد «1» قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك وقال: أكتب فى ذلك إلى أمير المؤمنين، فأجابه عمر عن كتابه إليه فى ذلك: سله لم أعطاك به ما أعطاك، وهى لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها. فسأله عمرو، فقال: إنا لنجد صفتها فى الكتب أن فيها غراس الجنة، فكتب بذلك إلى عمر، فأجابه: إنا لا نعلم غراس الجنة إلا المؤمنين، فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشىء. فكان أول من دفن فيها رجل من المعافر يقال له: عامر، فقيل: عمرت. قالوا «2» : ولما استقامت البلاد وفتح الله على المسلمين، فرض عمرو بن العاص لرباط الإسكندرية ربع الناس، يقيمون ستة أشهر ثم يعقب بعدهم ربعا آخر ستة أشهر، وربعا فى السواحل، والنصف الثانى مقيمون معه. وقيل: كان عمر بن الخطاب يبعث كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط بالإسكندرية وكانت الولاة لا تغفلها، ويكثفون رابطتها، ولا يأمنون الروم عليها. وكتب عثمان بن عفان، رضى الله عنه، وهو خليفة إلى عبد الله بن سعد بن أبى سرح بعد أن استعمله على مصر: قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية، وقد نقضت مرتين، فألزم الإسكندرية رابطتها، وأجر عليهم أرزاقهم، وأعقب بينهم فى كل ستة أشهر. وكان عمرو بن العاص يقول: ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة، وقال: نيل مصر سيد

_ (1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 157) . (2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 192) .

الأنهار، سخر الله له كل نهر من المشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها، وفجر له الأرض عيونا، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد سبحانه أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. ولما فتح عمرو مصر أتاه أهلها حين دخل بؤنة من أشهر العجم، فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سنة لا يجرى إلا بها. فقال: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان لاثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عهدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى هذا النهر. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون فى الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله. فأقاموا ذلك الشهر والشهرين اللذين بعده لا يجرى قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب به إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر، رضى الله عنه: قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها فى داخل النيل. فلما قدم الكتاب على عمرو وفتح البطاقة فإذا فيها: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر: أما بعد، فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذى يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة فى النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله، عز وجل، ستة عشر ذراعا فى ليلة. وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر. ذكر فتح أنطابلس قال ابن عبد الحكم «1» : كان البربر بفلسطين، يعنى فى زمان داود عليه السلام، فخرجوا منها متوجهين إلى الغرب حتى انتهوا إلى لوبية ومراقية، وهما كورتان من كور مصر الغربية، مما يشرب من ماء السماء ولا ينالهما النيل، فتفرقوا هنالك، فتقدمت زناتة ومغيلة إلى الغرب وسكنوا الجبال وتقدمت لواتة فسكنت أرض أنطابلس وهى برقة، وتفرقت فى هذا الغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس، ونزلت هوارة مدينة لبدة،

_ (1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 170، 171) .

ونزلت نفوسة مدينة صبرة، وجلا من كان فيها من الروم من أجل ذلك، وأقام الأفارق وكانوا خدما للروم على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم، وهم بنو أفارق بن قيصر بن حام. فسار عمرو بن العاص فى الخيل حتى قدم برقة، فصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها إليه جزية، على أن يبيعوا من أبنائهم فى جزيتهم، ولم يكن يدخل برقة يومئذ جابى خراج، وإنما كانوا يبعثون بالجزية إذا جاء وقتها. ووجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة. قال الطبرى: فافتتحها بصلح، وصار ما بين برقة وزويلة سلما للمسلمين. وقال أبو العالية الحضرمى: سمعت عمرو بن العاص على المنبر يقول: لأهل أنطابلس عهد يوفى لهم به. فتح أطرابلس قال ابن عبد الحكم «1» : ثم سار عمرو حتى نزل أطرابلس فى سنة اثنتين وعشرين، فنزل القبة التى على الشرف من شرقيها، فحاصرها شهرا لا يقدر منهم على شىء، فخرج رجل من بنى مدلج ذات يوم من عسكر عمرو متصيدا فى سبعة نفر، فمضوا غربى المدينة حتى أمنعوا عن العسكر، ثم رجعوا فأصابهم الحر، فأخذوا على ضفة البحر، وكان البحر لاصقا بسور المدينة، ولم يكن فيما بين المدينة والبحر سور، وكانت سفن الروم شارعة فى مرساها إلى بيوتهم، فنظر المدلجى وأصحابه، فإذا البحر قد غاض من ناحية المدينة، ووجدوا مسلكا إليها من الموضع الذى حسر عنه البحر، فدخلوا منه حتى أتوا من ناحية الكنيسة وكبروا، فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم، وأبصر عمرو وأصحابه السلمة فى جوف المدينة، فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم، فلم يفلت الروم إلا بما خف لهم من مراكبهم، وغنم عمرو ما كان فى المدينة. وكان من بصبرة متحصنين، وهى المدينة العظمى وسوقها السوق القديم، فلما بلغهم محاصرة عمرو مدينة أطرابلس، وأنه لم يصنع فيهم شيئا ولا طاقة له بهم أمنوا. فلما ظفر عمرو بمدينة أطرابلس جرد خيلا كثيفة من ليلته، وأمرهم بسرعة السير، فصبحت خيله مدينة صبرة وهم غافلون وقد فتحوا أبوابها لتسرح ماشيتهم، فدخلوها فلم ينج منهم أحد، واحتوى أصحاب عمرو على ما فيها ورجعوا إلى عمرو.

_ (1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 171- 173) .

قال: ثم أراد عمرو أن يوجه إلى المغرب، فكتب إلى عمر بن الخطاب: إن الله، عز وجل، قد فتح علينا أطرابلس، وليس بينها وبين أفريقية إلا تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن نغزوها ويفتحها الله على يديه فعل. فكتب إليه عمر: لا، إنها ليست بأفريقية، ولكنها المفرقة، غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت. قال: وأتى عمرو بن العاص كتاب المقوقس، يذكر له أن الروم يريدون نكث العهد ونقض ما كان بينهم وبينه، وكان عمرو قد عاهد المقوقس على أن لا يكتمه أمرا يحدث، فانصرف عمرو راجعا مبادرا لما أتاه. قال: وقد كان عمرو يبعث الجريدة من الخيل فيصيبون الغنائم ثم يرجعون، يعنى من أطراف أفريقية. ذكر انتقاض الإسكندرية فى خلافة عثمان رضى الله عنه «1» قال عبد الرحمن بن عبد الحكم: وفى سنة خمس وعشرين عزل عثمان بن عفان عمرو ابن العاص عن مصر، وولى عبد الله بن سعد «2» . وقد كانت الإسكندرية انتقضت، وجاءت الروم عليهم منويل الخصى فى المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية، فأجابهم من بها من الروم، ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث، فلما نزلت الروم بالإسكندرية سأل أهل مصر عثمان، رضى الله عنه، أن يقر عمرا حتى يفرغ من قتال الروم، فإن له معرفة فى الحرب وهيبة فى العدو، ففعل. فخرج إليهم عمرو فى البر والبحر، وضوى إلى المقوقس من أطاعه من القبط. فأما الروم فلم يطعه منهم أحد. فقال خارجة بن حذافة لعمرو: ناهضهم قبل أن يكثر مددهم ولا آمن أن تنتقض مصر كلها. قال عمرو: لا، ولكن دعهم حتى يسيروا إلىّ، فإنهم يصيبون من مروا به فيجزى الله بعضهم ببعض، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورها، ويأكلون أطعمتها،

_ (1) الخبر منقول عن ابن عبد الحكم فى فتوح مصر وأخبارها (ص 174- 191) . (2) هو: عبد الله بن سعد العامرى. انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 213) ، التاريخ الصغير (1/ 84) ، البداية والنهاية (5/ 350) ، الإصابة ترجمة رقم (4729) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2976) .

وينتهبون ما مروا به، فلم يعرض لهم عمرو حتى بلغوا نقيوس «1» ، فلقوهم فى البر والبحر، فبدأت الروم والقبط فرموا بالنشاب فى الماء رميا شديدا، حتى أصاب النشاب يومئذ فرس عمرو فى لبته وهو فى البر، فعقر فنزل عنه، ثم خرجوا من البحر، فاجتمعوا هم والذين فى البر فنصحوا المسلمين بالنشاب، فاستأخر المسلمون عنهم شيئا، وحملوا حملة ولى المسلمون منها، وانهزم شريك بن سمى فى خيله. وكانت الروم قد جعلت صفوفا خلف صفوف، وبرز يومئذ بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب، فدعا إلى البراز، فبرز إليه رجل من زبيد يقال له: حومل ويكنى أبا مذحج، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان، ثم ألقى البطريق الرمح وأخذ السيف، وألقى حومل رمحه وأخذ سيفه وكان يعرف بالنجدة، وجعل عمرو يصيح: أبا مذحج فيجيبه: لبيك، والناس على شاطئ النيل فى البر على تعبئتهم وصفوفهم، فتجاولا ساعة بالسيفين، ثم حمل عليه البطريق فاحتمله وكان نحيفا، ويخترط حومل خنجرا كان فى منطقته أو فى ذراعه فيضرب به نحر العلج أو ترقوته، فأثبته ووقع عليه فأخذ سلبه، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام، رحمة الله عليه، فرئى عمرو يحمل سريره بين عمودى نعشه حتى دفنه بالمقطم. قال: ثم شد المسلمون عليهم فكانت هزيمتهم، وطلبهم المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية، ففتح الله عليهم وقتل منويل الخصى. قال الهيثم بن زياد: وقتلهم عمرو بن العاص حتى أمعن فى مدينتهم، فكلم فى ذلك فأمر برفع السيف عنهم، وبنى فى ذلك الموضع مسجد، وهو الذى يقال له بالإسكندرية مسجد الرحمة، سمى بذلك لرفع عمرو السيف هنالك. وكان عمرو حلف: لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها حتى تكون مثل بيت الزانية يؤتى من كل مكان، فلما أظفره الله هدم سورها كله. وجمع عمرو ما أصاب منهم، فجاءه من أهل تلك القرى من لم يكن نقض، فقالوا: قد كنا على صلحنا، ومرّ علينا هؤلاء اللصوص فأخذوا متاعنا ودوابنا وهو قائم فى يديك، فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه وأقاموا عليه البينة. وقال بعضهم لعمرو: ما حل لك ما صنعت بنا، وكان لنا عليك أن تقاتل عنا لأنا فى ذمتك ولم ننقض، فأما من نقض فأبعده الله. فندم عمرو وقال: يا لتنى كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية.

_ (1) نقيوس: قرية كانت بين الفسطاط والإسكندرية. انظر: معجم البلدان (5/ 303) .

وكان سبب نقض الإسكندرية، فيما ذكر ابن عبد الحكم، أن صاحب أخناء قدم على عمرو بن العاص فقال: أخبرنا ما علينا من الجزية فنصبر لها، فقال له عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة: لو أعطيتنى من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم، فغضب صاحب أخناء، فخرج إلى الروم فقدم بهم، فهزمهم الله،، وأسر ذلك النبطى، فأتى به إلى عمرو، فقال له الناس: اقتله، فقال: لا، بل انطلق فجئنا بجيش آخر. وقيل: إنه لما أتى به سوره وتوجه وكساه برنسين أرجوان، وقال له: ايتنا بمثل هؤلاء، فرضى بأداء الجزية. فقيل له: لو أتيت ملك الروم؟ فقال: لو أتيته لقتلنى وقال: قتلت أصحابى. وذكر ابن عبد الحكم، أيضا، أن الروم مشت إلى قسطنطين بن هرقل فى سنة خمس وثلاثين فقالوا: تترك الإسكندرية فى أيدى العرب وهى مدينتنا الكبرى؟ فقال: ما أصنع بكم وما تقدرون أن تتماسكوا ساعة إذا لقيتم العرب؟ قالوا: فاخرج على أن نموت، فتبايعوا على ذلك، وخرج فى ألف مركب يريد الإسكندرية، فبعث الله عليهم ريحا عاتية فأغرقتهم، إلا قسطنطين نجا بمركبه فألقته الريح بصقلية، فسألوه عن أمره فأخبرهم، فقالوا: شأمت النصرانية وأفنيت رجالها، فلو دخل العرب علينا لم نجد من يردهم، ثم صنعوا له الحمام ودخلوا عليه ليقتلوه، فقال: ويلكم تذهب رجالكم وتقتلون ملككم؟ قالوا: كأنه غرق معهم، ثم قتلوه وخلوا من كان معه فى المركب. ذكر غزو أفريقية وفتحها «1» قال ابن عبد الحكم «2» : ولما عزل عثمان، عمرو بن العاص عن مصر وأمّر عبد الله بن سعد بن أبى سرح، كان يبعث المسلمين فى جرائد الخيل كما كانوا يفعلون فى إمرة عمرو بن العاص، فيصيبون من أطراف أفريقية ويغنمون، فكتب عبد الله بن سعد فى ذلك إلى عثمان، وأخبره بقربها من حوز المسلمين، واستأذنه فى غزوها، فندب عثمان الناس إلى ذلك بعد المشورة فيه، فلما اجتمع الناس أمّر عليهم الحارث بن الحكم إلى أن يقدموا مصر على عبد الله بن سعد، فيكون إليه الأمر، فخرج عبد الله إليها، وكان

_ (1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 343- 345) . (2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 183) .

عليها ملك يقال له: جرجير، كان هرقل استخلفه فخلعه، وكان سلطانه ما بين أطرابلس إلى طنجة، ومستقر سلطانه يومئذ بمدينة يقال لها قرطاجنة، فلقى عبد الله جرجير، فقاتله فقتله الله، وولى قتله عبد الله بن الزبير، فيما يزعمون، وهرب جيش جرجير، فبعث عبد الله السرايا وفرقها، فأصابوا غنائم كثيرة، فلما رأى ذلك رؤساء أهل أفريقية سألوه أن يأخذ منهم مالا على أن يخرج من بلادهم، فقبل منهم ذلك ورجع إلى مصر، ولم يول على أفريقية أحدا، ولا اتخذ بها قيروانا. ويروى أن جرجيرا لما نازله المسلمون القتال أبرز ابنته وكانت من أجمل النساء، فقال: من يقتل عبد الله بن سعد وله نصف ملكى وأزوجه ابنتى؟ فبلغ ذلك عبد الله فقال: أنا أصدق من العلج، وأوفى بالعهد! من يقتل جرجيرا فله ابنته، فقتله عبد الله بن الزبير، فدفع إليه عبد الله ابنته. وذكر ابن عبد الحكم «1» ، عن أبيه وابن عفير: أن ابنة جرجير صارت لرجل من الأنصار فى سهمه، فأقبل بها منصرفا قد حملها على بعير له، فجعل يرتجز: يا ابنة جرجير تمشى عقبتك ... إن عليك بالحجاز ربّتك لتحملنّ من قباء قربتك فقالت: ما تقول؟ وسبته فأخبرت بذلك، فألقت بنفسها عن البعير الذى كانت عليه، فاندقت عنقها فماتت. فالله أعلم أى ذلك كان. وكانت غنائم المسلمين يومئذ أنه بلغ سهم الفارس بعد إخراج الخمس ثلاثة آلاف دينار: للفرس ألفا دينار، ولفارسه ألف دينار، وللراجل ألف، وقسم لرجل من الجيش توفى بذات الحمام، فدفع إلى أهله بعد موته ألف دينار. وكان جيش عبد الله بن سعد ذلك الذى وقع له القسم عشرين ألفا. وبعث عبد الله بالفتح إلى عثمان، رضى الله عنه، عقبة بن نافع، ويقال: بل عبد الله ابن الزبير، وهو أصح. وسار، زعموا، عبد الله بن الزبير على راحلته من أفريقية إلى المدينة عشرين ليلة، ولما دخل على عثمان أخبره بلقائهم العدو، وبما كان فى تلك الغزوة، فأعجب عثمان فقال له: هل تستطيع أن تخبر الناس بهذا؟ قال: نعم، فأخذ بيده حتى انتهى به إلى المنبر ثم

_ (1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 184، 185) .

قال: اقصص عليهم ما أخبرتنى به، فتلكأ عبد الله بدأ، ثم تكلم بكلام أعجبهم. ويروى عن ابن شهاب «1» أن عثمان لما قال لابن الزبير أتكلم الناس بهذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا أهيب لك منى لهم، فأمر عثمان فجمع الناس، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وكان أكره شىء إليه الخطب، وأحب الأشياء إليه ما كفى، ثم قال: أيها الناس، إن الله قد فتح عليكم أفريقية، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم بخبرها إن شاء الله، ثم جلس على المنبر. وقام ابن الزبير إلى جانب المنبر، وكان أول من قام إلى جانبه، فقال: الحمد لله الذى ألف بيننا بعد الفرقة، وجعلنا متحابين بعد البغضة، والحمد لله الذى لا تجحد نعماؤه، ولا يزول ملكه، له الحمد كما حمد نفسه، وكما هو أهله. ابتعث محمدا صلى الله عليه وسلم فاختاره بعلمه، وائتمنه على وحيه، فاختار له من الناس أعوانا قذف فى قلوبهم تصديقه، فآمنوا به وعزروه ووقروه ونصروه، وجاهدوا فى الله حق جهاده، فاستشهد الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح والبيع الرابح، وبقى منهم من بقى، لا يأخذهم فى الله لومة لائم. أيها الناس، رحمكم الله، إنا خرجنا للوجه الذى قد علمتم، فكنا مع خير وال ولى فحمد، وقسم فعدل، لم يفقد من بر أمير المؤمنين شيئا، كان يسير بنا البردين يخفض بنا فى الظهائر، ويتخذ الليل حملا، يعجل الترحل من المنزل الفقير، ويطيل اللباث فى المنزل المخصب الرحب، فلم نزل على أحسن حالة يتعرفها قوم من ربهم، حتى انتهى إلى أفريقية، فنزل منها بحيث يسمع صهيل الخيل ورغاء الإبل وقعقعة السلاح، فأقام أياما يجم كراعه، ويصلح سلاحه، ثم دعاهم إلى الإسلام والدخول فيه فبعدوا منه، وسألهم الجزية عن صغار والصلح فكانت هذه أبعد، فأقام فيها ثلاث عشرة ليلة يتأتى بهم وتختلف رسله إليهم، فلما يئس منهم قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر النبى صلى الله عليه وسلم وأكثر الصلاة عليه، ثم ذكر فضل الجهاد، وما لصاحبه إذا صبر واحتسب، ثم نهد لعدوه فقاتلهم أشد القتال يومه ذلك، وصبر الفريقان جميعا، وكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة، واستشهد الله رجلا من المسلمين فبتنا وباتوا، للمسلمين بالقرآن دوى كدوى النحل، وبات المشركون فى ملاهيهم وخمورهم. فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التى كنا عليها بالأمس، وزحف بعضنا إلى بعض، فأفرغ

_ (1) هو: محمد بن مسلم بن عبد الله الزهرى.

الله علينا الصبر، ثم أنزل علينا النصر، ففتحناها من آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، فبلغ فيها الخمس خمسمائة ألف دينار، وتركت المسلمين قد قرت أعينهم، وقد أغناهم النفل، ووسعهم الحق، وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين وإلى المسلمين، أبشره وإياهم بما فتح الله من البلاد وأذل من المشركين. فأحمد الله على آلائه، وما أحل بأعدائه من بأسه الذى لا يرد عن القوم المجرمين «1» . ثم صمت، ونهض إليه الزبير فقبل بين عينيه وقال: يا بنى، إذا نكحت المرأة فانكحها على شبه أبيها أو أخيها تأتك بأحدهما، والله ما زلت تنطق بلسان أبى بكر الصديق حتى صمت. ويروى عن الزبير لما أمر عثمان، رحمه الله، ابنه عبد الله بالقيام ليخبر الناس بما شهد من فتح أفريقية أنه قال: وجدت فى نفسى على عثمان وقلت: يقيم غلاما من الغلمان لا يبلغ الذى يحق عليه والذى يجمل به! فقام فتكلم فأبلغ وأصاب، فما فرغ حتى ملأهم عجبا. وفى كتاب سيف «2» : أن عثمان لما وجه عبد الله بن سعد إلى أفريقية قال له: إن فتح الله عليك أفريقية فلك مما أفاء الله عليك خمس الخمس، فلما انتهى إلى أفريقية فيمن معه لقيهم صاحبها، فقاتلهم فقتله الله، قتله عبد الله بن سعد، وفتح الله أفريقية سهلها وجبلها، واجتمعوا على الإسلام وحسنت طاعتهم، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم بعد أن أخرج الخمس، فعزل منه لنفسه خمسه، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان، وضرب فسطاطا فى موضع القيروان. ووفد وفد إلى عثمان فشكوه فيما أخذ من الخمس، فقال عثمان: أنا نفلته، وإنما النفل تبصرة وتدريب للرجال. ثم كتب إلى عبد الله بن سعد باستصلاحهم. قال: وكان عثمان قد أرسل معه عبد الله بن نافع بن عبد القيس، وعبد الله بن نافع ابن الحصين الفهريين، وأمرهما بالمسير إلى الأندلس فيمن ندبه معهما من الرجال، وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله بن سعد على صاحب أفريقية، وبعد ذلك يسيران إلى الأندلس، فلما كان الاستيلاء على صاحب أفريقية سارا من فورهما إلى الأندلس، وأتياها من قبل البحر.

_ (1) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (420، 421) . (2) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 254، 255) .

وكان عثمان، رحمه الله قد كتب إلى من انتدب إلى الأندلس: «أما بعد: فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن لم تفتحوها كنتم شركاء من يفتحها فى الأجر، والسلام» . وقال كعب: يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها، يعرفون بنورهم يوم القيامة. ذكر صلح النوبة «1» قال ابن عبد الحكم «2» : ثم غزا عبد الله بن سعد بن أبى سرح الأساود وهم النوبة سنة إحدى وثلاثين، فقاتلته النوبة قتالا شديدا، وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج، وأبى شمر بن أبرهة، وحيويل بن ناشرة، فيومئذ سموا رماة الحدق، فهادنهم عبد الله بن سعد إذ لم يطقهم. وفى ذلك اليوم يقول بعض من حضره: لم تر عينى مثل يوم دمقله ... والخيل تغدو بالدروع مثقله قال: وكان الذى صولح عليه النوبة، فيما ذكر بعض المشايخ المصريين، ثلاثمائة رأس وستين رأسا فى كل سنة. ويقال: بل على أربعمائة فى كل سنة، منها لفىء المسلمين ثلاثمائة وستون، ولوالى البلد أربعون، منها، فيما زعم بعض المشايخ، سبعة عشر مرضعا. ثم انصرف عبد الله بن سعد عنهم. قال: وذكر بعض المتقدمين أنه وقف بالفسطاط فى بعض الدواوين، يعنى على عهد لهم قرأه قبل أن يحرق، فإذا هو يحفظ منه: إنا عاهدناكم وعاقدناكم أو توفونا فى كل سنة ثلاثمائة رأس وستين رأسا، وتدخلون بلادنا مجتازين غير مقيمين، وكذلك ندخل بلادكم، على أنكم إن قتلتم من المسلمين قتيلا فقد برئت منكم الهدنة، وإن آويتم للمسلمين عبدا فقد برئت منكم الهدنة، وعليكم رد أباق المسلمين ومن لجأ إليكم من أهل الذمة. وقال يزيد بن أبى حبيب: وليس بينهم وبين أهل مصر عهد ولا ميثاق، وإنما هى هدنة أمان بعضنا من بعض. قال ابن لهيعة: وأبو حبيب والد يزيد واسمه سويد منهم.

_ (1) انظر: مراصد الاطلاع (2/ 534) ، تهذيب التهذيب لابن حجر (10/ 203) . (2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 188، 189) .

وقال الليث بن سعد وذكر له قول مالك بن أنس: لا يشترى رقيق النوبة ولا يباعون. فقال الليث: لا علم لمالك بهذا، نحن أعلم به منه، إنما صولحوا على أن نكف عنهم حربنا فقط، وعلى أنهم يعطونا منهم رقيقا فى كل سنة، وعلى أنا لا نمنع غزو غيرنا، فبذلك نشتريهم، إنما علينا الوفاء بأن لا نحاربهم فقط. قال ابن عبد الحكم: ولم أر أحدا من أصحاب مالك يقول بقوله فى النوبة، وكلهم كان يشتريهم. قال: واجتمعت لعبد الله بن سعد البجة فى انصرافه من بلاد النوبة على شاطئ النيل، فسأل عنهم، فأخبر بشأنهم، فهان عليه أمرهم، فنفذ وتركهم، ولم يكن لهم عقد ولا صلح، وأول من صالحهم عبيد الله بن أبى الحبحاب. ذكر البحر والغزو فيه ذكر الطبرى «1» عن سيف عن أشياخه قالوا: ألح معاوية على عمر بن الخطاب فى غزو البحر وقرب الروم من حمص، وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم، حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر أحب أن يزود عنه، فكتب إلى عمرو بن العاص: صف لى البحر وراكبه، فإن نفسى تنازعنى إليه، وإنى أشتهى خلافها، فكتب إليه عمرو بن العاص: إنى رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن سكن خوف القلوب وإن تحرك راع العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نحا فرق. فلما جاءه كتاب عمرو كتب إلى معاوية: لا والذى بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا لا أحمل فيه مسلما أبدا. وفى رواية أنه كتب إليه: إنا قد سمعنا أن بحر الشام يشرف على أطول شىء فى الأرض، يستأذن الله فى كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها، فكيف أحمل الجنود فى هذا البحر الكافر المستصعب؟ والله لمسلم واحد أحب إلىّ مما حوت الروم فإياك أن تتعرض لى، وقد تقدمت إليك.

_ (1) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 258- 261) .

فلما ولى عثمان بن عفان لم يزل به معاوية، حتى عزم على ذلك، وقال له: لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم، خيرهم، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه. ففعل ذلك معاوية، واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسى حليف بنى فزارة، فغزا خمسين غزاة من بين صائفة وشاتية فى البر والبحر، ولم يغرق معه أحد فى البحر ولا نكب، وكان يدعو الله أن يرزقه العافية فى جنده، ولا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل الله ذلك له، حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده، خرج فى قارب طليعة، فانتهى إلى البر من أرض الروم، وعليه سؤال يعبرون ذلك المكان، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من السؤال إلى قريتها، فقالت للرجال: هل لكم فى عبد الله بن قيس؟ قالوا: وأين هو؟ قالت: فى المرفأ، قالوا: أى عدوة الله، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس؟ فوبختهم، وقالت: أنتم أعجز منى! أو يخفى عبد الله على أحد؟ فبادروا فهجموا عليه، فقاتلوه وقاتلهم، فأصيب وحده، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه، فجاؤا حتى أرفوا، والخليفة فيهم سفيان بن عوف الأودى، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه ويشتمهم، فقالت جارية عبد الله: واعبد الله، ما هكذا كان يقول حين تقاتل! فقال سفيان: وكيف كان يقول؟ قالت: «الغمرات ثم ينجلين» ؛ فجعل سفيان يقول ذلك وترك ما كان يقول، وأصيب فى المسلمين يومئذ. وقيل لتلك المرأة: بأى شىء عرفته؟ فقالت: بصدقته، أعطى كما يعطى الملوك، ولم يقبض قبض التجار. غزو معاوية بن أبى سفيان قبرس وغزا معاوية بن أبى سفيان قبرس سنة ثمان وعشرين فيما ذكر الواقدى. قال: وهو أول من غزا الروم، وغزاها أهل مصر وعليهم عبد الله بن سعد بن أبى سرح، حتى لقوا معاوية فكان على الناس. قال ابن عفير: ومع معاوية امرأته فاختة بنت قرظة، وكان معه، أيضا، فى غزاته أبو الدرداء، وشداد بن أوس، وأبو ذر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فى عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم حرام الأنصارية فتوفيت هناك، فقبرها يستسقى به أهل قبرس ويسمونه قبر المرأة الصالحة. وأم حرام «1» هذه هى خالة أنس بن مالك، رضى الله، وحديثها مشهور فى نوم النبى

_ (1) انظر ترجمتها فى: الإصابة ترجمة رقم (11971) ، الثقات (3/ 462) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 316) ، تقريب التهذيب (12/ 620) ، تهذيب التهذيب (12/ 462) .

صلى الله عليه وسلم فى بيتها ثم استيقظ وهو يضحك، فسألته: ما يضحكه؟ فقال: «ناس من أمتى عرضوا علىّ غزاة فى سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» ، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم! فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك، فسألته فقال: «ناس من أمتى عرضوا علىّ» «1» ، مثل مقالته الأولى. فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم. قال: «أنت من الأولين» «2» ، فكانت هذه الغزوة هى التى عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا. وخرجت أم حرام فيها، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت. قال ابن عمير: وذلك العام بالشام عام قبرس الأول. وقيل: إن معاوية توجه إليها من حصن عكا فى مائتى مركب، قال: وظفر معاوية فى هذه الغزاة، وأخذ من الأموال والحلى ما لا يحصى. وقال جبير بن نفير «3» : لما سبيناهم، يعنى أهل قبرس، نظرت إلى أبى الدرداء يبكى، فقلت: ما يبكيك فى يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، وأذل الكفر وأهله؟ فضرب بيده على منكبى، وقال: ثكلتك أمك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره! بينا هى أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك، إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى، فسلط عليهم السباء، وإذا سلط السباء على قوم فليس لله، عز وجل، بهم حاجة. وذكر الطبرى «4» أن معاوية لما غزا قبرس صالح أهلها على جزية سبعة آلاف دينار، يؤدونها إلى المسلمين فى كل سنة، ويؤدون إلى الروم مثلها، ليس للمسلمين أن يحولوا بينهم وبين ذلك، على أن لا يغزوهم المسلمون، ولا يقاتلوا هم من غزا من خلفهم يريد

_ (1) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (1645) ، سنن ابن ماجه (2776) ، التمهيد لابن عبد البر (1/ 225) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (2/ 305) ، موطأ مالك (464) ، فتح البارى لابن حجر (11/ 71، 12/ 391) ، الأذكار النووية (185) . (2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 19، 22، 40، 44، 8/ 78، 9/ 44) ، صحيح مسلم فى كتاب الإمارة (160، 161) ، سنن النسائى فى كتاب الجهاد، باب (37) ، سنن أبى داود فى كتاب الجهاد، باب (10) ، سنن ابن ماجه (2776) ، مسند الإمام أحمد (6/ 361- 423) ، فتح البارى لابن حجر (11/ 71) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 184) ، موطأ مالك (465) ، التمهيد لابن عبد البر (1/ 225، 241) . (3) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 262، 263) . (4) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 262) .

الخروج إلى أرض المسلمين، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم، وعلى أن يبطرق إمام المسلمين عليهم منهم. وذكر الواقدى «1» ، أيضا، مصالحة معاوية أهل قبرس فى ولاية عثمان، رحمه الله، وأن فى العهد الذى بيننا وبينهم ألا يتزوجوا فى عدونا من الروم إلا بإذننا. قال: وفى هذه السنة، يعنى سنة ثمان وعشرين، غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم. غزوة ذات الصوارى «2» ذكر الواقدى «3» أن أهل الشام خرجوا، وعليهم معاوية بن أبى سفيان، وعلى أهل البحر عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بأفريقية، فخرجوا فى جمع لم ير الروم مثله قط منذ كان الإسلام، فخرجوا فى خمسمائة مركب، فالتقوا هم وعبد الله بن سعد، فأمن بعضهم بعضا حتى قرنوا بين سفن المسلمين وأهل الشرك. قال مالك بن أوس بن الحدثان «4» : كنت معهم، فالتقينا فى البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط، وكانت الريح علينا، فأرسينا ساعة، وأرسوا قريبا منا وسكنت الريح عنا، فقلنا: الأمن بيننا وبينكم. قالوا: ذلك لكم منا ولنا منكم. قلنا: إن أحببتم فالساحل حتى يموت الأعجل، وإن شئتم فالبحر، فنخروا نخرة واحدة، وقالوا: الماء فدنونا منهم، فربطنا السفن بعضها ببعض، حتى كنا بحيث يضرب بعضنا بعضا، فقاتلنا أشد القتال، ووثب الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف ويتواجئون بالخناجر، حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما. وقال بعض من حضر ذلك اليوم، أيضا: رأيت الساحل وإن عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال، وإن الدم للغالب على الماء.

_ (1) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 263) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (4/ 288) ، المنتظم لابن الجوزى (5/ 12) . (3) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 290) . (4) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7611) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4565) ، طبقات ابن سعد (5/ 56) ، المعارف (427) ، الجرح والتعديل (4/ 203) ، تاريخ ابن عساكر (8416) ، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 2/ 79) ، تهذيب التهذيب (10/ 10) ، شذرات الذهب (1/ 99) .

ولقد قتل يومئذ من المسلمين بشر كثير، وقتل من الكفار ما لا يحصى، وصبروا يومئذ صبرا لم يصبروا فى موطن قط مثله، ثم أنزل الله نصره على أهل الإسلام، وانهزم القسطنطين مدبرا، وأصابته يومئذ جراحات مكث فيها حينا جريحا. وعن حنش الصنعانى «1» قال «2» : ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين مع عبد الله ابن سعد، فلما بلغوا ذات الصوارى «3» لقوا جموع الروم فى خمسمائة مركب أو ستمائة، فيها القسطنطين بن هرقل، فقال: أشيروا علىّ، قالوا: انتظر الليلة فباتوا يضربون بالنواقيس، وبات المسلمون يصلون ويدعون الله، ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين فقربوا سفنهم، وقرب المسلمون فربطوا بعضها إلى بعض، وصف عبد الله المسلمين على نواحى السفن، وأمرهم بقراءة القرآن وبالصبر، ووثبت الروم فى سفن المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها، واقتتلوا على غير صفوف قتالا شديدا، ثم إن الله نصر المؤمنين، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلا الشريد، وأقام عبد الله بذات الصوارى أياما بعد هزيمة القوم، ثم أقبل راجعا. وذكر ابن عبد الحكم «4» أن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصوارى أنزل نصف الناس مع بسر بن أبى أرطأة سرية فى البر، فلما مضوا أتى آت إلى عبد الله فقال: ما كنت فاعلا حين ينزل بك ابن هرقل فى ألف مركب فافعله الساعة. قال: وإنما مراكب المسلمين مائتا مركب ونيف. فقام فقال: أشيروا علىّ، فما كلمه رجل من المسلمين، فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم، ثم استشارهم فما كلمه أحد ثم قال الثالثة: إنه لم يبق شىء فأشيروا علىّ، فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعا: أيها الأمير، إن الله تعالى يقول: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249] ، فقال عبد الله: اركبوا باسم الله، فركبوا، وإنما فى كل مركب نصف شحنته، قد خرج النصف الآخر مع بسر فى البر، فلقوهم فاقتتلوا بالنبل والنشاب، وتأخر ابن هرقل لئلا تصيبه الهزيمة، وجعل تختلف القوارب إليه بالأخبار. فقال: ما فعلوا؟.

_ (1) هو: حنش بن عبد الله الصنعانى. (2) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 292) . (3) الصوارى: جمع صار، وهو الخشبة المعترضة وسط السفينة. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (4/ 352) . (4) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (190، 191) .

قالوا: اقتتلوا بالنبل والنشاب، قال: غلبت الروم. ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد نفدت النبل والنشاب فهم يرتمون بالحجارة، قال: غلبت الروم: ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟ قالوا: نفدت الحجارة وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف. قال: غلبت الروم. قال يزيد بن أبى حبيب: وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال، فقرن مركب عبد الله يومئذ وهو الأمير بمركب من مراكب العدو، فكاد مركب العدو يجر مركب عبد الله إليهم، فقام علقمة بن يزيد العطيفى وكان فى المركب مع عبد الله فضرب السلسلة بسيفه فقطعها، فسأل عبد الله بعد ذلك امرأته بسيسة ابنة جمرة بن ليشرح بن عبد كلال، وكانت معه يومئذ، وكان الناس فيما خلا يغزون بنسائهم: من رأيت أشد الناس قتالا؟ قالت علقمة صاحب السلسلة. وكان عبد الله حين خطبها إلى أبيها قال: إن علقمة قد خطبها وله علىّ فيها رأى فإن يتركها أفعل. فكلم عبد الله علقمة فتركها، فتزوجها عبد الله ثم هلك عنها، فتزوجها بعده علقمة، ثم هلك عنها، فتزوجها كريب بن أبرهة. وقال محمد بن الربيع: إنما سميت غزوة ذات الصوارى لكثرة المراكب التى اجتمعت فيها: ابن هرقل فى ألف مركب، والمسلمون فى مائتى مركب ونيف فكثرت الصوارى فى البحر فسميت ذات الصوارى. وفى بعض ما تقدم من الأخبار ما يقتضى أن ذات الصوارى موضع يسمى هكذا، فالله تعالى أعلم. ذكر فتح العراق وما والاه على ما ذكره سيف بن عمر وأورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى عنه وعن غيره ذكروا عن على بن أبى طالب وعبد الله بن عباس، رضى الله عنهما، قالا: حض الله المسلمين على عهد نبيه صلى الله عليه وسلم على الاستقامة على الدين وندبهم إلى فارس، ووعدهم، فتقدم إليهم فى ذلك من قبل غزوهم، ليحثهم وليدربهم، فبدأ بالردة فقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ

يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] ، فسمى من ثبت على دينه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاكرين. ثم عاد فى وصف من ناهض منهم أهل الردة، والمنافقون حشر فى المؤمنين، وإنما يكلم الله عز وجل، المؤمنين بما يعنى به المنافقين، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] ، فسماهم أحباء وأثابهم، حيث كانوا أذلة أرقة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون، يعنى جهادا بعد جهادهم أهل الردة، يقاتلون من بعدهم أهل فارس، ولا يخافون تخويف من يخوفهم، هذا فضل الله يخص به من يشاء، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ عالم بهذا، فهم الشاكرون، وهم الفاضلون، وهم المقربون، وهم أحباء الله. وعن على وابن عباس، رضى الله عنهما، فى قوله عز وجل: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ الآيتين إلى قوله: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [الفتح: 20، 21] ، «مغانم» فتوحا من لدن خيبر، تلونها وتضمون ما فيها «فعجل لكم هذه» أى عجل لكم من ذلك خيبر «وكف أيدى الناس عنكم» أيدى قريش بالصلح يوم الحديبية «ولتكون آية للمؤمنين» شاهدا على ما بعدها ودليلا على إنجازها «وأخرى لم تقدروا عليها» أى على علم وقتها، أفيئها عليكم: فارس والروم «قد أحاط الله بها» قضى الله بها أنها لكم، منها: الأيام، والقوادس، والواقوصة، والمدائن الحمر بالشام، ومصر، والضواحى، فاجتمعت هذه الصفات فيمن قاتل فارس والروم وسائر الأعاجم ذلك الزمان. ذكر سيف قال: كان أول ملوك فارس قاتله المسلمون شيرى بن كسرى، وذلك أن أبا بكر الصديق، رضى الله عنه، حيث فرغ من أهل الردة، وأقامت جنود المسلمين فى بلدان من ارتد، كتب إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة: أن ائذن للمسلمين فى القفل إلا من أحب المقام معك، ولا تكرهن أحدا على القيام، ولا تستعن فى شىء من حربك بمتكاره، وادع من يليك من تميم وقيس وبكر إلى موتان اليمامة، فإن موات ما أفاء الله على رسوله لله ولرسوله، فمن أحيا شيئا من ذلك فهو له، لا يدخل ذلك فى شىء من موات كل بلد أسلم عليه أهله. ففعل خالد، فأنزل اليمامة من هؤلاء الأحياء من أقرن ببنى حنيفة، ولما أذن خالد فى القفل قفل الناس، أهل المدينة ومن حولها، وسائر من كان معه من أهل القبائل، وبقى

خالد فى ألفين من القبائل التى حول المدينة، من مزينة، وجهينة، وأسلم، وغفار، وضمرة، وأناس من غوث طيئ، ونبذ من عبد القيس. ولما قفل من قفل، وجه المثنى بن حارثة الشيبانى، ومذعور بن عدى العجلى، وحرملة ابن مريطة، وسلمى بن القين الحنظليين وهما من المهاجرين، والمثنى ومذعور ممن وفد على النبى صلى الله عليه وسلم فقدموا على أبى بكر، رحمه الله، فقال له حرملة وسلمى: إنا معاشر بنى تميم وبكر بن وائل قد دربنا بقتال فارس، وأشجيناهم حتى اتخذوا الخنادق، وغبقوا المياه، واتخذوا المسالح فى القصور المشيدة وتحصنوا بها، فأذن لنا فى حربهم، فأذن لهما فولاهما على من تابعهما، واستعملهما على ما غلبا عليه، وكانا أول من قدم أرض فارس لقتال أهل فارس، وكانا من المهاجرين ومن صالحى الصحابة، فنزلا أطد» ونعمان والجعرانة فى أربعة آلاف من تميم والرباب، وكان بإزائهما النوشجان والفيرمان بالوركاء «2» فزحفوا إليهما فغلبوهما على الوركاء، وغلبا على هرمزجرد إلى فرات بادقلى «3» . وذكر سيف من طريق آخر أن المثنى ومذعورا لما قدما على أبى بكر استأذناه فى غزو أهل فارس وقالا: إنا وإخواننا من بنى تميم قد دربنا بقتالهم، وأخذنا النصف من أحد وثنى كل موسم، فأذن لهما، وولاهما على من تابعهما، واستعملهما على ما غلبا عليه، فجمعا جموعهما ثم سارا بهم حتى قدما بلاد فارس، وكانا أول من قدمها لقتالهم هما وحرملة وسلمى، وقدم المثنى ومذعور فى أربعة آلاف من بكر بن وائل وعنزة وضبيعة، فنزل أحدهما بخفان «4» ، ونزل الآخر بالمهارق، وعلى فرج الفرس مما يليهما شهربراز بن بندا، فنفياه وغلبا على فرات بادقلى إلى السيلحين «5» واتصل ما غلبا عليه وما غلب عليه سلمى وحرملة، وفى ذلك يقول مذعور بن عدى: غلبنا على خفان بندا وشيحة ... إلى النخلات السحق فوق المهارق وإنا لنرجو أن تجول خيولنا ... بشاطى الفرات بالسيوف البوارق وقال المثنى فى ذلك:

_ (1) أطد: أرض قرب الكوفة من جهة البر. انظر: معجم البلدان (1/ 216) . (2) انظر: معجم البلدان (5/ 372، 373) . (3) الخبر عن سيف بن عمر فى معجم البلدان (5/ 372، 373) . (4) خفان: موضع قرب الكوفة. انظر: معجم البلدان (2/ 379) . (5) موضع بين الكوفة والقادسية. انظر: معجم البلدان (3/ 298، 299) .

ألا أبلغا شهرا وشهر مهاجر ... بأنا سنلقاه على الحدثان فنحن سللنا شيحة يوم بارق ... إلى شرّ دار تنتوى ومكان ويروى أن أبا بكر، رحمه الله، لما بلغه ما كان من فتح حرملة وسلمى ومثنى ومذعور ما بين السيلحين إلى أسفل الفرات تمثل بقول الآخر: ومتى تسلف فى قبيل خطة ... تلق المنال مضاعفا أو موعبا وإذا عقدت بحبل قوم مرة ... ذربوا عليك فلم تجد لك مقضبا حيان لا خطما بحبل هضيمة ... أنفا الزمام فلم يقرا مركبا وحكى عمر بن شبة عن شيوخه من أهل الأخبار: أن المثنى بن حارثة كان يغير على أهل فارس بالسواد، فبلغ أبا بكر والمسلمين خبره، فقال عمر: من هذا الذى تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه، فقال له قيس بن عاصم: أما إنه غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا قليل العدد، ولا ذليل العمارة، ذلك المثنى بن حارثة الشيبانى «1» . ثم إن المثنى قدم على أبى بكر فقال له: يا خليفة رسول الله، ابعثنى فى قومى، فإن فيهم إسلاما، أقاتل بهم أهل فارس، وأكفك أهل ناحيتى من العدو. ففعل ذلك أبو بكر، فقدم المثنى العراق، فقاتل وأغار على أهل فارس ونواحى السواد حولا مجرّما، ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبى بكر يسأله المدد، ويقول: إنك إن أمددتنى وسمعت بذلك العرب أسرعوا إلىّ وأذل الله المشركين، مع أنى أخبرك يا خليفة رسول الله، أن الأعاجم تخافنا وتتقينا. فقال له عمر: يا خليفة رسول الله أبعث خالد بن الوليد مددا للمثنى بن حارثة، يكون قريبا من أهل الشام، فإن استغنى عنه أهل الشام ألح على أهل العراق حتى يفتح الله عليه. قال: فهذا الذى هاج أبا بكر، رحمه الله، على أن يبعث خالد بن الوليد إلى العراق «2» . وفى حديث آخر: أنه ولاه حرب العراق لما قضى ما أراد قضاءه من اليمامة، وكتب إلى المثنى ومذعور وسلمى وحرملة بأن يسمعوا له ويطيعوا.

_ (1) انظر: الفتوح لابن أعثم الكوفى (1/ 89) ، الاستيعاب لابن عبد البر (ص 1457) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 106) . (2) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (ص 53، 54) ، الاستيعاب لابن عبد البر (ص 1457) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 106، 107) .

أخبار الأيام فى زمان خالد بن الوليد رضى الله عنه «1» وكانت لمن وليها الفضيلة والسابقة والقدمة؛ لأنهم شركوا أهل القادسية والبويب وفضلوهم بولايتهم هذه. وهذا كما اجتمعت للمهاجرين النصرة مع الهجرة، وفضلوا الأنصار بالهجرة، فروى الشعبى وهشام بن عروة قالا: لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة كتب إليه أبو بكر: إنى قد وليتك حرب العراق، فاحشد من ثبت على الإسلام، وقاتل أهل الردة ممن بينك وبين العراق، من تميم وقيس وأسد وبكر بن وائل وعبد القيس، ثم سر نحو فارس، واستنصر الله عز وجل، وادخل العراق من أسفل العراق، فابدأ بفرج الهند، وهو يومئذ الأبلة «2» ، وكان صاحبها يساجل أهل الهند والسند فى البحر، ويساجل العرب فى البر. وقال له: تألف أهل فارس، ومن كان فى مملكتهم من الأمم، وأنصفوا من أنفسكم فإنكم كنتم خير أمة أخرجت للناس. نسأل الله أن يجعل من ألحقه بنا وصيره منا خير متبع بإحسان. وإن فتح الله عليك فعارق حتى تلقى عياضا. وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين الحجاز والنباج «3» : أن سر حتى تأتى المصيخ فاحشد من بينك وبينها على إسلامه، وقاتل أهل الردة فابدأ بهم، ثم ادخل العراق من أعلاها فعارق حتى تلقى خالدا. فاستمد خالد أبا بكر قبل خروجه من اليمامة، فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمى، واستمده عياض قبل تحركه، فأمده أبو بكر بعبد بن عوف الحميرى، وقيل لأبى بكر: أتمد خالدا برجل قد أرفض عنه الناس؟ فقال: لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع، وسيحشر من بينه وبين أهل العراق. وكتب خالد إلى حرملة وسلمى والمثنى ومذعور ليلحقوا به، وأمرهم أن يغزوا جنودهم الأبلة ليوم سماه، ثم حشد من بينه وبين العراق، فحشد ثمانية آلاف من مصر

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 343- 350) ، الكامل لابن الأثير (2/ 261، 263) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 342، 343) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 78) . (2) الأبلة: بلدة على شاطىء دجلة فى زاوية الخليج الذى يدخل إلى مدينة البصرة. انظر: معجم البلدان (1/ 77) . (3) النباح: موضع بين البصرة ومكة. انظر: معجم البلدان: (5/ 255، 256) .

وربيعة إلى ألفين كانا معه، فقدم فى عشرة آلاف إلى ثمانية آلاف ممن كان مع الأمراء الأربعة، فلقى هرمز فى ثمانية عشر ألفا. وفيما ذكره سيف من مسير خالد وعياض إلى العراق: أن أبا بكر أمرهما أن يستبقا إلى الحيرة، فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه. وقال: فإذا اجتمعتما بالحيرة، وفضضتما مسالح فارس، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم، فليكن أحد كما ردآ لصاحبه وللمسلمين بالحيرة، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم بالمدائن. وكتب إليهما: استعينوا بالله واتقوه، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا، يجمع الله لكم بطاعته الدنيا إلى الآخرة، ولا تؤثروا الدنيا فتعجزكم، ويسلبكم الله بمعصيته الدنيا والآخرة، فما أهون العباد على الله إذا عصوه. قال: ولما عزم خالد على المسير من اليمامة إلى العراق سأل عن الأدلة، فأتى بنفر، فسأل عن أسمائهم، فتفاءل منهم إلى ثلاثة بأسمائهم: ظفر بن عمرو السعدى ورافع بن عميرة الطائى، ومالك بن عباد الأسدى. وجدد خالد التعبئة، فعبأ الناس تعبئة مستأنفة غير التى دخل بها اليمامة، ونصب لجنده أعلاما غير الذين كانوا أعلامهم، وذلك أن أعلامهم الذين دخل بهم اليمامة قفلوا. فوضع رجالا مكانهم، وتوخى الصحابة، ثم توخى منهم الكماة، فاستعمل على مضر القعقاع بن عمرو «1» ، وعلى ربيعة فرات بن حيان «2» ، وعلى قضاعة وضم إليهم أهل اليمن جرير بن عبد الله الحميرى أخا الأقرع بن عبد الله رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وجعل على القبائل دون ذلك، على نصف خندق، فارس أطلال بكير بن عبد الله الليثى، وعلى النصف الآخر معقل بن مقرن المزنى، وعلى قيس عيلان وعلى غطفان ومن يلاقيهم إلى سعد بن قيس، سعد بن عمارة التغلبى، وعلى هوازن ومن يلاقيهم إلى خصفة أبا حنش بن ذى اللحية العامرى، وضم جديلة إليهم، وهم عمرو بن قيس بن عيلان وعلى اللهازم من بكر بن وائل عتيبة بن النهاس، واللهازم عجل، وتيم اللات، وقيس بن ثعلبة، وعنزة، وعلى الدعائم وهم: شيبان بن ثعلبة، وذهل بن ثعلبة، وضبيعة

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7142) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4315) . (2) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 333) ، تقريب التهذيب (2/ 107) ، الكاشف (2/ 379) ، الجرح والتعديل (7/ 449، 450) ، تهذيب التهذيب (8/ 259) ، الطبقات (65، 132) ، الإصابة ترجمة رقم (6989) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4213) .

ابن ربيعة، ويشكر بن ربيعة، يشكر بن بكر بن مطر بن عامر الشيبانى، وعلى قضاعة الحارث بن مرة الجهنى، وعلى اليمن مالك بن مرة الرهاوى، وابن زيد الخيل بن مهلهل، وهؤلاء تحت أيدى أولئك الثلاثة. واستعمل على المقدمات: المثنى بن حارثة، وعلى المجنبات: عدى بن حاتم وعاصم ابن عمرو أخا القعقاع، وعلى الساقة: بسر بن أبى رهم الجهنى صاحب جبانة بسر، واستخلف على اليمامة وهوافى قيس وتميم سبرة بن عمرو العنزى، وكل من أمر له صحبة وقدمة. وخرج قاصدا الهرمز والأبلة. وقال المغيرة بن عتبة قاضى الكوفة: فرق خالد مخرجه من اليمامة جنده ثلاث فرق، ولم يحملهم على طريقة واحدة، فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر، وسرح عديا وعاصما ودليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر، أحدهما قبل صاحبه بيوم، وخرج خالد ودليله رافع، فواعدهم جميعا الحفير ليجتمعوا فيه وليصادموا به عدوهم. وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنا وأشده شوكة، وكان صاحبه يحارب العرب فى البر والهند فى البحر. وعن الشعبى قال: كتب خالد إلى هرمز قبل خروجه، وهرمز صاحب الثغر يومئذ: أما بعد، أسلم تسلم، أو اعقد لنفسك وقومك الذمة وأقر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة. ولما قدم كتاب خالد على هرمز كتب بالخبر إلى شيرى بن كسرى، وإلى أزدشير بن شيرى، وجمع جموعه ثم تعجل إلى الكواظم فى سرعان أصحابه ليتلقى خالدا، وسبق حلبته فلم يجد طريق خالد، وبلغه أنهم تواعدوا الحفير، فاعج يبادر خالدا إليه، فنزله فعبأ به، وجعل على مجنبتيه أخوين يلاقيان أزدشير وشيرى آل أزدشير الأكبر، يقال لهما: قباذ وأنو شجان، فاقترنوا فى السلاسل، فقال من لم ير ذلك لمن رآه: قيدتم أنفسكم لعدوكم، فلا تفعلوا فإن هذا طائر سوء. فأجابوهم: أما أنتم فتحدثوننا أنكم تريدون الهرب. فلما أتى الخبر خالدا بمنزل هرمز أمال الناس إلى كاظمة، وبلغ ذلك هرمز، فبادره إليها فنزلها وهو حسير. وكان من أسوء أمراء ذلك الفرج جوارا للعرب، فكل العرب عليه مغيظ، وقد كانوا يضربونه مثلا فى الخبث والمكر حتى قالوا: «أخبث من هرمز، وأمكر من هرمز» . وتعبأ هو وأصحابه والماء فى أيديهم.

وقدم خالد فنزل على غير ماء، فقالوا له فى ذلك، فأمر مناديه فنادى: ألا انزلوا وحطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمرى ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين. فحطت الأثقال والخيل وقوف، وتقدم الرجل ثم زحف إليهم حتى لاقاهم، فاقتتلوا، وأرسل الله سبحانه سحابة فأغدرت ماء وراء صف المسلمين فقواهم بها، وما ارتفع النهار وفى الغائط مقترن. وأرسل هرمز أصحابه ليغدروا بخالد، ثم خرج فنادى رجل: أين خالد؟ وقد عهد إلى فرسانه عهده. فلما برز خالد نزل هرمز ودعاه إلى البراز، فبرز خالد يمشى إليه، فالتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد، وحملت حامية هرمز وغدرت، فاستلحموا خالدا فما شغله ذلك عن قتله. وحمل القعقاع بن عمرو، واستلحم حماة هرمز، فأتاهم وخالد يماصعهم، فانهزم أهل فارس، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، وجمع خالد الرثاث والسلاسل، فكان وقر بعير، ألف رطل، فسميت ذات السلاسل. قال: وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم فى عشائرهم، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف، وتمام شرف أحدهم أن يكون من البيوتات السبعة، فكان هرمز ممن تم شرفه، فكانت قيمة قلنسوته مائة ألف، فنفلها أبو بكر، رحمه الله، خالدا، وكانت مفصلة بالجوهر. وقال حنظلة بن زياد بن حنظلة: فلما تراجع الطلب من ذلك اليوم، نادى منادى خالد بالرحيل، وسار بالناس، واتبعته الأثقال حتى نزل موضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وقد أفلت قباذ وأنوشجان، وبعث خالد بالفتح وما بقى من الأخماس وبالفيل، وقرئ الفتح على الناس، فلما قرئ فيه: «خرجت من اليمامة فى ألفين، وحشرت من ربيعة ومضر ثمانية آلاف، فقدمت فى عشرة آلاف على ثمانية آلاف مع الأمراء الأربعة: المثنى ومذعور وحرملة وسلمى» تمثل أبو بكر، رضى الله عنه: تمنانا ليلقانا بقوم ... تخال بياض لامهم السرابا فقد لاقيتنا فأريت يوما ... عماسا يمنع الشيخ الشرابا تبدل علقما منا بحلو ... ينسيك الغنيمة والإيابا إذا خرجت سوالفهن زورا ... كأن على حواركهن غابا عليها كل متصل بمجد ... من الجهتين يلتهب التهابا

ولما قدم زر بن كليب بالفيل مع الأخماس فطيف به فى المدينة ليراه الناس، جعلت ضعيفات النساء يقلن: أمن خلق الله ما نرى؟ ورأينه مصنوعا، فرده أبو بكر، رضى الله عنه، مع زر. وعن زياد بن حنظلة قال: إنى لبالمدينة وقد قدمتها وافدا من البحرين، إذ أرسل إلىّ أبو بكر وقد قدم عليه الخبر بوقعة ذات السلاسل، فقال لى: ألم تعلم أنه كان من الشأن ذيت وذيت، وأن خالدا ألقى هرمز فاستلحم، وأن القعقاع استلحم فقتلهم وتنفل؟. قال زياد: فأقبلت على نفسى أحدثها فقلت: الخليفة وفراسته، وذكرت قوله: «ولا يهزم جيش فيهم مثل هذا» ، فما راعنى إلا وأبو بكر يقول: أين أنت يا زياد؟ أما إن خالدا سيتغير له ويتنكر، ثم يراجع ويعرف الحق. فاستنكره القعقاع بعد ذلك، ووقع بينهما ما يقع بين الناس حتى قال القعقاع يعاتبه ولم يكن إلا ذلك: منعتك من قرنى قباذ وليتنى ... تركتك فاستذكت عليك المعاتب عطفت عليك المهر حتى تفرجت ... وملت من الطعن الدراك الرواجب أجالدهم والخيل تنحط فى القنا ... وأنت وحيد قد حوتك الكتائب وكائن هزمنا من كتيبة قاهر ... وكم عجمتنا فى الحروب العجائب ولما نزل خالد موضع الجسر الأعظم اليوم بالبصرة بعث المثنى بن حارثة فى آثار القوم، فمضى حتى انتهى إلى نهر المرأة وإلى الحصن الذى فيه المرأة، فخلف المثنى بن حارثة عليها من حاصرها فى قصرها، ومضى المثنى، وأسلمت فتزوجها المثنى، ولم يحرك خالد وأمراؤه الفلاحين فى شىء من فتوحهم لتقدم أبى بكر فيهم، وسبى أولاد المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم، وأقر من لم ينهض من الفلاحين وجعل لهم الذمة. وبلغ سهم الفارس يوم ذات السلاسل والثنى ألف درهم، والراجل على الثلث من ذلك. حديث الثّنى والمذار «1» وكانت وقعة المذار فى صفر سنة اثنتى عشرة، ويومئذ قال الناس: صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبار، على مجمع الأنهار.

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 351، 352) ، الكامل لابن الأثير (2/ 263) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 108، 109) .

ولما كتب هرمز إلى ملكهم بكتاب خالد إليه بمسيره من اليمامة نحوه، أمده بقارن بن قربانس، فخرج من المدائن ممدّا لهرمز؛ حتى إذا انتهى إلى المذار بلغته الهزيمة؛ وانتهى إليه الفلال فتذامروا، وقال فلال الأهواز وفارس لفلال السواد والجبل: إن افترقتم لم تجتمعوا بعدها أبدا؛ فاجتمعوا على العدو مرة واحدة، فهذا مدد الملك وهذا قارن، لعل الله يديلنا ويشفينا من عدونا وندرك بعض ما أصابوا منّا. ففعلوا وعسكروا بالمذار، واستعمل قارن على مجنبتيه قباذ وأنوشجان، فأرسل المثنى إلى خالد بالخبر؛ فعند ذلك قسم خالد الفىء على من أفاء الله عليه، ونفل من الخمس ما شاء الله، وبعث مع الوليد ابن عقبة ببقيته، وبالفتح إلى أبى بكر، وبالخبر عن القوم، وباجتماع المغيث منهم والمغاث إلى الثنى، وهو النهر، وخرج خالدا سائرا إليهم حتى ينزل المذار، فالتقوا وخالد على تعبئته، فاقتتلوا على حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو للبراز، فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش، فابتدراه، فسبقه إليه معقل فقتله، وقتل عاصم أنو شجان، وقتل عدى قباذ. وكان شرف قارن قد انتهى؛ ثم لم يقاتل المسلمون بعده أحدا انتهى شرفه فى الأعاجم. وقتلت فارس مقتلة عظيمة؛ فضموا السفن ومنعت المياه المسلمين من طلبهم. وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت وقسم الفىء ونفل من الأخماس ما نفل فى أهل البلاء، وبعث ببقيتها إلى أبى بكر، رضى الله عنه. وعن الشعبى قال: دفع خالد إلى أبيض الركبان سلب قارن وقيمته مائة ألف، وإلى عاصم وعدى سلب أنوشجان وقباذ، وقيمة سلب كل واحد منهما ثلاثة أرباع الشرف. وعن أبى عثمان قال: قتل ليلة المذار ثلاثون ألفا سوى من غرق، ولولا المياه لأتى على آخرهم، ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة أو أشباه العراة. قال الشعبى: لم يلق خالد أحدا بعد هرمز إلا كانت الوقعة الآخرة أعظم من التى قبلها. وأقام خالد بالثنى يسبى عيالات المقاتلة ومن أعانهم، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعد ما دعوا، وكل ذلك أخذ عنوة، ولكن دعوا إلى الجزاء فأجابوا وتراجعوا، وصاروا ذمة، وصارت أرضهم خراجا؛ وكذلك جرى ما لم يقسم، فإذا اقتسم فلا، ومن ذلك السبى كان حبيب أبو الحسن البصرى، وكان نصرانيا. وقال عزيز بن مكنف: لم يدع خالد بعد هرمز أحدا من الأعاجم حتى هلك أزدشير

إلا أن يدعو قوما بعد ما يغلبهم على أرضهم ويجليهم عنها إلى الجزاء والذمة فيرد عليهم أرضهم فيصيروا ذمة ما لم تقتسم، وبذلك جرت السنة. وأمر خالد على الجزاء سويد بن مقرن المزنى، وأمره بنزول الحفير، وأمره ببث عماله، ووضع يديه فى الجباية، وأقام لعدوه يتحسس الأخبار. وقال عاصم بن عمرو فى ذلك من أبيات: فلم أر مثل يوم السيب حتى ... رأيت الثنى تخضبه الدماء وألوت خيلنا لما التقينا ... بقارن والأمور لها انتهاء حديث الولجة «1» وهى مما يلى كسكر من البر وكانت فى صفر سنة اثنتى عشرة. قالوا: لما وقع الخبر إلى أردشير بمصاب قارن وأهل المذار، أرسل الأنذرزعر، وكان فارسيا من مولدى السواد وتنائهم؛ ولم يكن ممن ولد فى المدائن ولا نشأ بها، وأرسل بهمن جاذويه فى أثره، وكان رافد فارس فى يوم من أيام شهرهم، وذلك أنهم بنوا شهورهم كل شهر على ثلاثين يوما؛ فكان لأهل فارس فى كل يوم رافد نصب لذلك يرفدهم عند الملك؛ فكان بهمن أحدهم، فخرج الأنذرزعر سائرا من المدائن حتى أتى كسكر «2» ، ثم جازها إلى الوالجة «3» ، وخرج بهمن جاذويه فى أثره، فأخذ غير طريقه فسلك أوسط السواد، وقد حشد الأنذرزعر من بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية والدهاقين فعسكروا إلى جنب عسكره بالولجة؛ فلما اجتمع له ما أراد واستتم له أعجبه ما هو فيه، وأجمع السير إلى خالد. ولما بلغ خالدا خبره ونزوله الولجة، نادى بالرحيل، وخلف سويد بن مقرن، وأمره بلزوم الحفير، وتقدم إلى من خلف بأسفل دجلة، وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة، وترك

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 353، 354) ، الكامل لابن الأثير (263، 264) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 345) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 109) . (2) كسكر: أى عامل الزرع، وهو بلد بالعراق بين الكوفة والبصرة. انظر: معجم البلدان (4/ 461) . (3) الولجة والوالج: موضع يلى كسكر من البر. انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (3/ 353) ، معجم البلدان (5/ 383) .

الاغترار، وخرج سائرا فى الجنود نحو الولجة، حتى نزل على الأنذرزعر وجنوده ومن تأشب إليه، فاقتتلوا قتالا شديدا؛ هو أعظم من قتال الثنى، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ خالد كمينه؛ وكان قد وضع لهم كمينا فى ناحيتين، عليهم بسر بن أبى رهم وسعيد بن مرة العجلى، فخرج الكمين من وجهين، فانهزمت صفوف العاجم وولوا؛ وأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم، فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه؛ ومضى الأنذرزعر فى هزيمته، فمات عطشا. وقام خالد فى الناس خطيبا يرغبهم فى بلاد العجم، ويزهدهم فى بلاد العرب، وقال: ألا ترون إلى الطعام كالتراب، والله لو لم يلزمنا الجهاد فى الله، والدعاء إليه، ولم يكن إلا المعاش لكان الرأى أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولى الجوع والإقلال من تولاه ممن تثاقل عما أنتم عليه. وسار خالد فى الفلاحين سيرته فلم يقتلهم، وسبى ذرارى المقاتلة ومن أعانهم، ودعا أهل الأرض إلى الجزاء والذمة فتراجعوا. وبارز خالد يوم الولجة رجلا من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله، فلما فرغ اتكأ عليه، ودعا بغذائه. وقال خالد يذكر ذلك اليوم: نهكناهم بها حتى استجاروا ... ولولا الله لم يرزوا قبالا فولوا الله نعمته وقولوا ... ألا بالله نحتضر القتالا وقال القعقاع فى ذلك وأثنى على المسلمين: ولم أر قوما مثل قوم رأيتهم ... على ولجات البر أحمى وأنجبا وأقتل للرواس فى كل مجمع ... إذا صعصع الدهر الجموع وكبكبا فنحن حبسنا بالزمازم بعد ما ... أقاموا لنا فى عرصة الدار ترقبا قتلناهم ما بين قلع مطلق ... إلى القيعة الغبراء يوما مطنبا حديث ألّيس، وهى على صلب الفرات «1» ولما أصاب خالد من أصاب يوم الولجة من بكر بن وائل من نصاراهم الذين أعانوا

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 355- 358) ، الروض المعطار (ص 29، 30) ، الكامل لابن الأثير (2/ 264، 265) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 109، 110) ، البداية والنهاية لابن كثير (ص 346، 347) .

أهل فارس غضب لهم نصارى قومهم؛ فكاتبوا الأعاجم وكاتبتهم الأعاجم؛ فاجتمعوا إلى أليس، وعليهم عبد الأسود العجلى، وكان أشد الناس على أولئك النصارى مسلموا بنى عجل عتيبة بن النهاس وسعيد بن مرة وفرات بن حيان والمثنى بن لاحق ومذعور بن عدى. وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه: أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب. فقدم بهمن أمامه جابان وأمره بالحث وقال له: كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك. فسار جابان نحو أليس، وانطلق بهمهن إلى أردشير ليحدث به عهدا، ويستأمره فيما يريد أن يشير به، فوجده مريضا؛ فعرج عليه، وأخلى جابان بذلك الوجه، ومضى جابان حتى انتهى إلى أليس فنزل بها، واجتمعت إليه المسالح التى كانت بإزاء العرب، وعبد الأسود فى نصارى بنى عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة، وكان أبجر بن بجير نصرانيا فساند عبد الأسود؛ وكان خالد بلغه بجمع عبد الأسود وأبجر وزهير فيمن تأشب إليهم، فنهد إليهم ولا يشعر بدنو جابان، وليست لخالد همة إلا من تجمع له من عرب الضاحية ونصاراهم. ولما طلع خالد على أليس قالت الأعاجم لجابان: أنعاجلهم أو نغدى الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم، ثم نقاتلهم بعد الفراغ؟ فقال جابان: إن تركوكم والتهاون بهم فتهاونوا، ولكن ظنى أن سيعاجلوكم ويعجلوكم عن طعامكم، فعصوه وبسطوا البسط ووضعوا الأطعمة، وتداعوا إليها، وتوافوا عليها. فلما انتهى خالد إليهم أمر بحط الأثقال، فلما وضعت توجه إليهم، ووكل خالد بنفسه حوامى يحمون ظهره، ثم برز أمام الصف فنادى: أين أبجر؟ أين مالك بن قيس؟ رجل من خدرة، فنكلوا عنه جميعا إلا مالكا، فبرز له، فقال له خالد: يا ابن الخبيثة، ما جرأك علىّ من بينهم، وليس فيك وفاء!. وقال: أنا ابن ذات الحسب الممذوق ... إنك فى ضيق أشد الضيق وضربه فقتله، وأجهض الأعاجم عن طعامهم قبل أن يأكلوه، فقال لهم جابان: ألم أقل لكم يا قوم؟ لا والله ما دخلتنى من رئيس وحشة قط حتى كان اليوم، فقالوا: تجلدا، حيث لم يقدروا على الأكل: ندعها حتى نفرغ منهم؛ ثم نعود إليها. فقال جابان:

وأيضا أظنكم والله لهم وضعتموها وأنتم لا تشعرون، فالآن فأطيعونى وسموها؛ فإن كانت لنا فأهون هالك، وإن كانت علينا كنا قد صنعنا شيئا، وأبلينا عذرا. فقالوا: لا، إلا اقتدارا عليهم. وجعل جابان على مجنبتيه عبد الأسود وأبجر، وخالد على تعبئته فى الأيام التى قبلها، فاقتتلوا قتالا شديدا، والمشركون يزيدهم كلبا وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن، فصابروا المسلمين للذى كان فى علم الله أن يصيرهم إليه، وحرب المسلمون عليهم، وقال خالد: اللهم لك علىّ إن منحتنا أكتافهم أن لا استبقى منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجرى نهرهم بدمائهم! ثم إن الله، عز وجل، كشفهم للمسلمين، ومنحهم أكتافهم، فأمر خالد مناديه، فنادى فى الناس: الأسر الأسر! لا تقتلوا إلا من امتنع، فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون سوقا، وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم فى النهر، ففعل ذلك بهم يوما وليلة وطلبوهم الغد وبعد الغد؛ حتى انتهوا إلى النهرين، ومقدار ذلك من كل جوانب أليس. فضرب أعناقهم، وكانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثلاثة أيام وهم ثمانية عشر ألفا أو يزيدون. ولما رجع المسلمون من طلبهم، ودخلوا عسكرهم، وقف خالد على الطعام الذى كان المشركون قدموه لغدائهم فأعجلوا عنه، فقال للمسلمين: قد نفلتكموه فهو لكم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى على طعام مصنوع نفله، فقعد الناس على ذلك لعشائهم بالليل، وجعل من لا يرد الأرياف ولا يعرف الرقاق يقول: ما هذه الرقاع البيض! وجعل من قد عرفها يجيبهم، ويقول لهم مازحا: هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون: نعم، فيقول: هو هذا؛ فسمى الرقاق. وعن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الناس يوم خيبر الخبز والطبيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك فى بطونهم غير متأثليه. وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلا من بنى عجل، وكان دليلا صارما، فقدم على أبى بكر، رضى الله عنه، بالخبر، وبفتح أليس، وبقدر الفىء، وبعدة السبى، وبما حصل من الأخماس، وبأهل البلاء من الناس، فلما رأى أبو بكر صرامته وثبات خبره، قال: ما اسمك؟ قال: جندل. فقال أبو بكر: ويها جندل: نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكرّ والإقداما وأمر له بجارية من السبى فولدت له.

وكان خالد وجنده هم جند المسلمين، وكتيبة الإسلام، بهم فض الله أهل فارس ورعبهم، وما زالت بعدها مرعوبة منتشرة لم يأتوا فى وقعة بمثل ذلك الجد والصبر إلى أن فارقهم خالد إلى الشام. وبلغت قتلاهم يوم أليس سبعين ألفا جلهم من أمغيشيا، وفى ذلك يقول الأسود بن قطبة: قتلنا منهم سبعين ألفا ... بقية خربهم غبّ الإسار سوى من ليس يحصى من قتيل ... ومن قد غال جولان الغبار وقال خالد بن الوليد لما افتتح الحيرة: لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع فى يدى تسعة أسياف، وما لقيت قوما كقوم لقيتهم من أهل فارس، وما لقيت من أهل فارس قوما كأهل أليس. حديث أمغيشيا وكيف أفاءها الله بغير قتال «1» ولما فرغ خالد من وقعة أليس، نهض فأتى على أمغيشيا وقد أعجلهم عما فيها، وقد جلا أهلها، وتفرقوا فى السواد، فأمر خالد بهدمها وهدم كل شىء كان فى حيزها وكانت مصرا كالحيرة؛ وكان فرات بادقلى ينتهى إليها، وكان أليس من مسالحها، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا قط قبله مثله. وبلغ سهم الفارس ألفا وخمسمائة، سوى الأنفال التى نفلها أهل البلاء. ولما بلغ ذلك أبا بكر قال: يا معشر قريش، عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله، أعجز النساء أن ينسأن بمثل خالد. حديث يوم المقر وفم فرات بادقلى مع ما يتصل به من حديث الحيرة «2» ذكر أن الآزادبه كان مرزبان الحيرة من زمان كسرى إلى ذلك اليوم، وكانوا لا يمد

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 358، 359) ، الروض المعطار (ص 31) . (2) انظر: الطبرى (3/ 359- 373) ، الكامل لابن الأثير (3/ 265- 268) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 111، 112) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 347، 348) .

بعضهم بعضا إلا بإذن الملك، فلما أخرب خالد أمغيشيا علم أنه غير متروك، فتهيأ لحرب خالد، وقدم ابنه، ثم خرج فى أثره، فعسكر خارجا من الحيرة، وأمر ابنه بسد الفرات. ولما استقبل خالد من أمر أمغيشيا وحمل الرجل فى السفن مع الأثقال والأنفال، لم يفجأ خالدا إلا والسفن جوانح فارتاعوا لذلك، فقال الملاحون: إن أهل فارس فجروا النهار، فسلك الماء على غير طريقه، فلا يأتينا الماء إلا بسد الأنهار، فتعجل خالد فى خيل نحو الآزادبه، فلقى على فم العتيق خيلا من خيلهم، فجأهم وهم آمنون غارته تلك الساعة، فأنامهم بالمقر، ثم سار من فوره، وسبق الأخبار إلى ابن الآزادبه حتى يلقاه وجنوده بفم فرات بادقلى، فاقتتلوا، فأنامهم خالد، وفجر الفرات وسد الأنهار فسلك الماء سبيله. ثم قصد خالد للحيرة، واستلحق أصحابه، وسار حتى ينزل بين الخورنق والنجف، فقدم خالد الخورنق، وقد قطع الآزادبه الفرات هربا من غير قتال، وإنما جرأه على الهرب أن الخبر وقع إليه بموت أردشير وبمصاب ابنه، وكان عسكره بين الغربين والقصر الأبيض. ولما تتام أصحاب خالد إليه بالخورنق خرج منه حتى يعسكر فى موضع عسكر الآزادبه بين الغربين والقصر الأبيض، وأهل الحيرة متحصنون، فأدخل خالد الحيرة الخيل من عسكره، وأمر بكل قصر رجلا من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم، فكان ضرار بن الأزور محاصرا للقصر الأبيض، وفيه إياس بن قبيصة الطائى، وكان ضرار بن الخطاب محاصرا قصر الغربين وفيه عدى بن عدى المقتول، وكان ضرار بن مقرن المزنى، عاشر عشرة إخوة له، محاصرا قصر بنى مازن وفيه ابن أكال، وكان المثنى محاصرا قصر بنى بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح، فدعوهم جميعا، وأجلوهم يوما، فأبى أهل الحيرة ولجوا، فناوشهم المسلمون. وعهد خالد إلى أمرائه أن يبدؤا بالدعاء، فإن قبلوا قبلوا منهم، وإن أبوا أجلوهم يوما، وقال: لا تمكنوا عدوكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر، ولكن ناجزوهم ولا ترددوا المسلمين عن قتال عدوهم. فكان أول القواد أنشب القتال بعد يوم أجلوهم فيه ضرار بن الأزور، وكان على قتال القصر الأبيض، فأصبحوا وهم مشرفون، فدعاهم إلى إحدى ثلاث: الإسلام، أو الجزاء، أو المنابذة، فاختاروا المنابذة، فقال ضرار: ارشقوهم، فدنوا منهم فرشقوهم بالنبل، فأعروا رؤس الحيطان، ثم بثوا غارتهم فيمن يليهم، وصبح أمير كل قوم أصحابه

بمثل ذلك، فافتتحوا الدور والديران، وأكثروا القتل، فنادى القسيسون والرهبان: يا أهل القصور، ما يقتلنا غيركم. فنادى أهل القصور: يا معشر العرب، قد قبلنا واحدة من ثلاث فدعونا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا. وكان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث وهو بقيلة، وإنما سمى بقيلة لأنه خرج على قومه فى بردين أخضرين، فقالوا له: يا حار ما أنت إلا بقيلة خضراء، ثم تتابعوا على ذلك. فخرج وجوه كل قصر إلى من كان عليه من أمراء خالد، فأرسلوهم إليه مع كل رجل منهم ثقة من قبل مرسله، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم دون الآخرين، وبدأ بأصحاب عدى بن عدى وقال: ويحكم ما أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له عدى: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا؟! فقال له عدى: ليدلك على ما تقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت. اختاروا واحدة من ثلاث: إما أن تدخلوا فى ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم فى دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة، فقد والله أتيتكم بقوم هم أحرى على الموت منكم على الحياة. فقال: بل نعطيكم الجزية، فقال خالد: تبا لكم، ويحكم إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان: أحدهما عربى فتركه واستدل الأعجمى. فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفا، وتتابعوا على ذلك، وأهدوا له الهدايا، وبعث بالفتح والهدايا إلى أبى بكر الصديق، فقبلها أبو بكر، رضى الله عنه، من الجزاء، وكتب إلى خالد: أن احسب لهم هديتهم من الجزاء، إلا أن تكون من الجزاء وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك. وفى حديث مثله أو نحوه عن رجل من كنانة وغيره: أن أهل الحيرة لما انتهوا إلى خالد كانوا يختلفون إليه ويقدمون فى حوائجهم عمرو بن عبد المسيح، فقال له خالد: كم أتت عليك؟ قال: مئوسنين، قال: فما أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة، وتخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفا، فتبسم خالد، قال: هل لك من شيخك إلا عقله ... خرفت والله يا عمرو ثم أقبل على أهل الحيرة وقال: ألم يبلغنى أنكم خبثة خدعة مكرة؟ فما لكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدرى من أين جاء؟ فتجاهل له عمرو، وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله، ويستدل به على صحة ما حدثه به، فقال: وحقك أيها الأمير، إنى لأعرف من أين جئت؟ قال: فمن أين جئت؟ قال: أقرب أم أباعد؟ قال: ما شئت، قال:

من بطن أمى، قال: فأين تريد؟ قال: ما أمامى، قال: وما هو؟ قال: الآخرة. قال: فمن أين أقصى أثرك؟ قال: صلب أبى، قال: ففيم أنت؟ قال: فى ثيابى، فقال خالد: إنه ليعقل! قال: أى والله وأفيد، فوجده حين فره عضا وكان أهل قريته أعلم به. وقال خالد: قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضا عالمها، القوم أعلم بما فيهم! فقال عمرو: والنملة أعلم بما فى بيتها من الجمل بما فى بيت النملة!. قالوا: وكان مع ابن بقيلة منصف له متعلقا كيسا فى حقوه، فتناول خالد الكيس ونثر ما فيه فى راحته، وقال: ما هذا يا عمرو؟ قال: هذا وأمنة الله سمّ ساعة، قال: ولم تحتقبه؟ قال: خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، وقد أتيت على أجلى، والموت أحب إلىّ من مكروه أدخله على قومى. فقال خالد: إنه لن تموت نفس حتى تأتى على أجلها، وقال: بسم الله خير الأسماء، ورب الأرض والسماء، الذى ليس يضر مع اسمه داء، فأهووا إليه ليمنعوه، فبادرهم وابتلع السم، فقال عمرو: والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن. وأقبل على أهل الحيرة، وقال: لم أر كاليوم أمرا أوضح إقبالا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر الحيرة وأنه أريها ورفعت له، وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب، وأنها ستفتح على المسلمين. فسأله رجل يقال له: شويل، كرامة بنت عبد المسيح، فقال له: «هى لك إذا فتحت عنوة» ، يعنى الحيرة، فلما راوض أهل الحيرة خالدا على الصلح وأداء الجزية قام إليه شويل فذكر له ذلك وشهد له به، فأبى خالد أن يكاتبهم إلا على إسلام كرامة إلى شويل، فثقل ذلك عليهم، فقالت: هونوا عليكم وأسلمونى، فإنى سأفتدى، ففعلوا، وكتب خالد بينه وبينهم كتابا: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا ابنى عدى، وعمرو بن عبد المسيح، وإياس بن قبيصة، وحيرى بن أكال، وهم نقباء أهل الحيرة، ورضى بذلك أهل الحيرة وأمروهم به، وعاهدوهم على تسعين ومائة ألف درهم، تقبل فى كل سنة جزاء عن أيديهم فى الدنيا، رهبانهم وقسيسيهم، وجماعتهم، إلا من كان غير ذى يد، حبيسا عن الدنيا، تاركا لها، وسائحا تاركا للدنيا، وعلى المنعة، فإن لم يمنعهم فلا شىء عليهم حتى يمنعهم، وإن غدروا بقول أو فعل فالذمة منهم بريئة. وكتب فى شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة» . فاستخف أهل الحيرة بهذا الكتاب وضيعوه، فلما نقض أهل السواد بعد موت أبى

بكر وكفروا فيمن كفر، وغلب عليهم أهل فارس، ثم افتتحها المثنى بن حارثة ثانية، أدلوا بمقتضى ذلك الكتاب، فلم يجبهم إليه، ودعا بشرط آخر، فلما غلب المثنى على البلاد كفروا فيمن كفر، وأعانوا، واستخفوا وأضاعوا الكتاب، فلما افتتحها سعد، أدلوا بذلك فسألهم واحدا من الشرطين، فلم يجيبوا به، فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنهم يطيقون، فوضع عليهم أربعمائة ألف سوى الخزرة، وهو رسم كان عليهم لكسرى فى كل سنة أربعة دراهم على كل رأس. وفيما حكاه ابن الكلبى من حديث الحيرة أن الذى خرج منهم إلى خالد هو عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة وهانئ بن قبيصة الطائى، مع من خرج إليه من أشرافهم، وأن خالدا سأل عبد المسيح فذكر نحوا مما تقدم عن عمرو بن عبد المسيح إلى أن قال له: ويحك تعقل قال: نعم، وأفيد. قال خالد: وأنا أسألك، قال عبد المسيح: وأنا أجيبك. قال: أسلم أنت أم حرب؟ قال: بل سلم. قال: فما هذه الحصون التى أرى؟ قال: بنيناها للسفيه تمنعه حتى يأتى الحليم فينهاه. ثم ذكر من مصالحته إياهم على الجزية نحوا مما تقدم. قال: فكانت أول جزية حملت إلى المدينة، من العراق، ثم نزل على بانقيا فصالحهم بصهير بن صلوبا على ألف درهم وطيلسان، وكتب لهم كتابا. وعن ابن إسحاق أن أول شىء صالح عليه خالد حين سار يريد العراق قريات من السواد، يقال لها: بانقيا، وباروسما، وأليس، نزل عليها خالد فصالحه عليها ابن صلوبا، فقبل منهم خالد الجزية، وكتب لهم كتابا. قال: ثم أقبل خالد بمن معه حتى نزل الحيرة فجعل ابن إسحاق شأن تلك القريات مقدما على أمر الحيرة، والأكثرون يقولون إنها كانت بعدها، وإن أهلها وسائر دهاقين الملطاطين إنما كانوا يتربصون وينظرون ما يصنع أهل الحيرة. فلما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد على الصلح طلب جميعهم الصلح وسمحوا بالجزية واكتتبوا بها من خالد كتبا. وبين الرواة خلاف كثير فى أسماء الرجال والأماكن ومقادير الجزاء، فرأيت اختصار ذلك أولى. وعن الشعبى فى حديث كرامة بنت عبد المسيح لما اشتد على قومها دفعها إلى شويل وأعظم الخطر، قالت لهم: لا تخطروه، ولكن اصبروا، ما تخافون على امرأة بلغت ثمانين

سنة؟ إنما هذا رجل أحمق رآنى فى شبيبتى فظن أن الشباب يدوم. فدفعوها إلى خالد، فدفعها خالد إليه، فقالت: ما أربك إلى عجوز كما قد ترى؟ فأدنى قال: لا، إلا على حكمى، قالت: فلك حكمك مرسلا، فقال: لست لأم شويل إن نقصتك من ألف درهم! فاستكثرت ذلك لتخدعه، ثم أتته بها. فرجعت إلى أهلها، فتسامع الناس بذلك، فعنفوه، فقال: ما كنت أرى أن عددا يزيد على ألف، وخاصمهم إلى خالد، وقال: كانت نيتى غاية العدد، وقد ذكروا أن العدد يزيد على ألف، فقال خالد: أردت أمرا وأراد الله غيره، ونأخذ بما ظهر وندعك ونيتك، كاذبا كنت أو صادقا. ومما يروى من شعر ابن بقيلة: أبعد المنذرين أرى سواما ... تروح بالخورنق والسدير وبعد فوارس النعمان أرعى ... قلوصا بين مرة والحفير فصرنا بعد ملك أبى قبيس ... كجرب المعز فى اليوم المطير تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور وكنا لا يرام لنا حريم ... فنحن كضرة الضرع الفجور نودى الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم فى مساءة أو سرور وقال القعقاع بن عمرو فى أيام الحيرة «1» : سقى الله قتلى بالفرات مقيمة ... وأخرى بأثباج النجاف الكوانف فنحن وطئنا بالكواظم هرمزا ... وبالثنى قرنى قارن بالجوارف ويوم أحطنا بالقصور تتابعت ... على الحيرة الروحاء إحدى المصارف حططناهم منها وقد كاد عرشهم ... يميل به فعل الجبان المخالف مننا عليهم بالقبول وقد رأوا ... عيون المنايا حول تلك المحارف صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا ... إلى الريف من أرض العريب النفانف وقال أخوه عاصم بن عمرو فى ذلك: صبحنا الحيرة الروحاء خيلا ... ورجلا فوق أثباج الركاب حصرنا فى نواحيها قصورا ... مشرفة كأضراس الكلاب فبادوا بالعريب ولم يحاموا ... فقلنا دونكم فعل العراب

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 365) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 348) .

فقالوا بل نؤدى الخرج حتى ... تزل الراسيات من الضراب صدفنا عنهم لما اتقونا ... وأبنا حيث أبنا بالنهاب وبعث خالد بن الوليد عماله ومسالحه، لجباية الخراج وحماية البلاد، وأمر أمراءه على الثغور بالغارة والإلحاح، فنزلوا على السيب فى عرض سلطانه، وهناك كانت الثغور فى زمانه، فمهدوا له ما وراء ذلك إلى شاطئ دجلة، وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر، وليس لأحدهم ذمة إلا الذين كاتبوا خالدا واكتتبوا منه، وسائر أهل السواد جلاء ومتحصنون ومحاربون، وجنى الخراج إلى خالد فى خمسين ليلة، وكان الذين ضمنوه رؤس الرساتيق رهنا فى يديه، فأعطى ذلك كله المسلمين، فقووا به على أمرهم. وقال أبو مفزر الأسود بن قطبة فيما فتح بعد الحيرة: ألا أبلغا عنا الخليفة أننا ... غلبنا على نصف السواد الأكاسرا غلبنا على ماء الفرات وأرضه ... عشية حزنا بالسيوف الأكابرا فدرت علينا جزية القوم بعد ما ... ضربناهم ضربا يقط البواترا ولما غلب خالد على أحد جانبى السواد، دعا برجلين، أحدهما حيرى والآخر نبطى، وكتب معهما كتابين إلى أهل فارس، أحدهما إلى الخاصة والآخر إلى العامة. وهذا أحدهما: «بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، أما بعد، فالحمد لله الذى حل نظامكم، ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم لكان شرا لكم، فادخلوا فى أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك على غلب وأنتم كارهون، على أيدى قوم يحبون الموت كحبكم الحياة» . والكتاب الآخر: «بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس، أما بعد، فالحمد لله الذى فض حرمتكم، وفرق كلمتكم، وفل حدكم، وكسر شوكتكم، فأسلموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا منى الذمة، وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» . ودعا خالد الرجل الحيرى فقال له: ما اسمك؟ قال: مرة. قال: خذ الكتاب، لأحد الكتابين، فأت به أهل فارس لعل الله يمر عليهم عيشهم، أو يسلموا، وينيبوا. وقال للنبطى: ما اسمك؟ قال: هزقيل. قال: خذ الكتاب، اللهم ازهق نفوسهم.

وكان أهل فارس إذ ذاك لموت أردشير مختلفين فى الملك مجتمعين على قتال خالد متساندين، إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه ببهرسير، ومعه الآزادبه، فى أشباه له. ولما وقعت كتب خالد إلى أهل المدائن تكلم نساء آل كسرى، فولى الفراخزاد بن البندوان إلى أن يجتمع آل كسرى على رجل إن وجدوه، وأقام خالد فى عمله سنة ومنزله الحيرة، يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشام، وأهل فارس يخلعون ويملكون، ليس إلا للدفع عن بهرسير، وكان شيرى بن كسرى قد قتل كل من يناسب إلى كسرى ابن قباذ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه، وقتلوا كل من بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جور، فبقوا لا يقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه. وعن الشعبى قال: أقام خالد فيما بين فتح الحيرة إلى خروجه إلى الشام أكثر من سنة، يعالج عمل عياض الذى سمى له، فقال خالد للمسلمين: لولا ما عهد إلى الخليفة ما كان دون فتح فارس شىء، وكان عهد إليه وإلى عياض إذ وجههما أن يستبقا إلى الحيرة فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه، وقال: فإذا اجتمعتما بالحيرة وفضضتما مسالح فارس، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكما ردآ للمسلمين ولصاحبه بالحيرة وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن، حسب ما تقدم من كتاب أبى بكر إليهما بذلك قبل هذا. فكان خالد لا يستطيع أن يفارق مكانه للاقتحام على فارس ولا لإغاثة عياض وكان بدومة قد شجى وأشجى؟، لأجل ما عهد إليه أبو بكر أن لا يقتحم عليهم، وخلفه نظام لهم. وكان بالعين عسكر لفارس وبالأنبار آخر وبالفراض آخر، ثم إن خالدا لما استقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد فرق سواد الحيرة على رجال ممن كان معه، وفعل فى سواد الأبلة مثل ذلك، وأقر أمر المسالح على ثغورهم، واستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو. وخرج خالد فى عمل عياض ليقضى ما بينه وبينه ولإغاثته، فسار حتى نزل بكربلاء، وأقام عليها أياما، وشكا إليه عبد الله بن وثيمة الذباب، فقال له: اصبر فإنى إنما أريد أن أستفرغ المسالح التى أمر بها عياض فتسكنها العرب، فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم، وتجيئنا العرب آمنة وغير متعتعة، وبذلك أمرنا الخليفة، ورأيه يعدل نجدة الأمة. وقال رجل من أشجع فى مثل ما شكاه ابن وثيمة النضرى من أمر الذباب: لقد حبست بكربلاء مطيتى ... وبالعين حتى عاد غثّا سمينها

إذا رحلت من منزل رجعت له ... لعمر أبيها إننى لا أهينها ويمنعها من ماء كل شريعة ... رفاق من الذبان زرق عيونها حديث الأنبار «1» وهى ذات العيون «2» وخرج خالد فى تعبيته التى خرج فيها من الحيرة، على مقدمته الأقرع بن حابس. فلما نزل الأقرع المنزل الذى يسلمه إلى الأنبار نتج قوم من المسلمين إبلهم، فلم يستطيعوا العرجة، ولم يجدوا بدا من الإقدام، ومعهم بنات مخاض تتبعهم. فلما نودى بالرحيل صروا الأمهات، واحتقبوا المنتوجات؛ لأنها لم تطق السير، فانتهوا ركبانا إلى الأنبار، وقد تحصن أهلها، وخندقوا عليها، فأشرفوا من حصنهم، وعلى الجنود التى قبلهم شيرزاد صاحب ساباط «3» ، وكان أعقل أعجمى يومئذ وأسوده، فتصايح عرب الأنبار وقالوا: صبح الأنبار شر، جمل يحمل جميلة وجمل تربه عوذ. فقال شيرزاد، وقد سأل عن ما يقولون، فأخبر به: أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم، والله لئن لم يكن خالد مجتازا لأصالحنه، فبينما هم كذلك قدم خالد على المقدمة، فأطاف بالخندق، وأنشب القتال، وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به، وتقدم إلى رماته، فأوصاهم وقال: إنى أرى أقواما لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم ولا توخوا غيرها، فرموا رشقا واحدا، ففقئت ألف عين يومئذ، فسميت تلك الوقعة ذات العيون، وتصايح القوم: عيون أهل الأنبار فراسل شيرزاد خالدا فى الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله، وأتى خالد أضيق مكان فى الخندق فنحر رذايا الجيش ثم رمى فيه فأفعمه، ثم اقتحموا الخندق والرذايا جسورهم، فاجتمع المسلمون والمشركون فى الخندق، وأرز القوم إلى حصنهم، وراسل شيرزاد فى الصلح على مراد خالد، فقبل منه خالد على أن يخليه ويلحقه بمأمنه فى جريدة خيل، ليس معهم من المتاع والمال شىء، فخرج شيرزاد، فلما قدم على بهمهن جاذويه وأخبره الخبر لامه، فقال له شيرزاد: إنى كنت فى قوم ليست لهم عقول، وأصلهم من العرب، فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم، وقلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم. ثم قاتلهم الجند، ففقئوا فيهم وفى أهل الأرض ألف عين، فعرفت أن المسألة أسلم، وأن قرة العين لهم، وأن العيون لا تقر منهم بشىء.

_ (1) الأنبار: مدينة بالقرب من بلخ. انظر: معجم البلدان (1/ 257، 258) . (2) انظر: الطبرى (3/ 373- 375) ، الكامل لابن الأثير (2/ 269) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 112، 113) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 349) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 81) . (3) سابط: هى سابط كسرى، موضع بالمدائن. انظر: معجم البلدان (3/ 166، 167) .

ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب كانت أوئلهم نزلوا أيام بختنصر حين أباح العرب، فلم نزل عنها. فقال: ممن تعلمتم الكتابة؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوا قول الشاعر: قوم إياد لو أنهم أمم ... أو لو أقاموا فتهزل النعم قوم لهم باحة العراق إذا ... ساروا جميعا والخط والقلم «1» فصالح خالد من حولهم، وبدأ بأهل البوازيج، فبعث إليه أهل كلواذة «2» ليعقد لهم، وكاتبهم عيبته من وراء دجلة. ثم إن الأنبار وما حولها نقضوا فيما كان يكون بين المسلمين والمشركين الدول ما خلا أهل البوازيج فإنهم ثبتوا كما ثبت أهل بانقيا. حديث عين التمر «3» ولما فرغ خالد من الأنبار، واستحكمت له، استخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقصد لعين التمر، وبها يومئذ مهران بن سوسن فى جمع عظيم من العجم، وعقة بن أبى عقة فى جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لاقاهم. فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدا. قال: صدقت، لعمرى لأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا فى قتال العجم. فخدعه واتقى به، وقال: دونكموهم وإن احتجتم إلينا جئناكم. فلما مضى عقة نحو خالد قالت الأعاجم لمهران: ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب فقال: دعونى فإنى لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر له، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم، ما اتقيته بهم، فإن كانت لهم على خالد فهى لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء، فاعترفوا له بفضل الرأى، فلزم مهران العين ونزل عقة لخالد على الطريق، وبينه وبين مهران روحة أو غدوة، فقدم عليه خالد وهو فى تعبئة جنده، فعبأ خالد جنده وقال لمجنبتيه: اكفونا ما

_ (1) انظر الأبيات فى: الطبرى (3/ 375) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 349) . (2) كلواذة: موضع بين الكوفة وواسط. انظر معجم البلدان (4/ 477) . (3) انظر: الطبرى (3/ 376، 377) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص 112) ، الكامل لابن الأثير (2/ 269، 270) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 349، 350) .

عندكم فإنى حامل، ووكل بنفسه حوامى، ثم حمل وعقة يقيم صفوفه، فاحتضنه فأخذه أسيرا، وانهزم صفه من غير قتال، فاتبعهم المسلمون وأكثروا فيهم القتل والأسر. ولما جاء الخبر مهران هرب فى جنده، وتركوا الحصن. فلما انتهى فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموه واعتصموا به، وأقبل خالد فى الناس حتى نزل عليه ومعه عقة أسيرا وعمرو بن الصعق، وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان يغير عليهم من العرب، فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان. فأبى إلا حكمه، فسكنوا إليه. فلما فتحوا دفعهم إلى المسلمين أسارى، وأمر بعقة فضربت عنقه ليوئس الأسرى من الحياة، فلما رأوه مطروحا على الجسر يئسوا ثم دعا بعمرو بن الصعق فضربت عنقه، وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين، وسبى كل من حوى حصنهم، وغنم ما فيه، ووجد فى بيعتهم أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم، وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسمهم فى أهل البلاء، فمن أولئك الغلمان أبو زياد مولى ثقيف، وحمران مولى عثمان، ونصير أبو موسى بن نصير، وسيرين والد محمد بن سيرين، وأبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر. وقال عاصم بن عمرو فى ذلك يعير عقة: ألا أبلغا الوركاء أن عميدها ... رهينة جيش من جيوش الزعافر فبهلا لمن غرت كفالة عتقه ... بنى عامر أخرى الليالى الغوابر أتيح له ضرغامة لا يفله ... قراع الكماة والليوث المساعر أتيحت له نار تسيح وتلتوى ... وترمى بأمثال النجوم العناهر حديث دومة الجندل وما بعدها من الأيام بحصيد والخنافس ومصيخ والبشر والفراض «1» قالوا: ولما قدم الوليد بن عقبة من عند خالد إلى أبى بكر، رضى الله عنه، بما بعثه به إليه من الأخماس، وجهه أبو بكر إلى عياض وأمده به، فقدم عليه الوليد وهو يحاصر أهل دومة، وهم محاصروه، وقد أخذوا عليه الطريق، فقال له الوليد: الرأى فى بعض الحالات

_ (1) انظر: المغازى للواقدى (1/ 402) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 62، 63) ، معجم البلدان (2/ 487) ، الطبرى (3/ 378- 385) ، الكامل لابن الأثير (2/ 270- 275) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 350- 352) .

خير من جند كثيف، ابعث إلى خالد واستمده، ففعل، فقدم رسوله على خالد غب وقعة العين مستغيثا، فعجل به خالد إلى عياض وكتب إليه معه: إياك أريد. لبث قليلا تأتك الجلائب ... يحملن آسادا عليها القاشب كتائب يتبعها كتائب ولما فرغ خالد من عين التمر خلف فيها عويمر بن الكاهل الأسلمى، وخرج فى تعبئته التى دخل فيها العين يريد عياضا، ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وقبل ما أتتهم منهم طوائف فيهم وديعة الكلبى، وابن الأيهم التنوخى، وابن الحدرجان، فأشجوا عياضا وأشجوا به، فلما بلغهم دنو خالد وهم على رئيسين: أكيدر بن عبد الملك، والجودى بن ربيعة، اختلفوا، فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن طائرا منه، ولا أحد فى حرب، ولا يرى وجه خالد قوم قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعونى وصالحوا القوم، فأبوا عليه، فقال: لن أمالئكم على حرب خالد، فشأنكم. فخرج لطيته، وبلغ ذلك خالدا فبعث عاصم بن عمرو معارضا له، فأخذه وقال: إنما تلقيت الأمير خالدا، فلما أتى به خالدا أمر به فضربت عنقه، وأخذ ما كان معه من شىء، ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة، وعليهم الجودى بن ربيعة، فجعل خالد دموة بين عسكره وعسكر عياض، وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة لم يحملهم الحصن، فلما اطمأن خالد خرج الجودى فنهض بوديعة فزحفا لخالد، وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض، فاقتتلوا فهزم الله الجودى ووديعة على يدى خالد، وهزم عياض من يليه، وركبهم المسلمون، فأما خالد فإنه أخذ الجودى أخذا، وأخذ الأقرع بن حابس وديعة، وأرز بقية الناس إلى الحصن، فلم يحملهم، فلما امتلأ الحصن، أغلق من فى الحصن الحصن دون أصحابهم، فبقوا حوله، وقال عاصم ابن عمرو: يا بنى تميم، حلفاؤكم كلب آسوهم وأجيروهم، فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها، ففعلوا، وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بهم، وأقبل خالد إلى الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن، ودعا بالجودى فضرب عنقه، وضرب أعناق الأسرى إلا أسير كلب، فإن عاصما والأقرع وبنى تميم قالوا: قد أمناهم، فأطلقهم لهم خالد، وقال: ما لى ولكم أتحوطون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام؟ فقال له عاصم: لا تحسدهم العافية، ولا تحرزهم الشيطان. ثم أطاف خالد بباب الحصن، فلم يزل عنه حتى اقتلعه، واقتحموا عليهم، فقتلوا المقاتلة وسبوا الشرخ فأقاموهم فيمن يزيد،

فاشترى خالد ابنة الجودى، وكانت موصوفة بالجمال، ثم إن خالدا رد الأقرع إلى الأنبار، وثبت بدومة قليلا، ثم ارتحل منها إلى الحيرة، فلما كان قريبا منها حيث يصحبها أخذ القعقاع أهلها بالتغليس فخرجوا يتلقونه وهم مغلسون، وجعل بعضهم يقول لبعض: مروا بنا فهذا فرج الشر. قالوا: وقد كان خالد عند ما أقام بدومة كاتب عرب الجزيرة الأعاجم غضبا لعقة، فخرج زرمهر من بغداد ومعه روزبه يريدان الأنبار، واتعدا حصيدا والخنافس، فكتب بذلك الزبرقان وهو على الأنبار إلى القعقاع بن عمرو وهو يومئذ خليفة خالد على الحيرة، فبعث القعقاع أبا ليلى بن فدكى السعدى وأمره بحصيد، وبعث عروة بن الجعد البارقى وأمره بالخنافس، وقال لهما: إن رأيتما مقدما فأقدما. فخرجا فحالا بينهما وبين الريف، وانتظر روزبه وزرمهر بالمسلمين اجتماع من كاتبهما من ربيعة، وقد كانوا تكاتبوا واتعدوا. فلما رجع خالد من دومة إلى الحيرة على الظهر وبلغه ذلك وقد عزم على مصادمة أهل المدائن كره خلاف أبى بكر، وأن يتعلق عليه بشىء، فعجل القعقاع وابن عمرو، وأبا ليلى بن فدكى إلى روزبه وزرمهر، فسبقاه إلى عين التمر، وقدم على خالد كتاب امرئ القيس الكلبى، أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ، ونزل ربيعة بن بجير بالثنى فى عسكر غضبا لعقة، يريدان زرمهر وروزبه. فخرج خالد وعلى مقدمته الأقرع ابن حابس، واستخلف على الحيرة عياض بن غنم، وأخذ خالد طريق القعقاع وأبى ليلى حتى قدم عليهما بالعين، فبعث القعقاع إلى حصيد، وأمره على الناس، وبعث أبا ليلى إلى الخنافس، وأمره على الناس، وقال: زجياهم ليجتمعوا ومن استشارهم، وإلا فواقعاهم، فأبى روزبه وزرمهر إلا المقام. فلما رآهما القعقاع لا يتحركان سار نحو حصيد، وعلى من به من العرب والعجم روزبه. ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر، فأمده بنفسه، واستخلف على عسكره المهبوذان، فالتقوا حينئذ فاقتتلوا، فقتل الله العجم مقتلة عظيمة، وقتل القعقاع زرمهر وقتل، أيضا، روزبه، قتله عصمة بن عبد الله، أحد بنى الحارث بن طريف، من بنى ضبة، وكان عصمة من البررة، وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة، وكل قوم هاجروا من بطن يدعون الخيرة، فكان المسلمون خيرة بررة، وغنم المسلمون يوم حصيد غنائم كثيرة، وأرز فلّال حصيد إلى الخنافس فاجتمعوا بها.

وقال القعقاع فى ذلك اليوم: ألم ينه عنا غى فارس أننا ... منعناهم من ريفهم بالصوارم وأنا أناس قد تعود خيلنا ... لقاء العادى بالحتوف القواصم وروزا قتلنا حيث أرهف حده ... وكل رئيس زاريا بالعظائم تركنا حصيدا لا أنيس بجوه ... وقد شقيت أربابه بالأعاجم وإنى لراج أن تلاقى جموعهم ... غديّا بإحدى المنكرات الصوادم ألا أبلغا أسماء أن خليلها ... قضى وطرا من روزمهر الأعاجم وسار أبو ليلى ابن فدكى بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس وبها المهبوذان، فلما أحس بهم هرب هو ومن معه إلى المصيخ «1» وبه الهذيل بن عمران، فلما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد «2» وهرب أهل الخنافس كتب إلى القعقاع وأبى ليلى وعروة وواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها على المصيخ، وهو بين حوران والقلت، وخرج خالد من العين قاصدا للمصيخ على الإبل يجنب الخيل، فلما كان فى تلك الساعة من ليلة الموعد اتفقوا جميعا معه بالمصيخ، فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوى إليهم، وهم نائمون، أتوهم بالغارة من ثلاثة أوجه، فقتلوهم، وامتلأ الفضاء قتلى، فما شبهوا إلا غنما مصرعة، وأفلت الهذيل فى أناس قليل، وقد كان حرقوص بن النعمان بن النمر بن قاسط محضهم النصح، وأجاد الرأى، فلم ينتفعوا بتحذيره، وذلك أن حرقوصا قال قبل الغارة: ألا فاسقيانى قبل خيل أبى بكر ... لعل منايانا قريب ولا ندرى ألا فاسقيانى بالزجاج وكررا ... علينا كميت اللون صافية تجرى أظن خيول المسلمين وخالدا ... ستطرقكم عند الصباح إلى البشر فهل لكم فى السير قبل قتالهم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر أرينى سلاحى يا أميمة إننى ... أخاف بيات القوم مطلع الفجر «3» وكان حرقوص معرسا بامرأة من بنى هلال تدعى أم تغلب، فقتلت تلك الليلة، وقد تقدم من حديث عدى بن حاتم فيما مضى من هذا الكتاب، قال: أغرنا على المصيخ، وإذا رجل يدعى حرقوص بن النعمان بن النمر، وإذا حوله بنوه وامرأته، وبينهم جفنة من

_ (1) المصيخ: موضع بين حوران والقلت. انظر: معجم البلدان (2/ 391) . (2) حصيد: واد بين الكوفة والشام. انظر: معجم البلدان (2/ 226) . (3) انظر الأبيات فى: الطبرى (3/ 416، 417) ، الكامل لابن الأثير (2/ 280) ، معجم البلدان لياقوت (1/ 427، 5/ 144) .

خمر، وهم عليها عكوف، فقال: اشربوا شرب وداع، فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها، خالد بالعين وجنوده بحصيد، وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا. ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر ... بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر وقبل منايانا المصيبة بالقدر ... لحين لعمرى لا يزيد ولا يحرى فسبق إليه وهو فى ذلك بعض الخيل، فضرب رأسه، فإذا هو فى جفنته، وأخذنا بناته وقتلنا بنيه. وأصاب جرير بن عبد الله بالمصيخ عبد العزى بن أبى رهم من النمر، وإنما حضر جرير مما كان بالعراق ما كان بعد الحيرة، وذلك أنه كان ممن خرج مع خالد بن سعيد ابن العاص إلى الشام، فاستأذن جرير فى القدوم على أبى بكر ليكلمه فى قومه بجيلة، وكانوا أوزاعا فى العرب، ليجمعهم ويتخلصهم، فأذن له، فقدم على أبى بكر فذكر له عدة من النبى صلى الله عليه وسلم وأتاه عليها بشهود، وسأله إنجازها، فغضب أبو بكر وقال: ترى شغلنا وما نحن فيه، من بعوث المسلمين لمن بإزائهم من الأشدين: فارس والروم ثم أنت تكلفنى التشاغل بما لا يغنى عنى عما هو أرضى لله ولرسوله، دعنى وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله فى هذين الوجهين. فسار جرير حتى قدم على خالد وهو بالحيرة، فشهد معه ما كان بعدها من الأيام، وأصاب يوم المصيخ، كما ذكرنا، عبد العزى بن أبى رهم، وكان معه ومع رجل آخر من قومه يقال له لبيد بن جرير كتاب من أبى بكر، رضى الله عنه، بإسلامهم، وسمى عبد العزى عبد الله، وبلغ أبا بكر مع ذلك أن عبد العزى قال ليلة الغارة: وأقول إذ طرق الصباح بغارة ... سبحانك اللهم رب محمد سبحان ربى لا إله غيره ... رب العباد ورب من يتودد فوداه أبو بكر لما بلغه هذا، وودى لبيدا، وقال: أما إن ذلك ليس على إذ نازلا أهل حرب. وأوصى بأولادهما. وكان عمر، رضى الله عنه، يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك بن نويرة، فيقول أبو بكر، رضى الله عنه: كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب فى ديارهم. وقد كان ربيعة بن بجير التغلبى نزل الثنى والبشر غضبا لعقة، وواعد لذلك روزبه وزرمهر والهذيل قبل أن يصيبهم ما أصابهم بالمصيخ، فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به، تقدم إلى القعقاع وإلى أبى ليلى، بأن يرتحلا أمامه، وواعدهما ليلة ليفترقوا

فيها للغارة على ربيعة ومن معه من ثلاثة أوجه، كما فعل بأهل المصيخ، ثم خرج خالد من المصيخ فنزل حوران «1» ، ثم الرنق، ثم الحماة «2» ، ثم الزميل» ، وهو البشر «4» والثنى معه، وهما شرقى الرصافة، فبدأ بالثنى، واجتمع هو وأصحابه، فبيت من ثلاثة أوجه ربيعة بن بجير ومن اجتمع له وإليه، ومن ناشب لذلك من الشبان لذلك من الشبان، فجرد خالد فيهم السيوف بياتا، فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر، واستبقى الشيوخ، وبعث بخمس الله، عز وجل، إلى أبى بكر، رضى الله عنه، مع النعمان بن عوف الشيبانى، وقسم النهب والسبايا، فاشترى على بن أبى طالب، رضى الله، من ذلك السبى ابنة ربيعة التغلبى، فاتخذها، فولدت له عمر ورقية. وقال أبو مقرز فى ذلك: لعمر بنى بجير حيث صاروا ... ومن آذاهم يوم الثنى لقد لاقت سراتهم فضاحا ... وفينا بالنساء على المطى وكان الهذيل حيث نجا من المصيخ أوى إلى الزميل، إلى عتاب بن فلان، وهو بالبشر فى عسكر ضخم، فبيتهم خالد بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه، سبقت إليهم الخبر عن ربيعة، وكانت على خالد يمين: ليبغتن تغلب فى دارها، فقتل فيهم مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها، وأصابوا منهم ما شاؤا، وقسم خالد فى الناس فيئهم، وبعث الأخماس إلى أبى بكر، رضى الله عنه، مع الصباح بن فلان المزنى، ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب «5» وبها هلال بن عقة وقد أرفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد، فانقشع عنها هلال ولم يلق كيدا، ثم قصد خالد بعدها إلى الفراض، والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة، فأفطر فيها فى رمضان فى تلك السفرة التى اتصلت له فيها هذه الغزوات والأيام، ونظمن نظما إلى ما كان قبل ذلك منه.

_ (1) حوران: كانت كورة واسعة من أعمال دمشق من جهة القبلة ومزارع وحرار. انظر: معجم البلدان (2/ 317) . (2) من المدن المشهورة بالشام، كانت مدينة عظيمة وكبيرة. انظر: معجم البلدان (2/ 317، 318) . (3) الزميل: موضع شرقى الرصافة. انظر معجم البلدان (3/ 151) . (4) البشر: اسم جبل يمتد من عرض إلى الفرات من أرض الشام من جهة البادية. انظر: معجم البلدان (1/ 426- 428) . (5) الرضاب: موضع الرصافة قبل بناء هاشم إياه. انظر: معجم البلدان (3/ 50) .

قالوا: ولما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر، فأمدوهم بأجمعهم، واجتمعوا كلهم على كلمة واحدة، ثم ناهدوا خالدا حتى إذا صار الفرات بينه وبينهم قالوا: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم قال خالد: اعبروا إلينا، قالوا: فتنحوا حتى نعبر، قال خالد: لا نفعل، ولكن اعبروا أسفل منا. فقال الروم وفارس بعضهم لبعض: احتسبوا ملككم، هذا رجل يقاتل عن دين، وله عقل وعلم، وو الله لينصرن ولتخذلن، ثم لم ينتفعوا بذلك، فعبروا أسفل من خالد، فلما تتاموا قالت الروم: امتازوا حتى يعرف اليوم ما كان من حسن أو قبح، من أينا يجىء ففعلوا، ثم اقتتلوا قتالا شديدا طويلا، ثم هزمهم الله تعالى. وقال خالد للمسلمين: ألحوا عليهم، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، فقتل يوم الفراض فى المعركة وفى الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرا، ثم أذن فى القفل إلى الحيرة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم. وأظهر خالد أنه فى الساقة، وخرج من الفراض حاجا لخمس بقين من ذى القعدة مكتتما بحجه، ومعه عدة من أصحابه، يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت، فقضى حجه، ثم أتى الحيرة، فوافاه بها كتاب أبى بكر، رضى الله عنه، يأمره فيه بالمسير إلى الشام ويعاتبه على ما فعل، إذ لم يعلم أبو بكر بحجته هذه إلا بعد انصرافه إلى الحيرة. وقد تقدم هذا كله فيما رسم قبل من فتوح الشام مستوفى فى بيانه، وكيف كان مسيره إلى الشام وتركه المثنى بن حارثة بعده على العراق، ومشاطرته إياه فى الناس، كل ذلك بأمر أبى بكر، رضى الله عنه، حسب ما تقدم ذكره. حديث المثنى بعد خالد «1» ولما انفصل خالد، رحمه الله، إلى الشام شيعه المثنى إلى قراقر، ورجع من تشييعه إلى الحيرة، فأقام بها فى سلطانه، ووضع فى المسلحة التى كان فيها على السيب أخاه، وسد أماكن كل من خرج مع خالد من الأمراء برجال أمثالهم من أهل الغناء، ووضع مذعور ابن عدى فى بعض تلك الأماكن.

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 411- 415) ، الكامل لابن الأثير (2/ 284- 286) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 87- 91) .

واستقام أهل فارس على رأس سنة من مقدم خالد على الحيرة، بعد خروجه إلى الشام بقليل، وذلك سنة ثلاث عشرة، على شهربراز بن أردشير بن شهريار ممن يناسب إلى كسرى، ثم إلى سابور. فوجه إلى المثنى جندا عظيما عليهم هرمز جاذويه فى عشرة آلاف، ومعه فيل، وكتبت المسالح إلى المثنى بإقباله، فخرج المثنى من الحيرة نحوه، وضم إليه أصحاب المسالح، وجعل على مجنبتيه أخويه: المعنّى ومسعودا، وأقام له ببابل، وأقبل هرمز جاذويه، وقد كتب شهر براز إلى المثنى بن حارثة: «من شهربراز إلى المثنى: إنى قد بعثت إليك جندا من وخش أهل فارس، إنما رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقاتلك إلا بهم» . فكتب إليه المثنى: «من المثنى إلى شهربراز، إنما أنت أحد رجلين. إما صادق، فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب، فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفى الناس الملوك، وأما الذى يدلنا عليه الرأى، فإنكم إنما اضطرتم إليهم، فالحمد لله الذى رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير» . فجزع أهل فارس من كتابه، وقالوا: إنما أتى شهربراز من شؤم مولده ولؤم منشئه، وكان يسكن ميسان «1» ، وأن بعض البلدان شين على من يسكنه. وقالوا له: جرأت عدونا بالذى كتبت إليهم، فإذا كاتبت أحدا فاستشر. ثم التقوا ببابل، فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا، على الطريق الأول، قتالا شديدا. ثم إن المثنى وفرسان من المسلمين اعتمدوا الفيل، وكان يفرق بين الصفوف والكراديس، فأصابوا مقتله، فقتلوه وهزموا أهل فارس، واتبعهم المسلمون يقتلونهم، حتى جازوا بهم مسالحهم، فأقاموا فيها، وتتبع الطلب الفالة، حتى انتهوا إلى المدائن، ومات شهربراز منهزم هرمز جاذويه، واختلف أهل فارس، وبقى ما دون دجلة وبرس من السواد فى يد المثنى وأيدى المسلمين. ثم إن أهل فارس اجتمعوا بعد شهربراز على دخت زنان ابنة كسرى، فلم ينفذ لها أمر، وخلعت، وملك سابور بن شهربراز، وقام بأمره الفرخزاد بن البندوان، فقاتلا جميعا، وملكت آرز ميدخت، وتشاغلوا بذلك، وأبطأ خبر أبى بكر، رضى الله عنه، على المسلمين، فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية، ووضع مكانه فى المسالح سعيد بن مرة العجلى، وخرج المثنى نحو أبى بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين،

_ (1) ميسان: كورة واسعة كثيرة القرى والنخيل بين البصرة وواسط. انظر: معجم البلدان (5/ 242) .

ولكى يستأذنه فى الاستعانة بمن قد ظهرت توبته من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو، وليخبره أنه لم يخلف أحدا أنشط إلى قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم، إذ كان أبو بكر، رضى الله عنه، قد منع من الاستعانة بهم رأسا، وقال لأمرائه: لا تستعينوا فى حربكم بأحد ممن ارتد، فإنى لم أكن لأستنصر بجيش فيهم أحد ممن ارتد، وبالجزاء إن فعلت أن لا تنصروا. وقال عروة بن الزبير: أمران يعرف بهما حال من شهد الفتوح، من ذكر أن أبا بكر، رضى الله عنه، استعان فى حربه بأحد ممن ارتد فقد كذب، وذكر من قول أبى بكر فى ذلك ما بدأنا به. قال: ومن زعم أن عمر، رضى الله عنه، حين أذن لمن ارتد فى الجهاد أمر أحدا منهم فقد كذب، وإنما تألف من تألف بالإمارة منهم عثمان بن عفان، رضى الله عنه، رجاء ما رجاه منهم عمر حين استعان بهم، فمن قبلهم ابتدأت الفتنة، وعلق عثمان، رضى الله عنه، عند الذى بدا منهم يتمثل بقول الأول: وكنت وعمرا كالمسمّن كلبه ... فخدشه أنيابه وأظافره فقدم المثنى بن حارثة المدينة، وأبو بكر مريض مرضه الذى توفاه الله تعالى، منه، وذلك بعد مخرج خالد إلى الشام، وقد تقدم ذكر وفاة أبى بكر واستخلافه عمر، رضى الله عنهما، فى أول موضع احتيج إلى ذكر ذلك فيه من فتح الشام، وتوفى أبو بكر وأحد شقى السواد فى سلطانه، والجمهور من جند أهل العراق بالحيرة، والمسالح بالسيب، والغارات تنتهى بهم إلى شاطئ دجلة، ودجلة حجاز بين العرب والعجم. فهذا حديث العراق فى خلافة أبى بكر، رضى الله عنه، من مبتدئه إلى منتهاه. ذكر ما كان من خبر العراق فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وما كان من أمر المثنى بن حارثة معه، وذكر أبى عبيد بن مسعود، على ما فى ذلك كله من الاختلاف بين رواة الآثار «1» ذكر سيف عن شيوخه قالوا: أول ما عمل به عمر، رحمه الله، أن ندب الناس مع

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 444- 454) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص 113) ، الكامل لابن الأثير (2/ 297- 301) ، كنز الدرر للدوادارى (3/ 193، 194) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 26، 27) .

المثنى بن حارثة الشيبانى إلى أهل فارس قبل صلاة الصبح، من الليلة التى مات فيها أبو بكر، رضى الله عنه، ثم أصبح فبايع الناس، وعاد فندب الناس إلى فارس، وتتابع الناس على البيعة ففزعوا فى ثلاث، كل يوم يندبهم فلا ينتدب أحد، وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم، وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم وقهرهم الأمم. قالوا: فلما كان فى اليوم الرابع عاد ينتدب الناس إلى العراق، فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود، وسعد بن عبيد القارى، حليف الأنصار، وتتابع الناس. قال القاسم بن محمد: وتكلم المثنى بن حارثة، فقال: يا أيها الناس، لا يعظمن عليكم هذا الوجه، فإنا قد تبجحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقى السواد، وشاطرناهم ونلنا منهم، واجترأ من قبلنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها. وقام عمر، رضى الله عنه، فى الناس، وقال: إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين المهاجرين عن موعود الله، عز وجل، سيروا فى الأرض التى وعدكم الله فى كتاب بأن يورثكموها، فإنه قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، والله مظهر دينه، ومعز ناصره، ومولى أهله مواريث الأمم. أين عابد الله الصالحون!. فلما اجتمع ذلك البعث، وكان أولهم، كما تقدم أبو عبيد، ثم ثنى سعد بن عبيد أو سليط بن قيس، قيل لعمر، رحمه الله: أمر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار. فقال: لا والله لا أفعل، إن الله تعالى إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء، فأولوا الرياسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب الدعاء، لا والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا. ثم دعا أبا عبيد، ودعا سليطا وسعدا، فقال لهما: أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتكما بها إلى ما لكما من القدمة. فأمر أبا عبيد على الجيش، وقال له: اسمع من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، وأشركهم فى الأمر، ولا تجيبن مسرعا حتى تتبين، فإنها الحرب، لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذى يعرف الفرصة والكف، ثم قال له: إنه لم يمنعنى أن أؤمر سليطا إلا تسرعه إلى الحرب، وفى التسرع إليها إلا عن بيان ضياع، والله لولا ذلك لأمرته، ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث. ويروى أن عمر انتخب من أهل المدينة ومن حولها ألف رجل، أمر عليهم أبا عبيد، فقيل له: استعمل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا ها الله ذا يا أصحاب النبى، لا

أندبكم فتبطئون، وينتدب غيركم فأؤمركم عليهم إنما فضلتم بتسرعكم، فإن نكلتم فضلوكم. وعجل عمر، رضى الله عنه، المثنى، وقال: النجاء حتى يقدم عليك أصحابك. فخرج المثنى، وقدم الحيرة فى عشر، ولحقه أبو عبيد بعد شهر. وفى كتاب المدائنى أن تحرك عمر لهذا البعث إنما كان بكتاب المثنى إليه، يستمده ويحرضه على أرض فارس، فذكر بإسناد له إلى جماعة من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض: أن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، قال حين ولى: والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه وليس ينصر إياهما، فكتب إليه المثنى وهو بالحيرة: أنا بأرض فارس، وقد عرفناهم وغازيناهم وغلبناهم على بعض ما فى أيديهم، ومعى رجال من قومى لهم صلاح ونجدة وصدق بلاء عند الناس وجرأة على البلاد، فإن رميتنا بجماعة من قبلك رجوت أن يفتح الله عليهم، قالوا: ولم تكن لعمر، رحمه الله، همة حين قام بأمر المسلمين إلا الروم وفارس، فلما أتاه كتاب المثنى بن حارثة خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وحثهم على الجهاد، ورغبهم فيه، وأنبأهم بما أعد الله للمجاهدين فى سبيله، وقال: أنتم بين فتح عاجل وذخر آجل، وقد أصبحتم بالحجاز بغير دار مقام، وقد وعدكم الله كنوز كسرى وقيصر، وأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الفتح: 28] ، وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [التوبة: 33] ، فانهضوا لجهاد عدوكم من أهل فارس، فإن لكم بها إخوانا ليسوا مثلكم فى السابقة، وقد لقوهم وقاتلوهم فاستعدوا للمسير إليهم رحمكم الله وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60] ، ولا تركنوا إلى الدنيا، واستعينوا بالله واصبروا. فتثاقل الناس حين ذكر فارس. فقال عمر: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة: 38] ، فقام أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفى، فقال: أنا أول من انتدب، ثم قام سليط بن قيس بن عمرو فقال: يا أمير المؤمنين، أنا ثان، ثم قام رهط من الأنصار، فسمى منهم نفرا. قال: ثم تتابع الناس وكثروا وقالوا: يا أمير المؤمنين، أمر علينا رجلا، فقال: أؤمر عليكم أول من انتدب، فاستعمل عليهم أبا عبيد، وقال: لم يمنعنى من استعمال سليط بن قيس، وهو من أهل بدر إلا عجلة فيه، فخشيت أن يلقى المسلمين ملقى يهلكون فيه، وكان فيمن

انتدب سعد بن عبيد القارى، ففر يوم الجسر، فكان بعد ذلك يقول: إن الله اعتد علىّ بغرة فى أرض فارس، فعسى أن يعيد لى فيها كرة. وفى حديث غير المدائنى: فكانت الوجوه تعرض عليه بعد ذلك فيأبى إلا العراق، ويقول: إن الله اعتد علىّ فيها بغرة، وذكر نحو ما تقدم. واختلف ما ذكره سيف فيمن كان إليه أمر فارس عند قدوم أبى عبيد بحسب اختلاف أهل الأخبار عليه فى ذلك. فمما ذكره أن بوران بنت كسرى كانت، كلما اختلف الناس بالمدائن، عدلا بينهم حتى يصطلحوا، فلما قتل الفرخزاد وقدم رستم فقتل أرزميدخت، كانت بوران عدلا إلى أن استخرجوا يزدجرد. قال: فقدم أبو عبيد والعدل بوران، وصاحب الحرب رستم. وذكر من طريق آخر: أن بوران هى التى استحثت رستم فى السير، وكان على فرج خراسان، لما قتل الفرخزاد، فأقبل رستم فى الناس حتى نزل المدائن، لا يلقى جيشا لأرزميدخت إلا هزمه، واقتتلوا بالمدائن، فهزمهم سياوخش وهو قاتل الفرخزاد، وحصر أرزميدخت ثم افتتح المدائن، فقتل سياوخش، وفقأ عين أرزميدخت، ونصب بوران، فدعته إلى القيام بأمر فارس، وشكت إليه تضعضعهم وإدبار أمرهم، على أن تملكه عشر حجج، ثم يكون الملك فى آل كسرى إن وجدوا من غلمانهم أحدا، وإلا ففى نسائهم. فقال رستم: أما أنا فسامع مطيع، غير طالب عوضا ولا ثوابا، فإن شرفتمونى وصنعتم إلىّ شيئا فأنتم أولياء ما صنعتم، إنما أنا سهمكم وطوع أيديكم. فقالت بوران: اغد علىّ، فغدا عليها، ودعت مرازبة فارس، فكتبت له: بأنك على حرب فارس، ليس عليك إلا الله عن رضا منا وتسليم لحكمك، وحكمك جائز فيهم ما كان حكمك فى منع أرضهم وجمعهم عن فرقتهم، وتوجته وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا، ودانت له فارس بعد قدوم أبى عبيد. فهذا ما ذكره سيف فى شأن مملكة فارس إذ ذاك. قال: وكتب رستم إلى دهاقنة السواد أن يثوروا بالمسلمين، ودس إلى كل رستاق رجلا ليثور بأهله، فبعث جابان إلى البهقباذ الأسفل، وبعث نرسى إلى كسكر، وبعث المصادمة إلى المثنى، وبلغ المثنى ذلك، فضم إليه مسالحه وحذر، وعجل جابان فنزل

النمارق، وتوالوا على الخروج، فخرج نرسى، فنزل زندورد، وثار أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله، وخرج المثنى بن حارثة فى جماعة حتى ينزل خفان، لئلا يؤتى من خلفه بشىء يكرهه، فأقام حتى قدم عليه أبو عبيد. وأما المدائنى فلم يعرض لما عرض له سيف فى شأن مملكة فارس، بل بنى على أن يزدجرد هو كان الملك عليهم حينئذ، فإنه قال بعقب ما نسب إليه قبل: وبلغ يزدجرد أن ملك العرب يسير إليه، فشاور أهل بيته ومرازبته، فقالوا له: وجه إلى أطرافك فحصنها وأخرج من فيها من العرب، فوجه جالينوس ورستم وليس بالأزدى ومردان شاه ونرسى ابن خال أبرويز، وكل واحد فى خمسة آلاف، وأمرهم أن ينزلوا متفرقين، ويكون بعضهم قريبا من بعض كل رجل فى أصحابه، ويمد بعضهم بعضا إن احتاجوا إلى ذلك، وأمرهم أن يقتلوا من قدروا عليه من العرب، فخرجوا والمثنى بالحيرة، فبلغه مسيرهم، فخرج لينزل على البلاد، فلقى على قنطرة النهرين خرزاذبه فقتله. ومضى المثنى فنزل من وراء أليس، ونزل العجم متفرقين، فنزل نرسى كسكر، ونزل مردان شاه فيما بين سورا وقبين، ونزل رستم بابل، ونزل جالينوس بارسمى، ووجه جالينوس جابان فى ألف إلى أليس، ووجه أزاذبه إلى الحيرة فى ألف، وفصل أبو عبيد بن مسعود من المدينة فى ألف وثمانمائة من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فيهم من ثقيف أربعمائة معهم أبو محجن، كان مع خالد بن الوليد بالشام فلما. أتتهم وفاة أبى بكر رجع إلى المدينة، فخرج مع أبى عبيد، وانضم إلى أبى عبيد فى الطريق مائة من بنى أسد، ومائتان من طيئ، ومائة من بنى ذبيان بن بغيض، ومائة من بنى عبس، معهم خمسة وعشرون فرسا، وخرج المثنى بن حارثة فى ثلاثمائة وسبعين من بكر بن وائل، وثلاثمائة من بنى تميم حنظلة وعمرو وسعد والرباب، فتلقى أبا عبيد ثم أقبل معه حتى نزل عسكره الذى كان فيه، ووضع عيونا على المسلحة التى بأليس فأتوه فأعلموه فأخبر أبا عبيد، فقال له: إن أذنت لى سرت إليهم، فأذن له وضم إليه ابنه جبر بن أبى عبيد، وقال لابنه جبر: لا تخالفه، فسار المثنى فصبح أليس وهم آمنون فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزموا، فأصاب المسلمون سلاحا ومتاعا ليس بالكثير، ورجع إلى أبى عبيد، ونزل جابان فيما بين الحيرة والقادسية، وكتب أبو عبيد إلى عمر، رضى الله عنه، بخبر أليس، فسر المسلمون ونشطوا، وخرج قوم من المدينة إلى أبى عبيد، وتقدم أبو عبيد فلقى جابان فيما بين الحيرة والقادسية، وجابان فى ألفين معه ازاذبه، فلم يطل القتال بينهم حتى انهزم المشركون.

وفيما ذكره سيف من الأحاديث أن أبا عبيد لما نزل خفان مع المثنى أقام بها أياما ليستجم أصحابه، وقد اجتمع إلى جابان بشر كثير، وخرج أبو عبيد بعد ما جم الناس وطهرهم، وجعل المثنى على الخيل، فنزلوا على جابان بالنمارق فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم الله أهل فارس، وأسر جابان، أسره مطر بن فضة أحد بنى تيم الله، وأسر مردان شاه، أسره أكتل بن شماخ العكلى، فأما أكتل فإنه ضرب عنق مردان شاه، وذلك أنه سأله: ما اسمك؟، فيما ذكره المدائنى، فقال له: مردان شاه. قال: وما مردان شاه؟ قال: ملك الرجال. قال: لا جرم والله لأقتلنك، فقتله. وأما مطر بن فضة فإن جابان خدعه وهو لا يعرفه، وكان جابان شيخا كبيرا، فقال لمطر: إنكم معشر العرب أهل وفاء، فهل لك أن تؤمننى وأعطيك غلامين أمردين خفيفين فى عملك وكذا وكذا، قال: نعم، قال: فأدخلنى على ملككم حتى يكون ذلك بمشهد منه، فأدخله على أبى عبيد، فتم له على ذلك وأجاز ذلك أبو عبيد، فعرفه ناس فقالوا لأبى عبيد: هذا الملك جابان، وهو الذى لقينا بهذا الجمع، فقال أبو عبيد: فما تأمروننى، أيؤمنه صاحبكم وأقتله أنا، معاذ الله من ذلك. وفى رواية: إنى أخاف الله إن قتلته، وقد أمنه رجل من المسلمين فى الذمة والتود والتناصر كالجسد، ما لزم بعضهم لزم كلهم. فقالوا: إنه الملك، قال: وإن كان لا أعذر به، فتركه، وقال له: اذهب حيث شئت. وهرب أصحاب جابان حين أسر إلى كسكر ونرسى بأسفلها. وكانت كسكر قطيعة له، وكان النرسيان له، يحميه لا يأكله بشر، إلا ملك فارس، أو من أكرموه فيه بشىء، ولا يغرسه غيرهم، فكان ذلك مذكورا من فعلهم فى الناس، وأن ثمرهم هذا حمى، فقال رستم وبوران لنرسى: أشخص إلىّ قطيعتك فأحمها من عدوك وعدونا وكونن رجلا، فلما انهزم الناس يوم النمارق، ووجهت الفالة نحو نرسى، ونرسى فى عسكره، نادى أبو عبيد بالرحيل، وقال للمجردة: اتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسى، أو تبيدوهم فيما بين النمارق إلى بارق درونى «1» . ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسى بكسكر، والمثنى فى تعبئته التى قاتل فيها جابان، وقد أتى الخبر رستم وبوران بهزيمة جابان، فبعثوا إليه الجالينوس، وبلغ ذلك نرسى وأهل كسكر وباروسما ونهر جوبر والزوابى، فرجوا أن يلحق قبل الوقعة، وعالجهم أبو عبيد، فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية،

_ (1) بارق: ماء بالعراق من أعمال الكوفة. انظر: معجم البلدان (1/ 319) .

فاقتتلوا فى صحار ملس هناك قتالا شديدا، ثم إن الله، عز وجل، هزم فارس، وهرب نرسى، وغلب المسلمون على عسكره وأرضه، وأخذ أبو عبيد ما حوى معسكرهم، وجمع الغنائم، فرأى من الأطعمة شيئا عظيما، فبعث فيمن يليه من العرب فانتفلوا ما شاؤا، لا يؤثرون فيه، وأخذت خزائن نرسى، فلم يكونوا بشىء مما خزن أفرح منهم بالنرسيان؛ لأنه كان يحميه ويمالئه عليه ملوكهم، فاقتسمه المسلمون، فجعلوا يطعمونه الفلاحين. قال المدائنى: وسار أبو عبيد إلى الجالينوس فلقيه بباروسما فهزمه، فلحق بالمدائن، وبلغ الذين كانوا ببابل هزيمة نرسى وجالينوس، فرجعوا إلى المدائن، ودخل أبو عبيد باروسما، فصالحه ابن الأنذرزعر عن كل رأس بأربعة دراهم، وهيئوا له طعاما فأتوه به، فقال: لا آكل إلا ما يأكل مثله المسلمون. فقالوا: كل، فكل أصحابك يأكل مثل ما تؤتون به، فأكل، فلما راح المسلمون سألهم عن طعامهم فأخبروه، فإذا الذى أكلوا مثل طعامه. وفى بعض ما أورده سيف من الأخبار أن ابن الأنذرزعر لما أعلم أبا عبيد بالطعام الذى صنعوا له، وأتوا به قال لهم: هل أكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟ قالوا: لا، قال: فردوه فلا حاجة لنا فيه، بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوما من بلادهم اهراقوا دماءهم دونه، أو لم يهريقوها فاستأثر عليهم بشىء يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم!. قال المدائنى: وبعث أبو عبيد من باروسما المثنى بن حارثة إلى زندورد، وعاصم بن عمرو الأسدى إلى نهر جوير، وعروة بن زيد الخيل إلى الزوابى، فأما المثنى فإن أهل زندورد حاربوه فظفر بهم فقتل وسبى، وأما أهل الزوابى ونهر جوبر فصالحوا على صلح باروسما، فبعث أبو عبيد بخمس ما أصاب من أليس وخفان وكسكر وزندورد، وما صالح عليه إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ونزل أبو عبيد والمسلمون الحيرة. وذكر سيف، أيضا، أنهم بعثوا بخمس ما أصابوا من النرسيان إلى عمر، رحمه الله، وكتبوا إليه: إن الله، عز وجل، أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها الناس، فأحبننا أن تروها لتذكروا أنعم الله وأفضاله. وقال فى ذلك عاصم بن عمرو: ضربنا حماة النرسيان بكسكر ... غداة لقيناهم ببيض بواتر

وفزنا على الأيام والحرب لاقح ... بجرد حسان أو برود غرائر وظلت فلال النرسيان وتمره ... مباحا لمن بين الدبا والأصافر أبحنا حمى قوم وكان حماهم ... حراما على من رامه بالعساكر وقال، أيضا، يذكر ملتقى القوم بالنمارق: لعمرى وما عمرى علىّ بهين ... لقد صبحت بالخزى أهل النمارق نجوسهم ما بين أليس غدوة ... وبين قديس فى طريق البرارق بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم ... يجوسونهم ما بين درتا وبارق وبين الرواة فيما تقدم من الأخبار اختلاف فى أسماء الأعاجم والأماكن، وفى التقديم والتأخير لم أر لذكر أكثر ذلك وجها إلا ما كان منه زائدا فى الإمتاع ومحسنا انتظام الحديث. ومما ذكروا أن عمرا، رضى الله عنه، تقدم به إلى أبى عبيد حين بعثه فى هذا الوجه وأوصاه بجنده، أن قال له: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية، وتقدم على قوم جرؤا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوه، فانظر كيف تكون! واخزن لسانك، ولا يفشون لك سر؛ فإن صاحب السر ما ضبطه متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه، وإذا ضيعه كان بمضيعة. حديث وقعة الجسر «1» ويقال لها: وقعة القس، قس الناطف، ويقال لها: المروحة. وقد جمعت الذى أوردت هنا من الحديث عن هذه الوقعة من أحاديث متفرقة أوردها الخطيب أبو القاسم، رحمه الله، فى كتابه عن سيف بن عمر وغيره، يزيد بعضها على بعض ومما وقع إلىّ، أيضا، عن أبى الحسن المدائنى فى فتوح العراق، وحديثه أطول افتضاضا وأشد اتصالا، وقد جعلت هذه الأحاديث كلها على اختلافها حديثا واحدا، إلا أن يعرض فيها ما يتناقض، فإما أن أسقط، حينئذ، أحد النقيضين بعد الاجتهاد فيه وفى الذى أوثر إثباته منهما، وإما أن أذكرهما معا وأبين ذلك، وأنسبه إلى من وقع ذكره فى حديثه، وكثيرا ما مضى عملى فى هذا الكتاب على هذا النحو، وعليه يستمر، إن

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 454- 459) ، الكامل لابن الأثير (2/ 301- 303) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 27- 29) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 182- 184) .

شاء الله، قصدا للتهذيب وحرصا على الجمع بين الإمتاع والإيجاز بحول الله سبحانه. وأفتتح بما افتتح به المدائنى هذه القصة للذى ذكرته من حسن اتصال حديثه. قال: ولما فتح أبو عبيد ما فتح، وهزم تلك الجنود، ونزل الحيرة، ورجعت المرازبة إلى يزدجرد منهزمين، شمتهم، وأقصاهم، ودعا بهمن ذا الحاجب فعقد له على اثنى عشر ألفا، وقال له: قدم هؤلاء الذين انهزموا، فإن انهزموا فاضرب أعناقهم، ودفع إليه درفش كايبان، راية كانت لكسرى فكانوا يتيمنون بها، وكانت من جلود النمور، عرضها ثمانية أذرع فى طول اثنى عشر ذراعا، وأعطاه سلاحا كثيرا، وحمل معه من أداة القتال وآله الحرب أوقارا من الإبل، ودفع إليه الفيل الأبيض، فخرج فى عدة لم ير مثلها. وفى كتاب سيف أن رستم هو صاحب ذلك، وأنه الذى رجع إليه الجالينوس ومن أفلت من جنده بناء على ما قدمنا من الاختلاف فى ملك فارس إلى من كان حينئذ. قال: فقال رستم: أى العجم أشد على العرب فيما ترون؟ قالوا: بهمن جاذويه، وهو ذو الحاجب، فوجهه ومعه الفيلة، ورد جالينوس معه. وذكر بعض ما تقدم. وبلغ المسلمون مسيرهم، فقال المثنى لأبى عبيد: إنك لم تلق مثل هذا الجمع ولا مثل هذه العدة، ولمثل ما أتوك به روعة لا تثبت لها القلوب، فارتحل من منزلك هذا حتى نعبر الفرات ونقطع الجسر وتصير الفرات بينك وبينهم فتراهم، فإن عبروا إليك قاتلتهم، واستعنت الله، قال: إنى لأرى هذا وهنا، ثم أخذ برأى المثنى فعبر الفرات ونزل المروحة وقطع الجسر، وأقبل بهمن فنزل قس الناطف، بينه وبين أبى عبيد الفرات، وأرسل إلى أبى عبيد: إما أن تعبر إلينا، وإما أن نعبر إليك. فقال أبو عبيد: نعبر إليكم. فقال المثنى أذكرك الله والإسلام أن لا تعبر إليهم، فحلف ليعبرن إليهم، ودعا ابن صلوبا فعقد له الجسر فقال سليط بن قيس الأنصارى: يا أبا عبيد أذكرك الله ألا تركت للمسلمين مجالا، فإن العرب من شأنها أن تفر ثم تكر، فاقطع هذا الجسر وتحول عن منزلك وانزل أدنى منزل من البر وتكتب إلى أمير المؤمنين فتعلمه ما قد أجلبوا به علينا، ونقيم فإذا كثر عددنا وجاء مددنا رجعنا إليهم وبنا قوة، وأرجو أن يظهرنا الله عليهم. قال: جبنت والله يا سليط. قال: والله إنى لأشد منك بأسا، وأشجع منك قلبا، ثم تقدم فعبر، فقال المثنى لأبى عبيد: والله ما جبن، ولكن أشار بالرأى، وأنا أعلم بقتال هؤلاء منك، لئن عبرت إليهم فى ضيق هذا المطرد ليجزرن المسلمين هذا العدو. وقال: والله لأعبرن إليهم، وكان رسول بهمن قد قال: إن أهل فارس قد عيروهم، يعنى المسلمين، بالجبن

عن العبور إليهم، فازداد أبو عبيد محكا، فقال المثنى للناس: اجعلوا جبنها بى ولا تعبروا فقالوا: كيف نصنع وقد عبر أميرنا وسليط فى الأنصار وعبر الناس فقال المثنى: إنى لأرى ما تصنعون ولولا أن خذلانكم يقبح ولا أراه يحل ما صحبتكم، ثم عبر، فالتقى الناس فى موضع ضيق المطرد. قال: وكانت دومة امرأة أبى عبيد رأت وهى بالطائف كأن رجلا نزل من السماء معه إناء فيه شراب، فشرب منه أبو عبيد ورجال من أهل بيته يأتى ذكرهم، فقصتها على أبى عبيد، فقال: هذه الشهادة إن شاء الله. فلما التقوا قال أبو عبيد: إن قتلت فأميركم عبد الله بن مسعود بن عمرو، يعنى أخاه، فإن قتل فأميركم جبر بن أبى عبيد، يعنى ولده، فإن قتل فأميركم حبيب بن ربيعة ابن عمرو بن عمير، فإن قتل فأميركم أبو الحكم بن حبيب بن ربيعة بن عمرو بن عمير، فإن قتل فأميركم أبو قيس بن حبيب، وهؤلاء الإخوة الثلاثة بنو عمه، حتى عدّ كل من شرب الإناء، ثم قال: فإن قتل فأميركم المثنى بن حارثة، وسير على ميمنته سليط بن قيس، وعلى ميسرته المثنى. وقدم ذو الحاجب جالينوس معه الفيل الأبيض وراية كسرى وقد أطافت به حماة المشركين، معلمين أمامهم رجال يمشون على العمد، فكانت بين الناس مشاولة، يخرج العشرة والعشرون فيقتتلون مليا من النهار، ثم حمل المشركون على المسلمين فنضحوهم بالنبل، وجثت رجالهم فاستقبلوا بالرماح، ولم يقدروا من المسلمين على شىء فانصرفوا عنهم، ثم حملوا عليهم الثانية ففعلوا مثلها، ثم انصرفوا، وحملوا عليهم الثالثة فصبروا، فلما رأوا أنهم لا يقدرون على ما يريدون من المسلمين جاؤا بالنشاب فوضعوه كأنه آكام وتفرقوا ثلاث فرق، فقصدت فرقة لأبى عبيد فى القلب، وفرقة لسليط فى الميمنة، وفرقة للمثنى فى الميسرة، ثم صاروا كراديس، فجعل الكردوس يمر بهم معرضا بالمسلمين ويرميهم حتى كثرت الجراحات فيهم، وعضلت الأرض بأهلها. وأقبلت الفيلة عليها النخل، والخيول عليها التجافيف، والفرسان عليهم الشعر، فلما نظرت إلى ذلك خيول المسلمين رأت شيئا منكرا لم تكن ترى مثله، فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم خيولهم، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت بين كراديسهم، لا تقوى لهم الخيل إلا على نفار، وخزقهم الفرس بالنشاب، وعض المسلمين الألم، وجعلوا لا يصلون إليهم، فنادى سليط بن قيس: يا أبا عبيد أرأيى أم رأيك أما

والله لتعلمن أنك قد أضررت برأيك نفسك والمسلمين، ثم قال: يا معشر المسلمين علام نستهدف لهؤلاء المشركين من أراد الجنة فليحمل معى، فحمل فى جماعة أكثرهم من الأنصار، فقتل وقتلوا، وترجل أبو عبيد وترجل الناس ومشوا إليهم، فتكافحوا وصافحوهم بالسيوف وحمى البأس حتى كثرت القتلى من الطائفتين جميعا، وجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم، فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة فقطعوا بطنها واقلبوا عنها أهلها؛ وواثب هو الفيل الأبيض، فتعلق ببطانه فقطعه، ووقع الذين عليه، وفعل القوم مثل ذلك؛ فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه، وقال أبو عبيد: ما لهذه الدابة من مقتل؟ قالوا: بلى، مشفرها إن قطع، فضرب مشفره فقطعه وبرك عليه فاستدبره أبو محجن فضرب عرقوبيه فاستدار وسقط لجنبه، وتعاور أبا عبيد المشركون فقتلوه، وقيل: بل اتقاه الفيل بيده لم نفح مشفره بالسيف فأصابه بيده فوقع فخبطه الفيل وقام عليه. فلما بصر الناس بأبى عبيد تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم، وأخذ اللواء الذى كان أمره من بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبى عبيد فاجتره إلى المسلمين وأخذوا شلوه، ثم تجرثم الفيل فاتقاه الفيل بيده دأب أبى عبيد، وخبطه الفيل، وقام عليه، وتتابع أمراء أبى عبيد الذين عهد إليهم بأخذ اللواء، فيقاتل حتى يموت، وصبر الناس حتى قتلوا، وصارت الراية إلى المثنى بن حارثة، فجاش بها ساعة ثم انهزم الناس وركبهم المشركون واقتطعوا زر بن خطم أو ابن حصن بن جوين الطائى فجماعة من المسلمين، فنادى زر: يا معشر المسلمين، أنا زر، إنه ليس بعار أن يقتل الرجل وهو مقبل على عدوه معه سيف يضرب به سبالهم وأنفهم، وإنما العار أن يقتل الرجل وهو غير مقبل على عدوه، فاثبتوا فرب قوم قد فروا ثم كروا ففتح الله عليهم، فثاب إليه ناس من أهل الحفاظ حتى صاروا نحوا من ثلاثمائة، وأحاط بهم المشركون حتى خافوا الهلاك، ونظر إليهم المثنى بن حارثة، فقال لناس من بكر بن وائل: أى إخوانكم قد أحسنوا القتال وصبروا لعدوهم، فإن أمسكتم عنهم هلكوا، وإن كررتم رجوت أن تفرجوا عنهم وأن يكشف الله لهم السبيل إلى الجسر، فحمل على المشركين فى سبعين من بكر بن وائل أصحاب خيل مقدحة، كان يعدها للطلب والغارة فى بلاد العدو فقاتلهم حتى ارتفع عنهم المشركون وانضموا إلى إخوانهم من المسلمين. ونظر عروة بن زيد الخيل وقد أحيط به وهو فى عشرين فرسا، إلى خيل المسلمين تطارد المشركين فقال لمن معه: أرى فى المسلمين بقية، فاحملوا على من بيننا وبين

أصحابنا، فحملوا وأفرجوا لهم حتى وصلوا إلى المسلمين، وكان عروة يومئذ على فرس كميت أغر الذنوب، فأبلى أحسن بلاء، كان يشد عليه المنسر من مناسر العجم وهو وحده فإذا غشوه كر عليهم فيتصدعون حتى عرف مكانه، وتعجب الناس يومئذ من عروة لما رأوا من بلائه، فقال المثنى: إن البأس ليس له بمستنكر، ومضى الناس نحو الجسر، وحماهم المثنى وعروة بن زيد الخيل والكلح الضبى وعاصم بن عمرو الأسدى وعامر بن الصلت السلمى ونادى المثنى: أيها الناس، أنا دونكم فاعبروا على هيئتكم ولا تدهشوا فإنا لن نزول حتى نراكم من ذلك الجانب، ولا تفرقوا أنفسكم. فانتهى الناس إلى الجسر وقد سبق إليه عبد الله بن مرثد الثقفى أو غيره فقطعه وقال: قاتلوا عن دينكم، فخشع الناس واقتحموا الفرات فغرق من لم يصبروا، وأسرع المشركون فيمن صبروا، وأتاهم المثنى بن حارثة فأمر بالسفينة التى قطعت فوصلت بالجسر وعبر الناس، وقال المثنى للرجل الذى قطع الجسر: ما حملك على ما صنعت؟ قال: أردت أن يصبر الناس، ويقال إن سليط بن قيس كان من آخر من قتل عند الجسر. وأصيب يومئذ من المسلمين ألف وثمانمائة منهم ثلاثمائة من ثقيف فيهم ثمانون خاضبا، واستحر القتل يومئذ ببنى عوف بن عقدة رهط أبى عبيد فابيد منهم: أبو عبيد وأمراؤه الذين أمر، وغيرهم. ويقال: قتل يومئذ معه اثنان وعشرون رجلا ممن هاجر، وقتل من المشركين ألفان. وقتل أكثر من ذلك فيما ذكره سيف، قال: خبط الفيل أبا عبيد، وقد أسرعت السيوف فى أهل فارس، وأصيب منهم ستة آلاف فى المعركة، ولم يبق إلا الهزيمة، فلما خبط أبو عبيد، وقام عليه الفيل جال المسلمون جولة، ثم تموا عليها، وركبهم أهل فارس. وقال عثمان النهدى: هلك يومئذ، يعنى من المسلمين، أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب ألفان، وبقى ثلاثة آلاف. ولما فرغ الناس بالعبور عبر المثنى وحمى جانبه، واضطرب عسكره ورماهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم، وقطع المسلمون الجسر بعد عبورهم، فعبره المشركون. قالوا «1» : وخرج جابان، ومردانشاه فى ألف من الأساورة منتخبين ليسبقوا المسلمين إلى الطريق، وبلغ ذلك المثنى، فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو، وخرج يريدهما

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 458، 459) .

فى جريدة خيل، فاعترضاه يظنانه هاربا، فأخذهما أسيرين فضرب أعناقهما، وقال: أنتما كذبتما أميرنا واستفززتماه. وخرج أهل أليس على أصحابها، فأخذوهم فجاؤا بهم إلى المثنى، فضرب أعناقهم، وعقد بذلك لأهل أليس ذمة ثم رجع إلى عسكره. وقيل: بل لقيهم المثنى فقتل مردانشاه فى المعركة وأسر جابان فضرب المثنى رقبته، وقد تقدم فى ذكر ملتقى أبى عبيد بجابان بين الحيرة والقادسية أن أكتل بن شماخ العكلى أسر مردانشاه ثم ضرب عنقه، وأسر مطر بن فضة جابان فخدعه وافتدى منه، وأحد الأمرين هو الصحيح فى قتل مردانشاه، فالله أعلم. وانهزم المشركون، ومضى المثنى إلى أليس، وتفرق بنو تميم إلى بواديهم، ومضى أهل المدينة وأسد غطفان فنزلوا الثعلبية. وكان لعروة بن زيد الخيل من حسن الغناء فى يوم الجسر ما تقدم ذكره، فقال له المثنى: يا عروة، أما والله لو أن معى مثلك ألف فارس من العرب ما تهيبت أن أصبح ابن كسرى فى مدائنه وما كنت أكره أن ألقى مثل هذا الجمع الذى فل المسلمين مصحرا ولرجوت أن يظفرنى الله بهم، فهل لك فى المقام معى لا أوثر عليك نفسى ولا أحدا من قومى؟ قال: لا، إنى كنت مع هذا الرجل، يعنى أبا عبيد، وقد أصيب، فأرجع إلى عمر فيرى رأيه. فلما نزل الناس التعلبية سألوا عروة أن يأتى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، بكتابهم، فكتبوا إليه: إنا لقينا عدو الإسلام من أهل فارس بمكان يقال له قس الناطف فقتل أميرنا أبو عبيد وأمراء أمرهم أبو عبيد، وسليط بن قيس ورجال من المسلمين منهم من تعرف، ومنهم من تنكر، وتولى أمر الناس المثنى بن حارثة أخو بنى شيبان فحماهم فى فوارس، جزاهم الله عن الإسلام خيرا، فكتبنا إليك وقد نزلنا الثعلبية فرارا من الزحف لا نرى إلا إنّا قد هلكنا، وقد بعثنا إليك فارس المسلمين عروة يخبرك عنا ويأتينا بأمرك. فلما قرأ عمر الكتاب فانتهى إلى قوله: منهم من تعرف ومنهم من تنكر بكى وقال: ما ضر قوما عرفهم الله أن ينكرهم عمر، لكن الله لا يخفى عليه من عباده المحسنون، يا عروة ارجع إليهم فأعلمهم أنهم ليسوا بفرار، وإنما انحازوا إلىّ، وأنا لهم فئة، وسيفتح الله عليهم تلك البلاد إن شاء الله، يرحم الله أبا عبيد لو انحاز إلينا واعتصم بالحيف لكنا له فئة.

وكتب عمر مع عروة إلى المثنى بن حارثة: أما بعد، فإن الله كتب القتل على قوم فلم يكن مماتهم ليكون إلا قتلا، وكتب على قوم الموت فهم يموتون موتا، فطوبى لمن قتل فى سبيل الله محتسبا نفسه صابرا، وقد بلغنى عنك ما كنت أحب أن تكون عليه، فالزم مكانك الذى أنت به، وادع من حولك من العرب، ولا تعجل إلى قتال إلا أن تقاتل، أو ترى فرصة حتى تأتيك أمداد المسلمين، وكأن قد أتتك على الصعبة والذلول. فقدم عروة بن زيد على المثنى بكتاب عمر، ورجع أهل الحجاز وأسد وغطفان إلى بلادهم، وأقام المثنى حتى قدمت الأمداد. ويقال: إن أول خبر تحدث به عن أهل الجسر بالمدينة أن رجلا قدمها من الطائف فجلس إلى حذاء فقال: ما لى لا أسمع أهل المدينة يبكون قتلاهم؟ فقال له الحذاء: ومن قتل؟ قال: قتل أبو عبيد بن مسعود، وسليط بن قيس، فأخذ الحذاء بتلابيبه حتى أتى به عمر فأخبره بما قال، فقال له عمر: ما تقول ويلك! قال: يا أمير المؤمنين إنّا منذ ليال بفناء من أفنية الطائف إذ سمعنا أصوات نساء من ناحية باب شهار يقلن: يا أبا عبيداه، ويا سليطاه، وسمعنا قائلا يقول: إن بالجسر فتية سعداء ... صبرا صادقين يوم اللقاء كم تقى مجاهد كان فيهم ... خاشع القلب مستجاب الدعاء يجأر الليل كله بعويل ... ونجيب وزفرة وبكاء قال: فما انقضى حديثه حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمى، وكان أول من قدم بخبر الجسر ممن شهده فمر بباب حجر عائشة، ويقال: أتى عمر وهو على المنبر فلما دخل المسجد ورآه عمر قال: ما عندك يا ابن زيد؟ قال: أتاك الخبر يا أمير المؤمنين، ثم صعد إليه فأخبره، فقالت عائشة: ما رأينا رجلا حضر أمرا فحدث عنه كان أثبت حديثا من عبد الله بن زيد ولا أخفى فزعا. ولما قدم أهل المدينة المدينة وأخبروا عمن سار منهم إلى البادية استحياء من الهزيمة، اشتد ذلك على عمر، رحمه الله، فرق للناس ورحمهم، وقال: اللهم إن كل مسلم فى حل منى، أنا فئة كل مسلم، من لقى العدو ففزع بشىء من أمره فأنا له فئة؛ يرحم الله أبا عبيد، لو كان انحاز إلىّ لكنت له فئة. وكان معاذ القارئ ممن شهدها وفر يومئذ، وكان يصلى بالناس فى شهر رمضان على

عهد عمر، فكان بعد إذا قرأ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الأنفال: 16] ، خنقته العبرة وبكى، فكان عمر يقول: أنا لكم فئة. وكان عمر، رضى الله عنه، قد رأى فى النوم أن أبا عبيد وأصحابه انتهوا إلى ضرس من الحيرة فتحيروا ولم يجدوا مخرجا، فرجعوا فلم يجدوا طريقا، فرفعوا إلى السماء، فقال عمر: هذه شهادة، فليت شعرى ما فعل عدوهم؟ فكان يتوقع الخبر حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمى فأخبره، فبكى وقال: ما وجهت أحدا وجها أكره إلىّ من الوجه الذى توجه إليه أبو عبيد. وقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عبيد يرثى أبا عبيد ومن أصيب معه، وهو ابن عم أبى عبيد وأخو بنى حبيب الثلاثة المقتولين معه من أمرائه: أنى تهدت نحونا أم يوسف ... ومن دون مسراها فياف مجاهل إلى فتية بالطف نيلت سراتهم ... وغرى أفراس بها ورواحل وأضحى بنو عمرو لدى الجسر منهم ... إلى جانب الأبيات حزم ونابل وأضحى أبو جبر خلا ببيوته ... بما كان تعدوه الضعاف الأرامل ألا قد علت قلب الهموم الشواغل ... وراجعت النفس الأمور القواتل سيعلم أهل الغىّ كيف عزيمتى ... ويعلم ودادى الذين أواكل غناى وأخذى بالذى أنا أهله ... إذا نزلت بى المعضلات العضائل فما رمت حتى خرقوا برماحهم ... ثيابى وجادت بالدماء الأباجل وما رمت حتى كنت آخر راجع ... وصرع حولى الصالحون الأماثل وقد غادرونى فى مكر جيادهم ... كأنى غادتنى من الراح شامل وأمسى على سيفى نزيف ومهرتى ... لدى الفيل تدمى نحرها والشواكل فما لمت نفسى فيهم غير أنها ... إلى أجل لم يأتها وهو عاجل مررت على الأنصار وسط رحالهم ... فقلت لهم هل منكم اليوم قافل ألا لعن الله الذين يسرهم ... رداى وما يدرون ما الله فاعل وقال أبو محجن أيضا: يا عين جودى على جبر ووالده ... إذا تحطمت الرايات والحلق يوم بيوم أتى جبر وإخوته ... والنفس نفسان منها الهول والشفق

يا خل سل المنايا ما تركن لنا ... عزا ننوء به ما هدهد الورق وقال حسان بن ثابت يرثى سليط بن قيس ومن أصيب من قومه: لقد عظمت فينا الرزية أننا ... جلاد على ريب الحوادث والدهر لدى الجسر يوم الجسر لهفى عليهم ... غداة إذا ما قد لقينا على الجسر يقول رجال ما لحسان باكيا ... وحق لى التبكاء بالنحب والغزر أبعد أبى قيس سليط تلومنى ... سفاها أبى الأيتام فى العسر واليسر فقل للألى أمسوا أسروا شماتة ... به كنتم يوم النزال على بدر وقالت امرأة من ثقيف: أضحت منازل آل عمرو قفرة ... بعد الجزيل ونائل مبذول وكأنما كانوا لموقف ساعة ... قردا زفته الريح كل سبيل حديث البويب ووقعة مهران «1» ولما بلغ عمر، رضى الله عنه، أمر الجسر، وأتاه كتاب المسلمين بالخبر استخلف على المدينة على بن أبى طالب وخرج فنزل بصرار يريد أرض فارس، وقدم طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص، فدخل عليه العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف فأشاروا عليه بالمقام، وقالوا: شاور الناس، فكتب إلى على وطلحة فقدما عليه، فجمع الناس فقال: إنى نزلت منزلى هذا وأنا أريد العراق فصرفنى عن ذلك قوم من ذوى الرأى منكم، وقد أحضرت هذا الأمر من خلفت ومن قدمت، فأشيرووا علىّ، فقال على بن أبى طالب، رضى الله عنه، أرى أن ترجع إلى المدينة وتكتب إلى من هناك من المسلمين أن يدعوا من حولهم ويحذروا على أنفسهم، وقد قدم قوم من العرب يريدون الهجرة فوجههم إليهم فتكون دار هجرة حتى إذا كثروا وليت أمرهم رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل السابقة والقدم فى الإسلام، فانصرف عمر إلى المدينة وكتب إلى المثنى بأن يدعو من حوله ولا يقاتل أحدا حتى يأتيه المدد، وقدم من الأسد وبارق وغامد وكنانة سبعمائة أهل بيت، فقال لهم عمر: أين تريدون؟ فقالوا: سلفنا بالشام. قال: أو غير ذلك، أرضا تبتذونها إن شاء الله ويغنمكم الله كنوزها، أخوار فارس. فقال مخنف بن سليم الغامدى: مرنا بأحب الوجهين إليك. قال: العراق. قال:

_ (1) انظر: فتوح البلدان للبلاذرى (ص 310- 312) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 303- 306) ، الطبرى (3/ 460- 472) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 29، 30) .

فامضوا على بركة الله، فأمر عمر على الأزد رجلا منهم، وعلى كنانة غالب بن عبد الله الليثى فشخصوا إلى أرض الكوفة، فقدموا على المثنى بن حارثة، فأقبل بهم حتى نزلوا العذيب. وفيما ذكره سيف «1» أن الأزد وكنانة لما سألوا الشام قال لهم عمر: ذلك وجه قد كفيتموه، العراق العراق إذروا بلدة قد فل الله شوكتها وعدوها، واستقبلوا جهاد قوم قد حووا فنون العيش، لعل الله أن يرث بكم قسطكم من ذلك فتعيشوا مع من عاش من الناس، فقال غالب الليثى وعرفطة البارقى، كل واحد منهما لقومه: يا عشيرتاه أجيبوا أمير المؤمنين إلى ما أراد، فقال كل فريق لصاحبهم: إنا قد أطعناك وأجبنا أمير المؤمنين إلى ما أراد، فدعا لهم عمر بخير، وأمر على كنانة غالبا وسرحه فيهم، وأمر على الأزد عرفجة بن هرثمة البارقى وعامتهم من بارق، وفرحوا برجوع عرفجة إليهم. فخرج هذا فى قومه وهذا فى قومه حتى قدما على المثنى، وكان عرفجة هذا حليفا فى بجيلة لأمر عرض له فى قومه أخرجه عنهم، ومن قدمته هذه رجع إلى قومه ونسبه حسب ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى. وقدم بعدهم أربعمائة أهل بيت من كندة والسكون، فيهم الأشعث بن قيس ومعاوية بن حديج وشرحبيل بن السمط، فقالوا: يا أمير المؤمنين قدمنا نريد سلفنا بالشام، فنظر إليهم وعليهم الحلل فأعرض عنهم، فكلموه، أيضا، فلم يأمرهم بشىء، فقيل له: ما يمنعك؟ قال: إنى لمتردد فيهم منقبض عنهم، لا ينزل هؤلاء بلدا إلا فتنوا أهله، وما قدم أحد المدينة أكره إلىّ منهم، فأمضى نصفهم إلى الشام، عليهم معاوية بن حديج، ونصفهم إلى العراق عليهم شرحبيل بن السمط. وقدم من مذحج المدينة ألف بيت فيهم ثلاثمائة أهل بيت من النخع، فقال عمر: سيروا إلى أرض فارس، قالوا: لا، ولكنا نسير إلى الشام، فقال يزيد بن كعب النخعى: أنا أخرج فيمن أطاعنى، فخرج فى ثلاثمائة أهل بيت من النخع، وقال هند الجملى: أنا أخرج فيمن أطاعنى، فخرج فى خمسمائة أهل بيت من مراد، فكان عمر يقول بعد ذلك: سيد أهل الكوفة سمى المرأة هند الجملى. ثم قدم المدينة أهل ألف بيت من همدان، فقالوا لعمر: خر لنا. قال: أرض العراق. قالوا: بل الشام، قال: بل العراق، فصرفوا ركابهم إلى العراق.

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 463) .

وقد كانت قدمت بجيلة فيهم جرير بن عبد الله، وسيدهم عرفجة بن هرثمة البارقى، حليف لهم، فقال عمر: اخرجوا إلى العراق، وأمر عليهم عرفجة، فقال جرير لبجيلة: أخبروا عمر أنه ولى عليكم رجلا ليس منكم، وكانت بجيلة قد غضبت على عرفجة فى أمر عرض بينهم وبينه، فكلموا عمر فى ذلك واستعفوه منه، فقال: لا أعفيكم من أقدمكم هجرة وإسلاما، وأعظمكم بلاء وإحسانا، فلما أعلموه أنه ليس منهم، قال لعرفجة: إن هؤلاء استعفونى منك، وزعموا أنك لست منهم، فما عندك؟ قال: صدقوا، لست منهم وما يسرنى أننى منهم، أنا امرؤ من الأزد من بارق فى كثف لا يحصى عدده، وحسب غير مؤتشب. فقال عمر: نعم الحى الأزد، يأخذون نصيبهم من الخير والشر. وقال عرفجة: إنه كان من شأنى أن الشر تفاقم فينا، ودارنا واحدة، وأصبنا الدماء، ووتر بعضنا بعضا فاعتزلتهم لما خفتهم، فكنت فى هؤلاء أسودهم وأقودهم، فحفظوا علىّ لأمر دار بينى وبين دهاقنتهم، فحسدونى وكفرونى، فقال: لا يضرك فاعتزلهم إذ كرهوك. وقيل: إن عمر قال: اثبت على منزلتك ودافعهم، قال: لست فاعلا، ولا سائرا، فأمر عليهم جرير بن عبد الله، وقيل: إن جريرا كان إليه من بجيلة بعضها، فجمعها إليه عمر، وقال له جرير: يا أمير المؤمنين إن قومى متفرقون فى العرب، فأخرجهم وأنا أغزو بهم أرض فارس، وكانوا متفرقين فى هوزان وغطفان وتميم وفى أزد شنوءة والطائف وجرش، فكتب عمر إلى القبائل التى فيها بجيلة: أى نسب تواصل عليه الناس قبل الإسلام فهو النسب ليس لأحد أن يدعه، وليس له أن ينتقل إلى غير ما كان يعرف به، فمن كان من بجيلة لم ينتسب إلى غيرهم حتى جاء الإسلام فلا تحولوا بينهم وبين الرجوع إلى قومهم، فخرج قيس كبة وشحمة وعرينة من هوازن وغيرها من القبائل، وخرج العتيل والفتيان من بنى الحارث وخرج على وذبيان من الأزد بالسراة، ولما أعطى عمر، رضى الله عنه، جريرا حاجته فى استخراج بجيلة من الناس فأخرجهم، أمرهم بالموعد بين مكة والمدينة، ولما تتاموا قال لجرير: اخرج حتى تلحق بالمثنى، فكره ذلك جرير ومال إلى الشام، فقال له عمر: قد علمتم ما لقى إخوانكم بأرض فارس، فاخرجوا فإنى أرجو أن يورثكم الله أرضهم وديارهم، ولك الربع من كل شىء بعد الخمس، وقيل: بل جعل له ولقومه ربع الخمس مما أفاء الله عليه فى غزاتهم هذه، له ولمن اجتمع إليه ومن أخرج له من القبائل، استصلحهم عمر، رضى الله عنه، بذلك، إذ كان هواهم

الشام، فأبى هو عليهم إلا العراق، وقال لهم: اتخذونا طريقا، فقدموا المدينة وهم أربعة آلاف، وقيل: ألفان، ثم فصلوا منها إلى العراق ممدين للمثنى، فقال عمر: لو ضممت إلى هؤلاء من الجبين من ابنى نزار، يعنى تميما وبكرا فوجه معهم قوما منهم، ثم تتابعت الأمداد. وكان أول من نزل العذيب بالعيال من قبائل اليمن والحجاز الأزد ثم حضرموت وكندة ثم النخع ومراد ثم همدان ثم بجيلة، ثم جاءت قبائل الحجاز وأهل البوادى من تميم وبكر، وجاءت طيئ عليها عدى بن حاتم، وجاءت أسد، وجاءت قيس عليهم عبد الله بن المعتم العبسى، وجاءت الرباب وعلى تيم وعدى هلال بن علفة، وعلى ضبة المنذر بن حسان، وجاءت حنظلة وعمرو، وطوائف من سعد، وجاءت النمر بن قاسط عليهم أنس بن هلال بن عقة، وبعث عمر أيضا، عصمة بن عبد الله الضبى فيمن تبعه من بنى ضبة، وكان قد كتب إلى أهل الردة يأذن لهم فى الجهاد ويستنفرهم إليه، فلم يوافقه أحد منهم إلا رمى به المثنى. وذكر المدائنى أن يزدجرد وجه مهران بعد وقعة الجسر وأمره أن يبث المسالح إلى أدانى أرض العرب، ويقتل كل عربى قدر عليه. وفيما ذكره الطبرى عن سيف أن رستم والفيرزان هما اللذان رأيا إنفاذ مهران بعد أن طالعا برأيهما فى ذلك بوران ابنة كسرى، وذلك عند ما علما بتوافى أمداد العرب إلى المثنى، فخرج مهران فى الخيول وجاء يريد الحيرة، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ، ما بين القادسية وخفان، فاستبطن فرات بادقلى، وأرسل إلى جرير ومن معه: أنه جاءنا أمر لن نستطيع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب. وكتب إلى عصمة وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك، وقال: خذوا على الجوف، فسلكوا القادسية وسلك المثنى وسط السواد، فطلع على النهرين ثم على الخورنق، وطلع عصمة ومن سلك معه طريقه على النجف، وطلع جرير ومن سلك معه على الجوف، فانتهوا إلى المثنى وهو البويب، ومهران من وراء الفرات بإزائه، فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلى موضع الكوفة اليوم، وعليهم المثنى، وهم بإزاء مهران وعسكره، فقال المثنى لرجل من أهل السواد: ما يقال لهذه الرقعة التى فيها مهران وعسكره؟ فقال: بسوسا، فقال: أكدى مهران وهلك، ونزل منزلا هو البسوس، وأقام بمكانه حتى كاتبه

مهران: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا فعبر مهران، فنزل على شاطئ الفرات معهم فى الملطاط، فقال المثنى لذلك السوادى: ما يقال لهذه الرقعة التى نزلها مهران وعسكره؟ فقال: شوميا، وذلك فى رمضان، فنادى المثنى فى الناس: انهدوا لعدوكم، فتناهدوا، ومهران فى ثلاثة عشر ألفا معه ثلاثة فيلة، فقدموا فيلتهم واستعدوا للحرب، فأقبلوا إلى المسلمين فى ثلاثة صفوف، مع كل صف فيل، ورجلهم أما فيلهم، وجاؤا ولهم زجل. فقال المثنى للمسلمين: إن الذى تسمعون فشل، فالزموا الصمت وائتمروا همسا، والمسلمون أربعة آلاف، ألفان وثمانمائة من اليمن، وألف ومائتان من سائر الناس، ويقال: كانوا ستة آلاف، وألف ومائتان من تميم وقيس وبكر، وسائرهم من اليمن. وتنازع جرير والمثنى الإمارة يومئذ، فقال له المثنى: إنما بعثك أمير المؤمنين مددا لى، وقال جرير: بل استعملنى، فقيل: صار الأمر بينهما إلى ما قال المثنى، فكان هو الأمير، وقيل: صار جرير أميرا على من قدم معه والمثنى أميرا على من قدم قبل ذلك، ومن قال هذا زعم أن المثنى قال لجرير عند ما نهدوا للعدو: خلنى وتعبئة الناس، ففعل جرير وعبأ المثنى الجيش فصير مضر وربيعة فى القلب، وصير اليمن ميمنة، وميسرة، وقال المثنى: يا معشر المسلمين، إنى قد قاتلت العرب والعجم، فمائة من العرب كانوا أشد علىّ من ألف من العجم، ويقال: إنه قال لهم: قاتلت العرب والعجم فى الجاهلية والإسلام والله لمائة من العجم فى الجاهلية كانوا أشد علىّ من ألف من العرب، ولمائة من العرب اليوم أشد علىّ من ألف من العجم، إن الله قد أذهب مصدوقتهم، ووهن كيدهم، فلا يهولنكم سوادهم، إن للعجم قسيّا لجا، وسهاما طوالا هى أغنى سلاحهم عندهم فلو قد لقوكم رموكم بها، وإذا أعجلوا عنها أو فقدوها، فهم كالبهائم أينما وجهتموها توجهت، فتترسوا والزموا مصافكم واصبروا لشدة أو شدتين، ثم أنتم الظاهرون إن شاء الله تعالى. وركب يومئذ فرسا ذنوبا أدهم يدعى الشموس للين عريكته وطهارته، وكان لا يركبه إلا لقتال ويدعه ما لم يكن قتال، ومر على الرايات يحض القبائل، فقال له شرحبيل بن السمط: ما أنصفتنا يا مثنى، جعلت معدك وسطا وجعلتنا ميمنة وميسرة، قال: إذا أنصفكم، الله ما أريد لهم شيئا من الخير إلا وأنا أريد لكم مثله، وما عهدى بمعد يدرى بالناس من البأس، ثم صير تميما مع الأزد فى الميمنة، وصير ربيعة مع كندة فى الميسرة، وصفوا صفوفهم، وقال: الزموا الصمت فإنى مكبر ثلاث تكبيرات، فإذا

كبرت الثالثة فاحملوا، فنظر إلى سعد بن عبيد الأنصارى قد نصل من الصف، فقال: من أنت؟ قال: سعد بن عبيد، فررت يوم الجسر من الزحف، فأردت أن أجعل توبتى من فرتى أن أشرى نفسى لله. فقال له: إن خيرا مما تريد أن تقف مع المسلمين فتناضل عن دينك. وقال جرير: يا معشر بجيلة، إن لكم فى هذه البلاد إن فتحها الله لكم حظا ليس لغيركم، فاصبروا التماس إحدى الحسنيين: الشهادة فثوابها الجنة أو النصر ففيه الغنى من العيلة، ولا تقاتلوا رياء ولا سمعة، بحسب امرئ من خساسته حظا أن يريد بجهاده وعدوه حمد أحد من الخلق. ومر المثنى على الرايات راية راية يحرضهم ويهزهم بأحسن ما فيهم، ولكلهم يقول: إنى لأرجو أن لا تؤتى العرب اليوم من قبلكم، والله، ما يسرنى اليوم لنفسى شىء إلا وهو يسرنى لعامتكم، فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم المثنى فى القول والفعل، وخالط الناس فى المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا، ووقف على أهل الميمنة فنظر إلى رجل من العنبر على فرس عتيق رائع، فقال: يا أخا بنى العنبر، إنك لمن قوم صدق فى اللقاء، أما والله يا بنى تميم إنكم لميامين فى الحرب، صبر عند البأس، إنى لأرجو أن يعز الله بكم دينه. وقال للأزد: اللهم صبحهم برضوانك، وادفع عنهم عين الحاسد، أنتم والله الأنجاد الأمجاد الحسان الوجوه، وإنى لأرجو أن يأتى العرب اليوم منكم ما تقر به أعينهم، ونظر إلى فوارس من قيس فى القلب فقال: نعم فتيان الصباح أنتم، اللهم جللهم عافيتك وافرغ عليهم الصبر، يوما كبعض أيامكم، ونظر إلى ناس من طيئ فى القلب، فقال: جزاكم الله خيرا، فنعم الحى أنتم فى اللقاء وعند العطاء، فإنه ليحضهم إذ شدت كتيبة من العجم على الميسرة وفيها بكر وكندة فصبروا لهم، ثم شدت عليهم الثانية فانكشفت بكر وكندة، فقال المثنى: إن الخيل تنكشف ثم تكر، يا معشر طيئ الزموا مصافكم وأغنوا ما يليكم، واعترض الكتيبة التى كشفتهم بخيل كانت معه فمنعهم من اتباعهم وقاتلهم، فثارت عجاجة بينهم ورجع أهل الميسرة، وأقبلت الميمنة نحو المثنى وقد انكشف العدو عنه، وسيفه بيده وقد جرح جراحات وهو يقول: اللهم عليك تمام النصر، هذا منك، فلك الحمد، فقال له مخنف بن سليم الغامدى: الحمد لله الذى عافاك، فقد كنت أشفقت عليك. قال: كم من كربة قد فرجها الله، هل منعم عليه يكافئ ربه بنعمة من نعمه!!.

وكانت هزيمة المشركون، فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى نهر بنى سليم، ثم كروا على المسلمين وركدت الحرب بينهم مليا، فلا يسمع إلا هرير الرجال، وقد كان أنس بن هلال النمرى قدم ممدا للمثنى فى أناس من النمر نصارى، وابن مردى الفهرى الثعلبى فى ناس من قومه كذلك، وقالوا حين رأو نزول العجم بالعرب: نقاتل مع قومنا، فلما طال القتال يومئذ واشتد عمد المثنى إلى أنس بن هلال، فقال: يا أنس، إنك امرؤ عربى، وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتنى قد حملت على مهران فاحمل معى، وقال لابن مردى الفهرى مثل ذلك، فأجاباه، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل فى ميمنته، ثم خالطوهم، واجتمع القلبان، وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل، لا يستطيعون أن يفزعوا لنصر أميرهم، لا المسلمون ولا المشركون، وقد كان المثنى قال لهم: إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه، فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، فالزموا مصافكم وأغنوا عنا من يليكم، وأوجع قلب المسلمين قلب المشركون، ووقف المثنى حتى أسفر الغبار وقد فنى قلب المشركين، والمجنبات قد هز بعضها بعضا، فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنبات المسلمين على المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المسلمون والمثنى فى القلب يدعون لهم بالنصر، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم: إن المثنى يقول لكم عادتكم فى أمثالهم، انصروا الله ينصركم، حتى هزم القوم. وكانت راية الأزد مع عبد الله بن سليم، فجعل بتقدم بها، فقال له رجل: لو تأخرت قليلا، فقال: أقسمت بالرحمن أن لا أبرحا ... أو يصنع الله لنا فيفتحا وقاتل حتى قتل، وتقدم أبو أمية عبد الله بن كعب الأزدى وهو يقول: اللهم إليك أسعى لترضى، وإياك أرجو فاغفر ذنبى، ثم تقدم فقاتل حتى قتل، رحمه الله، فحمل أبو رملة بن عبد الله بن سليم، وكانت عنده الرباب ابنة عبد الله بن كعب، فقتل قاتل عبد الله بن كعب واحتز رأسه، فأتى به ابنه، وهو غلام مراهق، فقال: دونك رأس قاتل أبيك، فعض الفتى بأنفه، ومر به رجل من بكر بن وائل يقال له عجل، فقال: يا فتى ما أشجعك على الأموات فحمى الفتى واعترض العدو، فاتبعه عمه جندب وهو يقول: يا عجل، قتلت ابن أخى، فلحقه وقد قتل رجلا، فرده، وقتل حصين بن القعقاع بن معبد ابن زرارة، فأخذ الراية مولى لهم أو مولى للأزد يقال له خصفة، فقاتل حتى قتل، ودارت بينهم رحى الحرب، وأخذت جرير الرماح فنادى: وا قوماه، أنا جرير، فقاتلت عنه جماعة من قيس ليس معهم غيرهم حتى خلص، وشدت جماعة على مسعود بن

حارثة وهو معلم بعصابة خضراء وهو يفرى فريا، فطعن رجلا فقتله، وطعن آخر فانكسر رمحه فاختلفا بسيفيهما ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه، فوقف عليه أخوه المثنى فقال: هكذا مصارع خياركم، وقيل: إنه ارتث يومئذ فمات بعد فى إناس من الجرحى من أعلام المسلمين ماتوا كذلك، منهم خالد بن هلال، فصلى عليهم المثنى وقدمهم على الأسنان والقرآن، وقال: والله إنه ليهون علىّ وجدى أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا، ولم يجزعوا ولم يتكلموا، وإن كان فى الشهادة لكفارة لبحور الذنوب، ولما ارتث مسعود بن حارثة يومئذ فتضعضع من معه رأى ذلك وهو دنف فقال: يا معشر كعب بن وائل، ارفعوا رايتكم رفعكم الله، لا يهولنكم مصرعى، وقتل جرير وغالب بن عبد الله الليثى وحنظلة بن ربيعة الأسدى وعروة بن زيد الخيل كل واحد منهم عشرة. وقال ربعى بن عامر، وشهدها يومئذ مع أبيه: احصى مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة فى المعركة. وذكر أن غالبا وعروة وعرفجة فى الأزد كانوا من أصحاب التسعة، فالله أعلم. وقال يومئذ لعروة رجل من قومه، ورآه يقدم: أهلكت قومك يا عروة، فقال: يا قوم لا تعنفونى قومى ... لا تكثروا عدلى ولا من لومى لا تعدونى النصر بعد اليوم وسمع رجل يومئذ من مهران يرتجز وهو يقول: إن تسألوا عنى فإنى مهران ... أنا لمن أنكرنى ابن باذان فعجب من أن يتكلم بالعربية، فقيل له: إنه ولد باليمن، ويقال: إنه عربى نشأ مع أبيه باليمن، وكان أبوه عاملا لكسرى. وأبصر جرير بن عبد الله، مهران يقاتل، فحمل عليه جرير والمنذر بن حسان فقاتلاه، طعنه المنذر فأداره عن دابته وقد وقذه فنزل إليه جرير فاحتز رأسه وتنازعا سلبه ثم أخذ جرير سلاحه، وأخذ المنذر حليته وثيابه وبرذونه، وقيل فى قتله غير هذا، وهو مما حدثت به أم ولد لزيد بن صوحان أن زيدا أخرجها معه إلى العسكر حتى لقوا مهران صاحب كسرى، فجعل الناس يحيدون عن مهران، فقال زيد: ما شأن الناس يحيدون عن هذا؟ قيل: كرهوه، فنزل زيد فمشى إليه فاختلفا ضربتين، فأطن مهران يده، فرجع فأخذ عمامتى فشقها ثم لفها على يده ثم عاوده فنسف ساقيه بالسيف فقتله، فابتدر المسلمون

سلبه، فلم يأخذ زيد من سلبه إلا السيف، نفله إياه الأمير، فكان زيد يقول: من يشترى سيفا وهذا أثره، ويخرج يده الجذماء فيريها، وقد قيل إن غلاما نصرانيا من بنى تغلب هو الذى قتل مهران، فالله أعلم. وهزم المشركون فأتوا الفرات، واتبعهم المسلمون، فانتهوا إلى الجسر، وقد عبرت طائفة من المشركين الجسر، فحالوا بين الباقين وبينه، فأخذوا يمينا وشمالا، فقاتلهم المسلمون حتى أمسوا، واقتحم طائفة الفرات فغرق بعضهم ونجا بعض، ورجع المسلمون عنهم حين أمسوا، فعبر من بقى منهم الجسر، ثم قطعوه فأصبح المسلمون فعقدوه واتبعوهم حتى بلغوا بيوت ساباط، ثم انصرفوا وصلبوا مهران على الجسر. ويقال: إن المثنى قطع الجسر أولا ليمنع أهل فارس العبور، ثم ندم على ذلك وقال: لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتى إياهم إلى الجسر وقطعه حتى أحرجتهم، فإنى غير عائد فلا تعودوا ولا تعتدوا بى أيها الناس، فإنما كانت زلة، لا ينبغى إخراج أحد إلا من لا يقوى على الامتناع. ولما افترق الأعاجم على شاطئ الفرات مصعدين ومصوبين واعتورتهم خيول المسلمين أكثروا القتل فيهم حتى جعلوهم جثاء، فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أقوى رمة منها. حدث أبو روق قال: والله إن كنا لنأتى البويب، يعنى بعد ذلك بزمان، فنرى ما بين السكون وبنى سليم عظاما بيضاء تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم نعتبر بها. قال: وحدثنى بعض من شهدها أنهم كانوا يحرزونها مائة ألف. واقتسم المسلمون ما أفاء الله عليهم، ونفلت بجيلة وجرير ما جعل لهم عمر بن الخطاب وحمل الخمس أو باقى الخمس، وجلس المثنى للناس يحدثهم ويحدثونه لما فرغوا، وكلما جاء رجل فتحدث قال له المثنى: أخبرنى عنك، فقال قرط بن جماح العبدرى: قتلت رجلا فوجدت منه رائحة المسك فقلت: مهران، ورجوت أن يكون إياه، فإذا هو شهريرار صاحب الخيل فو الله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئا. وكان قرط قد قاتل يومئذ حتى دق قنى وقطع أسيافا. وقال ربعى وهو يحدث المثنى: لما رأيت ركود الحرب واحتدامها قلت: تترسوا بالمجان فإنهم شادّون عليكم فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر فى الثالثة، فأجابونى فولى الله كفالتى.

وقال ابن ذى السهمين محدثا: قلت لأصحابى إنى سمعت الأمير يقرأ ويذكر فى قراءته الزحف، فما ذكره إلا لفضل فيه، فاقتدوا برايتكم ولتحمى خيلكم رجلكم، وازحفوا فما لقول الله من خلف، فأنجز الله لهم وعده كما رجوت. وقال عرفجة محدثا: حزنا كتيبة منهم إلى الفرات، ورجوت أن يكون الله قد أذن فى غرقهم وأن يسلينا بها عن مصيبة الجسر، فلما حصلوا فى حد الإحراج كروا علينا فقتلناهم قتالا شديدا حتى قال بعض قومى: لو أخذت رايتك، فقلت علىّ إقدامها، وحملت بها على حاميتهم فقتلته فولوا نحو الفرات فما بلغوه ومنهم أحد فيه الروح. وقد كان المثنى قال يومئذ: من يتبع آثار المنهزمة حتى يبلغ السيب؟ فقام جرير فى قومه فقال: يا معشر بجيلة إنكم وجميع المسلمين ممن شهد هذا اليوم فى السابقة والفضيلة سواء، وليس لأحد منهم فى هذا الخمس غدا من النفل مثل الذى لكم منه، نفلا من أمير المؤمنين، فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذى لكم منه إلى ما ترجون، فإنما تنتظرون إحدى الحسنيين الشهادة والجنة أو الظفر والغنيمة والجنة. ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستنثلوا بالأمس من منهزمة يوم الجسر فقال: أين المستنثل بالأمس وأصحابه؟ انتدبوا فى آثار هؤلاء القوم إلى السيب وأبلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به فهو خير لكم وأعظم أجرا، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم. وكان هذا المستنثل، أو هو إن شاء الله سعد بن عبيد الأنصارى، قد أراد الخروج بالأمس من صف المسلمين إلى العدو، فقيل للمثنى: ألا ترى إلى هذا الرجل الذى يريد أن يستنثل، فركض إليه، فقال: يا أبا عبد الله، ما تريد أن تصنع؟ قال: فررت يوم أبى عبيد، فأردت أن تكون توبتى وانتصارى أن أمشى إليهم فأقاتل حتى أقتل، قال: إذن لا تضر عدوك ولا تنفع وليك، ولكن أدلك على ما هو خير لك، تثبت على صفك وتجزى قرنك وتواسى أخاك بنفسك وتنصره وينصرك فتكون قد نفعت المسلم وضررت العدو، فأطاعه وثبت مكانه، فكان يومئذ أول منتدب. فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر ثم أخرجهم فى أثر القوم، واتبعتهم بجيلة وخيول المسلمين بعد من كل فارس، ولم يبق فى العسكر جسرى إلا خرج فى الخيل، فانطلقوا فى طلب العدو حتى بلغوا السيب، فأصابوا من البقر والسبى وسائر الغنائم شيئا كثيرا فقسمه المثنى عليهم، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية وبعث بثلاثة أرباعه إلى عمر، رضى الله عنه، وألقى الله الرعب فى قلوب

أهل فارس، وكتب القواد الذين قادوا الناس فى الطلب إلى المثنى، وكتب إليه عاصم وعصمة وجرير: إن الله قد كفى رستم ووجه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شىء، فأذن لنا فى الإقدام، فأذن لهم فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصن أهلها منهم، واستباحوا القريات دونها وراماهم أهل الحصن عن حصنهم بساباط ثم انطفئوا راجعين إلى المثنى. قالوا: وكان المثنى وعصمة وجرير أصابوا فى أيام البويب على الظهر نزل مهران غنما ودقيقا وبقرا، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس، وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم وهن بالحيرة، وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات اللواتى بالقوادس عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة، فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل تصايحن وحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد، فقال عمرو: هكذا ينبغى لنساء هذا الجيش، وبشروهن بالفتح. ولما أهلك الله، عز وجل، مهران استكمن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة، فمخروها لا يخافون كيدا ولا يلقون فيها مانعا، وانتفضت مسالح العجم فرجعت إليهم واعتصموا بالساباط، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة، ونزل جرير والمثنى الحيرة وبثا المسالح فيما بين الأنبار وعين التمر إلى الطف، فمن كان أقام على صلحه قبلوا ذلك منه، ومن نقض أغاروا عليه، فكان أهل الحيرة وبانيقيا وغيرهم على صلحهم. وكانت وقعة البويب فى رمضان من سنة ثلاث عشرة. وتنازع، أيضا، المثنى وجرير الإمارة، وكان المثنى أحب إلى نزار، وجرير أحب إلى اليمانية، فكتب إلى عمر، رحمه الله، فى ذلك، فكان من مشورته فيه وعمله ما سيأتى بعد ذكره. وشخص المثنى عند ذلك فنزل أليس، ويقال شراف، وهو وجع من جراحات به، وارتحل معه عامة النزارية، فلما رأى ذلك جرير تحول فنزل العذيب مع العيال، ومعه أخلاط الناس وهو الأمير عليهم فى قول بعضهم، وفى هذه الإمارات كلها اضطراب من نقلة الأخبار واختلاف بين القبائل، فبنو شيبان تقول: كان جرير الأمير يوم قتل مهران المثنى، وبجيلة تقول: كان الأمير يوم ذلك وقبل وبعد، والأظهر مما تقدم من الأخبار أن المثنى كان الأمير فى تلك الحرب، إلا أن يكون جرير على من معه كما قد قيل، فالله تعالى أعلم.

وقد قال الأعور الشنى فلم يذكر لغير المثنى يومئذ إمارة: هاجت عليك ديار الحرب أحزانا ... واستبدلت بعد عبد القيس همذانا وقد أرانا بها والشمل مجتمع ... أدنى النخيلة قتلى جند مهرانا كأن الأمير المثنى يوم راجفة ... مهران أشجع من ليث بخفانا أزمان سار المثنى بالخيول لهم ... فقتل الزحف من رجلى وركبانا سما لمهران والجيش الذى معه ... حتى أبادهم مثنى ووحدانا إذ لا أمير أراه بالعراق لنا ... مثل المثنى الذى من آل شيبانا حديث غارة المثنى على سوقى الخنافس وبغداد «1» ذكر سيف عن شيوخه أن المثنى لما نزل أليس، قرية من قرى الأنبار، وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخرة، وغزاة أليس الآخرة، وقد مخر السواد وخلف بالحيرة بشير بن الخصاصية، وأرسل جريرا إلى ميسان، وهلال بن علقمة إلى دست ميسان وأذكى المسالح بعصمة بن فلان الضبى، وبالكلح الضبى، وبعرفجة البارقى وأمثالهم من قواد المسلمين، ألزّ به رجلان: أحدهما أنبارى والآخر حيرى، يدله كل واحد منهما على سوق، فأما الأنبارى فدله على سوق الخنافس، وأما الحيرى فدله على بغداد. فقال المثنى: أيتهما قبل صاحبتهما؟ فقالوا: بينهما أيام، فقال: أيهما أعجل؟ قالوا: سوق الخنافس يتوافى إليها الناس، ويجتمع إليها ربيعة وقضاعة يخفرونهم. فاستعد لها المثنى، حتى إذا ظن أنه يوافيهم يوم سوقها ركب نحوهم، فأغار على الخنافس يوم سوقها، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة وهم الخفراء، فانتسف السوق وما فيها، وسلب الخفراء، ثم رجع عوده على دبئه حتى تطرق دهاقين الأنبار طروقا فى أول يومه فتحصنوا منه، فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد، وأتوا بالأدلاء على بغداد، وكان وجهه إلى سوق بغداد فصبحهم. وقال المثنى فى غارته على خنافس: صبحنا فى الخنافس جمع بكر ... وحيا من قضاعة غير ميل بفتيان الوغى من كل حى ... تبارى فى الحوادث كل جيل نسفنا سوقهم والخيل زور ... من التطواف والشد البجيل

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 472- 476) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (1/ 25- 27) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 306، 307) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 187- 189) .

وذكر الخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادى فى تاريخه «1» أن بغداد كانت فى أيام مملكة العجم قرية يجتمع فيها رأس كل سنة التجار، ويقوم بها للفرس سوق عظيمة، فلما توجه المسلمون إلى العراق وفتحوا أول السواد، ذكر للمثنى بن حارثة أمر سوق بغداد، ثم أورد بإسناد له عن ابن إسحاق أن أهل الحيرة قالوا للمثنى، وذكره سيف من طريق آخر أن رجلا من أهل الحيرة قال للمثنى، واللفظ فى الحديثين متقارب، وقد دخل حديث أحدهما فى حديث الآخر، قالوا: ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى وتجار السواد ويجتمع بها فى كل سنة من الناس مثل خراج العراق، وهذه أيام سوقهم التى يجتمعون فيها، فإن أنت قدرت على أن تعبر إليهم وهم لا يشعرون أصبت بها مالا يكون غناء للمسلمين وقوة على عدوهم، وبينها وبين مدائن كسرى عامة يوم، فقال لهم: فكيف لى بها؟ قالوا: إن أردتها فخذ طريق البر، حتى تنتهى إلى الأنبار، ثم تأخذ رؤس الدهاقين، فيبعثون معك الأدلاء، فتسير سواد ليلة من الأنبار حتى تأتيهم ضحى. قال: فخرج من النخيلة ومعه أدلاء الحيرة، حتى دخل الأنبار، فنزل بصاحبها فتحصن منه، فأرسل إليه: ما يمنعك من النزول؟ فأرسل إليه: إنى أخاف، فأرسل إليه: انزل فإنك آمن على دمك وقريتك، وترجع سالما إلى حصنك، فتوثق عليه ثم نزل، فأطعمه المثنى، وخوفه واستكتمه، وقال: إنى أريد أن أعبر فابعث معى الأدلاء إلى بغداد، حتى أغير منها إلى المدائن، قال: أنا أجىء معك، قال المثنى: لا أريد أن تجىء معى، ولكن ابعث معى من يعرف الطريق، ففعل وأمر لهم بزاد وطعام وعلف، وبعث معهم دليلا، فأقبل حتى إذا بلغ المنصف قال له المثنى: كم بيننا وبين هذه القرية؟ قال: أربعة فراسخ أو خمسة، وقد بقى عليك ليل، فقال لأصحابه: من ينتدب للحرس، فانتدب له قوم، فقال لهم: اذكروا حرسكم، ثم نزل وقال للناس: أنزلوا فاقضوا واطمعوا وتوضأوا وتهيأوا وابعثوا الطلائع فلا يلقون أحدا إلا حبسوه، ثم سار بهم فصبحهم فى أسواقهم، فوضع فيهم السيف، فقتل وأخذ الأموال، وقال لأصحابه: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة، ومن المتاع ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته، وهرب الناس، وتركوا أمتعتهم وأموالهم، وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحرّ من كل شىء. ثم كر راجعا، ثم نزل بنهر السيلحيين من الأنبار، فقال للمسلمين: احمدوا الله الذى سلمكم وغنمكم، وانزلوا فاعلفوا خيلكم من هذا القصب، وعلقوا عليها، وأصيبوا من

_ (1) انظر: تاريخ بغداد (1/ 25- 27) .

أزوادكم، فسمع القوم يهمس بعضهم إلى بعض أن القوم سراع الآن فى طلبنا، فقال: تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان، قبح الله من يتناجون به، انظروا فى الأمور وقدروها ثم تكلموا، تحسبونهم الآن فى طلبكم، فو الله لو كان الصريخ قد بلغهم الآن إنه لكبير، ولو كان الصريخ عندهم لبلغهم من رعب غارتنا عليهم إلى جنب مدائنهم ما يشغلهم عن طلبنا حتى نلحق معسكرنا وجماعتنا، إن للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل، ولو كان بهم من القوة ما يحملهم على طلبنا ثم جهدوا وجهدهم ما أدركونا، نحن على الجياد العراب وهم على المقارف البطاء، ولو أنهم طلبونا فأدركونا لم نقاتلهم إلا التماس الثواب ورجاء النصر، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن، فقد نصركم الله عليهم وهم أكثر منكم وأعز، وسأخبركم عنى وعن انكماشى والذى أريد من ذلك، إن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا بكر أوصانا أن نقل العرجة ونسرع الكرة فى الغارات، ونسرع فى غير ذلك الأوبة، فأقبلوا ومعهم دليلهم حتى انتهوا إلى الأنبار، فاستقبلهم صاحبها بالكرامة، فوعده المثنى بالإحسان إليه لو استقام أمرهم، ورجع المثنى إلى عسكره. حديث السرايا من الأنبار «1» قالوا: لما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار، سرح المضارب العجلى وزيدا إلى الكباث، ثم خرج فى أثرهم، فقدم الرجلان الكباث، وقد ارفض عنه أهله وأخلوه، وكانوا كلهم من بنى تغلب، وكان عليهم فارس العناب التغلبى يحميهم، فركب المسلمون آثارهم يتبعونهم، فأدركوا أخرياتهم، فحماهم فارس العناب ساعة ثم هرب، وقتلوا فى أخرياتهم فأكثروا، ورجع المثنى إلى عسكره بالأنبار، فسرح فرات بن حيان، وكان خلفه فى عسكره، وسرح معه عتبة بن النهاس، وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين، ثم اتبعهما وخلف على الناس عمرو بن أبى سلمى الهجيمى. فلما دنوا من صفين، فر أهلها فعبروا الفرات إلى الجزيرة وتحصنوا، وفارق المثنى فراتا وعتبة، فأرمل المثنى وأصحابه من الزاد، حتى نحروا رحلهم إلا ما لا بد لهم منه فأكلوها حتى أخفافها وعظامها وجلودها، ثم أدركوا عيرا من أهل دياف وحوران، فقتلوا العلوج وأصابوا ثلاثة نفر من بنى تغلب خفراء، فأخذوا العير، وكان ظهرا فاضلا، وقال

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 475، 476) ، الكامل لابن الأثير (2/ 307) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 188، 189) .

لهم: دلونى، فقال له أحدهم: أمنونى على أهلى ومالى، وأدلكم على حى من بنى تغلب غدوت من عندهم اليوم، فآمنه المثنى وسار معه يومه، حتى إذا كان العشى هجم عليهم، فإذا النعم صادرة عن الماء، والقوم جلوس بأفنية البيوت، فبعث غارته فقتلوا المقاتلة، وسبوا الذرية، وانتسفوا الأموال، وإذا هم بنو ذى الرويحلة، فاشترى من كان من ربيعة السبايا بنصيبهم من الفىء، فأعتقوا سبيهم، وكانت ربيعة لا تسبى، إذا العرب يتسابون فى جاهليتهم. وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجعوا شاطئ دجلة، فسرح فى آثارهم حذيفة بن محصن، وكان على مقدمته فى غزواته كلها بعد البويب، ثم اتبعه فأدركوهم دون تكريت يخوضون الماء، فأصابوا ما شاؤا من النعم، حتى أصاب الرجل خمسا من السبى وخمسا من النعم، وجاء المثنى بذلك حتى نزل على الناس بالأنبار، ومضى فرات وعتيبة فى وجههما، حتى أغارا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين، فأغاروا عليهم ونقبوهم، فرموا بطائفة فى الماء، فناشدوهم وجعلوا ينادون: الغرق الغرق، فلم يقلعوا عنهم، وجعل عتيبة والفرات يذمرون الناس وينادونهم: تغريق بتحريق، يذكرونهم يوما من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوما من بكر بن وائل فى غيضة من الغياض، ثم انطلق المسلمون راجعين إلى المثنى وقد غرقوهم. فلما تراجع الناس إلى عسكرهم بالأنبار وتوافت بها البعوث والسرايا، انحدر بهم المثنى إلى الحيرة فنزل بها، وكانت لعمر، رحمه الله، فى كل جيش عيون يتعرفون الأخبار من قبلهم، فكتب إليه بما كان فى تلك الغزاة، وأبلغ الذى قال عتيبة والفرات، يوم بنى تغلب والماء، فبعث إليهما فسألهما، فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه المثل، وأنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب بذحل فى الجاهلية، فاستحلفهما، فحلفا ما أرادا بذلك إلا المثل، وإعزاز الإسلام، فصدقهم وردهما إلى المثنى. ذكر ما هيج حرب القادسية على ما ذكره سيف عن أشياخه «1» قالوا: قال أهل فارس لرستم والفيزران، وهما عميدا أهل فارس: أين يذهب بكما لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوهم وإن لم يبلغ من خطركما أن تقركما فارس على هذا الرأى، وأن تعرضاها للهلكة، ما تنتظرون، والله ما

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 477- 479) ، الكامل لابن الأثير (2/ 308، 309) .

تنتظرون إلا أن ينزل بنا ونهلك، ما بعد ساباط وبغداد وتكريت إلا المدائن، والله ما جرأ علينا هذا غيركم، ولولا أن فى قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم. قالوا: فقال الفيرزان ورستم لبوران ابنة كسرى: اكتبى لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم، ففعلت، وأخرجت ذلك إليهم فى كتاب، فأرسلوا فى طلبهن فلم تبق امرأة منهن إلا أتوا بها، فوضعوا عليهن العذاب يستدلونهن على ذكر من آل كسرى، فلم يوجد عند واحدة منهن أحد منهم، وقلن، أو من قال منهن: لم يبق منهم إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى، وأمه من أهل داريا، فأرسلوا إليها فأخذوها به، فدلتهم عليه، وكانت قد دفعته إلى أخواله فى أيام شيرى حين جمعهن فى القصر الأبيض، فقتل الذكور، واعدتهم ثم دلته إليهم فى زبيل، فأرسلوا إليه، فجاؤا به وهو ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه، واجتمعوا عليه، واطمأنت فارس واستوثقوا، وتبارى الرؤساء فى طاعته ومناصحته، فسمى الجنود لكل مسلحة كانت لكسرى، أو موضع ثغر، وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين، فكتبوا بذلك إلى عمر، رحمه الله، بما ينتظرون ممن بين ظهرانيهم، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد، من كان له منهم عهد ومن لم يكن له، فخرج المثنى على حاميته حتى ينزل بذى قار، وينزل الناس بذى الطف فى عسكر واحد، فكتب إليهم عمر: أما بعد، فاخرجوا من بين ظهرانى الأعاجم، وتفرقوا فى المياه التى تليهم على حدود أرضكم وأرضهم، ولا تدعوا فى ربيعة ومضر أحدا من أهل النجدات، ولا فارسا إلا أجلبتموه، فإن جاء طائعا وإلا حشدتموه، احملوا العرب على الجد إذا جد العجم، لتلقوا جدهم بجدكم. فنزل المثنى بذى قار، ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضى، وغضى جبال البصرة، وكان جرير بن عبد الله بغضى وسبرة بن عمرو العنبرى ومن أخذ أخذهم فيمن معهم إلى سلمى، فكنوا فى أمواه العراق من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض، ويغيث بعضهم بعضا إن كان كون، وذلك فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة. وعادت مسالح كسرى وثغوره وهم فى ملك فارس هائبون مشفقون، والمسلمون يتدفقون قد ضروا بهم كالأسد يثأر عن فريسته، ثم يعاود الكر وأمراؤهم يكفكفونهم؛

لأن عمر، رحمه الله، كان أمرهم أن لا يقاتلوا إلا أن يقاتلوا حتى يأتيهم أمره وتصلهم أمداد المسلمين. تأمير عمر، رضى الله عنه، سعد بن أبى وقاص على العراق وذكر الخبر عن حرب القادسية «1» ذكر المدائنى بإسناده إلى رجال من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض أن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، كان يخير من قدم عليه من العرب بين الشام وبين العراق، فكانت مضر تختار العراق وتختار أهل اليمن الشام، فقال عمر: اليمن أشد تعاطفا يحنون إلى سلفهم، ونزار كلهم سلف نفسه، ومضر لا تحن إلا سلفها، ولم يكن أحد من العرب أشد إقداما على أرض فارس من ربيعة، فبلغ عمر اختلاف المثنى بن حارثة وجرير ابن عبد الله فى الإمارة، فاستشار الناس، فقال المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين، تداركهم برجل من المهاجرين واجعله بدريا، فقال: أشيروا علىّ برجل، فقال عبد الرحمن ابن عوف: قد وجدته، قال: من هو؟ قال: سعد بن أبى وقاص، قال: هو لها، فكتب عمر إلى المثنى: لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى جرير والمثنى: إنى موجه سعدا إليكما، فاسمعا له وأطيعا. وذكر الطبرى وغيره فى هذا الموضع من تحرك عمر، رضى الله عنه، للخروج إلى العراق بنفسه واستدعائه وجوه المهاجرين والأنصار للمشورة عليه فيه، بعد أن خرج بذلك الرسم فنزل صرارا، وقدم بين يديه طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص، وخلف بالمدينة على بن أبى طالب واليا عليها، وإشارة أولى الرأى عليه بالرجوع إلى المدينة، والاستخلاف على ذلك الوجه، واستنفار العرب له، ما قد فرغنا من ذكره فى صدر وقعة البويب من خبر الجسر، حيث ذكره المدائنى، ولعل ذلك الموضع أولى به، فإن يكن كذلك فقد ذكرناه حيث ينبغى، وإن يكن موضعه هذا، فقد نبهنا عليه ليعرف ما وقع من الاختلاف بين المؤلفين فى هذا الشأن بحسب ما تأذى إليهم من جهة النقل، والأمر فى ذلك قريب، والاختلاف فى المنقولات غير مستنكر، والله تعالى أعلم. وقد كان أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، استعمل سعد بن أبى وقاص على

_ (1) انظر: فتوح البلدان (ص 303- 320) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 309- 338) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 37- 47) ، تاريخ ابن خلدون (3/ 313- 321) .

صدقات هوازن بنجد، فأقره عمر عليها، فلما أتاه اجتماع فارس، وقيام يزدجرد فى قول من جعل قيامه بعد وقعة البويب، خلافا لما ذكره المدائنى وآخرون معه، من قيامه قبل ذلك حسب ما قدمناه، كتب عمر إلى المسلمين بما عملوا به قبل انتهاء كتابه إليهم من الوقوف على حدود أرضهم، وأن يستخرجوا كل ذى سلاح وفرس ممن له رأى ونجدة فيضموه إليهم حتى يأتيهم أمره، وكتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل، وذلك فى ذى الحجة سنة ثلاث عشرة مخرجه إلى الحج يأمرهم أيضا بانتخاب الناس أولى الخيل والسلاح والنجدة والرأى، ويستعجلهم فى توجيههم إليه، وكتب بمثل ذلك إلى سعد بن أبى وقاص، فجاءه كتاب سعد: إنى قد انتخبت لك ألف فارس مرد، كلهم له نجدة ورأى، يحوط حريم قومه، ويمنع زمارهم، إليهم انتهت أحسابهم وآراؤهم، فشأنك بهم. فوافق وصول كتاب سعد بهذا مشاورة عمر الناس فى رجل يوجهه إلى العراق، فقالوا: قد وجدته، قال: من؟ قالوا: الأسد عاديا، سعد بن مالك، فانتهى إلى رأيهم، وأرسل إليه، فقدم عليه، فأمّره على حرب العراق وأوصاه، فقال: يا سعد، سعد بنى وهيب، عليك بتقوى الله، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، ولا يغرنك أن يقال: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل ليس بينه وبين أحد سبب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم فى ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعاقبة، ويدركون ما عنده بالطاعة، ألم تسمع لقول الله تبارك وتعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها [القصص: 84] ، و: مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل: 90] ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ بعثه الله حتى قبض إليه، فالزم ما رأيته عليه، وإنى موجهك إلى أرض فارس، فسر على بركة الله، فقد استعملتك على من مررت به من القبائل ممن سقط إليكم من العرب، فاندبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه، وأعلمهم ما أعد الله لأهله، فمن تبعك منهم فأحسن إليه وارفق بهم، واجعل كل قبيلة على منزلها، ومن لم يبلغ أن تستنفره بمن معه من قبيلة، فاجعله مع من أحب، وانزل فيدا حتى يأتيك أمرى. وفى رواية أنه قال لما أراد أن يسرحه: إنى قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتى، فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق، فعود نفسك ومن معك الخير، واستفتح به، واعلم أن لكل عادة

عتادا، وعتاد الخير الصبر، فالصبر الصبر تجتمع لك به خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع لك فى أمرين: فى طاعته واجتناب معصيته، وإنما أطاعه من أطاعه بحب الآخرة وبغض الدنيا، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة، وللقلوب حقائق ينشئها الله عز وجل إنشاء، منها السر والعلانية، فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه فى الحق سواء، وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قبله على لسانه، وبمحبة الناس إليه، فلا تزهد فى التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم، وإن الله تعالى إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه، وإذا أبغض عبدا بغضه إليهم، فاعتبر منزلتك عند الله عز وجل بمنزلتك عند الناس، ممن يسرع معك فى أمرك. وذكر المدائنى أن عمر، رضى الله عنه، كتب لسعد مع ما أوصاه به عهدا يقول له فيه: أوصيك بتقوى الله والرغبة فيما عنده، فادع الناس إلى الله، فمن أجابك فهو أولى بماله وأهله وولده، وليس لك منه إلا زاد بلاغ إن احتجت، وعظ نفسك وأصحابك ولا تكثر عليهم فيملوا، واجعلهم رفقاء إخوانا، وألن لهم جناحك، وحطهم بنفسك كنفسك، واعلم أن المسلمين فى جوار الله، وأن المسلم أعظم الخلق عند الله حرمة، ولا يطلبنك الله بخفرته فى أحد منهم، واحذر عليهم واحفظ قاصيتهم، وعد مريضهم، وانصف مظلومهم، وخذ لضعيفهم من قويهم، واصلح بينهم، وألزمهم القرآن وخوفهم بالله، وامنعهم من ذكر الجاهلية وما كان فيها، فإنها تورث الضغينة وتذكرهم الذحول، واعلم أن الله قد توكل من هذا الأمر بما لا خلف فيه، فاحذر أن يصرف الله ذلك عنك بذنب ويستبدل بكم غيركم، واحذر من الله ما حذركم من نفسه، فإنك تجد ما قدمت يداك من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا. ثم سرحه فيمن اجتمع إليه بالمدينة من نفير المسلمين، فخرج سعد بن أبى وقاص من المدينة قاصدا للعراق فى أربعة آلاف، ثلاثة آلاف من أهل اليمن والسراة، وألف من سائر الناس. قالوا: وشيعهم عمر، رحمه الله، من صرار إلى الأعواص، ثم قام فى الناس خطيبا، فقال: إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول ليحيى بذلك القلوب، فإن القلوب ميتة فى صدورها حتى يحييها الله تعالى، من علم شيئا فلينتفع به، وإن للعدل

أمارات وتباشير، فأما الأمارات: فالحياء والسخاء والهين واللين، وأما التباشير: فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر بابا، ويسر لكل باب مفتاحا، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق إلى كل أحد له حق، ولا يصانع فى ذلك أحدا، ويكتفى بما يكفيه من الكفاف، فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شىء، إنى بينكم وبين الله، وليس بينى وبين الله أحد، وإن الله عز وجل قد ألزمنى دفع الدعاء عنه، فأنهوا شكاتكم إلينا، فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع. فسار سعد فى عام غيداق خصيب، حتى نزل فيدا فأقام بها أشهرا، وجعل عمر لا يأتيه أحد من العرب إلا وجهه إليه، ثم كتب إليه أن يرتفع بالناس إلى زرود، فأتاها وأقام بها، وأتاه من حولها من بنى تميم من حنظلة، وأتته سعد والرباب وعمرو، فكان ممن أتاه عطارد ولبيد بن عطارد والزبرقان بن بدر وحنظلة بن ربيعة الأسدى وربعى الرياحى وهلال بن علقمة التميمى والمنذر بن حسان الضبى، فقالت رؤساء حنظلة: يا بنى تميم، قد نزل بكم الناس، وهم قبائل الحجاز واليمن وأهل العالية، وقد لزمكم قراهم، فشاطروهم الرسل، ففعلوا، فمن كان له منحتان قصر إحداهما عليهم، ومن كان له أكثر، فعلى حساب ذلك، فقروهم شتوة بزرود. وكان عمر أمد سعدا بعد خروجه، فيما ذكر سيف، عن أشياخه، بألفى يمانى وألفى نجدى مرد من غطفان وسائر الناس، فنزلوا معه زرود فى أول الشتاء، وتفرقوا فيما حولها، وأقام سعد ينتظر اجتماع الناس وأمر عمر، وانتخب من بنى تميم والرباب أربعة آلاف، منهم ألف من الرباب، وانتخب من بنى أسد ثلاثة آلاف، وأمرهم أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة، فأقاموا هنالك بين سعد بن أبى وقاص وبين المثنى بن حارثة، والمثنى بذى قار، ويقال: بأليس، وقال بعضهم: بشراف، وجرير ومن معه من أخلاط الناس متفرقون فيما بين العذيب إلى خصى، ويقال: غضى. وكان المثنى فى ثمانية آلاف من ربيعة، منهم ستة آلاف من بكر بن وائل، وألفان من سائر ربيعة، منهم أربعة آلاف ممن كان المثنى انتخبه بعد فصول خالد عنه إلى الشام، وأربعة آلاف كانوا معه ممن بقى يوم الجسر، وكان معه من أهل اليمن ألفان من بجيلة، وألفان من قضاعة وطيئ ممن انتخب إلى ما كان قبل ذلك، على طيئ عدى بن حاتم، وعلى قضاعة عمرو بن وبرة، وعلى بجيلة جرير بن عبد الله، فبينا الناس كذلك، سعد يرجو أن يقدم عليه المثنى، والمثنى أن يقدم عليه سعد، انتقضت بالمثنى جراحاته

التى كان أصيب بها يوم الجسر، فمات رحمه الله، ولما أحس بالموت استخلف على الناس بشير بن الخصاصية، وكتب إلى سعد: كتبت إليك وأنا لا أرانى إلا لما بى، فإن أهلك أو أسلم فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة مأوى المتقين، وأن النار مثوى الكافرين، ولا أخال العجم إلا سيجمعون على حربك، فهم لاقوك بجمع لم يلقونا بمثله، وقد أرانى الله إن كان قضى بينك وبينهم حربا أن تقاتلهم على أدنى حجر من بلادك، على حد أرضهم، فإن ظفرتم فلكم ما وراءهم، وإن كانت الأخرى، ولا أراها الله المسلمين، كنتم أعلم بسبيلكم وأجرأ على طريقكم وأجرأ على أرضكم، وانحزتم إلى فئتكم إلى أن يرد الله لكم الكرة عليهم. وكان مع بشير بن الخصاصية عند ما استخلفه المثنى وجوه أهل العراق، ومع سعد وجوه أهل العراق الذين قدموا على عمر، رحمه الله، فيهم فرات بن حيان العجلى وعتيبة ابن النهاس، فردهم مع سعد. فمن أجل ذلك اختلف الناس فى عدد أهل القادسية، فمن قال: هم أربعة آلاف، فلمخرجهم مع سعد من المدينة، ومن قال: ثمانية آلاف، فلاجتماعهم بزرود، ومن قال: تسعة آلاف، فللحاق القيسيين، ومن قال: اثنا عشر ألفا، فلدفوف بنى أسد من فروع الحزن بثلاثة آلاف، وقدم عليه بعد ذاك ناس كثير مع الأشعث بن قيس وغيره. قالوا: فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفا. وكتب سعد إلى عمر، رحمه الله، بموت المثنى، فكتب إليه: أن سر حتى تنزل بشراف، واحذر على من معك من المسلمين، وعليك بالإصلاح ما استطعت. فارتحل سعد عن زرود ومعه تميم وقيس واليمن وغيرهم، وفيهم رجالة فحمل بنو تميم ضعفاءهم حتى قدموا شراف فنزلها، فأتاهم بشير بن الخصاصية وجرير ومن كان معه بفروع الحزن، وقدم عليه المعنى بن حارثة، أخو المثنى، وقدمت معه زوج المثنى، سلمى بنت خصفة من بنى تميم اللات بوصيته إلى سعد، وكان قد أوصى بها وأمرهم أن يعجلوها عليه بزرود، فلم يفرغوا لذلك، وشغلهم عنه قابوس بن قابوس بن المنذر إلى أن انقضى ذلك، كما نذكره بعد ذكر مقتل قابوس على ما ذكره المدائنى، فقدم حينئذ المعنى وسلمى على سعد بوصية المثنى ورأيه، فترحم عليه سعد عند ما انتهى ذلك إليه، وأمّر أخاه المعنى على عمله، وأوصى بأهل بيته خيرا، وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها،

وبنى مسجدا بشراف، فقال بعض التميميين يذكر نفيرهم إلى سعد وقراهم له وحملانهم: فنفرنا إليهم باحتساب ... لم نعرج ولم نذق تغميضا وقريناهم ربيعا من الرسل ... حقينا مثملا وغريضا وحملنا رجالهم من زرود ... إذ تعايوا فلم يطيقوا النهوضا وكتب سعد إلى عمر حين نزل شراف يخبره بمكانه، فقال: لأرمين فارس وأبناءها بالمهاجرين وأبناء المهاجرين، فوجه ألفا ومائة منهم ممن شهد بدرا نيف وأربعون رجلا وسائرهم ممن شهد بيعة الرضوان إلى الفتح، وحضهم عمر، رحمه الله، فقال: إن أحب عباد الله إلى الله وأعظمهم عنده منزلة أتقاهم له وأشدهم منه رجلا، فعليكم بتقوى الله والإصلاح ما استطعتم، وما التوفيق إلا بالله، الزموا الطاعة يجمع الله لكم ما تحبون من دينكم ودنياكم، وأوفوا بالعهد لمن عاهدتم، وإياكم والغدر والغلول، فإنه من يغلل يأت بما غل يوم القيامة، ومن غدر أدال الله منه عدوه، ووهن كيده، فافهموا ما توعظون به، واعقلوا على الله أمره، ولا تكونوا كالجفاة الجاهلية. وعن سيف «1» : أن عمر، رحمه الله، قال: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب، فلم يدع رئيسا، ولا ذا رأى، ولا ذا شرف، ولا ذا سلطة، ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم. وكتب عمر، رضى الله عنه، إلى عبيدة وهو بالشام أن يمد سعدا بمن كان عنده من أهل العراق، وكانوا ستة آلاف، ومن اشتهى أن يلحق بهم، وكتب إلى المغيرة بن شعبة أن يسير إلى سعد من البصرة، وكتب إلى سعد بمثل رأى المثنى الذى أشار به على سعد: أما بعد، فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين، وتوكل على الله، واستعن به على أمرك كله، واعلم أنك تقدم على أمة عددهم كثير، وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد وإن كان سهلا كؤود لبحوره وفيوضه ودآدئه، فإذا لقيتم القوم أو أحدا منهم فابدؤهم الضرب والشد، وإياكم والمناظرة لجموعهم، ولا يخدعنكم، فإنهم خدعة مكرة، أمركم غير أمرهم، إلا أن تجادوهم، فإذا انتهيت إلى القادسية، والقادسية باب فارس فى الجاهلية، وهى أجمع تلك الأبواب لما تريد ويريدون، وهو منزل رحيب خصيب حصين دونه قناطر وأنهار ممتنعة، فتكون مسالحك على

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 487) .

أنقابها، ويكون الناس بين الحجر والمدر على أقصى حجر من أرض العرب، وأدنى مدرة من أرض العجم، ثم الزم مكانك فلا تبرحه، فإنهم إذا أحسوك أنقضتهم ورموك بجمعهم الذى يأتى على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم، فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم بقتالهم، رجوت أن تنصروا عليهم، ثم لا يجمع لكم مثلهم أبدا إلا أن يجتمعوا، وليست معهم قلوبهم، وأن تكن الأخرى كان الحجر فى أدباركم، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم، ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل، حتى يأتيكم الله بالفتح، ويرد لكم الكرة، وليكن منزلك الذى تنزله رحيبا خصيبا، وإذا نزلت منزلا فلا تستأخر عنه، فإن ذلك وهن عليك وجرأة لعدوك، وأذك العيون واتبع الغرض ولا تأمنن قريبا ولا بعيدا، وصف لى منزلك الذى تنزله، وكم بينك وبين أول عدوك وآخره، وكيف مأتاهم، وسم لى المنزل، فإنه ألقى فى روعى أنكم ستفتحون فارس، وأنكم الأعلون. وفى رواية أنه كتب إليه باليوم الذى يرتحل فيه من شراف، وأين ينزل بالناس فيما بين عذيب والهجانات، وعذيب والقوادس، وأن يشرف بالناس ويغرب بهم. فارتحل سعد عن شراف يريد أن ينزل منزلا على ما كتب به إليه عمر، فانتهى إلى المغيثة، فأقام وبنى مسجدا بين الفرعاء والمغيثة، وقدم بين يديه زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الجوية يرتاد له منزلا، فأقبل زهرة حتى انتهى إلى العذيب، وكتب إلى سعد فأقبل فى أثره، فنزل المسلمون ما بين العذيب إلى القادسية، وهى أحساء، فقال فى ذلك النعمان بن مقرن المزنى، وتروى لغيره: نزلنا بأحساء العذيب ولم تكن ... لنا همة إلا اختيار المنازل لنحوى أرضا أو نناهب غارة ... يضج لها ما بين بصرى وبابل ونزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنطرة وقديس، وهى يومئذ أسفل منها بميل، وكتب سعد إلى عمر: إنا نزلنا من القادسية والعذيب منزلا خصيبا رحيبا على أقصى حجر من أرضنا وأدنى مدرة من أرض عدونا، فأما عن يسار القادسية فبحر أخضر لاج إلى الحيرة بين طرفين، أما أحدهما فعلى الظهر، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة، وأما عن يمين القادسية ففيض من فيوض مياههم، وبيننا وبين أدنى عدونا منا خمسة عشر ميلا، ولم يبلغنى من الذى أسندوا إليه أمرهم إلى أن كتبت إليك، ومتى يبلغنى ذلك أكتب به إليك إن شاء الله، ونحن متوكلون على الله راجعون له.

ولما بلغ أهل فارس اجتماع العرب لهم، وكثرة من انثال على سعد من رؤسائهم ووجوههم، عظم ذلك عليهم، ورعبهم وزادهم نزولهم القادسية رعبا وضيقا، فعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار، وأرسلوا إليه: إن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب، وأن فعلهم منذ نزلوها لا يبقى عليه شىء، وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات، فليس هنالك أنيس إلا فى الحصون، وقد ذهبت الدواب وكل شىء لم تحمله الحصون من الأطعمة، ولم يبق إلا أن يستنزلونا، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدنا. وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطّفّ، وأعانوهم عليه. ولما كثرت الاستغاثة من أهل السواد على يزدجرد، خشعت نفسه واتقى الحرب برستم فأرسل إليه، فدخل عليه، فقال: إنى أريد أن أوجهك فى هذا الوجه، وإنما يعد للأمور على قدرها، وأنت رجل أهل فارس اليوم، وأنت لها، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم منذ ولى آل أردشير. فأراه رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه، فقال له الملك: قد أحببت أن أنظر فيما لديك لأعلم ما عندك، فصف لى العرب وفعلهم، وصف لى العجم وما يلقون منهم، فقال رستم: صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت، فقال: ليس كذلك، إنما سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب، فافهم عنى، إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مرقب عند جبل تأوى فى ذراة الطير تبيت فى أوكارها، فإذا أصبحت الطير تجلت، فأبصرت العقاب ترقبها، فخافتها فلم تنهض، وطمعت العقاب، فلم ترم، وجعلت كلما شذ منها طائر انقضت عليه فاختطفتها حتى أفنتها، فلو نهضت بأجمعها نهضة واحدة لنجت، وأشد شىء يكون فى ذلك أن تنجو كلها إلا واحدا، فهذا مثلهم ومثل الأعاجم، فاعمل على قدر ذلك، فإنى أريد أن أوجه إلى هؤلاء القوم جمعا أستأصلهم به. فسجد له رستم، وقال: الملك أفضل رأيا، وأيمن أمرا، وأسعد جدا، وإن أذن لى تكلمت. قال: قل، قال: هزيمة جيش بعد جيش أمثل وأبقى من هزيمة الجماعة التى ليس بعدها مثلها، فأبى عليه يزدجرد إلا أن يجمع له الناس ويوجهه بهم إلى العرب، فقال له رستم: أيها الملك، دعنى فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بى، ولعل دولة تكون فيكون الله قد كفى، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأى الحرب، فإن الرأى فيها والمكيدة

أنفع من بعض الظفر، فألح يزدجرد وترك الرأى، وكان ضيقا لجوجا، وقال لرستم: امض حتى يأتيك أمرى، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط ووجه إليه الملك المرازبة والقواد والأساورة واستحثه فى المسير، فأعاد عليه رستم كلامه، وقال: أيها الملك، إن هزيمتى لهم دونها ما بعدها وعليكم دونها ما بعدها، ولقد اضطرنى تضييع الرأى إلى إعظام نفسى وتزكيتها، ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به، فأنشدك الله فى أهلك ونفسك وملكك، دعنى أقم بعسكرى وأسرج الجالينوس، فإن تكن لنا فذاك، وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره، حتى إذا لم نجد بدا ولا حيلة صبرنا لهم، وقد وهناهم وحسرناهم ونحن جامون، موفورون، فأبى إلا أن يسير. ولما نزل رستم بساباط وجمع أداة الحرب وآلاتها، بعث على مقدمته الجالينوس فى أربعين ألفا، وخرج هو فى ستين ألفا، وساقته فى عشرين ألفا، وعليها الفيرزان، وعلى ميمنته الهرمزان، وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازى، وقال رستم: ليشجع الملك إن فتح الله علينا هؤلاء القوم فهو وجهنا إلى ملكهم فى داره حتى نشغلهم فى أهلهم وبلادهم، إلا أن يقبلوا المسالمة ويرضوا بما كانوا يرضون به. وقال سيف عن أشياخه «1» : خرج رستم فى عشرين ومائة ألف كلهم متبوع، فكانوا بأتباعهم أكثر من مائتى ألف، ثم إن رستم رأى رؤيا فكرهها، وأحس لها الشر، وكره لها الخروج ولقاء القوم، واختلف عليه رأيه واضطرب، وسأل الملك أن يمضى الجالينوس، ويقيم حتى ينظر ما يصنعون، وقال: إن غناء الجالينوس كغنائى، وإن كان اسمى أشد عليهم من اسمه، فإن ظفر فهو الذى نريد، وإن تكن الأخرى وجهنا مثله، ودافعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما، فإنى لا أزال مرجوا فى أهل فارس ما لم أهزم، ولا أزال مهيبا فى صدور العرب، ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم، وإن باشرتهم اجترؤا آخر دهرهم، وانكسر أهل فارس آخر دهرهم. قالوا: ولما أبى الملك إلا مسير رستم، كتب رستم إلى أخيه وإلى رؤس بلاده: من رستم بن البندوان إلى مرزبان الباب وسهم أهل فارس، الذى كان يعد لكل عظيمة، فيفض الله به الجموع، ويفتح به الحصون، ومن قبله من عظماء أهل فارس والمرازبة والأساورة، فرموا حصونكم، وأعدوا واستعدوا، فكأنكم بالعرب هذه الأمة الذليلة كانت عندكم الخسيسة المنزلة الضيقة المعيشة قد وردوا بلادكم، وقارعوكم على

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 505) .

أرضكم وأبنائكم، وانتزعوا ما فى أيديكم، وكان من رأيى مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود نجومنا فأبى الملك. ويقال: إن رستم عند ما أمر يزدجرد بالنهوض إلى ساباط كتب إلى أخيه بنحو الكتاب الأول، وزاد فيه: أن السمكة قد كدرت الماء، وأن النعائم قد حبست، وحسنت الزهرة، واعتدل الميزان، وذهب بهرام، ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا، ويستولون على ما قبلنا، وإن أشد ما رأيت أن الملك قال: لتسيرن إليهم أو لأسيرن إليهم بنفسى، وأنا سائر إليهم. وكان الذى جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى، وكان من أهل فرات بادقلى، فأرسل إليه وقال: ما ترى فى مسير رستم وحرب العرب اليوم؟ فخافه على الصدق فكذبه، وكان رستم يعلم نحوا من عمله، فثقل عليه مسيره لأجل ذلك، وخف على الملك لما غره منه، وقال الملك للغلام: إنى أحب أن تخبرنى بشىء أراه أطمئن به إلى قولك، فقال الغلام لزرنا الهندى: أخبره، فقال: سلنى، فسأله، فقال: أيها الملك، يقبل طائر فيقع على إيوانك، فيقع منه شىء فى فيه هاهنا، وخط دائرة، فقال الغلام: صدق، والطائر غراب، والذى فى فيه درهم، فيقع منه على هذا المكان. وبلغ جابان أن الملك طلبه، فأقبل حتى دخل عليه، فسأله عما قال غلامه، فحسب، فقال: صدق ولم يصب، إنما الطائر عقعق، والذى فى فيه درهم، فيقع منه على هذا المكان، وكذب زرنا، يندر الدرهم من هاهنا فيستقر هاهنا، ودور دائرة أخرى، فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق، فسقط منه درهم فى الخط الأول، فنزا فسقط فى الخط الآخر، ونافر الهندى جابان حيث خطأه، فأتيا ببقرة نتوج، فقال الهندى: سخلتها غراء سوداء، فقال جابان: كذبت، بل سوداء صبغاء، فنحرت البقرة فاستخرخت سخلتها، فإذا ذنبها أبيض، وهو بين عينيها، فقال جابان: من هاهنا أتى، وشجعاه على إخراج رستم، فأمضاه. ولما فصل رستم من ساباط، لقيه جابان على القنطرة، فشكا إليه، وقال: ألا ترى ما أرى؟ فقال رستم: أما أنا فأقاد بخشاش وزمام، ولا بد من الانقياد وأمر الجالينوس بالتقدم إلى الحيرة، فمضى نحوها حتى اضطرب عسكره بالنجف، وخرج رستم بعده حيث ينزل بكوثى، وأمر الجالينوس عند ما قدمه أن يصيب له رجلا من العرب من جند سعد، فخرج هو والآزاذمرد، مرزبان الحيرة، فى سرية حتى انتهيا إلى القادسية فأصابا دون قنطرتها

رجلا، فاختطفاه، ونفر الناس فأعجزوهم إلا ما أصاب المسلمون فى أخرياتهم، فلما انتهيا إلى النجف سرحا به إلى رستم، وهو بكوثى، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ قال: جئنا نطلب موعود الله عز وجل، قال: وما موعود الله عز وجل؟ قال: أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أنتم أبيتم أن تسلموا، قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال: فى موعود الله عز وجل من قتل منا قبل ذلك أدخله الله الجنة، وأنجز لمن بقى منا ما قلت لك، فنحن من ذلك على اليقين، فقال له رستم: قد وضعنا إذا فى أيديكم، فقال: ويحك يا رستم، إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تحاول الإنس، إنما تحاول القضاء والقدر، فاستشاط، فأمر به فضربت عنقه، رحمه الله. وارتحل رستم من كوثى وكأنه يقاد بزمام، حتى إذا كان ببرس أفسد أصحابه وغصبوا الناس أموالهم ووقعوا على نسائهم، فضج العلوج إلى رستم، وشكوا إليه ما يلقون من أصحابه، فجمع المرازبة والرؤساء فقام فيهم، فقال: يا معشر أهل فارس، والله لقد صدق العربى، والله ما أسلمتنا إلا أعمالنا، والله للعرب فى هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم، إن الله عز وجل إنما كان ينصركم على العدو، ويمكن لكم فى البلاد بالعدل وحسن السيرة، فأما إذ تحولتم عن ذلك، فأظهرتم البغى، وسارعتم فى الفساد، فلا أرى الله عز وجل إلا مغيرا ما بكم، وما أنا بآمن أن ينزع الله سلطانه منكم، فإنه لم يفعل هذا قوم إلا نزع عنهم النصر، وسلط عليهم العدو. ثم بعث الرجال، فلقطوا بعض الذين شكوا، فضربت أعناقهم، ثم نادى فى الناس بالرحيل، فسار حتى نزل بجبال دير الأعور، ودعا أهل الحيرة وسرادقه إلى جنب الدير، فأوعدهم وهم بهم، وقال: يا أعداء الله، فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا، وكنتم عيونا لهم علينا، وأعنتموهم بالأموال فاتقوا بابن بقيلة، وقالوا له: كن أنت الذى تكلمه، فتقدم إليه ابن بقيلة، فقال له: لا تجمع علينا أمرين: العجز عن نصرنا واللائمة لنا فى الدفع عن أنفسنا وبلادنا، أما قولك: أنا فرحنا بمجيئهم، وبأى ذلك من أمرهم نفرح؟ إنهم يزعمون أنا عبيد لهم، وما هم على ديننا، وأنهم ليشهدون علينا أنا من أهل النار، وأما قولك: أنا كنا لهم عيونا فما احتاجوا إلى العيون، لقد ترك أصحابك لهم البلاد حتى كانت خيولهم تذهب حيث شاءت، وأما إعانتهم بالأموال، فإنا صانعناهم بها إذ لم تمنعونا مخافة أن نسبى ونخرب، وتقتل مقاتلتنا وقد عجز عنهم من لقيهم منكم، فكنا نحن أعجز منهم، ولعمرى لأنتم أحب إلينا منهم، فامنعونا نكن لكم، فإنا نحن بمنزلة علج

السواد، عبيد من غلبنا، فقال لهم رستم: صدقكم الرجل. قال الرفيل: ورأى رستم بالدير أن ملكا هبط من السماء حتى دخل عسكر فارس، فأخذ سلاحهم فختم عليها، ثم رفعها، فأصبح كئيبا، وقد أيقن أن ملكهم قد ذهب، ثم ارتحل حتى نزل النجف فعادت عليه الرؤيا، فرأى ذلك الملك ومعه النبى صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه، ثم دفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فدفعه النبى صلى الله عليه وسلم إلى عمر، فأصبح رستم وقد ازداد جزعا، فلما رأى الرفيل ذلك رغبه فى الإسلام فأسلم، وما كان داعيته إليه إلا ذلك. وكان رستم قد أرسل إلى قابوس بن المنذر، وقال بعضهم: ابن النعمان بن المنذر: اكفنا ما كانت آباؤك تكفينا من العرب، وعقد له على أربعة آلاف وقدمه إلى العذيب، فلما قدم سعد بن أبى وقاص بين يديه زهرة بن الجوية يرتاد له منزلا، قدم زهرة أمامه بكر بن عبد الله الكنانى، وقال بعضهم: عبد الله بن بكير، فانتهى إلى العذيب، ووافاه زهرة هنالك، فطرقوا قابوس بياتا فى حصن العذيب فقتلوه وتفرق أصحابه منهزمين، حتى وصلوا إلى رستم، هكذا ذكر المدائنى. وفى كتاب سيف «1» : أن الآزاذمرد بن الأزاذبة هو الذى بعث قابوس إلى القادسية، وقال له: ادع العرب، فأنت على من أجابك، وكن كما كان آباؤك، فلما نزل القادسية كاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعدا، فلما انتهى خبره إلى المعنى بن حارثة أسرى من ذى قار حتى بيته فأنامه ومن معه، ثم رجع، فخرج إلى سعد ابن أبى وقاص بزوجة المثنى ووصيته، وهذا الوجه الذى خرج إليه هو الذى شغله عن تعجيل القدوم على سعد بوصية أخيه، حسب ما ذكرناه قبل. وعن كريب بن أبى كرب العكلى، وكان فى المقدمات أيام القادسية، قال: قدمنا سعد من شراف، فنزلنا فى عذيب الهجانات ثم ارتحل، فلما نزل علينا، وذلك فى وجه الصبح، خرج زهرة بن الجوية فى المقدمات، فلما رفع لنا العذيب، وكانت من مسالحهم، استبنا على بروجه ناسا، فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلا أو بين شرفتين إلا رأيناه، وكنا فى سرعان الخيل، فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف، ونحن نرى أن فيها خيلا، ثم أقدمنا على العذيب، فلما دنونا منه، خرج منه رجل يركض نحو القادسية، فانتهينا إليه، فدخلنا فإذا ليس فيه أحد، وإذا ذلك الرجل هو الذى تراءى لنا على البروج وبين الشرف مكيدة، ثم انطلق بخبرنا، فطلبناه فأعجزنا، وسمع بذلك زهرة

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 489) .

فلحق فجد له فيه، وكان أهل القادسية يعجبون من شجاعة ذلك الرجل، وعلمه بالحرب، ولم تر عين قط أثبت منه ولا أربط جأشا لولا بعد غايته لم يلحق به زهرة، ووجد المسلمون رماحا ونشابا وأسفاطا من جلود وغيرها، انتفع المسلمون بها. ولما أمسى زهرة بن الجوية بعث سرية فى جوف الليل، وأمر عليهم بكير بن عبد الله الليثى، وكانوا ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس وفيهم الشماخ القيسى الشاعر، وأمرهم بالغارة على الحيرة، فساروا حتى جازوا السيلحين، وقطعوا جسرها يريدون الحيرة، فسمعوا جلبة، فأحجموا عن الإقدام، وأقاموا كمينا حتى يتبينوا، فما زالوا كذلك حتى جازت بهم خيول، تقدم تلك الغوغاء، فتركوها فنفذت لطريق الصين، وإذا هم لم يشعروا بهم، وإنما ينتظرون ذلك العين الذى قتله زهرة، وإذا أخت الآزاذمرد، مرزبان الحيرة، تزف إلى صاحب الصين، وكان من أشراف العجم، وتلك الخيل تبلغها مخافة ما هو دون الذى لقوا، فلما انقطعت الخيل عن الزواف، والمسلمون كمين فى النخل وحاذت بهم الأثقال، حمل بكير على شيراز بن الأزاذبة أخى الآزاذمرد، وهو بين أخته وبين الخيل، فقصم بكير صلبه، وطارت الخيل على وجوهها، وأخذوا الأثقال وابنة الآزاذبة فى ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة امرأة من التوابع، ومعهم ما لا يدرى قيمته، ثم عاج واستاق ذلك كله، فصبح سعدا بعذيب الهجانات بما أفاء الله، عز وجل، على المسلمين، فكبروا تكبيرة شديدة. فقال سعد: أقسم بالله لقد كبروا تكبيرة عرفت فيها العز، فقسم ذلك سعد على المسلمين، ونفل من الخمس، وأعطى المجاهدين بقيته، فوقع منهم موقعا، ووضع سعد بالعذيب خيلا تحوط الحريم، وانضم إليها حاطة كل حريم، وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثى، ونزل سعد القادسية، وكتب سعد إلى عمر، رحمه الله، يعلمه بقتل الآزاذبة على يدى بكير بن عبد الله، وقال فيما كتب به إليه: وأنا مقيم بالقادسية على أمرك، ومنزلنا خصيب الجناب، ونحن ننتصف فيه من عدوان نزل بنا فى الخصب ننال من ذلك أفضل الذى نريد، وهو يوم كتبت لك مباح لنا لا يدفعوننا عنه إلا بالاعتصام بمعاقلهم، ولن يزال عندك منا كتاب بما يحدث إن شاء الله. فأقام سعد شهرا، ثم كتب بمثلها إلى عمر، رحمهما الله: نحن وعدونا على ما كتبت إليك، لم يوجهوا إلينا أحدا، ولا أسندوا حربا إلى أحد علمناه، ومتى يبلغنا ذلك نكتب به، فاستنصروا الله لنا، فإنا بمنحاة دنيا عريضة، دونها بأس شديد، وقد تقدم الله إلينا فى الدعاء إليهم، فقال تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الفتح: 16] . فكتب إليه عمر: أما بعد، فإن أبا بكر، رحمه الله، كان رشيدا موفقا، محفوظا معانا

أكرمه الله وأعانه حتى قبضه إليه راضيا مرضيا عنه، وقد ابتلينا بالذى ولينا مما لا طاقة لنا بحفظه والقيام عليه إلا بتحنن القوى ذى العزة والعظمة، وقد علمت أن فارس ستقبل إليك بمرازبتها وبأسها وعددها، فإياك والمناظرة لجموعهم، والقادسية على ما وصفت لى منزل جامع، والجد الجد على الذى أنت عليه، واكتب إلىّ بجمعهم الذى زحفوا إليك به، ومن رأسهم الذى يسندون إليه أمرهم، وكم بين أدنى عدوك منك وبين ملكهم، واجعلنى من أمرهم على الجلية، فإنك بحمد الله على أمر وليه وناصره، والله ناصر من نصره، وقد توكل لهذا الأمر بما لا خلف له، والله متم أمره، ومن يرد الله به صلاحا يلهمه رشده فيما أعطاه، ويبصره الشكر لنعمته، والعمل بطاعته، والعرفان لأداء حقوقه، ومن يكن بتلك المنزلة يعنه الله على حسن نيته، ويعطه أفضل رغبته، وإنما يستوجب كرامة الله بتمام ننعمته من عصم له دينه، وإنما يصلح الله النية لمن رغب فيما عنده وأذعن لطاعة ربه، وإن منازل عباد الله عنده على نياتهم، فأكثر ذكر الله، وكن منه على الذى رغبك إليه وفيه، فإن فى ذلك رواحا للمستريح ونجاحا تجد فيه غدا نفع ما قدمت، فإنك ممن أرغب له فى الخير ويعنينى أمره للمكان الذى أنت فيه من عدو الإسلام، نسأل الله لنا ولك إيمانا صادقا، وعملا زاكيا. فكتب إليه سعد وقد علم بأن رستم هو الذى تعين لحرب العرب وقود جيوش فارس، وأنه قد زحف إلى المسلمين ودنا منهم، إذ كان سعد وجه عيونا إلى الحيرة فرجعوا إليه بالخبر. فكتب به فيما أجاب به عمر، رضى الله عنهما: أتانى كتابك بما ذكرت من أبى بكر، رحمة الله عليه، ولم يكن أحد يذكر من أبى بكر شيئا إلا وقد كان أفضل من ذلك، فبوأه الله غرف الجنة، وعرف بيننا وبينه، وإنك عامل من عمال الله، فاستعن بالله وشمر، وليس شىء أهم عندى ولا أنا أكثر ذكرا لما نحب أن نكون عليه من الذى أمرتنا به، والله ولى العون على ذلك، وقد قدم علينا عظيم من عظمائهم يقال له رستم بالخيل والفيول والعدد والعدة والقوة، فيما يرى الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبيننا وبينه خمسة عشر ميلا، وبينه وبين ابن كسرى بأبيض المدائن نيف على ثلاثين فرسخا، ولنا من عدونا النصف إن شاء الله، ولن يزال منا عندك كتاب يخبرنا إن شاء الله، فاستنصروا الله لنا بالدعاء والتضرع خفية وجهرا، فإن الله يعطى من سعة ويأخذ بقدرة ويفعل ما يشاء. وكان عمر، رحمه الله، قد أمر بموالاة الكتب إليه بكل شىء، فكان سعد يكتب إليه فى كل يوم.

وكتب إليه عمر: أتانى كتابك تذكر مكان عدوك ونزولك حيث نزلت، ومسافة ما بينك وبين ابن كسرى، وأنه من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، فأرسل إلى ابن كسرى من يدعوه إلى الإيمان أو إعطاء الجزية أو الحرب، فإن أسلم فله ما لكم وعليه ما عليكم، وإن اختار إعطاء الجزية ولم يسلم فله ما كسب وعليه ما اكتسب وقد حقن دمه وأحرز أرضه، ولا سبيل عليه إلا فى حق عليه، فإن أبى الإسلام وإعطاء الجزية فلا يعظم عندك حربه ولا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتوك به، فاستعن بالله واستنصره وتوكل عليه، وإذا لقيت عدوك فقدم أهل البأس والنجدة فى غير إهانة لهم ولا تغرير بهم، وعليكم بالصبر فإنه ينزل النصر، فإذا ظهرت فأكثر القتل فى دبر المشركين، واقتل المقاتلة، واستبق النساء والصبيان، ثم لا تتركن أحدا من العدو وراءك، وإن أعطوك الصلح فلا تصالح إلا على الجلاء، إلا أن تترك فيها من لا كيد له ولا نكاية، وأحط بأمرى، وخذ بعهدى. وفى رواية أنه قال له، فيما كتب به إليه: وابعث إليهم رجالا من أهل المنظر والرأى والجلد يدعونهم، فإن الله عز وجل جاعل دعاءهم توهينا لهم، وفلجا عليهم. ولما انتهى إلى سعد أمر عمر، رضى الله عنه، بالتوجه إلى يزدجرد، جمع نفرا لهم نجار، ولهم آراء، ونفرا لهم منظر وعليهم مهابة. فأما الذين لهم نجار ولهم آراء واجتهاد: فالنعمان بن مقرن، وبسر بن أبى رهم، وجبلة بن جوية الكنانى، وحنظلة بن الربيع الأسدى، وفرات بن حيان العجلى، وعدى ابن سهيل، والمغيرة بن زرارة بن النباش بن حبيب. وأما الذين لهم منظر لأجسامهم، وعليهم مهابة، ولهم آراء: فعطارد بن حاجب، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسان، وعاصم بن عمرو، وعمرو بن معدى كرب، وغيرهم ممن سماه سيف فى كتابه. وخالفه المدائنى فى بعضهم، فلم يذكرهم، وذكر معهم ممن لم يذكره سيف: طليحة ابن خويلد، وزهرة بن جوية، ولبيد بن عطارد، وشرحبيل بن السمط. قال المدائنى: فأتوا الحيرة، فأرسل إليهم رستم: أين تريدون؟ قالوا: نريد ابن كسرى. فأرسل معهم أساورة فجوزوهم إلى المدائن، فوقفوا ببابه. وقال سيف: إنهم طووا رستم، حتى انتهوا إلى باب يزدجرد، فوقفوا على خيول

عراب معهم جنائب، وكلها صهال، فاستأذنوا فحبسوا، وبعث يزدجرد إلى وزرائه ووجوه أرضه ليستشيرهم فيما يصنع بهم، ويقول لهم، وسمع بهم الناس فحضروهم ينظرون إليهم، وعليهم المقطعات والبرود، وفى أيديهم سياط رقاق، وفى أرجلهم النعال. فلما اجتمع رأيهم أذن لهم فدخلوا عليه. قال بعض من حضر هذا اليوم ممن سبى فى القادسية ثم حسن إسلامه: لما كان هذا اليوم الذى قدم فيه وفود العرب على يزدجرد ثاب إليهم الناس ينظرون إليهم، فلم أر عشرة قط يعدلون فى الهيئة بألف غيرهم، وخيلهم تخبط ويوغر بعضها بعضا. وجعل أهل فارس يسؤهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم، فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس، وكان سيئ الأدب، فكان أول شىء دار بينه وبينهم أن قال لترجمانه: سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ فسأل النعمان بن مقرن، وكان على الوفد: ما تسمى رداءك؟ قال: البرد. قال: فتطير لموافقة هذا الاسم اسم شىء متطير به عندهم، وتغيرت ألوان فارس، وشق ذلك عليهم. ثم قال: سلهم عن أحذيتهم، فسأله. فقال: النعال، فتطير، أيضا، لمثل ذلك، ثم سأله عن الذى فى يده، فقال: سوط، والسوط بالفارسية الحريق، فقال: أحرقوا فارس أحرقهم الله، وكان تطيره على أهل فارس، ثم قال لترجمانه: سلهم ما جاء بكم، وما دعاكم إلى غزونا والولوغ ببلادنا؟ أمن أجل أنا أجممناكم، وتشاغلنا عنكم، اجترأتم علينا؟ فقال لهم النعمان بن مقرن: إن شئتم أجبت عنكم، ومن شاء آثرته. قالوا: بل تكلم، وقالوا للملك: كلام هذا الرجل كلامنا. فتكلم النعمان. فقال إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع لذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين: فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه فى دينه إلا الخواص. فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب، ويبدأ بهم ففعل، فدخلوا معه جميعا على وجهين: مكره عليه فاغتبط، وطائع أتاه فازداد، فعرفنا جميعا فضل ما جاءنا به على ما كنا عليه من العداوة والضيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوهم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون ما آخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، وعلى أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، فإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا منكم ومنعناكم، وإلا قاتلناكم. قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إنى لا أعلم فى الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا

ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحى فيكفونناكم لا نغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم. فأسكت القوم. فقام المغيرة بن زرارة النباش الأسدى، فقال: أيها الملك، إن هؤلاء رؤس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، وتفخم الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك، فجاوبنى لأكون الذى أبلغك، ويشهدون على ذلك، أنك قد وصفتنا، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أحد أسوأ حالا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، فنرى ذلك طعاما. وأما المنازل فإنما هى ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، ويغير بعضنا على بعض، فإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهى حية كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالتنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، وبعث الله إلينا رجلا معروفا، نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو بنفسه كان خيرنا فى الحال التى كان فيها أصدقنا وأجملنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد، أول من ترب له كان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئا إلا كان، فقذف الله فى قلوبنا اتباعه والتصديق له، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا به فهو أمر الله، فقال لنا: إن ربكم يقول: إنى أنا الله وحدى لا شريك لى، فكنت إذ لم يكن شىء وكل شىء هالك إلا وجهى، وأنا خلقت كل شىء وإلىّ مصير كل شىء، وأن رحمتى أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التى بها أنجيكم بعد الموت من عذابى، ولأحلكم دارى، دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الله، وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم أمنعوهم مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم. فمن قتل منكم أدخلته الجنة، ومن بقى منكم أعقبته النصر على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجو بنفسك. فقال: أتستقبلنى بمثل هذا؟ فقال: ما استقبلت إلا من كلمنى، ولو كلمنى غيرك لم أستقبلك به. فقال: لولا أن

الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شىء لكم عندى، وقال: ائتونى بوقر من تراب، واحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات المدائن، ارجعوا إلى صاحبكم وأعلموه أنى مرسل إليهم رستم حتى يدفنه وجنده فى خندق القادسية، ومنكل به وبكم من بعده، ثم أورده بلادكم، حتى أشغلكم فى أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور. ثم قال: من شد فكم؟ فسكت القوم، فقال: عاصم بن عمرو: أراد لنأخذ التراب، أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملنيه، قال: أكذلك؟ قالوا: نعم، فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها، فقال له أصحابه: حملت ترابا؟ قال: نعم، الفأل، قد أمكنكم الله من أرضهم، فلم يزل معه حتى قدم به على سعد فأخبره الخبر. فقال سعد: أبشروا، فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم، وجعل المسلمون يزدادون فى كل يوم قوة، ويزداد عدوهم فى كل يوم وهنا، واشتد على جلساء الملك ما صنع، وما صنع المسلمون من قبول التراب، وراح رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم، وكيف رآهم، فقال الملك: ما كنت أرى أن فى العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا علىّ، والله ما أنتم بأعقل منهم، ولا أحسن جوابا، وأخبره بكلام متكلمهم، وقال: لقد صدقنى القوم، لقد وعدوا أمرا ليدركنه أو ليموتن عليه، على أنى وجدت أفضلهم أحمقهم، لما ذكروا الجزية أعطيته ترابا يحمله على رأسه فخرج به، ولو شاء اتقى بغيره، وأنا لا أعلم. قال: أيها الملك، أخذ التراب أعقلهم، وما أخذه إلا تطيرا، وأبصرها دون أصحابه وخرج رستم من عنده كئيبا غضبان، فبعث فى أثر الوفد، وقال لبعثه: إن أدركتموهم تلافينا أرضنا، وإن أعجزوكم سلبكم الله أرضكم، فرجع إليه من كان وجه أثرهم من الحيرة فأعلمه بفواتهم، فقال: ذهب القوم بأرضكم غير ذى شك، ما كان من شأن ابن الحجامة الملك ذهب القوم بمفاتيح أرضنا، فكان ذلك مما زاد الله به فارس غيظا، وأغار بعد ما خرج الوفد إلى يزدجرد إلى أن جاؤا صيادين قد اصطادوا سمكا، وسار سواد بن مالك التميمى إلى النجاد والفراض إلى جنبها، فاستتاق ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور، فأوقروها سمكا، واستاقوها، فصبحوا بها العسكر، فقسم سعد السمك بين الناس، وقسم الدواب، ونفل الخمس إلا ما رد منه على المجاهدين، وأسهم على السبى، وهذا يوم الحيتان، وكان الآزاذمرد الآزاذبة قد خرج فى الطلب، فعطف عليه سواد وفوارس معه، فقاتلهم على قنظرة السيلحين، حتى عرفوا أن قد نجت الغنيمة، ثم اتبعوها حتى أبلغوها المسلمين، وكانوا إنما يقرمون إلى اللحم، وأما الحنطة والشعير والتمر،

فكانوا قد اكتسبوا منه ما اكتفوا به لو أقاموا زمانا، فكانت السرايا إنما تسرى للحوم، ويسمون أيامها بها، كيوم الأباقر ويوم الحيتان. وخرج، أيضا، مالك بن ربيعة بن خالد، من تيم الرباب، ومعه المسافر بن النعمان التميمى فى سرية أخرى، فأغاروا على الفيوم فأصابوا إبلا لبنى تغلب والنمر فشلوها ومن فيها، فغدوا بها على سعد، فنحرت الإبل فى الناس، وأخصبوا. ولما كتب سعد إلى عمر، رحمه الله، يخبره بأمر ابن كسرى، وإعداده للمصادمة، وأن من كان صالح المسلمين من أهل السواد قد صاروا إلبا عليهم لأهل فارس، قال: وأمر الله بعد ماض، وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا، فنسأل الله خير القضاء، وخير القدر فى عافية. كتب إليه عند ذلك عمر، رحمه الله: قد جاءنى كتابك وفهمته، فأقم مكانك حتى ينغض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن، فإنه خرابها إن شاء الله. وجعل عمر يدعو لسعد خاصة، وللمسلمين عامة، ويدعون له معهم. وفيما ذكر سيف عن رجاله «1» قالوا: كان بين خروج رستم من المدائن وعسكرته بساباط وزحفه عنها إلى أن لقى سعدا أربعة أشهر، لا يقدم ولا يقاتل، رجاء أن يضجروا بمكانهم، وأن يجهدوا فينصرفوا، وكان يكره القتال مخافة أن يلقى ما لقى من قبله، ويحب المطاولة له لولا أن الملك جعل يستعجله وينهضه ويقدمه حتى أقحمه. وكتب عمر، رضى الله عنه، إلى سعد: إنه قد ألقى فى روعى أنكم إذا لقيتم العدو وهزمتموهم، فاطرحوا الشك، وآثروا عليه اليقين، فمن لاحن منكم أحدا من العجم بأمان بإشارة أو بلسان ولا يدرى الأعجمى ما كلمتموه به، وكان عندهم أمانا، فأجروا ذلك مجرى الأمان، وآثروا اليقين والنية على الشك، وإياكم والمحك، وعليكم بالوفاء، فإن الخطأ مع الوفاء له بقية، والخطأ بالغدر هلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم وذهاب ريحكم وإقبال ريحهم، وإياكم أن تكونوا شينا على المسلمين، وسببا لتوهينهم. وكتب إليه سعد يستمده، فكتب إليه عمر:

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 509) .

أتستمدنى وأنت فى عشرة آلاف، ومعك مالك بن عوف وحنظلة بن ربيعة وطليحة ابن خويلد وعمرو بن معدى كرب فى أمثالهم من فرسان العرب، ومن معك من أهل الحسبة والرغبة فى الجهاد، فتوكل على الله واستعنه وناهض عدوك، ولا تهيب الناس، واستفتحوا بحسن النية والحسبة والزهد فى الدنيا والإنصاف، والصبر الصبر، والصدق الصدق، فإن النصر ينزل مع الصبر، والأجر على قدر الحسبة، واحذر على المسلمين، وتحرز من البيات، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، واندب الناس إلى القتال، ونفل أهل البلاء، ومن قتل قتيلا فنفله سلبه، ونكل على المعصية. واجعل الناس أسباعا، واستعمل على كل سبع رجلا، وقال بعضهم: أعشارا، وقد كتبت إلى المغيرة بن شعبة أن يشخص إليك فى طائفة ممن قبله بالبصرة، وكتبت إلى أبى عبيدة أن يمدك بجمع من الشام، فإذا قدموا عليك فناهض عدوك، وإن رأيت فرصة قبل ذلك فاغتنمها، ولا تؤخر ذلك إن شاء الله، ولا تستوحشن لقلة من معك، ولا تهن لكثرة عدوك، فكثيرا ما ينصر القليل ويخذل الكثير، وقبلك طليحة بن خويلد، وعمرو بن معدى كرب، وحنظلة بن ربيعة، وأوس بن معدان، وابن زيد الخيل، فلا تؤمرن أحدا منهم على أكثر من مائة، وشاور عمرا وطليحة فى الحرب، ولا تولهما جمعا. فانتهى سعد، رحمه الله، إلى كل ما أمره به عمر، رضى الله عنه، من تهيئة الناس أسباعا أو أعشارا، وقدم عليهم المغيرة فى ثمانمائة، ويقال فى ألف وخمسمائة، والمسلمون فى ضيق، فقال المغيرة، رحمه الله: من آسى إخوانه بطعامه وزاد هو بناقته وجمله، فنحروا لهم وأخرجوا أطعماتهم فأصابوا منها ووقوا، وأشار المغيرة على سعد أن يوجه السرايا فيصيبوا الطعام والعلف، فقبل سعد مشورته، وبث السرايا، فأصابوا من الأطعمة ما كانوا يكتفون به زمانا. وقد روى عن الشعبى أن عمر، رحمه الله، كتب إلى سعد مرتحله من زرود: أن ابعث إلى فرج الهند رجلا ترضاه يكون بحياله، ردآ لك من شىء إن أتاك من تلك التخوم، فبعث إليه المغيرة بن شعبة فى خمسمائة، فكان بحيال الأبلة من أرض العرب، فأتى غضبا، ونزل على جرير، وهو يومئذ هنالك، فلما ننزل سعد بشراف كتب إلى عمر بمنزله ومنزل الناس، فكتب إليه عمر: إذا جاءك كتابى هذا فعشر الناس وعرف عليهم، وأمر على أجنادهم، وعبئهم، ومر رؤساء المسلمين أن يشهدوا، وقدرهم وهم شهود، ثم وجههم إلى أصحابهم، وواعدهم القادسية، واضمم إليك المغيرة فى خيله، واكتب إلىّ بالذى يستقر عليه أمرهم.

فبعث سعد إلى المغيرة، فانضم إليه وإلى رؤساء القبائل، فأتوه، فقدر الناس، وعبأهم بشراف، فأمر أمراء الأجناد، وعرف العرفاء، على كل عشرة رجلا، كما كانت العرافات أزمان النبى صلى الله عليه وسلم، وكذلك كانت إلى أن فرض العطاء، وأمر على الرايات رجالا من أهل النباهة، وأمر على الأعشار رجالا من الناس لهم وسائل فى الإسلام، وولى الحرب رجالا، فولى على مقدماتها ومجنباتها وساقتها ومجرداتها وركبانها وطلائعها، فلم يخرج من شراف إلا عن تعبئة، ولا فصل منها إلا بكتاب عمر وإذنه. قالوا فيما ذكر سيف عن رجاله: وبعث عمر، رحمه الله، الأطبة، وبعث على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلى، وجعل إليه الأقباض وقسمة الفىء، وجعل داعيهم ورائدهم سلمان الفارسى. فكان أمراء التعبئة يلون الأمير والذين يلون أمراء التعبئة أمراء الأعشار، والذين يلون أمراء الأعشار أصحاب الرايات، والذين يلون أصحاب الرايات والقواد رؤساء القبائل، فلما فرغ سعد من تعبئته وأعد لكل شىء من أمره جماعات ورؤساء كتب بذلك إلى عمر، رحمه الله، ولا خفاء بما بين مقتضى هذا الحديث وبين ما قبله من الاختلاف بالتأخر أو التقدم، والله تعالى أعلم. وبعث سعد فى مقامه بالقادسية إلى أسفل الفرات عاصم بن عمرو فسار حتى أتى ميسان، فطلب بقرا وغنما فلم يقدر عليها، وتحصنوا منه فى الأفدان، وأوغلوا فى الآجام، فضرب حتى أصاب رجلا على طف أجمة، فسأله واستدله على البقر والغنم، فحلف له، وقال: ما أعلم، وإذا هو راعى ما فى تلك الأجمة، فصاح منها ثور: كذب والله وها نحن أولاء، فدخل فاستاق الثيران وأتى بها العسكر، فقسم ذلك سعد على الناس، فأخصبوا أياما، وهذا اليوم هو يوم الأباقر. وذكر المدائنى أن حنظلة بن الربيع الأسيدى هو صاحب هذه الغارة، وأنه أتى أسفل الفرات فلم يصب مغنما ولم يلق كيدا، فرجع، فلقوا رجلا، فقالوا له: هل تعلم مكان أحد من عدونا بحضرتك؟ قال: لا، قد رغبتموهم فخلوا عن مساكنهم، قالوا: فتعلم مكان طعام، أو شاء، أو بقر؟ قال: لا، وسمعوا خوار ثور من غيضة، فدخلوها، فأصابوا بقرا وغنما. قال: وقال الحجاج لرجل من بنى أسد: أشهدت القادسية؟ قال: نعم، قرمنا إلى اللحم فخرجت فى رجال من المسلمين نلتمس اللحم، فأخفقنا، فلما انصرفنا إذا بصوت عن أيماننا: ادخلوا الغيضة فإن فيها غنيمة وأجرا، فدخلنا غيضة قريبا منا فإذا عشرة من

الأعاجم، وإذا طعام وبقر وغنم، فقاتلونا عما فى أيديهم، فاستشهد منا رجلان، وقتلنا منهم ثمانية، وأسرنا رجلين فقتلناهما صبرا، وحملنا الطعام، واستقنا الشاء والبقر، فقسم سعد ذلك بين المسلمين، ونفل كل رجل منا قتل رجلا سلبه. فقال الحجاج: هذه بشرى من الله لأوليائه، لا يكون ذلك حتى يكون الجمع برّا تقيا. فكيف كانوا؟ قال: لا تسأل عن صدق قول، ووفاء بالعهد، وأداء للأمانة، وصبر عند البأس، والله أعلم ما يسرون، فأما الظاهر فإنا لم نر قوما قط أزهد فى دنيا ولا أشد لها بغضا، ما اعتد على رجل منهم فى يوم بواحدة من ثلاث: لا بجبن، ولا بغدر، ولا بغلول، أشداء على الكفار، رحماء بينهم، قال الحجاج: هذه صفة الأبرار. وكتب عمر إلى سعد، رضى الله عنهما: أخبرنى عن الناس وبلائهم، أتفاضلت القبائل فيه، أو أخرجوا على السواء؟ فكتب إليه: إن القبائل لم تزل إلى أن كتبت إليك متساوية فى كل غارة، ومناهبة فى جميع ما أعدوا، وقسم ما ناهبوا، ولم يفترقوا إلا فى ثلاث، لما نزلنا بلاد القوم وعسكرنا بالقادسية، قرمت العرب إلى طعامهم، وعاموا إلى شرابهم، فانتدب لهم من مضر عاصم بن عمرو، وسواد بن مالك، ومالك بن ربيعة، والمساور بن النعمان، وغالب بن عبد الله، وعبيد الله بن وهب، وعبيد الله بن عمير الأشجعى، وعمرو بن الهذيل الأسدى، وعمرو بن ربيعة، والحارث بن ذى البردين، فألحموا الناس وألبنوهم حتى تفرغوا لحربهم، وانتدب من ربيعة: عبد الله بن عامر بن حجية، وأبجر بن جابر، وخالد بن المعمر، وعائذ بن أبى مرضية، ويزيد بن مسهر، وسمى آخرين، فأنكحوا الناس وأخدموهم بنات فارس، وبنيهم، فرغبوا فى حربهم. وانتدب من أهل اليمن: خولى بن عمرو، والحارث بن الحارث، وعمرو بن خوثعة، والقاسم بن عقيل، وخميصة بن النعمان، وسمى غيرهم، فحملوا الناس على خيول وبغال وحمير، ودعوا الخيل العراب. وأقام سعد بالمسلمين فى منزله من القادسية، ورستم بالحيرة، وكف رستم عن القتال، وطمع أن يضجر المسلمون بمكانهم، وكف سعد عنهم والمسلمون، وصبروا رجاء أن يصالحوا عن بلادهم ويعطوا الجزية ويسلموا. وكان عمرا، رحمه الله، قد عرف أن القوم سيطاولونهم فلذلك ما عهد إلى سعد والمسلمين أن ينزلوا على حدود أرضهم وأن يطاولوهم أبدا حتى ينقضوهم، فحينئذ نزلوا القادسية وقد وطنوا أنفسهم على الصبر، وأبى الله إلا أن يتم نوره، وإذا أراد الله أمرا أصابه، فأقاموا واطمأنوا، فكانوا يغيرون على السواد، فانتسفوا ما يليهم فحووه، وأعدوا للمطاولة، أو يفتح عليهم.

وكان عمر، رضى الله عنه، يمدهم بالأسواق إلى ما يصيبون، فلما رأى ذلك يزدجرد من أمرهم، وعلم أنهم غير منتهين، وأنه إن أقام لم يتركوه، وشكا إليه عظماء أهل فارس من نزولهم القادسية، وإخرابهم البلاد بالغارات، ورستم كاف عنهم، مقيم بإزائهم، أمر رستم بالشخوص لمناجزتهم، ورأى رستم أن ينزل بينهم وبين العتيق، ثم يطاولهم مع المنازلة، ورأى أن ذلك أمثل ما هم عاملون، حتى يصيبوا من الإحجام حاجتهم وتدور لهم سعود. وعن سيف «1» عن رجاله، قالوا: وجعلت السرايا تطوف، ورستم بالنجف، والجالينوس بين النجف والسيلحين، وذو الحاجب بين رستم والجالينوس، وقال الناس لسعد: قد ضاق بنا المكان فأقدم، فزجر من كلمه بذلك، وقال: إذا كفيتم الرأى فلا تكلفوا، فإنا لن نقدم إلا على رأى ذوى الرأى، فاسكتوا ما سكتنا عنكم. وعن أبى عثمان النهدى «2» أن سعدا، رحمه الله، لما نزل رستم النجف بعث الطلائع، وأمرهم أن يصيبوا رجلا ليسأله عن أهل فارس، فأخرج طليحة فى خمسة، وعمرو بن معدى كرب فى خمسة، وذلك صبيحة قدم رستم الجالينوس وذا الحاجب وهم لا يشعرون بفصولهم من النجف، فلم يسيروا إلا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الصفوف قد ملؤها، فقال بعضهم: ارجعوا إلى أميركم فإنه سرحكم وهو يرى أن القوم بالنجف فأخبروه الخبر، وقال بعضهم: ارجعوا لا ينذر بكم عدوكم. فقال عمر لأصحابه: صدقتم، وقال طليحة لأصحابه: كذبتم، ما بعثتم لتخبروا عن السرح، أو ما بعثتم إلا للخبر، قالوا: فما تريد؟ قال: أريد أن أخالط عسكر القوم أو أهلك، قالوا: أنت رجل فى نفسك غرر، ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن، فارجع معنا، فأبى. وأتى سعد الخبر برحيل فارس، فبعث قيس بن هبيرة، وأمره على مائة، وعليهم أن لقيهم، فانتهى إليهم وقد افترقوا، وفارقهم طليحة، فرجع بهم قيس فأخبروا سعدا بقرب القوم، ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم، وبات فيه يجوسه وينظر ويتوسم. فلما أدبر الليل أتى أفضل من توسم فى ناحية العسكر، فإذا فرس لم ير فى خيل القوم مثله، وفسطاط أبيض لم ير مثله، فانتضى سيفه، فقطع مقود الفرس، ثم ضمه إلى مقود فرسه، وحرك فرسه فخرج يعدو به، ونذر به القوم، فتنادوا وركبوا الصعبة والذلول، فخرجوا فى طلبه، فلحقه وقد أصبح فارس من الجند، فلما غشية وبوّأ له الرمح

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 510) . (2) انظر: الطبرى (3/ 512- 514) .

ليطعنه عدل طليحة فرسه، فبدر الفارسى بين يديه، فكر عليه طليحة فقسم ظهره بالرمح، ثم لحق به آخر ففعل به مثل ذلك، ولحق به آخر وقد رأى مصرع صاحبيه، وهما ابنا عمه، فازداد حنقا ففعل معه طليحة كما فعل معهما، ثم كر عليه ودعاه إلى الإسار، فعرف الفارسى، أنه قاتله، فاستأسر، وأمره طليحة أن يركض بين يديه، ففعل، ولحق الناس، فرأوا فارسى الجند قد قتلا وأسر الثالث، وقد شارف طليحة عسكر المسلمين، فأحجموا ونكصوا. وأقبل طليحة حتى غشى العسكر، وهم على تعبئة، فأفزع الناس، وجوزوه إلى سعد، فلما انتهى إليه قال: ويحك ما وراءك قال: دخلت عساكرهم وجستها، وقد أخذت أفضلهم توسما، وما أدرى أصبت أو أخطأت وها هو ذا فاستخبره. فأقيم الترجمان بين سعد وبين الفارسى، فقال الفارسى: أتؤمننى على دمى إن صدقتك؟ قال: نعم، والصدق فى الحرب أحب إلينا من الكذب، قال: أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلى، باشرت الحرب وغشيتها، وسمعت بالأبطال ولقيتها مذ أنا غلام إلى أن بلغت ما ترى، فلم أر ولم أسمع بمثل هذا، أن رجلا قطع عسكرين لا يجترئ عليهما الأبطال إلى عسكر فيه سبعون ألفا يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة إلى ما هو دون ذلك، فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فارس الجند وهتك أطناب بيته، وطلبناه فأدركه الأول وهو فارس الناس، يعدل بألف فارس، فقتله، ثم أدركه الثانى، وهو نظيره فقتله، ثم أدركته ولا أظننى خلفت بعدى من يعدلنى، وأنا الثائر بالقتيلين، وهما ابنا عمى، فرأيت الموت فاستأسرت ثم أخبره عن أهل فارس، أن الجند عشرون ومائة ألف، وأن الأتباع مثلهم خدام لهم. وأسلم الرجل وسماه سعد مسلما، وعاد إلى طليحة فقال: لا والله ما تهزمون ما دمتم على ما أرى من الوفاء والصدق والإصلاح والمواساة، لا حاجة لى فى صحبة فارس، فكان من أهل البلاء يومئذ. وعن موسى بن طريف «1» أن سعدا بعث طليحة وعمرو بن معدى كرب، فأمر طليحة بعسكر رستم، وأمر عمرا بعسكر الجالينوس، فخرج فى عدة، وخرج طليحة وحده، فبعث قيس بن هبيرة فى آثارهما، وقال: إن لقيت قتالا فأنت عليهم، فخرج حتى تلقى عمرا، فسأله عن طليحة، فقال: لا علم لى به، فلما انتهيا إلى النجف قال له قيس: ما تريد؟ قال: أن أغير على أدنى عسكرهم، قال: فى هؤلاء قال: نعم، قال: لا أدعك والله وذاك أتعرض المسلمين لما لا يطيقون قال: وما أنت وذاك قال: إنى أمرت

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 511) .

عليك، ولو لم أكن أميرا لم أدعك. فقال عمرو بعد أن شهد لقيس نفر باستعمال سعد إياه عليه وعلى طليحة: والله يا قيس، إن زمانا تكون علىّ فيه أميرا لزمان سوء؛ لأن أرجع عن دينكم هذا إلى دينى الذى كنت عليه وأقاتل عليه حتى أموت أحب إلىّ أن تؤمر علىّ ثانية، ولئن عاد صاحبك الذى بعثك لمثلها لنفارقنه، قال: ذلك إليك بعد مرتك هذه، فرده، فرجع إلى سعد بالخبر وبأعلاج وأفراس، وشكا كل واحد منهما لصاحبه، أما قيس فشكا عصيان عمرو، وأما عمرو فشكا طاعة قيس، فقال سعد: يا عمرو، الخير وسلامة مائة أحب إلىّ من مصاب مائة تقتل ألفا، أتعمد إلى حلبة فارس فتصادمهم بمائة؟ إن كنت لأراك أعلم بالحرب مما أرى. فقال له عمرو: إن الأمر لكما. قلت: وخرج طليحة حتى أتى النجف فدخل عسكر رستم فى ليلة مقمرة، فتوسم فيه، فهتك أطناب بيت رجل عليه واقتاد فرسه، ثم خرج حتى مر بعسكر ذى الحاجب، فهتك على آخر بيته وحل فرسه، ثم خرج حتى أتى الخرار واتبعه هؤلاء، فكان أولهم لحاقا به الجالينوس ثم الحاجبى ثم النخعى، فأصاب الأولين وأسر الآخر، وأتى به سعدا فأخبره، وأسلم فسماه سعد مسلما، ولزم طليحة فكان معه فى تلك المغازى كلها. وعن موسى بن طريف، أيضا، قال: قال سعد لقيس بن هبيرة: أخرج يا عاقل، فإنه ليس وراءك من الدنيا شىء تحنو عليه حتى تأتينى بخبر القوم، فخرج، وسرح معه عمرو ابن معدى كرب وطليحة، فلما جاز القنطرة لم يسر إلا يسيرا حتى انتهى إلى خيل عظيمة منهم بحيالها ترد عن عسكرهم، وإذا رستم قد ارتحل من النجف فنزل منزل ذى الحاجب، وارتحل الجالينوس فنزل ذو الحاجب منزله، ونزل الجالينوس بطيزناباذ «1» ، وقدم تلك الخيل، فقال قيس: قاتلوا عدوكم يا معشر المسلمين. فأنشب القتال، وطاردهم ساعة، ثم حمل عليهم، فكانت هزيمتهم، وأصاب منهم اثنى عشر رجلا، وأسر ثلاثة، وأصاب أسلاب، فأتوا سعدا بالغنيمة وأخبروه الخبر، فقال: هذه بشرى إن شاء الله، إذا لقيتم جمعهم الأعظم وحدهم، فلهم أمثالها، ودعا عمرا وطليحة، فقال: كيف رأيتما قيسا؟ فقال طليحة: رأيناه أكيس منا، وقال عمرو: الأمير أعلم بالرجال منا، فقال سعد: إن الله أحيا بالإسلام قلوبا كانت ميتة، وأمات به قلوبا كانت حية، وإنى أحذركما أن تؤثرا أمر الجاهلية على أمر الإسلام، فتموت قلوبكما وأنتما حيان، الزموا السمع والطاعة والاعتراف بالحقوق، فما رأى الناس كأقوام أعزهم الله بالإسلام.

_ (1) طيزناباذ: موضع بين الكوفة والقادسية على حافة الطريق، بينها وبين القادسية ميل. انظر: معجم البلدان (4/ 54، 55) .

قالوا: ولما انتهى رستم إلى العتيق، وقف عليه بحيال عسكر سعد، ونزل الناس، فما زالوا يتلاحقون وينزلهم فينزلون، حتى أعتموا من كثرتهم. وقال المدائنى: مكثوا ليلتهم كلها يتحدرون، ومن غد إلى قريب من نصف النهار بعده تجب منها القلوب. وقال قيس بن أبى حازم، وكان شهد القادسية: كان مع رستم ثمانية عشر فيلا، ومع الجالينوس خمسة عشر فيلا. وقال غيره: كان فى جملتها فيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه، وكان أعظمها وأقدمها. وقال الرفيل: كانت ثلاثة وثلاثون، فى القلب ثمانية عشر، وفى المجنبتين خمسة عشر. قال: ولما نزل رستم العتيق وبات به، أصبح غاديا على التصفح والتحرز، فساير العتيق نحو خفان، حتى أتى على مقطع عسكر المسلمين، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة، فتأمل القوم، حتى أتى على تل يشرف عليهم، فلما وقف على القنطرة أرسل زهرة بن جوية، وكان هناك مسلحة لسعد، فخرج إليه حتى واقفه، فأراده على أن يصالحهم، ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول إنكم جيراننا وقد كانت طائفة منكم فى سلطاننا، فكنا نحسن جواركم، ونكف الأذى عنكم، ونوليهم المرافق الكثيرة، ونحفظهم فى أهل باديتهم، فنرعيهم مراعينا، ونميرهم من بلادنا ولا نمنعهم التجارة فى شىء من أرضنا، فقد كان لهم فى ذلك معاش، يعرض له بالصلح ولا يصرح، فقال له زهرة: صدقت، قد كان ما تذكر، وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا طلبتهم. إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة، كما ذكرت، يدين لكم من قدم عليكم منا، ويضرع إليكم يطلب ما فى أيديكم، ثم بعث الله، عز وجل، إلينا رسولا، فدعانا إلى دينه فأجبناه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنى قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بدينى، فأنا منتقم بهم منه، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز. قال رستم: وما هو؟ قال: أما عموده الذى لا يصلح منه شىء إلا به، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله تعالى.

قال: ما أحسن هذا وأى شىء أيضا؟. قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى. قال: حسن، وأى شىء أيضا؟. قال: والناس بنو آدم وحواء، إخوة لأب وأم. فقال: ما أحسن هذا ثم قال له رستم: أرأيت لو أنى رضيت هذا الأمر وأجبتكم إليه ومعى قومى كيف يكون أمركم أترجعون؟. قال: إى والله، ثم لا نقرب بلادكم إلا فى تجارة أو حاجة. قال: صدقتنى والله، أما أن أهل فارس منذ ولى أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة، كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم: تعدوا طورهم، وعادوا أشرافهم. فقال له زهرة: نحن خير الناس للناس، ولا نستطيع أن نكون كما تقولون، نطيع الله فى السفلة، ولا يضرنا من عصى الله فينا. فانصرف عنه، ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فحموا منه، وأنفوا، فقال: أبعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أجزعنا وأجبننا. وعن سيف «1» عن رجاله، قالوا: أرسل سعد إلى المغيرة وبسر بن أبى رهم وعرفجة ابن هرثمة وحذيفة بن محسن وربعى بن عامر وقرفة بن أبى زاهر التيمى الوائلى ومذعور ابن عدى العجلى والمضارب بن يزيد وسعيد بن مرة، وهما من بنى عجل، أيضا، وكان سعيد من دهاة العرب، فقال لهم سعد: إنى مرسلكم إلى هؤلاء، فما عندكم؟. قالوا: نتبع ما تأمرنا به، وننتهى إليه، فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شىء نظرنا أمثل ما ينبغى وأنفعه للناس، فكلمناهم به. قال سعد: هذا فعل الحزمة، اذهبوا فتهيئوا. فقال ربعى بن عامر: إن الأعاجم لهم آراء وأدب، ومتى نأتهم جميعا يرون أنا قد احتفلنا لهم فلا تزدهم على رجل، فمالئوه جميعا على ذلك، فقال: فسرحنى، فسرحه، فخرج ربعى بن عامر ليدخل على رستم عسكره، فاحتبسه الذى على القنطرة، وأرسل

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 518) .

إلى رستم بمجيئه، فاستشار عظماء أهل فارس، فقال: ما ترون؟ أنباهى أم نتهاون؟ فاجتمع ملؤهم على المباهاة، فأظهروا الزبرج، وبسطوا البسط والنمارق، ولم يتركوا شيئا، ووضعوا لرستم سرير الذهب، وألبس زينته، من الأنماط والوسائد المنسوجة بالذهب. وأقبل ربعى يسير على فرس له زباء قصيرة، معه سيف له مشوف وغمده لفافة ثوب خلق، ورمحه معلوب بقد، معه حجفة من جلود البقر، على وجهها أديم أحمر مثل الرغيف، ومعه فرسه ونبله. فلما انتهى إلى أدنى البسط، قيل له: انزل، فحمل فرسه عليها، فلما استوت على البسط نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه، وإنما أروه التهاون، وعرف ما أرادوا، فأراد استحراجهم، وعليه درع له كأنه أضاة، ويلمقة عباءة بعيره، قد جابها وتدرعها، وشدها على وسطه بسلب، ولأسه أربع ضفائر، قد قمن قياما، كأنهن قرون الوعول، وكان أكثر العرب شعرة. فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إنى لم آتكم فأضع سلاحى بأمركم، أنتم دعوتمونى، فإن أحببتم أن آتيكم كما أريد وإلا رجعت. فأخبروا رستما، فقال: ائذنوا له، هل هو إلا رجل فأقبل يتوكأ على رمحه، وزجه نصل يقارب الخطو، ويزج النمارق والبسط، فما ترك لهم نمرقة ولا بساطا إلا أفسده وتركها متهتكة مخرقة. فلما دنا من رستم تعلق به الحرس، وجلس على الأرض، وركز رمحه فى البساط، فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم. فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا، وجاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبله قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا، حتى نفضى إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى. قال رستم: قد سمعنا مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا قال: نعم، كم أحب إليك؟ أيوم أم يومان؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل به أئمتنا، ألا نمكن الأعداء من بداتنا، ولا نؤجلهم عند الالتقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثا، فانظر فى أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجا منعناك، أو المنابذة فى اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما

بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، أنا كفيل لك بذلك على جميع من ترى. قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين فيما بينهم كالجسد بعضهم من بعض، يجير أدناهم على أعلاهم. فخلص رستم برؤساء أهل فارس، فقال: ما ترون؟ هل سمعتم كلاما قط أوضح نصرا ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله أن تميل إلى شىء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه فقال: ويحكم لا تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الرأى والكلام والسيرة، إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب، ليسوا مثلكم فى اللباس، ولا يرون فيه ما ترون. وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه ويزهدونه فيه، فقال لهم: هل لكم أن ترونى فأريكم؟ فأخرج سيفه من خرقة كأنه شعلة نار. ثم رمى ترسا ورموا حجفته، فخرق ترسهم وسلمت حجفته. فقال: يا أهل فارس، إنكم عظمتم الطعام والشراب، وأنا صغرناهما، ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل. فلما كان الغد بعثوا: أن ابعث إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن، فأقبل فى نحو ذلك الزى، حتى إذا كان على أدنى البساط، قيل له: أنزل، قال: ذلك لو جئتكم فى حاجتى، فقولوا لملككم: أله حاجة أم لى؟ فإن قال لى فقد كذب، ورجعت عنه، وتركتكم، وإن قال له، لم آته إلا على ما أحب. فقال: دعوه، فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره، فقال له: انزل، قال: لا أفعل، فلما أبى سأله: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا فى الشدة والرخاء، فهذه نوبتى. قال: ما جاء بكم؟ قال: الله عز وجل منّ علينا بدينه، وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين. ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث، فأيها أجابوا إليه قبلناه: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة. فقال: أو الموادعة إلى يوم. فقال: نعم، ثلاثا من أمس. فلما لم يجد عنده إلا ذلك رده، وأقبل على أصحابه فقال: وليكم ألا ترون ما أرى؟ جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم، وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به، فهو فى يمن الطائر، ذهب بأرضنا وما فيها إليهم، مع فضل عقله. وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا، فهو فى يمن الطائر سيقوم على أرضنا دوننا، فراده أصحابه الكلام حتى أغضبوه وأغضبهم. فلما كان من الغد أرسل: أبعثوا إلينا رجلا، فبعثوا إليه المغيرة بن شعبة. قالوا: فلما جاء إلى القنطرة يعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستما فى إجازته، فأذن فى ذلك، فأقبل المغيرة والقوم فى زيهم فى الأمس، لم يغيروا شيئا من شارتهم، تقوية

لتهاونهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها غلوة، وجاء المغيرة وله أربع ضفائر يمشى، حتى جلس معه على سريره وشارته، فوثبوا إليه فنتروه وأنزلوه ومغثوه، فقال: إنه كانت تبلغنا عنكم أحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذى صنعتم أن تخبرونى أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم آتكم ولكنكم دعوتمونى، زاد المدائنى: وليس ينبغى لكم إذا أرسلتم إلىّ أن تمنعونى من الجلوس حيث أردت، وما أكلمكم إلا وأنا جالس معه، اليوم علمت أنكم مغلوبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول. فقالت السفلة: صدق والله العربى، وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا يزال خولنا والضعفاء منا ينزعون إليه، قاتل الله أولينا، ما كان أحمقهم حين يصغرون أمر هذه الأمة فمازحه رستم ليمحو ما صنع به، فقال له: يا عربى، إن الحاشية قد تصنع ما لا يوافق الملك، فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما ينبغى من ذلك، والأمر على ما تحب من الوفاء وقبول الحق، وليس ما صنعوا بضائرك ولا ناقصك عندنا، فاجلس حيث شئت، فأجلسه معه، ثم قال: ما هذه المغازل التى معك؟، يعنى السهام، قال: ما ضر الجمرة أن لا تكون طويلة ثم راماهم، ثم قال له رستم: تكلم أو أتكلم؟ فقال المغيرة: أنت الذى بعثت إلينا، فتكلم، فأقام الترجمان بينهما، وتكلم رستم، فحمد قومه، وعظم الملك والمملكة، وقال: لم نزل متمكنين فى البلاد، ظاهرين على الأعداء، أشرافا فى الأمم، ليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا، ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم أو اليومين أو الشهر أو الشهرين، لأجل الذنوب، فإذا انتقم الله منا فرضى رد إلينا عزنا، ثم إنه لم تكن فى الناس أمة أصغر عندنا أمرا منكم، كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة، لا نراكم شيئا ولا نعدكم، وكنتم إذا قحطت أرضكم وأصابتكم السنة استعنتم بناحية أرضنا فنأمر لكم بشىء من التمر والشعير ثم نردكم، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا ما أصابكم من الجهد فى بلادكم، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكل واحد منكم بوقر من تمر وبثوبين، وتنصرفون عنا، فإنى لست أشتهى أن أقتلكم، ولا آسركم. فتكلم المغيرة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله سبحانه خالق كل شىء ورازقه، يرفع من يشاء ويضع من يشاء، فمن صنع شيئا فإن الله، تبارك اسمه وتعالى،

هو يصنعه والذى صنعه. وأما الذى ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكين فى البلاد وعظم السلطان فى الدنيا، فنحن نعرفه ولا ننكره، والله صنعه لكم، ووضعه فيكم، وهو له دونكم، وأما ما ذكرت فينا من سوء الحال، وضيق المعيشة، واختلاف القلوب، فنحن نعرفه، والله ابتلانا بذلك، وصيرنا إليه، والدنيا دول، ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه، وأهل رخائها يتوقعون الشدة حتى تنزل بهم، ويصيروا إليها، ولو كنتم فيما آتاكم الله دوننا أهل شكر، لكان شكركم يقصر عما أوتيتم، ولأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر، كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا، ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه، إن الله تعالى بعث فينا رسولا، فكذبه مكذبون وصدقه منا آخرون، وأظهر الله دعوته، وأعز دينه على كره ممن كذبه وحاده، حتى دخلوا فى الإسلام طوعا وكرها، فأمرنا أن ندعو من خالفنا إلى ديننا، فمن أباه قاتلناه. وذكر نحو ما تقدم من الكلام فى الأحاديث المتقدمة من دعائه إلى الإسلام، وقال له: فإن أبيت فكن لنا عبدا تؤدى الجزية عن يد وأنت صاغر، وإلا السيف إن أبيت. فنخر رستم عند ذلك نخرة واستشاط غضبا، ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الضحى غدا حتى أقتلكم أجمعين. فانصرف المغيرة، وخلص رستم بأشراف فارس، فقال: أين هؤلاء منكم؟ ما بعد هذا؟ ألم يأتكم الأولان فجسراكم واستخرجاكم، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا، وسلكوا طريقا واحدا، ولزموا أمرا واحدا، هؤلاء والله الرجال، صادقين أو كاذبين، والله لئن كان بلغ من رأيهم وصونهم أمرهم أن لا يختلفوا، ما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم، وإن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شىء فلجوا وتجلدوا، فقال: والله إنى لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم، وإن هذا منكم رياء، فازدادوا لجاجا. وفى بعض الروايات أن مما قال المغيرة لرستم وقد توعد المسلمين بأنهم مقتولون، قال: هو الذى نتمنى، أن المقتول منا صائر فى الجنة، والهارب فى النار، وللباقى الصابر الظفر بحديث صادق ووعد لا خلف له، وقد أصبنا فى بلادكم حبة كأنها قطع الأوتار، فأكلنا منها وأطعمنا أهلينا، فقالوا: لا صبر لنا حتى تنزلونا هذه البلاد. قال رستم: أما لنقرننكم فى الجبال. قال المغيرة: أما وبنا حياة فلا.

قال رستم: ارجع إلى أصحابك واستعدوا للحرب، فليس بيننا وبينكم صلح، ولنفقأن عينك غدا. فقال المغيرة: وأنت ستقتل غدا إن شاء الله، وإن ما قلت لى ليسرنى، لولا أن أجاهدكم بعد اليوم لسرنى أن تذهبا جميعا. ورجع المغيرة فتعجبوا من قوله. فقال رستم: ما أظن هذا الملك إلا قد انقضى، وأن أجمل بنا ألا يكون هؤلاء أصبر منا، ولقد وعدوا وعدا ليموتن أو ليدركنه، ولقد حذروا وخوفوا من الفرار خوفا لا يأتونه، وقد رأيت ليلتى هذه كأن القوس التى فى السماء خرت، وكأن الحيتان خرجن من البحر، وأن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم، فهل لكم أن تقبلوا بعض ما عرضوا عليكم؟ قالوا: لا. قال: فأنا رجل منكم، وكتب إلى يزدجرد بما كلمه به المغيرة، فقال شاهين الأزدى: لو لم يكن إلا ساسة دوابنا لأخذناهم بهم. فكتب إليه أمره بقتالهم، وقال: إذا لقيتهم فضع الرجال فيما بينى وبينك، على كل ربوة رجلا، فكلما حدث أمر نادى به بعضهم بعضا حتى يفضى الخبر إلىّ. وحدث سيف «1» عن رجاله، قالوا: أرسل إليهم سعد بقية ذوى الرأى جميعا، وحبس الثلاثة، فخرجوا حتى أتوه، فقالوا له: إن أميرنا يقول لك: إن الحرب تحفظ الولاة، وإنى أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك، وهى العاقبة بأن تقبل منا ما دعاك الله، عز وجل، إليه، ونرجع إلى أرضنا، وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض، إلا أن داركم لكم، وأمركم فيكم، وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا، وكنا لكم عونا على أحد إن أرادكم أو قوى عليكم. واتق الله يا رستم، ولا يكونن هلاك قومك على يديك، فإنه ليس بينك وبين أن تغتبط إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك. فقال رستم: إنى قد كلمت منكم نفرا، ولو أنهم فهموا عنى رجوت أن تكونوا قد فهمتم، وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام، وسأضرب لكم مثلكم. إنكم كنتم أهل جهد فى المعيشة، وقشف فى الهيئة، لا تمتنعون ولا تنتصفون، فلم نسئ جواركم، ولم ندع مواساتكم، تقتحمون المرة بعد المرة، فنميركم ثم نردكم، وتأتوننا أجراء وتجارا فنحسن إليكم، فلما تطعمتم طعامنا، وشربتم شرابنا، وأظلكم ظلنا، وصفتم ذلك لقومكم، ثم دعوتموهم فأتيتمونا بهم، وإنما مثلكم فى ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 525- 528) .

كرم، فرأى فيه ثعلبا، فقال: وما ثعلب فانطلق الثعلب، فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم، فلما اجتمعت عليه سد عليها صاحب الكرم مدخلها فقتلها، وقد علمت أن الذى حملكم على هذا الحرص والطمع مع الجهد، فارجعوا عنا عامكم هذا، وامتاروا حاجتكم، ولكم العود كلما احتجتم، فإنى لا أشتهى أن أقتلكم، وقد أصاب أناس كثير منكم ما أرادوا من أرضنا، ثم كان مصيرهم القتل والمهرب، ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى، وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئا أصيب بعضهم ونجا بعضهم، وخرج مما كان أصاب، ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جرذان ألفت جرة فيها حب، وفى الجرة ثقب، فدخل الأول فأقام فيها، وجعلت الأخر ينقلن منها ويرجعون ويكلمنه فى الرجوع، فيأبى، فانتهى سمن الذى فى الجرة، فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله، فضاق عليه الجحر، ولم يطق الخروج، فشكى القلق إلى أصحابه، وسألهم المخرج، فقالوا: ما أنت بخارج منها حتى تعود كما كنت قبل أن تدخل، فكف وجوع نفسه، وبقى فى الجرة، حتى إذا عاد كما كان أتى عليه صاحب الجرة فقتله، فاخرجوا أو ليكونن هذا لكم مثلا. وقال لهم، أيضا، فيما قال: لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب، ما خلاكم يا معشر العرب، ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع، ومثلكم فى هذا مثل الذباب إذا رأى العسل طار، وقال: من يوصلنى إليه وله درهمان حتى يدخله؟ لا ينهاه أحد إلا عصاه، فإذا دخله غرق ونشب، وقال: من يخرجنى وله أربعة دراهم؟ وضرب للقوم أمثالا غير هذه نحوا منها. قالوا: فتكلم القوم، فقالوا: أما ما ذكرت من سوء حالنا فيما مضى، وانتشار أمرنا، فلم نبلغ كنهه يموت الميت منا إلى النار، ويبقى الباقى منا فى بؤس، فبينا نحن فى أسواء ذلك، فبعث الله، عز وجل، فينا رسولا من أنفسنا إلى الإنس والجن، رحمة رحم بها من أراد رحمته، ونقمة ينتقم بها ممن رد كرامته، فبدأ بنا قبيلة قبيلة، فلم يكن أحد أشد عليه ولا أشد إنكارا لما جاء به، ولا أجهد على قتله ورد ما جاء به من قومه، ثم الذين يلونهم، حتى طابقناه على ذلك كلنا، فنصبنا له جميعا، وهو وحده فرد ليس معه إلا الله تعالى فأعطى الظفر علينا، فدخل بعضنا طوعا وبعضنا كرها، ثم عرفنا جميعا الحق والصدق لما أتى به من الآيات المعجزة، وكان مما أتى به من عند ربنا، عز وجل، جهاد الأدنى فالأدنى، فصرنا فى ذلك فيما بيننا، نرى أن الذى قال لنا ووعدنا لا نخرج عنه ولا ننقص منه، حتى اجتمعت العرب على هذا، وكانوا من الاختلاف فيما لا يطيق

الخلائق بالتفهم معه، ثم أتيناكم بأمر ربنا، نجاهد فى سبيله، وننفذ لأمره، ونستنجز موعوده، وندعوكم إلى الإسلام وأحكامه، فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا، وخلفنا فيكم كتاب الله، عز وجل، وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزاء، فإن فعلتم وإلا فإن الله، عز وجل، قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا، فو الله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم، ولقتالكم بعد أحب إلينا من صلحكم، وأما ما ذكرت من رثاثتنا وقلتنا فإن إرادتنا الطاعة، وقتالنا الصبر وأما ما ضربتم لنا من الأمثال، فإنكم ضربتم للرجال وللأمور الجسام وللجد الهزل، ولكنا سنضرب لكم مثلا، وإن مثلكم مثل رجل غرس أرضا، واختار لها الشجر والحب، وأجرى لها الأنهار، وزينها بالقصور، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها، ويقومون على جناتها، فخلفه الفلاحون فى القصور بما لا يحب، وفى الجنان بمثل ذلك، فأطال نظرتهم، فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم، استعتبهم فكابروه، فدعا إليهم غيرهم، فأخرجهم منها، فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس، وإن أقاموا صاروا خولا لهم يملكونهم ويسومونهم الخسف أبدا، والله لو لم يكن ما نقول لكم حقا، ولم تكن إلا الدنيا، لما كان لنا عما ضربنا به من لذيذ عيشكم، ورأينا من زبرجكم من صبر، ولقارعناكم أو نغلبكم عليه. فقال رستم: أتعبرون إلينا أو نعبر إليكم؟ فقالوا: بل اعبروا إلينا، فخرجوا من عنده عشيا، فأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم: شأنكم والعبور، فأرادوا القنطرة، فأرسل إليهم: لا ولا كرامة أما شىء قد غلبناكم عليه فلن نرده عليكم، تكلفوا معبرا غير القناطر، فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بأمتعتهم. وذكر المدائنى أن رستم وجه الجالينوس ليعبر القنطرة، فوقف بحيال زهرة بن جوية، وكان عليها، وقال: ليخرجن إلىّ الموكل بهذا الموضع، فخرج زهرة على فرس كميت أغر ذنوب، معه رمح معلوب، وسيف رث الجفن، فقال له الفارسى: إنك لم توضع هذا الموضع إلا وأنت ركن من أركان أصحابك، وأرى سيفك رث الجفن، قال: إن يكن رث المنظر فإنه حديد الضربة، وقرب إليه الفارسى بالصلح ولم يصرح، ومناه، وقال: نحسن جواركم ونرفقكم فى معايشكم. فقال زهرة: إنا لم نأتكم نطلب الدنيا بغير آخرة، إنما أتيناكم ندعوكم إلى ديننا، فإن أبيتموه فدنياكم التى تعرضون علينا لنا إن شاء الله، فقال له الفارسى: فخلوا لنا الطريق فنعبر إليكم فنناجزكم، قال: لا، قال: ولم وأنتم تمنون لقاءنا قال: نكره أن نرد عليكم شيئا قد غلبناكم عليه، فرجع إلى رستم فأخبره، فأعظم ذلك، فانصرف الجالينوس، فجلس رستم يفكر فيما أخبره، وغلبته عيناه فنام

فانتبه ويده فى كتف جارية قاعدة بين يدى فراشه، فقال: ما لك؟ قالت: مالت يدك فرفعتها، فقال: أشفقت أن سقطت من فراش ديباج على بساط ديباج؟ فكيف بها غدا إذا انعفرت فى التراب ووطئتها الخيل؟ قالت: وما يضطرك إلى ذلك؟ وقد أعطوك ما لك فيه نصف ونجاة: إما أن تدخل فى دينهم فتكون مثلهم، وإما أن تفتدى منهم بشىء تعطيهم ويبقى لك أمرك، وإما أن تذهب إلى مأمنك من الأرض؟ فقال: إن فى عنقى حبلا أقاد به إلى مصرعى، لا أقدر على الامتناع. وبات العاجم ليلتهم يسكرون العتيق بالقصب والتراب والبراذع حتى جعلوه طريقا، واستتم بعد ما ارتفع النهار من الغد. قالوا: ورأى رستم من الليل أن ملكا نزل من السماء فأخذ قسى أصحابه فختم عليها، ثم صعد بها إلى السماء، فاستيقظ مهموما حزينا، فدعا خاصته وقصها عليهم، وقال: إن الله، عز وجل، ليعظنا، لو أن فارس تركونى أتعظ، أما ترى النصر قد رفع عنا وترى الريح مع عدونا وأنا لا نقوم لهم فى فعل ولا منطق؟. يوم أرماث ولما تم السكر عبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق، ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم، وجلس رستم على سريره، وضربت عليه طيارة، وعبأ فى القلب ثمانية عشر فيلا، عليها الصناديق والرجال، وفى المجنبتين ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال، وأقام الجالينوس بينه وبين ميمنته والبيزران بينه وبين ميسرته، وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين والمشركين. وأخذ المسلمون، أيضا، مصافهم، وكانت التعبئة التى تقدم بها سعد قبل انفصاله عن شراف بإذن عمر، رضى الله عنه، أن جعل على المقدمة زهرة بن الجوية، وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم، وكان من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، وأحد التسعة الذين قاموا عليه فتممهم طلحة بن عبيد الله عشرة فى العرافة، وعلى الميسرة شرحبيل بن السمط الكندى، وكان شابا قد قاتل أهل الردة على الردة، ووفى الله عز وجل، فعرف ذلك له، وعلى الساقة عاصم بن عمرو السعدى، وعلى الطلائع سواد بن مالك التميمى، وعلى المجردة سلمان بن ربيعة الباهلى، وعلى الرجال حمال بن مالك الأسدى، وعلى الركبان عبد الله بن ذى السهمين الخثعمى، فلما تصافوا يومئذ جعل سعد زهرة وعاصما بين عبد الله بن المعتم،

وبين شرحبيل بن السمط، ووكل صاحب الطلائع بالطرد، وخلط بين الناس فى القلب والمجنبات، ونادى مناديه: ألا إن الحسد لا يحل إلا على الاجتهاد فى أمر الله تعالى يا أيها الناس، فتحاسدوا وتغايروا على الاجتهاد. وذكر المدائنى أنه كان على الميمنة يوم القادسية شرحبيل بن السمط، وعلى الميسرة هاشم بن عتبة، وعلى الخيل قيس بن مكشوح، وعلى الرجل المغيرة بن شعبة، فالله تعالى أعلم. وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس، كان به عرق النسا ودماميل، وإنما هو على وجهه وفى صدره وسادة، وهو مكب عليها، مشرف على الناس من القصر، يرمى بالرقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة، وهو أسفل منه، وكان الصف إلى جانب القصر، وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدا مشرفا. وقيل: بل استخلفه على الناس لأجل شكواه، فاختلف عليه الناس، فقال سعد: احملونى، فأشرفوا به على الناس، فارتقوا به، فأكب مطلعا عليهم، والصف فى أصل حائط قديس، حيث كان سعد يأمر خالدا فيأمر خالد الناس، وكان ممن شغب عليه وجوه من وجوه الناس، فهم بهم سعد وشتمهم، وقال: أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلكم نكالا لغيركم فحبسهم فى القصر وقيدهم، منهم أبو محجن الثقفى. وقال جرير يومئذ: أما أنى بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن أسمع وأطيع لمن ولى الأمر وإن كان عبدا حبشيا. وقال سعد: والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويساغبهم وهم بإزائهم إلا سننت فيه سنة يؤخذ بها من بعدى. وذكر المدائنى أنه أتى رستما رجل من أهل الحيرة ليلا، فقال له: أمير المسلمين وجع، وهو فى قصر العذيب مع العيال، ولو طرقته خيل لقتل لا يشعر به أصحابه، فانتخب رستم خمسمائة فارس، فوجههم، إليه، فترفعوا عن العسكرين وقطعوا الوادى، وأخذوا فى خفض من الأرض، وجاء رجل من العجم إلى المسلمين مستأمنا، فأخبرهم، فانتدب حنظلة بن الربيع الأسيدى فى خمسمائة من تحت الليل، فسار إلى العذيب، وقال لأصحابه: إنه ليطيب نفسى أن عبد الله بن سبرة عند سعد، فانتهى إلى سعد عند طلوع الفجر ولم تصل إليهم الفرس، فأنذروه وأصبحوا فإذا الأساورة متحدرون من ناحية وادى السباع، فتلقاهم عبد الله بن سبرة الواقفى، أحد بنى حرملة بن سعد بن مالك بن

ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، فى سرعان الناس، معه عشرة فوارس وغلام له روى يقال له يزيد، كان أصابه يوم اليرموك، واتبعهم حنظلة فى أصحابه، فقتل عبد الله بن سبرة قبل أن تتام إليه الخيل أسوارين. وقال مرة الهمدانى، وكان مع حنظلة: لما دنونا من معتركهم سمعنا صوتا منكرا شديدا، فقال حنظلة: صوت ابن الكندية ورب الكعبة، بعض هنات أبى قيس، فانتهينا إليهم فإذا عبد الله بن سبرة يذمر أصحابه وهو يقول لغلامه: يا يزيد ثكلتك أمك إن فاتك أحد، وقد انكسر رمحه، وهو يضربهم بعمود ما يضرب به رجلا إلا قتله، ولا دابة إلا عقرها، وإن غلامه ليذودهم عليه بالرمح، فلما غشيهم حنظلة وأصحابه انهزموا، فما تشاء أن تجد الخمسة والستة من المسلمين يخفقون أسوارا بأسيافهم إلا وجدته، فقتل منهم ثلاثون، ويقال مائة، وأفلت الآخرون أكثرهم جريح، فرجعوا إلى رستم، فطلب الحيرى ليقتله وظن أنه عين دس له فلم يقدر عليه، وتحول سعد فنزل مع جماعة الناس. وفيما حكاه سيف عن رجاله «1» : أن سعدا، رحمه الله، بعد ما تهدم على الذين اعترضوا على خالد بن عرفطة خطب من يليه يومئذ فحمد الله وأثنى عليه. وقال: إن الله وهو الحق، وقوله الحق، لا شريك له فى الملك، وليس لقوله خلف، قال: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] ، إن هذا ميراثكم وهو موعد ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج، وأنتم تطعمون منها وتأكلون، وتقتلون أهلها، وتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم، بما نال منه أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب، وأعيانهم، وخيار كل قبيلة، وعز من وراءكم، فإن تزهدوا فى الدنيا وترغبوا فى الآخرة يجمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك أحدا إلى أجله، وأن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم وتوبقوا آخرتكم. وكتب سعد إلى أهل الرايات: إنى قد استخلفت عليكم خالد بن عرفطة، وليس يمنعنى أن أكون مكانه إلا وجعى الذى كان يعودنى، وما بى من جبون، وإنى مكب على وجهى وشخصى لكم باد، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه إنما يأمركم بأمرى، ويعمل برأيى. فقرئ على الناس فزادهم خيرا، فانتهوا إلى رأيه، وقبلوا منه، وتحاثوا على السمع والطاعة، وأجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع.

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 531، 532) .

قالوا: وأرسل سعد للذين انتهى إليهم رأى الناس، والذين انتهت إليهم نجدتهم، وأصناف الفضل منهم إلى الناس، فقال: انطلقوا فقوموا فى الناس بما يحق عليكم وعليهم عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذى أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا فيهم، وحرضوهم على القتال. فساروا فيهم. فقال قيس بن هبيرة: أيها الناس، احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم يزدكم، واذكروا آلاء الله، وارغبوا إليه فى عادته، فإن الجنة والغنيمة أمامكم، وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء، والأرض القفر، والظراب الخشن، والفلوات التى لا تقطعها الأدلة. وقال غالب بن عبد الله الليثى: أيها الناس، احمدوا الله على ما أبلاكم، وسلوه يزدكم، وادعوه يجبكم، يا معشر معد، ما علتكم اليوم وأنتم فى حصونكم، يعنى الخيل، ومن لا يعصيكم معكم، يعنى السيوف؟ فاذكروا حديث الناس فى غد، فإنه بكم غدا يبدأ، وبمن بعدكم يثنى. وقال ابن الهذيل الأسدى: يا معشر معد، اجعلوا حصونكم السيوف، وكروا عليهم كأسود الجم، وتربدوا إليهم تربد النمور، وادرعوا العجاج، وثقوا بالله تعالى وغضوا الأبصار، فإذا كلت السيوف فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه. وقال بسر بن أبى رهم: احمدوا الله، وصدقوا قولكم بفعل، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، انصروا الله ينصركم، ولا يكونن شىء بأهون عليكم من الدنيا، فإنها تأتى من تهاون بها، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم. وقال عاصم بن عمرو: يا معشر العرب، إنكم أعيان العرب، وقد صمدتم لأعيان العجم، إنما تخاطرون بالجنة، ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم. لا تحدثن اليوم أمرا تكونون به شينا على العرب غدا. وقال ربيع السعدى: يا معشر العرب، قاتلوا للدين والدنيا، سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] ، فإن عظم الشيطان عليكم الأمر، فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل. وتقدم كل واحد من أولئك الذين بعثهم سعد من وجوه الناس بمثل هذا الكلام، وتواثق الناس، وتعاهدوا، واهتاجوا لكل ما ينبغى لهم.

وفعل أهل فارس، فيما بينهم، مثل ذلك، وتعاهدوا وتواصوا، واقترنوا بالسلاسل، وكان المقترنون ثلاثين ألفا. وقال سعد للناس: الزموا مواقفكم، لا تحركوا شيئا حتى نصلى الظهر، فإذا صليتم الظهر فإنى مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا، واعلموا أن التكبير لم يعطه أحد قبلكم، وإنما أعطيتموه تأييدا، فإذا سمعتم الثانية فكبروا، ولتستتموا عدتكم، فإذا كبرت الثالثة فكبروا، ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا ويطاردوا، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعا حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. ويروى أنه لما نادى منادى سعد بالظهر، نادى رستم: أكل عمر كبدى أحرق الله كبده علم هؤلاء حتى علموا. وقيل: إن رستم قال نحوا من هذا عند ما نزل بين الحصن والعتيق، وقد أذن مؤذن سعد الغداة، وراى الناس يتخشخشون، فنادى فى أهل فارس: أن اركبوا، فقيل له: ولم؟ قال: أما ترون إلى عدوكم قد نودى فيهم فتخشخشوا لكم؟ فقال له رجل قد كان رستم بعثه قبل ذلك عينا إلى عسكر المسلمين فانغمس فيهم وعرف حالهم، وانصرف إليه: فأخبره أن ذلك تخشخشهم للصلاة. فقال رستم بالفارسية ما تفسيره: أتانى صوت عند الغداة، وإنما هو عمر الذى يعلم الكلاب العقل، فلما سمع الأذان بالصلاة قال: أكل عمر كبدى. قالوا: ولما صلى سعد الظهر أمر غلاما كان عمر، رحمه الله، ألزمه إياه، وكان من القراء، بقراءة سورة الجهاد، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها، فقرأها على الكتيبة التى تليه، وقرئت فى كل كتيبة، فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها. قال مصعب بن سعد: وكانت قراءتها سنة، يقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند الزحف، ويستقرئها، فعمل الناس بذلك. قالوا: ولما فرغ القراء، كبر سعد فكبر الذين يلونه، وكبر بعض الناس بتكبير بعض، فتخشخش الناس، ثم ثنى فاستتم الناس، ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال، وخرج أمثالهم من فارس، فاعتوروا الطعن والضرب، وخرج غالب بن عبد الله الليثى وهو يقول: قد علمت واردة المسالح ... ذات البنان واللبان الواضح

أنى سمام البطل المشايح ... وفارج الأمر المهم الفادح فخرج إليه هرمز، وكان من ملوك الباب، وكان متوجا، فأسره غالب أسرا، فجاء به فأدخل إلى سعد، وانصرف غالب للمطاردة. وذكر المدائنى أن رستم أمر هرمز فتقدم فى كتيبة، فشد عليه غالب وزهرة بن جوية، فسبق إليه غالب فى خيل فقتله. قالوا: وخرج عاصم بن عمرو وهو يقول: قد علمت صفراء بيضاء اللبب ... مثل اللجين يتغشاه الذهب أنى أمر إمرار السبب ... مثلى على مثلك يعديه الكثب فطارد رجلا من أهل فارس، فهرب منه واتبعه، حتى إذا خالط صفهم والتقى بفارس معه بغل، فترك الفارس البغل، واعتصم بأصحابه فحموه، واستاق عاصم البغل والرحل، حتى آوى إلى الصف، وإذا الفارس خباز الملك، وإذا الذى كان معه لطف الملك: الأخبصة والعسل المعقد، فنفل ذلك سعد أهل موقف عاصم، وبعث إليهم ليأكلوه وهم فى موقفهم. وجال عمرو بن معدى كرب بين الصفين يحرض الناس، ويقول: إن الرجل من هذه الأعاجم إذا ألقى من فرسه فإنما هو تيس. قال قيس بن أبى حازم: فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم، فوقف بين الصفين فرماه بنشابة فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها، فالتفت إليه ثم حمل عليه، فاعتنقه، ثم أخذ بمنطقته فاحتمله فوضعه بين يديه، فجاء به حتى إذا دنا منا كسر عنقه، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه، ثم ألقاه. وقال: هكذا فافعلوا بهم. فقلنا: من يستطيع يا أبا ثور أن يصنع كما تصنع؟. وقال بعضهم: وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج كانت عليه. ثم كتبت الكتائب من هؤلاء وهؤلاء. وذكر المدائنى أن رستم ظاهر يومئذ بين درعين، وقرب له فرس فنزا عليه، ولم يمسه بيده، وقال: اليوم ندق العرب دقا. فقال له رجل: قل إن شاء الله. قال: إن شاء وإن لم يشأ، وقدم كتيبة عليها الدروع والمغافر والأداة الكاملة، فدفعوا إلى جعفى، وهم حديثو عهد بالشرك، فنازلوهم فلم تحك سيوفهم فى جنبهم، فظنوا أن الحديد لا يحك فيهم،

حتى حمل رجل منهم على أسوار فطعنه فقتله، ونادى: يا آل جعفى، السلاح تنفد فيهم فشأنكم بهم، ونحو هذا قول عمرو بن معدى كرب فى ذلك اليوم، وقد رماه رجل من أهل العجم بنشابة، فوقعت فى كتفه، وعليه درع حصينة، فلم تنفد، وحمل هو على الرجل فعانقه ثم صرعه قفتله، وقال: أنا أبو ثور وسيفى ذو النون ... أضربهم ضرب غلام مجنون يا زيد إنهم يموتون ولم يكن عمرو ولا قومه يجهلون أن القوم يموتون، ولكنه الشعر تحسن فيه هذه المآخذ، ويملح بهذه المقاصد. ومثله قول الآخر: القوم أمثالكم لهم شعر ... فى الرأس لا ينشرون إن قتلوا ويفوق هذا كله قول الله سبحانه، ولكتابه المثل الأعلى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء: 104] . وقد بعدنا عما كنا بسبيله، فلنعد إليه. قالوا: لما كتبت الكتائب بعد الطراد، وتزاحف الناس، صرفت الأعاجم فيولها نحو المسلمين، فوجهت إلى الوجه الذى فيه بجيلة ثلاثة عشر فيلا، وصفوا على سائر الناس سبعة عشر، ولما حمل أصحاب الفيلة تفرقت الكتائب، وابذعوت الخيل، وكادت بجيلة تؤكل، فرت خيلها نفارا، فأرسل سعد إلى بنى أسد: يا بنى أسد ذببوا على بجيلة ومن لافها من الناس، فخرج طليحة بن خويلد، وحمال بن مالك الأسدى وغالب بن عبد الله والرفيل بن عمرو فى كتائبهم فباشروا الفيلة، حتى عزلها ركبانها، وإن على كل فيل يومئذ عشرين رجلا. وقال موسى بن طريف: قام طليحة فى قومه حين استصرخهم سعد، فقال: يا عشيرتاه، إن المنوه باسمه، الموثوق به، أنتم، وإن هذا، يعنى سعدا، لو علم أن أحدا أحق بإغاثة هؤلاء منكم لاستغاثهم، ابدؤهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة، فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعلهم، شدوا ولا تصدوا، وكروا ولا تفروا، لله در ربيعة أى فرى يفرون وأى قرن يغنون هل يوصل إلى مواقفهم فأغنوا عن مواقفكم أعانكم الله، شدوا عليهم باسم الله. فقام المعرور بن سويد وشقيق، فشدوا والله عليهم فما زالوا يضربونهم

ويطعنونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم، وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه، فما ألبثه طليحة أن قتله. قالوا: وقام الأشعث بن قيس، فقال: يا معشر كندة، لله در بنى أسد أى فرى يفرون وأى هذ يهذون عن موقفهم منذ اليوم أغنى كل قوم ما يليهم، وأنتم تنظرون من يكفيكم البأس، أشهد ما أحسنتم أسوة إخوانكم من العرب، وأنهم ليقتلون ويقتلون، وأنتم جثاة على الركب، فوثب إليه منهم عشرة، فقالوا: عثر جدك إنك لتؤبسنا يا هذا، نحن أحسن الناس موقفا! فمن أين خذلنا قومنا العرب وأسأنا أسوتهم؟ فها نحن معك، فنهد ونهدوا، فأزالوا الذين بإزائهم. ولما رأى أهل فارس ما تلقى من كتيبة بنى أسد رموهم بحدهم؛ وبدر المسلمون الشدة عليهم، وهم ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس، فيهم ذو الحاجب والجالينوس، على بنى أسد ومعهم تلك الفيلة، وقد ثبتوا لهم، وكبر سعد التكبيرة الرابعة، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على بنى أسد، وحملت الفيول فى الميمنة والميسرة على الخيول، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد، وألح فرسانهم على الرجل، وجد المقاتلة مع الفيلة، فقال بعض الأسديين: والله لأموتن أو لأطعنن عينى بعض هذه الفيلة، فقصد لأعظمها فيلا فقاتل حتى وصل إليه، وعلى كل فيل قوم يقاتلون، فطعن فى عين ذلك الفيل بسيفه، وضربه سائس الفيل بعمود فهشم وجهه، وأدبر الفيل فخبط من حوله، واشتد القتال عند فيل منها، فقال حبيش الأسدى لبشر بن أبى العوجاء الطائى: أرى القتال قد اشتد عند هذا الفيل، فتبايعنى على الموت فنحمل على حماته فنكشفهم أو نقتل دونه. قال: نعم، فحملا فضرب حبيش رجلا من الفرس من حماة الفيل فقتله، ودنوا من الفيل، فضرب حبيش مشفره فرمى به وضرب الطائى ساقه فبرك الفيل، وانطوت الفرس على بنى أسد، فقتل حبيش. وأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو، فقال: يا معشر بنى تميم، ألستم أصحاب الإبل والخيل؟ أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة، قالوا: بلى والله، ثم نادى عاصم فى رجال من قومه رماة وأخر أهل ثقافة، فقال: يا معشر الرماة، ذبوا ركبان الفيلة عنا، ويا معشر أهل الثقافة، استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها، وخرج يحميهم والرحى دائرة على بنى أسد، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد، وأقدم أصحاب عاصم على الفيلة، فأخذوا بأذنابها وذباب توابيتها فقطعوا وضنها، فما بقى لهم يومئذ فيل إلا أعرى، وقتل أصحابها، وتقاتل الناس ونفس عن بنى أسد، وردوا عنهم الفرس إلى مواقفهم، فاقتتلوا حتى غربت

الشمس. ثم حتى ذهبت هدأة من الليل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وأصيب من بنى أسد تلك العشية خمسمائة، وكانوا ردآ للناس، وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم، فهذا يوم القادسية الأول، وهو يوم أرماث. وقال عاصم بن عمرو التميمى فى ذلك: ألم يأتيك والأنباء تسرى ... بما لاقيت فى يوم النزال ولما أن تزايل مقرفوهم ... عصينا القوم بالأسل الطوال وعريت الفيول من التوابى ... وعطلت الخيول من الرجال ولولا ذبنا عمن يلينا ... للج الجمع فى فعل الضلال حمينا يوم أرماث حمانا ... وبعض القوم أولى بالحمال وقال عمرو بن ساس الأسدى: فلا وأبيك لا ينفك فينا ... من السادات حظ ما بقينا ألسنا المانحين لدى قديس ... جموع الفرس مرداة طحونا ولسنا مثل من لا طرق فيه ... ولكن غثنا يلفى سمينا ونحن إذا يريح الليل أمرا ... يهم الناس عصمة من يلينا ومرقصة منعناها إذا ما ... رأت دون المحافظة التقينا نذكرها إذا ولهت بنيها ... ونحميها إذا نحمى بنينا إذا افترش النواحى بالنواحى ... وكان القوم فى الأبدان جونا إذا ثار الغبار كأن فيه ... إذا اصطفت عجاجته طحينا وقد علمت بنو أسد بأنا ... نضارب بالسيوف إذا غشينا ونحن فوارس الهيجا إذا ما ... رأيت الخيل مسندة عرينا وذكر المدائنى خبر هذا اليوم، وقد أورد كثيرا مما أورده، فى تضاعيف الأخبار المتقدمة وفى بعض ما ذكره أن المسلمين هم الذين عبروا إلى الفرس، خلافا لما تقدم ذكره: أنه لما عزم الفريقان على اللقاء أرسل سعد إلى جرير والمغيرة وحنظلة، فقال: إنكم قد أصبحتم فى دار قد أذل الله لكم أهلها، فأنتم تطئونهم منذ سنين، وقد أتوكم فى جمع لا أظنهم يريدون أن يزايلوكم حتى يفصل بينكم، ولستم وهم سواء فى دنيا تقاتلون عنها، وقد خلفوا مثلها، فإن فروا فروا إلى مثلها وأنتم تقاتلون عن دينكم، فإن فررتم فررتم عنه إلى فيافى لا خير فيها، وأنتم غرر قومكم، إنكم إن ظهرتم عليهم كان لكم أبناؤهم ونساؤهم، وإن تواكلتم لم يبقوا منكم باقية مخافة أن تعودوا عليهم،

والأرض من وراءكم قفر بسابس، ليس لكم فيها معقل ولا ملجأ، فاتقوا الله واصبروا، وحضوا المسلمين وواسوهم وتنجزوا موعود الله، فإنه قال: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] ، وقد وليت الحرب خالد بن عرفطة، فالزموا السمع والطاعة، ولا تهنوا ولا تفشلوا فتذهب ريحكم، فخرجوا من عند سعد وقد استعد المشركون لقتالهم، وهم وقوف يهابون العبور والإقدام، فأرسل سعد إلى الناس: لا تعبروا حتى آذن لكم، وقد أخذ الناس العدة للقتال، فوقفوا ينتظرون الإذن من سعد، وحض رؤساء القبائل عشائرهم، فلما طال وقوفهم ولم يأتهم إذن سعد، قال جرير بن عبد الله: أيها الناس، ما تنتظرون، أما تريدون أن تقاتلوهم إن لم يقاتلوكم، وعبر النهر فى بجيلة، فقال قيس بن مكشوح: يا معشر مذحج، قد تقدمكم إخوانكم فسابقوهم، فو الله لا يسبق أحد اليوم إلا أعطاه الله غدا على قدر سبقه فى الدنيا، وعبر قيس، وعبر بعده عمرو بن معدى كرب، وقال زهرة بن جوية: يا بنى تميم، ما تنتظرون وقد مضى إخوانكم، وعبروا، واتبع الناس بعضهم بعضا. فقال سعد: اللهم إنهم عبروا ولم يستأمرونى فاقض لهم بالنصر، فصف المسلمون، على ميمنتهم شرحبيل بن السمط، وعلى ميسرتهم هاشم بن عتبة، وعلى الخيل قيس بن مكشوح، وعلى الرجالة المغيرة بن شعبة، والمسلمون عشرة آلاف، ويقال ما بين السبعة الآف إلى الثمانية، عامة جثهم براذع الرحال، قد عرضوا فيها الجريد يتسترون بها، وعلى رؤسهم أنساع الرجال، يطوى الرجل نسعة رحله على رأسه، والمشركون ستون ألفا، وقيل أكثر. وظاهر رستم بين درعين، وقدم كتيبة عليهم الدروع والمغافر والأداة الكاملة، فدفعوا إلى جعفى، وقد تقدم خبرهم، وأخرج رستم بعد ذلك كتيبة فيها الجالينوس، فتقدم وقد اعتصب بعصابة ديباج، معه ترس مذهب، فتلقاه طليحة، واختلفا ضربتين، فوقعت ضربة الجالينوس فى جحفة طليحة، ووقع سيف طليحة فى رأس الجالينوس، فهشم البيضة وندرت عن رأسه وقد جرحه، فولوا منهزمين إلى رستم، فعظموا أمر العرب ليعذرهم، وأخذ طليحة البيضة فنفلها، فكانت قيمتها أربعمائة مثقال، وأقبل قيس بن مكشوح، يومئذ، فوقف على المغيرة فقال: ما رأيت كاليوم عديدا ولا حديدا، فقال المغيرة: إن هذا زبد من زبد الشيطان، والله جاعل بعضه على بعض، وحض المغيرة الناس وقال: إن الكلام عند القتال فشل، فالزموا الصمت، ولا يزولن أحد منكم عن مركزه، فإذا حركت رايتى فاحملوا، فقال له رجل: ما تنتظر؟ قال: اجلس، فقال رجل من بنى

مجاشع: الله أكبر، إنى لأرى الأرض من خلل صفهم، فكبروا واحملوا، فقال له المغيرة: اجلس، وأقبل المغيرة على قيس بن مكشوح فقال: احمل يا قيس فإنى حامل، ونكبنى خيلك، لا أعرفنك إذا غلبت رجالى فيهم إن تجاوزها خيلك، فإذا عضك السلاح رددتها على أعقابها فى وجوه رجالى، فيكون أشد عليهم من عدوهم، وهز المغيرة رايته، وحمل، واتبعه قيس، فما وصلوا كتيبته حتى رجع فيهم طعنتين، فقال طليحة: يا بنى أسد، ما تستحيون، الناس يقاتلون وأنتم وقوف، فحمل فقالت امرأة من بنى أسد لبنيها وهم أربعة: يا بنى، والله ما نبت بكم دار ولا أفحمتكم سنة، ولقد أسلمتم طائعين، وهاجرتم راغبين، وجئتم بأمكم عجوزا كبيرة فوضعتموها بين يديى أهل فارس، فقاتلوا عن دينكم وأمكم، فو الله إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، فاشهدوا أشد القتال، فحملوا، فقالت: اللهم احفظ فىّ بنى. وروى الشعبى أن هذه المرأة كانت من النخع، وذكر حديثها بنحو ما تقدم إلى قولها: كما أنكم بنو امرأة واحدة، وزاد هاهنا: ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره، فأقبلوا يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء وهى تقول: اللهم ادفع عن بنى، فرجعوا إليها وقد أحسنوا القتال، فما كلم رجل منهم كلما. قال الشعبى: فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء، فيأتون أمهم فيلقونه فى حجرها، فترده عليهم، وتقسمه فيهم على ما يصلحهم. وقد ذكر الزبير بن بكار نحو هذا عن الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية فى بنين لها أربعة شهدت معهم حرب القادسية، فقالت لهم من أول الليل: يا بنى، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وذكرت من صونها لنسبهم نحو ما ذكر قبل، ثم قالت لهم: وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل فى حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظاها على سباقها وجللت نارا على أرواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها «1» ، تظفروا بالغنم والكرامة فى دار الخلد والمقامة، فخرج بنوها قابلين لنصحها، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أولهم يقول:

_ (1) الحميس: أى التنور.

يا إخوتى إن العجوز الناصحه ... قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه مقالة ذات بيان واضحه ... فباكروا الحرب الضروس الكالحه وإنما تلقون عند الصالحه ... من آل ساسان كلابا نابحه قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه ... وأنتم بين حياة صالحه أو موتة تورث غنما رابحه وتقدم فقاتل حتى قتل، رحمه الله، ثم حمل الثانى وهو يقول: إن العجوز ذات حزم وجلد ... والنظر الأوفق والرأى السدد قد أمرتنا بالسداد والرشد ... نصيحة منها وبرا بالولد فباكروا الحرب حماة فى العدد ... إما لفوز بارد على الكبد أو ميتة تورثكم عز الأبد ... فى جنة الفردوس والعيش الرغد فقاتل حتى استشهد، رحمه الله، ثم حمل الثالث وهو يقول: والله لا نعصى العجوز حرفا ... قد أمرتنا حدبا وعطفا نصحا وبرا صادقا ولطفا ... فبادروا الحرب الضروس زحفا حتى تلفوا آل كسرى لفّا ... وتكشفوهم عن حمالكم كشفا فقاتل حتى استشهد، رحمه الله، وحمل الرابع وهو يقول: لست لخنساء ولا لاخزم ... ولا لعمر وذى السناء الأقدم إن لم أرد فى الجيش جيش العجم ... ماض على الهول خضم خضرم إما لفوز عاجل ومغنم ... أو لوفاة فى السبيل الأكرم فقاتل حتى قتل، رحمة الله عليه وعلى إخوته، فبلغ الخبر أمهم، فقالت: الحمد لله الذى شرفنى بقتلهم، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته، فكان عمر، رضى الله عنه، يعطى الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة، لكل واحد مائتى درهم، حتى قبض، رحمه الله. فهذا ما ذكره الزبير بن بكار، والذى قبله ذكره المدائنى، رحمهما الله، ولعل الخبرين صحيحان، والله أعلم أى ذلك كان. ثم ذكر المدائنى، بعد، من حسن بلاء بنى أسد وانطواء الفرس عليهم فى مجال الفيلة ما قد ذكرناه قبل فى موضعه. وذكر، أيضا، أن الأشعث بن قيس قال عند ما اشتد قتالهم: لله در بنى أسد، أى فرى يفرون، وأنتم تنظرون، يا معشر كندة.

وقال زهرة بن جوية: يا بنى تميم، قد صبر إخوانكم من بنى أسد، وأحسنوا فذودوا عنهم الفيلة وحماتها، فحمل زهرة فى بنى تميم، وجرير فى بجيلة، فكشفوا المشركين عن بنى أسد، وقد استشهد منهم خمسون رجلا، وتحاجزوا قريبا من العصر، فجمعوا بين الصلاتين ثم عاودوا القتال مطاردة ومشاولة حتى غابت الشمس. والتقى حنظلة بن الربيع الأسيدى ذو الحاجب فاختلفا طعنتين، فصارا جميعا إلى الأرض، فضرب حنظلة ذا الحاجب على رأسه فصرعه، فحامت عنه الأساورة، حتى ركب، وحامى عن حنظلة القعقاع بن عمرو، أحد بنى يربوع، وذريح، أحد بنى تيم اللات، حتى ركب، فقال ذريح: لما رأيت الخيل شك نحورها ... رماح ونشاب صبرت جناحا على الموت حتى أنزل الله نصره ... وود جناح لو قضى فأراحا كأن سيوف الهند حول لبانه ... بوارق غيث من تهامة لاحا قال: وأصيبت يومئذ عين المغيرة بن شعبة، وتحاجزوا حين أمسوا، فرجع المسلمون إلى عسكرهم، ورجع رستم إلى عسكره. هذا ما ذكره المدائنى. ويقال: إن القعقاع لم يشهد يوم أرماث هذا، وإنما قدم من الشام بعد انقضائه، فشهد سائر الأيام وأبلى فيها، وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله. وذكر سيف عن بعض رجاله أن سعدا كان قد تزوج سلمى بنت خصيفة، امرأة المثنى بن حارثة، كما تقدم، فنزل بها القادسية، فلما كان يوم أرماث، وجال الناس، جعل سعد يتململ ويجول فوق القصر، وكان لا يطيق جلوسا إلا على بطنه، فلما رأت سلمى ما يصنع أهل فارس قالت: وامثنياه ولا مثنى للخيل اليوم، وهى عند رجل قد أضجر ما يرى من أصحابه ومن نفسه، فلطم وجهها، وقال: أين المثنى من هذه الكتيبة التى تدور عليها الرحى!، يعنى أسدا، وعاصما، فقالت: أغيرة وجبنا؟ قال: والله لا يعذرنى أحد اليوم إذا أنت لم تعذرينى وأنت ترين ما بى، فالناس أحق ألا يعذرونى!. فلما ظهر المسلمون لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه، وكان غير جبان ولا ملوم، رضى الله عنه. وكانت القادسية فى شوال سنة خمس عشرة، وابتداء أيامها يوم الاثنين لثلاث ليال خلون من شوال أو لأيام بقين منه، وقيل كانت فى المحرم سنة أربع عشرة، والأول أصح وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.

ذكر اليوم الثانى من أيام القادسية، وهو يوم أغواث قالوا «1» : ولما أصبح الناس من الغد، يعنون الغد من يوم أرماث، أصبحوا على تعبئة، وقد وكل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب ونقل الرثيث. فأما الرثيث فأسلموا إلى النساء يقمن عليهم حتى يقضى الله فيهم قضاءه، وأما الشهداء فليدفنوهم هنالك على مشرق، واد بين العذيب وبين عين شمس فى عدوتيه جميعا، وفى ذلك يقول سعد، رحمه الله: جزى الله أقواما بجنب مشرق ... غداة دعا الرحمن من كان داعيا جنانا من الفردوس والمنزل الذى ... يحل به ذو الخير ما كان باقيا وانتظر الناس بالقتال حمل الرثيث والأموال، فلما استقلت بهم الإبل موجهة نحو العذيب طلعت عليهم نواصى الخيل من نحو الشأم، وكان عمر، رضى الله عنه، قد أمر أبا عبيدة بن الجراح لما انقضى شأن اليرموك وفتح دمشق بصرف أهل العراق أصحاب خالد الذين قدم بهم عليه إلى العراق، ولم يذكر له عمر خالدا، فضن أبو عبيدة بخالد فحبسه، وقد قيل إن عمر أمر بحبسه، فأمسكه وسرح الجيش وهم ستة آلاف، ألف من أبناء العرب من أهل الحجاز، وسائرهم من ربيعة ومضر، وأمر عليهم هاشم بن عتبة بن أبى وقاص «2» ، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، أى التميمى، فجعله أمامه، وجعل على إحدى مجنبتيه قيس بن مكشوح المرادى «3» ، ولم يكن شهد الأيام، وإنما أتاهم وهم باليرموك حين صرف أهل العراق فصرف معهم، وعلى المجنبة الأخرى الهزهاز بن عدى العجلى، فطوى القعقاع وتعجل، فقدم على الناس صبيحة يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه أن ينقطعوا أعشارا، وهم ألف، فكلما بلغ عشرة مد البصر سرح فى آثارهم عشرة، وتقدم هو فى عشرة، فأتى الناس فسلم عليهم، وبشرهم بالجنود، وقال: يا أيها الناس، إنى قد جئتكم فى قوم، والله لو كانوا بمكانكم، ثم أحسوكم لحسدوكم حظوتها، وحاولوا أن يطيروا بها دونكم، فاصنعوا كما أصنع، فتقدم ثم نادى: من يبارز؟ فسكن الناس إليه، وقالوا لقول أبى بكر الصديق، رضى الله عنه: لا يهزم جيش

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 542) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8934) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5328) ، العبر (1/ 39) ، طبقات خليفة (831) ، مروج الذهب (3/ 130) ، تاريخ بغداد (1/ 196) ، مرآة الجنان (1/ 101) ، العقد الثمين (7/ 359) ، شذرات الذهب (1/ 46) . (3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7329) ، طبقات ابن سعد (5/ 525) ، المحبر (261) ، معجم الشعراء (198) ، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 64) ، شذرات الذهب (1/ 46) .

فيهم مثل القعقاع، فخرج إليه ذو الحاجب، فقال له القعقاع: من أنت؟ فقال: أنا بهمن جاذويه، فنادى: يا لتارات أبى عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر. فاجلتدا، فقتله القعقاع، وجعلت خيله ترد قطعا، وما زالت ترد إلى الليل وتنشط الناس، وكأن لم تكن بالناس مصيبة، كأنما استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبى وبلحاق القطع، وانكسرت الأعاجم لذلك. وكان أول القتال قبل أن يقدم القعقاع المطاردة، فلما قدم قال: أيها الناس اصنعوا كما أصنع، فنادى: من يبارز؟ فبرز له ذو الحاجب فقتله، وآخر فقتله، وخرج الناس من كل ناحية، وبدأ الضرب والطعان، ونادى القعقاع، أيضا: من يبارز؟ فخرج إليه رجلان، أحدهما البيزران والآخر البندوان، فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان، أحد بنى تيم اللات، فبارز القعقاع البيزران، فضربه فأذرى رأسه، وبارز ابن ظبيان البندوان، فضربه فأذرى رأسه، وحمل بنو عم القعقاع، يومئذ، عشرة عشرة من الرجال، على إبل قد ألبسوها، فهى مجللة مبرقعة، وأطافت بهم خيولهم، وأمروا أن تحمل تلك الإبل على خيل الفرس يشبهون بالفيلة التى أرسلت عليهم الفرس بالأمس، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم، وركبتهم خيول المسلمين. فاستنوا بهم، فلقى أهل فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقى المسلمون من الفيلة يوم أرماث. ولم يقاتلوا فى هذا اليوم على فيل، كانت توابيتها قد تكسرت بالأمس، واستأنفوا علاجها حين أصبحوا فلم ترتفع حتى كان من الغد، ولم ير أهل فارس فى هذا اليوم شيئا يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل. وقالوا: قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين جملة، كلما حمل حملة قتل فيها، وآزر القعقاع، يومئذ، ثلاثة من بنى يربوع، وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمون ويحمل ويحملون، وقدم ذلك اليوم رسول لعمر، رضى الله عنه، بأربعة أفراس، وأربعة أسياف ليقسمها سعد فيمن انتهى إليه البلاء، إن كان لقى حربا، فدعا حمال بن مالك والرفيل بن عمرو بن ربيعة الوالبيين وطليحة بن خويلد الفقعسى «1» ، وكلهم من بنى أسد، وعاصم بن عمرو التميمى» ، فأعطاهم الأسياف، ودعا القعقاع بن عمرو

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4309) ، تاريخ خليفة (102، 103، 104) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2641) ، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 254، 255) ، دول الإسلام (1/ 17) ، تاريخ الإسلام (2/ 41) ، العبر (1/ 26) ، شذرات الذهب (1/ 32) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4374) .

التميمى واليربوعيين وهم: نعيم بن عمرو بن عتبان وعتاب بن نعيم بن عتاب، وعمرو ابن شبيب بن زنباع، أحد بنى زيد، فحملهم على الأفراس، فأصاب ثلاثة من بنى يربوع ثلاثة أرباعها، وأصاب ثلاثة من بنى أسد ثلاثة أرباع السيوف، فقال الرفيل فى قطعة يذكر السيوف: لقد علم الأقوام أنى أحقهم ... إذا حصلوا بالمرهفات البواتر وقال القعقاع فى شأن الخيل: ولم تعرف الخيل العرب سواءنا ... عشية أغواث بجنب القوادس وذكر المدائنى حرب هذا اليوم فخالف بعض ما تقدم، وقال: إن الناس لما أصبحوا غداة الثلاثاء عبر رستم إلى المسلمين بجنوده وفيلته من حين طلعت الشمس إلى قريب من نصف النهار، وأخذوا عدة الحرب، وصافهم المسلمون، وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم، وعلى الميسرة هاشم بن عتبة، وعلى الخيل المغيرة بن شعبة، وعلى الرجالة سلمة بن حديم، فقال سعد بن عبيد الأنصارى: يا أيها الناس، إن الدنيا دار زوال وفتنة، وأنتم منقلبون إلى دار الجزاء، فلا يكونن شىء أحب إليكم من فراقها، فإن ما عند الله خير للأبرار، وتقدم أمام الناس، فبرز له شهريار السجستانى، فقتل كل واحد منهما صاحبه، ثم طاردت الفرسان واقتتلوا حتى زالت الشمس، وتحاجزوا، وصلى المسلمون ثم عادوا إلى مصافهم، فنصل من عسكر المشركين رجل يسأل المبارزة، فبرز له زهرة بن جوية فقتله، وحمل فوارس من المشركين على زهرة فعقروا به، وندر سيفه من يده، فقاتلهم راجلا يحثو فى وجوههم التراب حتى توافت إليه خيل المسلمين، فكشفوهم عنه، وقد ذهبوا بسيفه، فقال: فإن تأخذوا سيفى فإنى محرب ... خروج من الغماء محتضر النصر وإنى لحام من وراء عشيرتى ... أطاعن فيهم بالمثقفة السمر وقد روى غير المدائنى هذا الشعر والخبر للأعرف بن الأعلم العقلى فى هذا اليوم. وقال عمرو بن معدى كرب لقومه: يا بنى زبيد، إنى مخالط الجمع، فانظرونى قدر نحر جزور وتعسيرها، ثم اطلبونى، فإنكم تجدونى وسيفى فى يدى أقاتل به قدما لا أزول، وفى رواية: فإن تأخرتم عنى فقد فقدتم أبا ثور، وأين لكم مثل أبى ثور، وحمل حتى خالطهم، فستره الغبار، فقال بعض الزبيديين: أيا بنى زبيد، علام تدعون صاحبكم وقد توسط جمع المشركين، والله ما أرى أن تدركوه حيا، وإن فقدتموه فقد المسلمون

فارسهم، فحملوا وحمل الناس حملة واحدة فانتهوا إليه وقد رمى فرسه بنشابة فسب فصرعه وعار، وأخر عمرا عنه المشركون، وذلك بعد ما طعنوه، وإن سيفه لفى يده يضاربهم به. فلما رأى أصحابه أخذ برجل فرس أسوار فاحتبسه، وإن الفارسى ليضرب فرسه فما يتحرك، فلما غشيه الجمع رمى بنفسه وخلا فرسه فركبه عمرو، وقال: أنا أبو ثور كدتم تفقدوننى، وثبت عمرو يقاتل فارسا وراجلا، إذا قاتل راجلا شد مقود فرسه فى وسطه وقاتل. وتزاحف الناس فقال رجل من المسلمين لرجل من الأنصار: أعرنى ترسك، قال: ما بى عنه غنى، ولكن أى أتراس العجم تريد أتيتك به إن شاء الله، فأشار له إلى ترس مذهب، فحمل فلم يزل يقاتل حتى خلص إلى صاحب الترس فقتله واستلب ترسه، فأتى به صاحبه، فقال: دونك. وصار الناس إلى السيوف، فقاتلوا حتى أعتموا وتحاجزوا عند العتمة عن قتلى وجرحى كثير فى الفريقين، وقتل يومئذ رجل من طيئ يكنى أبا كعب رجلا من المشركين، وأخذ قلنسوته فلبسها، وأقبل يعدو به فرسه وهو يقاتل، فنظر إليه رجل من بجيلة يقال له مضرس، وهو يقاتل، فظن أنه من الفرس فطعنه، فقال: بسم الله، قتلتنى، فقال مضرس: إنا لله وعانقه، فقال: غفر الله لك يا أخى، فبكى مضرس واحتمل أبو كعب، فقال سعد: الشهادة لا تقاد، ولا كل ميتة مظنون غيرها، ولكن من أحب أخذ الدية، فكان مضرس يأتيه يعوده فيبكى حتى تبل دموعه لحيته، ويقول أبو كعب: غفر الله لك يا أخى. وقال أبو كعب: لعمرى لقد ثارت رماح مضرس ... بعلج هوى فى الصف من آل فارس ثم مات أبو كعب بعد أيام من تلك الطعنة، وصفح وليه عن الدية. ويروى أنه عرض مثل هذا بعينه لرجل آخر من طيئ، أيضا، يقال له: بجير بن عميرة، وكان أحمر شبيها بالعجم، فاستلب رجلا من أهل فارس رايته فأقبل بها، فبصر به رجل من كندة يدعى فروة، فحمل عليه فطعنه، فأصاب مقتله، فنادى بجير: بسم الله، فاعتنقه فروة، فأتيا سعدا فقال لهما: إن الشهادة لا ثواب لها فى الدنيا، ولكن كفوا العجلات.

وخرج يومئذ رجل من أهل فارس ينادى: من يبارز، فبرز له علباء بن جحش العجلى، فبعجه علباء، فأصاب سحره، وبعج الفارسى علباء فخرق أمعاءه، وخرا جميعا، فأما الفارسى فمات من ساعته، وأما الآخر فانتثرت أمعاؤه، فلم يستطع القيام، فعالج ادخالها فلم يتأت له حتى مر به رجل من المسلمين فقال له: يا هذا أعنى على بطنى، فأدخله له، فأخذ بصفاقيه ثم زحف نحو صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه إلى صف فارس. فقال: أرجو بها من ربنا الثوابا ... قد كنت ممن يحسن الضرابا قالوا «1» : وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف الليل، فكانت ليلة أرماث تدعى ليلة الهدأة، وليلة أغواث تدعى ليلة السواد، والنصف الأول يدعى السواد، ثم لم يزل المسلمون يرون فى يوم أغواث الظفر على فارس، وقتلوا فيه عامة أعلامهم، وجالت فيه خيل القلب، وثبت رجلهم، فلولا أن خيلهم كرت أخذ رستم أخذا، فلما ذهب السواد تفايأ الناس وباتوا على مثل ما بات القوم عليه ليلة أرماث، ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا إلى أن تفايأوا. فلما أمسى سعد وسمع ذلك نام، وقال لبعض من عنده: إن تم الناس على الانتماء فلا توقظونى، فإنهم أقوياء على عدوهم، وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظونى، فإنهم على التساوى، فإن سمعتم ينتمون فأيقظنى، فإنما انتماؤهم من السوء. قالوا «2» : ولما اشتد القتال بالسواد، وكان أبو محجن قد حبس وقيد، فهو فى القصر، صعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله، فزبره سعد ورده فنزل، وأتى سلمى بنت خصفة، فقال لها: يا بنت خصفة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عنى وتعيرننى البلقاء، فالله علىّ إن سلمنى الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلى فى قيدى، وإن أصبت وخشيت هذا فما أكثر من يفلت ويجرب صاحبه. فقالت: وما أنا وذاك فرجع يرسف فى قيوده ويقول: كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا علىّ وثاقيا إذا قمت عنانى الحديد وأغلقت ... مصاريع من دونى تصم المناديا وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركونى واحدا لا أخا ليا

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 546، 547) . (2) انظر: الطبرى (3/ 548- 550) .

ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا «1» فقالت سلمى: إنى استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته، وقالت: أما الفرس فلا أعيرها، ورجعت إلى بيتها، فاقتاد أبو محجن الفرس فأخرجها من باب القصر الذى يلى الخندق فركبها، قيل بسرجها، وقيل: عريا، ثم ذبب عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة، فكبر وحمل على ميمنة القوم، يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبرز أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا ويعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار، فقال بعضهم: أوائل أصحاب هاشم بن عتبة أو هاشم نفسه. وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر: والله لولا محبس أبى محجن الثقفى لقلت: إن هذا أبو محجن وهذه البلقاء. وقال بعض الناس: إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن أن صاحب البلقاء الخضر، وقال آخرون: والله لولا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا: ملك بيننا، ولا يذكر الناس أبا محجن ولا يأبهون له، لمبيته فى محبسه، فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج، فوضع عن نفسه وعن دابته، وأعاد رجله فى قيده، وقال: لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكثرهم سيوفا وأكثرهم دروعا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا وأنا وفدهم فى كل يوم ... فإن عيوا فسل بهم عروفا وليلة قادس لم يشعروا بى ... ولم أشعر بمخرجى الزحوفا فإن أحبس فذلكم بلائى ... وإن ترك أذيقهم الحتوفا فقالت له سلمى: فى أى شىء حبسك هذا الرجل؟ قال: أما والله ما حبسنى لحرام أكلته ولا شربته، ولكنى كنت صاحب شراب فى الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر فى لسانى، وينبعث على شفتى، فيساء لذلك ثنائى، فعلى ذلك حبسنى. قلت: إذا مت فادفنى إلى جنب كرمة ... تروى عظامى بعد موتى عروقها ولا تدفنى بالفلاة فإننى ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

_ (1) انظر الأبيات فى: الأغانى للأصفهانى (21/ 139، 140) ، مروج الذهب للمسعودى (1/ 528- 530) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 330) .

ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث، وليلة السواد، حتى إذا أصبحت أتته فصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبى محجن، فدعا به فأطلقته، وقال: اذهب فما أنا بمؤاخذك بشىء تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم، والله لا أجيب لسانى إلى صفة قبيح أبدا. حديث يوم عماس، وهو اليوم الثالث من أيام القادسية قالوا «1» : وأصبح المسلمون من اليوم الثالث، وهم على مواقفهم، وأصبحت الأعاجم كذلك، وبين هؤلاء وهؤلاء قدر ميل فى عرض ما بين الصفين، وقد قتل من المسلمين ألفان بين رثيث وميت، ومن المشركين عشرة آلاف. وقال سعد: من شاء غسل الشهيد الميت والرثيث، ومن شاء فليدفنهم بدمائهم، وجعلهم المسلمون وراء ظهورهم، وأقبل الذين يحملونهم إلى القبور، يتبعون القتلى ويبلغون الرثيث إلى النساء، وكان النساء والصبيان يحفرون المقابر فى اليومين: يوم أرماث ويوم أغواث، بعدوتى مشرق، وكان فى الطريق أصل نخلة بين القادسية والعذيب، ليس بينهما يومئذ نخلة غيرها، فكان الرثيث إذا انتهى بهم إليها وأحدهم يعقل سألهم أن يقفوا به تحتها يستروح إلى ظلها، فمر حاجب بن يزيد، وكان على الشهداء بتلك النخلة مع بعض الشهداء بتلك النخلة مع بعض الشهداء وولاتهم، ورجل من الجرحى من طيئ يدعى يقول وهو مستظل بظلها: ألا يا اسلمى يا نخلة بين قادس ... وبين العذيب لا يجاورك النخل وآخر من بنى ضبة أو من بنى ثور يدعى غيلان، وهو يقول: ألا يا اسلمى يا نخلة فوق جرعة ... يجاورك الجمان والرمث والرغل قالوا «2» : وبات القعقاع ليلته كلها يسرب أصحابه إلى المكان الذى فارقهم فيه بالأمس، ثم قال: إذا طلعت لكم الشمس، فأقبلوا مائة مائة، وكلما توارت عنكم مائة فليتبعها مائة، فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدا، ففعلوا، ولا يشعر بذلك أحد، وكان مكانهم مما صنع الله للمسلمين، فلما ذر قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل، طلعت نواصيها، فكبر وكبر الناس، وقالوا: جاء المدد.

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 550) . (2) انظر: الطبرى (3/ 551، 552) .

وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها، فجاؤا من قبل خفان، فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب، فاختلف الطعن والضرب، ومدد المسلمين متتابع، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم، وقد طوى فى سبعمائة، فأخبروه برأى القعقاع وما صنع فى يومه، فعبأ أصحابه سبعين سبعين، فلما نجز آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم فى سبعين معه، فيهم قيس بن هبيرة المرادى، وهو ابن المكشوح، فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب، كبر وكبر المسلمون، وقد أخذوا مصافهم، وقال هاشم: أول القتال المطاردة ثم المراماة، فأخذ قوسه، فوضع سهما ثم نزع فرفعت فرسه رأسها، فخل أذنيها، فضحك وقال: وا سوأتاه من رمية رجل ينتظره كل من رآه، أين ترون سهمى كان بالغا؟ فقيل: العتيق. فنزقها وقد نزع السهم عن أذنيها، ثم ضربها حتى وقفت على العتيق، ثم ضربها فأقبلت تخرقهم حتى عاد إلى موقفه، وقيل: إنه نزل عن فرسه وفعل ذلك راجلا، فالله أعلم. وما زالت مقانبه تطلع وقد بات المشركون فى علاج توابيتهم حتى أعادوها على الفيلة، فأصبحوا على موافقهم، وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع وضنها، ومع الرجالة فرسان يحمونهم، إذا أرادوا كتيبة دلفوا إليها بفيل وأتباعه، لينفروا بهم خيلهم، فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس؛ لأن الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد كان أوحش، وإذا طافوا به كان آنس، فكان الفيل كذلك حتى عدل النهار. ولما قدم قيس بن المكشوح مع هاشم، قام فيمن يليه فقال: يا معشر العرب، إن الله، عز وجل، قد من عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأصبحتم بنعمته إخوانا، دعوتكم واحدة وأمركم واحد، بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد، ويختطف بعضكم بعضا اختطاف الذئاب، فانصروا الله ينصركم، وتنجزوا من الله تعالى فتح فارس، فإن إخوتكم من أهل الشام قد أنجز الله تعالى لهم فتح الشام، وانتثال القصور الحمر والحصون الحمر. وخرج يوم عماس رجل من العجم حتى إذا كان بين الصفين هدر وشقشق ونادى: من يبارز؟ فخرج إليه رجل من المسلمين يقال له: شبر بن علقمة، وكان قصيرا دميما، فقال: يا معشر المسلمين، قد أنصفكم الرجل، فلم يجبه أحد، ولم يخرج إليه أحد، فقال: أما والله لولا أن تزدرونى لخرجت إليه، فلما رأى أنه لا يمنع أخذ سيفه وجحفته، ثم تقدم، فلما رآه الفارسى هدر، ثم نزل إليه فاحتمله، فألقاه ثم جلس على صدره ثم أخذ سيفه ليذبحه، ومقود فرسه مشدود بمنطقته، فلما استل السيف حاص الفرس حيصة

فجذبه المقود فقلبه عنه، فقام إليه وهو يسحب فافترسه، فجعل أصحابه المسلمون يصيحون به، فقال: صيحوا ما بدا لكم، فو الله لا أفارقه حتى أقتله ثم أسلبه، فذبحه وسلبه، ثم أتى سعدا بالسلب فنفله إياه، فباعه باثنى عشر ألفا. قالوا «1» : ولما رأى سعد الفيلة تفرق الناس، وعادت لفعلها يوم أرماث، سأل: هل لها مقاتل؟ فقيل له: نعم، المشافر والعيون لا تنتفع بها بعدها، فأرسل إلى القعقاع وأخيه عاصم: أن اكفيانى الفيل الأبيض، وكان بإزائهما، فأخذ القعقاع وعاصم رمحين أصمين لينين ودنوا فى خيل ورجل، وقالا: اكتنفوه لتحيروه، وفعل الآخران مثل ذلك، فلما اكتنف الفيلان نظر كل واحد منهما يمنة ويسرة وهما يريدان أن يتخبطا، فحمل القعقاع وعاصم والفيل البيض متشاغل بمن حوله فوضعا رمحيهما معا فى عينيه، وقبع ونفض رأسه فطرح سائسه ودلى مشفره، فنفخه القعقاع ورمى به ووقع لجنبه، وقتلوا كل من كان عليه، وقال حمال لصاحبه وقد قصدا إلى الفيل الأجرب: إما أن تضرب المشفر وأطعن فى عينه، أو تطعن فى عينه وأضرب مشفره، فاختار صاحبه الضرب، فحمل عليه حمال وهو متشاغل بملاحظة من اكتنفه، لا يخاف سائسه إلا على بطانه فطعنه فى عينه، فأقعى، ثم استوى فنفخه الآخر، فأبان مشفره، وبصر به السائس ففقر أنفه وجبينه بفأسه. ويروى أن الفيلين صاحا عند ذلك صياح الخنزير، ثم ولى الأجرب الذى عور فوثب فى العتيق، فاتبعته الفيلة فخرقت صف الأعاجم، فعبرت العتيق فى أثره فبيتت المدائن فى توابيتها وهلك من فيها. وقيل: إنه بقى منها الفيل الأبيض، لم يبق فى المعركة غيره، وإن الناس رشقوا مشافر الفيلة، فعند ذلك انبعث الفيل الآخر فلم تنته عن المدائن، وكانت تفعل بالناس الأفاعيل فاستقام للناس بعدها وجه القتال، وخلصوا بأهل فارس، فاجتلدوا على جرد بالسيوف حتى أمسوا وهم فى ذلك على السواء. فكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدا، العرب والعجم فيه على السواء، ولا يكون بينهم لفظة إلا تقاولها الرجال بالأصوات حتى تبلغ يزدجرد بالمدائن، إذ كان قد أمر رستم بأن يرتب الرجال على الطريق بينهما ليبلغه بالتنادى ما يطرأ فى العسكر من حينه، فيرسل إليهم أهل النجدات ممن بقى عنده فيتقوون بهم، وأصبحت عنده للذى

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 555، 556) .

لقى بالأمس الأمداد على البرد، فلولا الذى صنع الله للمسلمين فى الذى ألهم إليه القعقاع فى اليومين، وما أتاح لهم بهاشم لكسر ذلك المسلمين. وأصيب يومئذ مؤذن سعد بن أبى وقاص فتشاح الناس على الأذان، حتى كادوا يجتلدون بالسيوف، فأقرع بينهم سعد. قالوا «1» : ولما أمسى الناس من يومهم ذلك، وأطعنوا إلى الليل، واشتد القتال فصبر الفريقان، فخرجا على السواء فلم يسمع إلا الغمائم من هؤلاء وهؤلاء، فسميت ليلة الهرير، ولم يكن بعدها قتال بليل فى القادسية. وجدد المشركون فى تلك الليلة تعبئة، وأخذوا فى أمر لم يكونوا عليه فى الأيام الثلاثة، وبقى المسلمون على تعبئتهم، فخرج مسعود بن مالك الأسدى، وقيس بن هبيرة المرادى، وهو ابن المكشوح، وأشباههم فطاردوا القوم وحركوهم للقتال، فإذا هم فيه أمة لا يشهدون ولا يريدون إلا الزحف، فقال قيس بن مكشوح لمن يليه، ولم يشهد شيئا من لياليها إلا تلك الليلة: إن عدوكم قد أبى إلا المزاحفة، والرأى رأى الأمير، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجال، فإن القوم إذا زحفوا وطاردهم عدوهم على الخيل لا رجال معهم عقروا بهم، ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم، فتيسروا للحملة. وقال دريد بن كعب النخعى، وكان معه لواء النخع: إن المسلمين قد تهيئوا للمزاحفة، فاسبقوا المؤمنين الليلة إلى الله والجهاد، فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه، فنافسوهم فى الشهادة، وطيبوا بالموت أنفسا، فإنه لا نجاء من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا فالآخرة ما أردتم. وقال الأشعث بن قيس: يا معشر العرب، إنه لا ينبغى أن يكون هؤلاء أجرأ على الموت ولا أسخى أنفسا عن الدنيا منكم، تنافسوا ولا تجزعوا من القتل فإنه أمانى الكرام، ومنايا الشهداء، وترجل. وقال حنظلة بن الربيع «2» وأمراء الأعشار: ترجلوا أيها الناس، وافعلوا كما نفعل، ولا

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 557) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (1864) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1280) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 142) ، الطبقات (1/ 43، 129) ، تهذيب الكمال (1/ 343) ، الإكمال (1/ 73) ، تقريب التهذيب (1/ 216) ، الجرح والتعديل (3/ 1059) ، تهذيب التهذيب (3/ 60، 63) .

تجزعوا مما لا بد منه، فالصبر أنجى من الجزع. وفعل طليحة وغالب أهل النجدات من جميع القبائل مثل ذلك. وقال أنس بن الجليس: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كضرب القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغا. وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قط، وانقطعت الأصوات والأخبار عن سعد ورستم، فبعث سعد فى تلك الليلة نجادا، وهو غلام، إلى الصف، إذ لم يجد رسولا، فقال: انظر ماذا ترى من حالهم، فرجع إليه فقال: ما رأيت يا بنى؟ فقال: رأيتهم يلعبون، فقال: أو يجدون. فأقبل سعد على الدعاء، حتى إذا كان فى وجه الصبح، انتمى الناس فاستدل سعد بذلك على أنهم الأعلون، وأن الغلبة لهم. قال بعضهم: أول شىء سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح فى نصف الليل الباقى صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول: نحن قتلنا معشرا وزائدا ... أربعة وخمسة وواحدا تحسب فوق البلد الأساودا ... حتى إذا ماتوا دعوت واحدا الله ربى واحترزت جاهدا فاستدل سعد بهذا، وبما سمع معه من غير القعقاع من الانتماء، واتسع له الرجاء، فسمع عمرو بن معدى كرب يقول: أنا ابن أسلة، وطليحة يقول: أنا ابن ليلى، وسعد بن عمارة يقول: أنا ابن أروى، ثم سمع الانتساب من كل ناحية: خذها وأنا الغلام الجرمى من النخع، خذها وأنا الغلام المالكى من بنى أسد، خذها وأنا الغلام الأسعدى من عجل، فأصبحوا والناس على مواقفهم متحاجزين، فصلى المسلمون الغداة وفضوا من شأنهم. خبر اليوم الرابع من أيام القادسية وهذا أهو آخر أيامها، ويسمى من بينها: يوم القادسية، وفيه قتل الله رستم، وأتم الفتح للمسلمين. قالوا «1» : وأصبح الناس ذلك اليوم حسرى، لم يغمضوا ليلتهم كلها، فسار القعقاع

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 563) .

فى الناس، فقال: إن الدبرة بعد ساعة لمن بدأ اليوم، فاصبروا واحملوا، فإن النصر مع الصبر. فاجتمع إليه هلال بن علفة، ومالك بن ربيعة، والكلح الضبى، وضرار بن الخطاب، وابن الهذيل، وغالب، وطليحة، وعاصم بن عمرو بن ذى البردين، وأمثالهم ممن اختصر ذكره، ومعهم عشائرهم. ثم صمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح. ولما رأت ذلك القبائل قام فيهم رجال منهم، فقالوا: لا يكونن هؤلاء أجد فى أمر الله تعالى، منكم، ولا أسخى نفسا عن الدنيا، تنافسوها. فحملوا مما يليهم حتى خالطوا الذين بإزائهم. وقام فى ربيعة عتيبة بن النهاس، وفرات بن حيان، والمعنى بن حارثة، وسعيد بن مرة، فى أمثالهم، فقالوا: أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى، فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم. واقتتل الناس إلى أن انفرج قلب المشركين حين قام قائم الظهيرة، وقد ركد عليهم النقع، واشتد الحر، وسقفتهم الشمس، فهبت ريح عاصف، فقلعت طيارة رستم عن سريره، فهوت فى العتيق، فانتهى القعقاع وأصحابه إلى السرير فعثروا به، وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قدمت عليه يومئذ بمال فهى واقفة، فاستظل فى ظل بغل منها وحمله، وضرب هلال بن علفة العدل الذى على البغل الذى رستم تحته، فقطع حباله، فوقع عليه أحد العدلين، ولا يراه هلال ولا يشعر به، فأزال من ظهره فقارا، ويضربه ضربة فنفحت مسكا، ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه، فاقتحمه عليه هلال، فتناوله وقد عام، فأخرجه ثم ضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به فرمى به بين أرجل البغال، وصعد السرير، ثم نادى: قتلت رستما ورب الكعبة، إلىّ إلىّ، فأطافوا به ما يحسون السرير وما يرونه، وكبروا وتنادوا، وانبت قلب المشركون عندها وانهزموا، وقام الجالينوس على الردم، ونادى أهل فارس إلى العبور، وانسفى الغبار، فأما المقترنون فإنهم خشعوا فتهافتوا فى العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفا. وأخذ ضرار بن الخطاب «درفش كابيان» ، راية كسرى، فعوض عنها ثلاثين ألفا، وكانت قيمتها ألف ألف ومائتى ألف، وقتلوا فى المعركة من الليل، يعنى ليلة الهرير، عشرة آلاف سوى من قتلوا فى تلك الثلاثة الأيام.

وأكب المسلمون على من ثبت لهم وعلى من سفل منهم عن الردم ومن ارتفع عنه فقتلوا منهم ستين ألفا، فقتلوا يوم القادسية مائة ألف سوى من قتلوا فى الأيام قبله. قالوا: فلما انكشف أهل فارس، فلم يبق منهم بين الخندق والعتيق أحد، وطبقت القتلى ما بين قديس والعتيق أمر سعد زهرة بن جوية باتباعهم، فنادى زهرة فى المقدمات وساروا، وأمر سعد القعقاع بمن سفل، وشرحبيل بمن علا، وأمر خالد بن عرفطة بسلب القتلى وبدفن الشهداء ليلة الهرير ويوم القادسية، ألفين وخمسمائة، وقيل: ثلاثة آلاف، من وراء العتيق بحيال مشرق، ودفن شهداء الأيام الثلاثة قبل ذلك على مشرق، ويقال: كانوا ألفين وخمسمائة، وجمعت الأسلاب والأموال، فجمع منها شىء لم يجمع قبله ولا بعده، وأرسل سعد إلى هلال بن علفة فدعا له، فقال: أين صاحبك؟ يعنى رستما. قال: رميت به تحت بغل، فقال: اذهب فجئ به، فذهب فجاء به. فقال له سعد: جرده إلا ما شئت، فخذ سلبه، فلم يدع عليه شيئا، ويقال: إنه باع الذى سلبه بسبعين ألفا، وكان قد تخفف حين وقع فى الماء، ولم توجد قلنسوته، وكانت قيمتها مائة ألف. وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد، فرأوا رستما ببابه مطروحا، فقالوا: أيها الأمير، رأينا جسد رستم على باب قصرك وعليه رأس غيره، وكأن الضرب قد شوهه، فضحك سعد، وخرج زهرة فى آثار أهل فارس، فانتهى إلى الردم وقد تبعوه ليمنعوهم به من الطلب، فقال زهرة لبكير بن عبد الله الليثى، وهو الذى يقال له فارس أطلال، وهو اسم فرس له كان يعرف بها: يا بكير، أقدم، وكان يقاتل على الإناث، فضرب فرسه، وقال: ثبى أطلال، فتجمعت وقالت: وثبا وسورة البقرة ثم وثبت ووثب زهرة، وكان على حصان، وتتابع ذلك ثلاثمائة فارس، فلحق زهرة بالقوم والجالينوس فى آخرهم يحميهم، فشاوله زهرة، فاختلفا ضربتين، فقتله زهرة، وأخذ سلبه، وقتل أولئك الفرار ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى النجف، ورجع زهرة فى أصحابه حين أمسوا، فباتوا بالقادسية، ولما رجع القعقاع وشرحبيل إلى سعد، قال لشرحبيل: اغد فى طلب القعقاع، وقال للقعقاع: اغد فى طلب شرحبيل فعلا هذا، وسفل هذا، حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية. قال الشعبى: خرج القعقاع وأخوه وشرحبيل فى طلب من ارتفع وسفل، فقتلوهم فى كل قرية وأجمة وشاطئ نهر، ورجعوا، فوافوا صلاة الظهر، وهنأ الناس أميرهم، وأثنى على كل حى خيرا، وذكره منهم.

وقال فى ذلك هلال بن علفة: جدعت أنوف العجم يوم لقيتهم ... برستم والجمعان فى أشغل الشغل فضضت به رض الصفوف فقوضت ... صفوفهم والحرب جاحمة تغلى وقال الشماخ فى قصيدة يرثى بكير بن عبد الله، فارس أطلال، ويذكر ما كان من فرسه فى وثبتها المذكورة قبل: وغيب عن خيل بموقان أسلمت ... بكير بنى الشدّاخ فارس أطلال غداة اقتحام القوم من بعد نطقها ... وحلفتها عرض العتيق بإدلال ولما قتل زهرة الجالينوس وأخذ سلبه، جاء به إلى سعد، فعرفه الأسارى الذين كانوا عند سعد، وقالوا: هذا سلب الجالينوس، وكان سيدا من ساداتهم، وعظيما من عظمائهم، فقال سعد لزهرة: هل أعانك عليه أحد؟ قال: نعم. قال: من؟ قال: الله عز وجل. فنفله إياه. وقيل: إنما جاء بالسلب وقد لبسه، فانتزعه منه سعد، وقال: ألا انتظرت إذنى، وكتب فيه إلى عمر، رضى الله عنه، فكتب إليه عمر: أن يمضى لزهرة ذلك السلب، وعاتب سعدا فى كتابه، وقال له: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بما صلى به وبقى عليك ما بقى من حربك، تكسر قرنه وتفسد قلبه. ويروى أن سعدا استكثر له السلب، فكتب فيه إلى عمر، فكتب إليه: إنى قد نفلت من قتل رجلا سلبه، فدفعه إليه سعد، فباعه بسبعين ألفا. وقال زهرة فى قتل الجالينوس: تبعنا جيوش الجالينوس وقد رأى ... بعينيه أمرا ذا إياس منكرا لحقنا به نرمى الكرانيف سادرا ... ويعجب إذ خلى الجموح وشمرا فوليته لما التقينا مصمما ... أراه محيا الموت أحمر أصفرا وقال سيف «1» عن رجاله: ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة، استحيوا من الفرار، فصمد لهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين، لكل كتيبة منها رأس من رؤساء المسلمين فأباد الله تلك الكتائب يومئذ.

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 569، 570) .

وقال سعيد بن المرزبان «1» : أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما أصاب الناس قبلهم، قتلوا حتى إن كان الرجل من المسلمين ليدعو الرجل منهم فيأتيه حتى يقوم بين يديه فيضرب عنقه، وحتى إنه ليأخذ سلاحه فيقتله به، وحتى إنه ليأمر أحد الرجلين منهم بقتل صاحبه. وقال بعض من شهدها: أبصر سلمان بن ربيعة الباهلى أناسا من الأعاجم تحت راية لهم قد حفروا لها وجلسوا تحتها، وقالوا: لا نبرح حتى نموت، فحمل عليهم فقتلهم وسلبهم، وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية، وأحد الذين مالوا بعد الهزيمة على من ثبت، وكذلك أخوه عبد الرحمن بن ربيعة، ذو النور، مال على آخرين قد تكتبوا ونصبوا للمسلمين، فطحنهم بخيله. وقال الشعبى: كان يقال لسلمان أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل الجزور. وقال بعض بنى معرض: ما رأينا مثل أهل القادسية، هزمناهم فاتبعناهم وهم على خيولهم كأنها فى طين، ونحن على أرجلنا كأنا ظباء، ولقد أدركنا رجلا يعدو به فرسه فصحنا به، فلم يتحرك، فأخذناه أسيرا. قال أبو وائل، وشهدها: لقد سمعت الفرس يقولون ما تقطع سيوفنا الشعر، ولقد نزع منا النصر. وقال الأسود النخعى «2» : شهدت القادسية، فلقد رأيت غلاما منا من النخع يسوق ستين أو ثمانين رجلا من أبناء الأحرار، وأتى رجل سعدا فقال: تجعل لى ثلث ما أجيئك به؟ قال: نعم. فأتاه بأساورة قد أسرهم، فقال له سعد: كيف أخذت هؤلاء وحدك؟ قال: صحت بهم وهم منهزمون فوقفوا لم يمتنع منهم أحد، فجعل سعد يتعجب. وكان سعد أجرأ الناس وأشجعهم، إنه نزل قصرا غير حصين يشرف منه على الناس ويرى قتالهم، وصف المسلمين إلى أصل حائط القصر، ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذوا برمته. فو الله ما كربه هول تلك الأيام، ولا أغلقه. ودخل إليه فى اليوم الرابع رجل من بجيلة فقال: أبا إسحاق إن الناس قد جبنوك وقالوا: لم يمنعك من الخروج الوجع، قال: ما أخاف ذلك على نفسى، أو ما ترى ما بى، وسأخرج، وكان به حبون ودماميل لا يستطيع أن يقر لها إلا مكبا على صدره، فركب فرسا فانتهى إلى باب القصر

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 569) . (2) انظر: الطبرى (3/ 576) .

وقد تبوأ فيه حمام، فطرن فنفر الفرس فشب، فانفجر ما كان من قروحه وخرج، فوقف وحض المسلمون وقال: لا تكون هذه الأعاجم أصبر على المقارعة منكم، واعلموا أن القوم ملوا إن كنتم مللتم، فنشط الناس. وفى حديث غير هذا أن جريرا البجلى قال فى ذلك اليوم: أنا جرير كنيتى أبو عمرو ... قد نصر الله وسعد فى القصر وقال رجل من المسلمين، أيضا: نقاتل حتى أنزل الله نصره ... وسعد بباب القادسية معصم فأبنا وقد أمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهم أيم فلما بلغ ذلك من قولهما سعدا خرج إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح فى فخذيه، فعذره الناس، وقال سعد يجيب جريرا من أبيات: وما أرجو بجيلة غير أنى ... أؤمل أجرهم يوم الحساب وفى حديث يروى عن قيس بن أبى حازم «1» ، وكان شهد تلك الحرب أن الفرس لما انهزموا لحقوا بدير قرة وما وراءه، ونهض سعد بالمسلمين حين نزل بدير قرة على من هناك من الفرس، وقدم عليه بالدير عياض بن غنم فى ألف رجل من الشام مددا لهم، فأسهم لهم سعد مع المسلمين فيما أصابوا بالقادسية، ثم إن الفرس هربت من دير قرة إلى المدائن يريدون نهاوند، واحتملوا معهم الذهب والفضة والديباج والفرند والحرير والسلاح وثياب كسرى، وخلوا ما سوى ذلك، وأتبعهم سعد الطلب، فبعث خالد بن عرفطة ووجه معه عياض بن غنم فى أصحابه، وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة، وعلى ميمنتهم جرير بن عبد الله وعلى الميسرة زهرة بن جوية، وتخلف سعد لما به من الوجع. فلما أفاق من وجعه أتبع الناس بمن بقى معه من المسلمين حتى أدركهم دون دجلة، فلما وضعوا على دلجة العسكر والأثقال طلبوا المخاضة فلم يهتدوا لها، حتى أتى سعدا علج من أهل المدائن فقال: أدلكم على طريق تدركونهم قبل أن يمنعوا، فخرج بهم على مخاضة بقطربل، فكان أول من خاضها هاشم، وأتبعه خيله، ثم جاز خالد بن عرفطة بخيله وتتابع الناس فخاضوا حتى جتاوزوا، فزعموا أنه لم يتهد لتلك المخاضة بعد، ثم ساروا حتى انتهوا إلى مظلم ساباط، فأشفق الناس أن يكون به كمين للعدو، فتردد الناس

_ (1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7168) .

وجبنوا عنه، فكان أول من دخله بجيشه هاشم، فلما جاز ألاح للناس بسيفه، فعرف الناس أن ليس به شىء يخافونه، فأجاز بهم خالد بن عرفطة، ثم لحق سعد بالناس حين انتهوا إلى جلولاء وبها جماعة من الفرس، فكانت وقعة جلولاء بها، فهزم الله الفرس وأصاب المسلمون بها أفضل مما أصابوا بالقادسية، وأصيبت ابنة لكسرى، يقال لها: منجانة، ويقال: ابنة ابنه، وقال شاعر من المسلمين: يا رب مهر حسن مطهم ... يحمل أثقال الغلام المسلم ينجو إلى الرحمن من جهنم ... يوم جلولاء ويوم رستم ويوم زحف الكوفة المقدم ... ويوم لا فى حتفة مهزم وخر دين الكافرين للفم وفى كتاب المدائنى عن أبى وائل قال: هزمناهم، يعنى يوم القادسية، حتى انتهوا إلى الفرات فقاتلونا عليه، فهزمناهم حتى انتهوا إلى الصراة فقاتلونا عليها، فهزمناهم حتى انتهوا إلى المدائن فدخلوها ونزل المسلمون دير السباع، فجعلنا نغاديهم فنقاتلهم، فقال المسلمون: هؤلاء فى البيوت ونحن فى الصحراء، اعبروا إليهم فعبرنا إليهم فحصرناهم فى الجانب الشرقى حتى أكلوا الكلاب والسنانير، فخرجوا على حامية معهم الأثقال والعيال حتى نزلوا جلولاء الوقيعة، وتبعناهم فقاتلوا بها قتالا شديدا عن العيال والذرارى، فجال المسلمون جولة فناداهم سعد: يا معشر المسلمين، أين أين أما رأيتم ما خلفكم؟ أتأتون عمر منهزمين فعطفوا، وهزم الله المشركين، وسميت جلولاء الوقيعة فتح الفتوح، وسيأتى ذكر فتح جلولاء والمدائن على التمام بعد انقضاء بقايا الأخبار عن شأن القادسية ومغانمها إن شاء الله تعالى. قال الشعبى: بلغ الفىء بالقادسية ستمائة ألف ألف، وكان خمسها عشرين ومائة ألف ألف، وكان الملك يزدجرد بن كسرى قد حمل نصف الأموال إلى أهل فارس بالقادسية ليتوردوا بها بلاد العرب، وليغزوا عمر، رضى الله عنه، فى داره وقراره، فعل مقتدر مغرور، وأمر الجنود أن يحضروا الحرب بأموالهم، وأن يختلفوا ليكون أجد لهم فى الامتناع والمخاطرة لدنياهم، فاجتمعت معهم من الأموال والزين والشارات على قدر أحسابهم ما لا يحصى، وكان سبب ذلك ما قضى الله عز وجل، للمسلمين، فساقه إليهم، وكان يزدجرد قد استبقى النصف من الأموال وأقره فى بيت المال على حاله، فأفاءه الله على المسلمين يوم المدائن. وذكر المدائنى أن المسور بن مخرمة أصاب يوم القادسية أبريق ذهب عليه ياقوت،

فقال له بعض الفرس: آخذه منك بعشرة آلاف، فأبى وأتى به سعدا، فباعه بمائة ألف. وقال مخنف بن سليم: إنى لفى طلب المشركين يومئذ إذ لحقت رجلين أحدهما على فرس والآخر على بغل، ثم ذكر حديثا انتهى فيه إلى أن فاته صاحب الفرس ولحق بصاحب البغل فأخذه، قال: وأنا أريد أن آتى به سعدا وما من رأى أن أنظر إليه، فجاء مولى لى وأنا أصلى فحط الثقل واستخرج سفطا فنظر إليه وقال لى: أتدرى ما معك؟ قلت: لا، قال: بعض كنوز كسرى، فنظرت فإذا ناقة ذهب عليها رجل ذهب وبطان ذهب وزمام ذهب، وإذا ذلك كله مكلل بالجوهر عليه مثال رجل من فضة، فأتيت بها سعدا، فقال: أبشر لأفضل منه من ثواب الله، وولانى مغانم القادسية، ومعى غيرى، فجاء رجل بسفط آخر فألقاه فى المغانم، وقال: أما والله لولا خوف الله ما أديته، فإذا الذى جئت به لا يقارب ما جاء به الرجل، فقلت: من أنت؟ قال: والله ما أخبرك لتحمدنى أنت ولا أحد من الناس، وأصاب الناس رثة ومتاعا كبيرا. وقال طلحة بن مصرف: أمروا مما جدوا من الطيب للنساء ببعضه، فأصاب كل امرأة مع الناس ثلاثة وثلاثون مثقالا من عنبر، ومثلها من مسك، وأشرك صبيان الذين استشهدوا فى ذلك، فأما الكافور فلم يعبأوا به شيئا، وبعضهم استبدل منه بالملح كيلا بكيل، وأصاب الرجل من المسلمين خمسة آلاف ونيف من سهمه، وصير الله، عز وجل، العدة والأداة إلى المسلمين، فلم يبق أحد إلا أردى، وركب، وفضل عنهم حتى جنبوا الجنائب. وذكر سيف عن رجاله قالوا: وقسم سعد الفىء بالقادسية على تسعة وثلاثين ألفا أو يزيدون، وكان من شهدها أكثر من تسعة وثلاثين ألفا وأقل من الأربعين، فأصيب منهم خمسة آلاف ومائتان، وقيل وخمسمائة، ثم لحق فى الأيام الثلاثة بعد الوقعة عدد من استشهد فقسم الفىء على تلك العدة التى هى أقل من أربعين ألفا. قالوا: وأعطى الناس المتاع بالقيمة فى سهم الرجل. قال إبراهيم بن يزيد: كانوا ليقومون الشىء الثمين بالشىء اليسير. وقال الشعبى: لم يقسم يومئذ لأكثر من فرسين، ولا يقسم لأكثر منهما، قالوا: فبلغ سهم الفرسين وصاحبهما سبعة وعشرين ألفا، للرجل خمس ذلك وللفرسين سائر ذلك، وللفرس الواحد بحساب ذلك عشرة آلاف ونيف، وسهم الرجل الواحد خمسة آلاف ونيف، وسهم الرجل الفارس ذى الفرس الواحد خمسة عشر ألفا ونيف، وكان القاسم

بين الناس والمميز للخيل والذى يلى الأقباض سلمان بن ربيعة الباهلى. قال المدائنى: فجاء عمرو بن معدى كرب بفرسين يقودهما، فقال سلمان لأحد الفرسين: هذا هجين، فقال عمرو: الهجين يعرف الهجين، فأغلظ له سعد عند ذلك وهدده. فقال عمرو: إذا قتلنا ولا يبكى لنا أحد ... قالت قريش ألا تلك المقادير نعطى السوية من طعن له نهل ... ولا سوية إذ تعطى الدنانير ونح فى الصف قد تدمى حواجبنا ... نعطى السوية مما أخلص الكير قالوا «1» : وكتب سعد بالفتح إلى عمر، رحمه الله، وبعدة من أصيب من المسلمين جملة، وسمى له منهم من كان عمر يعرفه، وكان كتابه إليه: أما بعد، فإن الله، عز وجل، نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم، بعد قتال طويل وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراؤن مثل زهوها فلم ينفعهم الله بذلك، بل سلبهموه ونفله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون يقتلونهم على الأنهار وعلى صفوف الآجام وفى الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا تعلمهم، الله بهم عالم، كانوا إذا جن عليهم الليل يدوون بالقرآن دوى النحل، وهم آساد من الناس لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم على من بقى إلا بفضل الشهادة، إذ لم تكتب لهم. ولما أتى عمر الكتاب بالفتح قام فى الناس فقرأه عليهم، وكان رضى الله عنه، لما أتاه الخبر بنزول رستم القادسية يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار، ثم يرجع إلى بيته، فلما لقيه البشير سأله من أين جاء، فأخبره، فقال: يا عبد الله، حدثنى، قال: هزم الله العدو، وعمر، رضى الله عنه، يخب معه ويستخبره، والآخر يسير على ناقته وهو لا يعرفه حتى دخل المدينة، فإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين، فقال الرجل: فهلا أخبرتنى، رحمك الله، أنك أمير المؤمنين وجعل عمر يقول له: لا عليك يا أخى. وقال عمر للناس عندما قرئ عليهم الفتح: إنى حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك عنا تأسينا حتى نستوى فى الكفاف، إنى

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 583) .

والله ما أنا بملك فأستعبدكم، ولكنى عبد الله عرض علىّ الأمانة، فإن أبيتها ورددتها عليكم وأتبعتكم حتى تشبعوا وترووا فى بيوتكم سعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتى شقيت، ففرحت قليلا وحزنت طويلا، وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب. وكتب سعد، أيضا، إلى عمر فى ثلاثة أصناف من المسلمين اجتمعوا إليه يسأله عنهم، عمن أسلم بعد ما فتح الله تعالى، عليهم ممن كان له عهد ومعونة، وعمن أعتق الجند من رقيقهم بعد الفتح، وعمن جاء بعد ما فتح الله عليهم وأخبره أنه ممسك عن القسم حتى تأتيه رأيه. قالوا: وكانت طائفة من الديلم ورؤساء أهل المسالح قد استجابوا للمسلمين واختاروا عهودهم على عهد فارس، وقاتلوا مع المسلمين على غير الإسلام، وكانوا حشوة فيمن أسلم منهم، فلما فتح الله تعالى على المسلمين قال أولئك الذين لم يكونوا أسلموا: إخواننا الذين سبقونا دخلوا فى هذا الأمر من أول الشأن خير وأصوب رأيا، والله لا يفلح أهل فارس بعد رستم إلا من دخل فى هذا الأمر منهم، فأسلموا، فهم الصنف الأول من الذين سأل عنهم سعد عمر، رضى الله عنهما، قالوا: وتتابع أهل العراق من أصحاب الأيام الذين شهدوا اليرموك ودمشق ورجعوا ممدين لأهل القادسية، فتوافوا بها من الغد ومن بعد الغد جاء أولهم يوم أغواث وآخرهم من بعد الغد من يوم الفتح، وقدمت أمداد فيها وهمدان ومن أبناء الناس، فهذا الصنف الثانى ممن كتب فيهم سعد. وأقام المسلمون فى انتظار أمر عمر، رضى الله عنه، يقومون أقباضهم، ويحزرون جندهم ويرمون أمورهم ويجددون حربهم، حتى جاءهم جواب عمر: أما بعد، فالغنيمة لمن شهد الوقعة، والمواساة لمن أغاث فى ثلاث بعد الوقعة، فأشركوهم ومن أعانكم فى حربكم من أهل عهدكم، ثم أسلم بعد الحرب فى ثلاث، ومن شهد حربكم من مملوك ثم عتق فى ثلاث بعدها فأشركوا هؤلاء الأصناف الثلاثة فيما أفاء الله عليكم. وكانوا كتبوا إليه، أيضا، يسألونه عمن احتلم بعد الوقعة ممن شهدها، فأجابهم عن ذلك: أما بعد فمن أدرك الحلم ممن شهد الوقعة فى ثلاث بعدها فأشركوهم وألحقوهم، وأقسموا لهم ولمن لحق فى ثلاث أو أسلم فى ثلاث، فإن الله لن يزيدكم بذلك إلا فضلا، وليست فى الفيوء أسوة بعد الخمس إلا لهؤلاء الطبقات.

وكتبوا إلى عمر، أيضا، أن أقواما من أهل السواد ادعوا عهودا، ولم يقم على عهد الأيام لنا ولم يف به أحد علمناه إلا أهل بانقيا وبسما وأهل أليس الأخيرة، وادعة سائر أهل السواد أن فارس أكرهوهم وحشروهم، فلم يخالفوا إلينا، ولم يذهبوا فى الأرض. وكتبوا إليه، أيضا، فى كتاب آخر: أن أهل السواد جلوا، فجاءنا من تمسك بعهده ولم يجلب علينا، فتممنا لهم على ما كان بين المسلمين وبينهم قبلنا، وزعموا أن أهل الأرض قد لحقوا بالمدائن، فأحدث إلينا فيمن أقام وفيمن جلا وفيمن ادعى أنه استكره وحشر فهرب ولم يقاتل، أو استسلم، فإنا بأرض رغيبة، والأرض خلاء من أهلها، وعددنا قليل، وقد كثر أهل صلحنا، وإن أعمر لها وأوهن لعدونا تألفهم. فلما انتهى ما كتبوا به إلى عمر، رضى الله عنه، قام فى الناس فقال: إنه من يعمل بالهوى والمعصية يسقط حظه ولا يضر إلا نفسه، ومن يتبع السنة وينته إلى الشرائع ويلزم السبيل النهج ابتغاء ما عند الله لأهل طاعته أصاب أمره وظفر بحظه، وذلك أن الله عز وجل يقول: وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف: 49] ، وقد ظهر الأيام والقوادس بما يليهم، وجلا أهله، وأتاهم من أقام على عهدهم، فما رأيكم فيمن زعم أنه استكره وحشر، وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئا، ولم يجل، وفيمن استسلم. فأجمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف، وأن من ادعى وصدق بمنزلتهم، ومن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم، وأن يجعل أمر من جلا إلى المسلمين، فإن شاؤا وادعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاؤا أتموا على منعهم من أرضهم، ولم يعطوهم إلا القتال، وأن يخيروا من أقام واستسلم بين الجزاء والجلاء، وكذلك الفلاح. فكتب عند ذلك عمر، رضى الله عنه، جوابا عما كتبوا إليه فى ذلك. أما بعد، فإن الله عز وجل أنزل فى كل شىء رخصة فى بعض الحالات إلا فى أمرين: العدل فى السيرة، والذكر. فأما الذكر فلا رخصة فيه فى حالة، ولم يرض منه إلا بالكثير، وأما العدل فلا رخصة فيه فى قريب ولا بعيد، ولا فى شدة ولا رخاء، والعدل وإن رئى لنا، فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور، وإن رئى شديدا فهو أنكس للكفر، فمن تم على عهده من أهل السواد ولم يعن عليكم بشىء فله الذمة وعليهم الجزية، وأما من ادعى أنه استكره ممن لم يخالفهم أو يذهب فى الأرض فلا تصدقوهم بما ادعوا من ذلك إلا أن تشاؤا، وإن لم تشاؤا فانبذوا إليهم، وأبلغوهم

مأمنهم، ومن أقام ولم يجل وليس له عهد فلهم ما لأهل الذمة بمقامهم لكم وكفهم عنكم إجابة، والفلاحون إذا فعلوا ذلك، وكل من ادعى شيئا فصدق فلهم الذمة. وإن كذبوا نبذ إليهم، وأما من أعان وجلا فذلك أمر جعله الله إليكم، فإن شئتم فادعوهم إلى أن يقوموا لكم فى أرضكم، ولهم الذمة وعليهم الجزية، فإن كرهوا ذلك فاقتسموا ما أفاء الله عليكم منهم. فلما قدمت كتب عمر على سعد بن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا وتنحى من أهل السواد أن يتراجعوا، ولهم الذمة وعليهم الجزية، وتراجعوا وصاروا ذمة كمن تم ولزم عهده إلا أن خراجهم أثقل، وأنزلوا من ادعى الاستكراه وهرب منزلتهم، وعقدوا لهم، وأنزلوا من أقام منزلة ذى العهد، وكذلك الفلاحون، ولم يدخل فى الصلح ما كان لآل كسرى، ولا ما كان لمن خرج معهم، ولم يجب إلى الإسلام ولا إلى الجزية. فصارت فيئا لمن أفاء الله عليه كالصوافى فى الأول، وسائر السواد لهم ذمة، وأخذوهم بخراج كسرى، وكان على رؤس الرجال وما بأيديهم من الحصة والأموال، وكان مما أفاء الله عليهم ما كان لآل كسرى ومن صوب معهم وعيالهم وعيال من قاتل معهم وماله، وما كان لبيوت النيران والآجام ومستنقع المياه، وما كان للسكك، فلم يتأت قسم ذلك الفىء الذى كان لآل كسرى ومن صوب معهم؛ لأنه كان متفرقا فى كل السواد، فكان يليه لأهل الفىء من وثقوا به وتراضوا عليه. قالوا: وأدلى جرير وبجيلة يوم القادسية بمثل ما كان عمر جعل لهم من ربع الخمس مما أفاء الله يوم البويب، فكتب سعد إلى عمر بذلك، فاجابه: قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، إنى إنما كنت جعلت لهم ربع الخمس مما أفاء الله على المثنى حين أمددته بهم فى وجههم ذلك إلى البويب نفلا، فقد أخذوه أيام البويب، ثم لم يمضوا ولكن رجعوا إلى أرض العرب، فعنفهم بما ادعوا مما ليس لهم ولا لى وقل لهم: والله ولولا أنى قاسم مسئول لبلغت منكم. فلما بلغ الكتاب سعدا أمر جريرا بجمع بجيلة، فجمعهم له، فقرأ عليهم سعد الكتاب، فقال جرير: صدق والله عمر وأسأنا، وتتابع على ذلك قومه إلا امرأة يقال لها: أم كرز، فإنها قالت: كذبت والله يا جرير، وجعل جرير يقول لها: حلا يا أم كرز، فتعود له بالتكذيب، فلا يزيد على أن يقول: حلا يا أم كرز. وخالف المدائنى ما ذكره سيف فى قصة جرير وقومه، وقال: إن سعدا لما جمع الغنائم

وعزل الخمس، وأراد قسمة الباقى، قال له جرير: إن أمير المؤمنين جعل لنا الربع، وقال بعضهم: الثلث بعد الخمس من كل شىء، فبعث سعد بالخمس إلى عمر، وكتب إليه بقول جرير، فقال عمر: صدق جرير، قد جعلت له ولقومه ما قال من السواد، فخيروهم، فإن شاؤا أعطوا وكان قتالهم للجعالة، وإن شاؤا فلهم سهم المسلمين وقتالهم، فخيرهم سعد فاختاروا سهام المسلمين. فالله أعلم أى ذلك كان. وذكر المدائنى، أيضا، أنه كان فيمن قدم على عمر مع الخمس الأسدى الذى طعن الفيل فضربه سائسه على وجهه فهشم وجهه، فقال له عمر: من أنت؟ وما هذه؟ يعنى الضربة التى فى وجهه، قال: أصابنى قدر من قدر الله، فأخبر القوم عمر خبره، فعانقه عمر وقال: أبشر فهى نور لك يوم القيامة، فهل لك من حاجة؟ قال: تكتب إلى سعد يعطينى محتلما وفرسى، فكتب إلى سعد: أعطه محتلمين، ففعل ذلك سعد. قال الشعبى: وأمر عمر، رضى الله عنه، فى الأعشار بخمسمائة فرس نفلا من خيل فارس لتقسم فى أهل البلاء، فأصاب كل عشر خمسون فرسا، فأصاب النخع عشرون، وقيل: خمسة وعشرون، وأصاب سائرها، سائر مذحج. قالوا: وكتب عمر، رحمه الله، إلى سعد: أنبئنى أى فارس كان يوم القادسية أفرس، وأى راجل كان أرجل، وأى راكب كان أثبت. فكتب إليه: إنى لم أر فارسا مثل القعقاع بن عمرو حمل فى يوم ثلاثين حملة، فقتل فى كل حملة كميا، ولم أر راجلا مثل يعفور بن حسان الذهلى إنه جاء فى اليوم بخمسة فوارس، يختل الفارس منهم حتى يردفه، ثم يغلبه على عنانه حتى يأتى به سلما، ولم أر راكبا مثل الحارث بن قرم البهزى، إنه جاء ببعيره يرفعه، ثم ركب الكراديس ففرق بينها، فإذا نفر بالفارس انحط عنه فعانقه، ثم قتله، ثم يثب على بعيره من قيام. وكتب عمر إلى سعد، أيضا: أنبئنى من وجدت أصبر ليلة الهرير؟ فكتب إليه: إن الحس سكن عنى، حتى إذا كان فى وجه الصبح سمعت انتماء فى مضر وانتماء فى ربيعة ثم انتسابا فى اليمن، فوجدت المنتمين من تميم وأسد وقيس والمنتمين من بكر وحلفاؤها والمنتسبين فى أهل اليمن من مذحج وكندة. وفى كتاب المدائنى أن عمر كتب إلى سعد يسأله: أى الناس كان أصبر بالقادسية؟ فكتب إليه سعد: إن الحرب ركدت ليلة، فلم أسمع إلا هماهم الرجال، وهريرهم، ووقع الحديد، فلما كان قبيل الفجر سمعت الانتماء من كل: أنا ابن معدى كرب، أنا

الجذامى، أنا المالكى من أسد، أنا الأشعرى، ثم صار الانتماء قصره فى جذيمة، فلما انجلت الحرب رأيت جماعة قتلى فى ربضة، فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: من جذيمة النخع، أصيبوا من آخر الليل وهم ينتمون، فنفلهم عمر خمسة وعشرين فرسا، يعنى بنى جذيمة. وحكى المدائنى عن الشعبى قال: كان السبى بالقادسية وجلولاء مائة ألف رأس، وقد قيل: أقل من هذا، وقول الشعبى أكثر وأشهر. ويروى أنه لما كان العطاء فضل من أهل البلاء بالقادسية بخمسمائة خمسمائة فى أعطياتهم خمسة وعشرون رجلا، منهم زهرة بن الجوية وعصمة الضبى والكلح الضبى، وأما أهل البلاء قبلهم ففرض لهم العطاء على ثلاثة آلاف، فضلوا على أهل القادسية. وذكر سيف بن عمر عن رجاله، قالوا: كانت العرب توقع وقعة العرب وأهل فارس فى القادسية يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وكانت فى كل بلدة مصيخة إليها، تنظر ما يكون من أمرها، حتى أن كان الرجل ليريد الأمر فيقول: لا أنظر فيه حتى أرى ما يكون من أمر القادسية، فلما كانت وقعتها سارت بها الجن إلى ناس من الإنس فسبقت أخبار الإنس إليهم، قالوا: فبرزت امرأة ليلا على جبل بصنعاء، لا يدرى من هى، وهى تقول: حييت عنا عكرم ابنة خالد ... وما خير زاد بالقليل المصرد وحيتك عنى الشمس عند طلوعها ... وحياك عنى كل ناج مفرد وحيتك عنى عصبة حنفية ... حسان الوجوه آمنوا بمحمد أقاموا لكسرى يضربون جنوده ... بكل رقيق الشفرتين مهند وسمع أهل اليمامة مجتازا يغنى بهذه الأبيات: وجدنا الأكثرين بنى تميم ... غداة الروع أصبرهم رجالا هم ساروا بأرعن مكفهر ... إلى لجب يوازنهم رعالا بحور للأكاسر من رجال ... كأسد الغاب تحسبهم جبالا هم تركوا بقادس عز فخر ... وبالنجفين أياما طوالا مقطعة أكفهم وسوق ... بمردى حيث قابلت الجبالا وسمع أهل البحرين راكبا يقول: ألا حييا أفناء بكر بن وائل ... فقد تركوا جمع الأعاجم واجما هم صدقوا يوم القوادس فارسا ... بأسيافهم ضربا يبل القوائما

أناخوا لهم فى عرصة الدار وانتموا ... إلى باذخ يعلو الذرى والجماجما وسمع سامع بعمان قائلا: ألا إن عبد القيس كانوا بأسرهم ... غداة قديس كالأسود الشداقم وإذا هم من تغلب ابنة وائل ... كتائب تردى بالقنا والقوائم هم فرقوا جمع الأعاجم وابتنوا ... قرارهم بالمقربات السواهم فقولا لعبد الله أهلا ومرحبا ... وتغلب إذ فضوا هوادى الأعاجم وأشقوا رؤس العجم بالبيض وانتموا ... لأكرم أنساب العريب الأكارم وذكر الرواة أنهم سمعوا نحو هذا بالمدينة ومكة ونجران، وأنشدوا ما سمع فى كل موضع منها، تركت ذكر ذلك اختصارا. ومما قيل أيضا فى فتح القادسية من الشعر الذى لم يزل العلماء قديما يروونه، قول بشر بن ربيعة الخثعمى: تذكر هداك الله وقع سيوفنا ... بباب قديس والمكر ضرير عشية ود القوم لو أن بعضهم ... يعار جناحى طائر فيطير إذا ما فرغنا من قراع كتيبة ... برزنا لأخرى كالجبال تسير ترى القوم منها واجمين كأنهم ... جمال بأحمال لهن زفير وعند أبى حفص عطاء لراحل ... وعند المعنى فضة وحرير وقال القعقاع بن عمرو يذكر شدة ذلك اليوم وما لقيت الفيول فيه وتأثيره فيها: حضض قومى مضر حى بن يعمر ... فلله قومى حين هزوا العواليا وما خام عنها يوم سادت جموعنا ... لأهل قديس يمنعون المواليا فإن كنت قاتلت العدو بنية ... فإنى لألقى فى الحروب الدواهيا فيولا أراها كالليوث مغيرة ... أسمل أعيانا لها ومآقيا وقال حمال الأسدى فى مثل ذلك: ألا هل أتاها يوم أعماس أننى ... أمارس آسادا لها وفيولا أمارس فيلا مثل كعبة أبهر ... ترى دونه رجراجة وخيولا طعنت برمحى عينه فرددته ... يرشح بولا خشية وجفولا وقال الشماخ بن ضرار: ويوم بجو القادسية إذ سموا ... فعجت بقصاب من الهند نافح

أجالدهم والحى حولى كأنهم ... رجال تلاقوا بينهم بالسوافح وإنى لمن قوم على أن ذممتهم ... إذا أولموا لم يولموا بالأنافح وأنك من قوم تحن نساؤهم ... إلى الجانب الأقصى حنين المنائح وقال أيضا: فليت أبا حفص رآنا ووقعنا ... بباب قديس بعد ما عدل الصف حملنا على الآساد آساد فارس ... كحملة هرماس يحربه الصرف وقال عاصم بن عمرو: شاب المفارق والأعراض فالتمعت ... من وقعة بقديس جرها العجم جاب الكتائب والأوزاع وانشمرت ... من صكة ديانها الحكم بينا بجيلة قد كدت سراتهم ... سالت عليهم بأيدى الناصر العصم سرنا إليهم كأنا عارض برد ... تزجى تواليه الأرواح والديم كان العتيق لهم مثوى ومعركة ... فيها الفرائض والأوصال واللمم وقال أبو بجيد، نافع بن الأسود يمدح قوموه، ويذكرهم أثرهم فى الجاهلية والإسلام: وقال القضاة من معد وغيرها ... تميمك أكفاء الملوك الأعاظم هم أهل عز ثابت وأرومة ... وهم من معد فى الذرى والغلاصم وهم يضمنون المال للجار ما ثوى ... وهم يطعمون الدهر ضربة لازم سديف الذرى من كل كوماء بازل ... مقيما لمن يعفوهم غير جارم فكيف تناحيها الأعاجم بعد ما ... علوا لجسيم المجد أهل المواسم وبذل الندى للسائلين إذا اعتفوا ... وكب المتالى فى السنين الأوازم ومدهم الأيدى إلى غاية العلى ... إذا أقصرت عنها أكف الألائم وإرسالهم فى النائبات تلادهم ... لفك العناة أو لكشف المغارم وقودهم الخيل العتاق إلى العدى ... ضوارى تردى فى لجاج المخارم مجنبة تشكو النسور من الوجى ... يعاندن أعناق المطى الرواسم لتنفض وترا أو لتحوى مغنما ... كذلك قدماهم حماة المغانم وكائن أصابوا من غنيمة قاهر ... حدائق من نخل بقران ناعم وكان لهذا الحى منهم غنيمة ... كما أحرزوا المرباع عند المقاسم كذلك كان الله شرف قومنا ... بها فى الزمان الأول المتقادم وحين أتى الإسلام كانوا أئمة ... وقادوا معدّا كلها بالخزائم

إلى هجرة كانت سناء ورفعة ... لباقيهم فيهم وخير مراغم إذا الريف لم ينزل عريف بصحبه ... وإذ هو تكفيه ملوك الأعاجم فجاءت تميم فى الكتائب نصرة ... يسيرون صفا كالليوث الضراغم على كل جرداء السراة وملهب ... بعيد مدى التقريب عبل القوائم عليهم من الماذى زعف مضاعف ... له حبك من شكة المتلازم فقيل لكم مجد الحياة فجاهدوا ... فأنتم حماة الناس عند العظائم فصفوا لأهل الشرك ثم تكبكبوا ... وطاروا عليهم بالسيوف الصوارم فما برحوا يعصونهم بسيوفهم ... على الهام منهم والأنوف الرواغم لدن غدوة حتى تولوا تسوقهم ... رجال تميم ذحلها غير نائم من الراكبين الخيل شعثا إلى الوغى ... بصم القنا والمرهفات القواصم فتلك مساعى الأكرمين ذوى الندى ... تميمك لا مسعاة أهل الألائم ذكر فتح المدائن «1» وما نشأ بينه وبين القادسية من الأمور والمدائن على مسافة بعض يوم من بغداد، ويشتمل مجموعها على مدائن متصلة مبنية على جانبى دجلة شرقا وغربا، ودجلة تشق بينها، ولذلك سميت المدائن. فالمدينة الغربية منها تسمى بهرسير، والمدينة الشرقية تسمى العتيقة، وفيها القصر الأبيض الذى لا يدرى من بناه، ويتصل بهذه المدينة العتيقة المدينة الأخرى التى كانت الملوك تنزلها وفيها الإيوان، إيوان كسرى العجيب الشأن، الشاهد بضخامة ملك بنى ساسان، ويقال: إن سابور ذا الأكتاف منهم هو الذى بناه، وهو من أكابر ملوكهم، وقد بنى ببلاد فارس وخراسان مدنا كثيرة ذكرها أبو بكر بن ثابت الخطيب فى صدر كتابه فى تاريخ بغداد «2» . قال: وكان الإسكندر أجل ملوك الأرض، وقيل: إنه ذو القرنين الذى ذكره الله فى كتابه، فقال: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 619) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 352- 361) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 61، 64- 69) ، الروض المعطار للحميرى (ص 526- 529) ، معجم البلدان لياقوت (5/ 75) . (2) انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (1/ 128) .

[الكهف: 84، 85] ، حتى بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وله فى كل إقليم أثر، فبنى بالمغرب الإسكندرية، وبخراسان العليا على ما يقال سمرقند، ومدينة الصغد، وبخراسان السفلى مرو وهراة، وبناحية الجبل جى ومدينة أصبهان، وبنى مدنا أخرى كثيرة فى نواحى الأرض وأطرافها، وجال الدنيا كلها ووطئها، فلم يختر منها منزلا سوى المدائن فنزلها، وبنى بها مدينة عظيمة، وجعل عليها سورا أثره باق، وهى المدينة التى تسمى الرومية فى جانب دجلة الشرقى، وأقام بالإسكندرية راغبا عن بقاع الأرض كلها وعن بلاده ووطنه. وذكر بعض أهل العلم أنها لم تزل مستقرة منذ نزلها حتى مات بها، وحمل منها فدفن بالإسكندرية لمكان والدته، فإنها كانت إذ ذاك باقية هناك. وقد كان ملوك الفرس لهم حسن التدبير والسياسة والنظر فى الممالك واختيار المنازل، فكلهم اختار المدائن وما جاورها لصحة تربتها وطيب هوائها واجتماع مصب دجلة والفرات بها. ويذكر عن الحكماء أنهم كانوا يقولون: إذا أقام الغريب على دجلة من بلاد الموصل تبين فى بدنه قوة، وإذا أقام بين دجلة والفرات بأرض بابل تبين فى عقله زيادة وفى فطنته ذكاء وحدة، وذلك الذى أورث أهل بغداد الاختصاص بحسن الأخلاق والتفرد بجميل الأوصاف، وقل ما اجتمع اثنان متشاكلان، وكان أحدهما بغداديا إلا كان هو المقدم فى لطف الفطنة، وحسن الحيلة، وحلاوة القول، وسهولة البذل، ووجد ألينهما جانبا، وأجملهما معاشرة. وكان حكم المدائن إذ كانت عامرة آهلة هذا الحكم، ولم تزل دار مملكة الأكاسرة، ومحل كبار الأساورة، ولهم بها آثار عظيمة، وأبنية قديمة، منها الإيوان الذى لم ير فى معناه أحسن منه صنعة، ولا أعجب عملا، وقد أحسن فى وصفه أبو عبادة الوليد بن عبيد البحترى فى قصيدة له على روى السين يقال إنه ليس للعرب سينية مثلها، ووصف أيضا معه القصر الأبيض، وما كان مصورا فيه من الصور العجيبة والتماثيل البديعة والصنائع الغريبة فأبدع فى وصف ذلك وأحسن ما شاء، فقال: حضرت رحلى الهموم فوجه ... ت إلى أبيض المدائن عنس أتسلى عن الحظوظ وآسى ... لمحل من آل ساسان درس أذكر تنيهم الخطوب التوالى ... ولقد تذكر الخطوب وتنس

وهم خافضون فى ظل عال ... مشرف يحسر العيون ويخس حلل لم تكن كأطلال سعدى ... فى قفار من البسابس ملس ومساع لولا المحاباة منى ... لم تطقها مسعاة عنس وعبس لو تراه علمت أن الليالى ... جعلت فيه مأتما بعد عرس وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس وإذا ما رأيت صورة أنطاكي ... ة ارتعت بين روم وفرس والمنايا مواثل وأنو شر ... وان يزجى الصفوف تحت الدرفس فى اخضرار من اللباس على أص ... فر يختال فى صبيغة ورس وعراك الرجال بين يديه ... فى خفوت منهم وإغماض جرس من مشيح يهوى بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس تصف العين أنهم جد أحيا ... ء لهم بينهم إشارة خرس يغتلى فيهم ارتيابى حتى ... تتقراهم يداى بلمس حلم مطبق على الشك عينى ... أم أمان غيرن ظنى وحدس وكأن الإيوان من عجب الصن ... عة جوب فى جنب أرعن جلس يتظنى من الكآبة إذا يب ... دو لعينى مصبح أو ممس مزعجا بالفراق عن أنس إلف ... عز أو مرهقا بتطليق عرس عكست حظه الليالى وبات ال ... مشترى فيه وهو كوكب نحس فهو يبدى تجلدا وعليه ... كلكل من كلاكل الدهر مرس لم يعبه أن بز من بسط الديب ... اج واستل من ستور الدمقس مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت فى رؤس رضوى وقدس لابسات من البياض فما تب ... صر منها إلا جلائل برس لست تدرى أصنع إنس لجن ... صنعوه أم صنع جن لإنس غير أنى أراه يشهد أن لم ... يك بانيه فى الملوك بنكس ولا أعلم أحدا من الشعراء وصف القصر الأبيض وهذا الإيوان بأبدع من هذا الوصف ولا أشجى ولا أوقع. ويروى أن أبا جعفر المنصور، رحمه الله، لما أفضت إليه الخلافة هم بنقض هذا الإيوان، واستشار فى ذلك جلساءه وذوى الرأى عنده من رجاله، فكلهم وافقه على رأيه وأشار عليه بما يطابق هواه إلا خالد بن برمك، فإنه قال له: لا تفعل يا أمير المؤمنين

فإنه آية الإسلام، وإذا رآه من يأتى فى مستقبل الزمان علم أن أصحاب مملكته لم يغلبوا عليه إلا بأمر من عند الله وبتأييد أمد به المسلمين الذين قهروهم، وبقاؤه فخر لكم وذكر، ومع هذا فالمؤونة فى هدمه أكثر من العائد عليه، فاستغشه المنصور فى ذلك، وقال له: يا خالد، أبيت إلا ميلا مع العجمية، ثم أمر بنقض الإيوان، فبلغت النفقة فى نقض الشىء اليسير منه مبلغا عظيما، فكتب إليه بذلك فعزم على تركه، وقال لخالد بن برمك: قد صرنا إلى رأيك، فقال له خالد: إن رأيى الآن أن تبلغوا به الماء، فقال له المنصور: وكيف ذلك؟ قال: لأنى آنف لكم أن يكون أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن هدمه والهدم أسهل من البناء. ففكر المنصور فى قوله فعلم أنه قد صدق، ثم نظر فإذا هدمه يتلف الأموال فأمر بالإمساك عنه. وكان بعد يقول: لقد حبب إلىّ هذا البناء أن لا أبنى إلا بناء جليلا يصعب هدمه. وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالاستيلاء على مملكة فارس ووعدهم بافتتاح المدائن، فضرب يوم الخندق بمعول أخذه صخرة عظيمة اعتاصت عليهم فى الخندق، فكسر ثلثها بضربة، وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إنى لأبصر قصورها الحمر الساعة» ، ثم ضرب الثانية فكسر ثلثها الثانى وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إنى لأبصر قصر المدائن الأبيض» ، ثم ضرب الثالثة فكسر بقية الحجر وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأرى أبواب صنعاء من مكانى هذا الساعة» فصدق الله وعده وأنجز لمحمد صلى الله عليه وسلم ما بشرهم به واستأصل بهم مملكة فارس، وفتح عليهم المدائن فى زمان عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر سيف بن عمر عمن سماه من رجاله «1» وربما زدت فى تضاعيفه من حديث غيره، قالوا: عهد عمر، رضى الله عنه، إلى سعد حين أمره بالمسير إلى المدائن أن يخلف النساء والعيال بالعتيق، ويجعل معهم كثفا من الجند ففعل، وعهد إليه أن يشركهم فى كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين فى عيالاتهم قالوا: وكان مقام سعد بالقادسية بعد الفتح شهرين فى مكاتبة عمر، رضى الله عنه، فى العمل بما ينبغى، فقدم سعد زهرة بن جوية نحو اللسان، وهو لسان البحر الذى أدلعه فى الريف، وعليه الكوفة اليوم، وكانت عليه قبل اليوم الحيرة، وكان النخيرجان معسكرا به فأرفض ولم يثبت حين سمع بمسيرهم إليه، ولحق بأصحابه. ثم أمر سعد عبد الله بن المعتم أن يتبع زهرة وأمر شرحبيل بن السمط أن يتبع عبد الله ثم أتبعهم هاشم بن عتبة وولاه خلافته التى كان

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 618) .

عليها قبل خالد بن عرفطة، وجعل خالدا على الساقة، ثم ارتحل سعد يتبعهم بعد فراغه من أمر القادسية كله، وكل المسلمين فارس مؤد قد نقل الله، عز وجل، إليهم ما كان فى عسكر فارس من سلاح وكراع ومال، فسار زهرة حتى ينزل الكوفة، والكوفة كلها حصباء ورملة حمراء مختلطين، ثم نزل عليه عبد الله وشرحبيل، فارتحل زهرة عند ذلك نحو المدائن. فلما انتهى إلى برس لقيه بها بصبهرى فى جمع فناوشهم زهرة فهزمهم، وهربوا إلى بابل وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم، وكان زهرة قد طعن بصبهرى يوم برس فمات من طعنته بعد ما لحق ببابل، وأقبل عند ذلك بسطام دهقان برس فاعتقد من زهرة وعقد له الجسور، وأتاه بخبر الذين اجتمعوا ببابل. وقدموا على أنفسهم الفيرزان، فكتب بذلك زهرة إلى سعد فأتاه الخبر وقد نزل بالكوفة على من بها مع هاشم بن عتبة، فقدمهم ثم أتبعهم حتى نزل برس فقدم منها زهرة وأتبعه الآخرين، ثم أتبعهم حتى نزلوا على الفيرزان ببابل فاقتتلوا فهزموا المشركين فى أسرع من لفت الرداء فانطلقوا على وجهين، ولم تكن لهم همة إلا الافتراق، فخرج الهرمزان نحو الأهواز، وخرج الفيرزان معه حتى طلع على نهاوند، وبها كنوز كسرى، فأخذها وأكل الماهين، وصمد النخيرجان ومهران الرازى للمدائن، حتى عبرا بهرسير إلى جانب دجلة الآخر، ثم قطعا الجسر وخلفا شهريار دهقانا من دهاقين الباب فى جمع بكوثى، فقدم سعد، زهرة بن جوية ثم أتبعه الجنود، فساروا إليه. فلما التقى بأطراف كوثى جيش شهريار وأوائل خيل المسلمين، خرج شهريار فنادى: ألا رجل، ألا فارس منكم شديد عظيم يخرج إلىّ حتى أنكلكم به، فقال زهرة وكايده: لقد أردت أن أبارزك، فأما إذ سمعت قولك، فإنى لا أخرج إليك إلا عبدا، فإن أقمت له قتلك وإن فررت منه فإنما فررت من عبد، ثم أمر أبا نباتة نائلا الأعوجى وكان من شجعان بنى تميم، فخرج إليه، مع كل واحد منهما الرمح، وكلاهما وثيق الخلق، إلا أن شهريار مثل الجمل، فلما رأى نائلا ألقى الرمح ليعتنقه، وألقى نائل الرمح ليعتنقه، وانتضيا سيفيهما فاجتلدا، ثم اعتنقا فخرا عن دابتيهما، فوقع شهريار على نائل كأنه بيت، فضعضعه بفخذه، وأخذ الخنجر وأراد حل أزرار درعه ليذبحه، فوقعت إبهامه فى فم نائل، فممضغها فحطم عظمها وأحس منه فتورا، فثاوره فجلد به الأرض، ثم قعد على صدره، وأخذ خنجره فكشف درعه عن بطنه، فطعن فى بطنه وجنبه حتى مات، فأخذ فرسه وسواريه وسلبه، وانكشف أصحابه، فذهبوا فى البلاد، وأقام زهرة بكوثى

حتى قدم عليه سعد، فغنم سعد نائلا ذلك السلب كله، وقال له: عزمت عليك يا نائل إلا لبست سواريه وقباءه ودرعه وركبت دابته، فانطلق فتدرع سلبه ثم أتاه فى سلاحه على دابته، فقال له سعد: اخلع سواريك إلا أن ترى حربا فالبسهما، وكان أول رجل من المسلمين سور بالعراق. قالوا: فأقام سعد بكوثى أياما وأتى المكان الذى حبس فيه إبراهيم، عليه السلام، بكوثى، والبيت الذى كان فيه محبوسا فنظر إليه وصلى على رسول الله وعلى إبراهيم وعلى أنبياء الله، صلوات الله على جميعهم، وقرأ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140] ، ثم إن سعدا قدم زهرة إلى بهرسير فمضى من كوثى فى المقدمات وتبعته المجنبات، وخرج هاشم، وخرج سعد فى أثره، وقد فل زهرة كتيبة كسرى التى كانت تدعى بوران حول المظلم، مظلم ساباط، وكان رجالها يحلفون كل يوم بالله لا يزول ملك فارس ما عشنا. ولما انتهى هاشم إلى مظلم ساباط وقف لسعد حتى لحق به، فلما نزل قاله: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: 44] ، ووافق ذلك رجوع المقرط، أسد كان كسرى قد ألفه وتخيره من أسود المظلم، فبادر المقرط الناس حتى انتهى إليهم سعد، فنزل إليه هاشم فقتله، فقبل سعد رأسه، وقبل هاشم قدميه. وقال المدائنى: فنظر هاشم إلى الناس وقد أحجموا ووقفوا فقال: ما لهم؟ فقيل له: أسد قد منعهم، ففرج هاشم الناس وقصد له فثاوره الأسد وضربه هاشم فقطع موصله كأنما اجتلم به غصنا، ووقعت الضربة فى خاصرته، وقال بعضهم: على هامته، فقتله. قالوا: وقدم سعد هاشما إلى بهرسير ثم ارتحل سعد فنزل على البأس بها وجعل المسلمون المتقدمون إليها كلما قدمت عليهم خيل وقفوا ثم كبروا حتى نجز آخر من كان مع سعد، ولما نزل سعد على بهرسير بث الخيول، فأغار على ما بين دجلة إلى من له عهد من أهل الفرات، فأصابوا مائة ألف فلاح، فقال شيرزاذ، دهقان ساباط، وكان قد تلقى زهرة فى طريقه بالصلح وتأدية الجزية، فقال لسعد عند ما أتى بالفلاحين فخندق لهم: إنك لا تصنع بهؤلاء شيئا، إنما هؤلاء علوج لأهل فارس فدعهم إلىّ حتى يفرق لك الرأى فيهم، فكتب عليه بأسمائهم، ودفعهم إليه، فقال لهم شيرزاذ: انصرفوا إلى قراكم. وكتب سعد إلى عمر رحمهما الله: إنا وردنا بهرسير بعد الذى لقينا بين القادسية وبهرسير، فلم يأتنا أحد لقتال، فبثثت الخيول فجمعت الفلاحين من القرى والآجام،

فرأيك. فأجابه عمر: إن من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن لم يأتكم ولم يهرب فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به. فلما جاء سعدا الكتاب خلى عنهم. وراسله الدهاقين، فدعاهم إلى الإسلام أو الجزاء ولهم الذمة والمنعة، فرضوا بالجزية والمنعة، ولم يبق فى غربى دجلة إلى أرض العرب سوادى إلا أمن واغتبط بملك الإسلام واستقبلوا الخراج. وأقام سعد بالناس على بهرسير يرمونهم بالمجانيق ويدبون إليهم بالدبابات، ويقاتلونهم بكل عدة. قال بعضهم: وكان سعد عند ما نزلها وعليها خنادقها وحرسها وعدة الحرب استصنع شيرزاذ المجانيق فنصب على أهلها عشرين منجنيقا فشغلهم بها، وكان الأعاجم والعرب مطيفين بهم، وربما خرجوا يمشون على المسنيات المشرفة على دجلة فى جماعتهم وعدتهم لقتال المسلمين، فلا يقومون لهم، فكان آخر ما خرجوا فى رجالة وناشبة، وتجردوا للحرب، وتتابعوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون فكذبوا وتوالوا، وكانت على زهرة بن الجوية يومئذ درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسرد فقال: ولم؟ فقالوا: إنا نخاف عليك منه، فقال: إنى لكريم على الله، أن ترك سهم فارس الجند كلهم ثم أتانى من هذا الفصم حتى يثبت فىّ، فكان أول رجل من المسلمين أصيب يومئذ بنشابة، فثبتت فيه من ذلك الفصم، فقال بعضهم: انزعوها عنه، فقال: دعونى، فإن نفسى معى ما دامت فىّ، لعلى أن أصيب فيهم بطعنة أو بضربة أو خطوة، فمضى نحو العدو، فضرب بسيفه شهربراز من أهل اصطخر، فقتله، وأحيط به فقتل وانكشفوا. وسيأتى بعد من أخبار زهرة بن الجوية وآثاره فى الوقائع التى لا شك فى كونها بعد هذه ما يوهن خبر قتله المذكور آنفا، والأولى بحسب هذا إن شاء الله أن يكون غير زهرة هو صاحب هذه القصة؛ إذ قد ذكر المدائنى أن هاشم بن عتبة قال لزهير بن سليم الأزدى، قال: ويقال لغيره، ورأى فى درعه فصما، إنى لا آمن أن تصيبك نشابة فى هذا الموضع، فلو سردته قال: لئن تركت نشابة الفارسى جسدى كله إلا هذا الموضع إنى إذا لسعيد، ثم ذكر نحو ما تقدم، فالله أعلم. وقال أنيس بن الحليس «1» : بينا نحن محاصرون بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم، أشرف علينا رسول فقال: إن الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 7) .

دجلة وجبلها، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم؟ فبدر الناس أبو مفرز الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله، عز وجل، بما لا يدرى ما هو ولا نحن، فأجابه بالفارسية ولا يعرف منها شيئا هو ولا نحن، فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن، فقلنا: يا أبا مفرز ما قلت له؟ قال: لا والذى بعث محمدا بالحق ما أدرى ما هو، وإلا أنى علتنى سكينة، وأرجو أن أكون أنطقت بالذى هو خير، وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد، فجاءنا فقال: يا أبا مفرز ما قلت له؟ فو الله إنهم لهراب، فحدثه بمثل حديثه إيانا، فنادى فى الناس، ثم نهد بهم، فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج إلينا إلا رجل نادى بالأمان فأمناه، فقال: ما بقى أحد فيها فما يمنعكم، فتسورها الرجال، وافتتحناها، فما وجدنا فيها شيئا ولا أحدا، إلا أسارى أسرناهم خارجا منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأى شىء هربوا؟ فقال: بعث إليكم الملك يعرض عليكم الصلح، فأجبتموه أنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذون بأترج كوثى، فقال الملك: وا ويلة ألا أرى الملائكة تكلم على ألسنتهم، ترد علينا وتجيبنا عن العرب، وو الله لئن لم يكن كذلك، ما هو إلا شىء ألقى علىّ فى هذا الرجل لننتهى، فأرزوا إلى المدينة القصوى. قالوا: ولما دخل سعد والمسلمون بهرسير أمر بها فثلمت وتحول العسكر إليها ولاح لهم وذلك فى جوف الليل القصر الأبيض، فقال ضرار بن الخطاب: الله أكبر، أبيض كسرى هذا ما وعد الله ورسوله، وتابعوا التكبير حتى أصبحوا. وقال القعقاع بن عمرو: ألم يأتيك والأخبار تنمى ... وتصعد فى الملمعة الفياف توافينا ومنزلنا جميعا ... أمام الخيل بالسمر الثقاف قسمنا أرضهم قسمين حتى ... نزلنا مثل منزلهم كفاف دعاء ما دعونا آل كسرى ... وقد هم المرازب بانصراف وما أن طبهم جبن ولكن ... رميناهم بداعية ذعاف فتحنا بهرسير بقول حق ... أتانا ليس من سجع القوافى وقد طارت قلوب القوم منا ... وملوا الضرب بالبيض الخفاف ولما نزل سعد بهرسير، وهى المدينة الدنيا من المدائن، طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى منها، فلم يقدر على شىء، ووجدهم قد ضموا السفن، فأقاموا أياما يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين، ودجلة قد طما ماؤها يتدفق جانباها،

فيروى أنه بينا سعد والمسلمون كذلك إذ سمعوا ليلا قائلا يقول: يا معشر المسلمين، هذه المدائن قد غلقت أبوابها وغيبت السفن وقطعت الجسور فما تنتظرون، فربكم الذى يحملكم فى البر هو الذى يحملكم فى البحر، فندب سعد الناس إلى العبور، فأتاه قوم من العجم ممن قد اعتقد منه ذمة فقالوا: ندلك على موضع أقل غمرا من هذا، فدلوه على ديلمايا «1» . وقيل «2» : إن سعدا رأى رؤيا كأن خيول المسلمين اقتحمت دجلة فعبرتها، وقد أقبلت من المد بأمر عظيم، فعزم على تأويل رؤياه على العبور، وفى سنة جود صيبها متتابع، فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاؤا، فيناوشونكم فى سفنهم، وليس وراءكم شىء تخافون أن تؤتوا منه، فقد كفاكموهم أهل الأيام، وأعطوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأى أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصدكم الدنيا: ألا إنى قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم، فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل، فقال: من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى يتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو أول الناس، وانتدب معه ستمائة من أهل النجدات، واستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة فقال: من ينتدب معى لنمنع الفراض من عدوكم حتى تعبروا؟ فانتدب له ستون فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكور، ليكون أسلس لعوم الخيل، ثم اقتحموا دجلة واقتحم بقية الستمائة على أثرهم وقد شدوا على خيولهم حزمها وألبابها وقرطوها أعنتها وشدوا عليهم أسلحتهم، فلما رأتهم الأعاجم وما صنعوا أعدوا للخيل التى تقدمت خيلا مثلها، فاقتحموا إليهم دجلة، فلقوا عاصما فى السرعان، وقد دنا من الفراض، فقال: الرماح الرماح أشرعوها وتوخوا العيون، فالتقوا، فاطعنوا فى الماء، وتوخى المسلمون عيونهم، فتولوا نحو البر والمسلمون يشمسون بهم خيلهم حتى ما يملكون منها شيئا، فلحقوا بهم فى البر فقتلوا عامتهم، ونجا باقيهم عورانا. ونزلت بالمسلمين خيولهم حتى انتقضت على الفراض، وتلاحق باقى الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين. ويروى أن أولئك الستين خرجوا يومئذ من دجلة منقطعين زمرا، الزمرة الأولى تسعة فيهم عاصم، والثانية ثمانية عشر، والثالثة ثلاثة وثلاثون، ويومئذ سميت كتيبة عاصم هذه كتيبة الأهوال، لما رأى منهم فى الماء والفراض.

_ (1) ديلمايا: موضع بالعراق على دجلة. انظر الخبر والتعريف فى: الروض المعطار (ص 249) . (2) انظر: الطبرى (4/ 9، 10) .

ولما رأى سعد عاصما على الفراض وقد منعها، أذن للناس فى الاقتحام، وقال: قولوا نستعين بالله، ونتوكل على الله، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وتلاحق عظم الجند فركبوا اللجة، واعترضوا دجلة وإنها لمسودة تزخر، لها حدب يقذف بالزبد، فكان أول من اقتحم سعد بن أبى وقاص، ثم اقتحم الناس، وقد قرنوا أنثى بكل حصان يتحدثون على ظهورها كما يتحدثون على الأرض، وطبقوا دجلة خيلا ودواب ورجالا حتى ما يرى الماء من الشاطئ أحد، وسلمان الفارسى يساير سعدا يحدثه، والماء يطفو بهم، والخيل تعوم، فإذا أعيا فرس استوى قائما يستريح كأنه على الأرض، فقال قيس بن أبى حازم: إنى لأسير فى دجلة فى أكثر مائها إذ نظرت إلى فارس وفرسه كأنه واقف ما يبلغ الماء حزامه. وقال بعضهم: لم يكن بالمدائن أمر أعجب من ذلك، فقال سعد: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 14] . وفى رواية أنه قال لسلمان وهو يسايره فى الماء: والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن عدوه، إن لم يكن فى الجيش بغى أو ذنوب تغلب الحسنات، فقال سلمان: يا أبا إسحاق، الإسلام جديد، ذلل الله لكم البحر كما فرقه وذلله لبنى إسرائيل، والذى نفس سلمان بيده، لتخرجن منه أفواجا كما دخلتموه أفواجا، فخرجوا منه كما قال سلمان، لم يفقدوا شيئا، ولم يغرق فيه أحد. قال أبو عثمان النهدى «1» : إلا رجلا من بارق يدعى غرقدة، زل عن ظهر فرس له شقراء، كأنى أنظر إليها عريا تنفض عرفها، والغريق طاف، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه، فجره حتى عبر، فقال البارقى: وكان من أشد الناس: أعجزت الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع وكانت للقعقاع فيهم خؤولة. وقال بعض رجال سيف بن عمر «2» : إنه لم يذهب للمسلمين يومئذ فى الماء شىء إلا قدح كانت علاقته رثة، فانقطعت، فذهب به الماء، فقال الرجل: الذى كان يعاوم صاحب القدح «3» معيرا له: أصابه القدر فطاح، فقال: إنى لأرجو والله أن لا يسلبنى الله قدحى من بين أهل العسكر، وإذا رجل من المسلمين ممن تقدم ليحمى الفراض قد سفل

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 10) . (2) انظر: الطبرى (4/ 12) . (3) هو: مالك بن عامر، حليف لقريش من عنزة.

حتى طلعت عليه أوائل الناس، وقد ضربت الرياح والأمواج القدح حتى وقع إلى شاطئ، فتناوله برمحه، فجاء به إلى العسكر فعرّفه، فعرفه صاحبه فأخذه، وقال لصاحبه الذى كان يعاومه: ألم أقل لك؟ فيروى أن عمر، رحمه الله، بلغه ما كان قال له صاحبه أولا، فأنكره وأرسل إليه: أنت القائل أصابه القدر فطاح؟ تفجع مسلما!. وقال الأسود بن قطبة أبو مفزر يرتجز يومئذ: يا دجل إن الله قد أشجاك ... هذى جنود الله فى قراك فلتشكرى الذى بنا حباك ... ولا تروعى مسلما أتاك وقال عاصم بن عمرو فى ذلك: ألا هل أتاها أن دجلة ذللت ... على ساعة فيها القلوب تقلب ترانا عليها حين عبّ عبابها ... تبارى إذا جاشت بموج تصوب نفينا بها كسرى عن الدار فانتوى ... لأبعد ما ينوى الركيك الموقب قال: وفجأ المسلمون أهل فارس من هذا العبور بأمر لم يكن فى حسبانهم، فأجهضوكم وأعجلوهم عن حمل أموالهم، وخرجوا هرابا، وقد كان يزدجرد خرج قبلهم إلى حلوان فنزلها بعد أن قدم إليها عياله حين أخذت بهرسير وخرجوا معهم بما قدروا عليه من حر متاعهم وخفيفه، وبالنساء والذرارى وما قدروا عليه من بيت المال، وتركوا فى الخوائن من الثياب والمتاع والآنية والألطاف والأدهان ما لا يدرى ما قيمته، وخلفوا ما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم وكل الأطعمة والأشربة، فدخل المسلمون المدائن واستولوا على ذلك كله فكان أول من دخلها كتيبة الأهوال، ثم تبعتها الخرساء، كتيبة سعد، فأخذوا فى سككها لا يلقون أحدا ولا يحسونه إلا ما كان فى القصر الأبيض، فأحاطوا بهم ودعوهم فاستجابوا لسعد على الجزاء والذمة، ويرجع إليها أهل المدائن على مثل عهدهم، ليس فى ذلك ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم. ونزل سعد القصر الأبيض وسرح زهرة فى آثار القوم إلى النهروان فانتهى إليها، وسرح مقدار ذلك فى طلبهم من كل وجه. وقال حبيب بن صبهان «1» : لما عبر المسلمون دجلة، جعل أهل فارس وهم ينظرون إليهم يعبرون يقول بعضهم لبعض بالفارسية ما تفسيره بالعربية: إنكم والله ما تقاتلون الإنس وإنما تقاتلون الجن.

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 14) .

قالوا: وما زالت حماة أهل فارس يقاتلون على ماء الفراض يمنعون المسلمين من العبور، حتى ناداهم مناد: علام تقتلون أنفسكم؟ فو الله ما فى المدائن من أحد، فانهزموا واقتحمتها الخيول عليهم، ولما دخلها سعد فرأى خلوتها وانتهى إلى إيوان كسرى أقبل يقرأ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ [الدخان: 25، 28] ، وصلى فيه صلاة الفتح، ولا تصلى جماعة، فصلى ثمانى ركعات لا يفصل بينهن، واتخذ الإيوان مسجدا، وفيه تماثيل الجص رجال وخيل، فلم يمتنع هو ولا المسلمون، يعنى من الصلاة فيه، لأجلها، وتركوها على حالها، وأتم سعد الصلاة يوم دخلها لأنه أراد المقام بها. وبالمدائن كانت أول جمعة جمعت بالعراق فى صفر سنة ست عشرة. ووكل سعد بالأقباض من يجمعها «1» ، وأمره بجمع ما فى القصر والإيوان ومنازل كسرى وسائر الدور، وإحصاء ما يأتيه به الطلب، وقد كان أهل المدائن تأهبوا عند المدائن للغارة، ثم طاروا فى كل وجه، فما أفلت أحد منهم بشىء ولا بخيط، ألح عليهم الطلب فتنفذوا ما فى أيديهم، ورجعوا بما أصابوا من الأقباض، فضموها إلى ما قد جمع. وقال حبيب بن صبهان: دخلنا المدائن، فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص، فما حسبناها إلا طعاما، فإذا هى آنية الذهب والفضة وقسمت بعد بين الناس. قال: ولقد رأيت الرجل يطوف ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير فما حسبناه إلا ملحا، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته فى الخبز. وعن الرفيل بن ميسور «2» قال: خرج زهرة، يعنى ابن الجوية، فى المقدمة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان وهم عليه، فازدحموا فوقع بغل فى الماء وعجلوا عنه ثم كلبوا عليه، فقال زهرة: أقسم بالله إن لهذا البغل لشأنا، ما كلب القوم عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك بعد ما أرادوا تركه إلا لشىء، فترجل حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه فاحتملوا البغل بما عليه حتى أدوه إلى الأقباض ما يدرون ما عليه، وإذا الذى عليه حلية كسرى، ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التى كان فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة.

_ (1) هو: عمرو بن عمرو بن مقرن. (2) انظر: الطبرى (4/ 17) .

وقال الكلج الضبى: كنت فيمن خرج للطلب، فإذا أنا ببغالين قد ذبا الخيل عنهما بالنشاب، فما بقى معهما غير نشابتين، فالتظظت بهما، فاجتمعا، وقال أحدهما لصاحبه: ارمه وأحميك، أو أرميه وتحمينى، فحمى كل واحد منهما صاحبه حتى رميا بهما. ثم إنى حملت عليهما فقتلتهما، وجئت بالبغلين ما أدرى ما عليهما، حتى بلغتهما صاحب الأقباض، فإذا هو يكتب ما يأتيه به الرجال وما كان فى الخزائن والدور، فقال: على رسلك حتى ننظر ما معك فحططت عنهما، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسخا، وكان لا تحمله إلا أسطوانتان، وفيهما الجوهر، وعلى الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التى كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجا منظوما. قالوا «1» : وخرج القعقاع يومئذ فى الطلب، فلحق بفارسى يحمى الناس، فاقتتلا فقتله القعقاع، وإذا معه جنبية عليها عيبتان وغلافان فى أحدهما خمسة أسياف وفى الآخر ستة، وفى العيبتين أدراع، درع كسرى ومغافره وساقاه وساعداه، ودرع هرقل، ودرع النعمان، ودرع داهر، ودرع سياوخش، ودرع بهرام شوبين، وكانوا استلبوا ما لم يرثوا منها، مما استلبوا أيام غواتهم خاقان وهرقل وداهر، وأما النعمان وبهرام فحين هربا وخالفا كسرى. وفى أحد الغلافين سيف كسرى وهرمز وكسوتى قباذ وفيروز، وفى الآخر سيوف سائر من نسبت إليه دروع من تلك الدروع، فجاء القعقاع بذلك كله إلى سعد، فقال له: اختر أحد هذه الأسياف، فاختار سيف هرقل، وأعطاه إياه معه درع بهرام، ونفل سعد سائر ذلك فى الخرساء، كتيبته، إلا سيف كسرى والنعمان، فإنه بعث بهما إلى عمر فى الأخماس مع حلى كسرى وتاجه وثيابه، ليرى ذلك المسلمون، ولتسمع به العرب، لمعرفتهم بها. وقال عصمة الضبى «2» : خرجت فيمن خرج يطلب، فأخذت طريقا مسلوكا فإذا عليه حمّار، فلما رآنى حث حماره فلحق آخر قدامه، فمالا، وحثا حماريهما، فانتهينا إلى جدول قد كسر جسره، فثبتا حتى أتيتهما، ثم تفرقا، ورمانى أحدهما فألظظت به حتى قتلته، وأفلت الآخر، فرجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما، فإذا سفطان فى أحدهما فرس من ذهب مسروج بسرج من فضة على ثغره ولببه الزمرد والياقوت منظومين على الفضة، ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلل

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 18) . (2) انظر: الطبرى (4/ 18، 19) .

بالجوهر، وإذا فى الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب وزمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر، كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتى التاج. وعن أبى عبيدة العنبرى «1» قال: لما هبط المسلمون بالمدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحق فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال هو والذين معه، لما نظروا إلى ما فيه: ما رأينا مثل هذا قط، ثم قالوا له: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدونى، ولا غيركم ليقرظونى، ولكنى أحمد لله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى أتى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بن عبد قيس. ويروى أن سعدا، رحمه الله، قال حين رأى ما رأى من ورع الناس وكونهم لم يتعلق على أحد منهم بغلول فيما جمعوا من الغنائم: والله إن هذا الجيش لأهل أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر ما فضلتهم عليهم، ولقد نالت الدنيا من رجال من أهل بدر حين أصابوها. وقال جابر بن عبد الله: والله الذى لا إله إلا هو، ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية يريد الدنيا مع الآخرة. قال بعضهم: ولقد كانوا يخافون قيس بن مكشوح، وعمرو بن معدى كرب، وطليحة بن خويلد، وأشباههم على الغلول، فما تعلق على أحد منه بشىء يكرهونه ولا أرادوا الدنيا. ولما قدم على عمر، رحمه الله، بسيف كسرى ومنطقته وزبرجه، قال: إن أقواما أدوا هذا لذووا أمانة. فقال على، رضى الله عنه: إنك عففت فعفت الرعية. قالوا: ولما اجتمعت الغنائم، وتراجع الطلب قسم سعد بين الناس فيئهم بعد ما خمسه، فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا، وكلهم كان فارسا ليس فيهم راجل، وكانت الجنائب فى المدائن كثيرة، ويقال: كانوا بين أهل الأيام وأهل القادسية الذين لم يشهدوا الأيام، وبين من لحق بهم فى ثلاث من غير أهل الأيام بالقادسية، وبين أهل الروادف ستين ألفا، وقسم سعد دور المدائن بين الناس، وأوطنوها، وكان الذى ولى القبض عمرو بن عمرو المزنى، والذى ولى القسم سلمان بن ربيعة.

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 19) .

وقال الشعبى «1» : بعث سعد إلى العيالات فأنزلهم الدور لما قسمها وفيها المرافق، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد. قالوا: وجمع سعد الخمس، وأدخل فيه كل شىء أراد أن يعجب به عمر، من ثياب كسرى وحليه وسيفه ونحو ذلك، ونفل من الأخماس فى أهل البلاء، ولم يجهدها، وفضل بعد القسم بين الناس، وإخراج الخمس، القطف فلم يعتدل، فقال للمسلمين: هل لكم فى أن تطيب أنفسنا عن أربعة أخماسه، ونبعث به إلى عمر فيضعه حيث يرى، فإنا لا نراه يتفق: وهو بيننا قليل، وهو يقع من أهل المدينة موقعا؟ فقالوا: نعم، فبعث به على ذلك الوجه، والقطف هو بهار كسرى ثقل عليهم أن يذهبوا به، فتركوه بالمدائن، فأصابه المسلمون، وكان بساطا واحدا ستين ذراعا فى ستين ذراعا فيه طرز كالسور وفصوص كالأنهار، وفى خلال ذلك كالدير، فى حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات فى الربيع من الحرير على قضبان الذهب ونواره بالذهب والفضة وأشباه ذلك. وكانوا يعدونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكان إذا أرادوا الشراب شربوا عليه، فكأنهم فى رياض، وكانت العرب تسميه القطف، فبعث به سعد مع الأخماس إلى عمر، رضى الله عنه، مع بشير بن الخصاصية، فلما قدم عليه نفل من الخمس أناسا، وقال: إن الأخماس ينفل منها من شهدها ومن غلب من أهل البلاء فيما بين الخمسين، ولا أرى القوم جهدوا الخمس، ثم قسم الخمس فى مواضعه، ثم قال: أشيروا علىّ فى هذا القطف. فأجمع ملؤهم على أن قالوا: قد جعلوا ذلك لك، فراء رأيك، إلا ما كان من على، رضى الله عنه، فإنه قال: يا أمير المؤمنين، الأمر كما قالوا: ولم يبق إلا التروية، إنك إن تقبله اليوم على هذا لم تعدم فى غد من يستحق به ما ليس له، قال: صدقتنى ونصحتنى. وفى رواية أن عمر، رضى الله عنه، استشارهم فيه، فمن بين مشير بقبضه، وآخر مفوض إليه، وآخر مرفق، فقام على، رضى الله عنه، حين رأى عمر تأنى حتى انتهى إليه، فقال: لم تجعل علمك جهلا، ويقينك شكّا إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فامضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت. قال: صدقتنى، فقطعه فقسمه بين الناس، فأصاب عليا قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا، وما هى بأجود تلك القطع. وذكر المدائنى أن عمر حين قال له على: إن بلته لم تعدم بعدك من يستحق مأثما

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 21) .

بك، صرفه إلى سعد، وكتب إليه: أن بعه واقسم ثمنه على من أفاءه الله عليهم. قال رجال سيف «1» : ولما أتى عمر بحلى كسرى وزيه فى المباهاة، وفى غير ذلك، وكانت له عدة أزياء لكل حالة زى، قال: علىّ بمحلم، وكان أجسم عربى يومئذ بأرض المدينة، فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب، وصب عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأجلس للناس، فنظر إليه عمر، ونظر إليه الناس، فرأوا أمرا عظيما من أمر الدنيا وفتنتها، ثم قام عن ذلك، فألبس زيه الذى كان يلبسه، فنظروا إلى مثل ذلك فى غير نوع، حتى أتى على الأزياء كلها، ثم ألبسه سلاحه، وقلده سيفه، فنظروا إليه فى ذلك، ثم وضعه ثم قال: والله إن أقواما أدوا هذا لذووا أمانة، ونفل سيف كسرى محلما، هكذا وقع ذكر محلم فى هذا الحديث، ولا أعرف ولا أعلم فى ذلك الصدر من اسمه محلم إلا محلم بن جثامة، ويقال: إنه توفى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصته فى الدم الذى أصابه، والعفو عند وجوب القود، ودعاء النبى صلى الله عليه وسلم لما مثل بين يديه، قصة مشهورة. وقد قيل: إنه عاش بعد النبى صلى الله عليه وسلم فالله أعلم. وكذلك قيل: إن الذى ألبسه عمر سوارى كسرى هو سراقة بن مالك المدلجى. وروى سفيان بن عيينة عن أبى موسى، عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك» : «كيف بك إذا لبست سوارى كسرى؟» «3» قال: فلما أتى عمر بسوارى كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة فألبسه إياهما، وكان سراقة رجلا أزب كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك فقل: الحمد لله، الله أكبر، الحمد لله الذى سلبهما كسرى بن هرمز الذى كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيا من بنى مدلج، ورفع بها عمر صوته. وذكر أبو الحسن المدائنى فى فتوح العراق خبر المدائن، فخالف فيه كثيرا مما تتقدم وزاد ونقص، وسأذكر من ذلك ما يحسن ذكره على سبيل الاختصار والتوخى لحذف ما يكون ذكره تكرارا إلا ما يعتاض فضله من الحديث للحاجة إليه.

_ (1) انظر: الطبرى (22، 23) . (2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3122) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1955) ، الثقات (3/ 180) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 210) ، تقريب التهذيب (1/ 284) ، تهذيب التهذيب (3/ 456) ، تهذيب الكمال (1/ 466) ، الجرح والتعديل (4/ 1342) ، شذرات الذهب (1/ 35) ، العبر (1/ 27) ، العقد الثمين (4/ 523) . (3) انظر الحديث فى: إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 18) ، الشفاء للقاضى عياض (1/ 674) .

فمن ذلك أن يزدجرد لما غلب سعد على مدينة نهرسير واعتقد أهل غربى دجلة منه الذمة نقل خزائنه وأمواله ودواوينه إلى حلوان، وأقام فى الإيوان فى مقاتلته، وسعد والمسلمون فى دير المنازل، فبينما هم به ودجلة قد طماها ماؤها يتدفق جانباها، إذ سمعوا ليلا قائلا يقول: يا معشر المسلمين، هذه المدائن غلقت أبوابها، وغيبت السفن، وقطعت الجسور، فما تنتظرون، فربكم الذى يحملكم فى البر يحملكم فى البحر؟ فندب سعد الناس إلى العبور، ثم ساق الحديث فى ركوبهم دجلة على ظهور خيلهم نحوا مما تقدم، ثم قال: ونظر ضرار بن الخطاب والمسلمون فرأوا بناء أبيض، فقال ضرار: الله أكبر، أبيض المدائن ورب الكعبة، وهرب أهل المسالح حين عبر المسلمون، واعروها وقالوا: هؤلاء من السماء، وخرج أهل الرومية ومن كان فيها من الأساورة معهم الفيلة فقاتلهم المسلمون، فكانت الفيلة تهم فى وجوه الخيل، والمسلمون قليل ليست لهم رجالة تقاتل عن خيلهم، فكانت الخيل تنفر، فأتى رجل سعدا فقال: تؤمننى على نفسى وأهلى ومالى وأدلك على ما ترد به الفيلة؟ قال: نعم. قال: الخنازير. قال: وأنى لى بها؟ قال: أنا أجيئك بها، فجاءه بخنازير فضربت فجعلت تقيع فى وجوه الفيلة، فولت وانهزم المشركون. فوقف رجل يحميهم واعترض الطريق فلما دنا منه المسلمون ضرب فرسه ليقدم عليهم، فاعتاص وضربه ليهرب، فاعتاص فطعنه رجل من المسلمين فقتله، ودخل الآخرون الرومية، ومضى الأساورة إلى يزدجرد بالإيوان، فهرب هو وأساورته ومقاتلته، وسمعوا صوتا من ورائهم علام تقتلون أنفسكم وقد ذهبت مدة ملككم. ومضى سعد إلى المدينة العتيقة، فمر المسلمون بمجلس لكسرى كان يسمى بهشت إيوان، فوقفوا ينظرون إليه وقد تقدم سعد فانطوى عليه، فظن أنهم اقتطعوا، فسأل عنهم، فأخبر، فقال لبعض من معه من العجم: ما هذا المجلس؟ قالوا: بهشت إيوان. قال: وما تفسيره؟ قالوا: الجنة. فأرسل سعد قوما فأحرقوه، وخرج أهل المدائن إلى سعد فتلقوه بجامات الذهب والفضة مملوءة دنانير ودراهم يسألونه الأمان على أن يعطوا الجزية، فقبل ذلك منهم، ونزل القصر الأبيض، وأمر أهل المدائن فعقدوا الجسر، فعبر المسلمون جميعا وأثقالهم وإبلهم، وتحول سعد فعسكر فى مكانين على الناقوس وعلى نهر أبغش، بين العسكرين ميل، وكان أكثر العسكرين أهلا الذين على نهر أبغش، واتخذ سعد مسجدا على الناقوس فهو إلى اليوم يسمى مسجد العسكر، وصلى فيه على بن أبى طالب حين قدم المدائن وهو يريد صفين. ولم يأخذ سعد من المدينة ومن أهلها إلا ما كان للملك وأهل بيته ولمن هرب،

وأصابوا فى خزائنهم ما عجزوا عن حمله من المتاع وصنوف الأطعمة ما لا يوصف كثرة، فأمر سعد بجمع ذلك، فجمع وولاه النعمان بن مقرن ثم تلا: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [إبراهيم: 44، 45] . وكتب سعد إلى عمر بفتح المدائن وبهرب ابن كسرى، فكتب إليه عمر: أوصيك بتقوى الله الذى بتقواه سعد من سعد وبترك تقواه شقى من شقى، وقد عرفت بلاء الله عندنا أيها الرهط أنه استنقذنا من الشرك وأهله، وأخرجنا من عبادة أوثانهم، وهدانا من ضلالتهم، وعرفت مخرجنا من عندهم، كيف خرجنا، وأن الرهط على بعير عليه أنفسهم وزادهم يتعاور اللحاف الواحد العدة منا من بلغ مأمنه منا بلغ مجهودا، ومن أقام فى أرضه أقام مفتونا فى دينه معذبا فى بدنه، أشد أهله عليه أقربهم منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بالله لتأخذن كنوز كسرى وقيصر، يعجب من ذلك من سمعه، فأبقاك الله حتى وليت ذلك بنفسك، فأعرض عن زهرة ما أنت فيه، حتى تلقى الخماص الذين ذهبوا فى شمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدنيا، ولم يغتروا بها، فاقتدوا بهديهم، ولا تضللن أنفسكم، وكونوا الأمة الممدوحة المباركة التى قال الله تبارك وتعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ [الأنبياء: 73] . قال: وحصر سعد الرومية تسعة أشهر حتى أكل السنانير والكلاب بعضهم، فأتى سعدا رجل مستأمن، فسأله الأمان لنفسه وأهله، على أن يدله على عورة المدينة، فأمنه فدله على مجرى الماء إلى المدينة، وكان يأتيهم الماء فى قناة من دجلة، فغورها المسلمون فارتحل أهل الرومية حين انقطع الماء عنهم من ليلتهم، وحملوا ما خف من أموالهم، وخرجوا على حامية معهم أثقالهم، فأخذوا طريق خراسان، فأتت امرأة منهم سعدا فسألته الأمان فأمنها، فقالت لم يبق فى المدينة أحد من المقاتلة ولا عيالاتهم، بقى قوم ضعفاء، فدخلها سعد، فأصابوا متاعا كثيرا وسلاحا وسبيا قليلا، فبعث بخمس ما أصاب من الرومية، وما صالح عليه أهل المدائن إلى عمر مع بشير بن الخصاصية. وذكر من حديث البساط الذى مر ذكره نحوا مما تقدم. وذكر، أيضا، عن حرملة بن صدقة بإسناده إليه قال: غزوت خراسان فرأيت رجلا

من العجم يشبه الروم فسألنى عن مسكنى، فقلت: المدائن، قال: أيها؟ قلت: الرومية. قال: فأين منزلك منها؟ فوصفته له، قال: هذه دارى، إنى أحدث أصحابى عنها وعن حالى، وما كنت فيه فيكذبوننى، ولقد دفنت حين حصرنا العرب فى الدكان التى على باب الدار عشرة آلاف درهم وآنية ذهب وفضة كثيرة، فأغضيت على ما قال، واستأذنت أميرى فى القفل، فأذن لى، فقدمت فاحتفرت ذلك الموضع فأصبت ما قال على ما قال، فأحرزته ورجعت إلى مركزى. قال المدائنى: واقتسم المسلمون الرومية أرباعا فنزلوها، ونسبت الأرباع إلى قبائل، ومعهم فيها غيرهم، غير أنه قيل: ربع عبد القيس وربع بجيلة وأسد وربع خزاعة وربع بقى على ما كان يسمى فى الجاهلية، طسوج هندوان. وكان كسرى أنزله قوما من الزط فهو يسمى بذلك الاسم إلى اليوم، واتخذ آل صوخان مسجدا بالرومية، واختطت القبائل فيما حول الإيوان، ونزلوا المدينة العتيقة، ولم ينزلوا إلا ما كان للملك ولأهل بيته ولمن هرب مما لم يصالح عليه، فاختط حول الإيوان والرومية تميم وسليم وعبس وبكر ومزينة وجهينة وهمدان وثقيف والأنصار ومراد، ونزل بنو أسد الفارقين، ونزل المسلمون الإيوانات وبيوت النيران والمرابط والسكك ودور الضرب والدواوين، وصار بستان الملك الذى كان يدخله إذا فرغ من الزمزمة مقابر للمسلمين، ونزل حذيفة مربط يزدجرد، ونزل سعد القصر الأبيض والمسجد الذى يجتمعون فيه مسجد العسكر على الناقوس، فلم يزل المسلمون بالمدائن وما حولها حتى تحولوا إلى الكوفة، فتركوا خططهم على حالها تعرف بهم، وأقام قوم اتخذوا الضياع بالسواد، فلم يتحولوا، وكان مقامهم بعد الحرب سنتين. وذكر أيضا أن سعد بن أبى وقاص كان حين سار إلى المدائن خلف قوما بأرض الكوفة، فقسم لهم مع من شهد المدائن حين فتحها، فقام إليه رجل من هذيل فقال له: عمدت إلى فيئنا فأعطيته من لم يشهد، وركب إلى عمر فشكا سعدا، فأرسل عمر، عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود، فقال: إن وجدتماه بالكوفة فلا تبيتن بها، وإن وجدتماه خارجا عن الكوفة فلا تدعاه يدخلها وخذا الخاتم من يده، فلقياه بفيين فأخذ أحدهما الخاتم من يده، فنظر إلى الآخر، فقال: أمر بذلك، فقال سعد: خذينى فجرينى ضباع وأبشرى ... بلحم امرئ لم يحضر اليوم ناصره قال: دعونى أدخل الكوفة، قالا: لا، فقطعا به الفرات من دير الأعور، فلما قدم على

عمر قال: أين الهذلى؟ فقام، فقال: ما يقول هذا؟ قال سعد: صدق، قال: ارجع فخذه منهم ثم أقسمه. وذكر عن عبد الله بن سليم وغيره، قالوا: اجتمع الأساورة بحلوان عند يزدجرد، فذكروا العرب ورثاثة سلاحهم وسوء عدتهم وظهورهم عليهم، فتلاوموا وقالوا: أسلمنا ملكنا وما كنا فيه إلى عصابة لم تكن فى الأرض أمة أصغر أمرا عندنا منهم، فقال بعضهم: لا تعجبوا من هذا، فإنها دولة جاءت قوما، ومدة انقضت عنكم، وهذا أمر أراده الله، والله لا يغلب. فقال رجل منهم: ارفعوا لى كرة، فرفعوها فرماها بنشابات فلم يخطئها، قال: هذا ما ترون من رمى، ولقد رأيتنى مرة فى بستان أرمى الزنانير بجلاهق فما أخطأت بواحدة، فقدم العرب فهربت واتبعنى رجل فرميته بخمس نشابات فما أصبته، ودعا رجل بقوسه فرمى بنشابة فى حائط لبن فغيبها إلى قريب من الريش، ثم اعترض ساقا من شجرة بسيف فاجتمه، ثم قال: ترون رمى وضربى؟ قالوا: نعم، قال: فإنى رميت رجلا، يعنى من المسلمين، ليس عليه سلاح ولا ثوب يقيه، فأصبت بطنه فما خدشه، ولقد ضربت رجلا حاسرا أصلع بسيفى هذا، فخرج من رأسه شبه الدقيق، وحدث بعض العجم قال: كنت فيمن انهزم عن العرب، فإنى لأسير فى عشرة من الأساورة إذ انتهينا إلى نهر ورجل من العرب يسقى فرسه، فلما رآنا شد حزام فرسه وألجمه وركبه وحمل علينا فولينا، وانفردت من أصحابى دهشا وطمع فىّ فاتبعنى حتى صرت فى مؤخر النهر وفرسى أقوى من فرسه، فزجرت فرسى، فطغى بى النهر، ووقف ينظر إلىّ لا يقدر على العبور، فالتفت إليه، فقال: أولى لك، فلم أدر ما قال لى حتى سألت بعد وعلمت، فما خرج رعب تلك الكلمة من قلبى. وذكر بإسناد له إلى عبد الله بن معقل بن مقرن المزنى قال: اصطفى عمر من مال العجم أصنافا، مال من هرب ومن قتل، وكل مال لكسرى أو لأحد من أهل بيته، وكل مسيل ماء، وكل دير يريد، فكان خراج ما اصطفى سبعة آلاف ألف حتى كان يوم دير الجماجم أحرق الديوان، فأخذ كل قوم ما يليهم. قال المدائنى: وكان المغنم بالمدائن والرومية قريبا من مغنم القادسية. ومما قيل فى ذلك من الشعر قول أبى بجيد، نافع بن الأسود التميمى يفخر بقومه: بنو تميم عتاد الحرب قد علموا ... والناهضون إذا فرسانها ركبوا والحاملون إذا ما أزمة أزمت ... ثقل العشائر إن جمعوا وإن ندبوا

والفاصلون إذا ما خطة جهلت ... عند الجموع وفيهم تفصل الخطب والمانعون من الأعداء دارهم ... عند الهياج إذا ما اهتزت الطنب والواردون على كسرى مدائنه ... قسرا ومن دونها بحر له لجب نحوى نهابهم والخيل مشعلة ... وسط الديار ومنها حولهم عصب شعث عليها ليوث ما يهجهجها ... عند الصياح بها عجم ولا عرب شمس بأيدهم سمر مثقفة ... وكل عضب له فى متنه شطب إذا جلوها على الأعداء فى فزع ... لاحت كأن فوق أيديهم بها شهب وقال أيضا: ونحن صبحنا يوم دجلة أهلها ... سيوفا وأرماحا وجيشا عرمرما نراوح بالبيض الرقاق رؤسهم ... إذ الرمى أغرى بيننا فتضرما أذقناهم يوم المدائن بأسنا ... صراحا وأسعطنا الألائم علقما سقيناهم لما تولوا إلى الردى ... كئوسا ملأناهن صابا وشبرما أبيتم علينا السلم ثم رجعتمو ... إلى السلم لما أصبح السلم محرما ويوم يطير القلب من نعراته ... ربطنا له جأشا وهجنا به دما دعونا إليه من تميم معاشرا ... يجيبون داعيهم وإن كان مجرما يحلون فى اليوم الشديد قيامه ... عن الشمس والآفاق أغبر مظلما ألا أيها ذا السائل عن عشيرتى ... ستخبر عنهم إن سألت لتعلما فمهما عقدنا جاز فى الناس حكمنا ... وننقضه منهم وإن كان محكما وقال أيضا: أىّ يوم لنا كيوم قديس ... قد تركنا به القنا مرفوضا كم سبينا من تاج ملك وأسوا ... ر ترى فى نطاقه تفضيضا وقربنا خير الجيوش شتاء ... وربيعا مجملا وغريضا ونفرنا فى مثلهم عن تراض ... لم نعرض ولم نذق تغميضا ثم سرنا من فورنا نحو كسرى ... ففضضنا جموعه تفضيضا وأملنا على المدائن خيلا ... بحرها مثل برهن أريضا وانتثلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولى وحاص منا جريضا وقال النابغة الجعدى من كلمة يذكر أيامهم تلك مع كسرى وغيره: فمضت كتائبنا إليه عنوة ... حتى حللنا حيث ينخرق الصبا

نرمى مدينته ونحطم جمعه ... ونصك رأس عموده حتى انشطا ولقيصر أخرى رمينا رمية ... قطعت قرينته كما انقطع السدا والخيل تخفق بين دجلة عنوة ... بالسفح من أقر إلى وادى القرى لا قيصر أبدا ولا كسرى بها ... قضى الحديث وكان شيئا فانقضى حديث «1» وقعة جلولاء «2» ذكر سيف «3» عن قيس بن أبى حازم قال: أقمنا بالمدائن حين هبطنا واقتسمنا ما فيها، فأتانا الخبر بأن مهران قد عسكر بجلولاء، وخندق عليه، وأن أهل الموصل قد عسكروا بتكريت، فكتب سعد بذلك إلى عمر، فأجابه: أن سرح هاشم بن عتبة إلى جلولاء فى اثنى عشر ألفا، واجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو. وروى من سماه سيف من رجاله: أن عمر كتب، أيضا، إلى سعد: لئن هزم الله الجندين: جند مهران وجند الأنطاق، فقدم القعقاع حتى يكون على حد سوادكم، بين السواد والجبل. قالوا: وكان من حديث جلولاء أن الأعاجم لما انتهوا إليها بعد الهرب من المدائن، وتفرقت الطرق بأهل أذربيجان والباب وبأهل الجبال وفارس تذامروا وقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرق بيننا، فهلموا فلنجتمع به للعرب ولنقاتلهم، فإن كان لنا فهو الذى نريد، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا ما علينا، وأبلينا عذرا. فاحتفروا الخندق، واجتمعوا فيه على مهران، ونفذ يزدجرد إلى حلوان فنزل بها، ورماهم بالرجال، وخلف فيهم الأموال، فأقاموا فى خندقهم، وقد أحاطوا به الحسك من الخشب إلا طرقهم. ففصل هاشم بالناس من المدائن فى اثنى عشر ألفا، فيهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب، فسار إلى جلولاء أربعا، حتى قدم عليهم، فحاصرهم وأحاط بهم، فطاولهم أهل فارس، وجعلوا لا يخرجون عليهم إلا إذا أرادوا، وزاحفهم المسلمون ثمانين زحفا، كل ذلك يعطيهم الله الظفر على المشركين، وغلبوهم على حسك الخشب، فاتخذوا حسك الحديد.

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 24- 35) ، الكامل لابن الأثير (2/ 361- 364) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 69- 71) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 102، 103) . (2) أشار صاحب الروض المعطار إلى أن جلولاء بالعراق فى أول الجبل، وهى مدينة صغيرة عامرة بها نخل وزرع، ومنها إلى خانقين سبعة وعشرون ميلا (ص 167) . (3) انظر: الطبرى (4/ 24، 25) .

وعن بعض الرواة أن هاشما لما نزل على مهران بجلولاء جعل يقوم فى الناس، ويقول: إن هذا منزل له ما بعده، وجعل سعد يمده بالفرسان حتى إذا كانوا أخيرا قال بعضهم لبعض: أبلوا الله بلاء حسنا يتم لكم عليه الأجر والمغنم، واعملوا لله فإنكم ردء المسلمين، فالتقوا فاقتتلوا، وبعث الله عليهم ريحا أظلت عليهم البلاد، ولم يستطيعوا إلا المحاجزة، فتهافتت فرسانهم فى الخندق، فلم يجدوا بدا من أن يجعلوا فرضا مما يليهم، تصعد منه خيلهم، فأفسدوا حصنهم، وبلغ ذلك المسلمين، فنظروا إليه، فقالوا: ننهد إليهم ثانية فندخله عليهم أو نموت دونه، فلما نهدوا الثانية خرج القوم، فرموا حول الخندق مما يلى المسلمين بحسك الحديد لكيلا تقدم عليهم الخيول، وتركوا للمجال وجها، فخرجوا منه على المسلمين، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله ولا ليلة الهرير إلا أنه كان أكمش وأعجل، وانتهى القعقاع فى الوجه الذى زحف منه إلى باب خندقهم، فأخذ به، وأمر مناديا فنادى: يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل خندق القوم فأقبلوا إليه، ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله. وإنما فعل القعقاع ذلك ليقوى المسلمين، فحملوا حملة لم يقم لها شىء، حتى انتهوا إلى باب الخندق، ولا يشكون أن هاشما به، فإذا هو بالقعقاع قد أخذ به، وأخذ المشركون فى الهزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذى بحيال خندقهم، فهلكوا فيما أعدوا للمسلمين فعقرت دوابهم، وعادوا رجالة، واتبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلا من لا يعد، وقتل الله منهم يومئذ مائة ألف، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسميت جلولاء لما جللها من قتلاهم، فهى جلولاء الوقيعة. وقال بعضهم: كان أشقى أهل فارس بجلولاء أهل الرى، كانوا بها حماة أهل فارس، ففنى أهل الرى يوم جلولاء. وفى حديث عن محفز بن ثعلبة، وكان شهدها: أن أهل فارس لما رأوا أمداد المسلمين بادروا بقتالهم فى عددهم، ثم وصف من شدة قتالهم. قال: حتى أنفذوا النبل، وقصفوا الرماح حتى صاروا إلى السيوف والطبرزينات وكانوا بذلك صدر نهارهم إلى الظهيرة، ولما حضرت الصلاة صلى الناس إيماء، حتى إذا كان بين الصلاتين خنست كتيبة من كتائب المشركين وجاءت أخرى فوقفت مكانها، فأقبل القعقاع على الناس، فقال: أهالتكم هذه؟ قالوا: نعم، نحن مكلون وهم مريحون، والكال يخاف العجز إلا أن يعقب، فقال: إنا حاملون حملة عليهم ومجادوهم وغير كافين عنهم ولا مقلعين عنهم حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا حملة رجل واحد حتى تخالطوهم، ولا يكذبن أحد منكم. فحمل

فانفرجوا فما نهنه أحد عن باب الخندق، وألبسهم الليل رواقه، فأخذوا يمنة ويسرة، ونادى منادى القعقاع: أين تحاجزون وأميركم فى الخندق فحمل المسلمون، فأدخل الخندق، فأتى فسطاطا فيه مرافق وثياب، وإذا ترس على إنسان فأنبشه، فإذا امرأة كالغزال فى حسن الشمس، فأخذها وثيابها، فاديت الثياب، وطلبت الجارية حتى صارت إلىّ فاتخذتها أم ولد. قالوا «1» : وأمر هاشم القعقاع بالطلب، فطلبهم حتى بلغ خانقين، وأدرك بها مهران فقتله، وأدرك الفيرزان فنزل، فتوقل فى الظراب وخلى فرسه، وأصاب القعقاع سبايا، فبعث بهن إلى هاشم، فكن مما اقتسم، واتخذن، فولدن فى المسلمين، فذلك السبى ينسب إلى جلولاء، ومنه كانت أم الشعبى، ويقال من القادسية. ويروى أن عمر، رضى الله عنه، قال وقد بلغه ما أصيب من هؤلاء السبايا: اللهم إنى أعوذ بك من أبناء الجلوليات. قالوا: ولما بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الجبل، فنزل القعقاع بحلوان فى جند فلم يزل إلى أن تحول سعد بالناس من المدائن إلى الكوفة، فلحق به. قالوا: وكتبوا إلى عمر بفتح جلولاء وبنزول القعقاع حلوان، واستأذنوه فى اتباعهم، فأبى، وقال: لوددت أن بين السواد والجبل سدا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، إنى آثرت سلامة المسلمين على الأنفال. وساق المدائنى خبر جلولاء مساقا بينه وبين ما تقدم بعض اختلاف وأسنده عن جماعة سمى منهم، قال: وبعضهم يزيد على بعض، فسقت حديثهم: أن يزدجرد هرب إلى حلوان، فلما فتح سعد الرومية كتب إلى عمر يستأذنه فى البعثة إلى ابن كسرى، فكتب إليه: «الحمد لله الذى أذل ابن كسرى وشرده، فأقم بمكانك واحذر على من معك من المسلمين» فأقام سعد بالمدائن سنتين لم يوجه أحدا، وكتب ابن كسرى إلى الجبال فجمع المقاتلة فوجههم إلى جلولاء، وأمر الأساورة والجنود فنزلوها، فاجتمع بها جمع عظيم عليهم خرزادين خرمهر، فكتب سعد إلى عمر بجمعهم، فكتب إليه: أقم بمكانك ووجه إليهم جيشا، فإن الله ناصرك ومتم وعده الذى وعد نبيه صلى الله عليه وسلم فعقد سعد لهاشم بن عتبة وندب الناس، فانتدب معه أربعة آلاف فيهم طليحة بن خويلد، وعمرو ابن معدى كرب وفرسان المسلمين، فسار.

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 28) .

فلما كان بمهروذ أتاه دهقانها فصالحه على أن يفرش له جريبا دراهم، فقبل منه ومضى إلى جلولاء، فقدم على قوم قد أعدوا عدة عظيمة، وتحرزوا بالخنادق، فقاتلوهم قتالا شديدا عن العيال والذرارى، وكتب هاشم إلى سعد يستمده، وأتى المشركون أهل أذربيجان مددا فعاجلوهم القتال، وكثروهم، فجال المسلمون وانكشفوا، فناداهم هاشم: يا معشر المسلمين أين؟ أما رأيتم ما خلفتم؟ أتاتون عمر منهزمين؟ فعطف الناس، وعلى الميمنة حجر بن عدى، وعلى الميسرة عمرو بن معدى كرب، وعلى الخيل زهرة بن جوية، وعلى الرجال طليحة بن خويلد، فاشتد القتال بينهم حتى مضى وقت الظهر فصلى المسلمون يومئون إيماء، وألح المشركون عليهم، وطلعت كتيبة للمشركين حامية فجازت الخندق، ثم طلعت أخرى، فقال طليحة وعمرو بن معدى كرب: يا معشر الفرسان، الأرض واقرنوا خيولكم، ففعلوا وجثوا وأشرعوا الرماح فرجعت الخيل عنهم، ورموهم بالنشاب، فتترسوا، فمكثوا بذلك مليا، وأشفق المسلمون فحضهم طليحة وزهرة وعمرو، فبينا هم على ذلك إذ سمعوا تكبيرا للمسلمين وراءهم، فإذا قيس بن مكشوح قد جاءهم فى ألف وأربعمائة فارس وستمائة راجل، فانهزم المشركون قبل أن يصل إليهم، وهاجت ريح شديدة أظلمت لها الأرض، فتهافت المشركون فى الخندق، واتبعهم المسلمون فانتهوا إلى خنادقهم وقد انجلت عنهم الظلمة فركبوا أكتافهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وحووا عسكرهم، فأصابوا شيئا لم يصيبوا مثله من الأموال والسلاح والمتاع والسبايا والدواب، فجمع ذلك كله إلى هاشم، فجاء رجل من آل خارجة بن الصلت بتمثال ناقة من ذهب موشحة بالدر وألقاها فى المغنم، وجاء مجفر بن ثعلبة بجارية، وجاء كل رجل بما صار فى يديه، فحمل هاشم ذلك كله إلى سعد، فكتب سعد إلى عمر بالفتح وبما أصاب من السبايا واستأذنه فى اتباع العجم والمسير إلى الجبال، فكتب إليه عمر، رحمه الله: أقم مكانك عامك هذا حتى ننظر، واحذر على المسلمين، واترك أهل الجبال ما تركوك، فوددت أن بيننا وبين الجبال سدا من نار لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، فأقم ولا تطلب ما سوى ذلك عامك هذا إلا أن ينزل عدو بقربك، واقسم بين المسلمين ما أفاء الله عليهم. وكانت الغنائم ثمانية عشر ألف ألف، فبلغت السهام ثلاثة آلاف، للفرس سهمان وللراجل سهم، وقال قوم: كانت الغنائم ستة وثلاثين ألف ألف، وكانت السهام ستة آلاف وثمانية من الدواب، للفرس سهمان وللراجل سهم، فحمل سعد الخمس مع زياد ابن أبى سفيان.

وفى كتاب سيف «1» عمن سمى من رجاله قالوا: ونفل سعد من أخماس جلولاء من أعظم البلاء ممن شهدها، ومن أعظمه ممن كان ثابتا بالمدائن، وبعث بالأخماس مع قضاعى بن عمرو الدؤلى من الذهب والورق والآنية والثياب، وبعث بالسبى مع أبى مفزر الأسود بن قطبة. قال بعضهم: وبعث بالحساب مع زياد بن أبى سفيان، وكان الذى يكتبه للناس ويدونهم، فلما قدموا على عمر كلم زياد عمر فيما جاء به ووصف له، فقال له عمر: هل تستطيع أن تقوم فى الناس بمثل الذى كلمتنى به؟ فقال: والله ما على الأرض شخص أهيب فى صدرى منك، فكيف لا أقوى على هذا فى غيرك؟ فقام فى الناس بما أصابوا وبما صنعوا، وبما يستأذنون فيه من الانسياح فى البلاد، فقال عمر، رضى الله عنه: هذا الخطيب المصقع، فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بأفعالهم لسانى. وعن أبى سلمة قال «2» : لما قدم على عمر، رحمه الله، بالأخماس من جلولاء، قال عمر: والله لا يجنه سقف بيت حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم يحرسانه فى صحن المسجد، فلما أصبح جاء فى الناس وكشف عنه جلابيبه، وهى الأنطاع، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال له عبد الرحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله إن هذا إلا موطن شكر. فقال عمر: والله ما ذاك يبكينى، وتالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى باسهم بينهم. ثم دعا الحسن فيما ذكر المدائنى فحثا له، ثم دعا الحسين فحثا له، ثم قال: ما ترى؟ أنحثى لهم حثيا أم نكيل بالصاع. قال: بل احث لهم، ففعل، ثم دون الدواوين وفرض وقسم. وذكر المدائنى، أيضا، أن سعدا كتب إلى عمر، رحمه الله، مع زياد يستأذنه فى اتباع المشركين ويصغر أمرهم عنده، فكتب إليه عمر: جاءنى كتابك تستأذننى فى اتباع المشركين، وسيأتى فيهم أمرى، وذلك من حق إمامك عليك، وإنما حق المسلم على المسلم بحق الله، وإن أعظم أهل الإسلام حقا عليهم إمامهم، وذلك أنه لا تجد أحدا من الناس صلاح أهل الأرض فى صلاحه إلا نبى أو خليفة، فالأمر إليك فى اتباعهم تغرير بالمسلمين، وانظر ما أجلب الناس به عليك فى العساكر من مال أو كراع أو سلاح أو متاع، فاقسمه بين من حضر، واترك الأرضين والأنهار فتكون فى أعطية المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضرك لم يكن لمن بعدهم شىء ولا توطن ولدا من والده، ولا تمسن أنثى من السبى حتى يطيب رحمها، ولا تتخذن مشركا أمينا على المسلمين، فإنهم

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 29) . (2) انظر: الطبرى (4/ 30) .

يأخذون الرشوة فى دينهم ولا رشوة فى دين الله، وادع الناس فمن استجاب لك وأسلم قبل القتال فهو رجل من المسلمين وله سهم فى الإسلام، ومن أسلم بعد القتال وبعد الهزيمة فهو رجل من المسلمين وماله لأهل الإسلام، والأسير إذا أسلم فى أيدى المسلمين فقد أمن على دمه، وهو فىء للمسلمين، وأقر الفلاحين على حالهم إلا من حاربك أو هرب أو ترك أرضه وخلاها، فهى لكم فإن رجع فقبلتم منه الجزية فهو ذمة. وذكر سيف «1» عن رجاله قالوا: كان صلح عمر الذى صالح عليه أهل الذمة، أنهم إن غشوا المسلمين لعدوهم برئت منهم الذمة، وإن سبوا مسلما أن ينهكوا عقوبة، وإن قاتلوا مسلما أن يقتلوا، وعلى عمر منعهم، وبرئ عمر إلى كل ذى عهد من معرة الجيش. قال بعضهم: فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث، والدلالة مع الجزى عن أيديهم على قدر طاقتهم، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة، وعلى كلهم الإرشاد وضيافة ابن السبيل من المهاجرين. قال المدائنى: وشهد عبد الله بن عمر جلولاء، واشترى من المغنم متاعا بأربعين ألفا، فلما قدم المدينة أتاه عمر فى منزله، فقال لامرأته: يا صفية احتفظى بما جاء به عبد الله ولا يصلن منه إلى شىء، ثم قال لعبد الله: يا عبد الله اشتريت من غنائم المسلمين؟ فقالوا: ابن عمر وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن يرخصوا عليك بمائة أحب إليهم من أن يغلوا عليك بدرهم، لك فيما اشتريت ربحا لدرهم درهم، فدعا عمر التجار فعرضه عليهم وقال: اشتروا فإنه للمسلمين، فتزايدوا حتى بلغ مائة ألف، فباعه، وأعطى عبد الله ثمانين ألفا، وبعث بالباقى إلى سعد، وكتب إليه: اقسمه فيمن شهد سنة تسع عشرة. وعن رجال سيف «2» قالوا: ولما رجع أهل جلولاء إلى المدائن نزلوا قطائعهم، وصار السواد ذمة لهم إلى ما أصفاهم الله به من مال الكاسرة، ومن لج معهم. وقال القعقاع بن عمرو يذكر نزوله بجلولاء: من مبلغ عنى القبائل مالكا ... وقد أحسنت عند الهياج القبائل فلله جاهدنا وفى الفرس بغية ... ونحن على الثغر المخوف نساجل وأنتم عتاد إن ألمت ملمة ... وجلت علينا فى الثغور الجلائل

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 32) . (2) انظر: الطبرى (4/ 33) .

وهل تذكرونا إن نزلنا وأنتم ... منازل كسرى والأمور حوائل فصرنا لكم ردآ بحلوان بعد ما ... نزلنا جميعا والجموع نوازل فنحن الأولى فزنا بحلوان بعد ما ... أرنت على كسرى الإما والحلائل وقال أبو بجيد فى ذلك: ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت ... كتائبنا تردى بأسد عوابس فضضت جموع الفرس ثم أنمتهم ... فتبا لأجساد المجوس النجائس وأفلتهن الفيرزان بجرعة ... ومهران أردت يوم حز القوانس أقاموا بدار للمنية موعد ... وللترب تحثوها خجوج الروامس «1» حديث يوم تكريت «2» وكان سعد، رحمه الله، لما كتب إلى عمر، رضى الله عنه، بأمر جلولاء، وأجابه بما ذكر قبل، كتب إليه أيضا باجتماع أهل الموصل إلى الأنطاق وإقباله بهم إلى تكريت حتى نزل بها، وخندق عليه ليحمى أرضه، فأمر عمر سعدا أن يسرح عبد الله بن المعتم إلى الأنطاق، وعين لمقدمته وميمنته وميسرته وساقته رجالا سماهم له، ففصل على ذلك عبد الله من المدائن فى خمسة آلاف، فسار إلى تكريت حتى ينزل على الأنطاق، ومعه الروم وإياد وتغلب والنمر، وقد خندقوا، فحصرهم أربعين يوما وتزاحفوا أربعة وعشرين زحفا، فى كلها هزم المشركون ولا يخرجون خرجة إلا كانت عليهم. فلما رأت الروم ذلك تركوا أمراءهم، ونقلوا متاعهم إلى السفن، وقد كان عبد الله ابن المعتم وكل بالعرب ليدعوهم إليه وإلى نصرته على الروم رجالا من تغلب وإياد والنمر، فكانوا لا يخفون عليه شيئا، فأقبلت إليه العيون منهم بما فعلت الروم وسألوه للعرب السلم وأخبروه أنهم قد استجابوا، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأقروا بما جاء به من عند الله، ثم اعملوا بما نأمركم، فردوا إليه رسلهم بالإسلام، فأرسل إليهم: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا قد نهدنا إلى الأبواب التى تلينا لندخل عليهم منها، فخذوا بالأبواب التى تلى دجلة، وكبروا وقاتلوا واقتلوا من قدرتم عليه.

_ (1) انظر الأبيات فى: الطبرى (4/ 34) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 71) . (2) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 35- 37) ، الكامل لابن الأثير (2/ 364- 366) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 71، 72) .

فانطلقوا حتى واطؤوهم على ذلك، ونهد عبد الله والمسلمون لما يليهم وكبروا وكبرت تغلب وإياد والنمر، وقد أخذوا بالأبواب، فحسب القوم أن المسلمين قد أتوهم من خلفهم، فابتدروا الأبواب التى أمامهم، فأخذتهم سيوف المسلمين مستقبلتهم، وسيوف الربعيين الذين أسلموا ليلتئذ من خلفهم، فلم يفلت من أهل الخندق إلا من أسلم من تغلب وإياد والنمر. قال سيف «1» : وكان عمر، رضى الله عنه، قد عهد إلى سعد، إن هزم أهل تكريت أن يأمر عبد الله بن المعتم بتسريح ربعى بن الأفكل العنزى إلى الحصنين، وربعى هو الذى كان عمر رسم أن يكون على مقدمة عبد الله فى هذا الوجه، فسرحه عبد الله إلى الحصنين، وقال له: اسبق الخبر، وسر ما دون القيل، وأحى الليل، وسرح معه تغلب وإياد والنمر، فقدمهم وعليهم عتبة بن الوعل، أحد بنى سعد بن جشم وذو القرط وأبو وداعة ابن أبى كرب وابن ذى السنينة قتيل الكلاب وابن الحجير الأيادى وبشر بن أبى حوط متساندين، فساروا يسبقون إلى الحصنين خبر الهزيمة ليغزوا أهلها. فلما كانوا قريبا منها، قدموا عتبة بن الوعل فادعى الظفر والنفل والقفل، ثم الرجال المسلمون آنفا واحدا بعد آخر، كلما وصل واحد منهم ذكر مثل ما ذكر عتبة، فوقفوا بالأبواب وقد أخذوا بها، وأقبلت سرعان الخيل مع ربعى بن الأفكل، حتى اقتحمت الحصنين على أهلهما، فكانت إياها، فنادوا بالإجابة إلى الصلح، فأقام من استجاب، وهرب من لم يستجب، إلى أن أتاهم عبد الله بن المعتم، فدعا من لج وهرب، ووفى لمن أقام، فتراجع الهارب واغتبط مع المقيم، وصارت لهم جميعا الذمة والمنعة، واقتسم المسلمون بتكريت ما أفاء الله عليهم على أن لكل سهم ألف درهم للفارس ثلاثة آلاف وللراجل ألف، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان «2» ، وبالفتح مع الحارث بن حسان «3» ، وولى حرب الموصل ربعى بن الأفكل، والخراج عرفجة بن هرثمة.

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 36) . (2) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 333) ، الإكمال (2/ 325) ، الطبقات الكبرى (6/ 40) ، تهذيب الكمال (2/ 1092) ، الجرح والتعديل (7/ 449، 450) ، الإصابة ترجمة رقم (6980) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4205) . (3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (1400) ، أسد الغابة ترجمة رقم (869) ، الثقات (3/ 75) ، تقريب التهذيب (1/ 140) ، الجرح والتعديل (3/ 325) ، تهذيب التهذيب (2/ 139) .

ذكر يوم ماسبذان «1» ويوم قرقيسيا «2» ذكروا «3» أنه لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن، بلغ سعدا أن آذين بن الهرمزان جمع جمعا، فخرج بهم إلى السهل، وأن أهل الجزيرة بعثوا جندا إلى هيت، فكتب سعد بذلك إلى عمر، فكتب إليه أن يبعث ضرار بن الخطاب فى جند إلى ابن الهرمزان، ويبعث عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف فى جند إلى هيت، ورسم لكلا الجندين صاحب مقدمتيه ومجنبتين وساقة وسماهم، فخرج ضرار فى الجند، وقدم صاحب مقدمته حتى انتهى إلى سهل ماسبذان، فالتقوا بمكان يدعى بهندف، فاقتتلوا به، فأسرع المسلمون فى المشركين، وأخذ ضرار آذين بن الهرمزان سلما، فأسره فانهزم عنه جيشه، فقدمه فضرب عنقه، ثم خرج فى الطلب حتى انتهى إلى السيروان، فأخذ ماسبذان عنوة، فتطاير أهلها فى الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحول سعد من المدائن فأرسل إليه، فنزل الكوفة واستخلف على ماسبذان، وكانت إحدى فروج الكوفة. وخرج عمر بن مالك فى جنده سائرا نحو هيت «4» ، وقدم الحارث بن يزيد العامرى، وهو المعين لمقدمته، حتى نزل بهيت وقد خندقوا عليهم، فلما رأى عمر بن مالك امتناع القوم بخندقهم استطال أمرهم، فترك الأخبية على حالها وخلف عليهم الحارث بن يزيد يحاصرهم، وخرج فى نصف الناس يعارض الطريق حتى جاء قرقيسيا فى عرة، فأخذها عنوة، فأجاب أهلها إلى الجزاء، وكتب إلى الحارث فى أهل هيت: إن هم استجابوا فخل عنهم وإلا فخندق على خندقهم خندقا أبوابه مما يليك حتى أرى من رأيى، فسمحوا بالاستجابة، وانضم الجند إلى عمر بن مالك والأعاجم إلى أهل بلدهم. وقال ضرار بن الخطاب يذكر ملتقاهم بهندف: ولما لقينا فى بهندف جمعهم ... تنادوا وقالوا يا صبر وايال فارس فقلنا جميعا نحن أصبر منكم ... وأكرم فى يوم الوغى والتمارس

_ (1) ماسبذان: أحد فروج الشام بالقرب من هيت. انظر: الروض المعطار (ص 519) . (2) قرقيسيا: كورة من كور ديار ربيعة، كانت فى الجانب الشرقى من الفرات. انظر: الروض المعطار (ص 455) . (3) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 37، 38) ، الكامل لابن الأثير (2/ 366، 367) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 72، 73) . (4) هيت: مدينة بين الرحبة وبغداد، وهى على شاطئ الفرات. انظر: الروض المعطار (ص 597) .

ضربناهم بالبيض حتى إذا انثنت ... أقمنا لها ميلا بضرب القوانس فولوا سراعا نحو دار أبيهم ... وقد خومروا يوم الوغا بالوساوس فما برحت خيلى تقص طريقهم ... وتقتلهم بين اشتباك الخنادس ذكر الحديث عن تمصير الكوفة والبصرة وتحول سعد بن أبى وقاص عن المدائن إلى الكوفة وما يندرج مع ذكر البصرة من فتح الأبلة «1» ذكروا «2» أنه جاء عمر، رضى الله عنه، فتح جلولاء، وما ذكر بعدها، ونزول المسلمين حيث ذكر قبل نزولهم منها، ولما قدمت الوفود بذلك عليه، أنكرهم حين رآهم، وقال: والله ما هيئتكم بالهيئة التى بدوتم بها، ولقد قدمت وفود القادسية والمدائن وإنهم لكما بدوا، فما غيركم؟ قالوا: وخومة البلاد، فنظر فى حوائجهم، وعجل سراحهم، وكتب إلى سعد: أنبئنى ما الذى غير ألوان العرب ولحومهم؟. فكتب إليه: إن العرب خددهم وغير ألوانهم وخومة المدائن ودجلة، فكتب إليه عمر: إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان رائدا وحذيفة، وكانا رائدى الجيش، فليرتادا منزلا بريا بحريا، ليس بينى وبينكم فيه بحر ولا جسر، ولم يكن بقى من أمر الجيش شىء إلا وقد أسنده عمر إلى رجل، فبعث سعد حذيفة وسلمان. فخرج سلمان حتى أتى الأنبار، فسار فى غربى الفرات لا يرى شيئا، حتى أتى الكوفة، وخرج حذيفة فى شرقى الفرات لا يرضى شيئا، حتى أتى الكوفة، فأتيا عليها وفيها ديارات ثلاث: دير حرقة، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، وأخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة، فنزلا فصليا، وقال كل واحد منهما: اللهم رب السماوات وما أظلت، ورب الأرضين وما أقلت، ورب الريح وما أذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلت، والخصاص وما أجنت، بارك لنا فى هذه الكوفة، واجعله منزل ثبات، فرجعا إلى سعد بالخبر. وذكر المدائنى أن الناس اجتووا المدائن بعد أن رجعوا من جلولاء، فشكوا ذلك إلى

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 40) / فتوح البلدان للبلاذرى (ص 338- 354، 425- 458) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 367- 371) . (2) انظر: الطبرى (4/ 40) .

عمر، فقال عمر: هل تصبر بها الإبل؟ قالوا: لا؛ لأن بها بعوضا، قال: فإن العرب لا تصبر ببلاد لا تصبر بها الإبل، اخرجوا فارتادوا منزلا. قال أبو وائل: فخرجنا فأردنا أن ننزل الحيرة، فقال رجل من أهلها: يا معشر المعذبين، ألا أدلكم على ما ارتفعت عن البعوضة وتطأطأت عن الثلجة وطعنت فى البرية وخالطت الريف؟ قلنا: بلى، فدلنا على الكوفة، فاختط الناس ونزلوا الكوفة، فكتب إلى عمر بذلك. وذكر سيف «1» عمن سماه من رجاله قالوا: مصر المسلمون المدائن وأوطنوها، حتى إذا فرغوا من جلولاء وتكريت وأخذوا الحصنين، كتب عمر إلى سعد أن ابعث عتبة بن غزوان «2» إلى فرج الهند فليرتد منزلا يمصره، وابعث معه سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابعث بعده عرفجة بن هرثمة، واجعل مكانه الحارث بن حسان، وابعث عاصم بن عمرو، وحذيفة بن محصن، ومجزأة بن ثور، والحصين بن القعقاع، فخرج عتبة فى سبعمائة من المدائن واتبعه عرفجة فى سبعمائة، ثم عاصم ثم حذيفة ثم مجزأة ثم الحصين، كل واحد منهم فى سبعمائة، ثم سعد بن سلمى فى سبعمائة، فساروا حتى أتوا على البصرة اليوم فنزلوها وثبتوا بها، والبصرة كل أرض حجارتها جص. قالوا «3» : ولما نزل أهل الكوفة الكوفة، واستقرت بأهل البصرة الدار، عرف القوم أنفسهم، وثاب إليهم ما كانوا فقدوا، ثم إن أهل المصرين استأذنوا فى بنيان القصب، فقال عمر، رضى الله عنه: العسكرة أجد لحربكم وأذكى لكم، وما أحب أن أخالفكم، وما القصب؟ قالوا: العكرش إذا روى قصب فصار قصبا، قال: فشأنكم، فابنوا بالقصب، ثم وقع الحريق فى المصرين، وكانت الكوفة أشدهما حريقا، فاحترق ثمانون عرشا، ولم يبق فيها قصبة، فبعث سعد نفرا منهم إلى عمر يستأذنونه فى البنيان باللبن، ويخبرونه عن الحريق وما بلغ منهم، وكانوا لا يدعون شيئا ولا يأتونه إلا أمروه فيه، فقال: ابنوا، ولا يزدن أحد على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا فى البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة، فرجع القوم بذلك إلى الكوفة.

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 43) . (2) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (3/ 1/ 69) ، التاريخ الكبير (6/ 520، 521) ، المعارف (275) ، الجرح والتعديل (6/ 373) ، تاريخ بغداد (1/ 155- 157) ، تهذيب التهذيب (7/ 100) ، شذرات الذهب (1/ 27) ، الإصابة ترجمة رقم (5427) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3556) . (3) انظر: الطبرى (4/ 43) .

وكتب عمر إلى عتبة وأهل البصرة بمثل ذلك، وعهد عمر إلى الوفد، وتقدم إلى الناس ألا يرفعوا بنيانا فوق القدر، قالوا: وما القدر؟ قال: ما لا يقربكم من السرف، ولا يخرجكم من القصد. فأول شىء خط بالكوفة، وبنى حين عزموا على البناء المسجد، فاختط ثم قام رجل شديد النزع، فرمى عن يمينه ومن بين يديه ومن خلفه وعن شماله، وأمر من شاء أن يا بنى وراء مواقع تلك السهام، وبنوا لسعد دارا بحياله، بينهما الطريق، وجعل فيها بيوت الأموال، وهى قصر الكوفة اليوم، وبنى سعد فى الذى خطوا للقصر قصرا بحيال محراب مسجد الكوفة اليوم، وجعل فيه بيت المال، وسكن ناحيته، ثم إن بيت المال نقب عليه منه، فأخذ منه المال. وكتب سعد بذلك إلى عمر، ووصف له موضع الدار وبيوت المال من الصحن، فكتب إليه عمر: أن انقل المسجد حتى تضعه إلى جانب الدار، واجعل الدار قبالته، فإن للمسجد أهلا بالنهار وبالليل، وفيهم حصن لمالهم، فنقل المسجد وأراع بنيانه، فقال له دهقان من أهل همذان، يقال له روزبة بن بزرجمهر: أنا أبنيه لك، وأبنى لك قصرا وأصلهما، ويكون بنيانا واحدا، فخط قصر الكوفة على ما خط عليه، ثم أنشأه من بعض آجر قصر كان للأكاسرة فى ضواحى الحيرة على مساحته اليوم، ووضع المسجد بحيال بيوت الأموال، وكان بنيانه على أساطين من رخام، كانت لكنائس لكسرى بغير مجنبات، فلم يزل على ذلك حتى بنى زمن معاوية بنيانه اليوم على يدى زياد. ولما أراد زياد بناءه دعا بنائين من بنائى الجاهلية، فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يزيد من طوله فى السماء، وقال: أشتهى من ذلك شيئا لا أقع على صفته، فقال له بناء قد كان بنى لكسرى: لا يجىء هذا إلا بأساطين من جبال الأهواز، تنقر ثم تثقب، وتحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد، فترفعه ثلاثين ذراعا فى السماء ثم تسقفه، ثم تجعل له مجنبات ومواخر، فيكون أثبت له، فقال: هذه الصفة التى كانت نفسى تنازعنى إليها ولم تعبرها. قال عطاء مولى إسحاق بن طلحة: كنت أجلس فى المسجد الأعظم من قبل أن يبنيه زياد، وليست له مجنبات ولا مواخر، فأرى منه دير هند وباب الجسر. وذكر الطبرى «1» عن المدائنى أن عمر بن الخطاب وجه عتبة بن غزوان إلى البصرة

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 590) .

سنة أربع عشرة، وذكر عن الشعبى قال: قتل مهران فى صفر سنة أربع عشرة، فقال عمر لعتبة: قد فتح الله على إخوانكم الحيرة وما حولها، وقتل عظيم من عظمائها، ولست آمن أن يمدهم إخوانهم من أهل فارس، فأنا أريد أن أوجهك إلى أرض الهند، والبصرة يومئذ تدعى أرض الهند، لتمنع أهل ذلك الحيز من إمداد إخوانهم على إخوانكم وتقاتلهم، لعل الله أن يفتح عليكم، فسر على بركة الله، واتق الله ما استطعت، واحكم بالعدل، وصل الصلاة لوقتها، وأكثر ذكر الله. فأقبل عتبة فى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وضوى إليه قوم من الأعراب وأهل البوادى، فقدم البصرة فى خمسمائة، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا. وذكر من طريق آخر «1» أنه دقمها فى ثلاثمائة، فملا رأى منبت القصب، وسمع نقيق الضفادع قال: إن أمير المؤمنين أمرنى أن أنزل أقصى البر من أرض العرب، وأدنى أرض الريف من أرض العجم، فهذا حيث وجب علينا طاعة إمامنا، فنزل الخريبة. وفى حديث الشعبى «2» : وليس بها، يعنى بالبصرة، يومئذ إلا سبع دساكر، فكتب إلى عمر، ووصف له منزله، فكتب إليه عمر: أجمع الناس موضعا واحدا ولا تفرقهم، وأقام عتبة أشهرا لا يغزو ولا يلقى أحدا. وفى حديث آخر «3» : أن عتبة أقبل بمن كان معه حتى إذا كانوا بالمربد وجدوا هذا الكذان، قالوا: هذه البصرة، فساروا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير، فإذا حلفاء وقصب نابتة، فقالوا: هاهنا أمرتم، فنزلوا دون صاحب الفرات، فأتى فقيل له: إن هاهنا قوما معهم راية، وهم يريدونك، فأقبل فى أربعة آلاف أسوار، فقال: ما هم إلا ما أرى، اجعلوا فى أعناقهم الحبال، وأتونى بهم، فجعل عتبة يوجل ويقول: إنى شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعنى فكان لا يقاتل حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر، حتى إذا زالت الشمس، قال عتبة لأصحابه: احملوا، فحملوا عليهم فقتلوهم أجمعين، إلا صاحب الفرات، أخذوه أسيرا، فقال عتبة: ابغوا لنا منزلا هو أنزه من هذا، وكان يوم عكاك، فرفعوا له منبرا، فقام يخطب، فقال: إن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة الإناء، ألا وأنكم منتقلون منها إلى دار القرار، فانتقلوا بخير ما

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 594) . (2) انظر: الطبرى (3/ 591) . (3) انظر: الطبرى (3/ 591، 592) .

بحضرتكم، ولقد ذكر لى: أن صخرة ألقيت من شفير جهنم هوت سبعين خريفا، ولتملأنه، أفعجبتم! ولقد ذكر لى أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليه يوم وله كظيظ من الرخام، ولقد رأيتنى وإنى لسابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق السمر، حتى تقرحت أشداقنا، والتقطت بردة فشققتها بينى وبين سعد، فما منا من أولئك السبعة من أحد إلا وهو أمير مصر من الأمصار، وستجربون الأمراء بعدنا. وفى بعض ما ذكره الطبرى «1» من الأحاديث عن مقدم عتبة البصرة، وأنه نزل الخريبة، قال: وبالأبلة خمسمائة من الأساورة يحمونها، وكان مرفأ السفن من الصين وما دونها، فسار عتبة، فنزل دار الإجانة، فأقام نحوا من شهر، ثم خرج إليه أهل الأبلة فناهضهم عتبة، وجعل قطبة بن قتادة السدوسى، وقسامة بن زهير المازنى فى عشرة فوارس، وقال لهما: كونا فى ظهورنا، فتردا المنهزم، وتمنعا من أرادنا من ورائنا، ثم التقوا فما اقتتلوا مقدار جزر جزور وقسمها، حتى منحهم الله أكتافهم، وولوا منهزمين، حتى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره فأقاموا أياما وألقى الله فى قلوبهم الرعب فخرجوا عن المدينة، وحملوا ما خف لهم، وعبروا إلى الفرات، وخلوا المدينة، فدخلها المسلمون فأصابوا متاعا وسلاحا وسبيا وعينا، فاقتسموا العين، فأصاب كل رجل منهم درهمان، وولى نافع بن الحارث أقباض الأبلة، فأخرج خمسه ثم قسم الباقى بين من أفاء الله عليه، وكتب بذلك مع نافع بن الحارث. وقال داود بن أبى هند: أصاب المسلمون بالأبلة من الدراهم ستمائة درهم، فأخذ كل رجل درهمين، ففرض عمر لأصحاب الدرهمين فى ألفين من العطاء. وقال الشعبى «2» : شهد فتح الأبلة مائتان وسبعون، فيهم أبو بكرة، نفيع بن الحارث، وشبل بن معبد، والمغيرة بن شعبة، ومجاشع بن مسعود، وأبو مريم البلوى. وفى حديث يروى عن عمرة ابنة قيس «3» : أنه لما خرج الناس لقتال أهل الأبلة، وكانوا حيالها، قالوا للعدو: نعبر إليكم أو تعبرون إلينا؟ قال: اعبروا إلينا، فأخذوا خشب العشر فأوثقوه، وعبروا، فقال المشركون: لا تأخذوا أولهم حتى يعبر آخرهم،

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 594) . (2) انظر: الطبرى (3/ 595) . (3) انظر: الطبرى (3/ 597) .

فلما صاروا على الأرض كبروا تكبيرة، ثم كبروا الثانية، فقامت دوابهم على أرجلها، ثم كبروا الثالثة، فجعلت الدابة تضرب بصاحبها الأرض، وجعلنا ننظر إلى رؤس تندر، ما نرى من يضربها، وفتح الله على أيديهم المدينة. وقال سلمة بن المحبق «1» : شهدت فتح الأبلة، فوقع فى سهمى قدر نحاس، فلما نظرت إذا هى ذهب فيها ثمانون ألف مثقال، وكتب فى ذلك إلى عمر، فكتب: أن تصبر يمين سلمة بالله لقد أخذها يوم أخذها وهى عنده نحاس، فإن حلف سلمت إليه، وإلا قسمت بين المسلمين. قال: فحلفت فسلمت لى. قال المثنى بن موسى بن سلمة: فأصول أموالنا اليوم منها. وقال عباية بن عبد عمرو» : شهدت فتح الأبلة مع عتبة، فبعث نافعا إلى عمر، وجمع لنا أهل دست ميسان، فقال عتبة: أرى أن نسير إليهم، فسرنا فلقينا مرزبان دست ميسان، فقاتلناه، فانهزم أصحابه وأخذ أسيرا، فأخذ قباؤه ومنطقته فبعث بها عتبة مع أنس بن حجية اليشكرى. قال أبو المليح الهذلى: فسأله عمر: كيف المسلمون؟ قال: انثالت عليهم الدنيا، فهم يهيلون الذهب والفضة، فرغب الناس فى البصرة فأتوها. وعن على بن زيد قال: لما فرغ عتبة من الأبلة جمع له مرزبان دست ميسان، فسار إليه عتبة من الأبلة فقتله، ثم سرح مجاشع بن مسعود إلى الفرات وبها مدينة، ووفد عتبة إلى عمر، وأمر المغيرة بن شعبة أن يصلى بالناس حتى يقدم مجاشع من الفرات، فإذا قدم فهو الأمير، فظفر مجاشع بأهل الفرات، ورجع إلى البصرة، وجمع الميلكان، عظيم من عظماء الأعاجم، للمسلمين، فخرج إليه المغيرة، فلقيه بالمرغاب «3» ، فظفر به، فكتب إلى عمر بالفتح، فقال عمر لعتبة: من استعملت على البصرة؟ فقال: مجاشع بن مسعود، قال: تستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر؟ تدرى ما حدث؟ قال: لا، فأخبره بما كان من أمر المغيرة، وأمره أن يرجع إلى عمله، فمات عتبة فى الطريق، واستعمل عمر المغيرة. وفى رواية أن أهل ميسان هم الذين جمعوا، فلقيهم المغيرة، وظهر عليهم قبل قدوم مجاشع من الفرات، وبعد أن شخص عتبة إلى عمر أثر ما قتل مرزبان دست ميسان.

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 596) . (2) انظر: الطبرى (3/ 595) . (3) المرغاب: موضع نهر بالبصرة. انظر: معجم البلدان (5/ 107) .

وذكر الطبرى بسنده عن قتادة قال: جمع أهل ميسان للمسلمين، فسار إليهم المغيرة، وخلف الأثقال، فلقيهم دون دجلة، فقالت أردة بنت الحارث بن كلدة: لو لحقنا بالمسلمين فكنا معهم، فاعتقدت لواء من خمارها، واتخذ النساء من خمرهن رايات، وخرجن يردن المسلمين، فانتهين إليهم، والمشركون يقاتلونهم، فلما رأى المشركون الرايات مقبلة، ظنوا أن مددا أتى المسلمين فانكشفوا، واتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم عدة. أردة بنت الحارث بن كلدة: هذه كانت تحت شبل بن معبد البجلى، وكانت أختها صفية عند عتبة بن غزوان، فلما ولى عتبة البصرة، انحدر معه أصهاره، أبو بكرة ونافع وشبل، وانحدر معهم زياد، فلما فتحوا الأبلة لم يجدوا قاسما يقسم بينهم، فكان زياد قاسمهم، وهو ابن أربع عشرة سنة، له ذؤابة، فأجروا عليه كل يوم درهمين. قال الطبرى: وكان ممن سبى من ميسان يسار أبو الحسن البصرى، وأرطبان جد عبد الله بن عون بن أرطبان. والأخبار فى شأن هذين المصرين يوهم ظاهرها الاختلاف المتباين فى وقت عمارة المسلمين لهما، فأكثرها على أن ذلك كان بعد المدائن، وبعد جلولاء، وقد ذكرنا ما ذكر الطبرى فى بعض ما أورده، أن عمر وجه الناس مع عتبة إلى البصرة فى سنة أربع عشرة، وهذا يقتضى أنه قبل القادسية، فضلا عن المدائن، وكذلك ذكر المدائنى من حديث حميد بن هلال، أن خالد بن عمير العدوى حدثه قال: لما كان أيام القادسية، كتب إلينا أهل الكوفة يستمدوننا، فأمدهم أهل البصرة بألف وخمسمائة راكب، كنت فيهم، فقدمنا على سعد بالقادسية وهو مريض، وذكر بقية الحديث. ولعل نزول المسلمين بهذين الموضعين كان متقدما على تمصيرهما وبنيانهما بزمان، ومع ذلك فلا يرتفع الخلاف فى ذلك بين الأخبار كل الارتفاع، والله تعالى أعلم. وكان عمر، رضى الله عنه، قد أمر سعدا بعد ما وجهه إلى العراق أن يجعل الناس أعشارا، فلما كان بعد ذلك رجح الأعشار بعضهم بعضا رجحانا كثيرا، فكتب سعد إلى عمر فى تعديلهم، فكتب إليه: أن عدلهم، فأرسل سعد إلى قوم من نساب العرب وعقلائهم وذوى الرأى منهم، كسعيد بن نمران، ومشعلة بن نعيم، فعدلوهم أسابعا، فلم يزالوا كذلك عامة إمارة معاوية حتى ولى زياد فربعهم.

ذكر الجزيرة، وذكر السبب الذى دعا عمر إلى الأمر بقصدها «1» وذلك أن هرقل أغزى حمص فى البحر بعد أن غلب عليها المسلمون، واستمد أهل الجزيرة على أبى عبيدة ومن فيها من المسلمين، فأجابوه، وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفا، سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم، فبلغوا من المسلمين كل مبلغ، فضم أبو عبيدة مسالحه، وعسكروا بفناء مدينة حمص، وخندقوا عليها، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه، وكان عمر، رضى الله عنه، قد اتخذ فى كل مصر على قدرها خيولا من فضول أموال المسلمين، عدة لما يعرض، فكان من ذلك بالكوفة أربعة آلاف فرس يشتيها فى قبلة قصر الكوفة وميسرته، بمكان يسمى لأجل ذلك الآرى، ويربعها فيما بين الفرات والأبيات من الكوفة، مما يلى العاقول، فسمته الأعاجم: آخر الشاهجان، يعنون معلف الأمراء. وكان قيمه عليها سلمان بن ربيعة الباهلى فى نفر من أهل الكوفة، يصنع سوابقها، ويجريها فى كل يوم، وبالبصرة نحو منها، وقيمه عليها جزء بن معاوية، وفى كل مصر من الأمصار على قدره، فلما وقع إلى عمر كتاب أبى عبيدة يستصرخه، كتب إلى سعد بن أبى وقاص: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو، وسرحهم من يومهم الذى يأتيك فيه كتابى إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وتقدم إليهم فى الجد والحث. وكتب إليه أيضا: أن سرح سهيل بن عدى إلى الجزيرة فى الجند، وليأت الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وإن أهل قرقيسيا لهم سلف، وسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين، ثم لينفضا حران والرها، وسرح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وسرح عياض بن غنم، فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعا إلى عياض، فمضى القعقاع فى أربعة آلاف من يومهم الذى أتاهم فيه الكتاب نحو حمص، وحديثهم مذكور فى أمر حمص من فتح الشام، وإنما أعيد منه هنا هذا القدر تطريقا لحديث الجزيرة وتمهيدا له. وخرج عياض بن غنم، وأمراء الجزيرة، فسلكوا طريق الجزيرة على الفراض وغيرها، فتوجه كل أمير إلى الكورة التى أمّر عليها، ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص أن الجنود قد خرجت من الكوفة، ولم يدروا، الجزيرة يريدون أم حمص؟

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 50) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 76) ، الكامل لابن الأثير (2/ 372- 379) .

تفرقوا إلى بلدانهم خوفا عليها، وخلوا الروم، فأتى سهيل بن عدى حتى انتهى إلى الرقة، وقد حصر فيها أهلها الذين ارفضوا عن حمص، فنزل عليهم، وأقام محاصرهم حتى صالحوه، وذلك أن قالوا فيما بينهم: إنكم بين أهل العراق وأهل الشام، فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء؟ فبعثوا إلى عياض، وهو فى منزل واسط بالجزيرة، فقبل منهم وعقد لهم عن أمرة سهيل بن عدى. وخرج عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فسلك على دجلة حتى انتهى إلى الموصل، عبر إلى بلد ثم أتى نصيبين، فلقوا بالصلح، وصنعوا كما صنع أهل الرقة، وخافوا مثل الذى خافوا، فعقد لهم عبد الله عن أمر عياض، وأجروا ما أخذوه عنوة من الرقة ونصيبين، ثم أجابوا مجرى أهل الذمة، ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة، ضم عياض سهيلا وعبد الله إليه، فسار بالناس إلى حران، فأخذ ما دونها، فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية، فقبل منهم، وأجرى من أجاب بعد غلبته مجرى أهل الذمة، ثم سرح سهيلا وعبد الله إلى الرها، فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية، فقبل ذلك عياض منهم، وأجرى من دونهم مجراهم، فكانت الجزيرة أسهل البلدان أمرا وأيسره فتحا. وقال سهيل بن عدى فى ذلك: وصادمنا الفرات غداة سرنا ... إلى أهل الجزيرة بالعوالى ولم نثن الأعنة حين سرنا ... بجرد الخيل والأسل النهال فأجهضنا الأولى قادوا لحمص ... وقد منوا أمانى الضلال أخذنا الرقة البيضاء لما ... رأينا الشهر لوح بالهلال وأزعجت الجزيرة بعد خفض ... وقد كانت تخوف بالزوال وصار الخرج صافية إلينا ... بأكناف الجزيرة عن تغال وقال فى ذلك عبد الله بن عتبان: ألا من مبلغ عنى بجيرا ... فما بينى وبينك من بعاد فإن تقبل تلاق العدل فينا ... وتنسى ما عهدت من الجهاد وإن تدبر فما لك من نصيب ... نصيبى فيلحق بالعباد وقد ألقت نصيبين إلينا ... سواد البطن بالخرج السداد لقد لقيت نصيبين الدواهى ... بدهم الخيل والجرد الوراد ونفست الجياد عن أهل حمص ... جنود الروم أصحاب الفساد

وعاين عامر منهم عديدا ... ودهما مثل سائمة الجراد وخرج الوليد بن عقبة «1» حتى قدم على بنى تغلب وعرب الجزيرة، فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلا أياد بن نزار، فإنهم ارتحلوا بكليتهم، فاقتحموا أرض الروم، فكتب الوليد بذلك إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فكتب إلى ملك الروم: إنه بلغنى أن حيا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فو الله لتخرجنه أو لننبذن إلى النصارى، ثم لنخرجنهم إليك. فأخرجهم ملك الروم، فتم منهم على الخروج أربعة آلاف، وخنس بقيتهم، فتفرقوا مما يلى الشام والجزيرة من بلاد الروم، فكل أيادى فى أرض العرب من أولئك الأربعة آلاف، وأبى الوليد أن يقبل من بنى تغلب إلا الإسلام، وكتب فيهم إلى عمر، فأجابه: إنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلا الإسلام، فدعهم على أن لا ينصروا وليدا، وأقبل منهم إذا أسلموا، فقبل منهم على أن لا ينصروا وليدا، ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام، وأبى بعضهم إلا الجزاء، ورضى منهم بما رضى به من العباد وتنوخ. وفى حديث عن أبى سيف التغلبى «2» : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عاهد وفد بنى تغلب على أن لا ينصروا وليدا، فكان ذلك الشرط على الوفد وعلى من وفدهم، ولم يكن على غيرهم، فلما كان زمان عمر قال مسلموهم: لا تنفروهم بالخراج فيذهبوا، ولكن أضعفوا عليهم الصدقة التى تأخذونها من أموالهم، فإنهم يغضبون من ذلك الجزاء على أن لا ينصروا وليدا إذا أسلم آباؤهم، فخرج وفدهم فى ذلك إلى عمر، رحمه الله. ولما بعث الوليد إليه برؤس النصارى وبديانيهم، فأمرهم عمر بأداء الجزية، قالوا له: أبلغنا مأمننا، فو الله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلن أرض الروم، وو الله لتفضحنا من بين العرب، فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمتكم، والله لتؤدنها وأنتم صغرة قمأة، ولئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم، ثم لأسبينكم. قالوا: فخذ منا شيئا ولا تسميه جزاء، فقال: أما نحن فنسميه الجزاء، وسموه أنتم ما شئتم. فقال له على بن أبى طالب وأصغى إليه عمر: يا أمير المؤمنين، ألم يضعف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال: بلى،

_ (1) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (6/ 24) ، الجرح والتعديل (9/ 8) ، تاريخ ابن عساكر (17/ 434) ، تذهيب التهذيب (4/ 138) ، البداية والنهاية (8/ 214) ، العقد الثمين (7/ 398) ، تهذيب التهذيب (11/ 142) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5475) ، الإصابة ترجمة رقم (9167) . (2) انظر: الطبرى (4/ 56) .

قال: فرضى به منهم جزاء ورضى القوم بذلك، فبنو تغلب تسمى جزيتهم صدقة، وأما تنوخ فلم تبال أى ذلك كان، فهم يسمونها الجزية، وكان فى بنى تغلب عز وامتناع، فلا يزالون ينازعون الوليد فيهم بهم ويقول: إذا ما عصبت الرأس منى بمشوذ ... فغيك منى تغلب ابنة وائل وبلغت عمر، رحمه الله، فخاف أن يخرجوه وأن يضعف صبره فيسطو عليهم، فعزله وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمرو الجملى. ذكر فتح سوق الأهواز ومناذر ونهرتير «1» ذكر سيف عن شيوخه، قالوا «2» : لما انهزم الهرمزان بالقادسية، جعل وجهه إلى أمته، فملكهم وقاتل بهم من أرادهم، فكان يغير على ميسان ودست ميسان من وجهين، من مناذر ونهرتير، فاستمد عتبة بن غزوان سعدا، فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود، وأمرهما أن يكونا بين أهل ميسان ودست ميسان وبين نهرتير، ووجه عتبة، سلمى بن القين وحرملة بن مريطة الحنظليين، فنزلا على حدود أرض ميسان ودست ميسان، بينهم وبين مناذر، ودعوا بنى العم بن مالك، فخرج إليهم غالب الوائلى وكليب بن وائل الكلبى، فتركا نعيما ونعيما، وأتيا سلمى وحرملة، وقالا: أنتما من العشيرة، وليس لكما منزل، فإذا كان يوم كذا فانهدوا للهرمزان، فإن أحدنا يثور بمناذر، والآخر بنهرتير، فنقتل المقاتلة، ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شىء إن شاء الله. فلما «3» كانت ليلة الموعد، خرج سلمى وحرملة صبيحتها فى تعبئة، وأنهضا نعيما، ونعيم وسلمى على أهل البصرة، ونعيم بن مقرن على أهل الكوفة، فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهرتير فاقتتلوا، فبينا هم فى ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأخذ مناذر ونهرتير، فكسر الله فى ذرعه وذرع جنده، وهزمه وإياهم، فقتل المسلمون منهم ما شاؤا وأصابوا ما شاؤا، واتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز، وأقام بها، وصار دجيل بينه وبين المسلمين، ورأى الهرمزان ما لا طاقة له به،

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 72- 77) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 82، 83) . (2) انظر: الطبرى (4/ 72، 73) . (3) انظر: الطبرى (4/ 74) .

فطلب الصلح وكتبوا إلى عتبة يستأمرونه فيه، وكاتبه الهرمزان، فأجاب عتبة إلى ذلك على الأهواز كلها ومهرجان قذق، ما خلا نهرتير ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز، فإنا لا نرد عليهم ما تنقذنا. وجعل عتبة على مناذر سلمى بن القين مسلحة وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهرتير، وأمرها إلى كليب، فكانا على مسالح البصرة، وهاجرت طوائف بنى العم، فنزلوا البصرة، وجعلوا يتبايعون على ذلك، وكتب عتبة بذلك إلى عمر، رحمه الله، ووفد وفدا منهم سلمى وحرملة، وأمرهما أن يستخلفهما على عمليهما وغالب وكليب، ووفد يومئذ من البصرة وفودا، فأمرهم عمر أن يرفعوا حوائجهم، فكلهم قال: أما العامة فأنت صاحبها، فلم يبق إلا خواص أنفسنا، فطلبوا لأنفسهم، إلا ما كان من الأحنف بن قيس، فإنه قال: يا أمير المؤمنين، إنه لكما ذكروا، ولقد يغرب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة، وإنما ينظر الوالى فيما غاب عنه بأعين أهل الخير، ويسمع بآذانهم، وإنا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البر، وإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا فى مثل حدقة البعير الغاسقة، من العيون العذاب، والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم غضة، لم تخضد، وإنا معاشر أهل البصرة نزلنا بسبخة هشاشة زعقة نشاشة، طرف لها فى الفلاة، وطرف لها فى البحر الأجاج، يجر إليها ما جر فى مثل مرىء النعامة، دارنا مفعمة، ووظيفتنا ضيقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فينا كثير، ودرهمنا كبير، وفقيرنا صغير، وقد وسع الله علينا، وزادنا فى أرضنا، فوسع علينا يا أمير المؤمنين، وزدنا وظيفة، تطوف علينا، ونعيش بها. فنظر عمر إلى منازلهم التى كانوا بها، إلى أن صاروا إلى الحجر، فنفلهموها، وأقطعهم إياها، وكان ذلك مما كان لآل كسرى، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر، فاقتسموه، وكان سائر ما كان آل كسرى فى أرض البصرة على حال ما كان فى أرض الكوفة ينزلونه من أحبوا، ويقتسمونه بينهم، لا يستأثرون به على بدء ولا ثنى، بعد ما يرفعون خمسه إلى الوالى. فكانت قطائع أهل البصرة نصفين، نصفها مقسوم، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع، وكان أصحاب الألفين ممن شهد القادسية ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف، وكانوا بالكوفة ثلاثين ألفا، فألحق عمر أعدادهم بأهل البصرة، حتى ساواهم بهم، ألحق جميع من شهد الأهواز، ثم قال: هذا الغلام سيد أهل البصرة، يعنى الأحنف، وكتب إلى عتبة أن يسمع منه، ورد سلمى وحرملة وغالبا وكليبا إلى مناذر ونهرتير، فكانوا عدة فيها لما يعرض.

حديث فتح الأهواز ومدينة سرق واتصل ما بين أهل البصرة وبين أهل ذمتهم، على ما ذكر، إلى أن وقع بين الهرمزان وبين غالب وكليب فى حدود الأرضين اختلاف، فحضر سلمى وحرملة لينظرا فيما بينهم، فوجدا غالبا وكليبا محقين، والهرمزان مبطلا، فحالا بينه وبينهما، فكفر الهرمزان، ومنع ما قبله، واستعان بالأكراد، فكثف جنده، وكتبوا ببغيه وكفره إلى عتبة، فكتب بذلك إلى عمر، فأمدهم عمر بحرقوص بن زهير السعدى، وكانت له صحبة، وأمره على القتال، وعلى ما غلب عليه. فنهدوا معه، ونهد الهرمزان بمن معه حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز عبر الهرمزان فوق الجسر، بعد أن خيرهم، فقالوا له: اعبر، فاقتتلوا هنالك، فهزم الله الهرمزان، ووجه نحو رامهرمز، وافتتح حرقوص سوق الأهواز، فأقام بها، ونزل الجبل، واتسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح والأخماس إلى عمر، فحمد الله، ودعا له بالثبات والزيادة. وكان عمر، رضى الله عنه، قد عهد إلى حرقوص: إن فتح الله عليهم أن يبعث جزء بن معاوية فى أثر الهرمزان، وهو متوجه إلى رامهرمز، فما زال يقاتلهم حتى انتهى إلى قرية الشغر، وأعجزهم بها الهرمزان، فمال منها جزء إلى دورق، ومدينة سرق فيها قوم لا يطيقون منعها، فأخذها صافية، ودعا من هرب إلى الجزاء والمنعة، فأجابوه، وكتب بذلك كله إلى عمر وإلى عتبة، فكتب عمر، رحمه الله، إلى جزء وإلى حرقوص بلزوم ما غلبا عليه، والمقام حتى يأتيهما أمره، ففعلا، واستأذنه جزء فى عمران ما دثر، فأذن له، فشق الأنهار، وعمر الموات. ولما نزل الهرمزان رامهمرمز وضاقت عليه الأهواز بالمسلمين، طلب الصلح وراسل فيه حرقوصا وجزآ، فكتب فيه حرقوص إلى عمر، فكتب إليه وإلى عتبة، يأمر بقبول صلح الهرمزان على ما لم يفتتحوا من البلاد، على رامهرمز وتستر والسوس وجندى سابور والبنيان ومهرجان نقذق، فقبل ذلك الهرمزان، وأجابهم إليه، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم عمر، وأقام الهرمزان على صلحه يجبى إليهم ويمنعونه، وإن غاوره أكراد فارس أعانوه وذبوا عنه. وكتب عمر إلى عتبة أن يوفد عليه عشرة من صالحاء جند البصرة، فوفد إليه منهم عشرة، فيهم الأحنف بن قيس، فلما قدموا عليه، قال للأحنف: إنك عندى مصدق، وقد رأيتك رجلا، فأخبرنى: أظلمت الذمة، ألمظلمة نفروا، أم لغير ذلك؟ فقال: بل لغير مظلمة، والناس على ما تحب، قال: فنعم إذا انصرفوا إلى رحالكم.

وكتب عمر إلى عتبة: أن اصرف الناس عن الظلم، واتقوا الله، واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغى، فإنكم إنما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه، وقد تقدم إليكم فيما أخذ عليكم، فأوفوا بعهد الله، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا. وبلغ عمر، رحمه الله، أن حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه، والجبل كئود يشق على من رامه، فكتب إليه: بلغنى أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه إلا على مشقة، فأسهل ولا تشقن به على مسلم ولا معاهد، وقم فى أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا، ولا تدركنك فترة ولا عجلة، فتكدر دنياك وتذهب آخرتك. ذكر غزو المسلمين أرض فارس «1» قالوا «2» : وكان المسلمون بالبصرة وأرضها يومئذ سوادها، والأهواز على ما هم عليه، ما غلبوا عليه منها ففى أيديهم، وما صلحوا عليه ففى أيدى أهله يؤدون الخراج، ولا يدخل عليهم، ولهم الذمة والمنعة، وعميد الصلح الهرمزان. وقد قال عمر، رحمه الله: حسبنا أهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أن بيننا وبين فارس جبلا من نار لا نصل إليهم منه ولا يصلون إلينا، كما قال لأهل الكوفة: وددت أن بينهم وبين الجبل جبلا من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم. وكان العلاء بن الحضرمى على البحرين، رده إليها عمر بعد أن عزله عنها بقدامة بن مظعون، وكان العلاء يناوئ سعد بن أبى وقاص لصدع صدعه القضاء بينهما، فطار العلاء على سعد فى الردة بالفضل، فلما ظفر سعد بالقادسية، وأزاح الأكاسرة، واستعلى بأعظم مما كان جاء به العلاء، أسر العلاء أن يصنع شيئا فى الأعاجم، ورجاء أن يدال كما قد كان أديل، ولم يقدر العلاء، ولم ينظر فيما بين فضل الطاعة وفضل المعصية وعواقبها، فندب أهل البحرين إلى أهل فارس، فتسرعوا إلى ذلك، ففرقهم أجنادا، على أحدها الجارود بن المعلى، وعلى الآخر السوار بن همام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وهو مع ذلك على جماعة الناس، فحملهم فى البحر إلى فارس بغير إذن عمر،

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 79- 83) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 376- 279) . (2) انظر: الطبرى (4/ 79) .

وكان عمر، رحمه الله، لا يأذن لأحد فى ركوبه غازيا، يكره التغرير بجنده استنانا بالنبى صلى الله عليه وسلم وبأبى بكر، إذ لم يغزيا فيه أحدا. فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا فى اصطخر، وبإزائهم أهل فارس، قد اجتمعوا على الهربذ، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد فى الناس، فقال: إن الله إذا قضى لأحد أمرا جرت به المقادير حتى يصيبه، وإن هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم لحربهم، وإنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض لمن غلب، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة: 45] . فأجابوه، فصلوا الظهر ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا فى موضع يدعى طاووس، وجعل السوار يحض ويذكر قومه عبد القيس حتى قتل، وقتل الجارود، ويومئذ ولى عبد الله بن المسور والمنذر بن الجارود حياتهما إلى أن ماتا. وجعل خليد بن المنذر يقول للمسلمين: انزلوا، فنزلوا فقاتلوا القوم فقتل أهل فارس مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها، ثم خرج المسلمون يريدون البصرة إذ غرقت سفنهم، ولم يجدوا إلى الرجوع فى البحر سبيلا، فوجدوا شهرك قد أخذ عليهم الطرق فعسكروا وامتنعوا. ولما بلغ عمر، رحمه الله، ما صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش فى البحر، يعنى قبل أن يبلغه ما عرض لهم، ألقى فى روعه نحو من الذى كان، فاشتد غضبه على العلاء وكتب إليه بعزله وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه عليه، بتأمر سعد عليه، وقال: الحق بسعد بن أبى وقاص فيمن قبلك، فخرج نحوه بمن معه. وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: أن العلاء بن الحضرمى حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس، وعصانى، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم ألا ينصروا وأن يغلبوا وينشبوا، فاندب الناس إليهم، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا، فندب عتبة الناس، وأخبرهم بكتاب عمر، فانتدب عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن ومجزأة بن ثور والأحنف بن قيس وصعصعة بن معاوية وآخرون من رؤس المسلمين وفرسانهم، فخرجوا فى اثنى عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبى رهم، أحد بنى مالك بن حسل بن عامر بن لؤى، والمسالح على حالها بالأهواز والذمة، وهم ردء الغازى والمقيم، فسار أبو سبرة بالناس، وساحل لا يلقاه أحد، ولا يعرض له حتى التقى بخليد وأصحابه بحيث أخذ عليهم الطريق. وكان أهل اصطخر حيث أخذوا عليهم الطريق وأنشبوهم، استصرخوا عليهم أهل

فارس كلهم، فضربوا إليهم من كل وجه وكورة، فالتقوا هم وأبو سبرة، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك، وهو الذى كان أخذ عليهم الطريق غب وقعة القوم بطاووس، فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين، وقتل المشركون وأصاب المسلمون منهم ما شاؤا، وهى الغزاة التى شرفت بها نابتة البصرة، فكانوا أفضل المصرين نابتة، ثم انكفأوا بما أصابوا، وقد عهد إليهم عتبة وكاتبهم بالحث وقلة العرجة، فانضموا إليه بالبصرة، فرجع أهلها إلى منازلهم منها، وتفرق الذين تنقذوا من أهل هجر إلى قبائلهم، والذين تنقذوا من عبد القيس فى موضع سوق البحرين. ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس، استأذن عمر فى الحج، فأذن له، فلما قضى حجه استعفاه، فأبى أن يعفيه، وعزم عليه ليرجعن إلى عمله، فدعا الله ثم انصرف، فمات فى بطن نخلة، فدفن بها، ومر به عمر زائرا لقبره، فقال: أنا قتلتك، لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم، وأثنى عليه بالفضل. ومات عتبة وقد استخلف على الناس أبا سبرة بن أبى رهم وعماله على حالهم، ومسالحه على نهرتير ومناذر وسوق الأهواز وسرق. وأمّر عمر أبا سبرة على البصرة بقية السنة التى مات فيها عتبة، ثم عزله، واستخلف عبد الرحمن بن سهل، ثم استعمل المغيرة بن شعبة، فعمل عليها بقية تلك السنة التى ولاه فيها والسنة التى تليها، لم ينتقض عليه أحد فى عمله، وكان مرزوق السلامة. ذكر فتح رامهرمز والسوس وتستر وأسر الهرمزان «1» ذكر سيف «2» عن أصحابه قالوا: لم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج عنهم، فكتب إليهم وهو بمرو، يذكرهم الأحقاد ويؤنبهم، أن قد رضيتم يا أهل فارس أن غلبتكم العرب على السواد وما والاه، وعلى الأهواز، ثم لم يرضوا بذلك حتى يوردوكم فى بلادكم وعقر داركم، فخرجوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز، وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة، وجاءت الأخبار حرقوص بن زهير وجزآ وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب، فكتبوا إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة، فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان بن مقرن وعجل، وابعث سويد بن مقرن، وعبد

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 83) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 187، 188) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 85- 89) . (2) انظر: الطبرى (4/ 83، 84) .

الله بن ذى السهمين، وجرير بن عبد الله الحميرى، وجرير بن عبد الله البجلى، فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتيقنوا أمره. وكتب إلى أبى موسى، وهو على البصرة: أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا، وأمر عليهم سهيل بن عدى، وابعث معه البراء بن مالك، وعاصم بن عمرو، ومجزأة بن ثور، وكعب بن سور، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، وعبد الرحمن بن سهل، والحصين بن معبد، وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعا أبو سبرة بن أبى رهم، وكل من أتاه فمدد له. وخرج النعمان بن مقرن فى أهل الكوفة، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحيال ميسان، ثم أخذ البر إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، وانتهى إلى نهرتير فجازها، وجاز مناذر، ثم شق الأهواز، وخلف حرقوصا وسلمى وحرملة، ثم سار نحو الهرمزان، وهو برامهرمز، فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره، ورجا أن يقتطعه، وقد طمع فى نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر، فالتقى النعمان والهرمزان بأزبك، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم إن الله هزم الهرمزان، وأخلى رامهرمز ولحق بتستر، وسار النعمان بن أزبك حتى نزل برامهرمز، ثم صعد لا يذج، فصالحه عليها تيرويه، فقبل منه وتركها، ورجع إلى رامهرمز، فأقام بها. وجاء سهل فى أهل البصرة حتى نزلوا سوق الأهواز، فأتاهم بها خبر الوقعة التى أوقعها النعمان بالهرمزان حتى لحق بتستر، فمالوا نحوه من سوق الأهواز، فكان وجههم منها إلى تستر، ومال النعمان إليها من رامهرمز، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء، فنزلوا جميعا على تستر، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال وأهل الأهواز فى الخنادق، فكتبوا بذلك إلى عمر، رحمه الله، واستمده أبو سبرة فأمده بأبى موسى، فساجلوهم، وعلى أهل الكوفة النعمان، وعلى أهل البصرة أبو موسى، وعلى الفريقين أبو سبرة، فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل. وقتل البراء بن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح الله على المسلمين مبارزة مائة، سوى من قتل فى غير المبارزة، وقتل مجزأة بن ثور مثل ذلك، وقتل كعب بن سور وأبو تميمة كل واحد منهما مثل ذلك، وهؤلاء فى عدة من أهل البصرة، وفعل مثل ذلك من الكوفيين رجال، منهم حبيب بن قرة، وربعى بن عامر، وعارم بن عبد الأسد، وكان من الرؤساء، فى ذلك، ما ازدادوا به إلى ما كان منهم، وزاحفهم المشركون فى أيام

تستر ثمانين زحفا تكون عليهم مرة ولهم أخرى، حتى إذا كان فى آخر زحف منها واشتد القتال، قال المسلمون: يا براء، أقسم على ربك ليهزمنهم لنا، فقال البراء بن مالك: اللهم اهزمهم لنا واستشهدنى، فهزمهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم، فأرزوا إلى مدينتهم، فأحاط المسلمون بها. فبينا هم على ذلك وقد ضاقت المدينة بهم، وطالت حربهم، خرج رجل إلى النعمان فاستأمنه على أن يدله على مدخل يوصل منه إلى المدينة، ويكون منه فتحها، فأمنه النعمان، فقال: انهدوا من قبل مخرج الماء، ورمى رجل آخر غير ذلك الرجل فى ناحية أبى موسى بسهم يستأمنهم فيه على أن يدلهم على ذلك، فأمنوه فى نشابة، فرمى إليهم بأخرى، ودلهم على مخرج الماء، فندب الأميران أصحابهما، فانتدب لأبى موسى كعب ابن سور ومجزأة بن ثور وبشر كثير. وانتدب للنعمان أيضا بشر كثير، منهم: سويد بن المثعبة، وعبد الله بن بشر الهلالى، فنهدوا، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، وقد تسرب سويد وعبد الله، فاتبعهم الفريقان، حتى إذا اجتمعوا فيها، والناس على رجل من خارج، كبروا فيها، وكبر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب، فاجتلدوا فيها، فأناموا كل مقاتل، وأرز الهرمزان إلى القلعة فأطاف به الذين دخلوا من مخرج الماء، فلما عاينوه وأقبلوا قبله، قال لهم: ما شئتم، قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم، وإن معى فى جعبتى مائة نشابة، وو الله لا تصلون إلىّ، ما دامت معى نشابة، وما يقع لى سهم إلا فى رجل، وما خير أسارى إذا أصبت منكم مائة بين قتيل وجريح، قالوا: فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدى فى أيديكم على حكم عمر يصنع بى ما شاء، قالوا: فذلك لك. فرمى بقوسه، وأمكنهم من نفسه، فشدوه وثاقا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف، والراجل ألفا. وجاء الرجل الذى خرج بنفسه إلى النعمان، والآخر الذى رمى بالسهم فى ناحية أبى موسى، فقالا للمسلمين: من لنا بالأمان الذى طلبنا علينا وعلى من مال علينا؟ قالوا: ومن مال معكم؟ قالوا: من أغلق عليه بابه مدخلكم، فأجازوا ذلك لهم، وقتل ليلتئذ من المسلمين ناس كثير، منهم مجزأة بن ثور، والبراء بن مالك، قتلهما الهرمزان. وخرج أبو سبرة من تستر فى أثر الفل، وقد قصد السوس، وأخرج معه النعمان وأبا موسى الهرمزان، حتى نزلوا على السوس، وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إلى أبى موسى

برده على البصرة، فانصرف عليها، وأمر عمر على جند البصرة المقترب، وهو الأسود بن ربيعة، وكتب إلى زر بن عبد الله بن كليب الفقيمى أن يسير إلى جندى سابور، فسار حتى نزل عليها، وكان الأسود وزر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين إليه، الوافدين عليه، فقال له الأسود لما وفد عليه: جئت لأقترب إلى الله بصحبتك، فسماه المقترب، وقال له زر: يا رسول الله، فنى بطنى، وكثر إخوتنا، فادع الله لنا، فقال: «اللهم أوف لزر عمارته» ، فتحول إليهم العدد. ووفد أبو سبرة وفدا، فيهم أنس بن مالك، والأحنف بن قيس، وأرسل الهرمزان معهم، فقدموا مع أبى موسى البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة، حتى إذا دخلوها هيئوا الهرمزان فى هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج، ووضعوا على رأسه تاجا مكللا بالياقوت، كيما يراه عمر والمسلمون فى هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر فى منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل لهم: جلس فى المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه فى المسجد فلم يروه. فلما انصرفوا مروا بغلمان يلعبون، فقالوا لهم: ما تلددكم تريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم فى ميمنة المسجد، متوسد برنسه، وكان عمر، رحمه الله، قد جلس لوفد الكوفة فى برنس، فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه، وأخلوه نزع برنسه ثم توسده فنام، فانطلقوا ومعهم النظارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس فى المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدرة فى يده، فقال الهرمزان: أين عمر؟ قالوا: هو ذا، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه، فقال لهم الهرمزان: أين حرسه وحجابه؟ فقالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب ولا ديوان، فقال: ينبغى له أن يكون نبيا، قالوا: بل يعمل عمل الأنبياء، وكثر الناس، فاستيقظ عمر، رحمه الله، بالجلبة، فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم، فتأمله وتأمل ما عليه، وقال: أعوذ بالله من النار، وأستعين بالله، ثم قال: الحمد لله الذى أذل بالإسلام هذا وأشباهه، يا معشر المسلمين، تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدى نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غرارة. فقال الوفد: هذا ملك الأهواز فكلمه، فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شىء، فرمى عنه بكل شىء كان عليه إلا شيئا يستره، وألبسوه ثوبا صفيقا، فقال عمر: هى يا هرمزان، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر، إنا وإياكم فى الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا، فقال عمر: إنما غلبتمونا فى الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا، ثم قال عمر: ما

عذرك وما حجتك فى انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلنى قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك. واستسقى ماء، فأتى به فى قدح غليظ، فقال: لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب فى مثل هذا، فأتى به فى إناء يرضاه، فجعلت يده ترعد، وقال: إنى أخاف أن أقتل وأنا أشرب، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه. فقال عمر: أعيدوا عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لى فى الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال عمر: إنى قاتلك، فقال: قد أمنتنى، قال: كذبت، قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد أمنته، قال: ويحك يا أنس، أنا أؤمن قاتل مجزأة والبراء ابن مالك، والله لتأتين بمخرج وإلا عاقبتك. قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرنى، وقلت له: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك، فأقبل الهرمزان، وقال: خدعتنى، والله لا أنخدع إلا أن تسلم، فأسلم ففرض له على ألفين وأنزله المدينة. ويروى أن المغيرة بن شعبة كان الترجمان يومئذ بين عمر وبين الهرمزان إلى أن جاء المترجم، وكان المغيرة يفقه من الفارسية شيئا، فقال له عمر: ما أراك بها حاذقا، ما أحسنها أحد منكم إلا خب، ولا خب إلا دق، إياكم وإياها، فإنها تنقص الإعراب. ذكر فتح السوس والأخبار التى نذكرها بعد ذلك شديدة الخلاف لبعض ما تقدم، وكذلك قال أبو جعفر الطبرى «1» : إن أهل السير اختلفوا فى أمرها. قال: فأما المدائنى فإنه قال: لما انتهى فل جلولاء إلى يزدجرد وهو بحلوان، دعا بخاصته وبالموبذ، فقال: إن القوم لا يلقون جمعا إلا فلوه، فما ترون؟ قال الموبذ: نرى أن نخرج فننزل اصطخر، فإنها بيت المملكة، وتضم إليك خزائنك، وتوجه الجنود، فأخذ برأيه، وسار إلى أصبهان ودعا سياه، فوجه ثلاثمائة فيهم سبعون من عظمائهم، وأمره أن ينتخب من كل بلدة يمر بها من أحب، فمضى سياه واتبعه يزدجرد، حتى نزلوا اصطخر وأبو موسى محاصر سوس، فوجه سياه إلى السوس، والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه منزلا تحول عنه حين سار أبو موسى إلى تستر. فنزل سياه بينها وبين رامهرمز، ودعا الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من أصبهان، وقد عظم أمر المسلمين عنده، فقال: قد علمتم أنا كنا نتحدث أن هؤلاء القوم أهل

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 89) .

الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابهم فى إيوانات اصطخر ومصانع الملوك، ويشدون خيولهم بشجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، وليس يلقون جندا إلا فلوه، ولا ينزلون بحصن إلا فتحوه، فانظروا لأنفسكم. قالوا: رأينا رأيك، قال: فليكفنى كل رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه، فإنى أرى أن ندخل فى دينهم. فوجهوا شيرويه فى عشرة من الأساورة إلى أبى موسى، فقدم عليه، فقال: إنا قد رغبنا فى دينكم، فنسلم على أن نقاتل العجم معكم، وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منهم، وننزل حيث شئنا، ونكون فيمن شئنا منكم، وتلحقونا بأشرف العطاء، ويعقد لنا بذلك الأمير الذى هو فوقك، فقال أبو موسى: بل لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، فقال: لا نرضى. وكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، بأمرهم، فأجابه: أعطهم ما سألوك، فكتب لهم أبو موسى، فأسلموا، وشهدوا معه حصار تستر، فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدا ولا نكاية، فقال لسياه: يا أعور، ما أنت وأصحابك كما كنا نرى، قال: لسنا مثلكم فى هذا الدين، ولا بصائرنا كبصائركم، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهم، ولم تلحقونا بأشرف العطاء ولنا سلاح وكراع وأنتم حسر. فكتب أبو موسى إلى عمر فى ذلك، فكتب إليه: أن ألحقهم على قدر البلاء فى أفضل العطاء وأكثر شىء أخذه أحد من العرب. ففرض لمائة منهم فى ألفين ألفين، ولستة منهم فى ألفين وخمسمائة، لسياه وخسرو وابنه مقلاص وشهريار وشهرويه وأفريذون، وإياهم عنى الشاعر بقوله: ولما رأى الفاروق حسن بلائهم ... وكان بما يأتى من الأمر أبصرا فسن لهم ألفين فرضا وقد رأى ... ثلاثمئين فرض عك وحميرا قال: فحاصروا حصنا بفارس، فمشى سياه فى آخر الليل فى زى العجم حتى رمى بنفسه إلى جانب الحصن، ونضح ثيابه بالدم، وأصبح أهل الحصن، فرأوا رجلا فى زيهم صريعا، فظنوا أنه رجل منهم أصيبوا به، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه، وثار فقاتلهم حتى دخلوا عن باب الحصن وهربوا، ففتح الحصن وحده ودخله المسلمون، وقوم يقولون: فعل هذا الفعل سياه بتستر، وحاصروا حصنا آخر، فمشى خسرو إلى الحصن، فأشرف عليه رجل منهم فكلمه، فرماه خسرو بنشابة فقتله.

أما سيف «1» ، فإنه ذكر بإسناد له قال: لما نزل أبو سبرة فى الناس على السوس، وأحاط المسلمون بها، وعليهم شهريار أخو الهرمزان، ناوشهم مرات، كل ذلك يصيب أهل السوس من المسلمين، فأشرف عليهم الرهبان والقسيسون، فقالوا: يا معشر العرب، إن مما عهد إلينا علماؤنا وأوائلنا، أنه لا يفتح السوس إلا الدجال، أو قوم فيهم الدجال، فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها، وإن لم يكن معكم فلا تعنوا بحصارنا، وجاء صرف أبى موسى إلى البصرة، وعمل مكانه على جندها الذين بالسوس المقترب، والنعمان على أهل الكوفة، فحاصر السوس مع أبى سبرة. فجاء كتاب عمر بصرف النعمان إلى أهل نهاوند لاجتماع الأعاجم بها، فتهيأ للمسير، ثم استقبل فى تعبئته، فناوش أهل السوس قبل مضيه، فعاد الرهبان والقسيسون، وأشرفوا على المسلمين، وغاظوهم، وصاف ابن صياد يومئذ مع النعمان فى خيله، فأتى باب السوس غضبان فدقه برجله، وقال: انفتح، فتقطعت السلاسل، وتكسرت الأغلاق، وتفحت الأبواب، ودخل المسلمون، فألقى المشركون بأيديهم، ونادوا: الصلح الصلح، فأجابهم المسلمون إلى ذلك، بعد ما دخلوها عنوة، واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح، ثم افترقوا. فتح جندى سابور قالوا «2» : ولما فرغ أبو سبرة من السوس خرج فى جنده حتى ينزل على جندى سابور، وزر بن عبد الله محاصرهم، فأقاموا عليها يغادونهم ويراوحنهم القتال، فلم يفجأ المسلمين يوما إلا وأبوابها تفتح، ثم خرج السرح، وخرجت الأسواق، وانبث أهلها، فأرسل إليهم المسلمون: أن ما لكم؟ قالوا: رميتم لنا بالأمان فقبلناه، وأقررنا لكم الجزاء، على أن تمنعونا، فقال المسلمون: ما فعلنا، فقال أهل جندى سابور: ما كذبنا، فسأل المسلمون فيما بينهم، فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها، هو الذى كتب لهم أمانا، فرمى به إليهم من عسكر المسلمين، فقالوا: إنما هو عبد، فقال المشركون: إنا لا نعرف حركم من عبدكم، وقد جاءنا أمان، فنحن عليه قد قبلناه، ولم نبدل، فإن شئتم فاغدروا، فأمسكوا عنهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فأجابهم: إن الله عظيم الوفاء، فلا

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 91، 92) . (2) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 93، 94) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 89) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 387) .

تكونون أوفياء حتى توفوا، ما دمتم فى شك أجيزوهم، وفوا لهم، ففعلوا وانصرفوا عنهم. وقال عاصم بن عمرو فى ذلك: لعمرى لقد كانت قرابة مكنف ... قرابة صدق ليس فيها تقاطع أجارهم من بعد ذل وقلة ... وخوف شديد والبلاء بلاقع فجاز جواز العبد بعد اختلافنا ... ورد أمورا كان فيها تنازع إلى الركن والوالى المصيب حكومة ... فقال بحق ليس فيه تخادع فلله جندى ساهبور لقد نجت ... غداة منتها بالبلاء اللوامع حديث وقعة نهاوند «1» والاختلاف فيها بين أهل الأخبار كثير، ولكن الذى ذكره أبو الحسن المدائنى من حديثها أحسن ما وقفت عليه من الأحاديث منساقا، وأطوله اقتصاصا، فلذلك آثرت الابتداء به، وربما أدرجات فى تضاعيفه من حديث غيره ما يحسن إدراجه فيه، ثم أذكر بعد انقضائه ما اختار ذكره من الأخبار التى أوردها سواه عن هذه الوقعة إن شاء الله. ذكر المدائنى «2» عن رجال من أهل العلم، يزيد بعضهم على بعض: أن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، شاور الهرمزان، فقال له: أما إذا فتنى بنفسك فأشر علىّ، أبفارس أبدأ أم بالجبال: أذربيجان وأصبهان؟ قال: فارس الرأس والجبال جناحان، فاقطع الجناحين فلا يتحرك الرأس، قال عمر: بل أقطع الرأس فلا يقوم جسد ولا جناح. فكتب عمر إلى عثمان بن أبى العاص وهو بتوج: أن سر إلى اصطخر، وقدم عليه أبو موسى، فأمره أن يرجع إلى البصرة، ويسير إلى ابن كسرى مع عثمان بن أبى العاص، وقال: كل واحد منكم أمير على جنده، فقدم أبو موسى البصرة، فسار إلى يزدجرد باصطخر، وسار إليه عثمان من توج. فلما ألحوا على يزدجرد كتب إلى أهل الرى وأهل الجبال: أصبهان وهمدان وقومس،

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 122) ، فتوح البلدان للبلاذرى (ص 371- 376) ، معجم البلدان لياقوت (5/ 313، 314) ، العبر للذهبى (1/ 25) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 105) ، مرآة الجنان لليافعى (1/ 77) . (2) انظر الرواية فى: الطبرى (4/ 534- 536) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص 133- 138) .

أن العرب قد ألحوا علىّ فاشغلوهم عنى، وردوهم إلى بلادهم، فكتب بعضهم إلى بعض: أن صاحب العرب الذى جاء بدينهم وأظهر أمرهم هلك، وملك بعده رجل لم يلبث إلا قليلا حتى هلك، وإن صاحبهم هذا عمر وطال سلطانه، وأغزى جنوده بلادكم، فليس بمنته حتى تخرجوه من بلادكم وتغزوه فى بلاده، فأجمعوا على ذلك وتمالوا عليه وتعاقدوا، وأنفذوا أن يجتمعوا بنهاوند، وبلغ ذلك أهل الكوفة، فكتبوا به إلى عمر، فخرج يمشى حتى قام على المنبر، فقال: أين المسلمون؟ أين المهاجرون والأنصار؟ فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن عظماء أهل الرى وأهل أصبهان وأهل همذان وأهل نهاوند وأهل قومس وأهل حلوان، أمم مختلفة ألوانها وألسنتها وأديانها ومللها، وقد تعاهدوا أن يخرجوا إخوانكم من بلادهم وأن يغزوكم فى بلادكم، فأشيروا علىّ وأوجزوا ولا تطنبوا، فتفشع بكم الأمور. فقام طلحة، وكان من خطباء قريش وذوى رأيهم ومن علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أمير المؤمنين، قد حنكتك الأمور، وجربتك الدهور، وعجمتك البلايا، وأحكمتك التجارب، فأنت ولى ما وليت، لا ينبثر فى يديك، ولا يحل عليك، فمرنا نطع، واحملنا نركب، وقدنا ننقد، فإنك مبارك الأمر، ميمون النقيبة، وقد أخبرت وخبرت وجربت، فلم ينكشف شىء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار. قال: تكلموا، فقال عثمان: اكتب إلى أهل الشام أن يسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فليسيروا من يمنهم، وسر نفسك فى أهل الحرمين إلى أهل المصرين، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين، فيتعال فى عينك ما قد كثر عندك، وتكون أعز منهم، إنك لن تستبقى من نفسك باقية بعد العرب، ولن تمتنع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز، وهذا يوم له ما بعده، فاحضرهم برأيك، واشهدهم بمقدرتك. قال: تكلموا، فقال على بن أبى طالب: يا أمير المؤمنين، إن كتبت إلى أهل الشام فساروا من شامهم أغارت الروم على بلادهم، وإن سار أهل اليمن من يمنهم خلفتهم الحبش فى عيالاتهم، وإن سرت بأهل الحرمين انتقضت الأرض عليك من أقطارها، حتى يكون ما تخلفه من العورات فى العيالات أهم إليك مما بين يديك، وأما ما ذكرت من مسيرهم فالله لمسيرهم أكره، وهو أقدر على تغيير ما كره، وأما كثرتهم فإنا لم نكن نلق عدونا بالكثرة، ولكنا كنا نلقاهم بالصبر، إنك إن نظر إليك الأعاجم قالوا: هذا أمير العرب، فكان أشد لحربهم وكلبهم، ولكن اكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا على ثلاث فرق، فلتقم فرقة فى ديارهم، وفرقة فى أهل عهدهم، وتسير فرقة إلى إخوانهم بالكوفة.

قال: هذا رأى، وقد كنت أحب أن أتابع عليه، لعمرى لئن سرت بأهل الحرمين ونظر إلىّ الأعاجم لتنقضن الأرض وليمدنهم من لم يمدهم، وليقولن: أمير العرب إن قطعناه قطعنا أصل العرب، فأشيروا علىّ برجل أوليه واجعلوه عراقيا، قالوا: أنت أفضل رأيا وأعلم بأهل العراق، وهم عمالك وقد وفدوا عليك وعرفتهم، قال: لأولينها رجلا يكون لأول أسنة يلقاها، النعمان بن مقرن. وكان النعمان بكسكر قد كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، إنما مثلى ومثل كسكر مثل شاب عند مومسة تلون له كل يوم وتعطر، وإنى أذكرك الله إلا بعثتنى فى جيش إلى ثغر غازيا، ولا تبعثنى جابيا. فندب عمر أهل المدينة، فانتدب منهم جمع، فوجههم إلى الكوفة، وكتب إلى عمار بن ياسر أن يستنفر ثلث أهل الكوفة، وأن يسيروا إلى العجم بنهاوند، فقد وليت عليهم النعمان بن مقرن المزنى، وكتب إلى أهل الكوفة بذلك، وكتب إلى أبى موسى أن يستنفر ثلث أهل البصرة إلى نهاوند، وكتب إلى النعمان: إنى وجهت جيشا من أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة إلى نهاوند، فأنت على الناس ومعك فى الجيش طليحة بن خويلد وعمرو بن معدى كرب، فأحضرهما الناس وشاورهما فى الحرب، فإن حدث بك حدث، فأمير الناس حذيفة، فإن قتل فجرير بن عبد الله، فإن قتل فالمغيرة بن شعبة، فإن قتل فالأشعث بن قيس، وذكر الأشعث فى هذا غريب، فإن المعروف من عمر، رضى الله عنه، أنه لم يستعمل أحدا ممن ارتد، ولكن هذا وقع فى هذا الحديث، والله أعلم. وبعث عمر بالكتاب مع السائب بن الأقرع بن عوف، وقال له: إن سلم الله ذلك الجند فقد وليتك مغانمهم ومقاسمهم، فلا ترفعن إلىّ باطلا ولا تمنعن أحدا حقه، وإن هلك ذلك الجند فاذهب فلا أرينك أبدا، فقدم السائب الكوفة فيمن نفر من أهل المدينة، وبعث بكتاب أهل البصرة مع عمرو بن معدى كرب فاستنفرهم أبو موسى فنفر ثلثهم، وخرجوا إلى الكوفة عليهم مجاشع بن مسعود، وعلى أهل الكوفة حذيفة بن اليمان، ثم ساروا جميعا مع من قدم من أهل المدينة إلى نهاوند، وسار النعمان بن مقرن فتوافوا بنهاوند، والأعاجم بها ستون ألفا عليهم ذو الفروة، وهو ذو الحاجب، وهم بمكان يقال له: الاستفيذهان بقرية يقال لها: فيديسجان، دون مدينة نهاوند بفرسخين، وقد خندق الأعاجم وهالوا فى الخندق ترابا قد نخلوه، فبعث النعمان طليحة بن خويلد وبكير بن الشداخ، فارس أطلال، ليعلما علم القوم. فأما بكير فانصرف، فقيل له: ما ردك؟ قال: أرض العجم، ولم يكن لى بها علم

فخفت أن يأخذ علىّ مضيق أو بعض جبالها، ومضى طليحة فأبطأ حتى ساء ظن الناس به، فعلم علمهم ثم رجع فلم يمر بجماعة إلا كبروا، فأنكر ذلك منهم، وقال: ما لكم تكبرون إذا رأيتمونى؟ قالوا: ظننا أنك فعلت كفعلتك. قال: لو لم يكن دين لحميت أن أجزر العرب هذه الأعاجم الطماطم، وأخبر الناس بعدة القوم وكثرتهم، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. وأقام النعمان أياما حتى استجم الناس أنفسهم وظهرهم، فلما كان يوم الأربعاء من بعض تلك الأيام دنا من عسكر المشركين، وقال: إن أمير المؤمنين كتب إلىّ أن لا أقاتلهم حتى أدعوهم، فمن رجل يأتيهم بكتابه؟ ومعه فى عسكره ممن قدم من المدينة عبد الله ابن الزبير وعبد الله بن عمر أو الزبير وابنه عبد الله، فتواكل الناس، فقام المغيرة بن شعبة يتذيل فى مشيته، وكان آدم طويلا ذا ضفيرتين أعور، فأخذ الكتاب فأتاهم، فقال: القوا إلىّ شيئا، فألقوا له ترسا فجلس عليه، فقال الترجمان: ما أقدمكم؟ فذكر ما كانوا فيه من ضيق المعيشة، وقال: كنا أهل جهد وجفاء بين شوك وحجر، ومدر وحية وعقرب، يغير بعضنا على بعض، فأتينا بلادكم فأصبنا مطعما طيبا وشرابا عذبا ولبوسا لينا وطلا باردا، فلسنا براجعين إلى ما كنا فيه حتى نصيب حاجتنا أو نموت. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: صدق، فقالوا: إنكم معشر العرب أرجاس أنجاس، وإنما غركم مناخر نبذ جوى الأهواز، وعوران المدائن الذين لقوكم، وإنه ليس ممن ترى إلا فارسى محض أسوار، ولولا فساد الأرض لقتلناكم، فما حاجتكم التى تريدون أن تصيبوها؟ فقرأ عليهم المغيرة كتاب عمر: إنا ندعوكم إلى ما دعاكم الله إليه ورسوله، أن تدخلوا فى السلم كافة، فإن فعلتم فأنتم إخواننا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، فإن أبيتم الإسلام فالجزية، فإن أبيتم الجزية استنصرنا الله عليكم. قالوا: الآن حين نقرنكم فى الجبال، فرجع المغيرة، فقال للنعمان: حبست الناس حتى طمحت أبصارهم، أما والله إن لو كنت صاحبها؟ قال: ربما كنت، فلم يخزك الله ولم تخب. ونهض المسلمون للحرب، فأقبل ذو الحاجب على برذون أمام العجم، فقالوا: انزلوا بالطائر الصالح الذى نصرتم به على الأمم، وتهزمون به العرب، فبرز له رجل من المسلمين فقتله ذو الحاجب، وتهايجوا واقتتلوا حتى كثرت بينهم القتلى والجرحى، ثم تحاجزوا، وغدا المشركون غداة الخميس من غد يجرون الحديد ويسحبون الدروع، وغدا المسلمون على راياتهم فتقدم رجل من العجم قد أعلم بعصابة فيها جواهر أمام أصحابه، فحمل عليه أوفى بن سبرة القشيرى فقتله وسلبه، فنفله النعمان سلبه، وحمل المشركون

فتلقاهم المسلمون فاقتتلوا حتى صبغت الدماء ثنن الخيل وتحاجزوا عند السماء، فبات المسلمون يوقدون النيران، ويعصبون بالخرق، لهم أنين من الجراح، ودوى بالقرآن كدوى النحل، وبات المشركون فى المعازف والخمور وبهم من الجراح مثل ما بالمسلمين. وأصبحوا يوم الجمعة، فأقبل النعمان معلما ببياض، على برذون قصير، عليه قباء أبيض مصقول وقلنسوة بيضاء مصقولة، فوقف على الرايات فحضهم، وقال: يا معشر المسلمين، إن هؤلاء قد أخطروا لكم أخطارا وأخطرتم لهم أخطارا، أخطروا لكم دنيا، وأخطرتم لهم الإسلام، فالله الله فى الإسلام أن تخذلوه، فإنكم أصبحتم بابا بين المسلمين والمشركين، فإن كسر الباب دخل على الإسلام ليشغل كل امرئ منكم قربه ولا يخلفه على صاحبه، فإنه لوم وخذلان ووهن وفشل، إنى هاز الراية فإذا هززتها فليأخذ الرجال همايينها فى أحقيتها وشسوعها فى نعالها، وليتعهد أصحاب الخيل أعنتها وحزمها، فإذا هززتها الثانية فليعرف كل امرئ منكم مصوب رمحه وموضع سلاحه ووجه مقاتله، فإذا هززتها الثالثة وكبرت فكبروا واستنصروا الله واذكروه، فإذا حملت فاحملوا. فقال رجل من أهل العراق: قد سمعنا مقالتك أيها الأمير، فنحن واقفون عند قولك، منتهون إلى رأيك، فأى النهار أحب إليك؟ أوله أم آخره؟ قال: آخره حين تهب الرياح، وتحل الصلاة وينزل النصر لمواقيت الصلاة، فأمهل الناس حتى إذا زالت الشمس، هز الراية فقضى الناس حوائجهم وشدت الرجال مناطقها، ونزع أصحاب الخيل المخالى عن خيلهم وقرطوها أعنتها وشدوا حزمها وتأهبوا للحرب، ثم أمهل حتى إذا كان فى آخر الوقت هزها فصلى الناس ركعتين وجال أصحاب الخيل فى متونها وصوبوا رماحهم فوضعوها بين آذان خيولهم، وأقبلت الأعاجم على براذينهم عليهم الرايات المدبجة، والمناطق المذهبة، ووقف ذو الحاجب على بغلة، فلقد رأى الأعاجم وهم فى عدتهم وإن لأقدامهم فى ركبهم لزلزلة، وإن الأسوار ليأخذ النشابة فما يسدد الفوق للوتر وما يتمالك أن يضعها على قوسه. فقال النعمان: يا معشر المسلمين، إنى هاز الراية وحامل فاحملوا، ولا يلوى أحد على أحد، وإن قيل قتل النعمان، فلا يلوين علىّ أحد، وأنا داع بدعوة فعزمت على كل رجل منكم إلا أمن، ثم قال: اللهم اعط النعمان اليوم الشهادة فى نصر المسلمين، وافتح عليهم، ثم نثل درعه، وهز الراية وكبر، فكبر الأدنى فالأدنى ممن حوله حتى غشيهم التكبير من السماء، وصوب رايته كأنها جناح طائر، وحمل وحمل الناس، فكان أول

صريع رحمه الله، ومر به معقل بن يسار فذكر عزمته: ألا يلوى أحد علىّ، فجعل علما عنده، ومر أخوه سويد بن مقرن أو نعيم، فألقى عليه ثوبا لكى لا يعرف، ونصب الراية وهى تقطر دما، قد قتل بها قبل أن يصرع، وسقط ذو الحاجب عن بغلته فانشق بطنه، وانهزم المشركون، فاتبعوهم يقتلونهم كيف شاؤا. فقال بعض من حضر ذلك اليوم: إنى لفى الثقل فثارت بيننا وبين القوم عجاجة قسطلانية، فجعلت أسمع وقع السيوف على الهام، ثم كشفت، فإذا المسلمون يتبعونهم كالذباب يتبع الغنم، فاتبعتهم طائفة من المسلمين حتى دخلوا مدينتهم، ثم رجعوا، وحوى المسلمون عسكرهم، ورجع معقل بن يسار إلى النعمان بعد انهزام المشركين ومعه أدواة فيها ماء فغسل التراب عن وجهه، فقال: من أنت؟ قال: معقل بن يسار، قال: ما فعل الناس؟ قال: فتح الله عليهم، قال: الحمد لله، اكتبوا بذلك إلى عمر. وفاضت نفسه، فاجتمع الناس وفيهم ابن الزبير وابن عمر، فأرسلوا إلى أم ولده، فقالوا: أعهد إليك عهدا؟ فقالت: هاهنا سفط فيه كتاب، فأخذوه فإذا كتاب عمر إلى النعمان: إن حدث بك حدث فالأمير حذيفة، فإن قتل ففلان، فإن قتل ففلان. فتولى أمر الناس حذيفة، فأمر بالغنائم فجمعت، ثم سار إلى مدينة نهاوند وقد حملت الغنائم إلى عسكرهم، وحصر أهل المدينة وقاتلوهم، فبيناهم يطاردونهم إذ لحق سماك بن عبيد عظيما من عظمائهم يقال له: دينار، فسأله الأمان، فأمنه وأدخله على حذيفة، فصالحه عن البلد على ثمانمائة ألف وشىء من العسل والسمن، وقال: إن لكم لوفاء بالعهد، وأخاف عليكم خمسة أشياء: الخب والبخل والغدر والخيلاء والفجور، وأخاف أن يأتيكم الخب من قبل النبط، والخيلاء من قبل الروم، والبخل من قبل فارس، والفجور والغدر من قبل أهل الأهواز، وأتى السائب بن الأقرع دهقان وقد جمعت الغنائم، فقال له: أتؤمننى على دمى ودماء قرابتى وأدلك على كنز النخيرجان؟ ثم تجلبوا عليه فى الحرب فيقسم وتجرى عليه السهام، ولم يحرزوه بجزية أقاموا عليها، وإنما هو دفين دفنوه وفروا عنه، فتأخذه لصاحبكم، يعنى عمر رضى الله عنه، تخصه به. قال: أنت آمن إن كنت صادقا، قال: فانهض معى، فنهض معه فانتهى به إلى قلعة، فرفع صخرة ودخل غارا فاستخرج سفطين، فإذا قلائد منظومة بالدرر والياقوت وقرطة وخواتم وتيجان مكللة بالجوهر، فأمنه ثم أتى به حذيفة فأخبره، فقال: اكتمه، فكتمه حتى قسم الغنائم بين الناس وعزل الخمس، ثم خرج السائب مسرعا فقدم على عمر، فقال له عمر: ما وراءك؟ فو الله ما نمت هذه الليلة إلا تغررا، وما أتت علىّ ليلة بعد الليلة

التى أصبح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتا أعظم من هذه الليلة، قال: أبشر بفتح الله وحسن قضائه لك فى جنودك، ثم اقتص الخبر حتى انتهى إلى قتل النعمان، فقال: إنا لله، يرحم الله النعمان، ثم مه، قال: ثم والله ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه، قال: لا أم لك ولا أب، قتل الضعفاء الذين لا يعرفهم عمر ابن أم عمر، وأكب طويلا وبكى، ثم قال: أصيبوا بمضيعة؟ قال: لا، ولكن أكرمهم الله بالشهادة، وساقها إليهم، فقال: ويحك، أغلبتم على أجساد إخوانكم أم دفنتموهم؟ قال: دفناهم، قال: فأعطيت الناس حقوقهم؟ قال: نعم. قال: فنهض عمر فأخذ السائب بثوبه وقال: حاجة، قال: ما حاجتك إذ أعطيت الناس حقوقهم؟ قال: حاجة لك وإليك، فجلس، فجر السائب الغرارة فأخرج السفطين ففتحهما ونظر إلى ما فيهما كأنه النيران يشب بعضها بعضا، فقال عمر: ما هذا؟ فأخبره، فدعا عليا وعبد الله بن أرقم وغيرهما، فختموا على السفطين وقال له: اختم معهم، فختمه، وقال لعبد الله بن أرقم: ارفعه، ورجع السائب، فرأى عمر ليالى كالحيات يردن نهشه، فسرح رجلا، وكتب إلى السائب: إن صادفك رسولى فى الطريق فلا تصلن إلى أهلك حتى تأتينى، وإن وصلت إلى أهلك فعزمة منى إليك إذا قرأت كتابى أن تشد على راحلتك وتقبل إلىّ، وكتب إلى عمار: لا تضعن كتابى حتى ترحل إلىّ السائب، وأمر الرسول أن يعجله، فقدم الرسول، فقال له السائب: أبلغه عنى شىء أم به علىّ سخطة؟ قال: ما رأيت ذلك ولا أعلمه، بلغه عنك خير ولا شر. وركب فقدم على عمر، فقال له: يا ابن أم مليكة، يا ابن الحميرية، ما لى ولك أم ما لك ولى، ثكلتك أمك، ما الذى جئتنى به؟ فلقد بت مما جئتنى به مروعا أظن الحيات تنهشنى، أخبرنى عن السفطين، فقال: والله لئن أعدت عليك الحديث فزدت حرفا أو نقصت حرفا لأكذبن، قال: إنك لما انصرفت فأخذت مضجعى لمنامى أتتنى الملائكة، فأوقدوا علىّ سفطيك جمرا ودفعوهما فى نحرى وأنا أنكص وأعاهدهم أن أردهما فأقسمهما على من أفاءهما الله عليه، فكاد ابن الخطاب يحترق، ثم لم أزل مروعا أظن الحيات تنهشنى، فأردد هذين السفطين فبعهما بعطاء الذرية والمقاتلة أو بنصف ذلك، وأقسم ثمنها على من أفاءهما الله عليه. وقال بعضهم: قال له: بعهما واجعل ثمنهما فى أعطية المسلمين بالبصرة والكوفة، فإن خرج كفافا فذاك، وإن فضل فاجعله فى بيت مال المسلمين.

فقدم السائب بهما فاشتراهما عمرو بن حريث بعطاء الذرية والمقاتلة. وقال بعضهم: اشتراهما بأعطية أهل المصرين، فباع أحدهما من أهل الحيرة بما أخذهما به، واستفضل الآخر. وقال بعضهم: استفضل مائة ألف دينار، فكان أول مال اعتقده. قال: وكان النخيرجان تحصن فى قلعة من قلاع نهاوند ومعه مائة امرأة من نساء الأساورة ومعه حلية كثيرة من كنز كسرى، فصالحه حذيفة على ما كان معه، وافتتح حذيفة رساتيق مما يلى أصبهان. وكان أهل نهاوند قد حفروا خندقا وهالوا فيه ترابا متحولا، فلما انهزموا جعلوا يسقطون فى ذلك الخندق ويغرقون فى ذلك التراب. وكان يقال لفتح نهاوند: فتح الفتوح. وذكر المدائنى أيضا، عن موسى بن عبيدة، عن أخيه، قال: قدمت البصرة فرأيت بها شيخا أصم، فقلت: ما أصابك؟ قال: أنا من أهل نهاوند، فنزل المسلمون، يعنى عند ما نزلوا عليها، فكبروا تكبيرة ذهب سمعى منها. وذكر الطبرى «1» فيما ذكره من الأخبار المختلفة فى هذه الوقعة، عن سيف، عن أبى بكر الهذلى نحوا من هذا الحديث، وزاد فيه أشياء وخالفه فى أماكن منه، منها أن النعمان بن مقرن عند ما أمّره عمر، رضى الله عنه، على هذه الحرب فى هذا الوجه كان يومئذ بالبصرة ومعه قواد من قواد أهل الكوفة قد أمدّ بهم عمر، رحمه الله، أهل البصرة عند انتقاض الهرمزان، فافتتحوا رامهرمز وايذج، وأعانوهم على تستر وجندى سابور والسوس، فكتب إليه عمر: إنى قد وليتك حربهم، يعنى الأعاجم الذين اجتمعوا بنهاوند، فسر من وجهك هذا حتى تأتى ماه، فإنى قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع إليك جندك فسر إلى الفيرزان ومن تجمع إليه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصر الله، وأكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله، وإن حدث بك حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن. وفى حديثه: أنه لما استحث أهل الكوفة كان أسرعهم إلى ذلك الوجه الروادف ليبلوا فى الدين وليدركوا حظا، وأن حذيفة بن اليمان خرج بأهل الكوفة أميرا عليهم بأمر عمر حتى ينتهى إلى النعمان، وخرج معه نعيم بن مقرن حتى قدموا على النعمان بالطرز، وجعلوا بمرج القلعة خيلا عليها النسيسر، وكتب عمر، رحمه الله، إلى سلمى بن القين

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 126) .

وحرملة بن مريطة، وزر بن كليب والمقترب بن ربيعة، والقواد الذين كانوا بين فارس والأهواز أن اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمرى، وبعث مجاشع بن مسعود إلى الأهواز، وقال له: أفصل منها على ماه، ففعلوا ما أمرهم به، وقطعوا بذلك على أهل نهاوند أمداد فارس. وفيه «1» أن النعمان لما أتاه طليحة بخبر نهاوند وأعلمه أنه ليس بينه وبينها أحد ولا شىء يكرهه، وقد توافى إليه أمداد المدينة، نادى عند ذلك بالرحيل، وبعث إلى مجاشع أن يسوق الناس، وسار النعمان على تعبئته، وعلى مقدمته أخوه نعيم، وعلى مجنبتيه أخوه سويد وحذيفة بن اليمان، وعلى المجردة القعقاع، وعلى الساقة مجاشع، فانتهوا إلى الأسبيذهان والفرس به وقوف على تعبئتهم وأميرهم الفيرزان، وقد توافى إليه نهاوند كل من غاب عن القادسية والأيام من أهل الثغور وأمرائها وأعلام من أعلامهم ليسوا بدون من شهد الأيام والقوادس. فلما رآهم النعمان كبر ثلاثا وكبر الناس معه، فزلزلت الأعاجم، وأمر النعمان وهو واقف بحط الأثقال، وبضرب الفسطاط، فضرب وهو واقف، وابتدره أشراف أهل الكوفة وأعيانهم، فسبق إليه عدة منهم سابقوا أكفاءهم فسبقوهم، وهم أربعة عشر رجلا: حذيفة بن اليمان، وعقبة بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصية، وحنظلة بن الربيع الكاتب، وابن الهدير، وربعى بن عامر، وعامر بن مطر، وجرير بن عبد الله الحميرى، وجرير البجلى، والأشعث بن قيس، والأقرع بن عبد الله الحميرى، وسعيد بن قيس الهمدانى، ووائل بن حجر، فلم ير بناة فسطاط بالعراق كهؤلاء. وأنشب النعمان القتال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس، والحرب بينهم فى ذلك سجال، ثم انحجزوا فى خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمون، فأقاموا عليهم ما شاء الله والأعاجم بالخيار، لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج، فاشتد ذلك على المسلمين وخافوا أن يطول أمرهم، وأحبوا المناجزة، فتجمع أهل الرأى من المسلمين، وأتوا النعمان فى ذلك فوافقوه وتروى فى الذى رووا فيه، فقال: على رسلكم، لا تبرحوا، ثم بعث إلى من بقى ممن لم يأته من أهل النجدات والرأى فى الحرب، فتوافوا إليه، فتكلم النعمان، فقال: قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن، وأنهم لا يخرجون إلا إذا شاؤا، ولا يقدر المسلمون على إنغاضهم وانبعاثهم قبل مشيئتهم، وهم

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 128) .

يرون ما المسلمون فيه من التضايق، فما الرأى الذى به نحمشهم ونستخرجهم إلى المناجزة؟. فقال بعض المسلمين: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم، فدعهم وطاولهم وقاتل من أتاك منهم. فردوا جميعا عليه رأيه، وقالوا: إنا لعلى يقين من إنجاز ربنا موعده، فما لنا وللمطاولة حتى لا نجد منها بدا؟. وتكلم «1» عمرو بن معدى كرب، يومئذ، فلم يوافقهم قوله الذى قال، وردوه عليه. وقال طليحة: أما أنا فأرى أن نبعث خيلا مؤدية، فيحدقوا بهم، ثم يراموهم ليحمشوهم وينشبوا القتال، فإذا استحمشوا واختلطوا بهم أرزت إلينا خيلنا تلك استطرادا، فإنا لم نستطرد لهم فى طول ما قاتلناهم، وإنا إذا فعلنا ورأوا ذلك منا طمعوا فى هزيمتنا ولم يشكوا فيها، فخرجوا فجادونا وجاددناهم، حتى يقضى الله فينا وفيهم ما أحب. فأمر «2» النعمان القعقاع، صاحب المجردة، بذلك ففعل، وأنشب القتال، فأنغضهم فلما خرجوا نكص، ثم نكص، ثم نكص، فاغتنمتها الأعاجم، ففعلوا كما ظن طليحة وخرجوا، فلم يبق أحد إلا من يقوم لهم على الأبواب، وجعلوا يركبون القعقاع حتى أرزا إلى الناس، وانقطع القوم من حصنهم بعض الانقطاع، والنعمان والمسلمون على تعبئتهم فى يوم الجمعة وفى صدر النهار، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم، ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمى، وأقبل المشركون عليهم يثفنونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا الناس ذلك بعضهم إلى بعض، ثم قالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما لقى الناس؟ فما تنتظر بهم؟ ائذن للناس فى قتالهم، فقال النعمان: رويدا رويدا، تروا أمركم، فقال المغيرة: لو أن هذا الأمر إلىّ علمت ما أصنع، فقال النعمان: رويدا ترى أمرك، فقد كنت تلى الأمر فتحسن، ولا يخذلنا الله وإياك، ونحن نرجو فى المكث مثل الذى ترجو فى الحث. وجعل النعمان ينتظر بالكتائب أحب الساعات كانت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى القتال أن يلقى فيها العدو، وذلك عند الزوال وتفيؤ الأفياء ومهب الأرواح. فلما كان قريبا من

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 130) . (2) انظر: الطبرى (4/ 130، 131) .

تلك الساعة تحشحش النعمان وسار فى الناس على برذون أحوى قريب من الأرض، فجعل يقف على كل راية فيحمد الله عز وجل ويثنى عليه ويقول: قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الدين وما وعدكم من الظهور، وقد أنجز لكم هوادى ما وعدكم وصدوره، وإنما بقيت أعجازه وأكارعه، والله منجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله، واذكروا ما مضى إذ أنتم أذلة، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم اليوم عباد الله حقا وأولياؤه، وقد علمتم انقطاعكم من إخوانكم من أهل الكوفة، والذى لهم فى ظفركم وعزكم، والذى عليهم فى هزيمتكم وذلكم، وقد ترون ما أنتم بإزائه من عدوكم، وما أخطرتم وما أخطروا لكم، فأما ما أخطروا لكم فهذه الزينة وما ترون من هذا السواد، وأما ما أخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم، ولا سواء ما أخطرتم وأخطروا، فلا يكونن على دنياهم أحمى منكم على دينكم، وأتقى الله عبد صدق الله وأبلى نفسه فأحسن البلاء، فإنكم بين خيرين تنتظرون إحدى الحسنيين، من بين شهيد حى مرزوق، أو فتح قريب وظفر يسير، فكفى كل رجل ما يليه ولم يكل قرنه إلى أخيه، فإذا قضيت أمرى فاستعدوا، فإنى مكبر ثلاثا، فإذا كبرت الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ، فإذا كبرت الثانية فليجمع عليه رداءه، وليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض، فإذا كبرت الثالثة فإنى حامل إن شاء الله، فاحملوا معا، اللهم أعز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك. وفى رواية «1» إنه قال: اللهم إنى أسألك أن تقر عينى بفتح يكون فيه عز الإسلام وذل يذل به الكفار، ثم اقبضنى بعد ذلك على الشهادة، أمنوا يرحمكم الله، فأمنا وبكينا. فلما فرغ النعمان من التقدم إلى أهل المواقف رجع إلى موقفه، فكبر الأولى والثانية والثالثة، والناس سامعون مطيعون مستعدون للمناهضة ينحى بعضهم بعضا عن سننه، وحمل النعمان وحمل الناس، وراية النعمان تنقض نحوهم انقضاض العقاب، فالتقوا بالسيوف فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعة يوم قط كانت أشد منها قتالا، فقتلوا فيها من أهل فارس فيما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دما، يزلق الناس والدواب، وأصيب فرسان من فرسان المسلمين فى الزلق فى الدماء، منهم النعمان أميرهم، زلق فرسه فى الدماء فصرعه، فأصيب عند ذلك، رحمه الله، وتناول الراية منه قبل أن تقع أخوه نعيم بن مقرن، وسجى النعمان بثوب، وأتى حذيفة بالراية فدفعها إليه، وكان اللواء مع حذيفة.

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 132) .

وقال المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع الله فينا وفيهم؛ لئلا يهن الناس، فاقتتلوا حتى إذا أظلم الليل عليهم انكشف المشركون وذهبوا، والمسلمون ملظون بهم، فعمى على المشركين قصدهم، فتركوه وأخذوا نحو اللهب وهو الخندق الذى كانوا آنزلوا دونه، فوقعوا فيه، فمات فيه منهم مائة ألف أو يزيدون، سوى من قتل منهم فى المعركة، وهم أعداد الذين هووا، ولم يفلت إلا الشريد، ونجا الفيرزان من بين الصرعى فى المعركة، فهرب نحو همدان فى ذلك الشريد، فتبعهم نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع فأدركه حين انتهى إلى ثنية همدان، والثنية مشحونة من بغال وحمير موقورة عسلا، فحبسه على أجله، فقتله على الثنية بعد ما امتنع، لم يزل يتوقل فى الجبل لما غشيه إذ لم يجد مساغا، وتوقل القعقاع فى أثره حتى أخذه، واستاق العسل وما خالطه من سائر الأحمال، فأقبل به، وسميت تلك الثنية بذلك: ثنية العسل. وقال القعقاع فى ذلك: قولا لأصرام بأكناف الجبل ... بأن لله جنودا من عسل تقتل أحيانا بأسياف الأجل ومضى الفلال حتى انتهوا إلى مدينة همدان فدخلوها والخيل فى آثارهم، فنزلوا عليها وحووا ما حولها، فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم على أن يضمن لهم همدان ودستى، وأن لا يؤتى المسلمون منهم، فقبل المسلمون ذلك وأجابوا إليه، وآمنوهم فأقبل كل من كان هرب، ولما بلغ الخبر أهل الماهين بأن همدان قد أخذت، ونزلها نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو اقتدوا بخسروشنوم، فراسلوا حذيفة فأجابهم إلى ما طلبوا، فأجمعوا على إتيانه، فخدعهم دينار، وكان ملكا إلا أنه كان دون أولئك الملوك، وأتى إلى المسلمين فى الديباج والحلى، فأعطاهم حاجتهم واحتمل لهم ما أرادوا، فعاقدوه عليهم، ولم يجد الآخرون بدا من متابعته والدخول فى أمره، فقيل لأجل ذلك: ماه دينار، فنسبت إليه، وذهب حذيفة بها، وكان النعمان بن مقرن قد عاهد بهراذان على مثل ذلك، فقيل: ماه بهراذان، فنسبت إليه لأجل ذلك، ووكل النسير بن ثور بقلعة قد كان لجأ إليها قوم فحاصرها فافتتحها، فنسبت إلى النسير. وفى غير هذا الحديث «1» أن أهل نهاوند خرجوا ذات يوم على المسلمين فلم يلبثهم المسلمون أن هزموهم، وتبع سماك بن عبيد العنسى رجلا منهم معه نفر ثمانية على أفراس لهم، فبارزهم فلم يبرز له أحد منهم إلا قتله حتى أتى عليهم، ثم حمل الفارسى الذى كانوا معه فأسره سماك وأخذ سلاحه، ووكل به رجلا، فقال: اذهبوا بى إلى

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 135، 136) .

أميركم حتى أصالحه على هذه الأرض وأؤدى إليه الجزية، واسألنى أنت عن أسارك ما شئت، وقد مننت علىّ إذ لم تقتلنى، وإنما أنا عبدك الآن، وإن أدخلتنى على الملك فأصلحت ما بينى وبينه وجدت لى شكرا، وكنت لى أخا، فخلى سبيله وآمنه، وقال: من أنت؟ قال: أنا دينار، والبيت يومئذ فى آل قارن، فأتى به حذيفة فحدثه دينار عن نجدة سماك وما قتل، وصالحه على الخراج، فنسبت إليه ماه، فكان بعد يواصل سماكا ويهدى له، ويوافى الكوفة، فقدمها فى إمارة معاوية مرة، فقال للناس: يا معشر أهل الكوفة، إنكم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس، فعمرتم بذلك زمان عمر وعثمان، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع: بخل وخب وغدر وضيق، ولم تكن فيكم واحدة منهن، فرمقتكم، فإذا ذلك فى مولديكم، فعلمت من أين أتى ذلك، وإذ الخب من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز. وقسم حذيفة لمن خلفوا بمرج القلعة وغيره، ولأهل المسالح جميعا من فىء نهاوند مثل الذى قسم لأهل المعركة؛ لأنهم كانوا ردآ للمسلمين، وكان سهم الفارس يوم نهاوند ستة آلاف، وسهم الراجل ألفين، ونفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء، ودفع ما بقى منها إلى السائب، فخرج بها إلى عمر، وتململ عمر، رضى الله عنه، تلك الليلة التى كان قدر لملاقاتهم، وجعل يخرج ويلتمس الخبر، فبينا رجل من المسلمين قد خرج فى بعض حوائجه، فرجع إلى المدينة ليلا، لحق به راكب فى الليلة الثالثة من يوم نهاوند يريد المدينة، فقال له الرجل: يا عبد الله، من أين أقبلت؟ فقال: من نهاوند، فقال: الخبر؟ قال: فتح الله على النعمان واستشهد، واقتسم المسلمون فىء نهاوند، فأصاب الفارس منه ستة آلاف، وطواه الراكب حتى انغمس فى المدينة، فلما أصبح الرجل تحدث بحديثه، ونمى الخبر حتى بلغ عمر، رحمه الله، وهو فيما هو فيه، فأرسل إليه، فسأله فأخبره، فقال: صدق وصدقت، هذا غيثم بريد الجن، وقد رأى بريد الإنس، فقدم بعد ذلك عليه بالفتح طريف بن سهم، أخو ربيعة بن مالك، وقدم السائب على أثره بالأخماس. وذكر من حديث السفطين قريبا مما تقدم فى الحديث الآخر، إلا أنه ذكر فيه أنه صرف معه السفطين من فوره وقال له: النجاء النجاء، عودك على بدئك حتى تأتى حذيفة فيقسمهما على من أفاءهما الله عليه، وأنه أصاب الفارس منهما لما باعهما حذيفة وقسم ثمنهما أربعة آلاف.

وفى بعض ما ذكره الطبرى «1» عن سيف عن شيوخه أن انبعاث الأعاجم للاجتماع بنهاوند كان بدؤه فى زمان سعد بن أبى وقاص بالكوفة، وإليه بلغ الخبر فأعلم به عمر، ثم انبرى لسعد قوم تشكوا منه ظالمين له إلى عمر، أحدهم الجراح بن سنان الأسدى، فاستقدمه عمر مع محمد بن مسلمة، بعد أن وجه محمدا لسؤال أهل الكوفة عنه، والطواف به على مساجدها، فكلهم يقول إذا سئل: لا نعلم إلا خيرا، ولا نشتهى به بدلا، إلا الجراح وأصحابه فإنهم كانوا يسكتون، يتعمدون ترك الثناء، ولا يسوغ لهم قول الشر، حتى انتهوا إلى بنى عبس، فقال محمد: أنشد الله رجلا علم حقا إلا قاله. فقال أسامة بن قتادة: اللهم إذ نشدتنا فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل فى الرعية، ولا يغزو فى السرية. فقال سعد: اللهم إن كان قالها كاذبا رياء وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن. فعمى، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يجسها، فإذا غير عليه يقول: دعوة سعد الرجل المبارك. ثم أقبل سعد يدعو على أولئك النفر الذين انبروا له وخرجوا إلى عمر متشكين به، فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشرا وبطرا وكذبا فأجهد بلاءهم، ففعل الله ذلك بهم، فقطع جراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بن على ليغتاله بساباط، وشدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء وبنعال السيوف. وقال سعد: والله إنى لأول رجل هراق دما فى المشركين، ولقد جمع لى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه، وما جمعهما لأحد قبلى، ولقد رأيتنى خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أنى لا أحسن أصلى وأن الصيد يلهينى. وخرج محمد بن مسلمة به وبهم حتى قدموا على عمر، فقال: يا سعد، ويحك! كيف تصلى؟ فقال: أطيل الأوليين، وأحذف الأخريين، فقال: هكذا الظن بك، ثم قال: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بيننا، ثم قال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فأقره عمر واستعمله. قال «2» : فكان سبب نهاوند وبدء مشورتها وبعوثها فى زمان سعد، وأما الوقعة ففى زمان عبد الله. وكان من حديثهم أنهم نفروا لكتاب يزدجرد، فتوافوا إلى نهاوند مائة وخمسين ألف مقاتل، واجتمعوا على الفيرزان، وإليه كانوا توافوا، ثم قالوا: إن محمدا الذى جاء العرب بالدين لم يغرض غرضا، يريدون النبى صلى الله عليه وسلم، قالوا: ثم ملكهم أبو بكر من بعده فلم يغرض

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 120) . (2) انظر: الطبرى (4/ 122) .

غرض فارس، إلا فى غارة تعرض لهم فيها، وإلا فيما يلى بلادهم من السواد، ثم ملك عمر فطال ملكه وغرض، حتى تناولكم وانتقضكم السواد والأهواز وأوطأها، ثم لم يرض حتى أتى أهل فارس فى عقر دارهم، وهو آتيكم إن لم تأتوه، وقد أخذ بيت مملكتكم فاقتحم بلاد ملككم، وليس بمنته حتى تخرجوا من فى بلادكم من جنوده وتقلعوا هذين المصرين، ثم تشغلوه فى بلاده وقراره، فتعاهدوا على ذلك وتعاقدوا، وكتبوا بينهم به كتابا. وبلغ الخبر سعدا، فكتب به إلى عمر، ثم لقيه بالخبر مشافهة لما شخص إليه، وقال: إن أهل الكوفة يستأذنونك فى الانسياح إليهم ومبادرتهم الشدة، وكان عمر منعهم من الانسياح فى الجبل، ثم كتب إليه عبد الله بن عبد الله بمن اجتمع منهم، وقال: إن جاؤنا قبل أن نبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة، وإن نحن عاجلناهم كان لنا ذلك عليهم، وبعث بكتابه مع قريب بن ظفر العبدى. فلما قرأ عمر الكتاب قال للرسول: ما اسمك؟ قال: قريب، قال: ابن من؟ قال: ابن ظفر، فتفاءل إلى ذلك، وقال: ظفر قريب إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونودى فى الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وحينئذ وافاه سعد، فتفاءل أيضا إلى سعد بن مالك، وقام عمر على المنبر خطيبا، فأخبر الناس الخبر، واستشارهم، وقال: هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإنى قد هممت بأمر وإنى عارضه عليكم، فاسمعوه ثم أجيبونى وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، ولا تكثروا ولا تطلبوا، فتفشع بكم الأمور، ويلتوى عليكم الرأى، أفمن الرأى أن أسير فيمن قبلى ومن قدرت عليه حتى أنزل منزلا واسطا بين المصرين، فأستنفرهم ثم أكون لهم ردآ حتى يفتح الله عليهم ويقضى ما أحب؟. فقام عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف فى رجال من أهل الرأى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا نرى ذلك، ولكن لا يغيبن عنهم رأيك وأمرك، وبإزائهم وجوه العرب وفرسانهم وأعلامهم ومن قد فض جموعهم وقتل ملوكهم وباشر من حروبهم ما هو أعظم من هذا، وإنما استأذنوك ولم يستصرخوك، فأذن لهم، واندب إليهم، وادع لهم، فقام على بن أبى طالب، رضى الله عنه، فقال: أصاب القوم يا أمير المؤمنين الرأى، وفهموا ما كتب به إليك، وإن هذا الأمر لم يبن نصره ولا خذلانه لكثرة ولا لقلة هو دينه الذى أظهر، وجنده الذى أعز وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ، ونحن على موعود من الله سبحانه، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكانك منهم مكان

النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم تجتمع بحذافيره أبدا، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثير عزيز بالإسلام، فأقم واكتب إلى أهل الكوفة، فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، ومن لم يحفل بمن هو أجمع من هؤلاء وأحد وأجد فليأتهم الثلثان وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم. فسر عمر، رحمه الله، بحسن رأيهم، وأعجبه ذلك منهم. وقام سعد فقال: خفض عليك يا أمير المؤمنين، فإنهم إنما جمعوا لنقمة نازلة بهم. وبالوقوف على ما أثبتناه من الأخبار عن هذه الوقعة يعرف ما اتفقت عليه وما اختلفت فيه، وقد حذفنا منها ما قدرنا الاستغناء عن إيراده مما لعل فى بعضه زيادة فى الخلاف. وذكر المدائنى أن وقعة نهاوند كانت فى سنة إحدى وعشرين، وذكر الطبرى «1» أنها كانت فى أول سنة تسع عشرة لست سنين من إمارة عمر، رضى الله عنه. وذكر أيضا عن سيف «2» عن شيوخه ما كتب به النعمان بن مقرن من الأمان لأهل ماه بهراذان، وحذيفة لأهل ماه دينار، وكلا الكتابين موافق للآخر لفظا ومعنى، وكتاب النعمان: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى نعمان بن مقرن أهل ماه بهراذان، أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون على ملتهم، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدوا الجزية فى كل سنة إلى من وليهم، على كل حالم فى ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل، وأصلحوا الطرق، وقروا جنود المسلمين ممن مر بهم فأوى إليهم يوما وليلة، ووفوا ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا، فذمتنا منهم بريئة. شهد عبد الله بن ذى السهمين، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله، وكتب فى المحرم سنة تسع عشرة. قالوا: وألحق عمر، رضى الله عنه، من شهد نهاوند من الروادف فأبلى بلاء حسنا فاضلا فى ألفين، ألحقهم بأهل القادسية. وقال القعقاع بن عمرو فى ذلك:

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 114) . (2) انظر: الطبرى (4/ 136، 137) .

جذعت على الماهات آناف فارس ... لكل فتى من صلب فارس حادر هتكت بيوت الفرس لما لقيتهم ... وما كل من يلقى الحروب بثائر حبست ركاب الفيرزان وجمعه ... على قتر من حرها غير فاتر هدمت به الماهات والدرب بغتة ... إلى غاية أخرى الليالى الغوابر وقال أبو بجيد فى ذلك: لو أن قومى فى الحروب أذلة ... لأخنث عليهم فارس فى الملاحم ولكن قومى أحرزتهم سيوفهم ... فآبوا وقد عادوا حواة المكارم أبينا فلم نعط الظلامة فارسا ... ولكن قبلنا عفو سلم المسالم ونحن حبسنا فى نهاوند خيلنا ... لشر ليال أنتجت للأعاجم نتجن لهم فينا وعضل سخلها ... غداة نهاوند لإحدى العظائم ملأنا شعابا فى نهاوند منهم ... رجالا وخيلا أضرمت فى الضرائم وأركضهن الفيرزان على الصفا ... فلم ينجه منا انفساح المخارم ذكر الانسياح فى بلاد فارس، وعمل المسلمين به بإذن عمر رضى الله عنه، فيه بعد منعه إياهم، وما تبع ذلك من الفتوح فى بقية خلافته وقتال الترك والديلم وغيرهم «1» ولم يزل عمر، رضى الله عنه، ينهى المسلمين عن الانسياح فى بلاد فارس، ويأمرهم بالاقتصار على ما فى أيديهم، والجد فى قتال من قاتلهم، نظرا للإسلام واحتياطا على أهله وإشفاقا، ولا يزال أهل فارس يجهدون بعد كل نيل منهم وهزيمة تأتى على جموعهم فى انبعاث جموع أخر، رجاء الاستدراك لما قد أذن الله فى إقامته، والإبقاء من أمرهم لما سبقت المشيئة بزواله واستيلاء الإسلام عليه وعلى سواه، تتميما لنوره، وإنجازا لموعود رسوله الذى أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وكان بعض أهل الذمة الذين قهرهم الإسلام على الصلح وأقرهم على الجزية ينتقضون عند تحرك أهل فارس، فسأل عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وفد أهل البصرة عن ذلك، وهل يفضى المسلمون إلى أهل الذمة بأذى أو بأمور لها ينتقضون؟ فقالوا: لا نعلم إلا وفاء وحسن ملكة، قال: كيف هذا؟ فلم يجد عند أحد منهم شيئا يشفيه ويبصر

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 94- 138) ، فتوح البلدان للبلاذرى (ص 476) .

به ما يقولون، إلا ما كان من الأحنف بن قيس، فإنه قال: يا أمير المؤمنين، أخبرك أنك نهيتنا عن الانسياح فى البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما كان فى أيدينا، وأن ملك فارس حى بين أظهرهم، وأنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شىء إلا بانبعاثهم، وأن ملكهم هو الذى يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فنسيح فى بلادهم حتى نزيله عن فارس ونخرجه من مملكته وعن أمته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس. فقال: صدقتنى والله وشرحت لى الأمر عن حقه، وأذن عمر عند ذلك فى الانسياح، وانتهى إلى رأى الأحنف، وعرف فضله وصدقه، ورأى أن يزدجرد يبعث عليه فى كل عام حربا إن لم يأذن للناس فى الانسياح فى أرض العجم، ورأى أن يزدجرد على ما كان فى يدى كسرى، فوجه عمر، رضى الله عنه، الأمراء من أهل البصرة ومن أهل الكوفة، وأمر على كلا المصرين أمراء، أمرهم بأمره، وأذن لهم فى الانسياح، فانساحوا وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدى حليف بنى عبد الأشهل، فقدم سهيل البصرة بالألوية، فدفع لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس، ولواء أردشير خره وسابور إلى مجاشع ابن مسعود السلمى، ولواء اصطخر إلى عثمان بن أبى العاص، ولواء فسا ودرابجرد إلى سارية بن زنيم الكنانى، ولواء كرمان مع سهيل بن عدى، ولواء سجستان إلى عاصم بن عمرو، ولواء مكران إلى الحكم بن عمرو التغلبى، فعسكروا ليخرجوا إلى هذه الكور، وذلك فى سنة سبع عشرة فى بعض ما ذكره الطبرى عن سيف عن شيوخه. قالوا: فلم يستتب مسيرهم حتى دخلت سنة ثمان عشرة. وذكر الطبرى أيضا، عن سيف أن إذن عمر فى الانسياح إنما كان بعد فتح نهاوند، وهذا لا يكون إلا فى سنة تسع عشرة أو بعدها، على ما ذكرنا من الاختلاف فى فتح نهاوند. وذكر أيضا أنه قدمت الألوية من عند عمر، رحمه الله، إلى نفر بالكوفة، فقدم لواء منها على نعيم بن مقرن، وأمره بالمسير نحو همدان، وكان أهلها كفروا بعد الصلح الذى تقدم ذكره بعد هزيمة فارس بنهاوند، وقال له: إن فتح الله عليك فما وراءك لك، فى وجهك كذلك إلى خراسان، وبعث عقبة بن فرقد وبكير بن عبد الله، وعقد لهما على أذربيجان وفرقها بينهما، وأمر أحدهما أن يأخذ إليها من حلوان على ميمنتها، والآخر أن يأخذ إليها من الموصل على ميسرتها، فتيامن هذا عن صاحبه، وتياسر هذا، وبعث إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان بلواء، وأمره أن يسير إلى أصبهان، وكان شجاعا بطلا،

من أشراف الصحابة، ومن وجوه الأنصار، وأمده بأبى موسى من البصرة، وأمّر مكانه على البصرة عمر بن سراقة، وكان عبد الله خليفة سعد على الكوفة عند ما توجه إلى عمر، فأقره عمر مستعملا عليها، ثم صرفه عنها بزياد بن حنظلة، وكتب إليه عند ما أراد توجيهه إلى أصبهان أن سر من الكوفة حتى تنزل المدائن، فاندبهم ولا تنتخبهم، ثم اكتب إلىّ بذلك، فلما أتى عمر انبعاث عبد الله، بعث حينئذ زياد بن حنظلة على الكوفة، فلما أتاه انبعاث الجنود وانسياحهم، أمّر عمار بن ياسر على الكوفة، وقرأ قول الله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: 5] . ويروى أن زيادا ألح على عمر فى الاستعفاء بعد أن عمل قليلا فأعفاه وولى عمارا، وكان زياد من المهاجرين. ولما بعث عمر، رضى الله عنه، عمارا على الكوفة بعث عبد الله بن مسعود ليعلم الناس، وكتب إلى أهل الكوفة: إنى بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا، وجعلت عبد الله ابن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وفى رواية: ووليت حذيفة بن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها، ووليت عثمان بن حنيف الفرات وما سقى. وسنذكر إن شاء الله الجهات والكور التى عقد عليها عمر، رضى الله عنه، الألوية لمن ذكر قبل من أمرائه جهة جهة وبلدا بلدا، غير متقلدين فى ذلك تاريخا ولا متبرئين فيه من عهدة الخطأ فى تقديم مؤخر أو تأخير مقدم، لكثرة ما بين أهل الأخبار فى ذلك من الاختلاف الذى لا يتحصل معه حقيقة سوى المقصود من صنع الله لأوليائه فى إظهار كلمة الإسلام ونصره إياهم على كل من ناوأهم من الأمم تتميما لأمره وإنجازا لموعوده وتصديقا فى كل زمان ومكان لقوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40] . ذكر الخبر عن أصبهان «1» فأما أصبهان، فإن عبد الله بن عبد الله بن عتبان خرج إليها بأمر عمر، رضى الله عنه، وعلى مقدمته عبد الله بن ورقاء الرياحى، وعلى مجنبتيه عبد الله بن بديل بن ورقاء

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 139- 141) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (3/ 8، 9) .

الأسدى، وليس الخزاعى، وعصمة بن عبد الله، وسار عبد الله فى الناس نحو جىّ وقد اجتمع أهل أصبهان عليهم الأستندار، وعلى مقدمته شهربراز جاذويه، شيخ كبير فى جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برستاق من رساتيق أصبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ودعا الشيخ إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء، فقتله وانهزم أهل أصبهان، وسمى المسلمون ذلك الرستاق رستاق الشيخ، فما زال ذلك اسمه بعد. ودعى عبد الله من يليه فسارع الأستندار إلى الصلح، فصالحه عبد الله، ثم سار من رستاق الشيخ نحو جىّ فانتهى إليها، وبها يومئذ ملك أصبهان الفاذوسفان فى جمعه، فحاصرهم عبد الله، وخرجوا إليه، فلما التقوا، قال له ملكهم: لا تقتل أصحابى ولا أقتل أصحابك، ولكن ابرز إلىّ، فإن قتلتك رجع أصحابك، وإن قتلتنى سالمك أصحابى، وإن كان أصحابى لا تقع لهم نشابة إلا فى رجل، فبرز له عبد الله، وقال: إما أن تحمل علىّ، وإما أن أحمل عليك، فقال: أحمل عليك، فوقف له عبد الله، فحمل عليه الفاذوسفان، فطعنه، فأصاب قربوس السرج فكسره، وقطع اللبد والحزام، وزال اللبد والسرج، فوقع عبد الله قائما، ثم استوى على الفرس عريا، وقال له: اثبت، فحاجزه وقال: ما أحب أن أقاتلك، فإنى قد رأيتك رجلا كاملا، ولكن ارجع معك إلى عسكرك فأصالحك وأدفع المدينة إليك على أن من شاء أقام وأدى الجزية وقام على ماله، وعلى أن تجرى مجراهم من أخذتم ماله عنوة ويتراجعون، ومن أبى أن يدخل فيما دخلنا فيه ذهب حيث شاء ولكم أرضه. فقال له عبد الله: لكم ذلك، فرجع القوم إلى جىّ، إلا ثلاثين رجلا من أصبهان خالفوا قومهم، فخرجوا فلحقوا بكرمان، ودخل عبد الله وأبو موسى حيا، مدينة أصبهان، وإنما وصل إليه أبو موسى من ناحية الأهواز بعد الصلح، واغتبط من أقام، وندم من شخص. وكتب عبد الله بالفتح إلى عمر، فأمره أن يلحق بسهيل بن عدى فيجتمع معه على قتال من بكرمان، وأن يستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع، ففعل عبد الله ما أمره به، وخرج فى جريدة خيل فلحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان، وسيأتى ذكر فتحها بعد إن شاء الله. والكتاب الذى كتبه عبد الله لأهل أصبهان: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من عبد الله للفاذوسفان وأهل أصبهان وما حواليها،

إنكم آمنون ما أديتم الجزية، وعليكم من الجزية على قدر طاقتكم كل سنة تؤدونها إلى الذى يلى بلادكم عن كل حالم، ودلالة المسلم وإصلاح طريقه وقراه يوما وليلة، وحملان الراجل إلى مرحلة، ولا تسلطوا على مسلم، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم، ولكم الأمان ما فعلتم، فإذا غيرتم شيئا أو غيره مغير منكم ولم تسلموه فلا أمان لكم، ومن سب مسلما بلغ منه، فإن ضربه قتلناه. وكتب وشهد عبد الله بن قيس، وعبد الله بن ورقاء، وعصمة بن عبد الله. ذكر فتح همذان ثانية وقتال الديلم «1» وقد كان حذيفة اتبع فالة نهاوند نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو، فبلغا همذان فصالحهم خشروشنوم على همذان ودستبى، فرجعوا عنه، ثم إن أهل همذان كفروا بعد ونقضوا ذلك الصلح، فكتب عمر، رحمه الله، إلى نعيم بن مقرن: أن سر حتى تأتى همذان، وابعث على مقدمتك سويد بن مقرن، وعلى مجنبتيك ربعى بن عامر ومهلهل بن زيد، هذا طائى، وذاك تميمى، فخرج نعيم فى تعبئته فسار حتى نزل مدينة همذان وقد تحصنوا، فحاصرهم وأخذ ما بينها وبين جرميذان، واستولى على بلاد همذان كلها. فلما رأى ذلك أهل المدينة سألوا الصلح، على أن يجريهم ومن استجاب له مجرى واحدا، ففعل، وقبل منهم الجزاء على المنعة، وفرق دستبى بين النفر من أهل الكوفة، بين عصمة بن عبد الله الضبى، ومهلهل بن زيد الطائى، وسماك بن عبيد العبسى، وسماك ابن مخرمة الأسدى، وسماك بن خرشة الأنصارى، فكان هؤلاء أول من ولى مسالح دستبى وقاتل الديلم. فبينا نعيم فى مدينة همذان فى توطئتها فى اثنى عشر ألفا من الجند تكاتب الديلم وأهل الرى وأهل أذربيجان، ثم خرج موثا فى الديلم حتى ينزل بواج الروذ، وأقبل أبو الفرخان فى أهل الرى، حتى انضم إليه، وأقبل أخو رستم فى أهل أذربيجان حتى انضم إليه، وتحصن أمراء مسلح دستبى وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس، وخرج إليهم فى الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، وقتل القوم مقتلة عظيمة لم تكن دون وقعة نهاوند، ولا قصرت ملحمتهم عن الملاحم الكبار، وقد

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 146- 149) ، الكامل لابن الأثير (3/ 7، 8) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 120- 122) .

كانوا كتبوا إلى عمر، رحمه الله، باجتماعهم، ففزع عمر واهتم لحربهم، وتوقع ما يأتيه عنهم، فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة، فقال: أبشير؟ فقال: بل عروة، فلما ثنى عليه: أبشير؟ فهم عنه ما أراد، فقال: بشير، فقال عمر: رسول نعيم؟ قال: رسول نعيم، قال: الخبر؟ قال: البشرى بالفتح والنصر، وأخبره الخبر، فحمد الله، وأمر بالكتاب فقرئ على الناس، فحمد الله تعالى، ثم قدم عليه بالأخماس سماك بن مخرمة، وسماك بن عبيد، وسماك بن خرشة فى نفر من أهل الكوفة، فنسبهم، فانتسبوا له، فقال: بارك الله فيكم، اللهم أسمك بهم الإسلام وأيدهم بالإسلام، ثم كتب إلى نعيم: أما بعد، فاستخلف على همذان وآمد بكير بن عبد الله بن سماك بن خرشة، وسر حتى تقدم الرى فتلقى جمعهم، ثم أقم بها، فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد. فأقر نعيم يزيد بن قيس على همذان، وسار بالناس من واج الروذ إلى الرى. وقال نعيم يذكر قتالهم فى واج الروذ من أبيات: صدمناهم فى واج روذ بجمعنا ... غداة رميناهم بإحدى القواصم فما صبروا فى حومة الموت ساعة ... لجد الرماح والسيوف الصوارم أصبنا بها موثا ومن لف جمعه ... وفيها نهاب قسمها غير عاتم تبعناهم حتى أووا فى شعابهم ... نقتلهم قتل الكلاب الحوائم كأنهم عند انثياب جموعهم ... جدار تشظى لبنه للهوادم وقال سماك بن مخرمة الأسدى بعد تلك الأيام «1» : برزت لأهل القادسية معلما ... وما كل من يلقى الكريهة يعلم وقومى بنو عمرو بن نصر كأنهم ... أسود بتوج حين شبوا وأسلموا ويوم بأكناف النخيلة قبلها ... لججت فلم أبرح أدمى وأكلم وأقعص منهم فارسا بعد فارس ... وما كل من يغشى الكريهة يسلم فنجانى الله الأجل وجرأتى ... وسيف لأطراف المآرب مخذم وحولى بنو ذودان لا يبرحوننى ... إذا سرحت صاحوا بهم ثم صمموا وأيقنت يوم الديلميين أنه ... متى ينصرف قومى عن الناس يهزم محافظة إنى امرؤ ذو حفيظة ... إذا لم أجد مستأخرا أتقدم

_ (1) انظر الأبيات فى: الطبرى (4/ 149) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 121) .

فتح الرى «1» وخرج نعيم بن مقرن إلى الرى فلقيه أبو الفرخان مسالما، ومخلفا بالرى يومئذ سياوخش بن مهران بن بهرام، وكان سياوخش قد استمد أهل دنباوند وطبرستان وقرمس وجرجان، وقال: قد علمتم أن هؤلاء إن حلوا بالرى، إنه لا مقام لكم، فاحتشدوا له، فناهد بهم المسلمين، فالتقوا بسفح جبل الرى الذى إلى جانب مدينتها فاقتتلوا به. وقد كان أبو الفرخان قال لنعيم: إن القوم كثير وأنتم فى قلة، فابعث معى خيلا أدخل مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإنهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لك. فبعث معه نعيم من الليل خيلا عليها ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم المدينة، ولا يشعر القوم، وبيتهم نعيم بياتا فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا حتى سمعوا التكبير من ورائهم، فانهزموا، فقتلوا مقتلة عدوا فيها بالقصب، وأفاء الله على المسلمين بالرى نحوا من فىء المدائن، وصالح أبو الفرخان نعيما على أهل الرى، فلم يزل بعد شرف الرى فى آله، وسقط آل بهرام، وأخرب نعيم مدينة الرى، وهى التى يقال لها العتيقة، وأمر أبا الفرخان فبنى مدينة الرى الحدثاء، وكتب لهم نعيم كتابا أعطاهم فيه الأمان لهم ولمن كان معهم من غيرهم، على أن على كل حالم من الجزية طاقته فى كل سنة، وعلى أن ينصحوا ولا يغلوا ولا يسلوا، ويدلوا المسلم ويقروه يوما وليلة، ويفخموه، فمن سب مسلما أو استخف به نهك عقوبة، ومن ضربه قتل، ومن بدل منهم فلم يسلم برمته فقد غير جماعته. وراسل عند ذلك نعيما مردانشاه مصمعان نهاوند فى الصلح على شىء يفتدى به من غير أن يسأله النصر والمعونة، ففعل ذلك نعيم، وكتب له به ولأهل موضعه كتابا على أن يتقى من ولى الفرج بمائتى ألف درهم فى كل سنة. وقال أبو بجيد فى يوم الرى: ألا هل أتاها أن بالرى معشرا ... شفوا سقما لما استجاشوا وقتلوا لها موطنان عاينوا الهلك فيهما ... بأيد طوال لم يخنهن مفصل وخيل تعادى لا هوادة عندها ... وزاد وكمت تمتطى ومحجل

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 150، 151) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 121، 122) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 264- 265) .

ودهم وشقر تنشر البلق بينها ... إذا ناهبت قوما تولوا وأوهلوا قتلناهم بالسفح مثنى وموحدا ... وصار لنا فيها مداد ومأكل قتلنا سيا وخشا ومن مال ميله ... ولم ينج منهم بالسفوح مؤمل جزى الله خيرا معشر عصبوهم ... وأعطاهم خير العطاء الذى ولوا وقال أيضا: وبالرى إن سألت بنا أم جعفر ... فمنا صدور الخيل والخيل تنفر إذا حذر الأقرام منهن قارح ... تفخمه فى الموت أغيد أزهر أخو الهيج والروعات إن زفرت به ... أناخ إليها صابرا حين يزفر فتسفر عنها الحرب بعد انصبابها ... وفينا البقايا والفعال المسهر قتلنا بنى بهرام لما تتابعوا ... على أمر غاويهم وغاب المسور وبالسفح موتى لا تطير نسورها ... لها فى سواء السفح مثوى ومغبر ولولا اتقاء القوم بالسلم أقفرت ... بلادهم أو يهربون فيعذروا خلفناهم بالرى والرى منزل ... له جانب صعب هناك معور ذكر فتح قومس وجرجان فأما قومس، فإن عمر، رحمه الله، كان كتب إلى نعيم بن مقرن حين أعلمه بفتح الرى: أن قدم سويد بن مقرن إلى قومس، ففصل إليها سويد من الرى فى تعبئته، فلم يقم له أحد، فأخذها سلما، وعسكر بها، وكاتب الذين لجأوا إلى طبرستان منهم، والذين أخذوا المفاوز يدعوهم إلى الصلح والجزاء، وكتب لهم بذلك كتابا» . وأما جرجان، فإن سويدا سار إليها فكاتبه ملكها، وبدأه بالصلح على أن يؤدى له الجزاء ويكفيه حرب جرجان، فإن غلب أعانه، فقبل سويد ذلك منه، ثم تلقاه قبل أن يدخل جرجان، فدخلها معه، وعسكر سويد بها حتى جبى إليه خراجها، وسمى فروجها، فسدها بترك دهستان، ورفع الجزاء عمن أقام بمنعها، وأخذ الخراج من سائر أهلها، وكتب سويد بذلك كتابا لملكها رزبان صول وأهل دهستان وسائر أهل جرجان «2» .

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 151، 152) ، الروض المعطار (ص 485) . (2) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 152، 152) ، تاريخ جرجان (ص 44) .

ذكر فتح طبرستان وراسل الأصبهبذ سويدا فى الصلح على أن يتوادعا، ويجعل له شيئا على غير نصرة ولا معونة على أحد، فقبل ذلك منه، وكتب له: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من سويد بن مقرن للفرخان اصبهبذ خراسان على طبرستان وجبل جيلان، إنك آمن بأمان الله على أن تكف نصرتك وأهل حواشى أرضك، ولا تؤوى لنا بغية وتتقى من ولى فرج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك، فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك، ولا أن يتطوف أرضك، ولا يدخل عليك إلا بإذنك، سبيلنا عليكم بالإذن آمنة، وكذلك سبيلكم، ولا تسألون لنا إلى عدو ولا تغلون، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم «1» . فتح أذربيجان ولما «2» افتتح نعيم همذان ثانية، وسار إلى الرى كتب إلى عمر: أن يبعث سماك بن خرشة الأنصارى، وليس بأبى دجانة، ممدا لبكير بن عبد الله بأذربيجان، وكان عمر قد فرق أذربيجان بين بكير وبين عتبة بن فرقد، وأمر كل واحد منهما بطريق غير طريق صاحبه، فسار بكير حين بعث إليها حتى إذا طلع بحيال جرميذان، طلع عليه اسفندياذ بن الفرخزاد مهزوما من واج روز، فكان أول قتال لقيه بكير بأذربيجان، فاقتتلوا، فهزم الله جند اسفندياذ وأخذه بكير أسيرا، فقال له: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ فقال بكير: بل الصلح، قال: فأمسكنى عندك، فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم وأراضى لم يقيموا لك، وجلوا إلى الجبال التى حولها من القبج والروم ومن كان فى حصن تحصن إلى يوم ما، فأمسكه عنده، وصارت البلاد إليه إلا ما كان من حصن، وقدم سماك على بكير واسفندياذ فى إساره، وقد افتتح ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه. وتشوفت نفس بكير إلى المضى قدما، فقال لسماك: إن شئت كنت معى، وإن شئت أتيت عتبة، فإنى لا أرانى إلا تارككما وطالبا وجها هو أكره من هذا. فاستأذن عمر، فكتب إليه بالإذن على أن يتقدم نحو الباب، وأمره أن يستخلف على عمله، فاستخلف

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 153) . (2) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 153- 155) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 122) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 119، 120) .

عتبة على ما افتتح منه، ودفع إليه اسفندياذ، فأمر عتبة سماكا على ما استخلفه عليه بكير، وجمع عمر، رحمه الله، أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد، وكان بهرام بن الفرخزاذ قد أخذ بطريق عتبة، وأقام له فى عسكره حتى لحق عتبة فاقتتلوا، فهزمهم عتبة، وهرب بهرام، فلما بلغ الخبر اسفندياذ وهو بعد فى إسار بكير قال: الآن تم الصلح، وطفئت الحرب، فصالح بكير، وأجاب إلى ذلك جميعهم، وعادت أذربيجان سلما، وكتب عتبة بينه وبين أهلها كتابا إذ جمع له عمل بكير إلى عمله: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عتبة بن فرقد، عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، أهل أذربيجان، سهلها وجبلها، وحواشيها وشعاريها، وأهل ملكها كلهم من الأمان على أنفسهم وأموالهم وملتهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس ذلك على صبى ولا على امرأة ولا زمن ليس فى يده من الدنيا شىء، ولا متعبد متخل ليس فى يديه من الدنيا شىء، لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يوما وليلة ودلالته، ومن حشر منهم فى سنة رفع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه. حديث فتح الباب «1» وبعث عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، سراقة بن عمرو إلى الباب بعد أن رد أبا موسى مكانه إلى البصرة، وكان سراقة يدعى ذا النور، وجعل عمر على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، وكان أيضا يدعى ذا النور، وجعل على إحدى مجنبتيه حذيفة بن أسيد الغفارى، وسمى للأخرى بكير بن عبد الله الليثى، وكان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة عليه، وكتب إليه: أن يلحق به، وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة، فقدم سراقة عبد الرحمن، وخرج فى الأثر، حتى إذا خرج من أذربيجان نحو الباب، قدم عليه بكير فى أدنى الباب، فاستدفأ ببكير، ودخل بلاد الباب على ما عباه عمر، رحمه الله، وكان ملك الباب يومئذ شهربراز، رجل من آل شهربراز الملك الذى أفسد بنى إسرائيل وأعرى منهم الشام.

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 155- 160) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (3/ 14) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 122، 123) .

فلما أطل عليه عبد الرحمن بن ربيعة بالباب كاتبه شهربراز واستأمنه على أن يأتيه، فأمنه عبد الرحمن على ذلك، فأتاه فقال: إنى بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة، لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغى لذى العقل والحسب أن يعين أمثال هؤلاء ولا يستعين بهم على ذوى الأحساب والأصول، وذو الحسب قريب ذى الحسب حيث كان، ولست من الفتح فى شىء ولا من الأرض، وإنكم قد غلبتم على بلادى وأمتى، فأنا اليوم منكم يدى مع أيديكم، وصبرى معكم، فمرحبا بكم، وبارك الله لنا ولكم، وجزيتنا إليكم، ولكم النصر والقيام بما تحبون، ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم. فقال عبد الرحمن: فوقى رجل قد أظلك فسر إليه، فجوزه، فسار إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك، فقال له سراقة: قد قبلت ذلك فيمن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بد من الجزاء على من يقيم ولا ينهض، فقبل ذلك شهربراز، وصارت سنة فيمن كان يحارب العدو من المشركين، وفيمن يستنفر من أهل الجزية، فتوضع عنه جزية تلك السنة التى استنفر فيها. وكتب سراقة إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، بذلك، فأجازه وحسنه، وليس فى تلك البلاد التى فى ساحة الجبال نبك لم يقم الأرمن بها إلا على أوفاز، وإنما بها سكان ممن حولها ومن الطراء استأصلت الغارات نبكها من أهل القرار، وأرز أهل الجبال منهم إلى جبالهم، وجلوا عن قرار أرضهم، فكان لا يقيم بها إلا الجنود ومن أعانهم أو تجر إليهم. واكتتبوا من سراقة بن عمرو كتابا بالأمان لشهربراز وسكان أرمينية والأرمن، على أنفسهم وأموالهم وملتهم، لا يضارون ولا ينتقضون، وعلى أهل أرمينية والأبواب، الطراء منهم والتناء ومن حولهم، فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة، وينفروا لكل أمر رآه الوالى صلاحا، ناب أو لم ينب، على أن توضع على من أجاب إلى ذلك الجزاء، ومن استغنى منهم فقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء والدلالة والنزول يوما كاملا، فإن حشروا وضع ذلك عنهم، وإن تركوا أخذوا به. ثم إن سراقة بن عمرو وجه بعد ذلك بكير بن عبد الله وحبيب بن مسلمة، وكان عمر أمد به سراقة، وحذيفة بن أسيد وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجه بكيرا إلى موقان، وحبيبا إلى تفليس، وحذيفة إلى من بجبال اللان، وسلمان إلى وجه آخر.

وكتب سراقة بالفتح وبالذى وجه فيه هؤلاء إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فأتى عمر أمر لم يكن يرى أنه يستتم له على ما خرج عليه سريعا بغير مؤنة، وكان فرجا عظيما به جند عظيم، إنما ينتظر أهل فارس صنيعهم، ثم يضعون الحرب أو يبعثونها. فلما استوثقوا واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة، رحمه الله، واستخلف عبد الرحمن بن ربعة، وقد مضى أولئك القواد الذين بعثهم سراقة، فلم يفتح أحد منهم ما وجه له إلا بكيرا فإنه فض موقان، ثم تراجع أهلها على الجزية، فقبل منهم وكتب لهم بها وبأمانهم عليها. ولما بلغ عمر، رحمه الله، موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن أقره عمر وأمره بغزو الترك، فخرج بالناس حتى قطع الباب، فقال له شهربراز: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد بلنجر، فقال شهربراز: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من وراء الباب، فقال عبد الرحمن: لكنا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم فى ديارهم، وبالله إن معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا فى الإمعان لبلغت بهم الردم، قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا فى هذا الأمر بنية، وكانوا أصحاب حياء وتكرم فى الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرمهم ولا يزال هذا الأمر دائما لهم، والنصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم، وحتى ينقلوا عن حالهم. فغزا عبد الرحمن بلنجر غزاة فى زمان عمر، رضى الله عنه، لم تئم فيها امرأة ولم ييتم صبى، وبلغت خيله فى غزاته البيضاء على رأس مائتى فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم، ثم غزا غزوات فى زمان عثمان، رضى الله عنه، ثم أصيب عبد الرحمن حين تبدل أهل الكوفة فى إمارة عثمان لاستعماله من كان ارتد استصلاحا لهم، فلم يصلحهم ذلك وزادهم فسادا، أن سادهم من طلب الدنيا، وعضلوا بعثمان، رضى الله عنه ورحمه، حتى جعل يتمثل: وكنت وعمرا كالمسمن كلبه ... فخدشه أنيابه وأظافره وقال سلمان بن ربيعة «1» : لما دخل عبد الرحمن بن ربيعة عليهم، يعنى على الترك، حال الله بينهم وبين الخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعهم الملائكة تمنعهم من الموت، فتحصنوا منه، فرجع بالغنم والظفر، وذلك فى إمارة عمر، ثم لما

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 158، 159) .

غزاهم غزوات فى زمان عثمان ظفر بهم كما كان يظفر، حتى إذا تبدل أهل الكوفة، وذكر بعض ما تقدم من استعمال من ارتد، وغزاهم بعد ذلك تذمرت الترك وقالوا: انظروا، وكانوا يقولون إنهم لا يموتون. قال: فاختفوا لهم فى الغياض، فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين على غرة فقتله، وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك، فاقتتلوا فاشتد قتالهم، ونادى مناد من الجو: صبرا آل عبد الرحمن موعدكم الجنة فقاتل حتى قتل عبد الرحمن وانكشف المسلمون، وأخذ سلمان بن ربيعة الراية، فقاتل بها، ونادى مناد من الجو: صبرا آل سلمان، فقال سلمان: أو ترى جزعا؟ ثم خرج بالناس وخرج سلمان الفارسى وأبو هريرة الدوسى على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فما زالوا بعد يستسقون به. وجعل عثمان، رحمه الله، يغزيها مع حبيب بن مسلمة. وحدث مطر بن ثلج التيمى قال: دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهربراز عنده، فأقبل رجل عليه شحوب حتى جلس إلى شهربراز، فتساءلا، ثم إن شهربراز قال لعبد الرحمن: أيها الأمير، أتدرى من أين جاء هذا الرجل؟ إنى بعثته منذ سنتين نحو السند لينظر لى ما حاله ومن دونه، وزودته مالا عظيما، وكتبت له إلى من يلينى، وأهديت له، وسألته أن يكتب إلى من وراءه، وزودته لكل ملك هدية، ففعل ذلك بكل ملك بينى وبينه، حين انتهى إليه، حتى انتهى إلى الملك الذى السد فى ظهر أرضه، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه. فذكر أنه أحسن إلى البازيار وقال: فتكشر لى البازيار. فلما انتهينا إذا جبلان بينهما سد مسدود، حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما، وإذا دون السد خندق أشد سوادا من الليل لبعده، فنظرت إلى ذلك وتفرست فيه، ثم ذهبت لأنصرف، فقال لى البازيار: على رسلك، أكافئك، إنه لا يلى ملك بعد ملك إلا تقرب إلى الله بأفضل ما عنده من الدنيا، فيرمى به فى هذا اللهب، فشرح بضعة لحم معه، فألقاها فى ذلك الهوى، وانقضت عليها العقاب، وقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شىء، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شىء، فخرجت علينا العقبان باللحم فى مخالبها، وإذا فيها ياقوتة، فأعطانيها، وهى هذه. فتناولها منه شهربراز وهى حمراء فناولها عبد الرحمن، فنظر إليها ثم ردها إليه، فقال شهربراز: لهذه خير من هذه البلد، يعنى الباب، وايم الله لأنتم أحب إلىّ ملكة من آل كسرى، ولو كنت فى سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها منى، وايم الله لا يقوم لكم شىء ما وفيتم أو وفى ملككم الأكبر.

فأقبل عبد الرحمن على الرسول وقال: ما حال الردم وما شبهه؟ فقال: هذا الثوب الذى على هذا الرجل، وأشار إلى مطر بن ثلج، وكان عليه قباء برود يمنية أرضة حمراء ووشيه أسود أو وشيه أحمر وأرضه سوداء، فقال مطر: صدق والله الرجل، لقد نفذ ورأى، قال عبد الرحمن: أجل، ووصف صفة الحديد والصفر وقرأ: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ إلى آخر الآية [الكهف: 96] ، وقال عبد الرحمن لشهربراز: كم كانت هديتك؟ قال: قيمة مائة ألف فى بلادى هذه، وثلاثة آلاف ألف وأكثر فى تلك البلدان. ذكر مسير يزدجرد إلى خراسان ودخول الأحنف إليها غازيا «1» ذكروا أن يزدجرد لما انهزم أهل جلولاء خرج يريد الرى، وقد جعل له محمل يطيق ظهر بعيره، وكان إذا سار نام ولم يعرس بالقوم، فانتهى به إلى مخاضة وهو نائم فى محمله، فأنبهوه ليعلم، ولئلا يفزع إن هو استيقظ إذا خاض البعير به، فعنفهم على إنباهه وقال: بئس ما صنعتم، والله لو تركتمونى لعلمت ما مدة هذه الأمة، إنى رأيت أنى ومحمدا، يعنى النبى صلى الله عليه وسلم، تناجينا عند الله تعالى فقال له: أملككم مائة سنة، فقال: زدنى، فقال: عشرا ومائة، فقال: زدنى، فقال: عشرين ومائة سنة، فقال: زدنى، فقال: لك. وأنبهتمونى، ولو تركتمونى لعلمت. فلما انتهى إلى الرى، وثب عليه آبان جاذويه، وكان على الرى، حينئذ، فأخذه، فقال له يزدجرد: يا آبان جاذويه، تغدر بى! فقال: لا ولكن قد تركت ملكك وصار فى يدى غيرك، فأحببت أن أكتتب على ما كان لى من شىء، وما أردته من غير ذلك، وأخذ خاتم يزدجرد ووصل الأدم، واكتتب الصكاك وسجل السجلات بكل ما أعجبه، ثم ختم عليها ورد الخاتم، ثم أتى بعد سعدا فرد عليه كل شىء فى كتابه. ولما صنع آبان جاذويه بيزدجرد ما صنع خرج يزدجرد من الرى إلى أصبهان وكره جوار آبان ولم يأمنه، ثم عزم على كرمان، فأتاها ومعه النار، فأراد أن يضعها فى كرمان، ثم عزم على خراسان، فأتى مرو فنزلها وقد نقل النار، فبنى لها بيتا واتخذ بستانا، وبنى أزجا فرسخين من مرو إلى البستان، فاطمأن فى نفسه وأمن أن يؤتى، وكاتب من مرو من بقى من الأعاجم حيث لم يفتتحه المسلمون، فدانوا له، حتى إذا ثار

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 166- 173) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 120- 122) .

أهل فارس والفيرزان فنكثوا، وثار أهل الجبال والفيزران فنكثوا، وصار ذلك داعية إلى إذن عمر، رضى الله عنه، فى الانسياح، فانساح أهل البصرة وأهل الكوفة حتى أثخنوا فى الأرض، فخرج الأحنف إلى خراسان، فأخذ على مهرجان نقذف، ثم خرج على أصبهان، وأهل الكوفة محاصرو جى، فدخل خراسان من الطبسين، فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدى، ثم سار نحو مرو الشاهجان، وأرسل إلى نيسابور، وليس دونها قتال، مطرف بن عبد الله بن الشخير، وإلى سرخس الحارث بن حسان. فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ حتى نزولها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان، وكتب يزدجرد إلى خاقان وملك الصغد وصاحب الصين يستمدهم ويستعين بهم، وخرج الأحنف من مرو الشاهجان، واستخلف عليها حارثة ابن النعمان الباهلى بعد ما لحقت به أمداد الكوفة، على أربعة أمراء: علقمة بن النضر النضرى، وربعى بن عامر التميمى، وعبد الله بن أبى عقيل الثقفى، وابن أم غزال الهمدانى، وبلغ يزدجرد خروج الأحنف سائرا نحوه فخرج إلى بلخ، ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة فساروا إلى بلخ، واتبعهم الأحنف، والتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فهزمه الله بهم، وتوجه فى أهل فارس إلى النهر فعبروا، ولحق الأحنف بأهل الكوفة وقد فتح الله عليهم، وتتابع أهل خراسان ممن شذ وتحصن على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ فنزلها، واستخلف على طخارستان ربعى بن عامر، وهو الذى يقول له النجاشى ونسبه إلى أمه، وكان من أشراف العرب: ألا رب من تدعو فتى ليس بالفتى ... ألا إن ربعى بن كأس هو الفتى طويل قعود القوم فى قعر بيته ... إذا شبعوا من ثقل جفنته سقى وكتب الأحنف بفتح خراسان إلى عمر، رحمه الله، فقال: لوددت أنى لم أكن بعثت إليها جندا، ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار، فقال على، رضى الله عنه: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن أهلها سينقضون ثلاث مرات، فيجتاحون فى الثالثة، فكان أن يكون ذلك بأهلها أحب إلىّ من أن يكون بالمسلمين. وكتب عمر إلى الأحنف: أما بعد، فلا تجوزن النهر واقتصر على ما دونه، وقد عرفتم بأى شىء دخلتم خراسان، فدوموا على الذى دخلتم به يدم لكم النصر، وإياكم وإياكم أن تغيروا فتنقضوا.

ولما بلغ رسول يزدجرد إلى خاقان لم يستتب له إنجاده حتى عبر إليه النهر مهزوما، وقد استتب له ذلك، والملوك ترى على أنفسها إنجاد الملوك، فأقبل فى الترك، وحشر أهل فرغانة والصغد، ثم خرج بهم، وخرج يزدجرد راجعا إلى خراسان حتى عبر النهر إلى بلخ، وعبر معه خاقان، فأرز أهل فارس إلى الأحنف بمرو الروذ، وجاء المشركون حتى نزلوا بها عليه، وكان حين بلغه عبورهم قاصدين له، خرج ليلا فى عسكره يتسمع فى ليلة مظلمة هل يسمع برأى ينتفع به؟ فمر برجلين ينقبان علفا، إما تبنا وإما شعيرا، وأحدهما يقول لصاحبه: لو أن الأمير أسندنا إلى هذا الجبل فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقا، والجبل فى ظهورنا لئلا يأتونا من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله عز وجل. فرجع الأحنف واجتزأ بها. فلما أصبح جمع الناس وقال: إنكم قليل وإن عدوكم كثير، فلا يهولنكم، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين، ارتحلوا من مكانكم هذا فأسندوا إلى هذا الجبل، فاجعلوه فى ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم، وقاتلوهم من وجه واحد، ففعلوا، وقد أعدوا ما يصلحهم، والأحنف فى عشرة آلاف من أهل البصرة، وأهل الكوفة نحو منهم، وأقبلت الترك ومن اجتلبت حتى نزلوا بهم، فكانوا يغادونهم ويراوحونهم، ويتنحون عنهم بالليل ما شاء الله. وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل حتى علم علمهم، ثم خرج ليلة طليعة لأصحابه حتى كان قريبا من عسكر خاقان فوقف، فلما كان فى وجه الصبح خرج فارس الترك بطوقه وضرب طبله، ثم وقف من العسكر موقفا مثله، فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف فقتله، وهو يرتجز: إن على كل رئيس حقا ... أن يخضب الصعدة أو تندقا إن لها شيخا بها ملقا ... سيف أبى حفص الذى تبقى ثم وقف موقف التركى وأخذ طوقه، ثم خرج آخر من الترك، ففعل فعل صاحبه، ثم وقف دونه، فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز: إن الرئيس يرتبى ويطلع ... ويمنع الخلاء إذا ما أرتعوا ثم وقف موقف التركى الثانى، وأخذ طوقه، ثم خرج ثالث من الترك، ففعل فعل صاحبه، ووقف دون الثانى منهما، فحمل عليه الأحنف فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز:

جرى الشموس ناجزا بناجز ... محتفلا فى جريه مشارز ثم انصرف الأحنف إلى عسكره، ولا يعلم بذلك أحد منهم حتى دخله واستعد. وكان من شيمة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم كهؤلاء، كلهم يضرب بطلبه ثم يخرجوا بعد خروج الثالث، فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، فتشاءم خاقان وتطير، وقال: قد طال مقامنا، وقد أصيب هؤلاء بمكان لم يصب بمثله قط أحد منا، فما لنا فى قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا، فكان وجههم راجعين، وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئا، فأتاهم الخبر بانصراف خاقان إلى بلخ، فقال المسلمون للأحنف: ما ترى فى اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم. وكان يزدجرد لما نزل بمرو الروذ خرج إلى مرو الشاهجان فتحصن منه حارثة بن النعمان ومن معه، فحاصرهم واستخرج خزائنه من مواضعها، وخاقان ببلخ مقيم له، فلما جمع يزدجرد ما كان فى يديه مما وضع بمرو، فأعجل عنه وأراد أن يستقل منها، إذا أمر عظيم من خزائن أهل فارس، فقال له أهل فارس: أى شىء تريد أن تصنع؟ فقال: أريد اللحاق بخاقان، فأكون معه أو بالصين، فقالوا له: مهلا، فإن هذا رأى سوء، إنك إنما تأتى قوما فى مملكتهم وتدع أرضك وقومك، ولكن ارجع إلى هؤلاء القوم، يعنون المسلمين، فنصالحهم، فإنهم أوفياء وأهل دين، وهم يلون بلادنا، وإن عدوا يلينا فى بلادنا أحب إلينا ملكه من عدو يلينا فى بلاده لا دين لهم ولا ندرى ما وفاؤهم، فأبى عليهم وأبوا عليه، فقالوا: فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها، ولا تخرجها من بلادنا إلى غيرها، فأبى، فقالوا: إنا لا ندعك. فاعتزلوه وتركوه فى حاشيته، فاقتتلوا، فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها، وكتبوا إلى الأحنف بالخبر، فاعترضهم المسلمون والمشركون يثفنونه، فقاتلوه، وأصابوا فى آخر القوم، وأعجلوه عن الأثقال، ومضى مزايلا حتى يقطع النهر إلى فرغانة والترك، فلم يزل مقيما بقية زمان عمر، رضى الله عنه، يكاتبهم ويكاتبونه، أو من شاء الله منهم، إلى أن كان زمن عثمان، رضى الله عنه، فكفر أهل خراسان، فأقبل حتى نزل مرو، فكان من أمره إلى حين مقتله ما نذكره بعد فى موضعه إن شاء الله. وأقبل أهل فارس على الأحنف فصالحوه، ودفعوا إليه تلك الخزائن والأموال، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا فى زمان الأكاسرة، فكانوا كأنهم فى ملكهم، إلا أن المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم، فاغتبطوا، وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية.

ولما سمع خاقان وهو والترك ببلخ ما لقى يزدجرد، وأن الأحنف خرج مع المسلمين من مرو الروذ نحوه، ترك بلخ وعبر النهر، وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ، ونزل أهل الكوفة فى كورها الأربع، ثم رجع إلى مرو الروذ فنزل بها، وكتب بالفتح الذى صنع الله فى خاقان ويزدجرد إلى عمر، رحمه الله، وبعث إليه بالأخماس، ووفد الوفود. ولما عبر خاقان النهر، وعبرت معه حاشية آل كسرى، أو من أخذ نحو بلخ منهم مع يزدجرد، لقوا رسول يزدجرد الذى كان بعثه إلى ملك الصين، وأهدى إليه معه، ومعه جواب كتاب يزدجرد من ملك الصين، فسألوه عما وراءه، فقال: لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا كافأنا بما ترون، وأراهم هديته، وأجاب يزدجرد بهذا الكتاب بعد أن كان قال لى: قد عرفت أن حقا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصف لى صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإنى أراك تذكر منهم قلة وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذى تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا لخير عندهم وشر فيكم، فقلت: اسألنى عما أحببت، فقال: أيوفون بالعهد؟ قلت: نعم، قال: وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟ قلت: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة. قال: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قلت: أطوع قوم لمرشدهم، قال: فما يحلون وما يحرمون؟ فأخبرته، فقال: أيحرمون ما حلل لهم، أو يحلون ما حرم عليهم؟ قلت: لا، قال: فإن هؤلاء القوم لا يهلكون أبدا حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم، ثم قال: أخبرنى عن لباسهم، فأخبرته، وعن مطاياهم، فقلت: الخيل العراب، ووصفتها، فقال: نعمت الحصون هذه، ووصفت له الإبل، بركها وانبعاثها بحملها، فقال: هذه صفة دواب طوال الأعناق. وكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعنى أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علىّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لى رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو خلى سربهم أزالونى ما داموا على ما وصف، فسالمهم وأرض منهم بالسلامة، ولا تهيجهم ما لم يهيجوك. فأقام يزدجرد وآل كسرى بفرغانة على عهد من خاقان، ولما وقع الرسول بالفتح والوفد بالخبر ومعهم الغنائم لعمر بن الخطاب، رضى الله عنه، من قبل الأحنف، جمع الناس وخطبهم، وأمر بكتاب الفتح فقرئ عليهم، وقال فى خطبته: إن الله تبارك وتعالى

ذكر رسوله وما بعثه به من الهدى، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة، فقال عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] ، فالحمد لله الذى أنجز وعده، ونصر جنده، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم، لينظر كيف تعملون، ألا وإن المصرين اليوم من مسالحها كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد وقد وغلوا فى البلاد، والله بالغ أمره، ومنجز وعده، ومتبع آخر ذلك وأوله، فقوموا فى أمره على رجل يوف لكم بعهده ويؤتكم وعده، ولا تغيروا فيستبدل الله بكم قوما غيركم، فإنى لا أخاف على هذه الأمة أن يؤتوا إلا من قبلكم. وسيأتى بعد إن شاء الله ما كان من انتقاض خراسان وغيرها فى خلافة عثمان، رضى الله عنه. ونذكر الآن بقية فتوح أهل البصرة الذين عقد لهم عمر، رضى الله عنه، عند الإذن لهم فى الانسياح على ما تقدم. فتح توج قالوا «1» : وخرج أهل البصرة الذين وجهوا أمراء على فارس، ومعهم سارية بن زنيم ومن بعث معهم إلى ما وراء ذلك، وأهل فارس مجتمعون بتوج، فلم يصمدوا بجمعهم، ولكن قصد كل أمير منهم قصد إمارته وكورته التى أمر بها، وبلغ ذلك أهل فارس، فتفرقوا إلى بلدانهم ليمنعوها كما تفرق المسلمون فى القصد إليها، فكانت تلك هزيمة أهل فارس، تشتت أمورهم وتفرقت جموعهم، فتطيروا من ذلك كأنما ينظرون إلى ما صاروا إليه، فقصد مجاشع بن مسعود فيمن معه من المسلمين لسابور وأردشير خره، فالتقوا بتوج مع أهل فارس، فاقتتلوا ما شاء الله عز وجل، ثم إن الله عز وجل سلط المسلمين على أهل توج فهزموهم وقتلوهم كل قتلة، وبلغوا منهم ما شاؤا، وغنمهم ما فى عسكرهم فحووه. وهذه توج الآخرة، لم يكن لها بعدها شوكة، والأولى التى تنقذ فيها جنود العلاء بن الحضرمى أيام طاووس، والوقعتان متساجلتان. ثم دعوا بعد هزيمتهم هذه الآخرة إلى الجزية والذمة، فتراجعوا وأقروا وخمس مجاشع

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 174، 175) .

الغنائم، وبعث بخمسها، ووفد وفدا، وقد كانت البشرى والوفود يجازون وتقضى لهم حوائجهم، لسنة جرت بذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدث عاصم بن كليب، عن أبيه قال: خرجنا مع مجاشع غازين توج، فحاصرناها وقاتلناهم ما شاء الله، فلما افتتحناها حوينا نهبا كثيرا، وقتلنا قتلى عظيمة، فكان علىّ قميص قد تخرق، فأخذت إبرة وسلكا، فجعلت أخيط قميصى بها، ثم إنى نظرت إلى رجل من القتلى عليه قميص فنزعته، فأتيت به الماء، فجعلت أضربه بين حجرين حتى ذهب ما فيه، فلبسته، فلما جمعت الرثة، قام مجاشع خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس لا تغلوا، فإنه من غل جاء بما غل يوم القيامة، ردوا ولو المخيط، فلما سمعت ذلك نزعت القميص فألقيته فى الأخماس. وفى ذلك يقول مجاشع «1» : ونحن ولينا مرة بعد مرة ... بتوج أبناء الملوك الأكابر لقينا جنود الماهيان بسحرة ... على ساعة تلوى بأيدى الخطائر فما فتئت خيلى تكر عليهم ... ويلحق منها لاحق غير جائر لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم ... وقد عولجوا بالمرهفات البواتر وكان كذاك الدأب فى كل كورة ... أجابت لإحدى المنكرات الكبائر حديث اصطخر قالوا «2» : وقصد عثمان بن أبى العاص لاصطخر، فالتقى هو وأهلها بجور فاقتتلوا ما شاء الله، ثم فتح الله على المسلمين جور واصطخر، فقتلوا ما شاء الله، وتفرق من تفرق، ثم إن عثمان دعا الناس إلى الجزاء والذمة، فراسلوه وراسلهم، فأجابه الهربذ وكل من هرب أو تنحى، فتراجعوا وباحوا بالجزاء، وجمع عثمان حين هزمهم ما أفاء الله عليهم فخمسه وبعث بالخمس إلى عمر، رحمه الله، وقسم الباقى فى الناس، وعف الجند عن النهاب، وأدوا الأمانة، واستدقوا الدنيا، فجمعهم عثمان ثم قام فيهم، وقال: إن هذا الأمر لا يزال مقبلا وأهله معافون مما يكرهون ما لم يغلوا، فإذا غلوا رأوا ما ينكرون ولم يسد الكثير مسد القليل اليوم.

_ (1) انظر الأبيات فى: الروض المعطار (ص 143) . (2) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 175- 177) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (3/ 20، 21) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 122، 123) .

وعن الحسن قال: قال عثمان بن أبى العاص يوم اصطخر: إن الله عز وجل إذا أراد بقوم خيرا كفهم ووفر أمانتهم، فاحفظوها، فإن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، فإذا فقدتموها جدد لكم فى كل يوم فقدان شىء من أموركم. ثم إن شهرك خلع فى آخر إمارة عمر أو أول إمارة عثمان، رحمهما الله، ونشط فارس ودعاهم إلى النقض، فوجه إليه عثمان بن أبى العاص ثانية، وبعث معه جنودا أمد بهم عليهم عبيد الله بن معمر، وشبل بن معبد، فالتقوا بفارس، فقال شهرك لابنه وهو فى المعركة، وبينهم وبين قرية لهم تدعى ريشهر ثلاثة فراسخ، وكان بينهم وبين قرارهم اثنا عشر فرسخا: يا بنى، أين ترى أن يكون غداؤنا هنا أو بريشهر؟ فقال: يا أبت، إن تركونا فلا يكون غداؤنا هنا ولا بريشهر، ولا يكون إلا فى المنزل، ولكن والله ما أراهم يتركوننا. فما فرغا من كلامهما حتى أنشب المسلمون القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل فيه شهرك وابنه وقتل من المشركين مقتلة عظيمة، وولى قتل شهرك الحكم بن أبى العاص أخو عثمان بن أبى العاص. وذكر الطبرى عن أبى معشر: أن اصطخر الآخرة كانت سنة ثمان وعشرين، وذلك فى وسط إمارة عثمان بن عفان، رضى الله عنه. وذكر أيضا بسنده إلى عبيد الله بن سليمان قال: كان عثمان بن أبى العاص أرسل إلى البحرين، فأرسل أخاه الحكم فى ألفين إلى توج، وكان كسرى قد فر عن المدائن، ولحق بجور من أرض فارس. قال الحكم: فقصد إلى شهرك، وكان كسرى أرسله، فهبطوا من عقبة، عليهم الحديد، فخشيت أن تغشى أبصار الناس، فأمرت مناديا فنادى: أن من كانت له عمامة فليلقها على عينه، ومن لم يكن له عمامة فليغمض بصره، وناديت: أن حطوا عن دوابكم. فلما رأى شهرك ذلك حط أيضا، ثم ناديت: أن اركبوا، وصففنا لهم، وركبوا، فجعلت الجارود العبدى على الميمنة، وأبا صفرة، يعنى أبا المهلب، على الميسرة، فحملوا على المسلمين فهزموهم حتى ما أسمع لهم صوتا، فقال لى الجارود: أيها الأمير، الجند! فقلت: إنك سترى أمرك، فما لبثنا أن رجعت خيلهم، ليس عليهم فرسانهم، والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم، فنثرت الرؤس بين يدى، وأتيت برأس ضخم، وكان معى بعض ملوكهم فارق كسرى ولحق بى، فقال: هذا رأس الأزدهاق، يعنون شهرك، فحوصروا فى مدينة سابور، فصالحهم الحكم، وكان ملكهم آذربيجان، فاستعان به الحكم على قتال أهل اصطخر.

وقال يزيد بن الحكم بن أبى العاص يذكر اصطخر الآخرة: أنا ابن عظيم القريتين كليهما ... نمتنى إلى العليا الفروع الفوارع لنا مجد بطحاوى ثقيف وغالب ... إذا عد بطحاواهما والد سائع لنا الحسب العود الذى لا تناله ... عيون العدى والحاسدات الدواسع أبى سلب الجبار بيضة ملكه ... فخر وأطراف الرماح شوارع بمعترك ضنك به قصد القنى ... وهام وأيد تختليها القواطع بأيدى سراة كلهم باع نفسه ... فأوفوا بما باعوا وأوفى المبايع هم المؤمنون الواردو الموت فى الوغى ... كما ترد الماء العطاش النوائع نجاهد فى نصر لخير شريعة ... إذا ذكرت يوم الحساب الشرائع سمونا لزحف المشركين بوقعة ... بها رد مال الجزية المتتابع تركنا من القتلى نثارا تعودها ... نسور تراماها الضباع الجوامع جثى من عظام المشركين كأنها ... تلوح من الرأى البعيد صوامع تركنا سباع الأرض والطير منهم ... شباعا وما فيها إلى الحول جائع حديث فسا ودارابجرد «1» قالوا «2» : وقصد سارية بن زنيم لفسا ودارابجرد حتى أفضى إلى عسكرهم، فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله، ثم إنهم استمدوا، فتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم وجمع كثير، فرأى عمر، رضى الله عنه، فى تلك الليلة معركتهم وعددهم فى ساعة من النهار، فنادى من الغد، الصلاة جامعة، حتى إذا كان فى الساعة التى رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان أريهم والمسلمين بصحراء، وإن أقاموا فيها أحيط بهم وإن أرزوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد، ثم قام فقال: أيها الناس، إنى رأيت هذين الجمعين، وأخبر بحالهما، ثم قال: يا سارية، الجبل الجبل، ثم أقبل عليهم، فقال: إن لله عز وجل جنودا، ولعل بعضها أن يبلغهم، ولما كان تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على الإسناد إلى الجبل، ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه واحد، فهزمهم الله لهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، رحمه الله، وباستيلائهم على البلد ودعاء أهله وتسكينهم.

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 178، 179) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 130- 132) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (3/ 21، 22) . (2) انظر: الطبرى (4/ 178، 179) .

وعن رجل من بنى مازن قال: كان عمر، رحمه الله، قد بعث سارية بن زنيم الدؤلى إلى فسا ودارابجرد فحاصرهم، ثم إنهم تداعوا فأصحروا له، وكثروه وأتوه من كل جانب، فقال عمر، رضى الله عنه، وهو يخطب فى يوم جمعة: يا سارية بن زنيم، الجبل الجبل. وفى غير هذا الحديث: ثم عاد عمر فى خطبته فعجب الناس لندائه سارية على بعده، فقضى الله سبحانه أن كان سارية وأصحابه فى ذلك الوقت موافقين للمشركين، وقد ضايقهم المشركون من كل جانب، وإلى جانب المسلمين جبل، إن لجأوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فسمعوا صوتا يقول: يا سارية بن زنيم، الجبل الجبل، كما قال عمر، رضى الله عنه، وفى ذلك الوقت بعينه، فلجأوا إلى الجبل، فنجوا وهزموا عدوهم وأصابوا مغانم كثيرة. قال المازنى فى حديثه: إن سارية أصاب فى المغانم سفطا فيه جوهر، فاستوهبه المسلمون لعمر، فوهبوه له، فبعث به وبالفتح رجلا، وقال له: استقرض ما تبلغ به وما تخلفه فى أهلك على جائزتك، وكان الرسل والوفد يجازون، فقدم الرجل البصرة ففعل، ثم خرج فقدم على عمر، رحمه الله، فوجده يطعم الناس، ومعه عصاه التى يزجر بها بعيره، فقصده، فأقبل عليه بها، فقال: اجلس، فجلس حتى إذا أكل انصرف عمر، وقام الرجل فاتبعه، فظن عمر أنه رجل لم يشبع، فقال حين انتهى إلى باب داره: ادخل، فلما جلس فى البيت أتى بغذائه، خبز وزيت وملح وجريش، فوضع له، ثم قال للرجل: ادن فكل، فأكلا. حتى إذا فرغ قال له الرجل: رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين، فقال: مرحبا وأهلا، ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية، فأخبره، ثم أخبره بقصة الدرج، فنظر إليه ثم صاح به وقال: لا ولا كرامة حتى تقدم على ذلك الجيش فتقسمه بينهم، وطرده، فقال: يا أمير المؤمنين، إنى قد أنضبت إبلى واستقرضت على جائزتى، فأعطنى ما أتبلغ به، فما زال عنه حتى أبدله بعيرا ببعيره من إبل الصدقة، وأخذ بعيره فأدخله فى إبل الصدقة، ورجع الرجل مغضوبا عليه محروما حتى قدم البصرة، فنفذ لما أمره به عمر، رحمه الله، وقد كان أهل المدينة سألوه عن سارية وعن الفتح، وهل سمعوا شيئا يوم الوقعة؟ فقال: نعم سمعنا: يا سارية، الجبل الجبل. وقد كدنا نهلك، فلجأنا إليه ففتح الله علينا.

حديث فتح كرمان قالوا «1» : وقصد سهيل بن عدى إلى كرمان، ولحقه عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وعلى مقدمته سهيل بن عدى النسير بن عمرو العجلى، وقد حشد له أهل كرمان، واستعانوا بالقفس، فاقتتلوا فى أدنى أرضهم، ففضهم الله تعالى، فأخذوا عليهم بالطريق، وقتل النسير مرزبانها، ودخل سهيل من قبل طريق القرى إلى جيرفت، وعبد الله بن عبد الله من مفازة شير، فأصابوا ما شاؤا من بعير أو شاة، فقدموا الإبل والغنم فتحاصوها وأخروا البخت لعظم البخت على العرب، وكرهوا أن يزيدوا. وكتبوا إلى عمر، فأجابهم: إن البعير العربى إنما قوم ببعير اللحم، وذلك مثله، فإذا رأيتم أن للبخت فضلا فزيدوا. وذكر المدائنى أن الذى فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعى فى خلافة عمر بن الخطاب، ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر، رضى الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنى افتتحت الطبسين فاقطعنيهما، فأراد أن يفعل، فقيل لعمر: إنهما رستاقان عظيمان، فلم يقطعه إياهما، وهما بابا خراسان. فتح سجستان قالوا «2» : وقصد عاصم بن عمرو لسجستان، ولحقه عبد الله بن عمير، فالتقوا هم وأهل سجستان فى أدنى أرضهم، فهزموهم ثم اتبعوهم، حتى حصروهم بزرنج ومخر المسلمون أرض سجستان ما شاء الله، ثم إنهم طلبوا الصلح على زرنج وما احتازوا من الأرضين، فأعطاهم ذلك المسلمون، وكان فيما اشترطوا من صلحهم أن فدافدها حمى، فكان المسلمون إذا خرجوا تناذروها خشية أن يصيبوا منها فيخفروا. فتم أهل سجستان على الخراج، فكانت سجستان أعظم من خراسان شأنا، وأبعد فروجا، يقاتلون القندهار والترك وأمما كثيرة، وكانت فيما بين السند إلى نهر بلخ. فلم تزل أعظم البلدين وأصعب الفرجين، وأكثرها عددا وجندا حتى كان زمن معاوية، فهرب الشاه من أخيه، رتبيل، إلى بلد فيها يدعى آمل، ودانوا لسلم بن زياد وهو يومئذ على سجستان، ففرح بذلك وعقد لهم، وأنزلهم تلك البلاد، وكتب إلى

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 180) . (2) انظر الخبر فى: (4/ 180، 181) ، الروض المعطار (ص 305) .

معاوية بذلك يرى أنه قد فتح عليه، فقال معاوية: إن ابن أخى ليفرح بأمر إنه ليحزننى وينبغى له أن يحزنه، قالوا: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق، وهؤلاء قوم غدر نكر، فيضطرب الجبل غدا، فأهون ما يجىء منهم أن يغلبوا على بلاد آمل بأسرها. وتم لهم على عهد ابن زياد، فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه، وخلت آمل، وخافه أخوه فاعتصم منه بمكانه الذى هو به، ولم يرضه ذلك حين تشاغل الناس عنه حتى طمع فى زرنج فغزاها، فحصرهم حتى أتتهم الأمداد من البصرة. قالوا: وسار رتبيل والذين جاؤا معه فنزلوا تلك البلاد شجا لم ينتزع إلى اليوم، وقد كانت البلاد مذللة إلى أن مات معاوية، رحمه الله. فتح مكران قالوا «1» : وقصد الحكم بن عمرو التغلبى لمكران، حتى انتهى إليها، ولحق به شهاب بن مخارق بن شهاب، فانضم إليه، وأمده سهيل بن عدى، وعبد الله بن عتبان بأنفسهما، فانتهوا إلى دوين النهر، وقد انفض أهل كرمان إليه حتى نزلوا على شاطئه، فعسكروا، وعبر إليهم راسل ملكهم، ملك السند، فازدلف بهم يستقبل المسلمين، فالتقوا فاقتتلوا بمكان من مكران من النهر على أيام، فهزم الله راسلا وسلبه، وأباح المسلمين عسكره، وقتلوا فى المعركة من المشركين مقتلة عظيمة، واتبعوهم يقتلونهم أياما، حتى انتهوا إلى النهر. ثم رجعوا فأقاموا بمكران، وكتب الحكم إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع صحار العبدى، واستأمره فى الفيلة، فقدم صحار على عمر، رحمه الله، فسأله عن مكران، وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذى يجىء منه، فقال: يا أمير المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وتمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر منها، فقال عمر، رحمه الله: أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال: بل مخبر، فقال: لا والله، لا يغزوها لى جيش ما أطعت، وكتب إلى الحكم وإلى سهيل: أن لا يجوزن مكران أحد من جنودكما، واقتصر على ما دون النهر، وأمره ببيع الفيلة بأرض الإسلام وقسم أثمانها على من أفاءها الله عليه.

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 181، 182) ، الروض المعطار (ص 543، 544) .

حديث بيروذ قالوا «1» : ولما فصلت الجنود إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع عظيم من الأكراد وغيرهم، وكان عمر، رحمه الله، قد عهد إلى أبى موسى حين سارت الجنود إلى الكور أن يسير حتى ينتهى إلى حد ذمة البصرة، كى لا يؤتى المسلمون من خلفهم، وخشى أن يستلحم بعض جنوده أو ينقطع منهم طرف أو يخلف فى أعقابهم، فكان الذى حذر من اجتماع أهل بيروذ وقد أبطأ أبو موسى حتى تجمعوا، فخرج أبو موسى حتى ينزل ببيروذ على الجمع الذى تجمع بها، وذلك فى رمضان، فنزل على جمع لهم منعة، فالتقوا بين نهرى تيرى ومناذر، وقد توافى إليها أهل النجدات من أهل فارس والأكراد ليكيدوا المسلمين، أو ليصيبوا منهم عورة، ولم يشكوا فى واحدة من اثنتين. فقام المهاجر بن زياد وقد تحنط واستقل فقال لأبى موسى: أقسم على كل صائم إلا رجع فأفطر، فرجع أخوه فيمن رجع لإبرار القسم، وذلك الذى أراد المهاجر أن يرجع أخوه لئلا يمنعه من الاستقتال، وتقدم فقاتل حتى قتل، رحمه الله، وفرق الله عز وجل المشركين حتى تحصنوا فى قلة وذلة، وأقبل الربيع بن زياد، أخو المهاجر، فاشتد حزنه عليه، ورق له أبو موسى للذى رآه دخله من مصاب أخيه، فخلفه عليهم، وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان، فلقى بها جنود أهل الكوفة محاصرين جىّ، ثم انصرف إلى البصرة وقد فتح الله على الربيع بن زياد أهل بيروذ من نهرتيرى، فهزمهم وجمع السبى والأموال، فتنقى أبو موسى ستين غلاما من أبناء الدهاقين وعزلهم، وبعث بالفتح إلى عمر، رحمه الله، ووفد وفدا، فجاءه رجل من عنزة يقال له: ضبة بن محصن، فقال: اكتبنى فى الوفد، فقال: قد كتبنا من هو أحق منك، فانطلق مغاضبا مراغما، وكتب أبو موسى إلى عمر بقصة الرجل. فلما قدم الكتاب بالفتح والوفد على عمر قدم العنزى فأتى عمر فسلم عليه، فقال: من أنت؟ فأخبره، فقال: لا مرحبا ولا أهلا، فقال: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل، فاختلف إليه ثلاثا، يقول هذا ويرد عليه هذا، حتى إذا كان اليوم الرابع فدخل عليه، فقال له: ما نقمت على أميرك؟ فقال: تنقى ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه، وله جارية تدعى عقيلة، تغذى جفنة وتعشى جفنة، وليس منا رجل يقدر على ذلك، وله قفيزان، وله خانان، وفوض إلى زياد، وكان زياد هو ابن أبى سفيان، يلى أمور البصرة، وأجاز الحطيئة بألف.

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 183- 185) .

فكتب عمر، رحمه الله، كل ما قال، وبعث إلى أبى موسى، فلما قدم حجبه أياما، ثم دعا به، ودعا ضبة بن محصن، ودفع إليه الكتاب، فقال: اقرأ ما كتبت، فقرأ: أخذ ستين غلاما لنفسه، فقال أبو موسى: دللت عليهم، وكان لهم فداء ففديتهم، فأخذته فقسمته بين المسلمين، فقال ضبة: والله ما كذب ولا كذبت، وقرأ: له قفيزان، فقال أبو موسى: قفيز لأهلى أقوتهم به، وقفيز فى أيديهم للمسلمين، يأخذون به أرزاقهم، فقال ضبة: والله ما كذب ولا كذبت، فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر، وعلم أن ضبة قد صدقه. قال: وزياد يلى أمور الناس ولا يعرف هذا ما يلى، قال أبو موسى: وجدت له نبلا ورأيا، فأسندت إليه عملى. قال: وأجاز الحطيئة بألف. قال: سددت فمه بمالى أن يشتمنى، فقال: قد فعلت ما فعلت، فرده عمر، رحمه الله، وقال: إذا قدمت فأرسل إلىّ زيادا وعقيلة، ففعل، فقدمت عقيلة قبل زياد، وقدم زياد فأقام بالباب، فخرج عمر وزياد بالباب قائم وعليه ثياب بيض كتان، فقال: ما هذه الثياب؟ فأخبره، فقال: كم أثمانها؟ فأخبره بشىء يسير، وصدقه، فقال له: كم عطاؤك؟ قال: ألفان، قال: ما صنعت بأول عطاء خرج لك؟ فقال: اشتريت به والدتى فأعتقتها، واشتريت فى الثانى ربيبى عبيدا فأعتقته، فقال: وفقت، وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن، فوجده فقيها، فرده، وأمر أمراء البصرة أن يستعينوا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة. وقال عمر، رضى الله عنه: ألا إن ضبة بن محصن غضب على أبى موسى فى الحق أن أصابه، وفارقه مراغما أن فاته أمر من أمور الدنيا، فصدق عليه وكذب، فأفسد كذبه صدقه، فإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى النار. وكان الحطيئة قد لقيه فى غزاة بيروذ، وكان أبو موسى ابتدأها فحاصرهم حتى فلهم ثم جازاهم ووكل بهم الربيع، ثم رجع إليهم بعد الفتح فولى القسم. ومن مدح الحطيئة فى أبى موسى: وغارة كشعاع الشمس مشعلة ... تهوى بكل صبيح الوجه بسام قب البطون من التعداء قد علمت ... أن كل عام عليها عام الجام مستحقبات رواياها جحافلها ... يسمو بها أشعرى طرفه سامى لا يزجر الطير إن مرت به سنحا ... ولا ياض له قسم بأزلام جمعت من عامر فيها ومن أسد ... ومن تميم وذبيان ومن حام

وما رضيت لهم حتى رفدتهم ... من وائل رهط بسطام بإصرام فى متلف طائعا لله محتسبا ... يرجو ثواب كريم العفو رحام غزوة سلمة بن قيس الأشجعى الأكراد ذكر الطبرى «1» من طريقين، كلاهما ينمى إلى سليمان بن بريدة، واللفظ فى الحديثين متقارب، وربما كان فى أحدهما زيادة على الآخر، وأحدهما عن سيف بن عمر، وفيه: أن سليمان بن بريدة قال: لقيت رسول سلمة بن قيس الأشجعى، فقال: كان عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، إذا اجتمع له جيش من العرب، بعث عليهم رجلا من أهل العلم والفقه، فاجتمع إليه جيش، فبعث سلمة بن قيس، فقال: سر باسم الله، قاتل فى سبيل الله من كفر بالله، فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال: ادعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا واختاروا دارهم فعليهم فى أموالهم الزكاة، وليس لهم فى فىء المسلمين نصيب، وإن اختاروا أن يكونوا معكم فلهم مثل الذى لكم وعليهم مثل الذى عليكم، وإن أبوا فسلوهم الخراج، فإن أعطوكموه فقاتلوا عدوكم من ورائهم، وفرغوهم لخراجهم، ولا تكلفوهم فوق طاقتهم، فإن أبوا فقاتلوهم، فإن الله ناصركم عليهم، وإن تحصنوا منكم فى حصن فسألوكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله فلا تعطوهم على حكم الله ورسوله، فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله فيهم، وإن سألوكم أن ينزلوا على ذمة الله ورسوله فلا تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله، وأعطوهم ذمم أنفسكم، فإن قاتلوكم فلا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا. قال: فلقينا عدونا من المشركين من الأكراد، فدعوناهم إلى ما أمر به أمير المؤمنين من الإسلام، فأبوا، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا، فقاتلناهم، فنصرنا عليهم، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية وجمعنا الرثة، فوجد فيها سلمة حقى جوهر، فجعلهما فى سقط، ثم قال: إن هذا لا يبلغ فيكم شيئا، فإن طابت أنفسكم به لأمير المؤمنين بعثت به إليه، فإن له بردا ومؤونة، فقالوا: نعم، قد طابت أنفسنا، فبعثنى سلمة، يعنى بالخبر والسفط، إلى أمير المؤمنين. قال: فدفعت إليه ضحى والناس يتغدون وهو متكئ على عصا كهيئة الراعى فى غنمه يطوف فى تلك القصاع يقول: يا يرفاء، زد هؤلاء لحما، زد هؤلاء خبزا، زد هؤلاء

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 186- 190) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 132، 133) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (3/ 25) .

مرقة، فلما دفعت إليه قال: اجلس، فجلست فى أدانى الناس، فإذا طعام فيه خشونة وغلظ، طعامى الذى معى أطيب منه، فلما فرغ الناس قال: يا يرفاء، ارتفع قصاعك، ثم أدبر واتبعته، فدخل داره ثم دخل حجرته، فاستأذنت وسلمت، فأذن لى، فإذا هو جالس على مسح متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفا، فنبذ إلىّ إحداهما، فجلست عليها، فقال: يا أم كلثوم، غداءنا، فجاؤا إليه بقصعة فيها خبز وزيت فى عرضها ملح لم يدق، فقال لى: كل، فأكلت قليلا، وأكل حتى فرغ، ما رأيت رجلا أحسن أكلا منه، ما يتليس طعامه بيده ولا فمه، ثم قال: اسقونا، فجاؤا بغس، فقال: اشرب، فشربت قليلا، شرابى الذى معى أطيب منه، فأخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته، وقال: إنك لضعيف الأكل والشرب، ثم قال: الحمد لله الذى أطعمنا فأشبعنا، وسقانا فأروانا. قال: قلت: قد أكل أمير المؤمنين فشبع، وشرب فروى، حاجتى يا أمير المؤمنين، قال: وما حاجتك؟ قلت: أنا رسول سلمة بن قيس، فقال: مرحبا بسلمة وبرسوله، وكأنما خرجت من صلبه، قال: حدثنى عن المهاجرين، كيف هم؟ قلت: كما تحب من السلامة والظفر على العدو، قال: كيف أسعارهم؟ قلت: أرخص أسعار، قال: كيف اللحم فيهم؟ فإنه شجرة العرب ولا تصلح العرب إلا بشجرتها، قلت: البقرة بكذا، والشاة بكذا، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، سرنا حتى لقينا عدونا من المشركين، فدعوناهم إلى ما أمرتنا به من الإسلام فأبوا، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية، وجمعنا الرثة، وخرج له عن الحديث كله حتى انتهى إلى السقط وأخرجه إليه. قال: فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر وأصفر وأخضر، وثب وجعل يديه فى خاصرتيه، وقال: لا أشبع الله إذا بطن عمر! وظن النساء أنى قد اغتلته، فكشفن الستر، فقال: يا يرفاء، جأ عنقه، فوجأ عنقى وأنا أصيح، فقال: النجاء، وأظنك ستبطئ، أما والذى لا إله غيره لئن تفرق الناس إلى مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم لأفعلن بك وبصاحبك فاقرة، قلت: يا أمير المؤمنين، ابدع بى فاحملنى، قال: يا برفاء، اعطه راحلتين من الصدقة، فإذا لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه، قلت: نعم، وارتحلت حتى أتيت سلمة، فقلت: ما بارك الله لى فيما اختصصتنى به، اقسم هذا فى الناس قبل أن أفضح والله وتفضح. قال: فقسمه فيهم قبل التفرق إلى مشاتيهم، والفص يباع بخمسة دراهم وستة دراهم، وهو خير من عشرين ألفا.

وقد تقدم قبل فى فتح فسا ودرابجرد خبر لرسول سارية بن زنيم شبيه بهذا الخبر، فالله تعالى أعلم. وذكر الطبرى غزوة سلمة بن قيس هذه فى سنة ثلاث وعشرين، وهى السنة التى قتل عمر، رضى الله عنه، فى آخرها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر الخبر عن إحرام عمر بن الخطاب، رضى الله عنه إلى حين مقتله لم يزل عمر، رضى الله عنه، قائما على أمر الله، مجتهدا فيه، مجاهدا لأعدائه متعرفا منه سبحانه، من المعونة والتأييد وجميل الكفاية والعناية والصنع ما وطأ له البلاد ودوخ الممالك، وألقى إليه مقاليد الأمم من الفرس والروم والترك والأكراد وغيرهم من الأمم والأجيال الذين تقدم ذكرهم، وأنجز الله فى مدة خلافته معظم ما وعد به رسوله صلى الله عليه وسلم من الفتوح، وجمع إليه أكثر ما زواه له من الأرض، وتغلغلت جنوده فى الآفاق عند ما أذن لها فى الانسياح، حتى أمرهم آخر إمارته بالإقصار، والكف احتياطا على المسلمين ونظرا للإسلام، وأقبل عند ما أذن لهم فى ذلك على الدعاء، وتتبع آثار العمال بالعيون والنصحاء فى السر والعلانية، وتفقد الناس فى الشرق والغرب، إلى أن أتته منيته المحتومة، بالشهادة المقدرة له فى مصلاه، على ما يأتى الذكر له إن شاء الله تعالى. وقد ورد فى غير موضع من الآثار ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستشهاده مخبرا وداعيا، وهو الداعى المجاب، والصادق المصدوق، صلوات الله وبركاته عليه. وروى عن عوف بن مالك الأشجعى أنه رأى فى المنام على عهد أبى بكر، رحمه الله تعالى، كأن الناس جمعوا، فإذا فيهم رجل قد علاهم، فهو فوقهم بثلاثة أذرع، قال: فقلت: من هذا؟ قالوا: عمر، قلت: ولم؟ قالوا: لأن فيه ثلاث خصال: لا يخاف فى الله لومة لائم، وإنه خليفة مستخلف، وشهيد مستشهد، قال: فأتى أبا بكر فقصها عليه، فأرسل أبو بكر إلى عمر ليبشره، قال: فجاء، فقال لى أبو بكر: اقصص رؤياك، فلما بلغت: خليفة مستخلف، زبرنى عمر وانتهرنى، وقال: اسكت، تقول هذا وأبو بكر حى. قال: فلما كان بعد وولى عمر، مررت بالشام وهو على المنبر، فدعانى فقال: اقصص

رؤياك، فقصصتها، فلما قلت: إنه لا يخاف فى الله لومة لائم، قال: إنى لأرجو أن يجعلنى الله منهم، فلما قلت: خليفة مستخلف، قال: قد استخلفنى، فأسأله أن يعيننى على ما ولانى، فلما ذكرت: شهيد مستشهد، قال: أنّى لى الشهادة وأنا بين أظهركم تغزون ولا أغزو؟ ثم قال: بلى، يأتى الله بها أنّى شاء، يأتى الله بها أنّى شاء. وكان عمر، رحمه الله، ملازما للحج فى سنى خلافته كلها، وكان من سيرته أن يأخذ عماله بموافاته كل سنة فى موسم الحج ليحجزهم بذلك عن الرعية، ويحجر عليهم الظلم، ويتعرف أحوالهم فى قرب، وليكون للرعية وقت معلوم ينهون إليه شكاويهم فيه. فلما كانت السنة التى قتل منسلخها، رضى الله عنه، خرج إلى الحج على عادته، وأذن لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم فخرجن معه، فلما وقف عمر، رحمه الله، يرمى الجمرة أتاه حجر فوقع على صلعته فأدماه، وثم رجل من بنى لهب، قبيلة من الأزد، تعرف فيها العيافة والزجر، وإياها عنى القائل: تيممت لهبا أبتغى العلم عندهم ... وقد رد علم العالمين إلى لهب فقال اللهبى عند ما أدمى عمر، رحمه الله: أشعر أمير المؤمنين لا يحج بعدها. ويروى عن عائشة، رضى الله عنها، وحجت مع عمر تلك الحجة: أنه لما ارتحل من الحصبة أقبل رجل متلثم، قالت: فقال وأنا أسمع: أين كان منزل أمير المؤمنين؟ فقال قائل: هذا كان منزله، فأناخ فى منزل عمر، ثم رفع عقيرته يتغنى: عليك السلام من أمير وباركت ... يد الله فى ذلك الأديم الممزق فمن يسع أو يركب جناحى نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق فى أكمامها لم تفتق قالت عائشة: فقلت لبعض أهلى: اعلموا لى من هذا الرجل، فذهبوا، فلم يجدوا فى مناخه أحدا، قالت عائشة: فو الله إنى لأحسبه من الجن، فلما قتل عمر نحل الناس هذه الأبيات للشماخ بن ضرار أو لأخيه مزرد. وقال سعيد بن المسيب: لما صدر عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، من منى أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى السماء، فقال: اللهم كبرت سنى، وضعفت قوتى، وانتشرت رعيتى، فاقبضنى إليك غير مضيع ولا مفرط، ثم قدم المدينة، فخطب الناس فقال: أيها الناس، قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا، وضرب بإحدى يديه على الأخرى.

قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل، رحمه الله. وروى عن عمر، رحمه الله، أنه لما انصرف من حجته هذه التى لم يحج بعدها وانتهى إلى ضجنان، وقف فقال: الحمد لله ولا إله إلا الله، يعطى من يشاء ما يشاء، لقد كنت بهذا الوادى أرعى إبلا للخطاب، وكان فظا غليظا يتعبنى إذا عملت، ويضربنى إذا قصرت، وقد أصبحت وأمسيت وليس بينى وبين الله أحد أخشاه، ثم تمثل: لا شىء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودى المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجرى الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها برد أين الملوك التى كانت نوافلها ... من كل أوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا ثم إن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، بعد أن قدم المدينة من حجه خرج يوما يطوف بالسوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان نصرانيا، فقال: يا أمير المؤمنين، أعدنى على المغيرة، فإن علىّ خراجا كثيرا، قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان فى كل يوم، قال: وإيش صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد، قال: فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال، قال: وبلغنى أنك تقول: لو أردت أن أعمل رحا تطحن بالريح لفعلت، قال: نعم، قال: فاعمل لى رحا، قال: لئن سلمت لأعملن لك رحا يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف عنه، فقال عمر: لقد توعدنى العلج آنفا، ثم انصرف عمر إلى منزله. فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار، فقال: يا أمير المؤمنين، اعهد، فإنك ميت فى ثلاثة أيام، قال: وما يدريك؟ قال: أجده فى كتاب الله، التوراة، فقال عمر: آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب فى التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك، بأنه قد فنى أجلك، وعمر لا يحس وجعا ولا ألما، فلما كان من الغد جاءه كعب فقال: يا أمير المؤمنين، ذهب يوم وبقى يومان، ثم جاء من بعد الغد فقال: ذهب يومان وبقى يوم وليلة، وهى لك إلى صبحها، فلما كان الصبح خرج عمر إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالا، فإذا استوت أخبروه فكبر، ودخل أبو لؤلؤة فى الناس فى يده خنجر له رأسان نصابه فى وسطه، فضرب به عمر ست ضربات، إحداهن تحت سرته، هى التى قتلته، فلما وجد عمر حر السلاح سقط، وقال: دونكم الكلب فإنه قتلنى، وماج الناس وأسرعوا إليه، فجرح منهم ثلاثة عشر رجلا، حتى جاء رجل منهم فاحتضنه من خلفه،

وقيل: ألقى عليه برنسا، فقيل: إنه لما أخذ قتل نفسه. وقال عمر، رضى الله عنه، عندما سقط: أفى الناس عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، هو ذا، قال: تقدم فصل بالناس. قال: فصلى عبد الرحمن بن عوف، وحمل عمر إلى منزله، فدعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: إنى أريد أن أعهد إليك، قال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، أتشير علىّ بذلك؟ قال: اللهم لا، قال: والله لا أدخل فيه أبدا، قال: فهبنى صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ادع لى عليا وعثمان والزبير وسعدا، قال: وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثا، فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم، أنشدك الله يا على إن وليت من أمر الناس شيئا أن تحمل بنى هاشم على رقاب الناس، وأنشدك يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بنى أبى معيط على رقاب الناس، وأنشدك يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا، ثم اقضوا أمركم، وليصل بالناس صهيب، وأمرهم أن يحضر معهم عبد الله بن عمر على أن لا يكون له فى الأمر شىء. ثم دعا أبا طلحة الأنصارى، فقال: قم على بابهم لا تدع أحدا يدخل إليهم، وأوصى الخليفة من بعدى بالأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان، أن يحسن إلى محسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، وأوصى الخليفة من بعدى بالعرب، فإنها مادة الإسلام، أن تؤخذ صدقات أغنيائهم فتوضع فى فقرائهم، وأوصى الخليفة من بعدى بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، اللهم هل بلغت، تركت الخليفة من بعدى على أنقى من الراحة، يا عبد الله بن عمر، اخرج فانظر من قتلنى، فقال: يا أمير المؤمنين، قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، قال: الحمد لله الذى لم يجعل منيتى بيد رجل سجد لله سجدة واحدة، يحاجنى بلا إله إلا الله، يا عبد الله، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، وإن كانوا ثلاثة وثلاثة فاتبع الحرب الذى فيه عبد الرحمن بن عوف، يا عبد الله، ائذن للناس، فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه، ويقول لهم: أعن ملأ منكم كان هذا؟ فيقولون: معاذ الله، ودخل فى الناس كعب، فلما نظر إليه عمر أنشأ يقول: وأوعدنى كعب ثلاثا أعدها ... ولا شك أن القول ما قاله كعب وما بى حذار الموت إنى لميت ... ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب فقيل له: لو دعوت الطبيب، فدعى له طبيب من بنى الحارث بن كعب، فسقاه نبيذا فخرج مشكلا، فقال: اسقوه لبنا، فخرج اللبن أبيض، فقال له الطبيب: لا أرى أن تمسى، فما كنت فاعلا فافعل. وفى رواية أنه قيل له عند ذلك: يا أمير المؤمنين، اعهد،

قال: قد فرغت، وقال لعبد الله ابنه: يا عبد الله، اذهب إلى عائشة، فاسألها أن تأذن لى أن أدفع مع النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر. وفى رواية أنه قال له: اذهب إلى عائشة فقل لها: إن عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، ولا تقل أمير المؤمنين، فإنى لست اليوم بأمير المؤمنين، فذهب إليها عبد الله فوجدها تبكى، فذكر لها ذلك، فقالت: نعم، قد كنت أردته لنفسى ولأوثرنه اليوم على نفسى، فرجع إليه عبد الله وهو متطلع إليه، فقال: ما قالت لك؟ قال: أذنت، قال: الحمد لله، ما كان علىّ أمر أهم من هذا، فإذا أنا مت فاغسلنى، ثم احملنى، وأعد عليها الاستئذان، فإذا أذنت وإلا فاصرفنى إلى مقابر المسلمين. فلما توفى، رحمه الله ورضى عنه، خرجوا به، فصلى عليه صهيب، ودفن فى بيت عائشة، رضى الله عنه وعنها. ويروى أنه لما احتضر قال ورأسه فى حجر ابنه عبد الله، رضى الله عنهما: ظلوم لنفسى غير أنى مسلم ... أصلى الصلاة كلها وأصوم وكان مقتله لأربع بقين من ذى الحجة من سنة ثلاث وعشرين، وقيل: لثلاث بقين منه، وقيل: إن وفاته كانت غرة المحرم من سنة أربع وعشرين. ونزل فى قبره عثمان وعلى وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبى وقاص، وقيل: صهيب وابنه عبد الله بن عمر عوضا من الزبير وسعد. واختلف فى مبلغ سنه يوم توفى، وأشهر ما فى ذلك أنه توفى ابن ثلاث وستين سنة، وأنه استوفى عدة خلافته سن رسول الله صلى الله عليه وسلم التى توفى لها، وسن أبى بكر الصديق، رضى الله عنهما. ويروى عن عامر الشعبى أنه لما طعن عمر، رضى الله عنه، دخل عليه عبد الله بن عباس، فقال: يا أمير المؤمنين، أبشر بالجنة، فقال: ما تقول؟ قال: اللهم نعم، أسلمت حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، ومات نبى الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، ولم يختلف فى خلافتك رجلان، ثم قتلت شهيدا، فقال عمر: والله إن من تغرونه لمغرور، والله لو أن لى ما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع. وعن ابن عباس أيضا قال: لما وضع عمر فى أكفانه، اكتنفه الناس يصلون عليه

ويدعون، فإذا أنا برجل قد زحمنى من خلفى، فنظرت، فإذا على بن أبى طالب، رضى الله عنه، فقام فدعا له وترحم عليه، ثم قال: والله ما أصبح أحد أحب إلىّ من أن ألقى الله بمثل صحيفته منك، وإنى لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأنى كثيرا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خرجت أنا وأبو بكر وعمر» ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وفعلت أنا وأبو بكر وعمر» «1» ، فإنى أرجوا أن يجعلك الله مع صاحبيك. وذكر عبد الله بن مسعود يوما عمر، رضى الله عنه، فهملت عيناه وهو قائم حتى بل الحصى، ثم قال: إن عمر كان حائطا كثيفا يدخله المسلمون ولا يخرجون منه، فلما مات عمر انثلم الحائط فهم يخرجون ولا يدخلون، وما من أهل بيت من المسلمين لم تدخل عليهم مصيبة من موت عمر إلا أهل بيت سوء، فإذا ذكر الصالحون فحىّ هلا بعمر. وروى أنس، عن أبى طلحة أنه قال: والله ما أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم لموت عمر، رضى الله عنه، نقص فى دينهم وفى دنياهم. وعن أبى وائل قال: خرج حذيفة إلى المدائن وهم يذكرون الدجال، فأخبرنا مسروق أنه سأله عن ذلك، فقال: نجب تجىء من هاهنا تنعى عمر. وعن حذيفة أيضا قال: كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا، فلما قتل عمر، رضى الله عنه، كان كالرجل المدبر، لا يزداد إلا بعدا. وقالت عاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نفيل، امرأة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ترثيه: وفجعنى فيروز لا در دره ... بأبيض تال للكتاب منيب رؤف على الأدنى غليظ على العدا ... أخى ثقة فى النائبات نجيب متى ما يقل لا يكذب القول فعله ... سريع إلى الخيرات غير قطوب ومما ينسب إلى الشماخ بن ضرار، وإلى أخيه مزرد بن ضرار أنه قال فى عرم بن الخطاب، ويروى عن عائشة أن الجن بكت به على عمر، رحمه الله، قبل أن يقتل بثلاث، وقد تقدم ذكر بعض هذا الشعر: أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاة بأسوق جزى الله خيرا من إمام وباركت ... يد الله فى ذاك الأديم الممزق

_ (1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 14) .

وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفى سبنتى أزرق العين مطرق وقبل هذا البيت بيتان قد تقدما قبل، فلذلك حذفناهما الآن هنا اختصارا.

ذكر خلافة ذى النورين أبى عمرو عثمان بن عفان أمير المؤمنين، رضى الله عنه ومبايعة أهل الشورى له بعد وفاة عمر، رضى الله عنه ولما مضى عمر، رحمه الله، لسبيله، تفاوض أهل الشورى فيما بينهم ثلاثا بعد وفاته، وانصرف أمر جميعهم إلى عبد الرحمن بن عوف، رضى الله عنه، فباثع لعثمان، رحمه الله، فبايعه بقية أهل الشورى، وكافة الصحابة، رضى الله عن جميعهم، وذلك يوم السبت غرة المحرم من سنة أربع وعشرين. وذكر سيف «1» بإسناد له، أنه لما بايع أهل الشورى عثمان، رحمه الله، خرج وهو أشدهم كآبة، فأتى منبر النبى صلى الله عليه وسلم فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إنكم فى دار قلعة، وفى بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33] ، اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين آيروها وعمروها ومتعوا بها طويلا، ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة، فإن الله ضرب لها مثلها، والذى هو خير، فقال: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 44، 45] . وذكر سيف «2» أن أول كتاب كتبه عثمان، رضى الله عنه، إلى عماله: أما بعد، فإن الله عز وجل أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم فى أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا فى أمور الناس وفيما عليهم، فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم،

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 243) . (2) انظر: الطبرى (4/ 244، 245) .

ثم تثنوا بالذمة، فتعطوهم الذى لهم، وتأخذوهم بالذى عليهم، ثم العدو الذى تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء. قال «1» : وأول كتاب كتبه إلى أمراء الجنود فى الفروج: أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر، رحمه الله، ما لم يغب عنا، بل كان عن ملأ منا، فلا يبلغنى عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله بكم ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون؟ فإنى أنظر فيما ألزمنى الله النظر فيه والقيام عليه. وكتب، رحمه الله، إلى عمال الخراج: أما بعد، فإن الله تعالى خلق الخلق بالحق، ولا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق به، والأمانة الأمانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من سلبها، فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء، لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله ورسوله خصم لمن ظلمهم. وكان كتابه إلى العامة: أما بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالإقتداء والإتباع، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكفر فى العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا» . وزاد عثمان، رضى الله عنه، الناس فى أعطياتهم مائة مائة، وهو أول خليفة زاد الناس فى العطاء، وكان عمر، رحمه الله، يجعل لكل نفس منفوسة من أهل الفىء فى رمضان درهما فى كل يوم، وفرض لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم درهمين درهمين، فقيل له: لو وضعت لهم طعاما فجمعتهم عليه، فقال: أشبع الناس فى بيوتهم، فأقر عثمان الذى صنع عمر، وزاد فوضع طعام رمضان للمتعبد الذى يبيت فى المسجد ولابن السبيل وللمثوبين بالناس فى رمضان. وكان فى مدة خلافته، رحمه الله، فتوح عظام فى البر والبحر، وهو أول من أغزى فيه، وقد تقدم ذكر كثير من ذلك كأفريقية وغزوة ذات الصوارى فى البحر على يدى

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 245) .

عبد الله بن سعد، وغزوة قبرس على يدى معاوية بن أبى سفيان، وغير ذلك مما سلف فى هذا الكتاب. ونذكر الآن من ذلك ما تيسر ذكره إن شاء الله تعالى مما لم نذكر قبل، وأكثر من ذلك مما كان قد افتتح على عهد عمر، رحمه الله، وانتقض بعد وفاته، فوجه إليه عثمان، رحمه الله، فاستردده، حتى استوثق الأمر، وانتظمت الفتوح. ذكر غزوة الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية لمنع أهلها ما صالحوا عليه أهل الإسلام أيام عمر بن الخطاب «1» ويقال: إنها كانت فى السنة التى بويع فيها عثمان، وقيل: فى سنة خمس وعشرين بعدها، وقيل: فى سنة ست، ذكر ذلك كله الطبرى. وحكى «2» أيضا عن أبى مخنف، عن قرة بن لقيط الأزدى ثم العامرى: أن مغازى أهل الكوفة كانت الرى وأذربيجان، وكان بالبحرين عشرة آلاف مقاتل من أهل الكوفة، ستة آلاف بأذربيجان، وأربعة آلاف بالرى، وكان بالكوفة إذ ذاك أربعون ألف مقاتل، وكان يغزو هذين المصرين منهم عشرة آلاف كل سنة، فكان الرجل تصيبه فى كل أربع سنين غزوة، فغزا الوليد بن عقبة فى أزمانه على الكوفة فى سلطانه عثمان أذربيجان وأرمينية، فدعا سلمان بن ربيعة الباهلى، فبعثه أمامه مقدمة له، وخرج الوليد فى جماعة الناس يريد أن يمعن فى أرض أرمينية، فمضى حتى دخل أذربيجان، فبعث عبد الله بن شبل بن عوف الأحمسى فى أربعة آلاف، فأغار على أهل موقان والببر والطيلسان، فأصاب من أموالهم وغنم، وسبى سبيا يسيرا، وتحرز القوم منه، فأقبل بذلك إلى الوليد. ثم إن الوليد صالح أهل أذربيجان على ثمانمائة ألف درهم، وذلك هو الصلح الذى كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان أيام عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ثم حبسوها بعد وفاته، فلما وطئهم الوليد بالجيش، انقادوا وطلبوا إليه أن يتم لهم على ذلك صلح ففعل، وقبض منهم المال، وبث الغارات فيمن حولهم من أعداء الإسلام، فبعث سلمان ابن ربيعة إلى أرمينية فى إنثى عشر ألفا، فسار فى أرضها، فقتل وسبى، وغنم وانصرف

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 246، 247) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 149، 150) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 43، 44) . (2) انظر: الطبرى (4/ 246) .

مملوء اليدين إلى الوليد، فانصرف الوليد وقد ظفر وأصاب حاجته. فلما دخل الموصل راجعا أتاه كتاب من عثمان، رحمه الله: أما بعد، فإن معاوية بن أبى سفيان كتب إلىّ يخبرنى أن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع كثيرة عظيمة، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإذا أتاك كتابى هذا فابعث رجلا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وسخاءه وإسلامه فى ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذى يأتيك فيه رسولى، والسلام. فقام الوليد فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فإن الله قد أبلى المسلمين فى هذا الوجه بلاء حسنا، فرد عليهم بلادهم التى كفرت، وفتح بلادا لم تكن افتتحت، وردهم سالمين غانمين مأجورين، والحمد لله رب العالمين. وقد كتب إلىّ أمير المؤمنين أن أندب منكم ما بين العشرة الآلاف إلى ثمانية آلاف، تمدون إخوانكم من أهل الشام، فإنهم قد جاشت عليهم الروم، وفى ذلك الأجر العظيم، والفضل المبين، فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة، فانتدب الناس، فلم يمض ثلاثة أيام حتى خرج فى ثمانية آلاف من أهل الكوفة، فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم، فشنوا عليهم الغارات، وأصابوا ما شاؤا من سبى، وملأوا أيديهم من المغانم، وافتتحوا بها حصونا كثيرة. وكان على أهل الشام حبيب بن مسلمة، وسلمان على أهل الكوفة، وزعم الواقدى أن سعيد بن العاص هو الذى أمد حبيبا بسلمان، وأن سبب ذلك أن عثمان، رضى الله عنه، أمر معاوية بإغزاء حبيب فى أهل الشام وأرمينية، فوجهه إليها معاوية، فبلغ حبيبا أن الموريان الرومى قد توجه نحوه فى ثمانين ألفا من الروم والترك، فأعلم بذلك معاوية فكتب معاوية إلى عثمان، فكتب عثمان إلى سعيد بإمداد حبيب، فأمده بسلمان فى ستة آلاف، وكان حبيب صاحب كيد، فأجمع على أن يبيت الموريان، فسمعته امرأته، أم عبد الله بنت يزيد الكلبية، يذكر ذلك، فقالت له: فأين موعدك؟ قال: سرادق الموريان أو الجنة، ثم بيتهم، فقتل من اشرأب له، وأتى السرادق فوجد امرأته قد سبقت، فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها سرادق، ثم مات عنها حبيب، فخلف عليها الضحاك ابن قيس الفهرى، فهى أم ولد.

ذكر انتقاض فارس، ومسير عبد الله بن عامر إليها وفتحه إياها «1» ولما ولى عثمان، رحمه الله، أقر أبا موسى الأشعرى على البصرة ثلاث سنين، وعزله فى الرابعة، وأمر على خراسان عمير بن عثمان بن سعد، وعلى سجستان عبيد الله بن عمير الليثى من بنى ثعلبة، فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير فى خراسان حتى بلغ فرغانة، فلم يدع دونها كورة إلا أصلحها، وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر التيمى، فأثخن فيها حتى بلغ النهر، وبعث على كرمان عبيد الله بن عنبس، وبعث إلى فارس والأهواز نفرا، وأبو موسى فى كل ذلك على البصرة. فلما كان فى السنة الثالثة كفر أهل ايذج والأكراد، فنادى أبو موسى فى الناس، وحضهم، وذكر من فضل الجهاد فى الرجلة، حتى حمل نفر على دوابهم، وأجمعوا على ألا يخرجوا إلا رجالة، ثم نشأ بينه وبين أهل البصرة فى هذا الاستنفار ما نفرهم عنه، وطلبوا إلى عثمان أن يديلهم عنه، فدعا عثمان عند ذلك عبد الله بن عامر، فأمره على البصرة وصرف عبيد الله بن معمر إلى فارس، واستعمل مكانه عمير بن عثمان بن سعد، واستعمل على خراسان أمين بن أحمر اليشكرى، وعلى سجستان عمران بن الفضل البرجمى، وعلى كرمان عاصم بن عمرو، فمات بها. فجاشت فارس فانتفضت بعبيد الله بن معمر، واجتمعوا له باصطخر، فالتقوا على بابها، فقتل عبيد الله، وبلغ الخبر عبد الله بن عامر، فاستنفر أهل البصرة إليهم، وخرج فى الناس وعلى مقدمته عثمان بن أبى العاص، فالتقى هو وأهل فارس باصطخر، فقتل منهم مقتلة عظيمة لم يزالوا منها فى ذل، وكتب بذلك إلى عثمان بن عفان، فكتب إليه يأمره أن يولى على كور فارس نفرا سماهم له، وفرق خراسان بين ستة نفر، منهم الأحنف بن قيس على المروين. ذكر انتقاض خراسان، وخروج سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر إليها وذكر طبرستان واستيلاء سعيد عليها ذكر الطبرى أن أدانى أهل خراسان وأقاصيهم اعترضوا زمان عثمان، رضى الله عنه،

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 264- 266) .

لسنتين خلتا من إمارته، فبدأ بنو كنارى وهم أخوال كسرى، فأنثروا وألجأوا عبد الرحمن ابن سمرة وعماله إلى مرو الروذ، وثنى أهل مرو الشاهجان، وثلث بنيزل فاستولى على بلخ، وأرز من بها إلى مرو الروذ وعليها ابن سمرة، فكتب إلى عثمان بخلع أهل خراسان، فأرسل إلى ابن عامر أن يسير فى جند البصرة، فخرج ابن عامر فى الجنود حتى يدخل خراسان على الطبسين من قبل يزدجرد، وبث الجنود فى كورها وأمرهم أن يطأوا فيهم، ووطأ هو فى أهل هراة بعد ما وهنهم الجزاء، وصالحوه، ثم ثنى بنيسابور ففعلت فعل هراة، ولقيت الكور من الجنود مثل ذلك، فذلوا لهم، واكتتب منهم أهل مرو الشاهجان وسائر خراسان، وسار ابن عامر إلى نيزل فقتل تركه قتل الكلاب، ولحق هو بترك بلاد الشام، وسيأتى بعد هذه المجملات مفصلة بعد. وذكر الطبرى «1» بإسناد له قال: غزا سعيد بن العاص، وهو على الكوفة سنة ثلاثين يريد خراسان، ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو وابن الزبير، وخرج عبد الله ابن عامر من البصرة يريد خراسان، فسبق سعيدا ونزل ابرشهر، وبلغ ذلك سعيدا، فنزل قرمس، وهى صلح، صالحهم حذيفة بعد نهاوند، فأتى جرجان، فصالحوه على مائتى ألف، ثم أتى طميسة، وهى كلها من طبرستان متاخمة لجرجان، وهى مدينة على ساحل البحر، فقاتله أهلها حتى صلى يومئذ صلاة الخوف، وهم يقتتلون، بعد أن سأل حذيفة فأخبره كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب يومئذ سعيد رجلا من المشركين على حيل عاتقه، فخرج السيف من مرفقه، وحاصرهم، فطلبوا الأمان، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا، ففتحوا الحصن، فقتلهم جميعا إلا رجلا واحدا، وحوى ما كان فى الحصن. وذكر الطبرى «2» من طريق آخر أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان، ثم امتنعوا وكفروا، فلم يأت جرجان بعد سعيد أحد، ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحية قومس إلا على وجل وخوف من أهل جرجان، وكان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان، فأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولى خراسان. وعن بشر بن حنظلة العمى أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان، فكانوا يجبون

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 269، 270) . (2) انظر: الطبرى (4/ 271) .

أحيانا مائة ألف، ويقولون: صلحنا، وأحيانا مائتى ألف، وأحيانا ثلاثمائة ألف، وكانوا ربما أعطوا ذلك، وربما منعوه، ثم امتنعوا وكثروا، فلم يعطوا خراجا حتى أتاهم يزيد بن المهلب، فلما صالح صولا وفتح البحيرة ودهستان صالح أهل جرجان على صلح سعيد ابن العاص. ذكر مقتل يزدجرد «1» قال الطبرى «2» : اختلف فى سبب قتله، كيف كان؟ فذكر عن ابن إسحاق أن يزدجرد هرب من كرمان فى جماعة ليسير إلى مرو، فسأل مرزبانها مالا فمنعه، فخافوا على أنفسهم، فأرسلوا إلى الترك يستنصرون بهم عليه، فأتوه فبيتوه، وقتلوا أصحابه، وقيل: بل أهل مرو هم الذين بيتوه لما خافوه، ولم يستجيشوا عليه الترك، فقتلوا أصحابه، وخرج هاربا على رجليه، معه منطقته وسيفه وتاجه، حتى أتى إلى منزل نقار على شط المرغاب، فلما غفل يزدجرد، وقيل: لما نام، قتله النقار وأخذ متاعه، وألقى جسده فى المرغاب، فأصبح أهل مرو فاتبعوا أثره، حتى خفى عليهم عند منزل النقار، فأخذوه لهم بقتله، وأخرج متاعه، فقتلوا النقار وأهل بيته، وأخذ متاعه ومتاع يزدجرد وأخرجوه من المرغاب فجعلوه فى تابوت خشب، فزعم بعضهم أنه حمل إلى اصطخر فدفن بها فى أول سنة إحدى وثلاثين. وكان يزدجرد قد وطئ امرأة بمرو، فولدت منه بعد مقتله غلاما ذاهب الشق، فسمى المخدج، وعاش حتى ولد له أولاد بخراسان، فوجد قتيبة حين افتتح الصغد أو غيرها جاريتين فقيل له: إنهما من ولد المخدج، فبعث بهما أو بإحداهما إلى الحجاج بن يوسف فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك، فولدت له يزيد بن الوليد بن عبد الملك الناقص. وذكر عن المدائنى أن يزدجرد أتى خراسان، ومعه خرزادمهر أخو رستم، فقال لمرزبان مرو واسمه ماهويه: إنى قد أسلمت إليك الملك، ثم أقام بمرو وهم بعزل ماهويه، فكتب ماهويه إلى الترك يخبرهم بمكانه وعاهدهم على المؤازرة عليه وخلى لهم الطريق،

_ (1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 293- 300) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 158، 159) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (3/ 59- 61) . (2) انظر: الطبرى (4/ 293، 294) .

فأقبلوا إلى مرو وخرج إليهم يزدجرد فى أصحابه، فقاتلهم ومعه ماهويه فى أساورة مرو، فأثخن فى الترك حتى خشى ماهويه أن ينهزموا، فتحول إليهم فى أساورة مرو، فانهزم جند يزدجرد وقتلوا، وعقر عند المساء فرس يزدجرد، فمضى ماشيا هاربا حتى انتهى إلى بيت فيه رحى على شط المرغاب، فمكث فيه ليلتين، فطلبه ماهويه فلم يقدر عليه إلى أن دخل صاحب الرحى بيته فى اليوم الثانى، فرأى يزدجرد، فقال: ما أنت؟ إنسى أم جنى؟ قال: إنسى، فهل عندك طعام؟ قال: نعم، فأتاه به، فقال: إنى مزموم، فأتنى بما أزمزم به. فذهب الطحان إلى بعض الأساورة، فطلب منه ما يزمزم به، قال: وما تصنع به؟ فقال: عندى رجل لم أر مثله قط، وقد طلب هذا منى، فجاء الأسوار بالطحان إلى ماهويه، فأخبره فقال: هذا يزدجرد، اذهبوا فجيئونى برأسه، فقال له الموبذ: ليس ذلك إليك، قد علمت أن الدين والملك مقترنان، لا يستقيم أحدهما إلا بالآخر، ومتى فعلت انتهكت الحرمة العظيمة، وتكلم الناس فأعظموا ذلك، فشتمهم ماهويه وقال للأساورة: من تكلم فاقتلوه، وأمر عدة فذهبوا مع الطحان ليقتلوا يزدجرد، فانطلقوا، فلما رأوه كرهوا قتله، وتدافعوا ذلك، وقالوا للطحان: ادخل فاقتله، فدخل عليه وهو نائم ومعه حجر فشدخ به رأسه، ثم اجتزه فدفعه إليهم، وألقى جسده فى المرغاب، فخرج قوم من أهل مرو فقتلوا الطحان وهدموا أرحاءه. وذكر الطبرى «1» حديثين مختلفين مطولين، وأحدهما أطول من الآخر يتضمن ضروبا من الاضطرابات تقلب فيها، وأنواعا من الدوائر دارت عليه، حتى كانت منيته آخرها، وفيه أن رجال ماهويه الذين وجههم لطلب يزدجرد وأمرهم بقتله لما انتهوا إلى الطحان، فسألوه عنه، فأنكره، فضربوه ليدل عليه فلم يفعل، فلما أرادوا الانصراف قال أحدهم: إنى أجد ريح المسك، ونظر إلى طرف ثوب من ديباج فى الماء، فاجتذبه، فإذا هو يزدجرد، فسأله ألا يقتله ولا يدل عليه، وجعل له سواره وخاتمه ومنطقته، فأبى عليه إلا أن يعطيه دراهم ويخلى عنه، ولم يكن ذلك عند يزدجرد، فقال: قد كنت أخبر أنى سأحتاج إلى أربعة دراهم، وقال للرجل: ويحك، خاتمى لك، وثمنه لا يحصى، فأبى وأنذر أصحابه، فأتوه، فطلب إليهم يزدجرد ألا يقتلوه، وقال: ويحكم، إنا نجد فى كتبنا أن من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق فى الدنيا، مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلونى وائتوا بى إلى الدهقان، أو سرحونى إلى العرب، فإنهم يستحيون مثلى من

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 298) ، الأخبار الطوال (ص 139، 140) .

الملوك، فأخذوا ما كان عليه من الحلى، فجعلوه فى جراب وختموا عليه، ثم خنقوه بوتر، وطرحوه فى نهر مرو. وفى آخر الحديث «1» : أنه لما بلغ مقتله رجلا من أهل الأهواز كان مطرانا على مرو، جمع من كان قبله من النصارى، وقال لهم: إن ملك الفرس قد قتل، وهو ابن شهريار بن كسرى، ولهذا الملك عنصر فى النصرانية، وإنما شهريار ولد شيرين التى قد عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتها فى غير وجه، مع ما نال النصارى فى مملكة جده كسرى من الشرف، وقبل ذلك فى مملكة ملوك من أسلافه، حتى بنى لهم بعضهم البيع، وسدد لهم بعضهم، يعنى للنصارى، ملتهم فينبغى لنا أن نحزن لقتل هذا الملك ونظهر من كرامته بقدر ما كان من إحسان سلفه وجدته إلى النصارى، وقد رأيت أن أبنى له ناووسا، وأحمل جثته فى كرامة حتى أواريها. فقال له النصارى: أمرنا لأمرك تبع، ونحن لك على رأيك هذا مواطئون، فأمر المطران ببناء ناووس فى جرف بستان المطارنة بمرو، ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثة يزدجرد من النهر وكفنها وجعلها فى تابوت وحملها هو وأولئك النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس الذى بنى له وواروه فيه، وردموا بابه، فكان ملك يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين فى دعة وست عشرة فى تعب من محاربة العرب إياه. وكان آخر ملك من آل أردشير بن بابك، وصفا الملك بعده للعرب، فسبحان ذى العظمة والملكوت، الملك الحق الدائم الذى لا يموت، لا إله إلا هو، كل شىء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون. ذكر فتح أبرشهر، وطوس، وبيورد، ونسا، وسرخس، وصلح مرو ذكر الطبرى «2» أن ابن عامر لما فتح فارس قام إليه أوس بن حبيب التميمى، فقال: أصلح الله الأمير إن الأرض بين يديك، ولم تفتح من ذلك إلا القليل، فسر فإن الله ناصرك، قال: أو لم نأمرك بالمسير؟ وكره أن يظهر له أنه قبل رأيه. وذكر فى بعض ما ذكره عن المدائنى أن ابن عامر لما فتح فارس رجع إلى البصرة

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 300) . (2) انظر: تاريخ الملوك والرسل للطبرى (3/ 300- 303) .

واستعمل على اصطخر شريك بن الأعور الحارثى، فدخل على ابن عامر رجل من بنى تميم يقال له: الأحنف، وقيل غيره، فقال له: إن عدوك منك هارب، ولك هائب، والبلاد واسعة، فسر فإن الله ناصرك ومعز دينه. فتجهز ابن عامر وأمر الناس بالتجهيز للمسير، واستخلف على البصرة زيادا، وسار إلى كرمان، ثم أخذ إلى خراسان. قال: وأشياخ كرمان يذكرون أنه نزل العسكر بالسيرجان، وسار إلى خراسان، واستعمل على كرمان مجاشع بن مسعود، وأخذ ابن عامر على مفازة رابر، وهى ثمانون فرسخا، ثم سار إلى الطبسين يريد أبرشهر، وهى مدينة نيسابور، وعلى مقدمته الأحنف ابن قيس، فأخذ إلى قهستان، وخرج إلى أبرشهر فلقيته الهياطلة فقاتلهم الأحنف فهزمهم، ثم أتى ابن عامر نيسابور، وافتتح ابن عامر مدينة أبرشهر، قيل: صالحا، وقيل: عنوة، وفتح ما حولها: طوس وبيورد ونسا وحمران وسرخس. ويقال: إنه بعث إلى سرخس عبد الله بن خازم ففتحها، وأصاب جاريتين من آل كسرى. ويروى أن أهل أبرشهر لما فتحها ابن عامر صالحا فى قول من قال ذلك، أعطوه جاريتين من آل كسرى. وعن أشياخ من أهل خراسان: أن ابن عامر سرح الأسود بن كلثوم، من عدى الرباب، إلى بيهق، وهى من أبرشهر، بينهما ستة عشر فرسخا، ففتحها، وقتل الأسود، وكان فاضلا فى دينه ومن أصحاب عامر بن عبد قيس، وكان عامر يقول بعد ما خرج من البصرة: ما آسى من العراق على شىء إلا على ظماء الهواجر وتجاوب المؤنين، وإخوان مثل الأسود بن كلثوم. ويروى أن ابن عامر لما غلب على من بنيسابور أرسل إله أهل مرو يطلبون الصلح، فبعث إليهم حاتم بن النعمان، فصالح مرزبان مرو على ألفى ألف ومائتى ألف. وقال مقاتل بن حيان: على ستة آلاف ألف ومائتى ألف. قال الطبرى «1» : وفى سنة اثنتين وثلاثين كانت غزوة معاوية بن أبى سفيان مضيق القسطنطينية، ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف،

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 304، 305) .

وقيل: فاختة. واستعمل سعيد بن العاص، سلمان بن ربيعة على فرج بلنجر، وأمد الجيش الذى كان به مقيما مع حذيفة بأهل الشام، عليهم حبيب بن مسلمة. وكان عثمان، رحمه الله، قد أمر سعيدا بإغزاء سلمان، فيما ذكره سيف عن بعض رجاله، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة، الذى يقال له: ذو النور، وهو على الباب: أن الرعية قد أبطر كثيرا منها البطنة، فقصر ولا تقتحم بالمسلمين، فإنى خاش أن يبتلوا، فلم يزجر ذلك عبد الرحمن عن غايته، فغزا فى السنة التاسعة من إمارة عثمان حتى إذا بلغ بلنجر حصرها ونصب عليها المجانيق والعرادات، فجعل لا يدنو منها أحد إلا أعنتوه أو قتلوه، وأسرعوا فى الناس. ثم إن الترك اتعدوا يوما، فخرج أهل بلنجر، وتوافى إليهم الترك فاقتتلوا فأصيب عبد الرحمن، ذو النور، فانهزم المسلمون وتفرقوا. وقد تقدم ذكر مقتله قبل، وأن المشركين احتازوه إليهم فجعلوه فى سفط، فكانوا يستسقون به بعد ويستنصرون به. وذكر سيف من بعض طرقه» : أنه لما تتابعت الغزوات على الخزر تذامروا وتعايروا وقالوا: كنا أمة لا يقوم لها أحد حتى جاءت هذه الأمة القليلة فصرنا لا نقوم لها، فقال بعضهم: إنهم لا يموتون، ولو كانوا يموتون لما افتتحوا علينا. ثم كمنوا فى الغياض ليجربوا، فرموا بعض من مر بهم فى ذلك الكمين من جند المسلمين فقتلوهم، فعند ذلك تداعوا إلى الحرب وتواعدوا يوما، فاقتتلوا فقتل عبد الرحمن وتفرق الناس فرقتين، فرقة نحو الباب فحماهم سلمان الفارسى حتى أخرجهم، وفرقة نحو الخزر، فطلعوا على جيلان وجرجان، فيهم سلمان الفارسى وأبو هريرة. وقال بعضهم: غزا أهل الكوفة ثمان سنين من إمارة عثمان، رضى الله عنه، لم تئم فيهن امرأة، ولم ييتم فيهن صبى من قتل حتى كان، يعنى فى السنة التاسعة، فكان ما ذكر من قتل عبد الرحمن بن ربيعة ومن أصيب معه. ذكر فتح مرو الروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان ذكر الطبرى «2» بإسناده عن ابن سيرين قال: بعث ابن عامر، الأحنف بن قيس إلى

_ (1) انظر: الطبرى (3/ 305، 306) . (2) انظر: الطبرى (4/ 310- 313) .

مرو الروذ، فحصر أهلها، فخرجوا إليهم فقاتلوهم، فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصونهم، فأشرفوا عليهم، فقالوا: يا معشر العرب، ما كنتم عندنا كما نرى، لو علمنا أنكم كما نرى لكاتب لنا ولكم حال غير هذه، فأمهلونا ننظر فى يومنا، وارجعوا إلى عسكركم، فرجع الأحنف. فلما أصبح غاداهم وقد أعدوا له، فخرج من المدينة رجل من العجم معه كتاب، فقال: إنى رسول فأمنونى، فأمنوه، فإذا هو ابن أخى مرزبان مرو ومعه كتابه إلى الأحنف، وإذا فيه: إلى أمير الجيش، إنا نحمد الله الذى بيده الدول، يغير ما شاء من الملك، ويرفع من شاء بعد الذلة، ويضع من شاء بعد الرفعة، إنى دعانى إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدى، وما كان رأى من صاحبكم من الكرامة والمنزلة، فمرحبا بكم فأبشروا، وأنا أدعوكم إلى الصلح على أن أؤدى إليكم خراجنا ستين ألف درهم، وأن تقروا بيدى ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جد أبى حيث قتل الحية التى أكلت الناس وقطعت السبيل من الأرض والقرى بما فيها من الرجال، ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتى شيئا من الخراج، ولا تخرجوا المرزبة من أهل بيتى إلى غيرهم، فإن جعلت ذلك لى خرجت إليك، وقد بعثت إليك ابن أخى ماهك ليستوثق منك بما سألت. فكتب إليه الأحنف: بسم الله الرحمن الرحيم، من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مرو الروذ ومن معه من الأساورة والأعاجم، سلام على من اتبع الهدى وآمن واتقى، أما بعد، فإن ابن أخيك ماهك قدم علىّ، فنصح لك جهده، وأبلغ عنك، وقد عرضت ذلك على من معى من المسلمين، وأنا وهم فيما عليك سواء، وقد أجبناك إلى ما سألت، وعرضت علىّ أن تؤدى عن كورتك وفلاحيك والأرضين ستين ألف درهم إلىّ وإلى الوالى بعدى من أمراء المسلمين، إلا ما كان من الأرضين التى ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطعها جد أبيك، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وإن عليك نصرة المسلمين وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة إن أحب المسلمون ذلك، وإن لك على ذلك نصر المسلمين على من يقاتل من ورائك من أهل ملتك، جار لك بذلك منى كتاب يكون لك بعدى، ولا خراج عليك ولا على أحد من أهل بيتك من ذوى الأرحام، وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك ما للمسلمين من العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم، ولك بذلك ذمتى وذمة أبى وذمة المسلمين وذمم آبائهم.

وعن مقاتل بن حيان: أن ابن عامر صالح أهل مرو، وبعث الأحنف فى أربعة آلاف إلى طخارستان، فأقبل حتى نزل موضع قصر الأحنف من مرو الروذ، وجمع له أهل طخارستان، وأهل الجوزجان، والطالقان، والفارياب، وكانوا ثلاثة زحوف، ثلاثين ألفا، وأتى الأحنف خبرهم، فاستشار الناس فاختلفوا، فمن قائل: نرجع إلى مرو، وقائل: نرجع إلى أبرشهر، وقائل: نقيم ونستمد، وقائل: نلقاهم فنناجزهم. قال: فلما أمسى الأحنف خرج يمشى فى العسكر، ويسمع حديث الناس، فمر بأهل خباء ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن، وهم يتحدثون ويذكرون العدو، فقال بعضهم: الرأى للأمير إذا أصبح أن يسير حتى يلقى القوم حيث لقيناهم، فإنه أرعب لهم، فنناجزهم، فقال صاحب الخزيرة أو العجين: إن فعل ذلك فقد أخطأ، أتأمرونه أن يلقى حد العدو مصحرا فى بلاده، فيلقى جميعا كثيرا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلموا؟ ولكن الرأى له أن ينزل بين المرغاب والجبل، فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره فلا يلقاه من عدوه وإن كثروا إلا عدد أصحابه، فرجع الأحنف وقد اعتقد ما قال، فضرب عسكره، وأقام فأرسل إليه أهل مرو يعرضون عليه أن يقاتلوا معه، فقال: إنى أكره أن أستنصر بالمشركين، فأقيموا على ما أعطيناكم، فإن ظفرنا فنحن على ما جعلنا لكم، وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم. قال: فوافوا المسلمين صلاة العصر، فعاجلهم المشركون، فناهضوهم وقاتلوهم فصبر الفريقان حتى أمسوا، والأحنف يتمثل: أحق من لم يكره المنية ... حزور ليست له ذرية وفى غير حديث مقاتل أن الأحنف لقيهم فى المسلمين ليلا فقاتلوهم حتى ذهب عامة الليل، ثم هزمهم الله، فقتلهم المسلمون حتى انتهوا إلى رسكن، وهى على أثنى عشر فرسخا من قصر الأحنف، وكان مرزبان مرو الروذ قد تربص بحمل ما كان صالح عليه، لينظر ما يكون من أمرهم، فلما ظفر الأحنف سرح رجلين إلى المرزبان، وأمرهما أن لا يكلماه حتى يقبضاه ففعلا، فعلم أنهما لم يصنعا ذلك به إلا وقد ظفروا، فحمل ما كان عليه. وبعث الأحنف إلى الجوزجان الأقرع بن حابس فى جريدة خيل إلى بقية كانت بقيت من الزحوف التى هزمهم الأحنف، فقاتلهم الأقرع بخيله، فجال المسلمون جولة، فقتل بعض فرسانهم، ثم أظفر الله المسلمين بهم فهزموهم وقتلوهم، وأولئك القتلى من فرسان

المسلمين عنى أبو كثير النهشلى إذ قال: سقى مزن السحاب إذا استهلت ... مصارع فتية بالجوزجان إلى القصرين من رستاق خوط ... أقادهم هناك الأقرعان وهى طويلة. ذكر جرى الصلح بين الأحنف وبين أهل بلخ «1» قال المدائنى بإسناده عن إياس بن المهلب: سار الأحنف من مرو الروز إلى بلخ، فحاصرهم، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، فرضى بذلك منهم، واستعمل ابن عمه أسيد بن المتشمس على أخذها منهم، ومضى إلى خوارزم، فأقام حتى هجم عليه الشتاء، فقال لأصحابه: ما ترون؟ فقال له حصين: قد قال عمرو بن معدى كرب: إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع فأمر الأحنف بالرحيل، ثم انصرف إلى بلخ، وقد قبض ابن عمه ما صالحهم عليه، ووافق مهرجانهم وهو يجيبهم، فأهدوا إليه هدايا من آنية الذهب والفضة ودنانير ودراهم ومتاع ودواب، فقال أسيد: هذا لم نصالحكم عليه، قالوا: لا، ولكن هذا شىء نصنعه فى هذا اليوم لمن ولينا، نستعطفه به، قال: ما أدرى ما هذا؟ وإنى لأكره أن أرده، ولعله من حقى، ولكنى أقبضه وأعزله حتى أنظر، وقدم الأحنف، فأخبره، فسألهم عنه، فقالوا مثل ما قالوا له، فقال الأحنف: آتى به الأمير، فحمله إلى ابن عامر وأخبره عنه، فقال: اقبضه يا أبجر، فهو لك، قال: لا حاجة لى فيه، فقال ابن عامر: ضمه إليك يا مسمار، قال: فضمه القرشى، وكان مضما. وذكر المدائنى بإسناد آخر: أن ابن عامر حين صالح أهل مرو، وصالح الأحنف أهل بلخ بعث خليد بن عبد الله الحنفى إلى هراة وإلى باذغيس، فافتتحهما، ثم كفر العدو بعد ذلك فكان مع قارن. وقال: ولما رجع الأحنف قال الناس لابن عامر: ما فتح على أحد ما فتح عليك، فارس، وكرمان، وسجستان، وعامة خراسان، فقال: لا جرم، لأجعلن شكرى لله على ذلك أن أخرج معتمرا من موقفى، فأحرم بعمرة من نيسابور، فلما قدم على عثمان، رضى الله عنه، لامه على إحرامه من خراسان، وقال له: ليتك تضبط الميقات الذى يحرم

_ (1) انظر: الطبرى (4/ 313، 316) .

منه الناس. قال: استخلف ابن عامر على خراسان حين خرج منها سنة اثنتين وثلاثين قيس بن الهيثم، فجمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان، فأقبل فى أربعين ألفا، فقال قيس لعبد الله بن حازم: ما ترى؟ قال: أرى أن تخلى البلاد فإنى أميرها، ومعى عهد من ابن عامر، إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها، وأخرج كتابا قد افتعله، فكره قيس مشاغبته، فخلاه والبلاد، وأقبل إلى ابن عامر، فلامه ابن عامر، وقال: تركت البلاد حربا وأقبلت؟ قال: جاءنى بعهد منك. قال: وسار ابن خازم إلى قارن فى أربعة آلاف، وأمر الناس فحملوا الودك، فلما قرب من عسكره أمر الناس أن يدرج كل واحد منهم على زج رمحه ما كان من خرقة أو قطن أو صوف، ثم يوسعوه ودكا من سمن أو زيت أو دهن أو إهالة. وقدم مقدمته ستمائة، ثم أتبعهم، وأمر الناس فأشعلوا النيران فى أطراف الرماح، وجعل بعضهم يقتبس من بعض، وانتهت مقدمته إلى عسكر قارن نصف الليل، ولهم حرس، فناوشوهم، وهاج المشركون على دهش، وكانوا آمنين على أنفسهم من البيات، ودنا ابن خازم منهم، فرأوا النيران يمنة ويسرة، وتتقدم وتتأخر، وتنخفض وترتفع، ولا يرون أحدا فهالهم ذلك، ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين، ومقدمته تقاتلهم، فقتل قارن وانهزم العدو، فاتبعوهم يقتلونهم كيف شاؤا، وأصابوا سبيا كثيرا، وأخذ ابن خازم عسكر قارن بما كان فيه، وكتب بالفتح إلى ابن عامر، فرضى وأقره على خراسان، فلبث عليها حتى انقضى أمر الجمل. وقد روى أنه لما جمع قارن هذا الجمع للمسلمين، ضاق المسلمون بأمرهم، واستشار قيس، عبد الله بن خازم فى ذلك، فقال له: إنك لا تطيق كثرة من أتانا، فاخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة من جمعوا لنا، ونقيم نحن فى هذه الحصون نطاولهم حتى تقدم ويأتينا مددكم، فخرج قيس، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهدا، وقال: قد ولانى ابن عامر على خراسان، فسار إلى قارن وظفر به، وكتب بالفتح إلى ابن عامر، فأقره على خراسان، فلم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالح من أهل خراسان، فإذا رجعوا خلفوا أربعة آلاف للعقبة، فكانوا كذلك حتى كانت الفتنة، فالله أعلم أى ذلك كان. فتح عمورية وانتقاضها وعن سعيد بن عبد العزيز: أن عثمان رضى الله عنه إئتم بأبى بكر وعمر رضى الله

عنهما فى أثرة المجاهدين وتقويتهم بالأموال، ولقد زاد عثمان أهل العطاء مائة مائة، وتابع إغزاءهم أرض الروم، حتى ذلت عمورية وما دونها من مدائن ضاحية الروم على أداء الجزية، وعلى إنزال جماعة من المسلمين مدينة عمورية يقاتلون من خلفها، فلم يزل المسلمون بها حتى بلغ أهل عمورية قتل عثمان رضى الله عنه قبل أن يبلغ ذلك من كان بها من المسلمين، فقتلوهم على فرشهم، وانتقض ذلك الصلح. وتمت الفتوح بعثمان رضى الله عنه ورحمه فلم تفتح بعده بلدة إلا صالحا، كان كفر أهلها، أو أرض مما افتتح، عيال على ما افتتح عمر، لا يقوى عليها الجنود إلا بالفىء الذى أفاء الله عز وجل على عمر رضى الله عنه. مقتل عثمان رضى الله عنه وقتل عثمان رضى الله عنه بالمدينة فى الثامن عشر لذى الحجة سنة خمس وثلاثين، وقيل فى وسط أيام التشريق، وقيل يوم التروية، وقيل غير ذلك، ولا خلاف بينهم فى أنه قتل فى ذى الحجة، وإنما الخلاف فى أى يوم منه قتل، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وأياما، وسنه يوم قتل مختلف فيها أيضا على ما قيل فى ذلك أنه كان ابن تسعين سنة، وقيل: ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل: ابن ست وثمانين سنة، وقيل: ابن اثنتين وثمانين، وقيل، ابن ثمانين. وقتل رحمه الله ورضى عنه ظلما وتعديا، بمقدمات فتن نشأت على عهده، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنذر بها، وأخبر ان الحق مع عثمان رحمه الله ورضى عنه فيها. وروى مرة البهزى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستكون فتن كأنها صياصى بقمر» ، فمر علينا رجل متقنع فقال: هذا وأصحابه على الحق، فذهبت فنظرت إليه، فإذا هو عثمان بن عفان رضى الله عنه. وحديث عائشة رضى الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «إن الله ملبسك قميصا تريدك أمتى على خلعه فلا تخلعه» ، قال: فلم أدر ما هو حتى رأيت عثمان قد أعطى كل شىء سئله إلا الخلع، فعلمت أنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى سمع منه. وفى حديث آخر عنها: أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسار عثمان، ولون عثمان يتغير،

فلما حصر قيل له، ألا تقاتل؟ قال: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى عهدا فأنا صابر نفسى عليه. وضايق الناس عثمان رضى الله عنه وانبسطوا عليه، وآذوه، وهو صابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم راض بقضاء الله فيه، آمر بكف الأسلحة والأيدى، كل من انبعث لنصره، واق للمؤمنين بنفسه. حدث عبد الله بن ربيعة أنهم كانوا معه فى الدار، فلما سمع أنهم يريدون قتله قال: ما أعلم أنه يحل دم المؤمن إلا الكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، أو قتل نفس بغير حق، وأيم الله، ما زنيت فى جاهلية ولا إسلام، وما ازددت للإسلام إلا حبا، ولا قتلت نفسا بغير حق، فعلام تقتلوننى؟ ثم عزم علينا أن نكف أيدينا وأسلحتنا، وقال: إن أعظمكم غناء أكفكم ليده وسلاحه. وقال أبو هريرة لأهل الدار وهو معهم فيها: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تكون بعدى فتن وأمور» ، قلنا: فأين الملتجأ منها يا رسول الله؟ قال: «إلى الأمين وحزبه» ، وأشار إلى عثمان. فقام الناس فقالوا: قد أمكنتنا البصائر، فإذن لنا فى الجهاد، فقال عثمان: أعزم على من كانت لى عليه طاعة أن لا يقاتل. ومما ينسب إلى كعب بن مالك يذكر هذه الحال من عثمان بعد قتله رضى الله عنه وقال مصعب: هى لحسان، وقال ابن أبى شبة: هى للوليد بن عقبة: فكف يديه ثم أغلق بأبه ... وأيقن أن الله ليس بغافل وقال لأهل الدار لا تقتلونهم ... عفا الله عن ذنب امرئ لم يقاتل فكيف رأيت الله ألقى عليهم ال ... عداوة والبغضاء بعد التواصل وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن الناس إدبار السحاب الحوامل وقال ابن عمر لبعض من وقع عنده فى عثمان: أما والله ما تعلم عثمان قتل نفسا بغير حق، ولا جاء من الكبائر شيئا، ولكن هو هذا المال إن أعطاكموه رضيتم، وإن أعطاه ذوى قرابته سخطتم، إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم، ولا يتركون أميرا إلا قتلوه، وفاضت عيناه من الدمع، وقال: اللهم إنا لا نريد ذلك. وحسب عثمان، رضى الله عنه، من الفضل العظيم، والحظ الجسيم، إلى ما له فى الإسلام من الآثار الكرام والنفقات التى بيضت وجه النبى عليه السلام قوله صلوات الله عليه: أنت وليى فى الدنيا والآخرة.

ويروى أنه لما قتل سقطت من دمه قطرات على المصحف فصادفت قول الله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 137] ، ويقال: إن الذى تولى قتله من الذين دخلوا عليه رجل من أهل مصر يقال له جبلة بن الأيهم، وكذلك كان جمهور الداخلين عليه من أهل مصر. فيروى عن يزيد بن أبى حبيب، وهو من جملة المصريين أنه قال: بلغنى أن عامة النفر الذين ساروا إلى عثمان بن عفان جنوا. وعن أبى قلابة قال: كنت فى فندق بالشام، فسمعت مناديا ينادى: يا ويلة، النار النار، فقمت فإذا أنا برجل مقطوع اليدين من المنكبين، مقطوع الرجلين من الحقوين، أعمى، منكب لوجهه ينادى: يا ويلة، النار النار، فقلت: ما لك؟ قال: كنت فيمن دخل على عثمان يوم الدار، وكنت فى سرعان الناس، أو من أول الناس وصل إليه، فلما دنوت منه صاحت امرأته فلطمتها، فنظر إلى عثمان فتغرغرت عيناه بالدموع، وقال: ما لك سلب الله يدك ورجليك وأعمى بصرك وأدخلك جهنم، قال: فأخذتنى رعدة شديدة، ولا والله ما أحدثت شيئا غير هذا. فخرجت وركبت راحلتى، حتى إذا صرت بموضعى هذا ليلا أتانى آت، واله ما أدرى إنسى هو أم جنى، ففعل بى الذى ترى، وقد استجاب الله دعوته فى يدى ورجلى وبصرى، فو الله إن بقى إلا النار. قال أبو قلابة: فهممت أن أطاء برجلى، ثم قلت: بعدا وسحقا. وكان مع عثمان رحمه الله ورضى عنه فى الدار جماعة من الصحابة وأناء الصحابة، يدرؤن عنه، وقاتلوا عنه يوم الدار حتى أخرج منهم يومئذ أربعة من شباب قريش محمولين مضرجين بالدم، وهم الحسن بن على، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم، ولما أخبر على بقتله قال للذين أخبروه: تبا لكم آخر الدهر، وسمع يومئذ ضجة، فسأل عنها، فقيل: عائشة تلعن قتلة عثمان، والناس يؤمنون، فقال على: اللهم العن قتلة عثمان، اللهم العن قتلة عثمان. وقال سعيد بن زيد: لو أن أحدا انقض لما فعل بعثمان لكان حقيقا أن ينقض. وقال ابن العباس: لو اجتمع الناس على قتل عثمان لرموا بالحجارة كما رمى قوم لوط. وقال عبد الله بن سلام: لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا ينغلق عنهم إلى يوم القيامة.

وفى ذلك يقول بعضهم: لعمر أبيك ولا تكذبين ... لقد ذهب الخير إلا قليلا لقد سفه الناس فى دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا وذكرت عائشة رضى الله عنها قتله وقتلته فقالت: اقتحم عليه النفر الثلاثة حرمة البلد الحرام والشهر الحرام وحرمة الخلافة، ولقد قتلوه وإنه لمن أوصلهم للرحم وأتقاهم لربه. وقال أيمن بن خريم: ضحوا بعثمان فى الشهر الحرام ضحى ... فأى ذبح حرام ويلهم ذبحوا وأى سنة كفر من أولهم ... وباب شر على سلطانهم فتحوا ماذا أرادوا أضل الله سعيهم ... بسفك ذاك الدام الذاكى الذى سفحوا وقال على بن حاتم: سمعت يوم قتل عثمان صوتا يقول: أبشر يا ابن عفان بروح وريحان ... أبشر يا ابن عفان برب غير غضبان أبشر يا ابن عفان بغفران ورضوان قال: فالتفت فلم أر أحدا. والأخبار والأشعار فى هذه المعنى كثيرة، أعجلتنا عن الإكثار منها محاولة الخاتمة، فنسأل الله أن يجعلها جميلة، ويتقبلها قربة إليه وإلى رسوله ووسيلة.

الخاتمة وقد انتهى والحمد لله ما عملنا عليه فى هذا الكتاب، من قصد الاستيفاء لمغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازى الثلاثة الخلفاء، ولم يقع فى خلافة رابعهم فى تقلدها المحتوم بأيام محتوم أمدها، أبى الحسن على بن أبى طالب، رضى الله عنه وعنهم، من أمثال هذه الفتوح ما نثبته معها، ونجرى فى إيراده على الطريقة التى سلكنا مهيعها، لاستقباله بخلافته، رضى الله عنه، من مكابدة الفتن المارجة، ومحاربة الفئة الباغية، والفرقة الخارجة، ما أشتهر عند أهل الإسلام، وأغنى العلم به عن الإعلام، ولو كان لاغتنمنا به زيادة الإمتاع، وإفادة القلوب والأسماع، لأن هؤلاء الخلفاء الأربعة، رضى الله عنهم، هم بعد نبيهم، صلوات الله عليه، خير الأمة، والراشدون من الأئمة، وأولى من صرف إلى تقييد أخبارهم وتخليد آثارهم عنان الهمة، وأحق من اعتلق من حبهم، والإيواء إلى شعبهم، والثناء عليهم، والانضواء إلى حزبهم بأوثق أسباب العصمة وأمتن ذرائع الحرمة والرحمة، وكل صحابة المصطفى أهل منا لذلك، والموفق من سلك فى حبهم هذه المسالك. وما فضل أصحاب النبى وقومه ... لمن رام إحصاء له بمحسب ولكنه أجر وزخر أعده ... وأجعله أمنى وحصنى ومهربى سأقطع عمرى بالصلاة عليهم ... وأداب فى حبى لهم كل مدأب إليك رسول الله منها وسيلة ... تناجيك عن قلب بحبك مشرب يزورك عن شحط الديار مسلما ... ويلقاك بالإخلاص لم يتنكب تم كتاب الاكتفاء من مغازى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازى الثلاثة الخلفاء، رضى الله عنهم، وحشرنا معهم، وربنا المحمود لا إله غيره، ولا مرجو إلا بركته وخيره. برسم الفقير إلى الله تعالى جمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن السابق الحنفى الحموى، لطف الله تعالى به، على يد الفقير لعفو ربه القدير محمد بن خليل بن إبراهيم الحنفى، عامله الله بلطفه الخفى، وفرغ من كتابته فى اليوم المبارك نهار الأربعاء السادس من صفر سنة ستين وثمانمائة، أحسن الله عقبتها، آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

فهرس محتويات الجزء الثانى ذكر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وكتابه إليهم يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام 3 ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وما كان من خبر دحية معه 4 ذكر توجه عبد الله بن حذافة إلى كسرى بكتاب النبى صلى الله عليه وسلم وما كان من خبره معه 10 ذكر إسلام النجاشى، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه مع عمرو بن أمية الضمرى 12 كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب الإسكندرية مع حاطب بن أبى بلتعة 13 ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى العبدى مع العلاء بن الحضرمى بعد انصرافه من الحديبية 15 ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى الأزديين، ملكى عمان، مع عمرو بن العاص 17 كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن على مع سليط بن عمرو العامرى، وما كان من خبره معه 19 ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى مع شجاع بن وهب 22 ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى فروة بن عمرو الجذامى ثم النفاتى، وما كان من تبرعه بالإسلام هداية من الله عز وجل له 26 ذكر حجة الوداع وتسمى أيضا حجة التمام، وحجة البلاغ 30 ذكر مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين 36 بيعة أبى بكر رضى الله عنه وما كان من تحيز الأنصار إلى سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة ومنتهى أمر المهاجرين معهم 50 ذكر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه، وما يتصل بذلك من أمره صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته 58 ذكر خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه وما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيماء إليها والإشارات الدالة عليها مع ما كان من تقدمه صلى الله عليه وسلم إلى الإنذار بالفتن الكائنة بعده وما صدر عنه من الأقاويل المنذرة بالردة 85 ذكر بدء الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان من تأييد الله لخليفة رسوله عليه السلام فيها 88 وصية أبى بكر الصديق رضى الله عنه، خالد بن الوليد حين بعثه فى هذا الوجه 97 ذكر مسير خالد بن الوليد رضى الله عنه، إلى بزاخة وغيرها 101 ذكر رجوع بنى عامر وغيرهم إلى الإسلام 105

قصة مسيلمة الكذاب وردة أهل اليمامة 112 ذكر تقديم خالد بن الوليد الطلائع أمامه من البطاح 119 ذكر ردة بنى سليم 144 ردة البحرين 148 ذكر ردة أهل دبا وأزد عمان 154 ذكر ردة صنعاء 156 ذكر ردة كندة وحضرموت 159 ذكر بدء الغزو إلى الشام وما وقع فى نفس أبى بكر الصديق رضى الله عنه، من ذلك وما قوى عزمه عليه 166 وقعة أجنادين 201 وقعة مرج الصفر 206 ذكر الخبر عن وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وما كان من عهده إلى عمر بن الخطاب، جزاهما الله عن دينه الحق أفضل الجزاء 208 استخلاف عمر بن الخطاب 212 ذكر الخبر عما صار إليه أمر دمشق من الفتح والصلح بعد طول الحصار فى خلافة عمر بن الخطاب، على نحو ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام 218 ذكر بيسان 223 ذكر طبرية 223 حديث مرج الروم من رواية سيف أيضا 224 وقعة فحل حسبما فى كتب فتوح الشام 226 فتح حمص فيما حكاه أصحاب فتوح الشام 243 حديث حمص آخر 248 فتح قنسرين 250 جمع الروم للمسلمين 251 وقعة اليرموك على نحو ما حكاه أصحاب كتب فتوح الشام 259 قصة صلح إيلياء وقدوم عمر رضى الله عنه الشام 301 ذكر ما وعدنا به قبل من سياقة فتح قيسارية حيث ذكرها أصحاب فتوح الشام خلافا لما أوردناه قبل ذلك عن سيف بن عمر، مما لا يوافق هذا مساقا ولا زمانا، حسب ما يوقف عليه فى الموضعين إن شاء الله تعالى 318 ذكر فتح مصر 322 ذكر فتح أنطابلس 354 فتح أطرابلس 355 ذكر انتقاض الإسكندرية فى خلافة عثمان رضى الله عنه 356 ذكر غزو أفريقية وفتحها 358 ذكر صلح النوبة 362 ذكر البحر والغزو فيه 363 غزو معاوية بن أبى سفيان قبرس 364 غزوة ذات الصوارى 366 ذكر فتح العراق وما والاه على ما ذكره سيف بن عمر وأورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى عنه وعن غيره 368 أخبار الأيام فى زمان خالد بن الوليد رضى الله عنه 372 حديث الثّنى والمذار 376 حديث الولجة وهى مما يلى كسكر من

البر 378 حديث ألّيس، وهى على صلب الفرات 379 حديث أمغيشيا وكيف أفاءها الله بغير قتال 382 حديث يوم المقر وفم فرات بادقلى مع ما يتصل به من حديث الحيرة 382 حديث الأنبار وهى ذات العيون 390 حديث عين التمر 391 حديث دومة الجندل وما بعدها من الأيام بحصيد والخنافس ومصيخ والبشر والفراض 392 حديث المثنى بعد خالد 398 ذكر ما كان من خبر العراق فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وما كان من أمر المثنى بن حارثة معه، وذكر أبى عبيد بن مسعود، على ما فى ذلك كله من الاختلاف بين رواة الآثار 400 حديث وقعة الجسر 407 حديث البويب ووقعة مهران 415 حديث غارة المثنى على سوقى الخنافس وبغداد 426 حديث السرايا من الأنبار 428 ذكر ما هيج حرب القادسية على ما ذكره سيف عن أشياخه 429 تأمير عمر، رضى الله عنه، سعد بن أبى وقاص على العراق وذكر الخبر عن حرب القادسية 431 يوم أرماث 465 ذكر اليوم الثانى من أيام القادسية، وهو يوم أغواث 478 حديث يوم عماس، وهو اليوم الثالث من أيام القادسية 484 خبر اليوم الرابع من أيام القادسية 488 ذكر فتح المدائن وما نشأ بينه وبين القادسية من الأمور 504 حديث وقعة جلولاء 525 حديث يوم تكريت 531 ذكر يوم ماسبذان ويوم قرقيسيا 533 ذكر الحديث عن تمصير الكوفة والبصرة وتحول سعد بن أبى وقاص عن المدائن إلى الكوفة وما يندرج مع ذكر البصرة من فتح الأبلة 534 ذكر الجزيرة، وذكر السبب الذى دعا عمر إلى الأمر بقصدها 541 ذكر فتح سوق الأهواز ومناذر ونهرتير 544 حديث فتح الأهواز ومدينة سرق 546 ذكر غزو المسلمين أرض فارس 547 ذكر فتح رامهرمز والسوس وتستر وأسر الهرمزان 549 ذكر فتح السوس 553 فتح جندى سابور 555 حديث وقعة نهاوند 556 ذكر الانسياح فى بلاد فارس، وعمل المسلمين به بإذن عمر رضى الله عنه، فيه بعد منعه إياهم، وما تبع ذلك من الفتوح فى بقية خلافته وقتال الترك والديلم وغيرهم 572 ذكر الخبر عن أصبهان 574

ذكر فتح همذان ثانية وقتال الديلم 576 فتح الرى 578 ذكر فتح قومس وجرجان 579 ذكر فتح طبرستان 580 فتح أذربيجان 580 حديث فتح الباب 581 ذكر مسير يزدجرد إلى خراسان ودخول الأحنف إليها غازيا 585 فتح توج 590 حديث اصطخر 591 حديث فسا ودارابجرد 593 حديث فتح كرمان 595 فتح سجستان 595 فتح مكران 596 حديث بيروذ 597 غزوة سلمة بين قيس الأشجعى الأكراد 599 ذكر الخبر عن إحرام عمر بن الخطاب، رضى الله عنه إلى حين مقتله 601 ذكر خلافة ذى النورين أبى عمرو عثمان بن عفان أمير المؤمنين، رضى الله عنه ومبايعة أهل الشورى له بعد وفاة عمر، رضى الله عنه 608 ذكر غزوة الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية لمنع أهلها ما صالحوا عليه أهل الإسلام أيام عمر بن الخطاب 610 ذكر انتقاض فارس، ومسير عبد الله بن عامر إليها وفتحه إياها 612 ذكر انتقاض خراسان، وخروج سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر إليها وذكر طبرستان واستيلاء سعيد عليها 612 ذكر مقتل يزدجرد 614 ذكر فتح أبرشهر، وطوس، وبيورد، ونسا، وسرخس، وصلح مرو 616 ذكر فتح مرو الروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان 618 ذكر جرى الصلح بين الأحنف وبين أهل بلخ 621 فتح عمورية وانتقاضها 622 مقتل عثمان رضى الله عنه 623 الخاتمة 627 الفهرس 628

§1/1